ترجمات أدبية

ابن "ك"

صالح الرزوقبقلم: فيليب تيرمان

ترجمة الشاعر (مع صالح الرزوق)

(حفنة قليلة من الأشخاص تركوا وراءهم أثرا رفيعا مثل أثر هذا الولد، ابن كافكا).. ماكس برود


مبروكMazel tov. علمت بالخبر من تفاصيل

مذكورة على الغلاف الأخير من القصص الكاملة، طبعة شوشكين. جاءه ابن!.

انقر الخشب Kayn anyhora، ولتتجنب العين الشريرة.

ابنتي تغط بالنوم الآن، بعد يوم طويل، ومرح في الباحة،

ورقعة المربعات، والتلوين، ومطاردتي في أرجاء البيت -

أنا، أبوها!. لم أكتب كثيرا اليوم،  ولكن كلما ألقيتها في

الهواء، ينتشر شعرها، وتتسع عيناها،

ويتوهج جلدها، وترفرف يداها مثل طائر، ثم يخمد الهواء،

ويبدو بعد تلك اللحظات القصيرة أن الزمان تجمد تماما.

 

من سوء الحظ أنك لا تعلم مسبقا. اسمح لي أن أخدمك:

ولد في عام 1914 أو 1915. في ميونيخ. ما اسمه؟.

خصاله؟ كيف مات؟ هل كان ضعيفا؟.

غريبا على نحو ما؟ بأذنين ضخمتين؟ رقيقا؟.

هل ينزوي في غرفته؟

ولديه مشاكل في طعامه؟

تحرضه أضعف الأصوات؟ وهل

كان صعب المراس على أمه؟ ويحمل نفورا

لوالده مع قليل من الأفكار السخيفة التافهة؟

 

هذا أنت، طبعا، فلا تشعر بالذنب،

ليست غلطتك، وليس لديك فكرة، مثل الآخرين،

حتى مرت عليك خمس وعشرون سنة، ما عدا، طبعا،

الأم* التي، في 21 نيسان، عام 1940، أعطتك هوية

برسالة - وحقا دون اسم، ولكن من هو “الشخص

العظيم المشهور حتى يومنا هذا” الذي

مات في براغ عام 1924؟. ماذا عن الأم؟.

هل يمكن أن تخمن؟ كنت مسرورا لأنها ذكرت

اسما لأخت الحشرة، أختك، نعم: غريت،

خطيبتك صديقة فيليس، في وساطتها

حينما توقفت المراسلات،

الوحيدة التي وثقت بها، الوسيطة، المراسلة التي عشقتها.

لا تنكر. أعد قراءة رسالتك المؤرخة في 2 أيار عام 1914،

الوقت، بعد الحساب، يصادف احتمال ولادة

الصغير فرانس الابن: لا يمكن أن تكوني مدركة تماما،

ماذا تعنين لي. هكذا كتبت. وهذا كلام من كاتب سمعته

لا تأتي من غزارته: كل تصرفاتك، بالأخص

نظرتك العميقة، لها تأثير، يا فراولين غريت، لها تأثير.

يقول كانيتي إذا قرأ شخص رسائلك إلى فليس

وغريت، المكتوبة غالبا في يوم واحد، جنبا إلى جنبا،

“لا ينتاب هذا الشخص الشك لمن كان يدين بالحب”

ثم ألم ترغب أن تأتي غ معك وبرفقة ف

بعد الزفاف؟. هل يمكن لاثنين مخطوبين أن يفعلا ذلك؟.

وألم تخبر غ  أن علاقتك معها

وراءها احتمالات سعيدة ولا غنى عنها؟.

وألم ترغب من غ أن تنضم إليك أنت و”ف” في غروند؟

وألم تكتب لـ غ عن حنينك وشوقك الفاضح؟.

 

يعتقد ماكس أن التأثير عليك سيكون هائلا،

لن يكون هناك “شيء رغب به بجنون” مثل الأولاد،

أنت “تحن لتكون أبا”، أنت “تقبل بعاقبة المحب”،

وفكر ماكس: ربما سينقذ هذا حياتك.

ولكن ألم تخبر والدك، بتلك الرسالة المعروفة،

أنك لتتزوج، ولتؤسس عائلة، و لتربي

كل الأولاد القادمين للوجود، ولتحميهم

من هذا العالم غير المؤكد، وحتى لترافقهم قليلا بطريقهم

هو أقصى ما يتمناه رجل؟.

ماكس يقول أيضا:”يحن للجلوس قرب مهد له”.

وضعت قلمي جانبا وجلست قرب مهد

طفلة لي ونظرت لذلك اللغز وتساءلت

ماذا تتخيل وهي على الضفة المقابلة من اللغة،

أشكال الماء وهيئة السماء السوداء،

وما تخيلته من هذا الظل الأسود الواسع ألقيته عليها.

لفت يدها الناعمة حول الأصابع التي أكتب بها

وضغطت بقوة طوال المسافة اللازمة لها لتغفو،

كأنها تتمسك بحبل مربوط بهذا العالم،

وتطفو في تلك الأحجية العميقة والتي هي حياتها،

وهو شيء لن أفهمه، مثل شخصين، مهما

كانا متقاربين، أحدهما يفقد الآخر، مثلك أنت، شخص

لا يعرفه أحد حق المعرفة، ولا حتى ماكس، وهكذا كتبت

إلى فيليس تقول: لن أعرض نفسي لخطر

أن أكون أبا، لأن من واجبنا أن نكون واضحين حيال الأمور النهائية.

كيف يمكن أن تكون أبا؟. كيف سترتب حياتك

كلها حول كتاباتك و بوجود طفلة في البيت

لا تسمح لك بالانفراد بنفسك، لن تجد

ما يكفي من الصمت، لتجلس في غرفة عميقة

داخل قبو موصد، ودفتر على الطاولة مع مصباح،

وشخص ما يضع طبق الطعام خارج المدخل؟. ليلة أمس،

جاءت ابنتي إلى مكتبي وصاحت:  بابا!.

انفصلت عن هذه الصفحة و حملتها إلى حضني،

وجعلت ظهري للطاولة وأرجحتها،

فتسلقت ظهري وامتطتني كأنني حصان، ثم ضحكت بهستيريا.

تمطيت بظهري، وبدأت بالصهيل.

لا: حتى الضجة في الشقة المجاورة جمدت دمك.

من الأفضل لك أن لا تعرفه، هذا فرانس الابن

أضف لذلك، ربما ستريحك، كل هذه السخافة

التي اكتشفتها عن الابن، رغم السيرة المذكورة في طبعة شوشكين،

ورغم قناعة ماكس الجازمة، كل شيء الآن قيد الشك. 

المراجع تقول الشاب غير موجود أبدا.

وباستثناء مزاعم المرأة، ما من دليل،

ولم يعتقد معرفها أن هذا ممكن، والبحوث

لا تتصورعلاقة حميمة جرت فعلا.

في بواكير ربيع عام 1941، لم يشاهد أحد إشارة على بطن غريت،

و، في 1916، اشتكت من “المخاض”،

لكن التواريخ غير منطقية. والحكاية، كما يقول كاتب السيرة

فريدريك كارل، قريبة جدا من فانتازيا

امرأة مرفوضة. ومحررو “رسائل إلى فيليس”

يقولون: هذا”مشكوك به”، “غير محتمل”. ومن الجانب الآخر، كارل

يتخيل احتمال “إخصاب،

حتى دون دليل”. لنترك الكلمة الأخيرة لكانيتي، فهو يقول:

“ما جرى بين “غ” و“ك” يبقى طي الكتمان”.

 

هذا شأن الغموض في التاريخ. هل هناك ابن؟.

هل أنت تريد أن يحصل ذلك؟. يا له من.. جو كافكاوي!..

وكما نعلم: اعتقد برود أن ابنا هو بمثابة

تكريم تمنحه “أعلى محكمة استئناف”، والقرار

صدر: لست مذنبا، ووصلت الرسالة أخيرا

من القلعة. ولكن طبعا لم يصلنا شيء من القلعة،

ونحن متأكدون، لا وجود لشيء جازم، نضع أيدينا عليه،

أو نتفق عليه، أنت لقنتنا هذا الدرس، وذلك هو عبئك،

يا أبا الحداثة الأول.  هل في ذلك الكلام ما يدل على ابن حقيقي؟.

 

هذا كل شيء من غريت، لا مزيد من الكلام، رسالة فقط،

في 21 نيسان عام 1941. وحسب الصليب الأحمر،

اعتقلت في إيطاليا بعد غزو هتلر.

وتلقى ماكس أخبارا تفيد أن جنديا “ضربها

حتى الموت بعقب بندقيته”. وهكذا انمحى

أثر هذا الابن، الرفيع مثلك، هواء العدم تقريبا،

مرور باهت في رسالة غامضة، روح أخرى

يمكن أنها موجودة أو غير موجودة، ولولاها

تحول تراثها لعماء، لغز آخر، نهاية مثالية

يمكن أن تختارها لنفسك.

وكل يوم ترغب لو ترحل عن هذه الأرض،

وتفضل، كما قلت لوالدك، العدم المطلق

فوق بقية الاحتمالات: الزواج والأبوة.

وقلت إنك ستقفز من الطفولة إلى أرذل العمر

ولا تمر ببزهرة شبابك أبدا، وهذه مقولة أخرى

علينا أن نقر بها: في الأربعين، قرابة الموت، خصلة

رمادية في شعرك، وتعابيرك تقريبا صينية،

وهذه فكرة من المرجع الصيني العظيم أرثر وايلي Arthur Whaley،

ولا يمكن أن تلغيها، فقد قال أنت “الكاتب الوحيد

في العالم الغربي الذي نعتبره جوهريا من الصين”،

وأنت بنفسك كتبت إلى فيليس تقول: فعلا، أنا صيني.

يا للصدفة!. هكذا هي ابنتي! المتبناة،

وفي كلامها  حكمة مدفونة منذ 5000 سنة ،

وأسلافها بالتأكيد عملوا على الجدار العظيم،

عيناها تذكرانني بـعيني تو فو، ولكن ذلك نوع من التباهي kvelling،

كل ما تفعل مدهش، وها هي تفتح عينيها الآن،

وتقفز في الغرفة، وتلوح بذراعيها و تناديني: بابا!.

***

ترجمة صالح الرزوق (مع فيليب تيرمان). المصدر مراسلات شخصية.

..................

* وردت بالألمانية

** الحروف السوداء وردت مائلة في الأصل.

 ...................

1510  termanتعقيب على قصيدة “ابن ك” / خاص بالنسخة العربية

فيليب تيرمان

“ابن ك” قصيدة غير منشورة من سلسلة شعرية تحمل عنوان “صديقي كافكا”، وقد ظهرت في مجموعتي “كهنة من هذا الجو” (التي نشرتها دار أوتوم بريس عام 2007). والقصيدة تعود بتاريخها لفترة قرأت فيها أعمال كافكا وما صدر عنه - من سيرة ودراسات نقدية. وتصادف أنه في تلك الأثناء تبنينا أنا وزوجتي طفلة صينية يتيمة بعمر عدة شهور.

يمكن القول إن معظم الفنانين يواجهون تحديات عسيرة لتحقيق التوازن بين التوقعات والحقيقة وذلك حتى بلوغ سن النضج - ويساهم بخلق هذه الظروف العائلة والصداقات والثقافة والمشاعر الجنسية والزواج وتربية الأولاد - يأتي بعد ذلك دور الضرورات الفنية. وبهذا الخصوص بعد التفسير والتحليل ترى نصوص كافكا (التي كتبها بقلمه أو المكتوبة عنه)، أن هذه التوقعات الاجتماعية ليست مجرد نوع من التحدي الذي عانى منه كافكا، ولكن هي أيضا سيف ديموقليطس الذي قاتل به. وأنا كقارئ متابع (وأخص بالذكر مفكراته)، لاحظت صراعه المرير ضد رغباته القوية ليعيش حياته بشكل “طبيعي”  وما ترتب على ذلك من قلق وتوتر. وهذه هي خلاصة  وجوهر الظاهرة “الكافكاوية”: وأهم علاماتها الشك والعبث والانعزال الوجودي. ومرارا ما تكلم كافكا عن هذه الكوابح. وهكذا تحولت كتابته لما يشبه وصايا - حياة. حتى أنها تبدو أحيانا مثل صلاة أو لعنة أصابته بها القوى الشيطانية (وهو ما منعه من التصالح مع الطبيعة). إن طريقة كتابة كافكا - وحياته - دائما تصل لدرجة قصوى من المعايشة والتعبير. وأعتقد أننا جميعا نؤمن بذلك. فهي حقيقة واضحة.  وهو ما يسحرنا ويفتننا في أعماله. 

وفي بداية اهتمامي بكافكا صدمني أن أعلم، من “سيرة” مثبتة بنهاية “القصص الكاملة” (مطبوعات مكتبة كافكا، شوشكين بوكس، 1971)، سطر ورد بتاريخ تشرين الثاني عام 1913 وجاء فيه:” لقاء مع غريت بلوخ، صديقة فيليس بوير. بداية المراسلات معها <أصبحت أم ابنه، الذي توفي قبل أن يصل بعمره لسبع سنوات، وهو ما لم يبلغ مسامع كافكا> (ص477). من الطبيعي، أن تلك الملاحظة ستلفت انتباه أي قارئ.  وباعتبار أنني آنذاك كنت أبا، عانيت مثل غيري من ضرورة النظر لحياتي من هذه الزاوية، زاوية الأب وواجباته.  وهكذا تأملت - وأنا أهدهد ابنتي في أحضاني - مشكلة أبوة كافكا، هل هو افتراض صحيح؟. وماذا يعتقد النقاد؟.

ولا بد من أن أعترف أنني مثل العديد من الكتاب، أستلهم موضوعات بعض قصائدي من الكتب التي أقرأها. وفي حالتي، غالبا ما يكونون من الأدباء اليهود - أمثال: سيلان، سنغر، بوبر في نصوصه التوراتية، ناخمان - ودون شك كافكا. ولا سيما أنه لم يمر على عودتي من براغ أكثر من شهر واحد.  وفي تلك المرحلة كنت أعيش مع كافكا وأتنفسه. وكنت في منتصف قصيدة  طويلة ستتحول إلى سلسلة من القصائد. وساعدني على ذلك المحاضرات المزمع إلقاؤها على طلاب الجامعة في الخريف المقبل، وموضوعها الوحيد هو: كافكا.

وهكذا وجدت نفسي في جو لا يمكن التهرب من الكتابه عنه: ابن كافكا وابنتي وواجبات الآباء على الأبناء. وهو موضوع هذه القصيدة.

 

ترجمة: صالح الرزوق

 

في نصوص اليوم