تجديد وتنوير

مجتمع الرداءة وضياع فرص التقدم

"هناك سحر حقيقي في الحماس. يوضح الفرق بين الرداءة والإنجاز".*

هل هناك متسع من النقد داخل واقعنا العربي؟؟ نقد أنيق وحر ونزيه، ليس ذلك النقد الذي يبعث التشاؤم أو يربك الحرية أو يشكك في كل فكرة خارج الصندوق، نقد يرتب الوعي في إدراك الضروريات وإزاحة العشوائيات وتحقيق النباهة في المجتمع ويصنع واقع الإنجاز الحضاري الأمثل..

إن مجتمعا لا يناقش ماهية النقد البناء داخل الأسرة وفي المدرسة وفي دور العبادة والجامعة والإعلام والمؤسسات العمومية هو مجتمع تسيطر عليه الرداءة!!

ردُؤَ (في معجم اللغة العربية المعاصر)

ردُؤَ يَردُؤ ،رداءةً، فهو رديء•

 رَدُؤ الطَّقسُ فسَد :-ردُؤ خطُّه، - اشتكى من رداءة البضاعة.

* ردُؤ الرَّجُلُ: صار وضيعًا خسيسًا :- فلانٌ رديء السُّمعة/ الطّبعِ.

إذن بلحاظ الحال هناك رداءة شاملة لكل مناحي الواقع وبنسب عالية بين واقع عربي ومسلم وآخر، والمجتمع الذي أفراده يستغرقون في الماضي ويعتاشون بثقافة الشطارة أو الأسطرة واللصوصية المصادق عليها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، هو مجتمع تائه وخارج العصر بكل معنى العصر، لا تغني عنه شيئا الناطحات والتكنولوجيات والمؤتمرات والشعارات والوزارات والفعاليات الاقتصادية وغيرها، لأن الوعي الاجتماعي مخدر بالماديات ومعطل بالكماليات ومبرمج بالايديولوجيات، هناك بعض المعاملات المهمة في مقاربة الوعي السليم لدى أي مجتمع من المجتمعات:

أولا: التربية على الحوار الموضوعي البناء

ثانيا: الاعتراف بالنقائص والعمل على تجاوزها بإدارة عقلانية واستراتيجية

ثالثا: احترام التخصص والاستفادة من الآخر

رابعا: وهو الأهم تقديس القيم الإنسانية لا الاوهام القبلية والطائفية وتضخيم الأشخاص والأطلال بخطاب شعبوي يستخف بالعقول والحقائق..

هذه بعض الركائز التي تبعث لدى الفرد مستوى راق من التفكر بغض النظر عن خصوصياته وهويته ومتبنياته، الأهم أنها تشكل مربعا لمرآة النظر في المجتمع الذي يعيش فيه وتؤسس لديه رحلة السؤال المصيري في معادلة السباحة في محيط الحقيقة بوسائل متطورة ومعاصرة من أجل تجديد المعنى والمبنى والمنهج في حياته..

بالكاد هناك عدة ظواهر تقزز في واقع كل منا، تندرج ضمن إشكال تاريخي عربي: لماذا تمدن غيرنا وتخلفنا نحن؟ هذا السؤال الذي اتفق عليه بعض علماء الدين التجديديين ومفكرو ما سمي بالنهضة، هذه الظواهر هي بمثابة شوائب طفت على السطح، وجذورها سرطانية في نظام الرداءة الذي يتحكم في كل مباني الفكر والتعليم والتربية والإعلام والتحزب والتمذهب والتطرف، هذا النظام الذي اول من صنعه هم أدعياء الوعي الثقافي والديني والحضاري ووووو، عندما تكون السلوكيات الفاسدة مستشرية فلا حياة للمجتمع، يكفي أن تناقش واحدا من أدعياء الأكاديمية عربيا أو أشباه الفقهاء في مسائل الوعي والضميرو الكرامة، إلا وتجد نفسك مغضوبا عليك ومن الضالين، هناك افتراق تاريخي بين الفكر والأخلاق أو القيم، أعني انفصام في نظام النظر في واقعنا العام، مثقف ينافق وفقيه يفتي بالتكفير وطبيب يتاجر ومعلم عنصري وبقال غشاش وإعلامي كذاب وموظف خائن وتاجر جشع، هذه الرداءة محلها من الإعراب نظام تفكير فاسد، يحافظ على التخلف الاجتماعي بحيث يبقى سلم القيم هو المصالح الذاتية والفئوية والحزبية والطائفية والتجارية بدلا عن مقاصد الأخلاق كما رسم معالمها القرآن في إدارة الرقي لدى المجتمعات واختصرها بقيمة التقوى..

مجتمع الرداءة متحور كالفيروسات والسرطانات الخبيثة، قد يعطي سعة في الثقافة لكنه يحددها بقائمة مخرجات لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، أي الإبداع ضمن سلطته الفلسفية وقيمه النفعية..

مجتمع الرداءة لا يقبل الحوارات الاجتماعية العادلة، لأنها موضوعية وواقعية ومنصفة وتهدف للتعاون المجتمعي لدى كل مكوناته، لا أتحدث هنا عن الديمقراطية أو الشورى بمفهومها التراثي، وإنما عن كرامة الأفراد الإنسانية وحرمتهم الوجودية والفعلية في المجتمع، هذه الفكرة لا تدرس أو تعلم أو تقرأ وإنما تعاش ويتعبد بها بين الناس، فعندما تنظر لكل الوجودات الإنسانية داخل مجتمعك على أنها ذات كرامة وخصوصية تاريخية، حينها ستنتبه أن الرداءة هي جذر ما نراه يوميا من جرائم العنف والظلم والتكفير والاقصاء والإفساد والخيانة والتبعية وتقديس غير المقدس وتحطيم مشاريع الإصلاح وقطع الطريق أمام الأحرار واحتكار حقيقة الوطن والدين وتوحيد الله والإخلاص له، هنا نلتقي بفكرة التواضع والتعارف والتسامح لنكتشف نور التعاون الإبداعي في مجتمع النزاهة والصلاح والإحسان..

قد تكون هناك بقع ضوء داخل ظلام الرداءة لكنها هافتة وتقنية أو ترقيعية حتى لا نقول اشهارية من قبيل العمل التطوعي أو النشاط الرياضي أو المهرجانات والمعارض للتسوق الثقافي والاقتصادي، لكن روح الحياة في المجتمع مخنوقة، هناك كبت واكتئاب ونكوص وامراض نفسية تجاوزت الطبقات الهشة أو المتوسطة والجماعات المنغلقة والأحزاب المهووسة بالمال العام ، لتستقر في مراكز الإجتماع العام، من خلال الأمراض الأخلاقية التي تنتشر في دوائر التأثير الاجتماعي من قبيل مؤسسات الصحة والتربية والتجارة والإعلام والدين وهلم جرا، الضوء الخافت لا يكاد يرى في ظل انتشار سواد الرداءة في المجتمع..

مجتمع الرداءة بالمختصر هو نتيجة من معادلة "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" إسمها التغيير السلوكي المعرفي للجماعات سواءا في الحياة العامة أو الطوائف أو الأمم، لأن الرداءة أنانية وتشاؤم ونرجسية ، بينما الوطن يكون قويا بالتعاون والتكافل والتفاؤل والتسامح والتعاطف والتكريم التفاعلي في كل مناحي الفعل الاجتماعي...

مجتمع الرداءة مغلوب على أمره لأن عقله بيد سماسرة الأديان والأيديولوجيات والتاريخ والرياضات اللا اخلاقية والمولات التجارية والقنوات الإعلامية ..

مجتمع الرداءة خشبة مسرح على سطح محيط من المظالم، إنه مجتمع ألف الاوساخ النفسية والفساد الأخلاقي حتى ضاق ذرعا بقيم التقوى والإحسان والنزاهة والكرامة والعفة والأمانة، مجتمع محركه الوحشية المتغلفة بأغلفة التدين المغشوش والحداثة المنسوخة، مجتمع يتوهم أنه يتطور في العمران والخدمات والثقافة والإعلام والفن والرياضة ويكرم من يحمده ويبجله لكنه في الحقيقة هو كما وصفه القرآن: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران : 188]

في مجتمع الرداءة الفرد يتدين ويتفقه عجبا وكسبا للوجاهة ويتثقف لينصت له الناس في المجالس ويتوظف ليتحكم في معاملات البشر، ويتزين لغة وهنداما ومعرفة لينخدع الموظفين والطلبة والبسطاء بمظهره بينما واقعا أصفار وراء بعضها تزيد المجتمع تيها واغترابا عن فرصة نهوضه الحضاري، هنا في هكذا مجتمعات أخلاقيات المهنة والنظام العام والمواطنة وحقوق الإنسان والتأليف والنشر وبراءات الاختراع والأعراف كل هذا لا اعتبار له واقعيا، إنه منطق"غاية الرداءة تبرر ترويج خطاب الشكليات.."

هذا المجتمع هو كل تلك الحركة الاجتماعية المتهافتة والمدافعات العبثية والإدعاءات الوهمية للقوة والإدارة والتنمية والإنتاج العلمي والوجاهة الدولية بينما الإنسان نواته الأساسية سلعة للترويج والبرمجة والمزايدة، إنه مجتمع الاستعباد الجديد، مجتمع الرداءة مجتمع مهدد في كل لحظة مجتمع ضحية بأعطاب محركاته العملية التي قتلت القيم الإنسانية في تعاملاتها واستبدلتها بالتمويه والتشويه والتسقيط والتسفيه لكل من يفكر في الإصلاح والتجديد والتنوير بعقل عملي أخلاقي..

يبقى أن مجتمع الرداءة هو أساس ثقافة التغيير عندما ينظر إليه نظرة وفق نظام إدارة الكوارث وتنمية الجودة واقتصاد المعرفة وتربية الضمير الحقوقي لدى الأجيال القادمة قبل الضمير الفقهي الفارغ من منهج لأتمم مكارم الأخلاق وتطوير العدالة التنظيمية واخلاقيات المواطنة في الادارة والشارع...

مجتمع الرداءة لا ينقلب الى الصلاح بمجرد الضبط الاجتماعي والقهر الإداري ومكافحة النتائج ولكن عندما تستقل السلطة التربوية عن التلقين وترسخ لدى الأجيال منهج التعليم النفسي السلوكي، عندها تتضح الآفاق ويصبح النظر لسنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان والنرويج واسبانيا ونيوزيلندا، شيء عادي لأن الحكمة هناك حكمت كل الوطن وأكرمت إنسانها، ولابد للحكمة عندنا أن يعود نورها ليملأ أركان كل شيء فينجلي ليل الرداءة والتفاهة والاستحمار..!!

اما بعد مجتمع الرداءة هو أكثر المجتمعات قابلية للاستعمار والاستدمار، مالم يتجاوز مأزق النفاق الاجتماعي الذي هو بالأساس مشكل سيكولوجي معرفي سلوكي يمكن تقليص تأثيراته من خلال تأكيد الذات لدى الفرد وتنمية إرادته في الإنجاز الاجتماعي عبر قنوات التعليم والتربية والإعلام والفن والحوارات والنقاشات الفكرية وعبر الأنشطة الثقافية للناشئة بمشاركة أولياء أمورهم وفي كل هذا لابد من صحة المبتغى وفعالية المنهج تنظيرا وتطبيقا كما حددها المفكر مالك بن نبي رحمه الله في شروط النهضة...

بكلمة الرداءة ظاهرة مرضية ككل الأمراض التي تصاب بها المجتمعات، فقط هي بحاجة لجد وإجتهاد ثقافي معرفي لاكتشاف الأدوية المناسبة لتطهير المجتمعات العربية من سلوكيات النفاق التي دمرت كل مشاريع الإنجاز والنهوض والتقدم..

***

أ‌. مراد غريبي

.................

* نورمان فنسنت بيل:كاتب أمريكي معروف بتخصصه في حقل التفكير الايجابي

في المثقف اليوم