تكريمات

قراءات في المنهج: الميـــــــــــــزان بين كتابين

وتسنت لي أكثر من فرصة لاغترف من علمه الكثير لما تميز به أُستاذي من دقة أحكام وعمق ٍ وموهبة في الحديث وفي فن المجادلة، وما كان له من دور مهم في الحراك الفكري في الساحتينِ الأدبييتين العراقية والعربية ولنتاجاته من ثراء وغزارة في تأصيل القول النقدي، وفتح منافذ جدية في فهم النصوص الأدبية القديمة منها والحديثة ... ولعلّ ما يمتلك من موهبة فذة وعبقرية مختلفة، وما كتب في النقد قد أوصلتنا إلى تحليلات رصينة، ولم تكن هذه التحليلات خاضعة تحت وطأة التأثر الساذج  الناتج عن انفعالات وتأثرات عاطفية بالنصوص، وهذا ما جعل الدكتور عبد الرضا عليّ مختلفاً عن غيره، فهو يلتزم الموضوعية في النقد سلوكا ومنهجاً دون تجاهل لعواطفه وإحساسه الوجداني بالنص، إلا أنه يركز على قواعد النقد لما يمتلكه من تفرد في فهم النص والغور في أعماقه، وأعماق كاتبه والاختيار الرصين في تحليل النصوص والانتباه للتوافق الدقيق بين الصور والأصوات والإشكال، وإدراكه المبكر لأي تنافر بينها لما يتمتع به من ملكة لا تتوافر دائماً للآخرين الذين يحاولون أن يدعوا أنّ لهم قدرات على هذه العملية منساقين خلف عواطفهم فقط، فيصفون النصوص وصفاً سطحياً ليس فيه أي تحليل موضوعي كما هو عند أستاذي الذي يمتلك الوسائل التي يصل بها إلى التناسق أو التنافر في الجملة أو الكلمة، فضلاً عن ثقافته وخبرته التي جعلتني وجعلت أكثر طلابه يتخذونه مرجعاً رصينا يثقون به، وبأساليبه النقدية والأدبية أيضاً... فلا يختلف اثنان على ذوقه النافذ، وبراعته الواعية بالمقارنة.

 

إن في هذه النصوص / النماذج التي قدمها الدكتور في هذين الكتابين معتمداً على أفكار كُتّابها، ومعتبرا هذه الأفكار مجتمعة تشكل المقاييس النقدية لتحديد حكمه على النص، ومبدعه معتمدا قدراته على تأويل العمل الأدبي وتفسيره، وليس بالاعتماد على الاختلاف في وجهات النظر مع الكاتب أو النص، وهذا ما يجعل الكتابين بمنأى عن الملل.

وهناك قضية أخرى اعتمدها الدكتور عبد الرضا عليّ وهي ملاحقة البعد النفسي للنصوص، وأثره في جسد النص، وحركة مكوناته الكثيرة، كشخوص،وأصوت، وأزمنة، وأمكنة....الخ، ويلقي الضوء على الانفعالات النفسية لأبطال النص، ويقرب دواخلها جميعا، حتى دواخل الجامد، والساكن منها. كل هذا يمر بيسر منقطع النظير وبساطة تكشف عن قدرته العالية في تتبع خيال المبدع، وفضاءآته.

فهو يرتفع دون ملل، وينخفض بتناغم وعمق، وشمول ليظهر لنا عوالم النص الخفية، فيصبح بعد ذلك واضح المعالم وبارز السمات والخصائص...وقد لا أبالغ إذا ما قلت أنني أشعر أحيانا كثيرة أنه يختلط  بدم وأوردة وشرايين الكاتب والنص بما يتميز به من رهافة حس وعاطفة فريدة وذوق عالٍ، ومع هذا كلّه فهو يضع النظرية والدليل في المقام الأول.

 

أوراق في تلقي النص الإبداعي ونقده?¹?

يتجول بنا هذا الكتاب الصادر في العام 2006 عن دار الشروق للنشر في عوالم  بعض الظواهر الأدبية وكينونة النصوص وتوصيفها، والمراحل المهمة في تطور النص الأدبي ودراسته، وانتظمت هذه الأوراق في ثلاثةِ فصولٍ: تضمّن الأول منها نقاطاً مهمة استوقفت الناقد لتوضيح ما قد يشوب بعضها من غموض والتباس، وقد عالجها بالكثير من المنهجية الحياديّة، وكان منها سؤال الحداثة عن الشعر في العراق في مرحلة الريادة باعتبارها موقفاً فكرياً وتصوراً جديداً للواقع التاريخي الداعي إلى حرية الإنسان المبدع والكشف عن عوالم وإمكانيات جديدة وطرائق فنية في التعبير الحر اسلوباً وتطبيقاً. ويصور الكتاب ثورة التغيير على ما هو سائد ويتحدث عن بداية الرواد وشعراء التحديث في العراق وثورتهم على الأوزان الخليلية التي وجودوها أُطراً تقيد الانطلاق نحو التجديد.

وفي هذا الإطار أيضاً استوقفنا الناقد الحاذق إلى ما أُضيف على النصوص من تقنيات واستخدامات جديدة منها "التكنيك القصصي" في القصيدة، مستشهداً بقصيدة الشاعرة نازك الملائكة "الخيط المشدود في شجرة السرو" مثالاً على تحليق القارئ بالفضاء الممتع والانسيابية الرقيقة لوصف النص، ومن ثم تسليط الضوء على استخدام "الأسطورة" التي وظفها روّاد التحديث مستنبطاً من توظيفاتهم تلك محورين: الأول الوظيفة الجمالية والثاني الوظيفة السياسية ... وخير مثال قدّمه لنا الناقد الكبير هو توظيف السياب للأسطورة في قصيدتين هما: " المسيح بعد الصلب " و"رحل النهار". في الأولى يوحد السياب بين رمزي تموز والسيد المسيح عليه السلام، والثانية يوحد بين رمزي "السندباد البحري العربي" و"عوليس الإغريقي".

ومن الاستخدامات الأُخرى في هذا المقام "القناع " الذي استخدمه عبد الوهاب البياتي في قصيدته (وضاح اليمن)، حيث كان صوت القناع عنده يحمل هموم العصر وهموم الشاعر وهموم الإنسان في آن واحد فتحوّل رمز "وضاح " إلى منشور سري قادر على الوصول إلى الجميع.

وفي الاستخدام الرابع  "تداخل الأصوات والأزمنة دراميا ً" وعن هذا كانت قصيدة "حوار عبر الأبعاد الثلاثة" لبلند الحيدري التي أدارها ضمن ثلاثة أصوات تمثيلا لمقصده ... هنا رتب ببساطة الأدوار على أعمدة الريادة مقسّماً بينهم مهام التجديد، مبرزا أمامنا ما يميز قصائد كلٍ منهم، فكانت اختياراته وأمثلته موفقة مفسحة أمامنا كل وسائل الإدراك العميقة.

أما عن جدلية العالمية والمحلية في استخدام الرموز الذي أطلق إليها في الكتاب شعر الروّاد انموذجاً مستدركا ومذكراً لهذا الفرق بين العالمية والعولمة فيرى في الأولى تلاقحاً وحوارً، ويرى في الثانية اختراقاً وسلباً للخصوصية، وبين هذين المنعطفين نتمكن من تحقيق الطموح المشرع للوصول بالفكر إلى الآخر،وفيه عالج أستاذنا الخطوط العامة لمسؤولية الوصول إلى مغامرة الحصول على اعتراف عالمي بالنتاج النقدي والأدبي يكون ذلك من خلال توافر مستلزمات خاصة وأهمها : الإثارة والإدهاش وإيقاف زحف الأقوى ومنع فرض اديولوجيته .

وعن الرمز الذي يتخطى به السائد إلى غير المألوف مرة أخرى يبرز لنا الرمز في المنجز الأدبي يتضح جلياً في(جيكوريات السياب)، و(عائشة البياتي)، و(صقر أدونيس) وهي رموز لرواد شعرنا الكبار الذين أغنوا النصوص بقدرتهم الإيحائيّة في تداخلات الاستخدام الصحيح والمسافة التي أنجزها هذا الرمز في الوصول إلى غايته في دفع الفكرة إلى أمكنتها الكثيرة التي تصل مجتمعةً بالنص إلى الإدهاش.

ومازلنا في الفصل الأول الذي فيه يتطرق شيخ النقاد إلى التناص الإبداعي ويضع نشيد الإنشاد بين تجربتين ويكتب عنها موضحا نشيد الإنشاد لسليمان في الكتاب المقدس ونشيد الإنشاد لحسين مردان الذي نظم القصة بكل دقائقها وتفصيلاتها، ومفرداتها حتى ليمكن القول أن عمله لم يكن غير تقطيع النص شكليا وتفاصيل هذه المقارنة رصفت بعناية وخبرة الفاحص المتمكن من أدواته النقدية واقتناصه حيثيات التشابه في الفكرة المغرية للنص الأصلي في استدراج شاعر مثل حسين مردان .

وفي صلب الفصل الأول أيضاً يتطرق ناقدنا الفذّ إلى "انخدوانا في الأدبين العربيّ والألماني " لنعرف الكثير المختصر لأقدم شاعرة كاهنة امتدحت الإلهة (اينانا ـ عشتار) في معظم شعرها وتضمن هذا المقام شرحاً لقصيدتيّها "سيد جميع المخلوقات" و"تسامي اينانا"

ويُختتم الفصل الأول بموضوعة "الترجمة والمتلقي " وأهميتها في التنوع والاتساع والاكتشاف المعرفي والغور في نتاجات وأفكار الأُمم الأُخرى. مستعرضاً في هذا المجال البدايات الأولى ومراحل التطور بدءاً من العصر الأموي وصولا ًإلى احتفال المجلس الأعلى للثقافة بصدور الكتاب رقم ألف في سلسلة المشروع القوميّ للترجمة. والمذهل هنا أنه يختصر كلَّ هذا الزمن الطويل ويختزله بثلاث عشرة صفحة ختم بها الفصل الأول وفيها تُكمن عبقرية الأكاديمي الأستاذ في اختيار الأمثلة التي تغني الطالب والقارئ وتبعدهما عن التشتت في جمع الفكرة مع أمثلة في غاية الروعة.

أما الفصل الثاني من هذا الكتاب فقد عنونه أُستاذنا بـ "سيّابّيات" وقد أورد فيه أموراً يجهلها الكثيرون عن هذا الشاعر جمعها من رسائله التي نشرت بالإضافة إلى توضيح الغامض من حياة هذا الشاعر الذي مرّ مسرعاً في هذه الحياة ولكنه ظلّ خالداً في ذواتنا، أن هذه الأوراق أعتبرها أنا شخصيا أرق ما كُتب في السياب وأجمل ما جُمع عنه ... لم يكن نقداً إنما كان عشقا ينساب مثل الماء على سلم من كريستال ليصل الفصل الثاني إلى آخره عند منطلقات السيّاب النقدية ليعود أُستاذي إلى مهنته وحرفيته النقدية ثانية حيث يركز في هذه الأوراق عن منطلقات  السياب النقدية التي رآها حريةً بالعرض على أصدقائه على نحو من التواضع الذي لا يخلو من جرأةٍ، ولا يبتعد عن قول الحق، وانه امتلك الحس النقدي منذ أن زارته ربة الشعر، ولقد كشفت رسائله الكثير في هذا المجال وأورد لنا الكتاب منها : "ملاحظاته النقدية الأولى ...إلى خالد الشواف" و"ملاحظاته النقدية في قصيدة لـ (أدونيس)" و"ملاحظاتهُ النقدية على نصوص عبد الكريم الناعم" و"ملاحظاتهُ النقدية لأحمد خضر دحبور" لقد أدرج بانسياب التعليلات الوافية أسفل كل هذه الملاحظات التي نجدها كما وجدها أُستاذي (أحساس هذا الشاعر القمّة بأهمية دور القصيدة الفاعلة في الحياة، فأخلص لها، وتولّى شرف الدعوة إلى تجنيبها ما يؤدي بها إلى النكوص بمسؤولية تنم عن تواضع المقتدر، وحبّ كبير للشعر الأصيل المدهش، دون أي مغالاةٍ، أو ادّعاء، ومباهاة، وتلكم هي صفات الشاعر المبدع الخلاق)?²?

ألفصل الثالث في الكتاب يلج في عوالم نصوص اختارها الدكتور عبد الرضا عليّ لنستشعر من خلالها المقصود في انسيابية النص السردي وتقبله، مع إبداع كبير في رصد التشابه والاختلاف بين كاتب وآخر، وكانت اختيارات موفقة...فيتجول القارئ في فضاء النص الذي اختزل أستاذنا أهم مواصفاته الجمالية، وحتماً غير متجاهل مميزات الكاتب الإبداعية، وفهم محيط النص، وإسقاطات هذا المحيط في تداخلات النص وحركاته الزما نية والمكانية من اجل دفع الحبكة إلى أقصاها وهي حتما غاية الكاتب المبدع ضمن المرتكز الأول"الشكل والموضوع والحبكة" وكما يجد ذلك أستاذي في النصوص التي انتخبها وقدمها للقارئ مسلطاً الضوء على موضوعة النص وإظهار مواطن الإثارة فيها أو القول بأنه ركز على مواطن الإثارة في المنجز الأدبي كما كان ذلك في رواية "الزويل " للروائي المصري جمال الغيطاني "حيث اختيار شريحة من الناس لا تملك كتاباً، ولا تاريخاً محددا، ولا عقيدة معروفة إنما تمتثل تقاليد رسخها شيوخها الملثمون"?³? والإثارة في انتظار هذه الشريحة نزول زويل الكبير إلى الدنيا من السماء ليخلص الناس من الآثام والشرور هي التي أفرد لها الناقد شرحا وافياً وإدراجها ضمناً كاسترسال بليغ في توصيف النص شكلاً، وموضوعاً، وحبكة .

وما زلنا في "زويل" الغيطاني الذي يجده الناقد أنه وظف أفكاره توظيفاً فنياً في كتابته السردية بتقديمه الموضوع على نحوٍ مثير . متطرقا بعد ذلك إلى وصف للمرتكز الثاني الذي هو "الشخصيات" على اعتبار أنها تشكل نقطة الارتكاز في أي عمل ناجح.

أما الزمن عند الناقد في الزويل أو في أي عمل آخر يشكل ركيزة المبدع في الفن القصصي وليس فراغاً وهمياً من ابتداع الإنسان أنما هو البعد الرابع للأشياء .

"البناء الفني"وما زلنا في الزويل أيضاً واستخدام الغيطاني لتقنيات سردية كثيرة منها وكما وجدها الناقد هو استخدام الروائي لتقنية الراوي العليم لكونه يقود الوصف في منعطفات الرواية للشخصيات ومحيطها أيضاً،وهذا كما يقول أستاذي تسليط الضوء على مواطن الدهشة في هذا المنجز القصصي .ومن التقنيات الأخرى التي أبرزها لنا الناقد في هذا العمل هو الارتجاع الفنيّ وتقنية المحاورة (الدايالوج) ... وهنا لابد أن أشير بل أركز في الإشارة إلى كل من يرغب في أن يمتهن النقد عليه أن يجرب قدرته على اكتشاف هذه التقنيات في جسد النص وروحه.

مازلنا في الفصل الثالث من هذه الأوراق النقدية حيث القراءة النقدية لقصة زيد مطيع دماج "المدفع الأصفر" التي يجدها الناقد منجزاً جمالياً ثرياً في ملمحها الرمزي العميق، وكما ذكرت أعلاه يبرز التقنية المستخدمة(الراوي العليم) بالإضافة إلى تبني هذا النص طريقة السرد الموضوعي . وفي هذا المجال يختصر لنا الناقد العمل متعمداً، وذلك لاستخدام الكاتب لرموز كثيرة قاصداً بها استثارة أخيلة المتلقي. وهو ما يجده الناقد دليلاً على وعي الكاتب وحرفيّته وقدرته على النفاذ داخل نفس المتلقي دون استئذان وإشراكه بالدهشة.

وعن موضوعة " القتل غسلاً للعار " التي استخدمها الناقد كنماذج للموازنة النقدية وتطرق قبل هذا إلى شرحٍ موجزٍ لتوضيح الفرق بين المقارنة وبين الموازنة، فالأول المقارنة بين مبدعين (بكسر النون) من أمتين مختلفتين والثانية أي الموازنة تكون بين مبدعين(بكسر النون) من أمة واحدة .

وهنا نأتي إلى موضوعة (القتل غسلاً للعار) في قصة (مريم ) من مجموعة (الظل العاري) لمحمد الغربيّ عمران  وقصة (ضحية ) في مجموعة شاكر خصباك القصصية "صراع" وفي نتاجاته اللاحقة "حكاية من بلدتنا " و"الوباء" و"الخاطئة"  ولم يفوت الناقد الكبير الفرصة في التأكيد على تصنيف خصباك كواحد من أجرأ القصاصين الذين عرفتهم الساحة الثقافية في العراق مبيناً مراحل تطوره الفني في الأداء والمعالجة سواء أكانً في الحبكة،أم في التقنية المختارة، أم بتحقيق المتعة والإدهاش لدى القارئ .

ولكي نعرف أن موضوعة "القتل غسلا للعار " لم تكن وقفاً على الخطاب السرديّ إنما شاركه الخطاب الشعري أيضاً، فاختارت لنا بصيرة الناقد الحاذق نصاً شعريّاً لنازك الملائكة التي حذت حذو الآخرين بل يجدها أستاذي أنها كانت الأسبق التفاتاً إلى هذه الموضوعة، ولها تحت العنوان نفسه قصيدة شعر ضمن مجموعتها الشعرية (قرارة الموجة ) وأدرج لنا الكتاب في هذه الورقة الأساليب والتقنيات التي التزمتها القصيدة في إبراز الفكرة من خلال معالجة درامية عالية وصلت إلى غايتها ببراعة.

تحت عنوان (ليس ثمة أمل لجلجامش)??? تصبح رؤية خضير عبد الأمير الإبداعية تحت مجهر الدكتور عبد الرضا عليّ، ويرى مواطن الإبداع في محاور استخلصها للقارئ منها "البطل بين الأسطورة والرواية" وأدرج لنا أسفل العنوان هذا ما يلازم صفات جلجامش الذي ترجمها لنا طه باقر لبطل ثلثيه إله وثلثه الثالث بشرٌ ...ورغم ميزته هذه إلا أنه يقلق من نهاية الإنسان المحتومة،وأيضا ما يلازم شخصية خليل في رواية خضير عبد الأمير والثيمات المشتركة الكثيرة التي أبرزها الناقد وافرد لها مساحة مهمة لما وجده من تقابل وتطابق نابع من استلهامات النص الأسطوري ومحاكاة الواقع والأشخاص في عصرنا هذا وأنيطت إلى تلك الإستلهامات ثيمات أبرزها الناقد، منها: ثيمة الجنس التي يجدها حالة مشروعة في الفن إلى حدّ ما وكتعويض عن انكسارات كثيرة، أو ثيمة الصديق ومساحة استخدامها في النسيج الإبداعي أو ثيمة المكان برائحته، وشكله وأثره ...الخ

والمحور الذي تبنته هذه الدراسة الوافية لإبداع خضير عبد الأمير هو "مصباح علاء الدين ومبرقان "التي يُسلط في هذا المجال الضوء على صورة المنقذ الذي لابد أن يظهر في يوم من الأيام، وفي تراثنا الأدبي جاء المنقذ في أشكال مختلفة وربما يكون هو أيضا وقع عليه الحيف والظلم فاكتسب بعدها إرادة التحدي، والمجابهة كما في المارد وعلاء الدين الذي أنقذه وحرره من المصباح، أو في المبرقان الذي حرره خليل بفتح المحّارة فيتحول المنقذ إلى صديق وقرين يُعتمد عليه، وفي ما تبقى من صفحات وردت فيها دروس نقدية بليغة، ولفهم الكثير عن المنقذ سأتركها للقارئ الذي سيجد فيها متعة منقطعة النظير . أما موضوع "أنكيدو والحلاق"  فيركز فيها على استلهام روح الصداقة لدى خضير عبد الأمير التي استوحاها من شخصية أنكيدو ومنح أبعادها الحميميّة إلى الحلاق.

إن ما انتهى إليه جلجامش وما انتهى إليه خليل في "نهاية الرحلة" هي حقيقة واحدة ...ثمة إنسان ضائع وقلق وليس ثمة أمل في إيجاد سر السعادة ..لا في خلود الأول ولا في خلاص الثاني من الواقع ..ولابد من قبول حكم الحياة.

كانت غاية أستاذي كما وجدتها وكما سيجدها من يقرأ هذه الورقة النقدية، هي التأكيد على عملية التوظيف الصحيح والنقاط المهمة الداعمة لهذا التوظيف وأهمها فهم المصدر فهما عميقا ً وجمع كل ما يتعلق به وبظروف تكوينه وإبداعه وكل المقومات المساعدة لهذا الفهم .

وعند واقعية محمد عبد الولي النقدية في "يموتون غرباء"استوقفتني طريقة محددة توارى خلفها النص لتنوب هي عنه في تأطير الشخصيات التي تبناها العمل الأدبي مسترسلاً بدءاً من الشخصية المركزية في هذا العمل (المهاجر اليمني) ثم تدفق بعد ذلك في وصف الشخصيات الأخرى ... وفي تصوري الشخصي أرى أن النقد الاجتماعي تغلب على النقد الأدبي وربما سيكون هذا سؤالاً جديداً في هذه الإمكانية..واقصد. ربما يكون الناقد هنا تعمد ذلك لنتلمس أبعاد الواقعية النقدية أو لنقف عند تأثير البيئة بالأفراد أو العكس...ففي هذه الورقة تحديداً لم أجد أستاذي يتطرق إلى التقنيات الفنية ولا لنوع الحوار الداخلي وأسلوب الكاتب في السرد.

لقد كانت "الحدادُ لا يليقُ بكاليجولا" هي الورقة النقدية الأخيرة في كتاب الناقد عبد الرضا عليّ وتناول فيها المسرح مستعرضاً على عُجالة أعمدة المسرح العراقي ليصل إلى صلب موضوع هذه الورقة والحديث عن جيل الشباب من المسرحيين الذين جمعوا بين التأليف والإخراج وتميزت أعمالهم بالجرأة والإثارة وكان أبرزهم "كريم جثير" ففي مسرحيته "الحداد لا يليق بكاليجولا" التي تقوم فكرتها على تقديم صورة مجسدة لواحد من الطغاة الذين يظنون أنهم يملكون حقاً مقدساً في حكم رعيتهم ووفقاً لما يشتهون... وفي هذه الموضوعة يلج الناقد في خفايا هذا العمل ويصف أبعاده الجمالية في البناء والصياغة وتأثير العمل برمته، ومع هذا فلقد طغى تقديم الفكرة على المقومات المسرحية الأخرى ربما لأننا نقع أحياناً تحت وطأة الإحساس الجماعي بظلم الطاغية،لذا نقف عند هذا الحيف الجماعي ونطيل الوصف حتى نخرج صرختنا معه وهكذا كان أستاذي في هذه الورقة النقدية.وتسنت للناقد مشاهدة تجربة كريم المسرحية في اليمن وعرضها الذي استوفاه الناقد بما يليق به، وما تركه من أثر في من شاهده، ومنها مسرحية "الأقنعة "المثيرة للجدل ومسرحية "اللؤلؤة" التي كانت من تأليفه وإخراجه ومسرحية "قمر الفقراء" ومسرحية "مسافر ليل" لصلاح عبد الصبور حيث ابرز فيها أمكانية جديدة هي إشراك الجالسين في العمل حيث وزعت عليهم تذاكر السفر فربط بينهم والشخصية الرئيسة "المسافر" وأن هذا الأمر يجده الناقد انسجاماً دراميّاً بارعاً .

وأخيرا ًيصل الناقد إلى التجربة المسرحية التي يرها أغنى تجارب هذا المخرج الشاب هي إخراجه لمسرحية "آه أيتها العاصفة" للشاعر المبدع الجريء عبد الرزاق الربيعي...فلقد برعا الكاتب، والمخرج في خلق الوهج المثير في تقديم معاناة شعب وجسّدا معاً شكل الخوف ورائحة الظلم التي كانت زاداً يوميا لفقراء ومعدمين في بلد يحكمه الطغاة...وهنا تبرز ميزة الكاتب والمخرج في طرح الأفكار التي فيها الكثير من الجرأة والتحدي ومجابهة القمع.

لقد تعود الناقد الدكتور عبد الرضا عليّ أن يقدم أولاً ما للنص وكاتبه على الناقد ولكن هذا لا يلغي حق الناقد على الكاتب والنص معاً...وأفضل مثل يجده القارئ لهذه الأوراق عندما لم يتردد أستاذي في ذكر أربعة وعشرين خطأًّ نحويا ورد في نص لواحدٍ من أهمّ كتاب الرواية العربية  ولا أُبالغ إن قلت أن هذا الكاتب يُعد قامة كبيرة... ولكن أستاذي لا تأخذه مجاملة في الميزان ويعطي لكل ذي حق حقه...لن أذكر لكم من يكون هذا الكاتب الكبير بل سأتركه لكم...تكتشفونه في الكتاب .

 

(الّذي أكلت القوافي لسانه وآخرون)???

شخصيات ومواقف في الشعر والنقد والكتابة

 

في هذا السفر ولوج ممتع ومثير وانتقاء موفق لأدباء ومفكرين أسهموا على نحوٍ فاعل ومؤثر في رفد الثقافة العربية وإغنائها،مسلطاً الضوء على ما تملكه هذه الشخصيات من مواقف فكرية ميزتها، لقد تباينت هذه الشخصيات في سعة ترجمة مواقفها وفقاً لما أُتيح لكل شخصية من حيزٍ أو مناخٍ أو ظرف أو زمان. لقد انتهج الناقد في عرض الشخصيات أسلوب الإثارة دون أن يؤثر هذا على الموضوعية التي ميزته والملازمة لكل عماله النقدية.

وعن اختياره للشخصيات، كتب في مقدمة الكتاب: (إن هذه الشخصيات محببة إلى نفس من اختارها، فبعضها أساتذة له، علموه، فهم شيوخه بحق، وبعضها أصدقاء رحلته الثقافية التي لم تخل من قلق، وخوف، ومناف، وبعضها ممن أعجب بهم، وبمواقفهم الإبداعية والحيوية، فشكلوا شيئاً من ضميره الثقافي)

أعتمد الناقد أسلوب الإثارة كواحدة من وسائله الكثيرة التي يسعى بها إلى إمتاع القارئ في توصيف الشخصيات والغور بما هو ممتع في مسيرة كل منها، وهذا ما سوف أركز عليه في هذا المقام، اختصاراً، ورغبةً أن أزيد عليه في ما بعد في كتاب يتناول سفر الناقد الأستاذ .وتركزت هذه الإثارة في أمرين:

الأول: العنوان المثير

كلنا يعلم ما للعنوان من أهمية كبيرة في تسويق الفكرة ودفع القارئ للإجهاز على ما دوّن أسفله. في أحيانٍ كثيرة يتحول هذا العنوان إلى فخ يستدرج القارئ ليجد في ما بعد، أن ما كُتب لا يمت بصلة لهذا العنوان "الفخ"، ولكن في العنوانات التي اختارها الدكتور عبد الرضا عليّ لم تأتِ إلا خلف معرفة عميقة ورؤى نقدية عالية وخبرة نصف قرن في التدقيق والرصد والمعايشة لجوهر الأدب وكُتابه، كما ذكرت أعلاه، لقد أخذت هذه العناوين أهم ما هو ملفت في شخصية الأديب ونتاجه، والمثير الذي يستوقف دهشة القارئ، فينطلق لمعرفة المزيد وملاحقة الغامض وفهم أسرار الأسئلة وخفاياها العالقة لحياة هذه الشخصية، لقد انتظم في الكتاب أربعة وعشرون عنوانا،سأكتفي بتناول اثنين منها على سبيل المثال:

 

1 - " شيخ المشردين الذي لم ينصفه النقد"

تحت هذا العنوان يتناول الناقد حياة حسين مردان لما فيها من غرابة وخروج عن المألوف وإبراز أهم الخصائص والتفاصيل الحياتية لهذا الكاتب المرهف الذي على الرغم من حياة التشرد والشعور المرعب بالوحدة التي وصفها لنا الكاتب إلا أنه لم يتجاهل ولعه الشديد في المناقشة، والجدل، وتسليط الضوء على أفكاره المتطرفة في الشعر، والأدب التي وضعته في المكان اللائق، وخاض في جميع أنواع فنون القول: الشعر، والمقالة، والنقد الأدبي، والنثر المركز???، وغيرها . ففي الواحد والعشرين صفحة التي أختصر فيها الناقد رحلة شيخ المشردين، نتلمّس الاقتناص البارع لما هو مثير، حيث يترك خلف نتاجاته عواصف نقدية توصله للمحاكم والسجون بتهم التحدي، والتمرد، والخروج الفاضح عن السائد، منذ صدور ديوانه الأول "قصائد عارية" في أواخر العام 1949، ومجموعته "اللحن الأسود" في العام 1950، ويذكر في هذه الأوراق الكثير من الخصائص الفنية التي وظفها حسين مردان في ما قدمه من أبداع، فلم تبخل علينا هذه الصفحات التي دون فيها الناقد أهم هذه الخصائص الفنية، والتناقضات،وغرابة التشبيه، وموقفه من المرأة وأمورٍ كثيرةٍ أُخرى، أتركها للقارئ ليجد في المختصر عظيم الفائدة.

 

2 - "صاحب الكعكة الحجرية" تحت هذا العنوان تنضوي نبذة موجزة مركزة لشاعر مرهف عاش ملتزماً بالكلمةِ مخلصاً للوطنِ نقياً بكل ما تحملهُ هذه الكلمة من معنى... إنه الشاعر "أمل دنقل" الذي منحنا الناقد في صفحات قليلة فسحة لنقترب من هذا الإنسان والشاعر ...، والكعكة الحجرية هي عنوان لإحدى قصائد الشاعر الذي قالها أثناء تظاهرات الطلاب في مصر داعياً إلى حمل السلاح :

 

المنازلُ أضرحة، والزنازنُ

أضرحة ٌ، والمدى أضرحة

فارفعوا الأسلحةْ

إرفعوا

الأسلحةْ ْ

انتقى الناقد للموضوع حزمة من المواصفات والسلوكيات الإنسانية التي تعكس طيبة الشاعر وبعضاً من سلوكيات الشاعر الإنسان العامة والخاصة، فيذكر عن الشاعر قائلا:" لاحظت عليه مرّة أنه يحمل نقوداً معدنية (قروشاً) قليلة في قبضته اليمنى، وعندما تتعرق ينقل النقود إلى اليسرى، فظننتُ أنه يستخدمها تلهيةً، أو لقتل قلق ما، كما نفعل نحن بالمسبحة التي نحملها، لكنني حين زرتهُ في منظمة التضامن الآفروآسيوي حيث كان يعمل أيام كان سكرتيرها نوري عبد الرزاق حسين ووجدته على عادته مازحته بضرورة استبدال المسبحة بالنقود إنْ كان لابدَّ من التلهيّ لقتل الوقت، فأدهشني ردّه حين أعلمني أنّ بنطاله الذي يرتديه كان من غير (جيوب) وأن هذه القروش هي كل ما يملك. وتبين لي أنه كان يرتدي بنطالا نسائياً دون أن يعرف ذلك ."

كثيرة هي العناوين إن كانت في هذا الكتاب أو في غيره، كلها لصيقة بجوهر الموضوع وشكله مختصرة لأهم مرتكز في الشخصية موضوعة البحث، وكانت كثيرة ومثيرة أذكر منها: "الشريد الذي يبيع الشعر لأنصاف الشعراء" و"الاسكافي الذي نال شهادة الدكتوراه" و"عرار وادي اليابس" و"مطلق الرهينة من الأسر وقاتل طاهش الحوبان" و"الناقد الذي بطش بشعراء المهرجان" و"بائع السجائر"و "الرائد المنسي الذي أصبح وزيراً للخارجية ".....الخ.

الثاني: الإثارة في تقديم الشخصية المبدعة

لا يجهز الناقد على اسم الشخصية ويضعه مباشرة، بل يترك السطور، والصفحات الأولى للمثير والجديد والمذهل منها، بعد أن جمع عنها الكثير مما خفي

وما لم ينشر، وغير المعمم،والمنسي، والمثير الغامض، فالصفحات الأولى يطأ فيها الناقد الخبير أمكنة مجهولة لهذه الشخصية التي قدمها بأهم ما يميزها من المثير الذي قد لا يتوافر بسهولة، والجديد الذي يمثل سبقاً، وتزيد من شوق القارئ شغفه لمعرفتها، فينفق أستاذي الكثير من الجهد والوقت من أجل أن يستوفي للشخصية جوانبها الكثيرة ليصل إلى هذه الغاية..

يمتلك الأستاذ الدكتور عبد الرضا عليّ صبرا لم أجده عند سواه في البحث عن المصدر، وفي ملاحقة المفيد الممتع، واقتناصه، وتقديمه للقارئ.

 

ايمان محمد – روائية

المانيا

.........................

الهوامش

1.   أوراق نقدية في تلقي النص قُدّمت في مهرجانات علميّة، أو مؤتمرات أدبيّة في أكثر من بلد عربيّ جمعها ودفعها للنشر اعتزازاً بها وحرصاً عليها من الضياع أو العبث (كما يقول المؤلّف).

2.   ينظر: أوراق في تلقي النص الإبداعي ونقده ص 113.

3.   ينظر: أوراق في تلقي النص الإبداعي ونقده،119.

4.   الطبعة الأولى، مطابع الشركة الحديثة للطباعة، بيروت1971م.

5.   صدرت الطبعة الأولى في العام 2006عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت.

6.   هي التسمية البديلة لقصيدة النثر لدى الناقد عبد الرضا عليّ.

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم ا. د. عبد الرضا علي من: 17 / 8 / 2010)

 

 

 

في المثقف اليوم