تكريمات

قراءة في نص (ارتويتُك كشفاً) للشاعرة الكبيرة وفاء عبدالرزاق

 حيث نجده يعبر بصورة مباشرة عن موقف المتكلم/ الشاعرة تجاه ما تتحدث عنه،  بمعنى اخر نجد ان هناك قصدية تنبثق من علاقة الشاعرة  بالعنوان، تتضمن ابعاداً ذاتية للشاعرة بما تنطوي عليه هذه القصدية من احساس، وما يشكل في الاجمال توصيفاً للفعل اللغوي في التواصل اللفظي، ويتجلى قيمة الفعل اللغوي داخل العنوان من خلال تحولاته حيث يتم توظيفه على متسويات مغايرة من الذاتية " ارتويتُ" الى الذات الاخرى "بك" ومن ثم تحديد الاسلوبية" كشفاً".

لرذاذِ صوتكَ أُصغي

أتأملُ هطولكَ

أستضيفُ الشجونَ وقلبَكَ

  أباركُ شدوَ الدمعِ

  أزفّ ُ عروسةَ سهري لمقلتيها

  أدوّنُ صهيلَ قلبـِكَ

تعمل الذات الشاعرة هنا كمحور وركيزة اساسية للمعجم اللغوي الذي تنهل منه الشاعرة معينها الشعري، بأعتبار ان الحضور المكثف لتلك الذات رفدت النص بمعاني ودلالات تنبع من القيمة الفعلية للاحساس المراد وصفه، وايصاله الى الذات الاخرى، وهي اتت وفق معطيات مغايرة فنجد مثلاً الافعال " أصغي، اتأمل، استضيف، أبارك، ازف، ادون.."  كلها تؤثث لعوالم الذات بصيغة حركية تقوم بتحديد الفعل العملي الذاتي وفق رؤى جوانية ترسم الملامح الذاتية للشاعرة، وتعطي الانطباع العام حول الحالة التي انبثقت منها تلك الافعال، والتي بدورها تفتح الباب ام تماثل فعلي لغوي اخر يتجلى من خلاله الحالة النفسية للذات الشاعرة" رذاذ الصوت، شدو الدمع، السهر.." وهي افعال تظهر مدى اندماج الذات الشاعرة بالموقف/ الحالة التي هي بصدد رصدها، سواء على المستوى الجواني ام البراني والذي يظهر من خلال التوظيف الموفق للكاف في الاشهار بالاخر"صوتكَ، هطولكَ، قلبكَ.."

  لعينيكَ نهران

 تهافتتْ لهما أجنحة ُ نافذتي

  وتفتـّحتْ في كفـّيَ المـُنى

  تمنـّيتُكَ

  استنشقتُ المنى

  ندهتُ غدي:

  احترقْ

  أجمَلُ ما فيَّ لحظتي

  احترقْ

يستمر حرف الكاف بفعاليته الراصدة للاخر ضمن الاطار المتاح، لكنها عبرت عن الكائن الشعري هنا بصورة مغايرة باعتبار انها في المقطع الاول كانت تعمل ضمن جغرافية محددة تم رصد اللامح الاولية للذات الاخرى من خلالها، وهي تحديد على اسس صوفية قائمة، فالصوت، والهطول، وحتى القلب ان كان مادياً الا انه غير مرئي بالشكل المتاح، كلها تؤثث لتلك العوالم القصية التي تثير في النفس جملة اعتبارات دلالية وصورية تتمثل في الاخير قيمة الاحساس المراد تصنيفه، ولكن في " لعينيكَ" تغيرت معالم تلك الصورة والاعتبارات الدلالية اللغوية ايضاً، لانها تنتقل هنا الى المباشرة الفعلية لتسجد الحركية القائمة على اساس مادي حسي كائن " نافذتي، كفي.." وما اعطى للنص بعداً حركياً اكثر، هو التحول الحاصل في مسار اللغة نفسها من "ياء" تعبر عن المكانية في "نافذتي" الى اخرى تؤثث لعوالم زمنية آتية"غدي، لحظتي.." وعلى الرغم من توحش الصورة المرافقة لها الا انها اثببت جدراتها في تقمص الذات الشاعرة للحالة الشعورية التي تمر بها.

  وتقرفص جمرة ً هـيمانة

  وانتشتْ ثانية ً

  ممطرة ًباحتراقها

  بأشيائِكَ البسيطةِ تـُشغفُ صلاتـَها

  وكنجمةٍ مسّها الصحو أهزُّها

  انهضي حاسرة ً

  ارطني، وليكن جنوناً

  فرطانة ُ المجنون ِ خطىً غضّة ً

 وجبهة ً تُشجرُ جذرها وتستعرْ.

 تنتشي اللغة هنا بقيمتها الفعلية، حيث بعدما كان النص غارقاً في الذاتية كنبع ومعين شعري، تصبح اللغة نفسها هنا رهاناً اخراً من رهانات النص من حيث قيمة التوظيف الدلالي البلاغي الصوري معاً، لتصبح حركية النص متعلقة بالدرجة الاساس بالحراك اللغوي الحداثوي المثير ضمن الاطار النصي الشعري، مضافاً الى ما سبق ذكره من تأثيرات الذاتية على المستويين الجواني والبراني على مجمل الحدث الشعري" تقرفص، تشغفُ، حاسرة، جنوناً، ارطني، تستعر.."، فمن خلال هذا التوظيف البياني المثير والمليء بالايحاءات الرامزة احياناً يتحول النص من مجرد وصف حكائي بلاغي الى تداول شعري وجداني حسي باذخ، مضيفاً في الوقت نفسه الى المعجم النصي الذي ظهر من خلال توظيف" الكاف" و"الياء" في البدء "الالف" حيث وجدناه يساير الحدث الشعري بصورة تبرز من خلالها مدى التأثير الذاتي على المعجم من جهة، ومدى التلاعب البلاغي المؤثر في الصورة من جهة اخرى" انتشيتُ، ارطني.."، فضلاً عن الاستعارة التي حققت مبتغاها ضمن الحدود النصية القائمة، والتي تمنطق الرؤى بشكل واضح حيث إن الارتقاء بدلالة النص إلى المستوى الذي يحقق انزياحاً في تكثيف الصورة الشعرية وفق الاستفادة من الاستعارة الوجودية التي تقارب المشاعر الداخلية ومخاضاتها إلى حركة الطبيعة التي تلتصق بالذات وتقاربها بالمعاناة وكأن الطبيعة هي الرؤى لكل ما نشعر به من مشاعر وأحاسيس.

  فما ليَ اليومَ أستعيرُكَ منـّي

  أخرجُكَ من رئتي

  أدلقـُكَ بأصيص ِالزهر ِ

  فارعة ً تفردُ ضفائرَها

 زهرتي

وترتوي كشفاً

 بصَمتـِها الأولِ الأزلي

 تُعبـّئُـكَ فيما بقيَ لي

 كي لا يتعفرتُ العمرُ

 وتنفرُ جسدي

 الروحُ التي أصغتْ لرذاذِكَ

 وفي حشدِ الغيابِ

  كسرتْ أقفالـَها

 وأنجبتكَ  صدراً

 أغلقتْ آفاقـَها وسوّرت ا لرحم .

يعلتي فعل الاستعارة الصدارة هنا، ليسجد الحالة التي وصلت اليها الذات الشاعرة بصوفيتها المتناهية، والتي تنامت بوتيرة تصاعدية، حتى بلغت احدى ابرز مستوياتها، مما اثرت بصورة واضحة على التمايز البلاغي اللغوي الصوري، من حيث الدال والمدلول، ومن حيث الذات والذات الاخرى، فأتت المعاني هنا ترصد بشكل مكثف المعاناة الذاتية وما يتمخض من الفعل الحركي الذاتي تجاه الاخر، حتى وان بدت الصور متوحشة في ظاهرها، الا انها تحافظ على النسق الصوفي المتوحد" استعيرُك مني، أُخرجك من رئتي، ادلقكَ، انجبتكَ.." كما ان المعجم النصي حافظ على نسقه السائد من الاستعانة بالاحرف التي شكلت معالم النص الاساسية" استعيركَ، تعبتكَ، رذاذكَ.." و" رئتي، بقي لي، جسدي.."  ومن ثم" اخرجكَ، ادلقكَ، انجبتكَ، اغلقت.."، حيث الكاف والياء والالف ظلت معيناً تؤثث معالم النص سواء من حيث تكثيف حضور الذات الشاعرة، ام ابراز ملامح الذات الاخرى بتوحدها الصوفي في مخيلة الشاعرة وجوانيتها، فضلاً عن كونها عبرت عن الغياب هنا بشكل مباشر، مما اضاف للنص بعداً اخراً يمكن تقصيه عبر التحولات اللغوية المتشظية الحاصلة في بنية النص، بالاخص فيما يتعلق بقيمة الصور الشعرية الملازمة لتلك التحولات والتي ظهرت بشكل المميز جداً في" حشد الغياب، وسورت الرحم..".

 

 فما ليَ اليوم أستعيرُكَ منـّي

 أسَوسِنُ طفولتي أتبرعم

ولو لحظة حـُلـُم؟

 لي في السؤال ِ رحـْميَ

 وللسؤال ِ نـُطفتـُكَ

 فكيف لي أن أنجبَكْ.

تنتقل اللغة من حالة التشظي الى حالة الهيام واحياء الذاكرة والاحلام،  فتتعمد الشاعرة هنا على تثبيت ما قد التصق بالذاكرة التي تمتد مع رؤاها إلى الزمن وفق ذائقة الحلم، حيث تتحول لديها الطفولة العلامة الأولى لكل أحلامها المنقادة إلى رؤاها الفكرية، والتي عن طريقها تمتد لترسيم الاستعارة لكل الأشياء الموجودة  ضمن حدود الذاكرة والسؤال، وتحدث هذه الاستعارة من خلال أحداث انزياح في ترتيب  الرؤى نفسها وفق اولويات ذاتية تحفر في الممكن بانسيابية شفافة مع الاحتفاظ بالعمق لكل الموجودات التي ترمز للذات الاخرى بحيث ندرك أننا أمام شاعرة تمتلك القدرة على التنقل برؤاها وفق ذاكرة الأشياء في فكرها معبرا عنها بلغة بسيطة عميقة بالمعنى، خاصة انها في ختمتها الشعرية تحفر عميقاً جداً، في كنيونة الاخر ومدى العلائقية القائمة بينها وبين الذات الشاعرة.

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

 

في المثقف اليوم