تكريمات

الذات الأنثوية بوصفها نصا "البيت يمشي حافيا" أنموذجا للشاعرة وفاء عبد الرزاق

(لا تدرك المرأة منعزلة، قائمة بذاتها. فليست هي فيذاتةً أو أيسة؛ ولا هي كينةٌ أووجودٌ ماهوي جوهراني. تؤخذ كإنسانٍ أي ضمن بنيةٍ هي رجل وامرأة وملحقاتهما، ضمن بنية هي كل منغرس في البيولوجي والنفسي الاجتماعي والتاريخي أي في الطبيعة والمجتمع والتاريخ.تعزل موضوعة المرأة أو علم المرأة، لتسهيل النظر. المرأة نص، وتجربة، وخطاب، وادراك.)

ولكن يبقى النص الذي تكتبه المرأة نصا نسويا، نحتاج أن ننظر إليه هكذا كي نفهمه ونقترب منه، وهو يفضح ذاته بوصفه نصا أنثويا كتبته أنثى تعيش ضمن بنية (رجل وامرأة وملحقاتهما) ولكنها وجدت نفسها معزولة ضمن هذه البنية ولا وجود لها طبيعيا فيها، وبالتالي فموضوعة المرأة عندما تعزل ليست بسبب إجراءات بحثية فقط وتسهيل النظر إليها ولكن لأن الواقع قد عزل المرأة فعلا. وبالتالي سيكون النص الأنثوي صدى لهذه العزلة والتمييز الذي تعانيه الذات الأنثوية.

هنالك سؤال طالما يلح عليّ هو لماذا تتعدد القراءات للنص الأدبي الواحد؟، هل هي بسبب تعدد القراء ومرجعياتهم فقط أم بسبب كون النص يحيل إلى عدد كبير من المرجعيات، وهي(أي المرجعيات) هي التي تدل وتقود القراء إلى ما يتفق مع أهوائهم وأمزجتهم، في واقع احال يمكن أن يقرأ النص الأدبي بوصفه قولا( حكاية ،خطبة، نثرا ،شعرا) ويمكن أن يقرأ بوصفه مقالا أو خطابا مرتبطا بالكيفية التي كتب النص من خلالها وهو مرتبط بالتداوال(2)، أي هنالك موضوع الكتابة وهنالك أيضا كيفية الكتابة، وقد يبدو هذا التقسيم سطحيا إلى حد ما ولكنه ضروريا كي يمكننا تتبع الحلقة الابداعية لأن كل تقسيم سيأخذنا إالى تقاسيم أخرى فرعية ومتشعبة وبالتالي سيقود ذلك إلى تنوع وتعدد قرائي لا يخطر ببالنا، إن النص يمثل تعارض وتصارع ذوات متعددة، وذلك  لإن الذات الانسانية هي مصدر النص وخزينه، يقول كارل يونغ عن العلاقة بين علم النفس والأدب(3):-

(من الأمور الجلية أتم الجلاء أن علم النفس، بما هو درس للسياقات النفسية، يمكننا الاستفادة منه في درس الأدب؛ وذلك لأن النفس الانسانية هي الرحم التي تحتضن جميع العلوم والفنون.)

النص الأدبي ليس بريئا وليس خالصا، بل هو مفكرا، وعلى درجة عالية من الذكاء ولكنه ضعيف المقاومة وليس له القدرة في الدفاع عن نفسه، النص الأدبي كالمرأة شبق وجميل قد نمله أحيانا ولكننا نشتاق إليه، يعطينا أحيانا رسائل فلسفية وأحيانا سياسية ولكنه حدسيا خالصا تنطوي دفاعاته الضعيفة على قوة هائلة،  وهنا يذكر بيار ماشيري في كتابه بم يفكر الأدب قائلا(4):-  

(فكما أن الخطاب الأدبي الصرف ، كالخطاب الفلسفي الصرف، غير موجود ولا توجد خطابات ممتزجة، تتداخل فيها وفي مستويات متعددة، ألعاب لغوية،مستقلة في أنظمة مراجعها وفي مبادئها، كذلك من المستحيل تحديد نسبة الشعري والروائي والمنطقي تحديدا نهائيا.)

من هنا ستكون قراءتنا للديوان منطوية على تعدد مرجعياته بوصفه نصا مكتنزا سطرته أنثى شاعرة ليمتزج بما لدينا من مرجعيات وتعدد قادنا إليه النص أو مجموعة النصوص المقروءة في متن الديوان.

 

العتبة النصية

 يقول باشلار (5) "إننا نعيش لنبني بيتا وليس نبني بيتا لنعيش فيه"، وهذا يعني أن البيت طموح وهدف لما يتحقق بعد، وليس حالة متحققة نعيش في أرجائها وبين جدرانها، إنه ضوء في نهاية نفق الحياة ننظر إليه من بعيد، نمشي إليه وهو يمشي إلينا، أحيانا يتوقف وأحيانا يسرع أو قد يأتينا ونحن واقفون، لذا فعتبة ديوان الشاعرة العراقية (وفاء عبد الرزاق) "البيت يمشي حافيا" ترصد حالة متحركة للبيت قد تكون بعيدا عنا أو قريبا باتجاهنا وبالتالي فهي قد صورت الحالة الانسانية لتواجد البيت بحركته الذاتية التي هي انعكاس لذواتنا المتحركة صعودا وهبوطا يمينا أو شمالا، إنه يمشي أمامنا ولا ندري إن كنا سنناله أولا نناله، لا يهم متى سيكتمل بناء البيت ولكن المهم أننا مستمرون في بناء البيت، البيت لا يعي أهميته لنا ولا يعي كيف ننظر إليه وكيف نراه، ولكن أرواحنا تهفو إليه، نحن هدف البيت وليس العكس، إن البيت ينادينا من بعيد لنسكن فيه ونغرقه بأحلامنا وحكاياتنا، لنملأه بأفراحنا وأحزاننا، إن البيت ينزع نعليه ويمشي حافيا لأنه اقترب من المقدس الانساني، إنه يحج إلينا كي يتطهر من ذنوبه ويقدم النذور إلينا كي نرضى عنه ونغفر له ذنوبه، البيت غير المسكون يبحث عمن يسكن فيه، وإلا ستسكنه الأرواح والعفاريت وتلطخ جدرانه أنسجة العنكبوت ورنين الحشرات ومخالب العث، البيت غير المسكون سيكون أسود وباكيا، البيت يفرح عندما تطرق أبوابه الأيدي وتنير غرفاته الأضواء ويتسرب إلى مخادعه الدفء والهمسات الانسانية العذبة، البيت يبحث عن أسرارنا ليحتفظ بها، البيت يخاف على أحلامنا وذكرياتنا أن تتبدد خارج جدرانه، البيت يمشي إلينا حافيا وباكيا وفاتحا ذراعيه  لاحتضاننا والاحتفاء بنا، ومن هنا يمكن أن نفهم عتبة وثريا ديوان الشاعرة وفاء عبد الرزاق"البيت يمشي حافيا".

 

مـتن الديوان

في المتن تقودنا الشاعرة "وفاء عبد الرزاق" إلى بيتها (ديوانها) حيث ينطوي على عدة عتبات فرعية تقود إلى عدة غرف، منها (تجليات الباب) و(جنون الورق) و ( أ.. و.. ر.. ا.. ق) و(ذاكرة الصور) وأخيرا  (فصل الرحلة)، وتقود كل عتبة فرعية إلى كثير من العتبات الثانوية، وكأنها  قطعة زجاج تتشظى إلى عدد آخر من القطع المتناثرة، وسنقوم في مقاربتنا استجلاء عتبات متعينة من كل فصل وتحليلها لبيان جمالياتها ومعناها وسنبدأ بفصل تجليات الباب.

أ- تجليات الباب

وتبدأ الشاعرة هذا الفصل قائلة(6):-

  أبوابٌ كمثلِ السرابِ

   تتحرّكُ في المدينة .

أي أن الشاعرة لا تكاد تمسك بابا حتى يختفي، وكأنها كمن يمشي في صحراء وليس في مدينة، فالمدينة عماء محض، والبيوت دون أبواب، وهو خلع رمزي لوظيفة الباب المقدسة حيث يتساوى الغمر باللاغمر، ويتمازج المقدس باللامقدس.

وحين نلج إلى المتن لا بد من المرور من باب الدخول حيث نقرأ للشاعرة في عتبة ثانوية تحت مسمى (باب الدخول) وهي تقول (7):-

أدخلُ غابتـَه، أسري كالرُمـْحِ

أشاركـُني نِصفَ غطاء

                 والرعدُ الأسوَدُ خريطة.  

 

وهنا ينطوي (باب الدخول) على مدخل أسطوري، والشاعرة  تمشي إليه مثل الرمح ليلا (أسري)، وكأنها متصوف لا تكسوه إلا ثياب بسيطة ومهلهلة، وهي تدخل الغابة دون دليل سوى أصوات مدمدمة لغيوم مكفهرة تبخل بالضوء فهي سوداء، وهنا سيكون الدخول عصيبا في ليلة دامسة وملبدة بغيم يلف السماء ورعد يخيف الروح اكثر مما يطمئنها، 

 

  في نص(أنا بعض هذا الباب) يكون جسد الشاعرة متوحدا بالباب وكأن الذي يمشي جسد الشاعرة وليس الباب، إنها دعوة للارتشاف والمباركة، دعوة للتشهد والاغتراف والهداية، حيث الجسد بكل تضاريسه (قلب وذوائب) تحت تصرف المحبوب، إن سعفات الجسد عذراء وبيضاء ولكنها مهتزة ومتلهفة بل وراغبة كي تستقبل ما تخطه الأقلام من  حكمة الكتابة ووصاياها (8):-

خذ كأسيَ واشهد

ألاّ ترى غيره

بارك كِسرةَ القلبِ واغترف

اهتدِ بحكمةِ الذوائبِ

أوليتُكَ جسدي

غيرَ مكترثةٍ بصفرةِ المرحلةِ

كلُ سعفةٍ عذراؤكَ

فاتنة جراحُها ،

في وصايا الكتابةِ.

 

إن الشاعرة تخاطب محبوبا (غير متعين) ينطوي على رمز ويحيل إلى ذات عليا  قائلة(9):-

أنا معلَّقةٌ حولك

فانفض قميصيَ الضريرَ

واستوِ جمراً

إن المصفوفة النثرية أعلاه، تمثل تأكيدا لبوح الشاعرة ومكابداتها، وتحيل إلى دعوة بلغة شفيفة وعذبة للمحبوب كي يصعد إليها، فهي معلقة حول الحبيب وقميصها (ثوبها أو قلبها) ضرير وكأنه فاقد لوجهته وبحاجة لضوء الحبيب وجمره ولهيبه، إنها مئذنة تقف دونها الصبايا، فهي امراة غيرعادية، صابرة تنتظر بوح الحبيب سواء ماكان مصرحا به أو مسكوتا عنه(10):-   

دون الصبايا مئذنتي

صاغرة لجنوحِ الهواء

 البوحُ أملٌ يتقدُ

وفراشيَ لم يزل مذبوحاً بالـَّلهبِ..

 

 تكتب وفاء عبد الرزاق بلغة صعبة ذات معنى مترجرج وضبابي لا يمكن القبض عليه، وبالتالي يبدو لي  أن محاولة فهم ما تريد أن تقوله سيكون غير مجد فالتراكيب الجملية مفتوحة على كل الاحتمالات وعلى تعدد دلالي آسر قد تريد الشاعرة أن تقول شيئا ولكن لغتها تقول شيئا آخرا، ففي نص (باب الصفير) نقرأ هذه المصفوفة النثرية((11):-

 

 أكفانُ روحي

ثلاثون يتساقطونُ أيـّاماً بيدي

فأختلسُ عشقاً ضباباً،

 يتذوَّقُ نفسَهُ

أتركه  يسيل بلعابه

وأتراكـمُ كثلج سكران.

 

لا أسمعُ سوى الصفير على ظهري .

 

تبدأ المصفوفة بجملتين إسميتين (أكفان، ثلاثون) على التوالي، وقد تكون جملة واحدة طويلة (أكفانُ روحي ثلاثون يتساقطونُ أيـّاماً بيدي) عمدت الشاعرة إلى كسرها إلى نصفين غير متساويين عندما كتبتها بهذا الشكل (سطرين)، ثم يلي ذلك أربعة جمل فعلية (فأختلس، يتذوق، أتركه، أتراكم) ثم بياضا (كلام مسكوت عنه)، ثم جملة فعلية ( لا أسمع..)، بالطبع فالبناء الجملي ليس صعبا بل طبيعيا، كما أن المعنى في السطرين الأولين يحيلان إلى العمر (أكفان) مع قرينة زمنية (أياما، ثلاثون) تحيل للأشهر ومن ثم السنوات، ولكن المعنى يبدأ بالتسرب مع الجملة الثالثة (فأختلسُ عشقاً ضباباً،) حيث تتكلم هنا الشاعرة/الناثرة بضمير الأنا، عن اختلاس عشق ضباب يتذوق نفسه، إن العشق الضباب يحيل إلى معان متعددة وليس معنى بذاته إنه عشق مستحيل ومتعال مكتف بذاته (يتذوق نفسه)، ليس هذا فقط بل هو يسيل لعابه من كثرة تذوقه لنفسه (وما قالته وفاء هنا كان مدهشا حقا ومؤثرا)، اما الشاعرة فهي تتراكم مثل ثلج لا يعرف اين يقع (ثلج سكران)، إن البياض الذي يرد ما قبل السطر الأخيريحيل التلقي إلى كلام لم ترد أن تقوله الشاعرة ولكنه يفتضح دلاليا بالسطر الأخير(لا أسمعُ سوى الصفير على ظهري)، في واقع الحال فالشاعرة/الناثرة ترسم لوحاتها بالكلمة تلو الكلمة التي تنتظم ضمن جمل فعلية واسمية تشاكس المعنى ولكن اللغة تعيد تصفيفه حسب خبرتها واللغة العربية خبيرة وتغرق الشاعرة في فخاخها ولن تجد فكاكا أو منفذا منها.

 

تحولات الماء

يتكرر ملفوظ الماء عند الشاعرة كثيرا، فهو فكرة جميلة تضفيها على الأشياء، بل هو صورة الجمال الذي يسبق الأشياء، هو صورة متخيلة ولكنه أيضا جوهر محض، وتبقى اللغة وسيطا وجسرا بين ما هو صورة وخيال وبين ما هو مادي متخيل(12):-

أزرارُ الماء ِ

على امتداد الكون

تبكي وتضحكُ

ثم تبكي كجنين ِبغي ٍ

ولا تتفتقُ

دخلتُ ثوبَ اللغة

خرجت ُ ملساءَ الجلدِ

 يقول باشلارعن الخيال(13):-

يمكننا أن نميز نمطين من الخيال: خيال يولد العلة الصورية، وخيال يولد العلة المادية، أو باختصار شديد، "الخيال الصوري"، و"الخيال المادي".

في المصفوفة أعلاه نقرأ الماء بوصفه مادة، وجوهرا متحكما وفائضا من جراءه كنا (من الكينونة) ومنه خلقنا، ولكننا نقرأ أيضا أزرار الماء وهي صورة متخيلة يتحول فيها الماء إلى قميص يلبسه الكون، وهي صورة متخيلة للماء يفيض بها الخيال الصوري، وهي صورة متحركة (تبكي وتضحك)

 

  في نص(باب لانتباه النهر)، لا نرى الماء بل صورته (نهر) وهي صورة أفقية للماء، إنها صورة تشي بملمح ذكوري من النبع إلى المصب، صورة سائلة ومتحركة للماء ولا يمكن إيقافها، وهي صورة توصل ما هو محسوس بما هو شبقي وقد يكون أحيانا شهويا، يشطر الذات الشاعرة ويؤسرها في نرجسية عميقة  تكون مرآة نارية تنبجس تحت لظاها كينونة الشاعرة (14):-

  أستغيث ُبأنوثتي 

أبحث عن توأم ٍيسوِّرُ نفسه

بما يورق من تفاصيلي 

لا أحسنُ الشكَّ

أيقنُ

أنـّي أكسرُ الأفقَ

على ركبتيَّ حطبا ً

لتنـّور ٍيتباهى بكينونتي

 

يقول باشلار عن أحلام الماء وارتباطها بما هو منعكس من مرآة الماء سواء كانت ينبوعا أو نهرا متكئأ على مقولات (لويس لافال) التالي(15):-

مرآة الينبوع فرصة "خيال مفتوح".والانعكاس الغائم قليلا،المائل إلى الشحوب، يوحي ببعض الأمثلة،إذ يشعر نرجس، أمام الماء الذي يعكس صورته، أن جماله "مطرد"، وأنه غير مكتمل، ويجب إكماله. بينما تعطي مرايا الزجاج في نور الحجرة الساطع، صورة أكثر ثباتا. سوف تغدو هذه المرايا من جديد حية وطبيعية حين يتمكن الخيال المحيّدُ ثانية من تلقي "مشاركة" مشاهد الينبوع والنهر.

   إلا أن الشاعرة تلمح إلى كمال لم يكتمل، ويبحث عمن يكمله، وهذا الاكتمال لا يتم إلا بتحريض الماء(المطر)، والمطر يمثل صورة عمودية للماء، وهو هبة المقدس المتعالي للمدنس الأرضي، الماء يطهر ويخصب ويشي بانبعاث آخر، هو صورة التأهب الأرضي من نزق وهبوب متمنع راغب لاستقبال المطر والتمتع بعطاياه المنتظرة(16):-

هذا الكمالُ

يتدبَّرُ كـَرْماً لغوايتي

ما كنتُ إلاّ لمسةَ التلهّف ِ

في الجمرة ِالثائرة

لم يبق غيرُ نزوة ٍواحدة ٍ

فتدبَّر أفقك َ

تأهبتُ بخواطر الفصول

أحرِّضُ المطرَ

لي احتدامُ النزقِ وهبوبٌ عصيّ.

هنا وكأن المصفوفة تحيل لرغبة  نرسيسية كي يتركز كمال الكون في كمال الشاعرة، قد يكون ذلك رجاء يعتمل في دواخلها، لكنه يشي بتأمل شديد ومركز للذات الشاعرة، حيث نقرأ تمرأيا يفيض من ذاتها على تفاصيل الكون من نار ومطر ورياح وفصول، وكأن الشاعرة خارجة من حاضرها إلى حلم عميق تصوغه بكلمات اللغة استعارة وكناية ومجاز.

 

ب – فصل جنون الورق

  تبتدئ وفاء عبد الرزاق فصل (جنون الورق) قائلة(17):-

أغـْمرُ

                جنينَ الورق

                   بوطن ..

هنا وكأن (جنون الورق) يؤدي إلى (جنين الورق) حيث نجد أن فن القول بوصفه جنونا يحيل إلى المقال(القصيدة) بوصفه جنينا وهنا ستكون الشاعرة أماً لهذه القصيدة إذا قرأنا ملفوظ الوطن بوصفه رمزا ويحيل إلى معنى الأم والرحم الجماعي(18).

  في ورقة أخرى تحت عنوان (ورقة قِبـْلةٌ) تقول الشاعرة(19):-

 

كـُلُّ أبيض جميل

حمامة ٌ

قـِماطٌ

كـَفـَنٌ

وأنا

فراشة ٌبيضاء

تحيا برفض ٍأبيض.

 تبدو الكلمات أعلاه بسيطة وجميلة وكأنها بديهية، لكن الشعر لا يتعامل مع البديهيات والحقائق لأنه سيضحى يابسا ومقفرا، ولو قرأنا المقطع أعلاه بوصفه حقائق أي( حمامة بيضاء،قماط

 أبيض، كفن أبيض، فراشة بيضاء) سيموت المقطع ويفقد فنيته، ولكن لو غصنا إلى رمزية ملفوظاته النفسية والحلمية سنجد شيئا مختلفا، وبالطبع فالأبيض يرمز إلى النقاء والطهارة، والملاك والفضيلة أيضا(20)، الحمامة ترمز للإلفة والعون(21)، القماط والكفن يحيلان لثنائية(حياة وموت) لأنهما مرتبطان بحالتين للجسد، وهما الابتداء والانتهاء،فالجسد الانساني يبدأ صغيرا كما هو معروف وينتهي جثة، يبدأ بشرى بيضاء (قماط أبيض) وينتهي بشرى سوداء ولو تكفنت بالبياض(كفن أبيض)، إذن فالأبيض الجميل كان مبنيا على بديهيات عميقة وفلسفية متناسقة، لكنها اكتسبت فنيتها من المفارقة التي بنيت عليه المصفوفة حيث انهار ما هو جميل ومسالم ليصبح تمردا ورفضا وفناء(فراشة بيضاء) وهو ما تنطوي عليه أنا الشاعرة، فالفراشة ترمز للطيش والخفة أحيانا ،وترمز للبحث عن السعادة أيضا بجانبيها المعرفي والصوفي(22) وهو ما تقصده الشاعرة هناعلى الأرجح.

 تهدي الشاعرة للرجال ورقة من أوراقها، لكنها ورقة دموية حمراء تعبر عما يختلج في داخلها من مشاعر نحوهم، حيث نقرأ(23):-

الرجل ُقلبٌ

..

..

لا

ينبضُ

إلا ّ

بالدم.

ولكن التلقي قد يسيء قراءة المصفوفة أعلاه، ليكون الرجل قلبا للعالم  ينقل الدم إلى باقي اجزائه، وبالتالي فالقلب هنا سيحيل إلى حياة وخصب ونماء.

 

ج- فصل أ.. و.. ر.. ا.. ق

 تبتدئ الشاعرة هذا الفصل قائلة(24):-

بأيِّ شكلٍ أكتبُ إليك َ

وقلمي يجهلُ الصلاة

وشط ُّالدواةِ في سفر.

 هنا يبدو وكأن الشاعرة تخاطب قوة غير ملموسة ومتعالية، فالمتعال لا يتعامل بالكتابة، والشاعرة لا تعرف سوى الكتابة، هنالك بون بين الكاتب والمكتوب له، المتعالي قرطاسه الصلاة وقلم الشاعرة لا يعرف الصلاة، المتعالي يريد الكلام المنطوق وليس المكتوب، فالمنطوق لا يمكن نكرانه ولكن المكتوب يمكن التخلي عنه، وبالتالي فدواة الشاعرة غير حاضرة فهي مسافرة ولا يمكن للشاعرة أن تجد الشكل المناسب كي يفهمه المتعال.

في نص(ورقة دمعة ) نقرأ شيئا مثيرا(25):-

يضحكُ البكاء ُ

ويقرأ ُجنون َدمعة ٍ

سرقت أبوابا ً

خارجة ًمن روح

ودقــّت فيها مِسمارا ً ..

يبدو أننا أمام صورة سوريالية وغريبة (يضحك البكاء)، فالشاعرة تشخصن البكاء، وتجعل منه شخصا ما، وهي حالة مشابهة لشخصنة الفقر (لو كان الفقر رجلا...) والأشياء المشابهة، والشاعرة تذهب بعيدا في هذه الشخصنة حيث نقرأ (جنون دمعة)، فالبكاء يضحك والدمعة مجنونة والروح لها أبواب تسرقها الدمعة وتدق فيها المسامير، وهذا بالطبع موجود في الشعر وليس جديدا،  فنحن قرأنا عندالسياب ما يشاكله من مثل صفعه للقدر وتمنياته أن تكون ابواب قلبه من خشب. ولكن الشاعرة تكتبها نثريا وتأتي مقاطع مصفوفتها ملتحمة ومتشابكة ويلفها خط درامي مسرود بسببية متينة.

 في نص (ورقة مسروقة) تقول الشاعرة(26):-

أيـُّها البادئُ البارئُ:

حين يعلوني الجناحُ

أصرّحُ أنّ أنفاسَكَ الرياح.

 هنا مخاطبة صوفية عميقة للبارئ، وكأن الشاعرة في حالة من التوحد والتصوف وهو ما ينطوي عليه الديوان في أجزاء كثيرة منه، فهي مع بارئها كالجناح والهواء، وهي صور مدهشة بين الخالق والمخلوق فهي طائر(الجناح جزء من الطائر) وأنفاس المتعالي ورحمته (الرياح) وهو ما يعبر عن توحد الخالق بالمخلوق.

 

د- فصل ذاكرة الصور

في هذا الفصل نقرأ مصفوفة ابتدائية تقول الشاعرة فيها(27):-

أرحلُ نحوَ المكان

                   أجـِدُكَ الزمان،

                    ألا تُبلِّـِّلْ أطرافـَكَ بي

                     وتأخُذ ْمِعراجـَكَ؟

                     طويتُ انبعاثي

                             و...

                     فتحتُ لكَ العالم.

يتعين الوجود هنا من خلال ثنائية (المكان- الزمان)، ولكن العروج في واقعه محاولة انعتاق من هذه الثنائية الفيزيائية الصارمة التي تحكم المخلوقات كافة، المكان يمثل حضوراً للزمان والعكس صحيح أيضا، الصورة تمثل محاولة من الانسان لتثبيت الزمن المتسرب من بين كفوفنا كحبات الرمل، لذلك فالصور لها ذاكرة ومن هنا نفهم عتبة الشاعرة الفرعية(ذاكرة الصور)، الأنا الشاعرة موجودة بقوة من خلال ضمير المتكلم المفعم بالحضور(أرحل ،أجدك،طويت، فتحت)، يبدو أن ما تخاطبه الشاعرة هنا ليس متعاليا بالمعنى المقدس السماوي، ولكنه متعال بالمعنى الأرضي، كأن يكون حبيبا لا يمكن الوصول إليه، إذ لا يمكن للمخلوق الأرضي أن يقول للمتعالي السماوي إنني (فتحت لك العالم) لأن ما يحدث في الغالب العكس. فمخاطبة الحبيب أو الملك بصورة تبعث فيه القدسية لا يعني أنه مقدس ومتعال وكأنه إله، ولكن لا بد من الاقرار أن كل من تحبه الذات الانسانية الفردية تجده متعاليا ومقدسا ولا يجب المساس به وهذا من حقها، وكذلك فالكاتب(أي كاتب) من حقه أن يقدس حسب هواه وبما تفيض عليه حريته بما لا يتعارض مع معتقدات اللآخرين.

 في صورة أخرى من صور الشاعرة(صورة بيت أعزب) ترسم فيها صورة كئيبة وغير مقدسة لمثل هذا البت حين تقول(28):-

الجدارُ الذي لا يتمزّق

نبيٌّ عار

نبيٌّ لا نرضاهُ نبيا ً

ونبيٌّ ضائع ٌ

رأيته

متعثـِّرا ً

تجلده حنجرة ُ الجدار.

وهي(أي صورة البيت الأعزب) تمثل هنا برأينا إعلاء للزواج بوصفه رابطة إنسانية مقدسة، لأنها تقود إلى تكوين العائلة ، وقد رسمت وفاء صورتها بشكل معبر، فالبيت الذي يسكنه العزاب (رجل كان أم امرأة) تشبهه الشاعرة بجدار لا يتمزق  وهو تشبيه جميل، أو نبي عار، وضائع ومتعثر، الشاعرة تعمد للتكثيف هنا لزيادة اكتئابنا من البيت الأعزب الذي ليس فيه صرخات الأزواج وعراك الأطفال، إن البيت الأعزب ستكون حنجرته خرساء ولن تردد أو تمنع أي صوت انساني لذا سيكون ساكنه متأوها من لعنة الجدران وسياطها الكئيبة الخرساء.

 

ه- فصل الرحلة

 وهو الفصل الأخير في هذا الديوان، وهي تذكرنا برحلة جلجامش إلى غابة الأرز حيث نقرأ(29):-

 إلى أين يا?ِـلـ?امِـشْ؟

 لقد صدّقتْ بكَ السماءُ التي

 لم تعترف بأخطاءِ الأرض

 فإلى أين يا ?لـ?امش؟

تتقمص الشاعرة هنا دور (سيدوري/ فتاة الحان) في الملحمة حين طلبت من جلجامش الرجوع إلى أوروك حيث الحياة التي يبغي ستكون هناك، ولكن من يستطيع إعادة رجل خائف من الموت ، وخصوصا عندما يكون هذا الرجل مثل جلجامش خبر الحياة ملكا وبطلا وإلها وبشرا لترده سيدوري بكل جمالها وخبرتها عما ابتغاه، كانت سيدوري مانعا فلسفيا استخدمه كاتب الملحمة ليوصل الرسالة إلى جلجامش ليقول له إن فناءك محتم، وخلودك لن يكون جسديا فرديا بل وجودا جمعيا متسلسلا وهو ما يمكن أن تحققه من خلال المرأة، هنا فاصل زمني وفسحة بين الشاعرة وجلجامش مخضبة بامتداد نصي مفتوح على كل  الحقب الغائرة العمق، الشاعرة تحمل إرثا لو اطلع عليه جلجامش اليوم لتبرأ منه، فمقدس جلجامش غير مقدس الشاعرة وإله جلجامش ليس كإله الشاعرة، بل حتى ما اقتنع فيه جلجامش بعد رحلته من غابة الأرز تحطم وأصبح أحفاده يستهينون به وقد يكون هذا ما أرادت أن تقوله الشاعرة عندما ارتحلت إليه في رحلتها الأولى(30):

الرياحُ الأربعُ لا تـنـشرُ الحياة َ

أتركْ رداءَك َ

أوشكتُ أن أغيبَ

أسلمتُ أيّامي لوجهـِكَ

لي ثلاث ُمقاصيرَ

رحيلٌ ورحيل ٌ

ورحيل ٌيحرثه الرحيل

إلى أين ذاهب ٌأنـتَ يا ?لـ?امش؟

من غـُربـةٍ عالـِقـةٍ بالنفـْس

إلى غربةٍ تنغلقُ عليك

  رحلة الشاعرة مركبة حيث الرحيل يتبعه رحيل وغربة تقود إلى غربة، بل أصبح الرحيل يحرث رحيلا، فالغربة أصبحت روحية وجسدية، هنا يندمج في نص الشاعرة جلجامش الأسطورة وجلجامش الحاضر، وما يوصل بينهما جسد الشاعرة بوصفه دواة تغرف من حبره النصوص، حيث يكتمل البعث عندما يستعيد جلجامش الحاضر ما قد افتقده في جلجامش القديم، حتى أن ما يربط الخطيئة بالغواية(أسطوريا) يبدو وكأنه جرح في تاريخ بشري موغل غيّر مرموزها الذهني لتغدو ذنبا أزليا يلاحق الانسان بفعل لم يقترفه (31):-

باركْ جبهتي واغرقْ

يـَمـِّمْ وجهـَكَ صوْبي

سوف أكشف عن مفاتنَ

تضجُّ بنارها

كما ضجَّ تاريخٌ أصفر

أنت البعثُ الذي لم يكن

فلا تدعْ الخطيئة َغـواية ً

والغواية َارتخاءً يطول

 

  إن ما تدسه الشاعرة من رموز أسطورية في نصها ، هو في واقعه محاولة منها لفضح الواقع الغرائبي الذي نعيشه، فهي دعوة منها لجلجامش القابع في ذواتنا للتحرر من خوفه، والتيمم صوب سيدوري، فسيدوري يجب أن تكون هي وجهة جلجامش وليس غيرها فهما واحد أزلي وهما سبب الوجود وعلته (32):-

قـُـدْ نفسَكَ وزمنا ً مثلي

بصيحتهِ الرجوع

سأكون ُحيثُ أنتَ

أجنـّحُ بالنخيل

غيري لم يعـُدْ قـَمَرا ً

وأنا

أنا أنتَ

فإلى أين يا ?لـ?امش؟

إذا كان خوف جلجامش الأسطوري انطولوجيا (وجوديا) فإن خوف جلجامش الحاضر خوفا جنائزيا وشعورا بالنقص ، فهو مطرود ومقموع ومحاط بالجدران المقدسة واللامقدسة الدينية منهه واللادينية، جلجامش الحاضر مدحور ولا يعرف أين يتجه وخوفه بات مرضيا لا شفاء منه بالرغم من معرفته الدواء وهو ما نقرأه من جواب جلجامش للشاعرة قائلا(33):-

يا زلزلتي المختزَلة

حبيبكِ المائي

خائفُ الظـنِّ

لم أعتزلْ قيامـَك ِ

محبرة ُ الأرضِ صحن ٌ

وأنتِ زادُ الله

فهو يعرف الدواء(العشبة/المرأة) ولكنه ترك هذا الدواء كي تسرقه الأفاعي المعاصرة، وإذا كان آتونابشتم قد أعطى جلجامش العشبة، فإن الله قد أعطى جلجامش الحاضر المرأة ولكنه أيضا قد أضاعها وترك الخوف ليتسرب إلى يقينه(34):-

أنتِ قلبـُـهُ الذي يخشاه

وهو قلبك ِالمفضوح

فمَن يشبه مَن ؟

أيـّتها الطفلة ُالغاضبة ُ

إن سيدوري بقت كما هي رمز للقمر، ولم تتغير ولكن جلجامش هو الذي تغير وتحول من عابد لجسده إلى عابد لذاته، إن سيدوري بقت مخلصة لدورها أما جلجامش فلم ير في سيدوري إلا قلبه الذي يخشاه، ولم ير فيها إلا طفلة غاضبة.

في نهاية قراءتنا لهذا الديوان، نود أن نقر أن وفاء عبد الرزاق كانت كاتبة لأسطورتها المعاصرة، حيث يذوب في نصها ما هو معاصر وأسطوري وفلسفي، وإذ تجنح لركوب المصفوفات النثرية فإنها لا تعدم التنويع التقني في بناء هذه المصفوفات النثرية المتوهجة، هنالك التكثيف وكذلك المفارقة، هنالك اللمحة الخاطفة، هنالك السرد بنوعيه الزمني واللازمني، وفاء عبدالرزاق تكتب نصوصا نثرية متعددة التقانة تفيض متعة رغم انغلاق نصوصها وصعوبة تلمس دلالالتها االرجراجة والمتعددة ، المتلقي يحتاج لكثير من الكد الذهني والحساسية المرهفة كي يقبض على مجموعة المعاني التي تنثرها الشاعرة في نصوصها النثرية هذه، والقارئ يحتاج صبرا جميلا كي يلتقط ما يضيع من لقى وجواهر في قيعان نصوصها. وهي صدى للذات الأنثوية بوصفها نصا له مرجعياته القيمية والمعرفية، الذات الأنثوية تندمج بذات النص ولا تكاد تميز أحدهما عن الاخر، وهو ما يزيد المتلقي متعة وهو يقرأ نصو ص هذا الديوان

 

  أبو ظبي

‏الأحد‏، 30‏ أيار‏، 2010

 

...............................

الهوامش والمصادر

1-التحليل النفسي للخرافة والمتخيل والرمز-علي زيعور- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر- بيروت- ط1 -2008 - أنظر الهامش في ص 174

2- تحليل الخطاب الشعري – د. محمد مفتاح –المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء – ط3 -1992 ص 150

3- علم النفس التحليلي- كارل يونغ – تر نهاد خياطة – دار الحوار للنشر والتوزيع-سوريا –اللاذقية –ط2- 1997- ص159

4- بم يفكر الأدب- بيار ماشيري – تر د. جوزيف شريم –المنظمة العربية للترجمة- لبنان- 2009 - ص26

5- جماليات المكان- غاستون باشلار-تر غالب هلسا –دار الحرية للطباعة والنشر-بغداد-1980  – ص138

6- الديوان – ص 2

7- الديوان – ص3

8- الديوان – ص 3

9- الديوان – ص 3

10- الديوان – ص 4

11- الديوان – ص 7

12- الديوان – ص 8

13- الماء والأحلام – ص14

14- الديوان - ص10

15- الماء والأحلام – غاستون باشلار – تر.علي نجيب إبراهيم –المنظمة العربية للترجمة – بيروت- ط1 - 2007– ص 43

16- الديوان – ص 10

17- الديوان- ص 19

 18 – التحليل النفسي للخرافة- م س – ص 233 (حيث يرمز الوطن لعدة رموز منها الأم، الأمة،حضن الجماعة، الرحم الجماعي ...الخ)

 19-  الديوان- ص 21

20- التحليل النفسي للخرافة- م س – ص192

21- التحليل النفسي للخرافة- م س – ص204

22 - التحليل النفسي للخرافة- م س – ص223

23-الديوان– ص22

24-الديوان– ص 32

25-الديوان– ص 35

26-الديوان– ص36

27- الديوان- ص37

28- الديوان- ص 45

29- الديوان- ص 66

30 -   الديوان- ص 66

31- الديوان – ص67

32- الديوان – ص 67

33- الديوان – ص 70

34- الديوان- ص 70

   

في المثقف اليوم