تجديد وتنوير

ظاهرة الأسئلةِ الزائفة

سامي عبد العالالأسئلةُ لا تسقط كالأمطار من السماءِ ولا تنبتُ من الأرضِ كالأعشاب، لأنَّها نشاط إنساني يثير قضايا فكرية خطيرة. الخطورة من زاوية كشف أبنية الثقافة، ولماذا تتفاعل مع حركة التاريخ، كلُّ ثقافة تلقي برواسبها العميقة على ضفاف المجتمعات كالنهر الذي تكتنفه تيارات شتى فيحرك الراسخ. والثقافة الإنسانية دوماً كونية التكوين والتطور وإنْ كانت نوعية الطابع. وكلما كان الفكر متمرداً، استطاع إثارة أسئلة أكثر جرأة وابتكاراً.

لا توجد حياة إنسانية دون أسئلة تبحث في أعماقها وتنتقد أسسها القائمة. فالأسئلة ضربٌ من المواجهات بين أزمنة ما كانت لتلتقِ إلاَّ بألوان الحوار العميق. وهي تقلل درجات الصدام إلى حد التلاقح، وبدلاً من اتيانه صداماً عنيفاً، يغدو أكثر خصوبة وتجاوزاً.

توصف الأسئلة بالزيف نتيجة غياب موضوعها الأصيل. والموضوع بهذا الوصف يحتاج تاريخاً حتى يكون كذلك، أي يجب أن تكون هناك حياةً حرّة تجعل الفكر والتساؤل جزءاً من همومها اليومية. ففي مجتمعات لا تعيش عصرها، ولا تبتكر رؤاها الحيوية لن تُثار إلاّ اسئلة تافهة. وهي كضرب من المعرفة ستكون في غير موقعها النوعي. السؤال عبارة عن طلب لحوح، بحث دؤوب عما يسد حيرة الإنسان كجائع ينهشه الجوع ويبحث عن شيء يسد رمقه!!

الاسئلة الزائفة هي وليدة هامشية هذا الجوع للمعرفة والاختلاف، أنها نتاج الفراغ العبثي في معدة الثقافة وامعائها لمزيد من التحرر والامتلاء. كلُّ ثقافة لديها قدرة على الهضم واعادة انتاج محتوياتها إنَّ لم تجد جديداً لتأكله. لكن عوضاً عن توجه الأسئلة في طريق مختلف، تغدو عرضَّاً طافحاً لهذا المرض التكويني، فأي سؤال زائف هو نتيجة باثولوجيا التفكير pathology of thinking فيما لا يفيد واجترار قضايا غثة.

بكلمات أخرى تعتبر الأسئلة الزائفة مجرد ادعاءات بصيغة الطلب request خلف أشياء وأفكار لا مجال للتحقق منها هنا والآن، اشياء قد لا تخص الإنسان إلا إيماناً حتى وإن عرف إجاباتها. ابرز الأمثلة أسئلة دينية تسود من حين لآخر مثل: هل نحن محاسبون على قتل البعوض؟! ما هي اشكال الملائكة وألوانهم؟! كيف يتناسل الشيطان والجن؟! هل ثمة خطة مصممة للأقدار يمكننا كشفها بدقة؟!

علما بأنها اسئلة وسط واقع لا نعرف عنه شيئاً ومغطى بالتحريمات التي تدهس الإنسان!! التناقض الساخر: أن الواقع مجهول ونبحث عن مجهولات في عوالم أخرى لها سياقها. يبدو أن اسئلة من هذا القبيل حيل ملتوية للهروب من مناخ لا هوتي وثقافي يحول دون الفكر الحر وتدعيم حركة المعرفة والمشاركة في الحياة بكافة جوانبها.

ذلك الزيف يبرز مفارقات أوسع: كيف نتساءل عن الحقائق في مجتمع كذوب؟! كيف نبحث عن الإنسان وسط انسانية مهدرةٍ قبل كل شيء؟! على المنوال ذاته: لماذا تأتي المساواة والعدالة ضمن أنظمة سياسية قمعية لا تعترف بأية عدالة؟  لماذا نبحث عن الآخر ونحن نقتله يومياً؟ كيف ننقب عن صدق الايمان وقد تحول الدين إلى إكراه؟! كيف نبحث عن دين مزقته الجماعات الدينية إلى أشلاء؟!  لماذا نزعم أننا نتجه صوب الله ونحن نكفر كلَّ مؤمن آخر؟ لماذا نطرح أوجه اختلافنا ونحن نُسخ مشوهة من بعضنا البعض؟ كيف نلوك عبارات الحرية وقد أمست التربية تدميراً للإرادة والمسؤولية؟ كيف نريد ترسيخ قيم العقلانية بينما يسير المجتمع كالعربة الحمقاء دون كوابح؟ كيف نتطلع إلى الجنة ونحن نقف في طريق الباحث عنها بل ننتهك وجوده؟!

إذا طُرحت هكذا قضايا باحثين وراءها عن أسباب، كانت قضاياً كاشفة إلى درجةٍ بعيدةٍ. بل قد تؤكد علاقات وصوراً وأبنية فكرية لها ذات التكوين الخادع. فالسؤال هو جوهر الوجود الإنساني سلباً وايجاباً. وبإمكانه أن يكشف ما وراءه من أفكار، لأنه ابقى من الإجابة وأوسع نشاطاً. وكم من أسئلة لديها القدرة على الانفلات من عصرها، لأنها تخبو نتيجة القهر تمهيداً للظهور في وقت تال.

لكن.. بأي معنى هناك أسئلة زائفة false questions؟! هل يجري الزيف منطقياً أم بلاغياً أم حياتياً؟ الاسئلة حينما تكون مزيفة، فليست تقنية طرح لها دهشتها ودلالتها الفاعلة. ربما سيكون طرحها بهدف مغاير لما يفهم منها مبدئياً. فالسؤال -وإن كان غير ضروي - يثير أسئلة تالية لا تتوقف. وهذه سمة لا تتضح في أغلب الممارسات الفكرية الأخرى. فسؤال: لماذا لا نطير مثل الطيور في السماء؟ يبدو سؤالاً مصوغاً على نحو خاطئ. بيد أننا لو دققنا النظر سنكشف مغزاه الآخر، فنحن لا نطير، لأننا كائنات مختلفة جسداً وطاقة وقدرة، بينما الطيور مزودة طبيعياً بتلك الإمكانية.

وبالتالي من زاوية التاريخ، كان السؤال السابق مؤولاً لاختراع تكنولوجيا الانتقال عبر الفضاء وتجاوز حدوده. إذن ليس ثمة سؤال مزيف إلاَّ باستطاعتنا تأويله. سيكون مزيفاً طالما وجد ثمة سائل يلقيه في المكان الخطأ وعبر دلاله ليست له. إضافة إلى هذا، فإن السؤال يرتب وضعاً ما، فأنت تطلبه وهو يطلبك بفتح طريق معين.

إن الأسئلة الزائفة هي افراز لحياة مزيفة. فكلُّ واقع زائف لن ينتج إلاَّ شيئين:

أولاً: وعيٌّ فارغ تغذيه المشكلاتُ المفتعلة سواء بين الأفراد أو الجماعات. فالجذر الدلالي للزيف مرتبط بالتكلُّف والاصطناع والخفة وانعدام الأصالة. وهذا ما يظهر يومياً مع وسائل الإعلام ومساحات البرامج التي تغذي التراشق بين المجتمعات وتغذى فاض التفاهة المتراكم.

ثانياً: تضخم اللغة في أشكال استفهاميةٍ لا قيمة لها بحيث تشغل الفراغ. أي تصبح الثرثرة سمة عامة كجزءٍ من بناء الحياة اليومية.

والنقطتان السابقتان قد تحددان عصراً كاملاً بحجم التخلف الذي تعيشه بعض  الأنظمة الاجتماعية والسياسية. فيحدث هناك امتلاءٌ فارغ كالريح التي تصْفُر في كهفٍ أجوف.

وإذا كان الاستفهام بذلك الوضع يعد عرَّضاً، فسرعان ما يشكل جوهر الأفعال والتصورات المترتبة عليها. والمتوقع أنَّه يربك العقل الناقد بكم الإجابات التي في غير مسارها. وقد يحاول حتى الامساك بمعايير للنقد، حيث لا مشكلة ولا سؤال من أساسه. وتصبح هناك قضايا زائفةٌ وأفكار زائفة وثقافة زائفة. ليس بالمعنى الذي يقصده الفكر الوضعي المنطقي حين يطابق بين الألفاظ ومدلولها الواقعي (مبدأ التحققverification)، بل بالمعنى الثقافي المؤكد لدلالة النشاط الحي وأهمية اللغة كأفعال إنجازية. فالأسئلة انجازات عقلية لها قضايا ما كانت لتأتِ لولا طرحها باللغة التي هي بناء الفكر.

هكذا في تاريخ العالم العربي قد يوجد لدينا سياسيون دون أسئلة سياسية فعلية. ورجال دين من غير تدين حقيقي كمشروع إنساني، وعلماء عباقرة في كافة العلوم بلا علم ولا إبداع. واساتذة لامعون وألقاب أكاديمية دونما مضمون، ودولة بلا دولة وأنظمة بلا نظام، لكونها دائرة في فلك بدائي خارج التاريخ، وتوجد قوانين يقال عنها مصونة وفوق الكل بلا مشروعية حقيقية. قِسْ على ذلك أغلب الكيانات والأسماء والخطابات المشابهة والتي تسير بالطريقة ذاتها.

عندئذ: ماذا سيقدم السؤال غير التزييف؟! هو سيطرح نفسه بجدية التفكير لكن بلا قدرة على الاستفهام!! هكذا يطلقون على العملات المزيفة في الاقتصاد أوراقاً مالية بلا قيمة. إما لأنَّها لا تساوي شيئاً في الأسواق. وبالتالي تكاد تنعدم قوتها الشرائية وتزيد نسبة التضخم. وإمَّا أنها مزيفة فعلاً لتكون مجرد ورقة عليها أرقام عشوائية. من يأخذ الأسئلة على محمل الجد حتى في تاريخنا الثقافي العربي القريب؟! من ذا الذي يعني بالكد وراء الإجابات ولو وراء نصفها؟!

ستكون كلُّ تداعيات الاسئلة المزيفة غير حقيقيةٍ هي الأخرى. الأمر الذي يعطي مشروعية لكيانات تعيش في الأخيلة وحسب، لأنَّ الأسئلة ستعود إليها في محاولة لتأكيد مكانتها. كما أنها ستظل مرتبطة بظروفها الفكرية والثقافية التي ظهرت بشكل غير منطقي. فالأزمات هنا لها آثارها في أشكال عدة، من بينها الأسئلة السطحية التي تلتهم الوعي. ولئن أظهرت شيئاً فإنّها تفضح خلل استعمال اللغة بذهنية غارقة في الأوهام. والسؤال المزيف بالنسبة للثقافة العربية هو فتيل الأزمة، تلك التي ليست خاصة بمجال معين بقدر ما تتغلغل عبر مجالات أخرى.

وبالرغم من كون السؤال صيغة مقننة العبارة، إلاَّ أنه واسع الأثر. وكلما تلقى إجابة كلما ازداد التأكيد على موضوع "غير موجود". وتعبير "غير موجود" لا يعني معدوماً. فقد يمثل انشغالاً بما لا يجب وافتعالاً لأحداث ونزاعات لا طائل منها. أو بعبارة ابي العلاء المعري " لزوم ما لا يلزم". فالثقافة المزيفة تجعل الهامشي –على أهميته أحياناً- متناً ضخماً. ينشغل به الناس والاعلام والقاءات العامة والكتب الصفراء (كتب الأرصفة) بقضايا هامشية، مثل أخبار وفضائح رجال السياسة والدين وجرائم العائلات والعلاقات الجنسية وأخبار الحوادث والنزاعات الشخصية وكواليس السياسات وحماقات الأفراد وخصوصياتهم.

وبخاصة أن شبكات التواصل الاجتماعي جعلت هذه الأخبار متناً ً تلوكه العبارات وتنشره التعليقات كالنيران في الهشيم. لدرجة أن التفاعل والتغريد عبر صفحات الفيس بوك وتويتر وانستجرام يعيدان ترويجها بلا حدود. إن الذباب الالكتروني كالذباب الطبيعي يقف على الجيف والجثث ولا يعيش إلاَّ وسط الركود. وبتنا نرى استعمالاً دارجاً لوسائل التكنولوجيا والاتصال يكرس " فقر الفكر وفكر الفقر" بعبارة يوسف إدريس.

ذلك عودة مرة أخرى إلى الثالوث المحظور مقاربته أو تناوله (الدين والجنس والسياسة) في المجتمع العربي. فنتيجة انعدام الحرية وغياب المعرفة الفعلية شكل الثالوث السابق هوساً جمعياً. بل جعل الحديث فيه- ولو كان تافهاً هو الآخر- موضوعاً للرواج والاسفاف الاجتماعي والأخلاقي. المدهش أن ثمة فئات في المجتمع العربي تعرف هذه الآلية فيتربحون مادياً ورمزياً من هذا الوضع.

ففي المشهد الثقافي المعاصر، نجد الاسفاف الفني يأخذ مداه على هذا النحو. الغناء مجرد مُواء أنثوي أو تخنُث رجولي، لكنه في النهاية يسمى فناً وتفتح له الأبواب والنوافذ معاً. كذلك التمثيل الفني صراخ وعويل في الأفلام والمسلسلات ناهيك عن التكرار والسطحية. وفوق هذا وذاك يدِّر ارباحاً لا طائل لها مثلما يبدو في أجور الفنانين. كما أنه يضع القائمين على انتاجه في صدارة المبدعين كأنَّ الأمر حقيقي.

ونتيجة الأسئلة الزائفة في هذا الباب تظهر أوضاع جانبية لكنها مرَّضية. بمعنى أن الهامشي يحتل مكانة المتن التي ليست له. ليغدو ثقافة رائجة تعيد دغدغة وتفتيت القيم والأولويات في المجتمع العربي وإهدار الأنشطة الإنسانية. فأصبح الكسب الخاطف فرصة لمن يتطلع للثراء السريع. وبات معروفاً لكل شاب وفتاة أنَّ الممثلين والممثلات ورموز الرياضة ورجال السياسة هم أيقونة المجتمع. وفي هذا المناخ ظهر أيضاً بذات الأسلوب رموز الخطاب الديني ودعاته الديجيتال. هؤلاء الذين جعلوا الدين ظاهرة زائفة وكهنوتاً له كل الأتباع والمريدين، بحكم الطقوس والرسوم والقشور التي غرقوا فيها. إذ حرصوا على الشهرة وارتداء المسوح العصرية واستعمال اساليب الاعلام البرّاق والوسائط المبهرة في الدعوة والتوجيه، بينما خلا كلامهم من أي منطق وتسامح فعليين.

أبرز مثال الفتاوى الدينية حينما مثلت صلب الاسلام الراهن وجماعاته المتطرفة. وجميع الفضائيات تفتح الهواء للفتاوى ليلاً ونهاراً حتى غدت هي الدين ليس إلاَّ. وإذا كانت الفتوى قائمة فقط على أسئلة فهي ظاهرة التزييف المراوغ: الأسئلة والحياة معاً. فالدين في وجوده الإنساني لا يحتاج سؤالاً ينحرف به عن الإيمان  والامتلاء الروحي. هكذا رأينا الفتاوى المعاصرة تغزل سلطتها على استفهامات زائفة. مثل: هل اللحية من الشريعة أم لا؟! هل يكون جلباب الرجال قصيراً أم طويلاً؟ هل لبس النقاب من ضرورات الإسلام أم غير ذلك؟ (أسئلة الفتنة التي لانهاية لها) وهل الضرب المبرح للمرأة شرعي أم الضرب الخفيف؟ وهل يمكن للخاطب رؤية خطيبته منفرداً أم في وجود محرم؟ وهل للفتاة أن تتصفح الفيس بوك أم سيقودها إلى الرذيلة ويجب أن يكون معها محرم؟ (لنلاحظ الأسئلة الذكورية) وهل تستطيع المرأة شرعاً قيادة السيارة؟ (هكذا أصبح رجل الدين عسكري مرور وخفير درك)، أسئلة تعمي من يطلقها ومن يجيب عنها على السواء.

ذلك لأن القضية بالأساس ليست مهمة دينياً ولا أخلاقياً ولا لإنسانياً. كقول أبي الطيب المتنبي: أغايةُ الدين أنْ تحفوا شواربكم... يا أمة ضحكت من جهلها الأمم. كما أنَّها تستفتي كهنوتاً في شعيرات وملابس لا تمس جوهر الإيمان والروح ولا الحياة!! في الوقت نفسه الذي تقطع فيه الجماعات الإرهابية رؤوس المسلمين وغير المسلمين!!

أي منطق وراء استفهام يجتزئ مسألة تافهة؟! بينما الواقع القميء والمتدهور لم يُمس من قريب أو بعيدٍ. لقد غدا الدين الإسلامي فتاوى وراء فتاوى بأشكال غير ضرورية. فتاوى بإمكانها تحت تأثير الهوس الديني أن تفجر الناس(الارهاب والمجتمع) وغيرها باستطاعتها أن تشق المجتمع طولياً بعمق التاريخ الاسلامي (شيعة وسنة). أخطر الأمور أن يصبح الدين والله والجهاد والآخرة مجرد فتاوى لدى ذهنيات جاهلة وارواح نابضة من الحياة. لأنَّها لن تكون اعتقاداً خاصاً، بل سيتلاعب بها شيوخ الفتاوى تبعاً للمصالح. وشيوخ الفتاوى (في هذا الباب) غير مطلعين على الثقافات العصرية ولا هم يزودون أنفسهم بالرصيد الوافر من المعارف العالمية والتاريخية المتعلقة بالمجتمعات الراهنة. يتعاملون مع الظواهر الثقافية الكونية تعاملهم مع الشياطين التي تحل في خفاء وبليلٍّ بهيم، لا يدركون كيف نشأت هذه الظواهر ولماذا هي واسعة التأثير والانتشار؟!

هناك خاصية لأي استفهام مزيف: أنه يأخذ دوراته المعرفية في عمق الثقافية الجارية، وبالطبع ستلف معه اجابات وهمية (الاسئلة تتردد على ألسنة الأفراد جميعاً). وسيجري وراء المعنى جريَ السراب وراء السراب. ولدى هذا السؤال هناك الجديد: لأن رواج الاجابات يُمكِّن أصحابها من البناء عليها. فيأتي آخرون لتكملة المشوار في الطريق الخطأ. على سبيل التوضيح وقع أصحاب مشاريع النهضة العربية والاسلامية في هذه الفخاخ. كان هاجسهم الأول والوحيد التوفيق بين "الأصالة والمعاصرة "، بينما أغفلوا جوهر الحياة العربية ذاتها (الآن وليس أمساً وليس غداً). فكانت رؤيتهم للتراث غير ذات أهمية بالنسبة لحركة الحياة. لكونهم لا يرون فيه غير التاريخ الماضي لا الثقافة الكونية المتواصلة. وكذلك رؤيتهم للمعاصرة اعتماداً على  مجرد الاستعارة والنقل من الغرب. وهذه ظاهرة غريبة على المجتمعات الشرقية (الشرق كان أصل الحضارة!!) ولكن حينما افتقدت لروح الإنسانية المواكبة  للجديد، لم تشارك فيها وانكفأت على مصيرها المجهول.

ليس السؤال المزيف فردياً، إنَّه يدور مع التصورات المتداولة، ولا ينتهي عند هذا الحد. لأنه قد يتغلغل في وعينا الهائم نحو التاريخ. فيحيي صراعاً أو مفهوماً غابراً أو يستحضر صورة غابرة من التراث. وبالتالي لا يعاد طرح السؤال المزيف مصادفة، إنما يكمن في طرائق الحوار والتفكير. ليشكل بنيه فارغة تفترض أجوبة من ذات القبيل.

كذلك لا يعد السؤال الزائف كاذباً بمعناه العادي. لأنَّ الكذب صورة مخالفة لواقع الحال، بينما الزيف عبارة عن وهم هذه الصورة كأنها الحقيقة. أي إرجاع كل صفات الحقيقة لهذه الصورة ولا شيء سواها. بالتالي سيكون الزيف كذباً وتشويهاً في الآن عينه، وهو أيضاً صادق منطقياً في زيفه لدرجة التصديق، وبجانب أنه سيأخذ صفة الحقيقة والتكرار.

فارق آخر مهم أن السؤال الزائف لا يموت، لكنه يستفيق وينبعث في أوقات الأزمات. ويصر على طرح نفسه- من خلال المناخ السائد- رغم عدم وجود مبرر له. ولكن مع اكتشاف أمره بهذا الفهم السالف، يمكننا معرفة أصالته المفقودة.

يصحُ هذا فقط، إذا أدى السؤال الزائف إلى استفهامات نقيضةٍ تضعه خلال إطار إشكالي يتجاوز ادعاءاته وإجاباته. بمعنى أننا يصعب التخلص من الأسئلة الزائفة، فهي مفتاح لخريطة الأزمات وجزء من الحلول. لأنها تنمو كالأعشاب البرية المتسلقة وسط الحقول الزراعية وتتغذي على غذاء الأشجار والنباتات الاساسية!!

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم