تكريمات

ملف: الخيط الشعري في مسبحة (يحيى السماوي) النثرية

أن من يقوم بمغامرة كسر الشكل الشعري وبناء شكل آخر هم الشعراء الذين يكتبون الشعر نظما وليس أولئك الذين  يكتبون الشعر نثرا، وبالرغم من تحلل النثر من لعبة الأشكال واحتكامه لقانون الفوضى في  بناء كيانه  وهو ما تتميز به قصيدة النثر والنثيرات الشعرية بصورة عامة إلا أن الشاعر السماوي قد غامر في تأطير ديوانه (مسبحة من خَرَز الكلمات) والمكتوب بطريقة (الشعر نثرا) ضمن شكل معروف (المسبحة) وهو متداول في الثقافات المختلفة ابتداء من التراث العربي الاسلامي ووصولا للثقافات الأخرى كالهندية واليونانية وغيرها من تراث باقي الشعوب .

إن الشاعر السماوي الذي يكتب قصيدة العمود  والتفعيلة لم يستطع أن ينزع ثوبه الشكلي بل أراد أن يلبسه لقصيدة النثر أيضا وبالتالي فقد كان وفيا لأسلافه العروضيين، وحاول أن يستدرج (الشعر نثرا) إلى لعبة كسر وإعادة بناء الشكل التي يبرع بها  الأسلاف أمثال نازك والسياب  وغيرهم من الرواد، إلا أنه والحق يقال طبقها  على الشعر نثرا وليس على الشعر نظما، إن الملاحظ هنا وهو شيء مهم هو أن الشاعر وفي عتبة فرعية قال عن النصوص في كتابه هذا إنها (نصوص نثرية) ولم يقل بما يدل على أن ما كتبه شعرا  وهو بالتالي يصر على التفريق بين النصوص الشعرية والنصوص النثرية، والسؤال المطروح هو:- إذا كان الشاعر يقوم بهذا التفريق بين الشعر والنثر لماذا يقوم بإلباس ديوانه ثوبا يعطي الديوان شكلا معينا وهو شكل المسبحة ؟، بالطبع فنحن سوف لن نجيب عن السؤال بدلا من الشاعر، ولكننا نخمن أن الشاعر قد حاول المطابقة بين ثريا الديوان  (مسبحة من خرز الكلمات) مع (المسبحة الإسلامية) وليس مع غيرها التي تحتوي على عددأ قل من الخرز وبعضها يحتوي على أعداد زوجية، وكانت المطابقة على مستوى التشابه بين عدد النصوص(99 نصا)  وعدد الخرز في المسبحة الاسلامية ( 99 خرزة)، ولكنه تجاهل مكونات المسبحة الأخرى كالمنارة والشاهود وغيرها، يعني أن الشاعر استعار من المسبحة عدد الخرز فقط وفي نوع واحد من (المسبحات) هو المسبحة الاسلامية التي يستخدمها الدراويش ورجال الدين تيمنا وتسبيحا بالاسماء الحسنى  وبالتالي فالمطابقة بين مسبحة السماوي ومسبحة الدراويش(الاسلامية) كان غير متطابق بالكامل، حيث كان بامكان الشاعر أن يدس نصوصا لتمثل بقية أجزاء المسبحة وهو ما لم يفعله وبالتالي قصر المشبه من أن يتطابق مع المشبه به .

ولكن ما المختلف في تجربة السماوي هذه؟ إن المختلف هنا أن الشاعر (السماوي) أراد أن يعطي شكلا للديوان بأجمعه وليس للقصيدة الواحدة أو النص الواحد مثلما هو معروف عند الرواد، فلأول  مرة  نقرأ عن ديوان يؤطر ضمن شكل محدد ومقنن (شكل المسبحة) وهذا يعني أننا بدأنا ندخل عصر اللعب الابداعي على شكل الديوان وهو شيء جديد ومعاصر يحسب للشاعر السماوي نتمنى أن يقتفيه بقية الشعراء، أما الذي يمكن أن يؤشر بكونه ليس لصالح الشاعر هو أنه توسل شكلا لديوانه وكان أول من خرج عليه، فحجم الخرزات الشعرية كان متفاوتا وهو يفارق حجم الخرزات في المسبحة التي تتميز بتساوي حجومها وتناسقها كي تعطي شكلا متناسقا للمسبحة وهذا أدى إلى عدم تناسق الديوان على مستوى الشكل لعدم تناسق مقاطعه وذلك لاختلاف المقاطع فبعضها طويل وبعضها قصير فضلا عن تنوع الموضوعات الذي أفقد الديوان وحدته العضوية، وبالطبع فإن عدم اذعان الشاعر لهذا الشرط أملته قضايا فنية مرتبطة بالموضوعات التي تناولها الشاعر في خرزه النثرية لذا اختلف حجم هذه الخرز باختلاف الحالة النفسية للشاعر في زمن كتابة النصوص النثرية، وهذا يعني أن الفن ومنه الكتابة الشعرية أو النثرية لا يمكن أن تستوعبها الأشكال المقننة وهي عصية على التدجين وبالتالي فالكتابة الابداعية دائما ما تكسر الأسوار المفتعلة وتتخطاها، وبالطبع فٌإن ما أشرناه هنا  لا يمثل خللا كبيرا أو يدمغ التجربة بالاخفاق ،بل إن لكل تجربة جديدة ما يصاحبها من هنات يمكن تجاوزها بالممارسة والتجربة المتراكمة فالتجربة الشكلية هذه لا تزال تمثل البداية.

 

متن الكتاب (الديوان)

تنطوي المقاطع النثرية(الخرز) على الكثير من الآراء والمواضيع التي تهم الشاعر فالغربة  والحنين والحبيبة والإيمان والطبيعة وكذلك الاحتلال ورجالاته هي ما نجده سائدا في متن الديوان ، ولكوننا نبحث عن الشعر نثرا في المتن وجدنا أن بعض الخرز كانت باهرة الشعرية لأنها لمست الذات الانسانية بأرق حالاتها وأنبل إحساساتها كما في المقطع(86)(1):-

ما لعصفور فمي؟

لقط من حقول شفتيك

بيدرا

من قمح القبلات

وما زالت حوصلته

فارغة..!

 

 إلا أن هنالك مقاطع كانت خالية من الشعر لأنها لم تفلح في شعرنة موضوعاتها وخصوصا ما يتعلق بالسياسيين والوطن والاحتلال الأمريكي فكانت تقريرية  و مباشرة وكأنها كانت مقحمة في الديوان (المسبحة) ولم تضف له شيئا، كما في المقطع  (77)(1):-

على أرضه انتصبت

أول مسلة للقانون في الدنيا..

ومع ذلك .. فالسوط فيه

أطول من يد العدالة..

والخوذة أعلى من سارية العلم الوطني

في واديه تجري أعذب أنهار الدنيا

ومع ذلك .. فهو وطن العطش

فهذا كلام يعبر عن حقائق (تاريخية- جغرافية) مشبع بالتقريرية والخطابية ومفتقد للشعر ونفحاته وليس فيه عذوبة النثر، أو نقرأ هذا المقطع (83)(3):-

أكثر الناس ابتعادا عن الله

هم:

الأكثر قربا

من ال (c i a)

 

وهو كلام برأينا لا ينتمي للشعر ولكن علينا أن نقر أن الشاعر يتوسل هذا الغياب الشعري لضرورة الإيصال أو التواصل مع قارئه وبالطبع لكل شيء ثمنه رغم إيماننا أن الشعر يلمح من بعيد ولا من واجبه تقديم حقائق تلغي مهمة المتلقي في متعة الاستكشاف ويضع فسحة للنقد ليقول كلمته ويشارك في متعة القراءة.

 

ملفوظ القلب في الديوان

من خلال قراءتنا للديوان لفت نظرنا تداول ملفوظ  القلب وتكراره بصورة كثيرة  حيث يتكرر ملفوظ القلب في الديوان في حوالي عشرين مقطعا (خرزة )  لذا سنقرأ هذا الملفوظ واستبيان دلالاته المختلفة في قسم من خرز السماوي، والقلب كما هو معروف يمثل ثوب الإنسان في الثقافة الاسلامية والثوب الابيض يعني القلب الآبيض والعكس صحيح، وله رموز في الثقافات غير الاسلامية حيث يقول (فيليب سيرينج)(4)إن القلب مقر لإقامة الشجاعة والمشاعر الدارجة كالفرح والحزن والخوف وكذلك المشاعرالنبيلة (كأن يقال هذا رجل له قلب طيب) وكذلك فالحب لا يمكن أن يكون مقره إلا القلب، يرتبط القلب بالدم أيضا ويرمز له بالروح في التوراة وهو رمز الطاقة الحيوية أيضا، كان الأزتيك يقدمون لآلهتهم القلوب البشرية، على حقيقة أن هذه الآلهة تسمح للمؤمنين بها أن تقوم بالفتوحات العسكرية لاكتساب الغنى وجلب اسرى لتقديم قلوبها قرابين لهذه الآله(5)في حلقة لانهائية تقود فيها الحرب للقربان والعكس صحيح أيضا.

  يبدأ الشاعر في استخدام هذا الملفوظ من المقطع الأول حيث يقول(6):-

صغيرٌ – كالبرتقالة- قلبي..

لكنه

يسع‘ العالم كله!

يتوسل الشاعر تقنية التكثيف(الإيجاز) في بناء مقطعه أعلاه، والتكثيف هو لغة تشترك فيها قصيدة النثر حسب (سوزان برنار) فضلا عن الحصروشدة التأثير والوحدة العضوية(7) وكذلك لغة الحلم حسب (سيغموند فرويد) حيث يقول(8):- إن أول ما يتبين للباحث بين محتوى الحلم وأفكار الحلم هو أن ثمة عملية (تكثيف) قد أجريت على نطاق واسع: فالحلم مقتضب، هزيل، مليء بالثغرات، إن هو قورن بسعة أفكار الحلم وغناها).

وهنا نجد الشاعر يشاكل بين حجم البرتقالة وحجم القلب الذي حجمه بقدر  كف اليد، ورغم صغره لكنه يسعُ العالم كله، وهي مفارقة يتوسلها الشاعر لخلق شعرية المقطع أعلاه وهنا يعتمد الشاعر لغة الإخبار، وليس هنالك وسيط معين بين الشاعر والقارئ فالكلام مباشر بينهما ، ولكن يبقى هنالك قصور بين المشبه والمشبه به، فثنائية (قلب- برتقالة)  لا تكاد تلبي ما يريد أن يوصله الشاعر لمتلقيه، سوى الحجم وهو تشابه شكلي وليس جوهريا.

في مقطع آخر يتوسل الشاعر ثنائية أخرى هي ثنائية (قلب – عباد الشمس) لخلق شعرية باذخة لخرزته النثرية حين يقول(9):-

أنت لست شمسا..

وأنا لستُ

زهرةَ دوار الشمس..

فلماذا

لا يتجه قلبي

إلا نحوك؟

وبرأي التلقي فالشاعر كان موفقا بثنائيته أعلاه خصوصا عندما قدم ما يدعمها  وظائفيا وهي االتشاكل الحركي مابين قلب العاشق والمحبوبة وحركة زهرة عباد الشمس مع حركة الشمس، وتقنيا فالشاعر قد وضع وسيطا بينه وبين القارئ عندما أراد إخبارنا عبر الحبيبة ما يعتلج في داخله عكس ما فعله في المقطع السابق، كما أن الشاعر خلق شعرية مضافة عندما نفى المشابهة بين ثنائية(الحبيبة - الشمس) عندما قال (أنت لست شمسا) وكذلك (الشاعر – دوار الشمس) عندما قال:(أنا لست زهرة دوار الشمس) وكذلك فهو استعار ملفوظ القلب ليمثل الجسد(جسد الشاعر) أي أنه استبدل الكل بالجزء  ومن هنا فقد احتاز القلب تداوليا(10) على مقابل آخر ليكون نمطا وبالتالي احتاز دلالة أخرى تمثل أنا الشاعر وجسده.

في مقطع آخر ولكنه طويل نسبيا نجد الشاعر يعطي ملفوظ القلب مقابلا آخر ليكون نمطا أي أنه أعطاه وظيفة، وهو ما سنبينه تداوليا لأن التداولية تهتم بكل ما هووظيفة لمقابل تكتسبه علامة لغوية معينة، حيث نقرأ ثنائية أخرى هي ثنائية (قلب – راية ) عندما يقول(11):-

ألقيت قوسي وسهامي..

رافعا قلبي رايةَ استسلام..

فكوني المشنقة التي ترفعني للسماء

أو

القيد الذي يشدني إلى الأرض

وهنا أيضا يتوسل التقنية ذاتها في المقطع السابق عندما يضع وسيطا (مخاطبا) لكي يوصل إلينا ما يريد قوله ،

في مقطع آخر يشابه تقنيا المقطع الأول نقرأ ثنائية أخرى (قلب – بستان)، حيث بالرغم من كل ما مر على الشاعر من معاناة وقسوة إلا أن قلبه لا يزال عامرا بالمحبة وأخضر بل أعمق خضرة من كل البساتين حين يقول(11):-

أكل هذه السنين العجاف..

الهجير..

الحرائق..

معسكرات اللجوء..

المنافي..

وقلبي لما يزل

أعمق خضرة

من كل بساتين الدنيا؟

في مقطع آخر يستخدم الشاعر وسيطا آخر (امرأة غير متعينة) ليخبرنا بشيء مثير حقا(12):-

جنون قلبي:

الدليلُ

على سلامةِ

عقلي

.....

.....

نهر رجولتي

لا يستعذب الجريان

إلا

في حقول أنوثتك

يذكرنا (القلب المجنون) أو في بعض الترجمات (القلب المضطرب) بما قالته ننسون للآلهة(شمش) حول ابنها جلجامش حين اعتزم السفر إلى غابة الأرز(13):-

(علام أعطيت ولدي جلجامش قلبا مضطربا لا يستقر؟)

إن جنون قلب جلجامش لا ندري إن كان يشير إلى سلامة عقله أو إلى عذابه، فهو عندما ينتوي شيئا لايعيده أو يمنعه عما انتواه أحد، حتى عندما أراد الذهاب إلى أتونابشتم لم تستطع فتاة الحان من أن تردعه حين قالت له(14):-

(إلى أين تسعى يا جلجامش

إن الحياة التي تبغي لن تجد)

وإذا كان جلجامش يبحث عن عشبة الخلود، فإن الشاعر السماوي يبحث عن عشبة أخرى هي عشبة القصيدة لأنه موقن أن الخلود للآلهة فقط وأن بقاءه الروحي مرتبط ببقاء القصيدة، أما بقاؤه الجسدي فهو مستحيل ولكنه مرتبط ببقاء نسله الذي توفرها له حقول الأنوثة الخصيبة. وبالتالي فجنون قلب الشاعر دليل على سلامة عقله فهو اختار الطريق الصحيح لاحتيازعشبته عكس جلجامش الذي عاد فاشلا من رحلته وسرقت الأفعى العشبة منه.

يتكرر المعنى ذاته في مقطع آخر حين نقرأ(15):-

أيتها البعيدة كقلبي عن يدي..

القريبة كالشمس من عيوني

ادخلي صحاراي آمنة

في أقاليم جنوني

أنا الملك المتوج

رعاياي:

الوردة..

السنبلة..

والعصفور..

وكما أسلفنا فالشاعر هو ملك متوج في مملكة القصيدة  وأقاليمها المجنونة كما أن القصيدة حبيبة بعيدة كقلبه عن يده وأن الشاعر ذلك المجنون المبدع الذي لا يحكم سوى الوردة والسنبلة والعصفور ، وهو سليل أولئك  الشعراء(المجانين المولّهون) من أمثال قيس بن الملوح وجميل وعمر بن أبي ربيعة.

في نهاية قراءتنا لهذا الديوان نودأن نقول أن هذا الديوان فيه الكثير الذي يستوقف النقد كما أن ملفوظ القلب موجود في مقاطع كثيرة أخرى عسى أن يقرأه نقاد أخرون لأضاءة منجز الشاعر المبدع (يحيى السماوي) بوصفه علامة لا يمكن اغفالها في مسيرة الشعر العراقي المعاصر.

 

الأربعاء/أبو ظبي

‏2‏-كانون الأول‏-09

 

............................

الهوامش والمصادر

1-   ديوان مسبحة من خَرَز الكلمات – ص  92

2-   م ن – ص 82

3-   م ن – ص 89

4-   الرموز في الفن- الأديان- الحياة- فيليب سيرنج- تر:عبد الهادي عباس- دار دمشق-سورية- ط1 عم 1992  - ص251

5-   م ن- ص 252

6-   ديوان مسبحة – ص5

7-   قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا – سوزان برنار- تر: د. زهير مجيد مغامس- دارالمأمون- عام 1993 – ص28

8-   تفسير الأحلام – سيغموند فرويد –تر:مصطفى صفوان-  دار الفارابي – بيروت- لبنان- ط1 -2003 –ص316

9-   ديوان مسبحة- ص6

10- المقاربة التداولية- فرانسواز – أرمينكو- تر:- د.سعيد علوش- مركز الانماء القومي – ص19 

11- ديوان المسبحة – ص9

12- م ن – ص10 

13- ملحمة كلكامش- طه باقر- دار المدى- طبعة خاصة-عام 2007 – ص104

14- م ن – ص142

   

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم