تجديد وتنوير

الفكر: قَرْعُ طبولِ الأسئلةِ (2)

سامي عبد العالعلى مستوى الفلسفة، لا يأتي تكوين التساؤل الكلي في ثقافةٍ ما(كأسئلة الماهية– المعنى– الحقيقة- الإنسان) جُزافاً، فتشكيله يتعيّن كمعطى وجودي أصيلٍ للعصر الذي تعيشه. حتى أنَّ تَمَيُز التكوين يتمُ تبعاً لبناء الرؤى الفلسفية خلال هذا العصر (حيث يجمعنا كونياً بالآخرين). قد نسميه الحضارة الإنسانية إجمالاً بقدر ما نُسهِم لا بقدر ما نستقبل فقط، وربما في غير سياق نُطلق عليه ظواهر عالمية خارجَ أفقنا الفكري. والتكوين معناه: كيف نبتكر الرؤى وكيف تتخلَّق ثقافياً؟ إذ سنكتشف أعماقنا الفكرية في إطار إنساني كوني، وإلى أي أساس نستند؟ وكيف سنُعبر عنها؟

لنلاحِظ أنَّ وجود المفكر الأصيل صاحب الرؤية ليس خبط عشواء، هو يلتقط بكل دأبٍ ما هو مشترك بين عناصر الإنسانية، وإنَّه لكي يصبح قادراً على الإبداع، لابد أنْ يخرج من دائرته المحدودة. أي لن يعود محليّاً على غرار زَمّار الحي (وحتى زَمّار الحي لا يُطرب عادةً). وأمام هذه المرحلة، ليس الأمر سهلاً كذلك، فلا يكون مفكراً كما نعتقد إلاَّ إذا كانت أسئلتُه الجوهرية مؤثرةً على نطاق واسع، مما يقتضي فهماً لروح العصر والقضايا الحيوية وابدع المفاهيم والقدرة على طرح المختلف.

بعبارةٍ أوضح كان للمفكرين أصحاب الأسئلة الأصيلة تأثيرٌ في الثقافات الإنسانية التي هي راهنة ومستقبلية بالوقت نفسه. على سبيل التوضيح كان ابن رشد شفرةً فلسفية لعصره ولعصور تالية، لقد ترك الرشدية اللاتينية بأصدائها البالغة في أوروبا. فلم يكن شارحاً محايداً للفلسفة اليونانية، لكنه ترك بصمات دلالية في التركيب اللغوي للنصوص الكبرى التي تعامل معها. فالترجمات والشروح هي ضيافة النصوص وتحميلها بالكرم الفلسفي والتأويلي الذي ظل معها إلى الآن. أي إعادة كتابة وخلق للنص في رحاب ثقافةٍ هي ثقافة الشرق، لدرجة أنَّ الفلسفة الغربية نهلت من الكرم الشرقي في صورة مفكريه ومازالت. وكذلك مارتن هيدجر لم يكن فيلسوفاً عارضاً، بل كان أثراً فذاً لعصر كامل من الإبداع الفلسفي ونقد الحداثة وتحويل عقارب الفكر نحو ما بعد الحداثة. ليس ثمة فلسفة ما بعد حداثية لم تمر بأسئلة هيدجر سلباً وايجاباً حول التقنية والإنسان والفن واللغة والنصوص والحقيقة والشعر والمعنى الأصيل للوجود.

دوماً السؤال الخصب فلسفياً مسكون بهذا التطلع نحو الكوني، أي لا يفقد نبرة التعميم إلاَّ وقد فقد إمكانية تأثيره. ولاسيما أنَّ الفكر الأن لم يعد حكراً على مساحة جغرافية من العالم. إنَّ جغرافيا العالم ليست هي الأقاليم الجيوسياسية فقط، لكنها أيضاً جغرافيا العقول المشاركة في إنجاز الأفكار الكبرى والاتجاهات والنظريات النقدية والفكر الفلسفي. ونحن كقاطني كوكب الأرض إنْ لم نكن لنسبق إلى الجديد، فعلى الأقل ينبغي أنْ نتزامن فكرياً مع الآفاق نفسها.

أيضاً السؤال الفلسفي من خطورته إنَّه يحرك ما هو قديم. بمعنى أنك تستطيع بسؤال مبتكر تجاه التراث أنْ تستنطقه وتعيد إبداعه. فالزمن لا يُبلي الأسئلة أيا كانت، إنَّما قد يأكل الإجابات الواحدة تلو الأخرى. فلقد رأى الغربُ في الفلسفة اليونانية جذراً لأصوله الثقافية، اتصلت أسئلة أفكاره بالجذور القديمة للمجتمع الأوروبي. ولم يأتِ أيُّ فيلسوفٌ راهن ولا حديث دون أنْ يشتبك مع تلك الجذور البعيدة وصياغة تحولها المستقبلي. ثمة أسئلة حديثة ومعاصرة كانت تُطرح باستمرار على أفلاطون وأرسطو. وهما الفيلسوفان اليونانيان، لدرجة أننا لا نستطيع احصاء كم "عدد أفلاطون" وكم "عدد أرسطو" قد واصلوا حياتّهم الأوروبية إلى الآن!!

أزعم أنَّ هناك عدداً من "أفلاطون الألماني" -بقدر التأويل والنقض وإعادة القراءة- داخل نصوص فشته وهيجل وشوبنهور وشلايرماخر ونيتشه وجادمر وكارل بوبر وفتجنشتين. هناك كم آخر من "أفلاطون الفرنسي" ضمن نصوص سارتر وجاك دريدا وميشل فوكو وجيل دولوز وبول ريكور وجان فرانسو ليوتار. وما جرى بصدد أفلاطون جرى بالمثل على أرسطو في أي أفق فلسفي أوروبي بإيطاليا وانجلترا ورومانيا وهولندا.

إذن وفقاً لأهمية الأسئلة، ليست الفلسفةُ باحةً نسقيةً لمقابر الفلاسفة، ولا أضرحة فكرية (الأنساق والمذاهب والأيديولوجيات) يتبادلون زيارتها. لكنها فن صياغة الحرية الفكرية وتذويب تكلسها- لو حدث- بآليات الأسئلة الكبرى. كان نيتشه فيلسوفاً هاوياً إزاء تلك المهمة السرية، صاغ من فلسفته فناً لتحطيم الأصنام( الفكرة الإبراهيمية القديمة). فقد عرف جيداً ماذا تصنع الفلسفة (حين ترتكس وتصدأ) بأدمغة الناس، فأراد تعليمهم ماذا تعني أنْ تكون أقدام الأصنام من صلصالٍ. ولهذا وضعَ نصوصاً ثورية بلهجة معاصرةٍ، أقصدُ تحرير طاقات الأسئلة لا انهاء وظيفتها. لم يعطل نيتشه السؤال عن أداء واجبه المقدس، لكن أعتبره ضد القداسة التي قد تُخلع على أي شيء. وهناك فرق شاسع بين الواجب بذلاً ودأباً بروح كانط وبين وقوعه في شرك القداسة اللاهوتية باسم الفكر.

التأسيسُ الفلسفي يعلِّن فرادةَ الماهية لا نَسْخَاً بين فكرٍة وأخرى، على غرار ما فعل بعض الأسلاف( مؤرخو الحكمة والفلسفة لدينا) بين فلاسفة اليونان معارفنا التراثية. وكذلك ليس التأسيس محاكاةً بأسوب الصورة والأصل بطريقة تعاملنا حالياً مع الفكر المعاصر، لكن بكون "ماهية أي تأسيس"- بين قوسين- لا تخلو من بَذْرٍ خالقٍ. هكذا يُوجد غموضٌ تصنيفي حتى فيما يُنسب إلينا فلسفياً كعربٍ ولا يتجانس مع أفقنا الروحي والثقافي. لقد أطلقنا على أفلاطون وأرسطو حكيمين بإعلان مباشر لأحد كتب الفارابي "الجمع بين رأي الحكيمين".

لكنهما كانا حكيمين بنبرة دينيةٍ لدى مؤرخي الحكمة والملل والنحل كابن النديم والشهرستاني وابن أبي اصُيبعة في التراث، فما سكت عنه الفارابي أنطقته الثقافة السائدة ومبررات الاعتقاد على ألسُن أخرى. لا ابالغ حينما أقول "تم صناعة النبوة في شخصيتي الفيلسوفين اليونانيين"، أُعيد إنتاجها في أفكار أفلاطون وأرسطو الاسلاميين هذه المرة (أي أسلمة العلوم والمعارف منذ القدم). نُقلّت فكرة النبوة حرفياً وجرى استعمالها بمنأى عن النقد وظل تأثيرها سارياً في الفلسفة بقدر تأثيرها أدباً وحكمةً. قالب النبوة أقرب القوالب للذهنية العربية نظراً لحماستها وايمانها بالخارق الغيبي في مجالات كثيرة.

وكما كانت النبوة سقفاً لا يعلوه سقف ولا ينبغي، فيستحيل تجاوزها معرفياً إنما قد تُدَّعى فقط كحال مدَّعي النبوة: مسيلمة الكذاب وسُجاح ومازال البعض يراها كذلك إلى يومنا هذا. والنبوة بالنسبة إلى ذهنية العربي سلطةُ وضع الحقيقة معلقةً ميتافيزيقياً فوق كل العقول. وهي هبوط الوحي من مصدرٍ لا قبل له به، من قوة إلهية تختار من تشاء وتقرر ما تشاء وتصرّف الحياة كيفما تشاء. لكنها تحولت إلى مجالات السياسة والاجتماع، فأصبحت النبوة كافيةَ الاستعمال فيما يرى ابن خلدون (الملك القائم على النبوة) لإخضاع الإنسان وغدت قادرةً على إلهاب عواطفه وتحريكه للمنافحة عن أصوله المحفوظة. لعلَّ كانط أصاب حين اعتبر الإسلام ديناً شجاعاً إزاء الأغيار. فإنْ كان هناك ما يميزه عن سائر الأديان من وجهة نظره، فيتميز بشجاعةٍ ليست تقنية صراعية، لكنها عمل كوني جعله ديناً عالمياً. وهنا تمتص الثقافة الأنماط الكبرى للسلطة وتعيد إفرازها وتوزيعها في جوانب ثقافية أخرى (النبوة من الدين إلى السياسة).

المفارقةُ تبرز هنا في وجود أكثر من أفلاطون وأرسطو في الفلسفة الغربية بينما في الفكر الإسلامي ظل الشخصان كما هما، لم يتغيرا بل أُضيفت إليهما مساحيق النبوة وطبقة دلالية سميكة من نبوءات الأخلاق والحكمة. هذا هو الفارق بين الذهنيتين العربية والغربية. بل بإمكاننا العثور عند العرب على الفيلسوفين محنطين كمومياء ثقافية، فلم نبتكر أسئلةً جديدة جدة وجودنا الحضاري، لأننا ما عدنا لنتجاوز مواقفنا بدورها إلاَّ نقلاً أو حفظاً.

وهذا لا يعنى عدم اسهامنا في مسيرة الفكر الفلسفي. فالإسهام واضح ببصمات الفارابي وابن رشد – كما نوّهت- على التراث اليوناني أثناء عبوره إلى الغرب، ولكن هذه جهود فلسفية فردية لم تؤثر في بنية الثقافة الأم. وهنا اتحدث عن طريقة ولادة الأسئلة في الذهنية العربية، كانت ولادة داخل البيئة بإمكانياتها على التفكير التساؤلي واجهاضه كذلك. ولادة قيصرية من حيث أن الأسئلة تتجزأ وتنهضم خلال البنية العامة، تلك التي تتميز بالنزعة التجزيئية كما تقول الشاعرة نازك الملائكة.

يبدو أننا لكي نُطلق عناناً لأسئلة حقيقيةٍ لابد من تجاوز هذا الهضم الثقافي. فكل اسهام فكري لا يحاول تجاوزاً للمواقف المحدودة يظل تجزيئياً، ولا يفعل أكثر من تمتين البنية المهيمنة في كافة الجوانب الحياتية. إن الهضم الثقافي- الذي يشعرنا بالامتلاء والاريحية- هو الصورة المتنكرة في عباءة براقةٍ، غير أنَّها مرقعة بنفس الجوهر. بالمقابل فإن التفلْسف بكونه أسئلةً ماهويةً، يفترض انتهاكاً فكرياً لهذا الوضع( كشفه ونقضه من الجذور). فلم يعد شأنا يخص فرداً أو جماعة أو طائفةً، إنما بنية ثقافية تطال الجميع حتى المثقفين المتنورين وأصحاب الاسهام الفكري.

السؤالُ الفلسفي يحرر العقل من سلطة العقل (التي هي تاريخه الثقيل)، لكونَّه سؤالاً (فيه وله) قبل أنْ يتجاوزه إلى غيره. التحرير شرط للطرح (أي يجب اشتراط فهم التاريخ)، لأنَّه استشكال لوجوده، ومساءلة بقاياه السارية بواسطة مفاهيم نمطيةٍ. من حينه لن يهادن الاستفهامُ موضوعه، ولا يكتفي بهذا الوضع، لكنه لا يدع أساساً دون نسفه من الداخل. فهو كاستفهام ينخرط عاملاً على تحرير دلالة الكلِ، وهو بهذا سيعلِّن عن قلقه بالمثل، فنبرته الميتافيزيقية لن تكون بدون أضرار مثلما يتوقع كانط.

فالعقل الخالص– من رأي كانط- قد يهدم مبادئه بنفسه، إذا طرح السؤال الذي يعجز عن الإجابة عليه. بل تصور الفيلسوف الألماني أنَّه قد يكون سؤالاً واحداً (من بين مجموعة الأسئلة) هو الكفيل بإتمام ذلك. فلو ثبت أنَّ مبدأ العقل الخالص لا يقدر على الإجابة عنه فعلاً، فلا مناصَ من رفض المبدأ ذاته، لكونه سيفشل كما يعتقد في إجابات أخرى حيال بقية الأسئلة بصورة وافية ومتسقه مع الكلِ.

لم ينس كانط تذكيرنا أنَّه مهما بلغت مبادئ النسق العقلي من الكمال، يظل شمول هذا النسق نفسه عرضة لخطر التآكل الاستفهامي. أي يجب ألاَّ تغيب عنه مبادئ مشتقة نتيجة أسئلة مطروحة بعد تبلور الأفكار. فحيث لا يمكن تقديم المبادئ المشتقةَ بصورة قبليةٍ بل يتم اكتشافها بالتدرج، ينفتح النسق على أفاقٍ أخرى. هو لا ينفتح قسراً، إنما من طبيعة ذاته لأنه منطوٍ على إمكانيات نقائضه. أي نسق فكري وأيديولوجي ينطوي علة تلك السمة التي تهدد كيانه قد أن يتساقط بفعل الصراع من الانساق الأخرى وعوامل النقد الخارجي.

التغاضي عن تلك النقطة يؤدي إلى "الفقر الفلسفي"، حالة من الدوار- بحجم الحياة- تؤرجح وجودنا: هذا الارباك العربي الذي نشاهده في الأوضاع الاجتماعية والتنظيم السياسي والمجال الأخلاقي واهتزاز بوصلة القيم. نظراً لغياب الفلسفة عربياً وتضخم المذاهب والأيديولوجيات المتشددة، فالفلسفة سؤالٌ لشيء أعمق من كلِّ الأشياء. شيء لم يعد قادراً على احتواءنا، ومع هذا ينتج كلَّ طاقته لتمرد الوعي، ويفتحُ اهماله ثقباً فيه بحجم ثقب الأوزون الذي يمتص كافة الطاقات، هذا هو مناخ الفكر الذي تساءله الفلسفة جذرياً وتصنع منه أسئلة حيوية لصالح الإنسان. إنسان ربما يخرج يوماً عن "قواقع الأنظمة" اجتماعياً وسياسياً، حيث يعلن عصيانا جذرياً للفكر.

إذا أردنا توضيحاً للموضوع تبعاً للذائقة العربية، فالسؤال المؤثر استشكال خلْقِي بلغة الله الخالق لا بكيانه. لأنَّه كسؤال من جسد الثقافة بحدِّ ذاتها لا يضع هناك مرجعية لاهوتية لما يطرح. فلم يكن الله في القرآن حين عرض قضية أدم على الملائكة طارحاً للكلام بصيغة آمرةٍ وهو القادر عليه، لقد طرحه بمضمون الاستفهام. كان مضموناً استشرافياً باعثاً لدى المتلقي على التوجس والخيفة والترقب. هذا معناه أنَّ كل سؤال به هذا الارهاص الكوني، هذا البعد المستقبلي؛ أي الارهاص البدئي بالأشياء الخطرة.

ليست خطورتها جزئيةً، لكنها خُطورة كلية من نقطة بعيدةٍ تكاد تلامس دلالة الإله وقدراته في الأفق العام. فلم تكن قصة الخلق التي تحدث عنا القرآن (خلق آدم) وضعاً معرفياً وحسب. لأنَّ الله قال لملائكته: "إني أعلم ما لا تعلمون"؛ أي رفع عنهم عبء المعرفة المنجزة بمنطق المستقبل. وجعلهم في حلٍّ من نتائج سقوط توقعاتهم. إذن ليس السؤالُ موقفاً معرفياً فقط. ولهذا هم ردوا بصيغةٍ استفهاميةٍ تصديقاً لكلية السؤال، قالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، لقد فهموا الموقف كطرح لمسألةٍ تحتاج إلى بدء حياة مغايرة لمعرفتهم لا مجرد اثبات فكرةٍ مسبقةٍ.

الاستفهام الإشكالي به هذا الطابع الخائض في المستقبل، به ذلك الحدس المتجاوز للظرفي. وكلام الله في القرآن هو طاقة الخلق ليست غير، مثلها مثل فكرة الألوهية في تاريخ الثقافة الإنسانية، إذ تعبر أحياناً عن قدرتنا على ممارسة الحياة. أي طاقة المعنى عند إنسانٍ قادر على الشعور بالله ايمانياً في تجارب مختلفة، إنَّها لغة القيمة الإجمالية لتنوع الأفعال والأشياء. وأيا كان تعيُنها خلال أشكال ومعتقدات أو غيرها، فستظل على وعدها الذي تحمله، كوعد تكويني بالأساس وفوق ذلك يذهب الوعد خارجاً نحو التحقق. سيكون السؤال علي أثرها عملاً مهموماً بإعادة تأسيس نفسه وتدعيم طاقته بذات المعنى. ليس الله هو الشكل ولن يكون اتجاهاً، ولهذا نفته الأديانُ الابراهيمية في جوهرها، فكان بدلالةِ العرفان هو اللا حدود.

ولو دققنا النظر، لوجدنا في حركة السؤال (أي سؤال فلسفي) معنى متفجراً، قدرةً على التأويل المبتكر والفهم المفتوح المترتبين عليه وأحياناً المصاحبين له. إنَّه يؤكد حالة الحيرة التي تكتنف فكرة الكشف والتجلي وبدلاً من التّعيُّن في نقطة ما ينطلق الاستفهام بالرغبة التي تلاحق مجهولاً محتملاً. السؤال يتخطى إمكانية طرحة، مهارته الذاتية أبعد من مجرد الصياغة والتفكير في حدوده، وقد يتعاونان على خلق طريقة في التفلسف.

إنَّ أصالةَ الأسئلة ليست عتاداً في مواجهة التراث وصورته المكتملة ماضياً. هي تحمل بكارة الفكرة، وطرح الاختلاف- لو اتيح - وسط استحكام العقل، فليس هنالك أكثر من البحث عن الحياة المتغيرة. إنَّ نهراً كلياً في هديره هو الحياة إذ نحن مغمورون فيها، أحداثها واعدة بالجديد، وأفعالها غير متوقعه، مخلوقاتها مذهلة تظهر أحياناً وأخرى تختفي. إنَّها استحالة التصور لما يُطْرح من أساسه. تماماً مثلماً كان رد الملائكة على الله هاجساً حياتياً عاماً (أتجعلُ فيها من يُفسِد فيها ويُسفك الدماءَ ونحن نسبحُ بحمدك ونقدسُ لك)، ردٌّ كَشفَ خطورة الحياة في المخلوق (آدم) الآتي من القادم لا من الماضي، فكانوا يتكلمون بعبارات المستقبل.

السؤالُ إذن: هو أنْ تعيش حياة الفكر بشكلٍ أكثر أصالةً، بشكل أكثر جذريةً كما هي، لا كما يُراد لها بالإنابة، فلا أحد يعيش مكانك أو يأخذ قدّرك، وتاريخنا العربي تقريباً جرى "بالإنابة عن لا بالأصالة في". إذا كانت  الفرق الإسلامية(كالمعتزلة والأشاعرة ) قد طرحوا مشكلة حرية الإرادة على نحو تفصيلي، فالتراث العربي، بخاصة السياسي والاجتماعي، أثبت العكس، تراث الاستعباد تحت الحاكم المستبد والأنظمة القمعية، فأكد عملياً قيام الإنسان بدور المُكْرّه لا الفاعل.

بالفعل كان إثباتاً لخطأ الطرح الكلامي (أو لمكره الثقافي)، حيث جاء توظيفاً سياسياً وثقافياً للإرادة الإنسانية، فحياة الناس سارت بأدوار وظيفية تحركها السياسة والتقاليد لا بدوافع ناشطةٍ ذاتياً وروحياً. وهذا كان منبتُه أنَّ المعتزلة والأشاعرة انطلقا (بحسن النية) من تبرئة الإرادة الإلهية إزاء الشرور وأفعال السوء، فكانت إرادة الحاكم هي المبرأة رغم تورطها في استعباد الإنسان. وهنا تم خلع صفات الجلالة والقداسة والصفات الالهية على الحكام رسمياً ودينياً. وأصبح الفقهاء الذين برأوا ساحة الله من التعطيل والتجسيم والتشبيه قد تورطوا في تجسيم رجال السلطة وتشبيه أفعالهم عياناً بياناً، وضعوا نوعاً من الوثنية المقلوبة من حيث لا يعلمون.

إنَّ آليات السياسة هي تفريغ آدم الكوني من أهميته، تلويثه سياسياً بالعبودية والخنوع والتدجين والمسخ. حياة المجتمعات العربية إفشال صريح لمشروع آدم، وتصفية لقضية الجعل الإلهي للإنسان جعلاً حُراً بخَلْق إلهي. وعندما يُوصف المشروع بالمهم، تأتي الأهمية من خطورة ماهيته الإنسانية. فهو كائن بصلاحية الإله (خليفة بلفظة القرآن)، لكن بقدرات بشريةٍ جاء العربُ ليتنازلوا عنها للسلاطين والملوك والطوائف الاجتماعية والتقاليد. أي تنازلوا (عن الله) فيهم بشكل حر لصالح عبوديتهم لغيره الأكثر عنفاً. وليس تُستثنى من ذلك جماعة أو طائفة، ولذلك فإن هؤلاء الدُعاة الذين يتكلمون باسم الله، قد أسسوا لاهوت السلطة وعلاقات الراعي والرعية وهيكل الكهانة ولوثة الوسيط العنيف وانحرافه.

ومن ثمّ، فحدودُ الوعي بالسؤال ليس تلقيناً لمواقف مستهلكة ولا تلقيماً لأفكار بائدة. إنَّه انفتاح بإمكانيات الماهية المتجددة، التي ليست نحن حصراً بقدر ما نبتكر وجودنا ابداعياً. فالإنسان من حيث هو كذلك يستعيد وجودّه من الضياع حين ينطلق مع التفكير الحر. قد يخشى العواقب، لكن من العواصف تُخلق الأجواء الحرة، ومن الأنواء الهادرة تعبر السماء عن تشكيل العالم. المعنى الدال في هذا أنَّ كلمة السماء في العربية لا تدل على التعالي المناوئ لأي سقف، لكنها تُستعمل فعلاً بمعنى السطح القريب. بلاغة الأسطح الدنيا في السياسة والاجتماع والمعرفة هي سماء العقل العربي حتى الاختناق. فكل ما يعلو الرأس يسمى في العربية سماءً، وهذا مصدر القيود واستعصاء اختراقها. لهذا لا يستطيع المفكرُ العربي تجاوزها، بل يضعها لنفسه ويسلسل بها أرجله ويعلن زيفاً أنّه طليق حر!! وأخطر أنواع القيود تلك التي تترسخ داخل اللاوعي نتيجة الخوف من ملاحقة التقاليد أو السلطة أن الهواجس الاجتماعية.

باصطلاح هيدجر تعدُّ ماهية الأساس لدينا تسطيحاً للمبادئ إلى درجة التعميم الانفعالي. فلئن كانت الفلسفة تعلمنا التفكير بالمفاهيم، فنتيجة غيابها المأساوي في مجتمعاتنا العربية، يصبح التفكير مجرد انفعالات لا رابط بينها. ولذلك لن تكون ثمة قيمة للفكر لكونه غير مؤثر وهو انطباع عام لا يلوي على قدرة عقلية تحقق نفسها أو تسعى إلى ذلك. ثم إنَّ الواقع يُعلن منذ بالبدء كما تقول الأم في الثقافة العربية داعيةً لابنها (اللهم يكفيك شرَ الفكر يا بني). إذن الفكر في الوعي الشائع مرض عضال وشر نفسي يجب اللجوء إلى الله لإزاحته دون طريق من نحب وهو مجال علة لا مجال صحة.

والأم هنا هي الثقافة التي تردد ما تضمر وتكشف نفسها في المواقف الحرجة باسم فلان أو علان (الأب أو الأم). وربما أنَّ كون الفكر شراً هو أبلغ ما يُوضع تحت الاستفهام، لأن الأنظمة السياسية استغلت الدعاء بزوال الفكر عن الناس لتتلقفهم، حيث فكرت بدلاً عنهم، وحلت المشكلات عوضاً عن وجودهم وبالنهاية أصبح لا وجود لهؤلاء الفارين من الفكر حتى فروا من الحياة ذاتها. فجاء المواطنون في دولنا العربية كـ" العصف المأكول"، لا قيمة لهم ولا أهمية، إنه سقف الأفكار المعلقة في مناخ قريب من الحس اليومي، حس هو "ضعف العمران والعصبية والتوحش" بلغة ابن خلدون، لغة شارحة وكاشفة تاريخياً للأحداث والتحولات العربية حتى هذه اللحظة من عصرنا.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم