ترجمات أدبية

يوم السبت في البرتغال

saleh alrazukترجمة لقصة الكاتب

إسحاق بوشفيز سينغر

 


 

يوم السبت في البرتغال / ترجمة: صالح الرزوق

 

حينما سمعت واحدة من المحررات في دار نشر أمريكية أنني سأتوقف في لشبونة وأنا في طريقي إلى فرنسا، قالت لي:"سأعطيك رقم هاتف ميغيل دي ألبيريا. لو احتجت لشيء سيسره مساعدتك". وكما سمعت هو يعمل في دار نشر أو في الطباعة. شيء من ذلك. ولكن لم يخطر لي أنني سأحتاج لمعونته. كنت أمتلك كل المقومات الضرورية لنجاح الرحلة: جواز سفر، شيكات سياحية، وحجز في فندق. مع ذلك، كتبت المحررة الاسم ورقم الهاتف في دفتر ملاحظاتي. والذي كان مزحوما بأسماء لم أعد أتعرف عليها بعد الآن.

وفي أمسية من يوم ثلاثاء في بواكير حزيران رست سفينتي في لشبونة وحملتني سيارة أجرة إلى فندق أبوللو. كانت الردهة ممتلئة بمواطنين من نيويورك وبروكلين. وكانت زوجاتهم، بشعور مصبوغة ووجوه مثقلة بالمساحيق، تدخن السجائر، وتلعبن الورق، وتضحكن وتدمدمن بلا توقف.

أما البنات الصغيرات كن بتنورات قصيرات وتنتظمن بحلقات. بينما الرجال فيقرأن في صفحات الاقتصاد من الهيرالد تريبيون الدولية. نعم، هؤلاء هم قومي. قلت لنفسي. ولو جاء المسيح، عليه أن ياتي من أجلهم لأنهم ليسوا من الأغيار.

حملني مصعد صغير إلى غرفتي في الطابق الأخير، وهي واسعة، مؤثثة تأثيثا معتدلا، وقليلة الإنارة، بأرض حجرية وسرير قديم الطراز مع مسند مرتفع ومزخرف بالنقوش.

فتحت النافذة ورأيت حجارة السقف والقمر الأحمر. يا له من شيء غريب-- كان ديك يصيح في الجوار.

لم أسمع ديكا يصيح لهذه الفترة الطويلة التي تقديرها عند الله. وترنيمته ذكرتني أنني في أوروبا مجددا، حيث يتواجد معا القديم والجديد. من النافذة المفتوحة تنسمت أنفاسا منعشة نسيت نكهتها في سنواتي الأمريكية. كانت منعشة كالحقول. لها رائحة وارسو وبيلغوراي وشيء آخر غير محدد. وكان يبدو أن الهدوء يصدر صوتا رنانا، ولكن من الصعب أن تقول إنه يأتي من خارج أو من ضمن أذني. وتصورت أنني سمعت نقيق الضفادع وأزيز صراصير الليل.

أردت أن أقرأ ولكن لم تتوفر إضاءة مناسبة لذلك. استحممت في المغطس وكان طويلا وعميقا. ونشفت نفسي بمنشفة بحجم ملاءة السرير. ومع أن الإشارة فوق المدخل تشير إلى أن الفندق درجة أولى، لم يوفر لنزلائه الصابون. أخمدت المصباح واستلقيت على السرير. كانت الوسادة عالية ومنفوخة. وفوق النافذة المفتوحة حامت نفس النجوم التي هجرتها من خمسة وثلاثين عاما مضت حينما وصلت إلى نيويورك. وفكرت بالعدد الذي لا يحصى من النزلاء الذين قطنوا في هذا الفندق القديم قبلي، الرجال والنساء الذين ناموا على هذا السرير العريض. ربما بعضهم لقي حتفه من فترة. من يعلم، ربما أرواحهم أو بقايا وجودهم الأسبق تحوم في هذه الغرفة. واحتدمت المياه في أنابيب الحمام. وصرّت خزانة الثياب العريضة. وأزت بعوضة يتيمة ورفضت أن تمتنع عن ذلك حتى امتصت قطرة من دمائي. وهكذا استلقيت بتمام وعيي جاهزا لزيارة من عاشق الأموات.

وحوالي الساعة الثانية سقطت بالنوم واستيقظت في الصباح مع صياح نفس الديك (تذكرت نغماته) والأصوات القادمة من شارع السوق. على الأغلب هي نداءات لبيع الخضار والدجاج والفواكه. وتعرفت على تلك النداءات: تلك هي الطريقة التي يتعاركون بها ويحتكون ببعضهم البعض في بازار ياناش وفي ساحات ميروفسكي بالاس. وأعتقد أنني شممت رائحة روث جواد، وبطاطا طازجة، وتفاح غير ناضج.

افترضت أن أنتظر في الفندق حتى يوم الأحد. ولكن أعلم الآن أن مكتب السفريات في نيويورك حجز الغرفة ليومين فقط. فالعديد من الأميركيين يتوافدون ويصلون. وأبلغني موظف الحجوزات أنه علي أن أغادر قبل ظهر يوم الجمعة.

طلبت منه أن يجد لي غرفة في فندق بديل، ولكنه أصر أنه حسب معرفته كل الفنادق في لشبونة مشغولة عن بكرة أبيها. وقد حاول تدبير بعض الغرف لنزلاء آخرين لكنه لم ينجح. كانت الردهة تزدحم بالأمتعة وتخيم عليها ضجة الأمريكيين والإيطاليين والألمان، وكل جماعة ترطن بلغتها. ولذلك لم أجد طاولة شاغرة في المطعم. لم يكن هناك أحد يهتم بي أو بشيكاتي السياحية. ونظر العاملون لي ببرود وعدم اكتراث. ولو اعتمدت على خدماتهم لا شك سأبيت الليلة في الشارع على الرصيف.

وتذكرت أن المحررة التي تنقح كتاباتي سجلت لي اسما في دفتر الملاحظات. انشغلت في البحث عنه لنصف ساعة ولكن لم أوفق بالعثور عليه. هل طار من الدفتر بواسطة قوة سحرية، أم أن المحررة لم تسجله فعلا وبدلت رأيها؟. ثم وقعت عيني عليه في هامش أول صفحة. صعدت إلى غرفتي، وحملت السماعة، وانتظرت فترة طويلة حتى يرد عامل المقسم. ووصل لي الخط، ولكن الرقم كان خطأ فادحا. وتلقيت توبيخا بلغة برتغالية من شخص لا أعرفه فاعتذرت منه بالإنكليزية. وبعد عدة اتصالات مغلوطة أفلحت بطلب الرقم الصحيح. وحاولت امرأة قدر إمكانياتها أن تتهجأ لي شيئا ما باللغة البرتغالية. ثم استعملت لغة إنكليزية مكسورة وقدمت لي رقما يمكنني أن أجد فيه سينيور ميغيل دي ألبيريا.

ومجددا رد شخص خطأ. وانتابني الغضب ضد أوروبا التي لم تحتفظ بالأساليب القديمة ولم تفهم الأساليب الجديدة. وهاجت أعصابي الأمريكية وأقسمت أن أنفق كل قرش معي داخل الولايات المتحدة الأمريكية من الآن وصاعدا. في نفس الوقت، كان لا بد من الاتصال بميغيل دي ألبيريا. وابتهلت للرب أن أنجح بمسعاي. وكما هو الحال حين أتورط بمشكلة، أقسمت أن أتبرع ببعض النقود للأعمال الخيرية والإحسان.

حصلت على الرقم. كان سينيور دي ألبيريا يتكلم بالإنكليزية التي لا أفهمها إلا بمشقة. وأخبرني أن محررتي كتبت له رسالة، ووافق على الحضور فورا. وغمرني الإمتنان لبروفيدانس، محررتي، وللبرتغالي ميغيل دي ألبيريا، والذي كان في منتصف اليوم جاهزا لتأدية مشاغله والحضور لرؤيتي بسبب رسالة التوصية التي استلمها. هذا ممكن في أوروبا فقط. ولا يوجد أي أمريكي، وأنا ضمنا، مستعد للقيام بمهام من هذا النوع.

لم أضطر للانتظار طويلا. سمعت نقرة على الباب. ودخل رجل يبدو في بواكير الأربعينات من العمر، ببنية خفيفة، رقيق، داكن، مع جبين عريض وخدين غائرين. ولبعض الوقت لم ألاحظ خصاله. يمكن أن يكون مولدا، أو إيطاليا، أو فرنسيا أو يونانيا. وله أسنان غير منتظمة وتحتاج لعناية سنية. ويرتدي بذة رمادية روتينية مع ربطة عنق يمكن أن تراها في نوافذ المخازن في دستة من المدن. مد لي يده بالطريقة الأوروبية وضغط على يدي بليونة. وحينما سمع عن مشكلة غرفتي في الفندق قال:" لا تقلق. توجد وفرة من الغرف الشاغرة في لشبونة. ولو أنها أردأ مما أتوقع سأستضيفك في بيتي. دعنا الآن نذهب لغداء مشترك".

"إذا سأدعوك على وجبة منتصف اليوم".

"أنت تدعوني؟ في لشبونة يحدر بي أن أكون مضيفك. ولكن بوسعك أن تستضيفني في نيويورك".

أمام الفندق دخلنا في واحدة من تلك السيارات الصغيرة والمتواضعة التي يستعملها معظم الأوروبيين. وعلى المقعد الخلفي، بين علب بطاقات اللعب وأوراق جرائد بالية، رأيت علبة طلاء. جلست بقرب مضيفي سينيور ميغيل دي ألبيريا الذي أظهر مقدرة وبراعة في المناورة بسيارته الصغيرة بين زحمة مرور غير منتظم زاد من غلوائه غياب إشارات المرور في طرقات ضيقة تتخلل الهضاب. وبين بيوت ربما شيدت قبل الهزة الأرضية عام ١٧٥٥. رفضت سيارات الآخرين إفساح الطريق لنا. وكان المشاة يتمهلون في إخلاء الشارع. وهنا وهناك توجد قطة أو كلب في إغفاءة في الشارع. نادرا ما كان السينيور دي ألبيريا ينفخ بالنفير، ولا يبدي غضبه. وأثناء القيادة سألني عن رحلتي وخططي، ومتى ولماذا أصبحت نباتيا، وهل أتناول البيض والحليب.

وأشار إلى نصب تذكارية وبنايات قديمة وكنائس منطقة ألفاما. ثم دخلنا في زقاق بالكاد يتسع عرضه لسيارة واحدة. جلست فيه نساء غير أنيقات ورجال مسنون أمام أبواب مفتوحة؛ بينما أولاد لا يوجد من يرعاهم يلعبون بالهوامش. وحمامات تنقر من خبز يابس قذر. توقف سينيور دي ألبيريا في باحة. وتبعته إلى ما يبدو أنه مطعم من الدرجة الثالثة. ولكن تابعنا المسير إلى صالة طعام واسعة الأرجاء لها نوافذ سقفية للإضاءة وطاولات مرتبة. وكانت الرفوف تحمل صفا من قوارير مع حوجلات مغطاة بالقش لها أشكال قوطية. وأبدى السينيور دي ألبيريا اهتماما بحميتي وشعرت أنه بالغ باهتمامه. هل أفضل الجبنة، والفطر، والقرنبيط، والبندورة، وما هونوع السلطة المحبذ، وأي نبيذ أحب، الأبيض أم الأحمر؟. وواصلت الإصرار أنه لا لزوم لكل هذه الاحتياطات لا حول شخصيتي ولا غذائي. في نيويورك أنا أجلس على كرسي مرتفع وأتناول الغداء في عشرة دقائق. ولكن ألح السينيور دي ألبيريا. وطلب مائدة، وحينما حاولت أن أدفع علمت أنه تصرف بهذا الشأن وقام بالواجب.

وفي يوم الجمعة في الساعة الحادية عشرة صباحا جاء السينيور دي ألبيريا بسيارته الصغيرة إلى فندقي، وساعدني بتحميل أمتعتي، وقادني إلى فندق أصغر كانت نوافذه بمواجهة حديقة. كان لغرفتي شرفة وكلفتني أقل من نصف تسعيرة سابقتها في أبولو. تمددت مستيقظا طوال هزيع من الليل في محاولة لتخمين أسباب هذه العناية اللطيفة بالظاهر من غريب في لشبونة يستقبل كاتبا يكتب باليديش وجاء من نيويورك.

2

كلا، لا يمكن لسينيور دي ألبيريا أن يربح شيئا من زيارتي إلى لشبونة. من المؤكد أن له علاقات مع دار للنشر، ولكن أعمالي باللغة البرتغالية ستظهر في ريودي جانيرووليس لشبونة. وقد قابلته محررتي بالصدفة ولم ترتبط معه بعمل. وبعد أسئلة وجهتها إليه وبعد ما فهمته من حواري معه، تشكلت عندي قناعة أنه ليس غنيا. ولديه عملان، فالنشر لا يكفيه لتأمين مستوى حياة لائقة. كان يعيش في بيت قديم، ولديه ثلاثة أطفال، وزوجته تعمل بالتدريس في مدرسة ثانوية. وقد قرأ واحدا من كتبي بترجمة إنكليزية ولكن لا يمكن أن يكون هذا هو السبب المبرر لكرمه. وأشار أنه غالبا ما يتعامل مع كتّاب ولكنه لا يحتفظ لهم في ذهنه بالتقدير.

في يوم السبت نويت أن أشترك في جولة بحافلة معها دليل سياحي. ولكن ألح السينيور دي ألبيريا على أن يكون هو دليلي. وجاء إلى فندقي في الصباح وقادني بجولة في السيارة لعدة ساعات. وعرفني على قلاع أثرية متهدمة. وحدائق عامة تقف فيها أشجار هرمة. وذكر لي أسماء عصافير وزهور غريبة. وأثبت لي أنه مطلع على التاريخ البرتغالي والإسباني من خلال مناقشته لهما. ومن وقت لآخر سألني أسئلة مثل: ما هو الفرق بين الييديش والعبرية؟. ولماذا لم أستقر في إسرائيل؟ وكان يبدو كأنه يهتم بديانتي اليهودية؟.

وهل أتبع معبدا معينا؟ وهل إن حميتي النباتية لها علاقة بالدين؟. لم يكن من السهل أن أشرح يهوديتي للسينيور دي ألبيريا. وما أن أجيب على واحد من أسئلته حتى يوجه لي سؤالا غيره. كان النقاش معه أمرا صعبا لأنني لم أفهم إنكليزيته إلا بشق النفس، على الرغم من غناه بالمفردات.

وأخبرني سلفا أنه عليّ أن أتناول الوجبة الأساسية في بيته وبهذه الطريقة يقدمني لأفراد عائلته. وحينما رغبت بالوقوف لشراء هدية لهم، لم يتجاوب معي. وفي سينترا تدبرت شراء ديكين معدنيين من البرونز بالرغم من اعتراضه وبهذه الهدية وصلنا إلى بيته في السابعة مساء.

تسلقنا سلما ضيقا وحلزونيا في بناية ربما كانت ذات يوم قصرا ولكنه يتداعى الآن. وفُتح باب ثقيل منحوت أظهر امراة بجلد زيتوني اللون ترتدي ثوبا أسود وشعرها مربوط بشكل عقدة.

لا بد أنها كانت جميلة في شبابها، ولكن بقيت آثار منه الآن. كانت يداها باليتين من العمل المنزلي، وكانت بلا مساحيق، وتفوح منها رائحة الثوم والبصل. وسقط ثوبها لتحت ركبتيها، ولها أكمام طويلة وقبة عالية. وحينما قدمت لها الهدية، احمرت من الخجل كما كانت النساء تفعل في أيام صباي وطفولتي. وعبرت عيناها السوداوان عن الارتباك والتواضع ولم أكن أعلم أن هذا لا يزال موجودا. كانت تشبه إيستير محبوبتي الأولى، والتي لم أجرؤ على أن أطبع قبلة على وجهها، والذي أعدمه النازيون بالرصاص في عام ١٩٤٣.

قدم لي السينيور دي ألبيريا بقية أفراد عائلته، بنت في الثامنة عشرة، وصبي أصغر منها بسنة واحدة، وصبي آخر في الثالثة عشرة. كلهم ببشرة زيتونية وعيون سود. وبعد قليل دخلت إلى غرفة المعيشة بنت شقراء. وأخبرني السينيور دي ألبيريا أنها ليست ابنته. ففي كل عام تدعو زوجته إلى البيت إحدى البنات الريفيات الفقيرات ممن أتين إلى ليشبونة للدراسة. كما كان يحصل في أيامي حينما يستضيفون أولادا فقراء جاؤوا للدراسة في يشيفا. يا إلهي، الزمان توقف عن الدوران في هذا المكان. التزم الأولاد بشكل لا يصدق بالهدوء وأبدوا نوعا من الاحترام للبالغين بالطريقة التي تربيت عليها. ويبدو أن السينيور دي ألبيريا هوالحاكم المطلق في البيت.

كان أولاده يهرعون لتنفيذ أدنى أمر منه. وأحضرت لي الابنة إناء نحاسيا لأغسل يدي. ووضبت لي عائلة ألبيريا وجبة نباتية. ومن الواضح أنهم كونوا فكرة أن نباتيتي لها علاقة بالأوامر والنواهي الدينية. ورأيت على الطاولة رغيفا من الخبز المقطع، وإنبيقا من النبيذ. وكأسا من النوع الذي يستعمله والدي للصلاة. ها هي تقاليد يوم السبت التي تناسيتها من سنوات عادت لي في بيت غير يهودي في ليشبونة.

ومع مرور الوقت الذي أمضيناه على الطاولة، لم ينطق الأولاد بكلمة واحدة. جلسوا منتصبي القامة وصامتين، ومع أنهم لا يفهمون الإنكليزية أصغوا بانتباه لكلامنا. وتذكرت تعليمات والدتي: على الأولاد أن يلتزموا الصمت حينما يتكلم الكبار. وأعانت البنت السينيور دي ألبيريا في إعداد المائدة. وتابع السينيور دي ألبيريا اهتمامه بمتطلبات يهوديتي. وسأل عن الفرق بين الأشكيناز والسفارديم؟.

وهل يتم التواصل مع اليهود لو عادوا إلى المانيا؟. وهل يوجد مسيحيون في إسرائيل؟

وتشكلت عندي فكرة أن السينيور دي ألبيريا يحاول أن يخفف من أخطاء محاكم التفتيش، وآثام التوركويمادا، وعنف البرتغاليين. وترجم إجاباتي إلى البرتغالية من أجل زوجته. وبدأت أشعر بالضيق، وأنا أتجاوز أو أغش ثقة هؤلاء الناس الدمثين لأنني أتظاهر أنني يهودي مطيع ومؤمن. وفجأة وضع السينيور دي ألبيريا قبضته على الطاولة وأعلن بصوت مباشر:" أنا أيضا يهودي".

"آه".

" من فضلك انتظرني لحظة".

نهض وغادر الغرفة. وبعد قليل عاد مع علبة صغيرة الحجم مصنوعة من خشب أسود، أنتيكا لها بابان مسدلان. فتحهما وأخرج كتابا بأغطية خشبية ووضعه أمامي. كانت مخطوطة عبرية مكتوبة بحروف راشي*. وقال:"واحد من أجدادي كتب هذه. منذ ما ينوف على ستمائة عام مضت".

ساد هدوء أعمق من قبل على الموجودين. وبدأت بتقليب الصفحات بحذر، ومع أنها مهترئة، كان بمقدوري قراءة النص. وبعد مهلة جلب لي السينيور دي ألبيريا عدسة مكبرة. كان كتاب حكايات. قرأت فيه عن امرأة مهجورة شوهد زوجها في النهر وأنفه مجدوع وعن رجل خطط للزواج من بنت خادمة بمهر يبلغ قطعة معدنية من النقود، ولكن قبل أن يتلو لربه "كوني لي كما ورد في تعاليم موسى وإسرائيل" ألقت القطعة النقدية بعيدا بكبرياء. كل كلمة، وكل جملة في تلك الرقاقة القديمة كانت معروفة عندي بكل حذافيرها. فقد قرأت نفس التعاليم في كتب غير هذا. ولاحظت هنا وهناك أخطاء ارتكبها الناسخ المجهول.

راقبتني العائلة وانتظرت كلمتي النهائية وكأنني أقرأ الهيروغليفية أو رقما أثرية. وسال السينيور دي ألبيريا:" هل تفهم ما تقرأ؟".

" أخشى أنني لا أفهم أي شيء غير هذا".

" كتبها واحد من أجدادي، ولكن ما معناها؟".

حاولت أن أفسر له. فأصغى وهز رأسه ثم نقل ما أقول لأفراد عائلته. بعد عصور من الغياب ها هو السينيور دي ألبيريا يتابع مع تقاليد المارانوس، يهود اسبانيا والبرتغال الذين دخلوا في المسيحية ظاهريا بينما كانوا في أعماقهم من المؤمنين اليهود، لقد كانت لديه علاقة خاصة مع إله اليهود.

والأن ها هو يدعو يهوديا إلى بيته الذي لا يزال على اطلاع على اللسان المقدس وبإمكانه فك شفرة كتابات أجداده. لقد كان معه تذكار من السبت. وحسب علمي إن الاحتفاظ بكتاب من هذا النوع في العصور القديمة تصرف خطير ويوجب المسؤولية؛ لو وجدوا سطرا واحدا بالعبرية في بيت إنسان يتعرض لمحنة. ومع ذلك، أن هذا الأثر من الماضي قد عاش لعدة قرون.

"نحن لسنا يهودا أنقياء. ولكن أتينا من تعاقب أجيال كاثوليكية. والشرارة اليهودية لا تزال في داخلنا. حينما اقترنت بزوجتي أخبرتها بأصولي، وعندما كبر الأولاد كشفت لهم عن السلالة التي انحدرت منها. وابنتي ترغب بزيارة إسرائيل. وأنا شخصيا أود لو أستقر هناك، ولكن كيف أتصرف؟. أنا كبير جدا وفاتني وقت الانتساب إلى-- ماذا تسميه-- الكيبوتز. غير أن ابنتي تستطيع أن تتزوج يهوديا".

"يهود إسرائيل ليسوا كلهم متدينين".

"ماذا يمنع؟ حسنا، أنا أفهمك".

"الإنسان المعاصر يشك بطبعه".

"شيء طبيعي، ولكن لن أتخلى عن هذا الكتاب أبدا. لذلك اختفت عدة أمم من الوجود واليهود لا زالوا يعيشون ويعودون لموطنهم؟ ألا يبرهن ذلك أن الكتاب المقدس صحيح".

" من وجهة نظري نعم".

" وحرب الأيام الستة معجزة. معجزة على وجه الإطلاق. شركتي طبعت كتابا عن هذا الموضوع وقد لاقى رواجا بالمبيعات. يوجد عدد قليل من اليهود في لشبونة، لاجئون من أيام هتلر وسواه. وزارنا وفد من إسرائيل".

دقت ساعة قديمة ببندول عملاق تعلن التاسعة. نهضت البنت وحملت بهدوء الأطباق من الطاولة. ومد لي واحد من الصبيين يده وودعني. وأعاد السينيور دي ألبيريا الكتاب القديم إلى علبته. وحل الظلام لكنهم لم ينيروا الكهرباء. وفهمت أن هذا من أجلي. ولربما قرأ الرجل وزوجته في أحد الأماكن أنه لا يجوز إضرام الضوء في أيام السبت حتى ظهور ثلاثة نجوم في كبد السماء. وامتلأت الغرفة بالظلام. وغمرني غسق السبت بمعناه القديم والمؤسي وتذكرت صلاة أمي "يا إله إبراهام".

ولبثنا صامتين لفترة طويلة. وفي الضياء الكليل بدت المرأة أكثر شبابا وتشبه إستير. دققت عيناها السوداوان النظر بي مباشرة، باستفسارات صامتة وحائرة، كما لو أنها، أيضا، تتعرف بصورتي على شخص من الماضي. يا إلهي، أنها إيستير، نفس القوام، الشعر، الجبين، الأنف، الحنجرة. وتخللتني رجفة. واستيقظ غرامي القديم. لقد عادت إيستير!. الآن فقط أدرك لماذا قررت المرور بالبرتغال، ولماذا قبل السينيور دي ألبيريا مساعدتي بهذا الاندفاع. من خلال هذين الزوجين رتبت إيستير لقاء عاطفيا معي.

جلست في مكاني ملتاعا، وأنا أشعر بتواضع هؤلاء الذين يطيعون بروفيدانس ويقدمون لها العون. وبالكاد كبحت نفسي من الهجوم عليها، والسقوط أمامها على ركبتي، وغمرها بالقبلات. لم تكن تتكلم إلا قليلا. في اللحظة التي تكلمت فيها جاء صوت إيستير. وسألتني سؤالا بالبرتغالية. ولكن له نبرة ورعشة اليديش بلكنة إيستير. وتصورت أنني فهمت كلماتها حتى قبل الترجمة.

" هل تؤمن بانبعاث الأموات؟".

وسمعت صوتي يقول:" ولكنهم لا يموتون أبدا".

 

.....................

الترجمة إلى الإنكليزية: الكاتب وهيربيرت ر. لوتمان

* حروف هندية للتنبؤ بالأفلاك.

إسحق بوشفيز سنغر Isaac Bashevis Singer: كاتب أمريكي من أصول بولونية. يهودي ويكتب بالييديش. وحائز على جائزة نوبل. وهذه القصة من مجموعته ( عواطف وقصص أخرى).

في نصوص اليوم