تجديد وتنوير

مشروع التنوير الإسلاميّ/ بين السيد جمال الدين الأفغانيّ والسيد محمد حسين فضل الله / باسم الماضي الحسناويّ

هل ترك الرجل مؤلَّفاتٍ عظيمةً نستطيع أن نقيِّم فكر الرجل من خلال الرجوع إليها، أم أنَّ طلابه فقط نقلوا إلينا أنه كان يحمل فكراً ضخماً، وأنه لم يجد الظروف المواتية للكتابة والتأليف، فقاموا هم بنقل أفكاره، حتى أنَّ الشيخ محمَّد عبده كان يقول عن جميع ما كتبه في العروة الوثقى أنَّ اللفظ له وأنَّ المعنى للسيد جمال الدين الأفغانيّ، وهكذا قل عن صاحب تفسير المنار الشيء نفسه، إذ أخبرنا بأنه ينقل الكثير من آراء السيد جمال الدين الأفغانيّ في هذا التفسير.

إنَّ السيد جمال الدين الأفغانيّ من ذلك النمط الذي يعطي زخماً للعصر، في أن ينزع جلداً ليلبس مكانه آخر، وليختطَّ له مساراتٍ أخرى غير المسارات السابقة التي إمّا أنها أدَّت دورها في السابق، وأصبحت فاقدةً للفاعلية في مجال الوصول إلى الغاية في المراحل التأريخية التي تلت ذلك، وإما أنها كانت تمثِّل مسالك خاطئةً أصلاً، فلم تؤدِّ إلى أيَّة غايةٍ محمودةٍ على الإطلاق.

ولهذا فإنك لن تستطيع أن توجِّه اللوم إلى أجيالٍ تعاقبت من المبدعين والمفكِّرين الذين يشيرون إلى السيد جمال الدين بوصفه نقطة الإنطلاق الهامَّة في رسم الإتجاه الجديد للتفكير في المشكل الحضاريِّ كلِّه داخل الأمة الإسلامية، من دون فرقٍ بين العلمانيين والإسلاميين، فإنهم جميعاً يؤكِّدون على أهمِّيَّته الإستثنائية في هذا المجال.

إنَّ حركة النهضة العربية والإسلامية في كثيرٍ من مجالاتها التنويرية لا يمكن أن تغفل ذكر السيد جمال الدين الأفغانيّ بهذه الصفة، كما إنها تفعل صواباً إذ تضيف الحسنات التي تصيبها في المسيرة التي أعقبت وفاته إليه، بينما تتحمَّل وحدها وزر الإخفاقات التي تتورَّط فيها، لأنها لم تستطع أن تسير في الطريق الصحيح الذي حدَّد معالمه الهامَّة ذلك المصلح الإسلاميُّ الكبير.

الشيء المهمُّ في هذا السياق أن نجري مقارنةً بين الشخصيتين، بين شخصية السيد جمال الدين الأفغانيّ والسيد محمد حسين فضل الله، لنرى هل إنَّ دور الثاني يقلُّ عن دور الأوَّل، أم أنه يتفوََّق عليه في الكثير من المفاصل الهامَّة داخل مشروع الإصلاح والتنوير العربيِّ والإسلاميّ، مع ضرورة التنبيه إلى أنَّ غايتنا من إجراء هذه المقارنة، ليس هي أن نمجِّد شخصية السيد محمد حسين فضل الله، وهو الذي أصبح الآن في ذمَّة الخلود، ولا يمكن أن ينتفع من تمجيدنا بحالٍ من الأحوال، كما إنَّ قدحنا فيه لا سمح الله لا يمكن أن يؤثِّر فيه مثقال ذرَّةٍ على هذا الأساس.

المقارنة الأولى: الإحساس بالمعضل الحضاريّ

تلك حقيقةٌ صادقةٌ، وهي أنَّ الأمَّة الإسلامية كلَّها قد عاشت تداعيات القطيعة المعرفية والثقافية الطويلة مع عصور الإستنارة الإسلامية، لكنَّ المشكلة هي أنَّ هذه الأمة لم تشعر بقسوة هذه التداعيات عليها، حتى في اللحظة التي اكتشفت فيها مقدار الهوَّة الفاصلة بين المستوى المتخلِّف الذي تعيش تحت وطأته واشتراطاته، وبين ما بلغته الحضارة الغربية على صعيد ذلك البعد المدنيِّ الهامِّ من الحضارة، من دون أن نغفل الترابط الهامَّ بين البعدين المدنيِّ والروحيّ أو المعنويّ في كلِّ الأحوال، ولكنَّ الشيء الخطير بالفعل هو أنَّ الأمة إذ اكتشفت تقدُّم العالم الآخر عليها في المجال التقنيِّ والعلميِّ التطبيقيّ الذي كان في غاية الوضوح حتى بالنسبة إلى الأعمى الأصمِّ فضلاً عن البصير السميع من الناس لم تفكِّر بجدٍّ في سبل تجاوز هذه القطيعة بوسائل مناسبةٍ توصلها بالفعل إلى تحقيق  هذه الغاية من دون التفريط بالجانب المعنويّ والروحيّ من الحضارة، حيث كان منسوبه في الحضارة الإسلامية عالياً بشهادة العديد من فلاسفة الحضارة الغربية المتفوِّقة في الجانب التقنيّ والتجريبيّ أنفسهم، فكانت ردَّة فعل الأمة في اتجاهين:

الإتجاه الأوَّل: ذلك الإتجاه الذي بقي مصرّاً على عدم أهمية هذا الجانب من الحضارة، وأنَّ المهمَّ هو أن تركِّز الأمة اهتمامها على ما لديها من التراثات الروحية والمعنوية والدينية، وأن تصون كلَّ ذلك من الخطر الداهم الذي تمثِّله التقانة الغربية الحديثة.

الإتجاه الثاني:  هو الإتجاه المعاكس، الذي بالغ تماماً وما زال يبالغ إلى الآن باستغلال الإعتراف بواقع تلك القطيعة المعرفية ذاتها في الدعوة إلى نبذ التراث كلِّه، بما في ذلك الدين نفسه، أو تفريغه من الجوهر الإيمانيّ القاضي بالإلتزام والتعبُّد على الأقلّ، كشرطٍ أوَّليٍّ للتخلُّص من حالة التخلُّف في المجالات المختلفة، ولم يقتصروا على الدعوة إلى تجديد المناهج أو العلوم بالإنسجام مع الروح العامَّة للحضارة العربية والإسلامية، بل أرادوها قطيعةً تامَّةً مع كلِّ جذرٍ حضاريٍّ لهذه الأمَّة، لا سيما الجذر العقائديّ والدينيّ، واستغلوا تلك الرؤى والتصوُّرات التي حكمت أذهان الفئة المتزمِّتة الأولى، فصاروا يبرهنون على أنَّ مشروع تحديث الأمَّة بالإنسجام مع الروح العامَّة لموروثها العقائديِّ والدينيِّ مشروعٌ يدعو إلى التهكُّم والسخرية على أساس ذلك.

 فكان الإتجاه الفاصل بين هذين الإتجاهين هو الإتجاه الذي اختطَّه السيد جمال الدين بالذات، حيث  دعا علانيةً إلى أن تنتبه الأمة إلى واقعها المتخلِّف، وأن تأخذ بأسباب التطوُّر في مجال التقانة والطبِّ والزراعة وما إلى ذلك، وأن تعيد النظر في الكثير من متبنيات الناس العقائدية مما توزَّعته المذاهب الإسلامية المختلفة، وأن يوجدوا سبلاً للوحدة بدلاً من التشرذم الذي ورثته من القرون السالفة بسبب الإختلاف الموجود بين هذه المذاهب، وقطع السيد جمال الدين بالفعل أشواطاً معتداً بها في هذا السبيل.

 

المشكل الحضاريُّ ذاته، هو الذي عاناه السيد محمَّد حسين فضل الله وأحسَّ به بعمقٍ، في ظرفٍ لا يختلف كثيراً عن الظرف الذي اكتنف مشروع السيد جمال الدين، وهو الظرف الذي يشير إلى وجود شريحتين من المفكِّرين تتجاذبان مناطق الصراع:

الشريحة الأولى: هي شريحة المفكِّرين العلمانيين المتزمِّتين بين ملحدين وليبراليين وماركسيين وقوميين إلخ، وهؤلاء جميعاً كانوا ينظرون إلى الدين على أنه عقبةٌ كأداء في طريق بناء الدولة العربية الحديثة، وسواها من الدول التي وجدت في العالم الإسلاميّ، والتي كانت فيها الشريحة ذاتها التي تحمل مثل هذا الإعتقاد.

الشريحة الثانية: هي الشريحة التي تنظر إلى الدين نظرةً متزمِّتةً متخلِّفةً، أي أنها تسقط تخلُّفها وتزمُّتها على الدين، فتكون النتيجة هي أن يكون الدين إما خارج منطقة الصراع أصلاً، وإما أن يكون محكوماً عليه بأن يعاني الخسارات والإنكسارات على الدوام.

 فكان الخطُّ الذي عمل السيد محمَّد حسين فضل الله ضمنه، وهو خطُّ السيد محمَّد باقر الصدر، هو الخطّ المنقذ في الحقيقة، ((ولا يفرح أنصار حزب الدعوة رجاءً، فأنا أتحدَّث عن السيد محمَّد باقر الصدر تحديداً، وليس عن أعضاء حزب الدعوة في دولة القانون التي هي دولة المافيات والإغتيالات، الدولة التي تضرب أفكار السيد محمَّد باقر الصدر يومياً مليون مرَّةٍ عرض الجدار)) فكان هذا الخطّ فلسفياً حتى النخاع، وحاملاً للهمِّ الإسلاميِّ من وجهة نظرٍ حركيةٍ خالصةٍ، مضافاً إلى الإحساس العميق بأصل المشكل الحضاريّ، في البعدين المادِّيّ والمعنويّ، على صعيد مشكلات الأمة، وإذ استشهد السيد محمد باقر الصدر، لم يبق في الخطِّ المرجعيّ من يعمل على خطاه إلا اثنان:

الأوَّل: هو السيد الشهيد محمد الصدر قدِّس سرُّه.

الثاني: هو السيد محمد حسين فضل الله قدِّس سرُّه كما نوَّهنا إلى ذلك في مقالتنا السابقة.

وقد ساعد السيد محمد حسين فضل الله أن يمارس دوره بقوَّةٍ في تلك الفترة، هو وجوده في بلده لبنان، إذ لم يكن يعاني أيَّ ظرفٍ من ظروف التقية، خلافاً للسيد الشهيد قدِّس سرُّه الذي اضطرَّ إليها طوال عقد الثمانينات وشطراً من عقد التسعينات كذلك، حتى  ظهوره العلنيِّ للجماهير في صلاة الجمعة، وتصريحه المباشر بالكثير من آرائه على مرأىً ومسمعٍ من السلطة الجائرة.

المهمّ أنَّ السيد فضل الله كان قطباًَ أساسياً من أقطاب الخطِّ الثالث المشار إليه، فكانت نقطة الإلتقاء الكبيرة بين مشروعه ومشروع السيد جمال الدين الأفغانيّ من هذا الجانب.

المقارنة الثانية: ترسيخ وعي المقاومة للإحتلال

هذا هو المشترك الثاني بين الرجلين، فللسيد جمال الدين يعود الفضل في بلورة الوعي المقاوم في تلك الفترات التي لم تكن فيها المجتمعات الإسلامية تملك وعي المقاومة على الإطلاق، مضافاً إلى أنَّ النخب القليلة فيها إما أن تكون غير معنيةٍ ببلورة هذا الوعي كونها فاقدةً له على صعيد الذات، وإما كونها قد عاشت تبعات التفكير بإحداث القطيعة، كما فعلت الكثير من النخب الثقافية التركية حتى انتهت إلى ترسيخ المبدأ الأتاتوركيّ، الذي انتهى بالوعي القوميِّ التركيّ مؤخَّراً إلى الرغبة بالإنسلاخ من الهوية الإسلامية من الأساس، وكذلك فضل الله، فإنه قام بدور ترسيخ الوعي ذاته في الظروف ذاتها تقريباً، فمن الواضح أنَّ النخب الثقافية العربية والإسلامية عاشت الإنقسام ذاته ولكن بصورةٍ أشدّ، إذ إنَّ النخب الثقافية في الفترات التي اشتدَّ بها عود السيد فضل الله قد تسلَّحت بفكرٍ حداثيٍّ غير عاديّ، وباتت الكثير من الأفكار والرؤى والتصوُّرات التي لم تكن لتحتاج إلى كبير جهدٍ في السابق إلى تفنيدها وردعها، باتت بحاجةٍ إلى استخدام ترسانةٍ فكريةٍ وفلسفيةٍ غير عاديةٍ بالمقابل.

قد يقال إنَّ العديد من المفكِّرين قاموا بالدور ذاته من خارج الدائرة الحوزوية أو الدينية، فما بالك تركِّز على عمل السيد جمال الدين أو على عمل السيد محمد حسين فضل الله على وجه التحديد؟

الجواب: نعم، يوجد الكثيرون ممن قاموا بهذا الدور، إلا أنَّ تأثيرهم لم يكن كبيراً على مستوى توفير القناعة لدى الجماهير العربية والإسلامية، وهذا هو المهمّ، فمع الأهمية القصوى للأعمال التنظيرية التي يقوم بها المفكِّرون من خارج دائرة الدين أو الحوزة، فإنَّ تأثيرهم على مستوى توفير القناعة لا يمكن أن يكون موازياً لأهمية ما يكتبون بالتأكيد، وتلك حقيقةٌ معلومةٌ للجميع ولا تحتاج في رأيي إلى البرهنة.

من هنا، فإنَّ الأهمية الكبيرة لفكر السيد جمال الدين أو لفكر السيد محمد حسين فضل الله تنبع من هذا الجانب، وكذلك أهمية كلِّ مفكِّرٍ يمارس عمله التنويريَّ من داخل الحوزة أو المؤسَّسة الدينية على وجه العموم.

لقد نادت العديد من الحركات القومية بضرورة مقاومة الإحتلال الإسرائيليّ، لكن أسألكم بالله متى أصبحت ثقافة المقاومة ثقافةً شائعةً في أوساطنا الشعبية، أليس بعد أن تمكَّنت بعض المرجعيات الحركية، ومنها مرجعية السيد محمد حسين فضل الله، من التثقيف المباشر للمجتمع على ضرورة المقاومة باستلهام الدافع العقائديِّ والدينيّ، وقد ذهبت كلُّ الدعوات القومية في هذا المجال أدراج الرياح.

المقارنة الثالثة: التأثير في الأوساط النخبوية الثقافية

هذه هي النقطة الأهمّ، فلا يستطيع كلُّ مرجعٍ حوزويٍّ أو كلُّ رجل دينٍ سنيٍّ أو شيعيٍّ التأثير في تلك الأوساط، فهي عصيةٌ على التأثير من قبل رجال الدين في الحقيقة، لأنها طبقةٌ تعتدُّ بثقافتها وفكرها في مقابل الثقافة التي يروِّج لها رجل الدين، وهي ثقافةٌ لا تستجيب لمتطلَّبات العصر في رأي الغالبية العظمى منهم، ولهذا فإنَّ رجل الدين التقليديّ من الخير له أن يسكت أمام هؤلاء، كي لا تحملهم الإستهانة به على مخالفته في كلِّ مبادئه، وجلُّها حقٌّ في الواقع، إلا أنه لا يستطيع بسبب عجرفته الفكرية وتخلُّفه الثقافيِّ الترويج لها بثقافةٍ عصريةٍ رصينةٍ تكون محترمةً في نظر هؤلاء.

النخب الثقافية والفكرية لن تتأثر في الواقع إلا بالمرجع المفكِّر الحركيّ، أي ذلك الرجل الذي يستطيع أن ينهض بمتطلَّباتهم وتطلُّعاتهم كلِّها بالإضافة إلى القيام بمسؤوليته الدينية والتعبوية.

هذا هو العنصر الرئيس في نجاح مرجعية السيد محمد باقر الصدر وتغلغلها في وجدان المفكرين والمثقفين في العالم الإسلاميّ، وهو العنصر ذاته في نجاح المشروع الكبير للمولى المقدَّس محمد الصدر، وهو ذاته العنصر الذي ساهم في نجاح التجربة المرجعية للسيد محمد حسين فضل الله أيضاً.

المقارنة الثالثة: الإشتغال على المعطى الفلسفيِّ الحداثيِّ الغربيّ

ليس المهمّ الآن أن نركِّز على الموضوعات الموروثة من علم الكلام القديم، بل يجب الإشتغال على الموضوعات والمحاور الجديدة لعلم الكلام الجديد، هذا هو المهمّ، فلك أن تناقش عشرين أو أربعين عاماً كلَّ مباحث علم الكلام التقليديّ، وأن يكون لك الباع الطويل فيها، ولكن عليك أن تعلم أنَّ جهدك هذا لا قيمة له في الواقع، إلا من الناحية الأكاديمية الخالصة، ومتى استطاع الأكاديميون أن يقدِّموا شيئاً ذا قيمةٍ من الأساس، وهم الذين يغرقون في شبرٍ من الماء، فمن سمة هذه المباحث أنها لا تقدِّم حلولاً واقعيةً للمشكلات النظرية والواقعية المطروحة، بل هي دائماً شأنها شأن من يدير الملعقة خارج ((الإستكان)) كما يقال، فتكلِّف نفسها وتكلِّف القارئ جهداً كبيراً لا تكون حصيلته إلا الإبتعاد عن المشكل النظريِّ أو الواقعيِّ المطروح.

إنَّ السيد جمال الدين الأفغانيّ أحدث نقلةً كبيرةً في هذا المجال في محاور العروة الوثقى، وكذلك فعل طلابه الذين ساروا على دربه، مع أننا لا نملك وثيقةً تشير إلى انخراط السيد جمال الدين في التأليف في هذا المجال، إلا تلك الوثيقة الصغيرة التي تحمل عنوان ((الردّ على الدهريين)) فقد أبدى بها مسامحةً كبيرةً تجاه الكثير مما كان يطرح في ساحة الجدل العلميّ، خاصةً ما يتعلَّق بنظرية دارون في النشوء والإرتقاء، فبيَّن أنَّ الإعتقاد بتلك النظرية على فرض صحتها وعدم نهوض الأدلة والبراهين العلمية في الحاضر والمستقبل ضدَّها فإنها لا تنفي معقولية الإيمان بوجود الخالق جلَّ وعلا، بل على العكس، فإنَّ التفسير الفلسفيَّ لها سائرٌ في خطِّ الإيمان ذاته.

وأنا شخصياً قد اطلعت على مقدِّمةٍ لكتابٍ في الأحياء، لم يتبيَّن اسم مؤلِّفه بسبب فقدان الكتاب، إذ لم تبق إلا تلك الوريقات القليلة من مقدِّمته بقلم المولى المقدَّس في واحدةٍ من مراحل حياته الشريفة، يقدِّم سماحته في سياق ذكره للأطروحات المحتملة في تفسير نظرية خلق آدم، احتمال أن تكون المراحل التطورية التي مرَّ بها خلق آدم منسجمةً مع بعض مقولات تلك النظرية، ولكن حتى مع هذا، فإنَّ التفسير الفلسفيَّ لا يمكن أن يكون ناهضاً إلا على الإيمان.

المهمُّ أن نقول: إنَّ السيد جمال الدين الأفغانيَّ فتح الباب واسعاً أمام خوض هذه التجربة، وهي الإنفتاح الجديّ على الكثير من المعالجات النظرية المبتكرة في حقل علم الكلام الجديد، الذي لم يكن معروفاً بهذا الإسم إلا في أيامنا هذه، فكانت خطواته وخطوات مريديه تأسيسيةً في هذا المجال.

وقد فعل الشيء نفسه السيد محمد حسين فضل الله من موقعه المرجعيّ ((وهذا هو ما يمنحه خاصَّته من بين كلِّ المشتغلين في هذا الحقل)) فكانت أغلب محاور كتبه تصبُّ في هذه الغاية، حتى عندما يجيب على الإستفتاءات الفقهية الخالصة فإنه سرعان ما يتَّخذ حديثه سبيل التنظير الفلسفيِّ والمعرفيِّ والكلاميِّ الذي يصلح لتزويد المسلم المعاصر بترسانةٍ مهمَّةٍ من المفاهيم والإصطلاحات والأفكار، حيث تركِّز التلقي العقلانيّ للشريعة، وتبتعد به عن مواطن الخرافة والفهم السطحيِّ الساذج.

ربما أفردت محوراً خاصّاً في المستقبل للحديث عن هذا الجانب بالذات في فكر السيد محمَّد حسين فضل الله، إلا أنني مشغولٌ الآن بتسليط الضوء على حديث المقارنة بين شخصيتين هامَّتين في العصر الحديث، هما شخصية السيد جمال الدين الأفغانيّ وشخصية السيد محمَّد حسين فضل الله قدِّس سرُّه.

المقارنة الرابعة: الهدوء والبساطة وعدم التهاتر مع الخصوم

وهذه نقطةٌ أخرى تلتقي من خلالها الشخصيتان موضوع المقارنة، فلا يكاد القارئ يلمح شيئاً في التراث المكتوب عن السيد جمال الدين الأفغانيِّ يشير إلى أنه كان يحبُّ الإنخراط في المهاترات الفارغة مع الخصوم، بل إنه كان يتجنَّب كلَّ ذلك بأن يتغافل عنه بشكلٍ تامّ، حتى لكأنَّ هذه الشخصية الإشكالية لم يكن لديها خصومٌ على الإطلاق، وهو الذي خاض غمار التجديد على الصعيد العلميّ والدينيّ، كما يُعدُّ أبرز من تصدّى للعمل السياسيِّ المعارض للإستبداد الداخليِّ والإستعمار الخارجيِّ من بين أفذاذ عصره كلِّهم، إلا أنه كان يتمتَّع بهذا الخلق الذي وفَّر عليه الكثير من المتاعب في الحقيقة، وساهم مساهمةً فاعلةً في نجاح مشروعه، كما كان يتمتَّع بشخصيةٍ أريحيةٍ وجذابةٍ مع العلماء من كافَّة المشارب والمذاهب والأديان، وكان يحظى باحترام خصومه من جميع الأطراف على هذا الأساس.

وكذلك السيد فضل الله، فإنه لا يختلف عن السيد جمال الدين الأفغانيّ في هذا الجانب، بل كانت شخصيته أقرب إلى التحلِّي بهذه الصفات كلِّها مع التركيز طبعاً على أنه كوَّن جيلاً من المريدين الكبار عن طريق هذا التأثير أكثر من التأثير والإنتشار اللذين حقَّقهما السيد جمال الدين الأفغانيّ نفسه.

 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1457 الاربعاء 14/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم