تجديد وتنوير

تحرير الذات من سطوة الذات نفسها وجبروتها

ali almirhigليس بمقدور إنسان إدراك معنى الحرية إن لم تستطع ذات الإنسان الذي يروم الحرية من التحرر من نقد الذات وتهديم الرؤية التخيلية في قاموسها وتحطيم وجبروتها وسطوتها المصطنعيّن، الذيّن بنيا وهماً له وصورا له أن المجتمع محتاج إليه، وهو لا يحتاج الآخرين لأنه مُكتفٍ بذاته، مُستغنٍ عن وجودهم، أو لا يعني له وجود الآخرين شيئاً إلّا بالقدر الذي يجعله محوراً ومركزاً، وكل ما تبقى هوامش وأطراف تدور حول وجوده فهو "واجب الوجود" بعبارة الفارابي وإبن سينا لأن وجوده مُكتمل من دون الموجودات، وما ووجود الموجودات غير إعلان وإعتراف بهامشيتها وبأن وجودها لا يكتمل إلا بوجود الذات المتمركزة حول نفسها، ولا ينتهي خداع الإنسان "المركز" لذاته، إلا بالتفوق على ذاته "المتكورة" ومغادرتها إلى حرية في الزمان والمكان، وتهديم القناعة بمركزية الأنا، عبر الخروج من الإرتباط بالقديم وركود العادات نحو التفاعل التطوري الذي يؤمن بأن التقدم قائم على تجاوز أو نقد "الأصل" = "الماضي" وتخطيه إلى الحاضر، ونقد الحاضر للوصول للمستقبل الذي يُمكننا من التطلع والتخيل والتمني، و "النقد في الثقافة -بعبارة مدني صالح - كالإنشاء (بوصفه عمراناً) أمانة عجزت الأرض عن حملها وإعتذرت السماء وقام بأعبائها عظماء".

والعظماء هم الذين يجدون أن العمل يُصحح الفكر لا العكس، وأن الإختراع والإبتكار يتأتى من الفعل ورد الفعل لا من الفكر ورد الفكر، وأن تجاوز الشرور لا يتم إلا حينما نمر بالخيبة لندرك أسبابابها التي لا سبيل إلى تجنبها إلّا بتهيئة أسباب النجاح التي لا تكون إلّا بإصلاح اللوك الذي لا يكون إلّا بإصلاح العمل الذي لا يكون إلّا بإصلاح العلم الذي لا سبيل إلى صحته وصوابه إلّا بإمتحانه فعلاً بالفعل وعملاً بالتطبيق، لا بالتنظير وبرؤيا المنطق البرهاني "القياس" الذي لا نروم منه جديداً سوى إستغراق النتيجة في المقدمة الكبرى وفق المنطق الأرسطي، ليكون هذا "القياس" الأرسطي بحثاً سقراطياً لربط المعرفة بالفضيلة أو بالخير، لا بحثاً سفسطائياً عن النفس الإنسانية "اللوامة" والمترددة في الحكم على الوجود النسبي المرتبط بالمعرفة الإنسانية الأقرب للمفهوم السفسطائي الذي يرى أن "الإنسان مقياس الأشياء جميعاً، مقياس ما يوجد ومقياس لا وجود ما لا يوجد" بعبارة بروتوغوراس.

فالسفسطائيون "شعبيون ديمقراطيون إنسانيون يعتمدون على الإنسان غاية ويطرحون الثقة الكبرى في قدراته الحسية والعقلية والعاطفية ويأتمنونه (اليونانيون) على تدبير شؤونهم في التربية والعلم والأخلاق...إلخ.

ولذلك فإن تحرير الذات من سطوة الذات نفسها، يجعل الذات أقرب لتهديم إطلاقية الإمتلاك للحقيقة، وسنكون برؤيانا هذه أقرب للدين من تعارضنا معه، حينما نعترف بأن الإنسان لا يرى الحقائق كما يراها الله وسله و الأنبياء، لأن فيه من العيوب والنزوات ما يجعل نفسه لوامة تميل بفطرتها وبغريزتها وبطبيعة وجودها للخطأ إن لم نقل أنها تميا للخطيئة والمعصية، ولو كانت الذات الإنسانية تمتلك أدنى شعور بأنها خطائة وأنه ليست محوراً ومركزاً لصحيح الفكر وصدقه لما وصلنا لما نحن فيه اليوم من تصارع وتصادم. ف "العواطف لتصلح - إذا صلحت - بصلح النُصح والمواعظ والإرشاد ونظريات علم الأخلاق ول تفسد بفساد النصح والمواعظ والإرشاد ونظريات علم الأخلاق" والفرق بين دُعاة مثال الخير من الإفلاطونيين ودعاة العمل من السفسطائيين، كمثل من بدأ التربية والتعليم بالمقلوب و "قاد الثقافة من الذيل وركب الفلسفة بالمقلوب"، فمن رام البدأ بالتعليم و التربية طبقاً للرؤية السقراطية والإفلاطونية ببعديهما اللاهوتي، فاليعش في حياة "التعقل المطبق" ببعده البرهاني والمنطقي للوجود "الميتافيزيقي" الذي لا وجود له إلّا خارج منطق الأشياء ووجودها الطبيعي وخارج الأخيلة والشعر والأساطير ببعدها الأنسني الذي يُخرج الذات من يقينيتها دوغمائيتها المفرطة التي بثت وجودها المعرفي والأخلاقي الفلسفة الإفلاطونية ببعده الأرستقراطي، فكانت لها الغلبة والهيمنة في كل تاريخ الأمم الفلسفي والسياسي، فصار تاريخ السعوب تاريخ سلاطين وملوك، وغابت الجماهير أو غُيبت في طيات تاريخ الحكام و "وعاظ السلاطين"، ولم يكن للمجتمعات من تاريخ غير تواريخ سجلها "المنتصر" على جميع الهوامش؛ لكنه لم ينصر على ذاته التي سيرته وصيرته "الحُلم" و المرتجى لتحقيق الأمل: أمله هو ولا آمال للجماهير إن كانت معارضة لآماله.

 

مُستوحى من: مدني صالح: مقالات في الدرس الفلسفي.

 

 

في المثقف اليوم