تكريمات

قراءات في المنهج: البرهان النقدي وأسلوبية التحليل عند الناقد: د. عبد الرضا علي

وهذا طبعاً يخضع إلى ما يدلي به الناقد من وعي له دلالاته المقنعة، في ملامسة العناصر الداخلية للنص. وفي الوقت ذاته نجد هذه المدارس قد تضادت حول محتويات أبعاد المضمون، وكان المتضادون إيجابين في ما تحمله جعباتهم من نقود، من حيث أسلوبية الاشتغال التصميمي، "الضوابط الأكاديمية" في معالجة المحتوى، بما تتضمنه هذه القياسات الانضباطة من تفسير وبسط وتحليل الصورة والصوت، وفقاً للأرضية الثقافية عند الناقد، من حيث تناوله أبعاد روح الدلالة التنزيلية: "الوحي الشعري"، المعبرة عن تفاعلها مع مناخ لاقح في صَلِب الوظيفية الفنية، التي أدت إلى المكون التعبيري لهتاف الشاعرية في النبض المنظم في الجسد الشعري. فالمدارس النقدية تفاوتت بآفاقها وأحكامها واتجاهاتها الخاصة، وتفاعلت مع بُعد ملمسها التحليلي للنص.

اتضح التفاوت في الإنتاج القيمي النقدي عند الناقد الأدبي، منذ ظهور المدرسة النقدية في بداية عصر النهضة العربي، في بداية القرن الماضي، على يد مجموعة من النقاد العرب المهمين أمثال: د. محمد غنيمي هلال، ود.علي جواد الطاهر، وغالي شكري، ومحمود أمين العالم، وإحسان عباس، وعباس محمود العقاد، وجبرا ابراهيم جبرا، وطه حسين، ولويس عوض. ولم يكن للمدارس النقدية الأخرى في بعض الدول العربية اتجاهٌ واضح يتجاوز هذه المدرسة أو حتى تتساوى أهميته بفاعليتها، إلا عند القليل، ممن ظهرت أعمالهم بعد منتصف القرن العشرين، ومنهم: فاضل ثامر، زكي نجيب محفوظ، ياسين النصيّر، جابر عصفور، البردوني، يوسف سامي اليوسف، عبد الله الغذامي، حاتم الصكر، كمال أبو ديب. وهؤلاء شكلوا بديلاً قوياً تعدى الأسلوبية في الحركة النقدية التقليدية، التي تساقطت أوراقها في مصر وما زالت.

ولم تتوقف الحركة النقدية العربية عند حد، فقد برزت أسماء غاية في الوضوح، وخاصة في العراق، في نهاية القرن الماضي، وكان من هؤلاء الناقد الذي نحن في صدد تناوله: د. عبد الرضا علي. فقد اعتبر واحداً من النقاد العرب الذين حسنوا وطورا من فاعلية المدرسة النقدية العربية، ومفهومية تأصيل البرهان النقدي، والتداعيات الأسلوبية المحكمة، واللعب على شغلانية تفكيك النص الأدبي عموماً ومعالجاته، وصار يشار له بالناقد الذي احتل مركز الجدية الرسمية في أساليبه التحليلية. وبرز إلى جواره نقاد اشتغلوا في الزمن النقدي مابعد الاستعاري، ومنهم ياسين النصير، سلام عبود، الذين لا يقلون أهمية عن ما يشار إلى التسمية بالناقد الكبير، وطبعا هناك الناقد الذي كان له ومازال باع كبير، وفاعلية موفقة في الساحة النقدية العربية.

وبما أن الناقد د. عبد الرضا علي شديد التكلف في صنعته النقدية، وهذا يعلل تقديره الملموس لطبيعة المشهد الثقافي، وغايتة الحرص على التقليدي العام عبر مساهماته في تطور المنهج الحسي، وإدامة صيغ العطاء الفكري المعياري في المدرسة النقدية التقليدية، فأخذه هذا الهم بعين الجدة والنشاط من مبدأ إيمانه تحرير اللغة من قالبها الوصفي، التي تقاربت في هذا المكان وذاك من الملامح ذات الملمس الفني، عبر معالجات ذات مفاتيح دقيقة الحساسية، فأحكم ميزان المقاربة بين:

أولاً: الجمعي الأكاديمي – والثقافي. الذي جمعه بين جيلين، الجيل البنيوي التشكيلي، الذي حاكم النص والكاتب في آن واحد. وبين جيل الحداثة الذي حاكم النص وأطلق سراح الكاتب.

وثانياً: الفردي الذي مثّلَ أحد هذين الاتجاهين: إما الأكاديمي التقليدي – أو إطلاق حرية المجاز لفضاء أوسع، كاشفاً عن الوعي الكامن في خلايا النص الشعري، أو القصصي وما إلى ذلك، لما تؤديه هذه النصوص من معالجات لها أهميتها الأدبية والمعنوية، في إضاءة المناطق المظلمة، وإعادة ما انفلت بنائها الفني، المفترض أن يكون معبراً عن جمالية النص شكلاً ومضموناً.

وهنا نجد الناقد يتفاعل مع وعي أو خلل هذا النص أو ذاك، وفهم العوامل المؤثرة فيه، فيضعه على شفيرة مجهره، ويبدأ بتسليط العدسة "الفكر" على مواضع الخلل ويشخص أسباب العلة، وعلى أساس هذا التحليل تبدأ المعالجة، بأدوات جراحية خاصة، لها مؤديات أخرى تتكيف مع محاسن النص وبدائعه واختراعاته. وما يحتاجه من لمسات تعي حقيقة غموض المعاني وعدم دقّتها، أو جماليتها، بما يحتاج من استنباط وشرح واستخراج الحلول، حيث إن هذه الخصائص من أساسيات النقد، فالملامح والأدوات النقدية مهمة جداً في رفع الغطاء عن ما يذهب إليه الشاعر، خاصة إذا كان هذا الشاعر مبدعاً وملماً في تحريك أدواته، وقيادة الذات الشاعرة باتقان ونجاح في دقة بناء النص الشعري. ولو أخذنا الشاعر عبد الكريم كاصد لوجدناه ماسكا بناصية محاكاة اليقظة الإبداعية على أوسعها، فقد طوّر وحَسّنَ من القصيدة العربية الحديثة، وخاصة في قصائده المدورة، التي شكلت إنعطافة إيجابية في لغتها وفنيتها، فجعل من الذات الشاعرة نوات للتخيّل تدور الأحداث في إنسيابيتها، محتكمة لذات القانون الفني والغوي من حيث تماسك المعاني من مديات ألفاظها.

ومن خلال الانضباط الفكري في قراءتي النقدية الملحة، والمعنية بالنقودات، وجدت صديقنا د.عبدالرضا علي: في كثير من تحليلاته النقدية، يذهب بعيدا في الكشف عن الدلالة المتداولة في نظام الكلمة، ومسلك إيقاعها، مبتعداً عن السمات الاصطلاحية، مراقباً نشطاً للوعي المنتظم بميزاته التشذيبية، المعبرة عن مؤديات دلالاتها الواعية. مما جعله يطوف حول المعالجات الأسلوبية الأكثر حداثة. فكلما زادت ثقافة الناقد وعيا بقبول الجديد، زاد قبول الآخر له، كونه يسلم بأمر الإختراع الإبداعي، هنا تكمن أهميته حين يضع ملمسه على مكامن الجمال ورشاقته، وبالتالي عرضها أمام القاري، على إنها بنيت هكذا ولقحت بهذا المعطى الفني، أو الرمز، وما فاض من رقة لغتها، فأدت إلى هذا المعنى أو ذاك، فكثير من الشعراء يرى عقل الناقد بين حروفه، فيلعب على متداعياتها، ونواصيها، واحكامها، خاصة إذا كانت الذات الشاعرة تملك من النبوغ والمعرفة البلاغة التأويلية بمعطيات جلالية الكلمة.

يقول الناقد فاضل خليل عبر دراساته الموفقة والجريئة: "النقد: نشاط فكري يطمح في إيصال المنجز إلى أحسن حالاته." فالنقد العربي الحديث باتجاهاته ومدارسه ومنهاجه، أصبح نقدا مثقفاً، أعني الناقد غير الأكاديمي وهو: الشاعر الناقد \ القاص الناقد \ الروائي الناقد، هؤلاء حققوا للنقد الأسلوبية الإثباتية بمحتوياتها  المجددة، نسميها: النقد الثقافي، وهو اتجاه اعتمده المثقف الأوروبي إبان عصر النهضة الأوروبية، ووصل إلى العرب بعد كل تلك الأعوام، كون هذا الأسلوب النقدي يميل إلى سرعة الإنتقالة في التركيز نحو التحليل والمكاشفة، ربما هو الأقرب في الصيّغ والأساليب الكولونيالية الحديثة، إلى الجمالية اللغوية في ما هو حداثوي جملته وحسنته الرشاقة الأسلوبية، تشابهاً بما انجزته القصص القصيرة في الأعوام العشرة الأخيرة. هذا لأن شكل هذا النقد ومضمونه يختلفان عن أسلوبية المدرسة النقدية السائدة في القرن الماضي يمكننا أن نحدده بهذه المعالجات:

أولا: كونه يتجنب التعقيد في محادثة الرموز، والصيّغ المُستكرهة من الألفاظ في معالجة النص، والانزلاق في تنائية معاظلة: الشرح التقريري، والملاءمة الركيكة.

ثانيا: ومن جهة معاكسة للأولى أن يكون النقد رافدا مبسطاً في إضافة لمسات إضائية، كمناقشة النص الشعري على أنه لا يقاس بمقياس الملاءمة، من خلال أسلوبية التفكيك الوراثي واعني وراثية النقد جيلا بعد جيل بنفس الخامة والمقياس، بل يفعل التركيز في جماليات الأسلوبية النقدية، من معالجات تصويب الوعي الكامن في الكلمة وأبعادها الصحية والجمالية.

ثالثاً: إعادة تثبيت الإضاءة على الخلل، من خلال المعايير التقيمية، بما يستجاد ويستحب في اللغة والمعاني والبعدين الدلالي والفني.

رابعاً: الناقد المثقف لا يعتبر الأديب متهماً، إنما يراهن على أن هذا الأديب قيمة إنسانية وسطى بين جمالية النص الشعري، وبين مكاشفة رؤية الوقائع الميتافيزيقية عبر معالجاته للواعز الداخلي التي تعبر عن الإبداع.

وقراءتي الملحة تدفعني لاكتشاف داخل الكاتب، وأخذ خلوة في أعماقه لإشباع فضولي، ربما لأعرف هل أنا أجلس في حديقة غناء، أم في صحراء قاحلة، ومن هنا يبدأ الفضول الكتابي في رسم الخطوة الأولى، عن هذه الشخصية الأدبية أو تلك، والذي دفعني اليوم إلى الكتابة عن د.عبد الرضا علي هو هذا الإحساس بالمتعة البحثية، عن قامة أغنت المدرسة النقدية، بهذا الكم النوعي من الدراسات والبحوت في عالم الأدب والمعرفة، وأجدني سعيداً، أشارك متعة تكريم الدكتور الأستاذ الناقد عبد الرضا علي.

 

جعفر كمال

[email protected]

  

 ...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم ا. د. عبد الرضا علي من: 17 / 8 / 2010)

 

 

في المثقف اليوم