تكريمات

شهادات حية: ذكريات مع يحيى السماوي وألق الشباب

محركنا الأكبر مثل أي شاب ينتقل من مدينة دينية شبه مغلقة إلى عالم رحب متنوع مفتوح ومتفتح. ومعي انتقلت إضبارتي الأمنية لأصبح تحت رقابة الأمن ألصدامي والاتحاد الوطني ألبعثي لطلبة العراق، ولذا كنت حذرا في تعاملاتي محدود العلاقة بالآخرين، متجنبا الاحتكاك وبعيدا عن العلاقات الاجتماعية مع الطلاب. ولكن أحد الشباب كان يحمل قسمات وجه جنوبي أخذ بتلابيب قلبي وشدني إليه ، كان شابا نحيفا لون شعره يميل إلى الصفرة ويرتدي بذلة لطيفة. فتجاوزت كل المحذورات وتجاوزت الخطوط الأمنية لأعقد معه صداقة من نوع خاص.

كانت ممرات المستنصرية ومساءاتها تجمعنا سوية لنتناول الحديث عن هموم الشباب وهموم الأمة وعيون البعثيين ترصدنا كأنها عيون ذئاب جائعة، وتحتار في أمرنا إذ كيف يلتقي حامل الفكر الديني بحامل الفكر الماركسي!!

أدب واتزان وعقلانية يحيى كانت تخفي سرا لم يكن يرغب البوح به، ولكنه باح به أمامي، السر أن يحيى يقول الشعر وله ديوان مطبوع ولذا فاجأني في اليوم التالي وهو يهديني ديوانه الرائع (عيناك دنيا) الذي كان يتغزل فيه بالسماوة وأهلها. واستمرت لقائاتنا إلى أن تخرجنا من الجامعة دون أن يأخذ أي منا عنوان صاحبه ربما لشعورنا أن ذلك يشكل خطرا علينا.

بعد إتمام الخدمة العسكرية تكررت دعوات الأمن الموجهة لي حيث كان يأتيني عادة شخصان ليطلبا مني مرافقتهم إلى مديرية الأمن العامة لمدة خمس دقائق فقط للإجابة على بعض الاستفسارات لتمتد هذه الدقائق الخمس إلى أيام وشهور مما دفعني لتقليص علاقاتي بالآخرين إلى مستوى لا يشكل خطرا علي أو عليهم ولذا لم أتمكن من لقاء يحيى أو زيارته حتى عام  1996 حيث تحديت مخاوفي وسافرت إلى السماوة بحثا عنه. ورغم أن المدينة صغيرة وأهلها يعرف بعضهم بعضا إلا أني لم أعثر على من يدلني عليه بل أن الجميع أنكروا معرفتهم به، كان بعضهم ينظر إلي بعين الشفقة، لدرجة أني كنت أتوقع أنه يريد تحذيري من شيء لا أعرف كنهه. ولما أشتد سؤالي وإلحاحي تبعني أحد الرجال الطيبين وقال لي : بني لا تبحث عن يحيى فقد نفذ فيه حكم الإعدام، لقد أعدموه . سارعت حينها بالعودة إلى بغداد وعلى طول الطريق كانت صورة يحيى ترتسم أمامي .. ضحكته .. طيبته .. أخلاقه وقيمه ولذا كنت أبكي بصمت ولكن بحزن عميق.

ومنذ ذلك التاريخ أصبح يحيى مجرد ذكرى أليمة تنام في خاطري يستفزها اسم السماوة أو اسم يحيى إذا قيل أمامي  إلى ام 2008 يوم فتحت عن طريق الصدفة أحد المواقع في شبكة الانترنيت لأجد قصيدة لشاعر أسمه يحيى السماوي مرفقة بصوره له ولكن الضرر الذي ألحقه تنظيم القاعدة بعيوني بعد أن خطفوني وحبسوني لمدة ثلاثة عشر يوما ساموني فيها أنواع العذاب مما أفقدني إحدى عيوني وألحق ضررا كبيرا بالثانية لم يسعفني بالتدقيق في الملامح رغم أني كنت أتوسم ملامح يحيى في الصورة بشكل غريب، وقمت بمراسلة الموقع لأسألهم إن كان اسم هذا الشاعر يحيى عباس السماوي ثم أرسلت لهم رسالة ثانية وثالثة ولكنهم لم يعيروني اهتماما.

وبعدها بعام وأنا أتصفح موقع صحيفة المثقف عثرت على قصيدة لنفس الشاعر مع صورة جديدة وبادرت أيضا بمراسلة الصحيفة وتوجيه نفس السؤال لها لتردني منهم في اليوم التالي رسالة يخبروني فيها أن يحيى استلم رسالتي وفرح بها وسيرسل لي الجواب. لا يسعني أن أصف لكم نوع المشاعر التي انتابتني حينها كانت عيوني تذرف الدموع بشدة وجسمي يرتعش بعنف حتى خاف علي أولادي.

ومنذ ذلك التاريخ وعلاقتي بيحيى تزدهر وتنمو حيث عادت الحياة لجذور محبتنا القديمة وأورقت أغصانها. وأنا اليوم بلهفة وشوق للقائه بعد أن وعدني بزيارة في القريب العاجل .

من يريد التحدث عن يحيى الشاعر والإنسان والمناضل لا يحتاج إلى جهد كبير إذ يكفي أن تقرأ أي قصيدة من قصائده لتعرف مقدار وطنيته وحبه للعراق والعراقيين، وتشعر بتلك الرغبة الجامحة التي تدفعه للعودة إلى الوطن رغم معاناة العراقيين ورغم الإرهاب.

 لقد نجح السماوي في تصوير معاناة الغربة ببكائيات ووجدانيات قلما تجد لها شبيها بالمستوى والمضمون والصنعة، رسمت حقيقة شعوره الفياض، أما باقي قصائده فتجد فيها نفس نكهة خلق  ذلك الشاب الجنوبي المؤدب الخجول الطيب ابن السبعينات الذي كان يحسب للكلمة حسابها وللمفردة مداها ومساحتها ولا يلقي الكلام جزافا ولا يقول إلا ما ينفع.

السماوي بعطائه الثر الغزير ثروة وطنية ثمينة جدا لم تلق من المسؤولين العراقيين من يعتني بها ويستفيد من خيراتها كما هو ديدننا في التعامل مع كل ثرواتنا الأخرى في الوقت الذي لم يبخل به الآخرون عطاء يحيى سواء في تناول شعره بالدراسة ودواوينه بالنقد، وترجمة ما يقوله إلى اللغات الأخرى، أو في تناول تجربته في الحقل المعرفي للحصول على الدرجات العلمية في دراسة الماجستير والدكتوراه.

ولذا أعتقد أنه آن لهذه النخلة الغريبة أن تعود لبستانها ولهذا الجسد المتعب والشعور المرهف أن يستريح على ربى العراق. وآن للحكومة ووزارة الثقافة العراقية أن تحتضن هذا الرجل الشاهق الباسق وتضعه في المكان المناسب له لكي يفيض محبة للعراقيين تجلي عنهم بعض هموم يومهم القاسي.

أما دراسة ونقد نتاج يحيى السماوي فأتركه لذوي الاختصاص ولاسيما أننا في العراق لم نطلع إلا على غيض من فيض شعره ونثره الرائع الذي ذاع صيته في الآفاق وأطبقت شهرته المشارق والمغارب.

عمرا مديدا لصاحب الكلمة الصادقة يحيى عباس السماوي ولكل من يخلص للعراق ويريد تخليد رموزه أحياء بعد أن تعودنا على تأبينهم أمواتا، وليبقى السماوي طائرا غريدا يشدو للطيبة وللعراق والعراقيين وكل الطيبين في الكون

 

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم