تجديد وتنوير

نشأة التنوير العربي.. واصل بن عطاء انموذجاً

قد لا اكون مبالغا اذا قلت ان عصر التنوير في التاريخ العربي الاسلامي قد بدأ مع واصل بن عطاء، (700 – 748م)، حين حاول الموازنة بين طرفين متعارضين، معتمدا التفسير العقلي للظواهر، فلقد شاع حينذاك كلام كثير حول مرتكب الكبيرة (القتل، الزنا ..) هل هو مؤمن ام كافر، اذ ذهب فريق الى ايمانه وذهب اخر الى كفره، وكلاهما اخذ بأحد طرفي المعادلة التي ترى الاشياء بيضاء بياضا تاما أو سوداء سوادا تاما، في اطار مثالية مطلقة، وحين جاء رجل يسأل الحسن البصري في مجلسه في البصرة، وكان واصل في حينها تلميذا لدى الحسن البصري، هل مرتكب الكبيرة مؤمن ام كافر؟ تصدى له واصل بن عطاء فقال : ليس يؤمن وليس بكافر، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، اي بين منزلتي الكفر والايمان .

ومن هنا بدأ العصر الفعلي لزمن التنوير العربي / الاسلامي، لان واصل بن عطاء ارتكز الى العقل في تحديد الملامح لمرتكب الكبيرة . ان المنزلة بين المنزلتين مقولة عقلية تتوسط بين طرفين متعارضين،ولعلها تذكرنا بمفهوم الاوساط اليونانية، بان الفضيلة تقع بين رذيلتين، فالكرم يقع وسطا بين رذيلة البخل ورذيلة الاسراف .

وهذا موقف اشاده مفكر تجاسر على موقف استاذه الفكري، الامر الذي يقتضي الانفصال عن مجلس استاذه وحلقته العلمية، لان سلوك الانسان وليد تفكيره، ومن ثم اشاد واصل بن عطاء مجلسا خاصا به، وتبعه على الفور عمرو بن عبيد، وبذلك تأسست المعتزلة حول نواة (المنزلة بين المنزلتين) .

كان فكر المعتزلة يوافق العلم والعقل، بخلاف الفكر السلفي المتدهور الذي يحاول ابقاء الامور كما هي عليه باعتماد الثبات على النقل دون تحليل أو تفكيك .

واذا كان التنوير الغربي قد نشأ انطلاقا من معرفة الذات، اي البدء بالذات الى الاخر، والى العالم، مرورا بالكوجيتو الديكارتي (انا افكر اذن انا موجود) فان التنوير العربي / الاسلامي نشأ حول مقولة (المنزلة بين المنزلتين) التي تخفي وراءها موقفا خاصا لمفكر يشبه ربما الكوجيتو الديكارتي.

***

الدكتور كريم الوائلي

في المثقف اليوم