تجديد وتنوير

نصر حامد أبو زيد ناقدا للخطاب الديني / الحسين أخدوش

وقبل أن يكشف عن آليات هذا الخطاب ومنطلقاته التي تستدعي النقد والتأويل، يعترف أبو زيد أنه " لا خلاف على أن الدين – وليس الإسلام وحده – يجب أن يكون عنصرا أساسيا في أي مشروع للنهضة، والخلاف يتركز حول المقصود من الدين: هل المقصود: الدين كما يطرح ويمارس بشكل أيديولوجي نفعي من جانب اليمين واليسار على السواء، أو الدين بعد تحليله وفهمه وتأويله تأويلا علميا ينفي عنه الأسطورة، ويستبقي ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية؟ "1

إذن ليس الدين في حد ذاته ما يسعى إلى نقده أبو زيد، بل مفهوما معينا للدين، ذاك المعنى الذي رسخته الممارسة التاريخية والأيديولوجية عبر عصور التاريخ. تلك الممارسة التي ما فتئ الفكر الديني المعاصر ينافح من أجل تكريسها والدفاع عنها كما لو كانت حقائق منزلة. إنه خطاب يجعل الدين إيديولوجيا فكرية وسياسية، يغلفه بفهمه التاريخي ويكبل معانيه الحقيقية.

لقد فحص أبو زيد هذا الخطاب في شكله المعاصر، وبين كيف أنه يرتكز على مجموعة من الآليات والمنطلقات الفكرية، التي تستدعي التأويل والنقد.

1.   المنطلقات الفكرية للخطاب الديني المعاصر.

حسب القراءة التي قام بها أبو زيد للفكر الديني المعاصر، يرى أنه يمكن الحديث عن منطلقين أساسين لهذا الفكر هما: الحاكمية والنص.

 

أ‌.    منطلق الحاكمية.

يعود مفهوم الحاكمية حسب تأويليات أبو زيد إلى حادثة التحكيم بكتاب الله من جانب الأمويين في موقعة "صفين"، وهي حيلة أيديولوجية استطاعت أن تخترق باسم النص صفوف الخصوم وأن توقع بينهم خلافا أنهى الصراع لصالح الأمويين2.

تبين هذه الحادثة كيف تم تحويل الصراع من مجاله السياسي والاجتماعي إلى مجال الدين بتحكيم النص. وقد نجم عن ذلك عمليا تحويل العقل إلى تابع للنص، ليستقيل بعد ذلك عن دوره في فهم الواقع وشؤون الناس، بالرغم من المحاولات التي قام بها دعاة العقل في كل الحقب التاريخية الموالية. وقد وجدت الحاكمية في هذه الاستقالة لدور العقل في التاريخ الإسلامي مناسبة للهجوم على التفكير العقلاني ورفض التعددية والاختلاف، فتعمقت مساحات النصوص على حساب الاجتهادات، وغلب على التفكير التقليد والجمود. لكن الأخطر من كل ذلك هو أن الحاكمية قد عملت على وضع تقابل مفترض خطير بين " الإنساني" و"الإلهي"، فكرّست بذلك للمقارنة الخطيرة بين ما هو بشري وما هو الهي. كانت النتيجة من كل ذلك تدنيس التجربة البشرية، وإضفاء طابع الاحتقار عليها مما يستوجب تحكيما إلهيا يلغي كل فعل إنساني.

وفي معرض حديثه عن هذه الحاكمية، ركّز أبو زيد في قراءته على تجربة المودودي التي ستشكل الأساس الأيديولوجي لسيد قطب فيما بعد، حيث سيتعمق الفصل بين ما هو إنساني وما هو الهي من خلال الكيفية التي سيؤوّل بها هذا الأخير المفاهيم الدينية كمفهوم "العبادة" و"الألوهية" و"الدين" لكي تصبّ كلها في مسألة الحاكمية. فمثلا يعرّف سيد قطب الألوهية بكونها "حق الحاكمية المطلقة، الذي ينشأ عنه حق التشريع للعباد، وحق وضع المناهج لحياتهم، وحق وضع القيم التي تقوم عليها هذه الحياة... وكل من ادّعى لنفسه حق وضع منهج لحياة جماعة من الناس، فقد ادّعى حق الألوهية عليهم، بادّعائه أكبر خصائص الألوهية، وكل من أقرّه منهم على هذا الادّعاء فقد اتخذه إلها من دون الله، بالاعتراف له بأكبر خصائص الألوهية3.

حسب هذا المنظور فالإسلام يوحد بين الألوهية والحاكمية الشاملة والمطلقة، والإنسان يختزل في بعد العبودية لا غير، فهناك حزب واحد فقط لله لا يتعدد وأحزاب أخرى كلها للشيطان وللطاغوت. ويترتب عن هذه الحاكمية مجموعة من النتائج الخطيرة على مستويات عدة: اجتماعية وسياسية إضافة إلى إهدار دور العقل ومصادرة الفكر بدعوى البدع والضلال.

تنتهي الحاكمية إذن إلى تكريس نظام اجتماعي وسياسي وثقافي منغلق ومتسلط، يسوده الولاء الأعمى للقيادات الدينية. لكن أخطر النتائج التي يفضي إليها هذا المنطلق هي تكفير الناس بدعوى تحكيم شرع الله في الأرض، مما يجعل الدفاع عن الدين والشريعة أمرا يبرر كل الأفعال المتطرفة في حق من تسوّل له نفسه مخالفة هذا الفهم.

عموما تعمل الحاكمية على إلغاء دور الإنسان بإفراغ وعيه من كل إيجابياته، حتى يصير ريشة في مهبّ الريح، لتحويل الأيديولوجيا إلى واقع، وتسكين الإنسان في "جب" السلطة، أية سلطة4.

 

ب‌.  منطلق النص.

يصرح نصر حامد أبو زيد في مدار حديثه عن مفهوم النص5، أن الهدف من ذلك هو الكشف عن بعض خصائص الثقافة العربية الإسلامية في جانبها التراثي التاريخي، وذلك من أجل فهم واقع ثقافتنا العربية الإسلامية المعاصرة6.

إذن يحتل النص الديني في ثقافتنا مكانة مركزية، وهذا ما دفع بهذا المفكر إلى جعله منطلقا لفهم الخطاب الديني. ويأخذ على هذا الخطاب كونه لا يستطيع أن يعترف بتاريخية النصوص الدينية رغم أنّه يقرّ بإمكانية تجديد الفهم لها، لكن هذا التجديد يخص فقط فهم الفقهاء ولا يطال النصوص التشريعية والعقدية. لذلك تجد الخطاب الديني يصرّ دوما على أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ومن يقول عكس ذلك فهو كافر وملحد.

ينتقد أبو زيد هذه النظرة الضيقة لمفهوم النص، معتبرا هذه النصوص دينية كانت أم بشرية محكومة دوما بقوانين ثابتة. فالمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين لأنها "تأنسنت" منذ أن تجسدت في التاريخ واللغة، وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد7.

إن الخطاب الديني بقفزه على الشروط والقوانين التاريخية والدلالية التي تساهم في إنتاج النص، يكون قد جمّد فهمه لحقيقة النصوص الدينية، ولهذا ينفي الاجتهاد ويعلن أنه "لا اجتهاد فيما فيه نص". وهكذا يعلن الخطاب الديني المعاصر جمود النص وتثبيت دلالته على فهم واحد وقاصر، مفسحا بذلك المجال لنفي التعدد وتثبيت الواقع طبقا لما يطرحه هو من آراء واجتهادات8.

إن التمترس وراء النصوص دون ربطها بسياقاتها التاريخية والثقافية هو الذي أدى إلى الابتعاد عن الواقع وإلغاء العقل، ولهذا تجد الخطاب الديني يركز دوما على حاكمية النصوص في مجالات الواقع والفكر. إن النص الجامد والثابت المعنى والدلالة يتحول إلى أسطورة تكبل العقل والنفس، وتكرس سلطة النصوص وتجعلها فوق كل السلط الأخرى، فتكون النتيجة هي استبعاد أي دور للعقل والتفكير الحر.

لقد أدى تنصيب النص كسلطة مطلقة إلى التمسك بالدلالات الحرفية في مقابل انحصار التفكير الإبداعي، وهذا ما يستلزم نقدا وتمحيصا للخطاب الديني وكشف آلياته وطريقته في الاشتغال.

 

2.   آليات الخطاب الديني.

للخطاب الديني مجموعة من الآليات يشتغل بها، يجملها أبو زيد في خمس آليات هي:

أ‌. آلية التوحيد بين الفكر والدين وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع.

وتعمل هذه الآلية على الحيلولة دون التمييز بين الدين والمعرفة الدينية، وهكذا يخلط الخطاب الديني بين الدين والمعرفة الدينية حيث يقدسها بدورها كما لو كانت وحيا منزلا.

ب‌.  آلية رد الظواهر إلى مبدأ واحد، وهو تفسير الظواهر كلها بردها جميعا إلى مبدأ أو علة أولى، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية والطبيعية.

ت‌.  آلية الاعتماد على سلطة "السلف" أو "التراث"، وذلك بعد تحويل النصوص التراثية - وهي نصوص ثانوية – إلى نصوص أولية تتمتع بقدر هائل من القداسة لا تقل – في كثير من الأحوال – عن النصوص الأصلية.

ث‌.آلية اليقين الذهني والحسم الفكري "القطعي"، ورفض أي خلاف فكري، سوى إذا كان في الفروع والتفاصيل دون الأسس ولأصول.

ج‌. آلية إهدار البعد التاريخي وتجاهله، ويتجلى هذا في البكاء على الماضي الجميل، يستوي في ذلك العصر الذهبي للخلافة الرشيدة، وعصر الخلافة العثمانية. ويتجلى إهدار البعد التاريخي في التطابق بين الماضي والحاضر.

تشكل هذه الآليات مجتمعة طريقة اشتغال الخطاب الديني المعاصر الذي يستوجب النقد والتأويل، وقد سعى ناصر حامد أبو زيد إلى هذه المهمة الشاقة بكل روح نقدية وتأويلية متسلحا بالشجاعة الفكرية ضد سلطة هذا الخطاب نفسه وضد أصحابه الذين يزعمون أنهم الموكلون الوحيدون الذين يحق لهم التكلم باسم الدين. ويعترف أن تحليل الخطاب الديني ونقده يمر عبر كشف منطلقات هذا الخطاب والياته الفكرية، فمن الصعب الفصل بين الخطاب ومنطلقاته الفكرية والأيديولوجية.

يقول أبو زيد: " هناك خمس آليات... استطعنا رصدها حتى الآن، فمن الواجب ألا نزعم أنها تستوعب كل آليات الخطاب الديني، فلا شك أن مجال الرصد والإضافة - بمزيد من العمق والدقة في تحليل – سيظل مفتوحا، سواء بالنسبة للآليات أو بالنسبة للمنطلقات. إن هذه الآليات الخمس تمثل – في تقديرنا – الآليات الأساسية والجوهرية التي تحكم مجمل الخطاب الديني وتسيطر عليه9."

إن النقد الذي قدمه أبو زيد للخطاب الديني يعد بحق محاولة رائدة وشجاعة في سبيل إبراز الضعف والتهافت الذي يكمن في بنية هذا الخطاب الذي ينبت كل أشكال ومظاهر التخلف. ولا يمكن اليوم التساهل مع هذا التخلف، بل يجب استئصاله من الجذور بالفأس.

 

الحسين أخدوش.

 

.....................

هوامش

 1 . نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، المركز الثقافي العربي. ط 3. ص 11

 2. نفس المرجع، ص 63

 3 . سيد قطب. هذا الدين، أورده أبو زيد في نقد الخطاب الديني ص 68.

 4. نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني. ص 86

 5 . نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، المركز الثقافي العربي، بيروث – الدار البيضاء 1990.

6 . ناصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة، المركز الثقافي العربي، بيروث – الدار البيضاء ط 5 . 2006

 7 . ناصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، المرجع السابق . ص89

 8 . نفس المرجع، ص 99

9 . نفس المرجع، ص 29

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1451 الخميس 08/07/2010)

 

في المثقف اليوم