ترجمات أدبية

شيري وبراندي

صالح الرزوقبقلم: فارلام شالاموف

ترجمة: د. صالح الرزوق

 

كان الشاعر يحتضر. ويداه الضخمتان، المنتفختان من المجاعة، بالأنامل الشاحبة والأظافر المغبرة والطويلة والمعوجة، قد استقرتا على صدره، بالرغم من البرد القارس. قبلئذ كان يعقدهما فوق جسمه العاري، ولكن هذا الجسم لا حرارة فيه تقريبا. فقفازاه تعرضا للسرقة من زمن بعيد. السرقة لم تكن عارا، واللصوص يعملون في وضح  النهار. كان زجاج المصباح الكهربائي الخفيف مغطى بنفايات الذباب وملفوفا بشبكة معدنية، ومثبتا على ارتفاع قريب من السقف. سقط النور على قدمي الشاعر. كان يستلقي كأنه في تابوت بعمق طبقات الظلام الذي يخيم على الصف الأسفل من سلسلة الحجرات الخانقة المتوالية في مبنى من طابقين.

ومن حين لآخر كانت أصابعه تتحرك وتفرقع مثل الكستناء، وهي تبحث عن زر وعروة وثقب في الجاكيت، أو لينفض بعض البقع المترسبة، قبل أن تخمد مجددا. استغرق الشاعر زمنا طويلا ليموت ولم يعد يستوعب أنه بمرحلة الاحتضار فعلا. وأحيانا بعض الأفكار البسيطة والمؤثرة تشق طريقها المرتبك واليائس داخل دماغه: مثلا إنهم سرقوا الخبز الذي أخفاه تحت رأسه. وهذه الفكرة المقلقة أحرقته كثيرا ودفعته ليخاصم ويشتم ويقاتل ويبحث ويدخل في جدال عقيم.  ولكن لم يكن لديه قوة ليفعل ذلك، وتلاشت أفكاره عن الخبز... وبدأ الآن يفكر بشيء آخر: الجميع ذهب برحلة في البحر، وتأخرت السفينة وهو محظوظ لأنه لم يرافقهم. وسبحت فكرة في رأسه عن وحمة كبيرة في وجه عريف الثكنة. وكان في الأربع والعشرين ساعة الأخيرة لا يفكر إلا بوقائع حياته هنا.  أما الصور التي كان يراها فهي ليست من أيام طفولته وشبابه أو مراحله الأساسية. كل حياته كان متسرعا للوصول إلى مكان ما. الرائع الآن أنه لا حاجة للسرعة، وأنه بمقدوره أن يفكر ببطء. ثم فكر بروية بالمعنى المستتر لفراش الموت وحركاته، إنه شيء لاحظه الأطباء ووصفوه قبل الفنانين والشعراء. فملامح المنافقين، قناع الموت عند الإنسان، معروفة عند كل طالب طب. هذا المجاز الغامض لحركات فراش الموت حرض على معظم فرضيات فرويد. المجاز والتكرار هما الأساس للعلوم. فقد اهتم بالجوانب المميزة من الموت الشعراء قبل الأطباء. ومن دواعي السرور أن تعلم أنه كان قادرا على التفكير، فقد اعتاد من فترة طويلة على الغثيان من الجوع. وكل شيء كان على قدم المساواة: النفاق، العريف ذو وحمة الولادة، وأظافره القذرة.كانت الحياة تندحر وتتدفق داخله: كان يموت. ولكن الحياة لم تتوقف عن العودة. فتح عينيه، وظهرت أفكاره. فقط الرغبات فشلت في الظهور. كان يعيش لفترة طويلة في عالم يعود فيه الناس إلى الحياة- بالتنفس الصناعي، الغلوكوز، الكافور، الكافيين. الميت يصبح حيا، ولم لا؟. لقد آمن بالخلود، بالخلود الإنساني فعلا. وفكر غالبا أنه ببساطة لا يوجد أسباب بيولوجية تمنع الإنسان من الحياة للأبد.  التقدم بالعمر مرض له علاج. وإن لم تكن هذه هي الحالة فهو لا يزال سوء تفاهم تراجيدي لا حل له. ويمكن أن يستمر للأبد. أو على الأقل حتى تتعب من الحياة. ولكنه لم يتعب من الحياة أبدا. وهذا شأنه حتى في هذه الثكنة الترانزيت، الترانزيتكا، كما أحب سكانها أن يقولوا عنها. هذا المعسكر الترانزيت هو من سلالة مقصورات الرعب، ولكنه ليس الرعب نفسه. وبالعكس، هناك روح حرة حية، وبمقدور الجميع أن يشعروا بذلك. المعسكر لم يئن أوانه، والسجن هو جزء من الماضي. وما هو فيه "حالة سلام وشيك ويلوح في الأفق"، والشاعر يتفهم ذلك. ولكن هناك ممر مختلف إلى الخلود، كما قال تايوتشيف: الحائز على النعمة هو الذي سيزور هذا العالم في أشد لحظاته هلاكا وفناء. ولكن إذا كان من الواضح أن قدره أن "لايكون خالدا بشكله الإنساني، ككيان محسوس، فعلى الأقل كسب الخلود الخلاق. فقد حصل على لقب أعظم شعراء روسيا في القرن العشرين، وغالبا ما يخامره الإحساس أن هذا صحيح. كان مؤمنا بالقيمة الأبدية لشعره. شعره الذي لا يموت. ليس لديه تلاميذ، ولكن هل يأاقلم الشعراء مع الأتباع والتلاميذ؟. كتب النثر أيضا، - النثر السيء- وكتب المقالات. ولكن في القصيدة فقط وجد أشياء جديدة وهامة كما كان يفكر دائما. وعموم حياته السابقة كانت عبارة عن أدب وكتب وحكايات خرافية وأحلام، وحياته الحالية وحدها تدخل في مضمار الواقع. كل هذه الأفكار التي طرأت على ذهنه كانت صامتة، ولا يطالها العلن، تتحرك في طيات ذاته من الداخل. لم يكن لديه قدرة كافية لمثل هذه التأملات. واللامبالاة استحوذت عليه من عهد طويل.

كم هي تافهة، مثل فأر يلهو، بالمقارنة مع وزن الحياة الثقيلة. واستغرب من نفسه. كيف يمكنه التفكير بهذه الطريقة حول القصائد في حين أن كل شيء انتهى، وهو يعلم ذلك فعلا، وأكثر من سواه؟. من يحتاج له هنا ومن يهتم له؟. ولكن لماذا عليه أن يمر بكل ذلك وأن ينتظر... عموما في النهاية أدرك المعنى. في اللحظة التي تدفقت فيها الحياة بجسده وفي عينيه نصف المفتوحتين بدأ فجأة يرى، وارتعش جفناه وانتفضت أصابعه، ثم استعاد ذكريات لم يعتقد أنها آخر ما سيأتي في ذهنه. جاءته الحياة دون طلب، مثل سيدة واثقة من نفسها في هذا البيت. فهو لم يتقدم بدعوة لها، ولكنها لا تزال تنهمر على جسده ودماغه، كانت تأتيه مثل قصائده، مثل إلهامه. وانكشف له معنى تلك الكلمة لأول مرة بكل مضمونها. كان الشعر هو قوة الحياة التي تستبقي على حياته. هذا كل شيء. فهو لا يعيش من أجل الشعر، ولكن يتنفسه ويعيش به. والآن كل شيء واضح ومسموع، فالإلهام يتساوى مع الحياة. وعلى شفا الموت كان مسموحا له أن يفهم أن الحياة هي الإلهام، الإلهام فقط. وكان مسرورا أنه مسموح له استيعاب هذه الحقيقة النهائية. كل شيء وكل العالم كان يقارن بالشعر، العمل، صوت حوافر الحصان، البيت، العصفور، الصخرة، الحب - كل الحياة وجدت طريقها بسهولة إلى الشعر واستقرت فيه بطمأنينة. وهكذا يجب أن يكون. فالشعر هو الكلمة. حتى في هذه اللحظات تتطور الأبيات الشعرية بسهولة، الواحد بعد الآخر، ومع أنه لم يكتب شيئا لفترة طويلة، وليس بمقدوره كتابة  قصيدته، لا زالت الكلمات تنهمر بلا جهد بإيقاع مقرر سلفا، ودائما هو إيقاع غير معتاد. 

كان الوزن هو أداة البحث، الأداة المغنطيسية التي تجذب خلال البحث الكلمات والمعاني.  كل كلمة كانت جزءا من العالم، وتستجيب لموسيقا الشعر، وكل العالم يهرول بسرعة آلة الكترونية. كل شيء يصيح : "خذني!.لا أحد فقط أنا". ولم يكن عليك أن تهتم بأي شيء. عليك أن ترفض فقط. ويبدو أن شخصين هنا، الذي يكتب، والذي يقود العجلة بأكبر سرعة، والآخر الذي يقرر ويختار ومن حين لآخر يوقف الآلة التي تحركت بأمر من الأول. وحين رأى الشاعر أنه اثنان، أدرك أنه يكتب الآن قصيدة حقيقية. ما الضير في أنها ليست مكتوبة على الورق؟. التدوين والطباعة هو كبرياء في حدوده القصوى. والأفضل هو غير المكتوب، الذي يختفي بعد تأليفه، الذي يتلاشى ولا يترك أثرا وراءه. السعادة الإبداعية التي غمرته، والتي لا يمكن أن تخطئ بها، تثبت أن القصيدة قد وجدت، أن شيئا إبداعيا أصبح موجودا. هل يمكن أن تخطئ بهوية ذلك؟. وهل سعادته الإبداعية غير حقيقية؟.و تذكر كم كانت آخر قصائد ألكسندر بلوك سيئة ومشوشة، وأنه من الواضح أن بلوك كان غافلا عن هذه الحقيقة. وأجبر الشاعر نفسه على التمهل. التأمل هنا أسهل من أي مكان آخر في لينينغراد أو موسكو. عند هذه المرحلة أدرك فجأة أنه لم يفكر بأي شيء لبعض الوقت. فالحياة تنحسر مجددا. ولساعات طويلة استلقى هامدا بلا حركة، ثم بغتة شاهد أمامه شيئا يشبه دريئة أو خريطة جيولوجية.؟.ومهما كان ذلك فهو صامت. ولم تثمر جهوده لإدراك ما يعنيه عن شيء. فقد مر زمن طويل قبل أن يفهم أنه مشغول بالنظر في أصابعه، ولكن أطراف أصابعه لا تزال تحمل أثرا من اللون البني الناجم عن حرق السجائر الرخيصة التي دخنها، والتي كان يحرقها حتى تنتهي. الألواح كانت تحمل علامات مجهرية كأنها خريطة لتضاريس جبال. وكل الأرقام العشر لها نفس الطراز من دوائر متداخلة، كأنها حلقات نمو في جذع شجرة.

وتذكر في إحدى المرات من طفولته أن صينيا يعمل بالغسيل اعترض طريقه فيي الشارع، كان يعمل كان يعمل في مغسلة مكانها قبر منزلي، وهناك ترعرع وكبر. قبض الصيني  على يده بعفوية، ثم الثاني، ورفع راحته إلى الأعلى وصاح بعصبية بلغته. وتبين له أنه يبلغه عن حظه في الأيام القادمة. فالعلامات المرسومة على يده تدل على ذلك. والشاعر يتذكر غالبا هذه العلامة التي تشير لحظه الطيب. وبالأخص حينما طبع كتابه الأول. والآن ها هو يتذكر الصيني دون ضغينة أو سخرية. فهو لم يعد يحفل بشيء مهما كان.

أهم شيء أنه لم يمت بعد. ما معنى أن تقول"مات وهو شاعر؟". لا بد من شيء طفولي و ساذج حول الموت. أو هل هناك شيءمخطط له مسبقا، مسرحية مثلا، مثل موت إيسنين وماياكوفسكي."مات وهو ممثل". هذا شيء له معنى. ولكن ما معنى أن تقول :"مات وهو شاعر"؟. نعم، لديه علاقة بما ينتظره. فمعسكر الترانزيت منحه الوقت ليفهم ويخمن الكثير من الأشياء. وهو مسرور، سعيد حقا بهذه الحالة الخامدة، وهو ينتظر موته. وتذكر جدلا دار في السجن من أيام بعيدة: ما هو الأسوا والأكثر رعبا: المعسكر أم السجن؟.  لا أحد يعرف شيئا فعلا، فالجدال كان تكهنيا، وكم هي مؤسفة ابتسامة إنسان أودع السجن نقلا من المعسكر. الشاعر لن ينسى ابتسامة ذلك الإنسان. وهويخاف جدا من تذكرها. فكر كيف سيخدع بمهارة الشخص الذي جاء به إلى هنا. هذا إن مات الآن. سيتلف أثر السنوات العشرة كلها. فمن سنوات قليلة كان في المنفى، ثم علم لاحقا أنه سيكون بشكل دائم في قائمة خاصة. بشكل دائم؟. المعايير تبدلت، والكلمات تحمل معان جديدة. وشعر بموجة قوة أخرى تتدفق، مثل مد بحري قادم. موجة مرتفعة لعدة ساعات، يتبعها انحسار وجزر. ولكن البحر لا يهجرنا للأبد. إنه دائما مستعد للعودة.. وفجأة انتابه الجوع، ولكن لم تكن لديه القوة للحركة. وببطء وصعوبة، تذكر أنه اليوم تخلى عن حسائه لجاره، وأن فنجانا من الماء الحار هو كل ما اقتات به في آخر أربع وعشرين ساعة، بغض النظر عن الخبز، طبعا. ولكن هذا الخبز قديم، قديم جدا. وخبز الأمس تعرض للسرقة. لا يزال هناك شخص لديه المراس ليسرق. وهكذا استلقى، براحة ودون أفكار، حتى حل الصباح. اشتدت صفرة الضوء الكهربائي قليلا، وأحضروا الخبز بصينية من الخشب المضاعف، كما يفعلون يوميا. ولكنه ليس مضطربا الآن، ولم يكلف نفسه عناء محاولة اقتناص قطعة من قشرة الخبز، ولن يبكي إذا استولى على القشرة شخص آخر. ولم تتمكن أصابعه المرتجفة من التعامل مع ثقل الخبز وهو يحمله إلى فمه، وسريعا ذاب في فمه، وكل كيانه شعر بطعم ورائحة خبز الشيلم المنعش. وذهبت قطعة الخبز من فمه، مع أنه لا يمتلك الوقت لابتلاع أو تحريك فكه. قطعة الخبر ذابت، وتلاشت، وهذه معجزة، إحدى المعجزات التي تقع هنا. كلا، إنه ليس مهتما بهذه اللحظة. ولكن حينما وضعوا حصته في يده، قبض عليها بأصابعه الشاحبة وضغط الخبز في فمه. عض الخبز بأسنانه المحمرة المتهدمة، وبدأت لثته تنزف وتخلخلت أسنانه. ولكنه لم يشعر بالألم. وضغط الخبز في فمه بكل قوته، وامتصه، وفتته، ثم قضم منه... وحاول جيرانه أن يمنعوه. "لا تأكله كله، من الأفضل أن تأكله لاحقا، فيما بعد...". وفهم الشاعر ذلك. فتح عينيه على سعتهما، وأصابعه لم تفلت الخبز المغمس بالدم."ما معنى لاحقا؟". قال بوضوح وبالحرف الواحد. ثم أطبق عينيه. مع حلول المساء كان ميتا. ولكنهم أعلنوا وفاته بعد يومين. ونجح جيرانه الجشعون في تلقي حصته من الخبز ليومين إضافيين. وحينما توزعوه فيما بينهم، كانت يد الميت ترتفع للأعلى مثل يد دمية. ولذلك مات قبل الموعد المذكور، وهذه تفاصيل هامة سوف تغني معلومات كتّاب سيرته في المستقبل.

 

ترجمة: صالح الرزوق

.......................

* وردت في الأصل شيري بريندي، وقد ظهرت من قبل بهذا اللفظ في قصيدة لأوسيب ماندلشتام، ولذلك يجب قراءة القصة وكأنها إعادة كتابة لملابسات موت ماندلشتام، الذي توفي في 27 كانون الأول عام 1938 في كامب ترانزيت قرب فلاديفوستوك.

فارلام شالاموف Varlam Shalamov: كاتب سوفييتي معارض. توفي عام 1982 في موسكو. والقصة فصل من روايته (قصص كوليما).

 

 

في نصوص اليوم