تجديد وتنوير

خيار التعارف.. كبديل ثالث (3)

لا شك أنه في عمق التحولات الكبرى الحاصلة في العالم وفي عمق الواقع العربي والإسلامي على مختلف الصعد والميادين، طافت على السطح إشكالات عديدة من جراء المشكلات المتراكمة والباحثة لحلول ومخارج من الأزمات اللامتناهية، وتوالدت الكثير من التساؤلات والقراءات والمقاربات وفق منهج الشك وقوانين المراجعة والاختبار والتقويم لعدة عناوين ارتبطت باليقينيات المختلفة، مما زاد من حدة التعقيدات الفكرية والعملية، لكن بحسب الرؤية الإسلامية القرآنية، أساس التقدم والتطور هو العلم والمعرفة على هدى تقوى النظر والتفكر..

خيار التعارف.. الإنفتاح على الحقيقة أولا:

كل جهد نظري منفتح على الحقيقة، ينطلق في مقارباته الإصلاحية والتجديدية سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع من قاعدة الإنفتاح الثقافي بعدما تجاوز الكهوف الخمسة التي أشار إليها بيكون، لأن محطة الانفتاح ثقافيا هي مقدمة لمحطات توسيع دائرة المعرفة وتركيز العلم المنهجي فالتمكن من فن التساؤل العميق، ثم معرفة هندسة بناء النقد التجديدي، كل هذا يشكل أسس تثبيت  خيار التعارف، في كل بيئات المجتمع وظروفه، هذا الخيار الاستراتيجي في تسريع خطط الإصلاح والتجديد على مختلف الصعد والمستويات بحاجة لتأسيس وترصين وفحص ومداولات فكرية جدلية مع الواقع مستمرة..

لماذا خيار التعارف؟

قد يبدو السؤال غريبا على واقعنا العربي والاسلامي العام، لأننا كمكونات ثقافية متعددة ومتنوعة لا نزال لا نعرف بعضنا عز المعرفة بل لا أبالغ ان قلت لا نعرف بعضنا الا معرفة مشوهة غير مكتملة محتشمة، معرفة قبليات ثقافية تقليدية مصداقيتها مهزوزة في الغالب الأعم، لأننا كإجتماع بشري متعدد الثقافات ومتنوع القوميات والقبائل لا نزال نصارع المراهقة الثقافية ولم ينضج اجتماعنا الثقافي لمستوى وعي التعارف كخيار تجديدي لحياتنا الحضارية المنشودة وفق معالم التقوى وآفاق الكرامة..

خيار التعارف بين الصحة والمصداقية:

التعارف كعنوان في كل البيئات السوسيوثقافية، ينال القسط الوفير من المباركة والصحة، الجميع مؤمن مبدئيا  به كرافعة ومنارة في نهج التجديد والإصلاح والتنمية، شأنه في ذلك شأن جميع القيم الحضارية كالتسامح والتعايش والاعتدال والتعاون والتقريب والوحدة،  بل إن الفاعلين في الشأن الثقافي العام يتشبثون ولو شكليا بخطاب وخيار التعارف مع الشركاء في الوطن والدين والإنسانية، بينما المأزق يتركز في مصداقية التعارف لدى كل طرف من الأطراف، وخصوصية التعارف أنه كقيمة في ذاته يمثل قيمة مضافة لكل القيم الحضارية على مستوى مناشط الفاعلية والواقعية..

خيار التعارف ليس فيلم اشهاري او لقلقة لسان أو تكتيك مرحلي، بل هو نهج حياة وتراكم معرفي ومسيرة وعي وتقوى ثقافية تكاملت في شكل سلوكيات حضارية مستديمة، تستهدف ترسيخ  مفهومي الكرامة الإنسانية والمواطنة الناظمة للتعدد والتنوع..

خيار التعارف...مسؤولية حياة:

في جميع حقول الحياة الاجتماعية تطفو على الواجهة قيم الحرية وما تفرزه من آفاق للمسؤولية الذاتية والجمعية، فالتعارف كإنفتاح ثقافي يستدعي وعيا معمقا بضرورات ومنطلقات الاجتماع التنموي الراشد، وكما أشار المفكر الأستاذ محمد المحفوظ في إحدى أبحاثه المهمة حول ثقوب الوعي الاجتماعي إلى اننا كأمة: " أحوج ما نكون اليوم، إلى تعزيز وحدتنا الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية.. ولا يتم كل هذا إلا بطرد تلك الثقافة، التي تربي الإنسان على الحقد والكراهية والفرز بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد.. لا يمكن أن تنمو حقائق الوحدة في أي مجتمع مع ثقافة التعصب والكراهية، وذلك لأن هذه الأخيرة تقوّض كل أسس التوافق وأسباب الوحدة وضرورات الالتحام والائتلاف." ، بكل بساطة المأزق ثقافي بإمتياز، كما أن الإصلاح ثقافة قبل أن يصبح آليات وبرامج، لابد من مسؤولية ثقافية منفتحة على حياة كريمة سمتها الأساسية العدالة التنموية، بما يسمح لإصلاح الوعي وتجديد المؤسسات والبرامج والقوانين والتطلعات والقراءات حتما، تجاوزا لكل الاختلالات والانحرافات والتقاليد السلبية واللاإنسانية التي كرست ثقافة الخصام والتنافر والعداء والاعتداء على بعض رمزيا وجسديا وإنسانيا بإسم درء الفتن وحماية الوحدة الوطنية والدينية وما هنالك من تزييف للوعي الجمعي حتى لا ينتبه لمسؤولية التعارف كما حددها الباري عز وجل في القرآن الكريم !!

خيار التعارف...مصنع المواطنة الفاعلة

لا يمكننا بناء تصور او تمثل سليمين وواقعيين لمفهوم المواطنة خارج اطار خيار التعارف، لأن معادلة المواطنة قائمة على المساواة والاعتدال والحوار كضمانات لحقيقة المواطنة، كما أنه ليس من السهل ادعاء حقيقة المواطنة دون تعارف شركاء الوطن (الانساني، الديني، المذهبي، الاثني، الأممي، الثقافي بوصف عام..) فيما بينهم وفق اعتراف واحترام لبديهيات التعدد والتنوع والاختلاف، الاحترام المتبادل، الحوار التكاملي لا التسقيطي، لا يحق لأي طرف أن ينسب لنفسه ملكية حقيقة المواطنة ويسلبها من الآخرين المختلفين معه سواء على الصعيد الديني أو المذهبي أو القومي أو القبلي أو الأممي أو الثقافي العام.

كما أن المواطنة في حقيقتها لا تعني تمتع الأغلبية بها وبآثارها التكريمية في الحياة الاجتماعية العامة، بل هي حق وحقيقة لكل مكونات المجتمع بغض النظر عن الأكثرية والأقلية او الغنى والفقر، المواطنة في ظل التعارف تكريم للإنسان بما هو إنسان، وترسيخ لحقوقه العامة والخاصة وتفعيل لكفاءاته وتطلعاته بما يعود بالخير والامن والتطور والتقدم لنظرائه جميعا في نسيج المجتمع-الوطن، "إننا نتطلع إلى مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، لا تبنى على أنقاض خصوصياتنا التاريخية والفكرية، وإنما تبنى على أساس احترام هذه الخصوصيات والاعتراف بمتطلباتها والعمل على حمايتها من كل التهديدات والمخاطر ..

والتجارب الديمقراطية الكبرى في التاريخ الإنساني، لم تبن بدحر الخصوصيات والتعدديات المتوفرة في المجتمع، بل بخلق ميثاق وطني حضاري، يأخذ بعين الاعتبار حاجات التنوع ومتطلبات التعدد . مما وفر الأرضية القانونية والسياسية المناسبة، لانخراط كل القوى والتعدديات في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف الصعد والمستويات.

فالخطر الذي يتهدد الأوطان واستقرارها، ليس من جراء التعددية المذهبية والفكرية، بل هو من جراء سياسة التمييز الطائفي التي تعمل على تفتيت المجتمع على أسس طائفية مقيتة."

المواطنة  كمفهوم مدني معاصر تمتد جذور تبلوره لأحقاب بعيدة في التاريخ الإنساني ومنها الحقبة الإسلامية الأولى وبعض الومضات التالية لها إلى يومنا هذا، لقد تكامل المفهوم ولايزال يتجدد ويتطور مع كل منعطف من منعطفات الاجتماع الإنساني، بفضل تعدد الرؤى وتمايز القناعات حول الطريق المؤدي إلى النماء الإجتماعي، والخطوات العملية المفضية إلى تعزيز خيار التعارف على مستوى البيئات السوسيوثقافية في المعمورة، كما أقر الاسلام قاعدة الأخوة، عرفت الثقافة الأمريكية قاعدة "العصا الناطقة"، على كل حال وبعيدا عن السجالات التاريخية والصراعات الأيديولوجية المتعلقة بحقيقة المواطنة، يمكننا القول: إن خيار التعارف سواء على المستوى الاثني أو المستوى الديني أو المذهبي أو المستوى القبلي أو الأممي، يعني المسؤولية واحدة على عاتق كل عنصر من عناصر التنوع والتعدد وحقائقها الموجودة في العالم الإنساني عامة والعربي المسلم خاصة. ثمة علاقة عميقة بين مطلب التعارف وحقائق المواطنة في الفضاء العربي كما أي فضاء إنساني اجتماعي آخر. سواء أكانت هذه الحقائق دينية أو مذهبية أو جهوية أو عرقية أو قبلية أو ما هنالك من تعددية وتنوعات واختلافات بين أبناء الوطن أو الأمة أو الدين أو الطائفة أو القومية.

خيار التعارف..اجتثات للطائفية

من يطمح  لتنمية الاجتماع العام لأي جغرافية إجتماعية، لابد أن يتمتع بمعرفة دقيقة بالواقع الاجتماعي، خصوصا التكوين الثقافي لتلك الجغرافية الاجتماعية ويدرك تمام الإدراك الخيارات الثقافية والسياسية الغالبة والمطلوبة لتفعيل حقائق التعدد والتنوع إيجابيا في هذا الفضاء الاجتماعي، حتى يتسنى له خوض غمار بناء السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي المنتج للتمدن، كون أغلب الفضاءات الاجتماعية المتخلفة تعاني من مأزق التعامل السلبي مع الاختلافات الطبيعية، مما يسمح للطائفية من التوغل والتغول في الواقع وتفشي توابعها في جل خيارات نظام الاجتماع العام، وعليه لا يمكن التعارف أن يجد مساحة في ظل الهيمنة الطائفية على الواقع الاجتماعي العام، والنخب أو الأطراف أو الجهات الطامحة لتفعيل آليات التعارف في ظل اقتصاد الطائفية لن تحصد إلا المزيد من التشرذم والتصادم والتسقيط والتشويه بين مختلف الأطراف والأطياف. التأسيس لخيار التعارف ينطلق من استثمار فرص الاتحاد وتعزيز آليات تناغم الحريات في بيئات المجتمع الثقافية، أو ما يعبر عنه بالغرس الثقافي ليس اعلاميا فقط بل بالأخص تربويا وتعليميا، مما سينسج ويجذر علاقات إيجابية وتواصلية بين مكونات المجتمع سواءا الجديدة أو العلاقات القديمة التي تراكمت فوقها طبقات الأتربة الطائفية عبر الزمن..

 

بقلم: مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر

 

 

في المثقف اليوم