تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

تجديد وتنوير

محمد سيف: بناء التصوّرات في الإدراك الديني

(الروايات غير الثابتة المنسوبة للنبي في الإسلام) نموذجا

الأديان تَنشأ كتلةً مكثّفة من المفاهيم والتصورات عن الحياة، وتقدم لمعتنقيها إجابات عن أسئلة كبرى، والتي في ضوئها يؤطّر الفرد حياته، ولهذه التصورات مصادر شتى تستقي الأديان منها مادتها بحسب طبيعة كل دين.

وفي الإسلام تعد الروايات المنسوبة للنبي، والتي دُوّنت رسميا في مصنّفات في فترة تقرب من ٣٠٠ سنة بدءا من قرن ونصف من وفاة النبي، الفترة التي شهدت فتنا كقطع الليل المظلم بين المسلمين أنفسهم، كمقتل عثمان بن عفان، وموقعة الجمل، ومعركة صفين، والنهروان، ومقتل علي بن أبي طالب، وقيام الدولة الأموية، ومقتل الحسين حفيد النبي، وضرب الكعبة بالمنجنيق، ومقتل عبد الله بن الزبير، وقيام الدولة العباسية، وغيرها الكثير، بكل ما فيها من الفظائع السياسية والاجتماعية، بحسب سردية الطبري في تاريخه - الذي تناول أحداث أول ثلاثة قرون - وابن كثير في البداية والنهاية - الذي تناول أحداث قرابة ثمانية قرون - وغيرهما من أهل التواريخ والسير.

إذن عندنا أحداث وقعت في عهد النبي في مدة زمنية بواقع ٢٣ سنة، والتي تنتهي بوفاة النبي في ١١ه، ثم بدأ في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري التدوين الرسمي الفعلي لتلك الأحداث النبوية في صيغة روايات في غضون ٣ قرون! فمثلا مصنّفات الكتب التسعة - التي تمثل لبّ الروايات - كانت في فترة تتراوح من ١٥٨ه (السنة التي فرغ فيها مالك من موطئه في أحد الأقوال) وحتى ٣٠٣ه وفاة النسائي. وإنه بين وفاة النبي وبين التدوين الرسمي فاصل زمني ممتد مشبع بالفتن الكبرى التي رزح تحت وطأتها المسلمون، حيث انتقلت فيه الروايات شفهيا قبل تدوينها في سلسلة بين الثلاثية وحتى التساعية من الرواة في المتوسط بين صاحب المدونة الروائية والنبي.

هذه الروايات - بالصفة المذكورة - لها كِفلٌ كبير من حقل مصدرية التصورات الدينية لدى المسلم، ليس من حيث حيّزُها فحسب بل وحتى حاكميتها على غيرها، ولكن تلك الروايات منها الثابت ومنها المردود بحسب القناعة الدينية، ولدى كل مسلم وتيار ديني ينتمي إليه توزيعة مختلفة لهذين الصنفين من الروايات، فمثلا الروايات الضعيفة أو الموضوعة عند البعض هي صحيحة ثابتة في اعتبار البعض الآخر، وهذه إحدى حالات الافتراق بين المنطقة الروائية وبين القرآن من حيث الإجماع على حدود النص، ففي حين تُعرف حدود القرآن ومجمع عليها، لا توجد حدود للروايات الثابتة، وهي غير مجمع عليها بطبيعة الحال، بل وغير مستقرة! فالرواية التي يُحكم عليها بالثبوت اليوم قد يحكم عليها بعدمه في الغد لعلةٍ يتم الاطلاع عليها، ناهيك عن أنّ أغلب الروايات لا يدري المسلم حكمها من حيث الثبوت وعدمه، وأقصى ما يفعله هو قياسها مع أشباهها من تصوّراته التي ولّدتها روايات أخرى.

لو دقّقنا النظر في عنوان هذا المقال لوجدناه يقصر النظر على تأثير الروايات (غير الثابتة)، وليس الروايات بشكل عام، وهذا يعني أن الروايات المردودة رغم أنّها غير ثابتة لكنّ لها تأثيرا خفيا في بناء التصوّر لدى المسلم سواء في التدين الشعبي أو التدين النخبوي، خصوصا تلك الروايات أو بقايا مادّتها التي تشيع في البيئة التي يترعرع فيها، وتلك التي صاحبت العقود الأولى من حياته قبل أن يغير قناعته في ثبوتها لسبب أو لآخر، فتنسلّ مادتها في الإدراك منذ سماعها باعتبارها مقدسة، وتبقى جاثمة على صدر الوعي بإسقاطاتها في ميدان الحياة، حتى بعد الاطلاع على زيفها، فالمعتقدات المتأصّلة التي يولّدها المقدّس لا تزول كليا في لحظة واحدة، ومع ذلك فهناك تفاوت في التأثير بحسب الطبائع الذهنية والوجدانية وماهية موضوع الرواية وعلائقها.

وهناك جانب من الروايات المردودة تبقى معتبَرة مع أن أشباهها مردود في اعتبار التيار الديني سواء من ناحية إسنادها أو متنها، فمثلا تيار ديني ما يرى أن العقائد لا تُستقى من الروايات الآحادية الثابتة إلا استئناسا - أي إلا مع وجود آية قرآنية تعضدها - ولكن لا يمكن الاستدلال بالرواية استقلالا على أمر عقدي، فتجده لا يعبأ بكثير من الروايات العقدية لهذا السبب، إلا أنه في الوقت نفسه تجد غالبية أتباعه مقتنعة تماما بموضوع منكر ونكير في مساءلة القبر! والذي أصله رواية غير ثابتة منسوبة للنبي، فتجد مادة هذه الرواية مختمرة في وعيه الديني وخوفه وفهمه لما بعد الموت، وحين يسمعها من أفواه الواعظين تسيل مدامعه، فيرى نفسه كم هو قريب من ربه، بل ويعظ بها غيره على وجه الترهيب، ولك أن تختبر مَن حولك في التدين الشعبوي لتجد هذا الموضوع مسلّمة لا ريب فيها تماما كحقيقة أن الشمس تطلع في النهار. هذا مثال عابر ضمن جملة مهولة من مثيلاتها من الروايات غير الثابتة التي تشكّل جانبا مخيفا وهائلا من وعي المسلم تجاه الحياة بمواضيعها الشائكة والمعقّدة.

إن ما تفعله الروايات غير الثابتة في بناء التصورات لا يقف عند حدّ الانكفاء على مفاهيم ذاتية مجردة، بل تلقي بظلالها على تصوّرات المسلم تجاه مفردات الحياة وفهم الكون والماورائيات؛ الأمر الذي يجعله يتعاطى مع من وما حوله وفقها، فتتحكّم تلك الروايات بكيفية تعامله مع مختلف أطياف الناس كالآخر المختلف والأنثى ودائرته القريبة من عائلة وأحباب وزملاء وأصدقاء، وبكيفية نظرته للقيم كالعدل والحرية، وللعلم الذي تتصادم نتائجه مع المخلّفات الروائية التي أفرزتها الروايات غير الثابتة، ولقوانين بلاده التي تتعارض مع مضمونها.

إن أخطر وظائف الروايات غير الثابتة المنسوبة للنبي هي عرقلة حركة النمو الإنساني لدى المسلم عبر تصوّرات يرى ويفهم بها الحياة، فكم من (ممارسات ونمط تفكير) لدى المسلم لا يقوم بها إلا بناء على قناعة تسلّلت إليه من رواية غير ثابتة كانت نتاج وهْم راوٍ أو وضْع راوٍ آخر! فكيف إن علمت أنّ هناك اتجاها معمولا به في التساهل في التصحيح بل وإباحة الوعظ بالروايات الضعيفة المتصلة بالترغيب والترهيب، وحتى بدون بيان ضعفها، ولك أن تتخيّل السيل العارم من الأفكار التي تصاحب تلقّي تلك الروايات!

***

بقلم: محمد سيف

في المثقف اليوم