ترجمات أدبية

جيمينا

صالح الرزوقبقلم: أندرو بورتر

ترجمة: صالح الرزوق

1-

دائما ما تتبدل حكاية جيمينا.

أحيانا هي امرأة ابتعدت عني زوجتي بسببها، وأحيانا هي المرأة التي أنا ابتعدت عن زوجتي من أجلها. وفي أوقات أخرى لا هذا ولا ذاك. لم أعد أتكلم عن جيمينا ولا عن زوجتي كارلي بعد الآن. وأنا لم أهجر زوجتي ولا هي فعلت. ولكن بنحو من الأنحاء هذا غير صحيح تماما. حينما دخلت جيمينا في حياتنا، كنا كلانا في الثامنة والثلاثين، ومتزوجين حديثا. وقبل ذلك كنا نلتقي ونعيش معا لما يقارب عشرة سنوات.

كانت جيمينا تعيش في شقة تحت شقتنا، ولكن لم نقابلها إلا بعد مرور ستة شهور على وجودها. كنا نعلم بأمرها طبعا - فهي امرأة منطوية وجذابة في أواخر العشرينات وكانت تتسلل إلى شقتها وتغادر منها في أوقات غريبة، في ساعات متأخرة من الليل أو مبكرة من النهار، غير أننا لم نتبادل معها الكلام.

وأتذكر أنني سمعت صوت جيمينا في أوقات متاخرة ليلا وهي برفقة مجموعة من المعارف، أو أحيانا مع صديقها، وهما يرتطمان بالمفروشات، أو يسقطان مصباح الطاولة، ودائما يقهقهان. كانت تشرب كثيرا، وتغادر ليلا أربع أو خمس مرات في الأسبوع. ولم تكن عندي فكرة إن هي مرتبطة بعمل، ولكن أفترض أنها تعمل.

قالت كارلي لي في إحدى الليالي ونحن نستلقي في السرير ونصغي لصوت جيمينا وهي تتجول في أرجاء شقتها تحتنا ثملة:"إنها تعيش كأنها ابنة واحد وعشرين عاما".

قلت:"ربما هي أصغر مما نعتقد".

قالت:"ربما، ولكنها ليست بعمر واحد وعشرين عاما فقط".

لم تكن كارلي توافق على سلوك جيمينا، وأبدت امتعاضها تقريبا منذ أول لحظة. ولاحقا ضحكت جيمينا من ذلك- لا سيما من طريقة كارلي "الباردة" كلما التقت بها في الممر، ومن نظراتها العدائية أو من تجاهلها لها في مرات أخرى. ومرة قالت جيمينا وهي تضحك:"أعتقد أنها تحسب أنني غانية، أو ربما مجرد مدمنة مخدرات". وطبعا لم تكن جيمينا من هذين النوعين. بل هي طالبة فنون في كلية ساوث ويست للفن، وتحمل درجة بكالوريوس فنية في السيراميك. وكانت تعمل صباحا في مخبز في الحي يقع في ساوث سايد من سان أنطونيو وتنفق كل ما بعد الظهيرة في حصص دراسية أو تمكث لساعات طويلة في الأستوديو.

و في المساء تغادر بالعادة مع أصدقائها، ولكن أحيانا بمفردها. وأخبرتني بكل هذه التفاصيل ونحن نشرب القهوة في الصباح بعد أن رأيتها أمام باب بيتها المغلق فجأة. كان هذا يتكرر معها مؤخرا. ويبدو أن بابها يقفل من الداخل بمجرد أن تغلقه، وعلى ما يبدو أنها تنسى هذه المشكلة مرارا. وبالعادة أسمع خطواتها على السلالم، وهي تطرق على أبواب الجيران، في محاولة لاقتراض هاتف نقال. وفي ذلك اليوم، لم يواتها الحظ في الطابق الأول، وبدأت تصعد السلالم إلى الطابق الثاني. وفتحت لها الباب حينما طرقته، وكانت مترددة ومتوترة.

قالت دون أن تقدم نفسها:"طلبت منهم تبديل ذلك القفل. وكنت أكرر طلبي كل أسبوع".

قلت:"هل تودين الدخول؟".

حدقت بي.

أضفت:"يمكنك استعمال هاتفي الخليوي لتتكلمي مع بيني".

وبيني هو حارس المبنى لكنه لا يسكن معنا. وهو رجل عجوز وشرس ولا يرد على المكالمات.

عقدت جيمينا ذراعيها على صدرها وتابعت التحديق بي. لم يكن بمقدوري أن أقول إنها تقيسني بنظراتها، وتتكهن هل يمكن الوثوق بي أم لا.

قلت لها وأنا أسحب هاتفي من جيبي وأحرر شاشته من القفل وأقدمه لها:"يمكنك أن تكلميه من هنا إن شئت".

نظرت للهاتف، ودون أي كلمة حملته معها إلى نهاية الرواق وطلبت رقما - وافترضت أنه رقم بيني - وكانت تنظر من النافذة الكبيرة المسدودة بالقضبان الموجودة في نهاية الرواق. وقفت عند عتبة الباب وراقبتها وهي تتكلم بالهاتف، وظهرها باتجاهي. كانت ترتدي قميصا أسود خفيفا وطويلا، وصل حتى ركبتيها، وكان شعرها مبلولا، كما لو أنها خرجت من الحمام للتو. وكانت بلا حذاء. وبعد أن انتهت من المكالمة، عادت أدراجها وأعادت الهاتف.

"قال سيكون هنا بغضون عشرين دقيقة".

"هذا يعني أربعين".

ابتسمت وقالت:"صحيح".

قلت:"هل أنت متأكدة أنك لا تودين الدخول؟. كنت أعد القهوة. وبمقدورك استعمال كومبيوتري المتحرك إن كنت تنتظرين رسالة إلكترونية أو ما شابه".

رمتني بنظرات ملؤها الشك مجددا، ونقلت ثقلها من قدم إلى أخرى، ولكن لاحظت أنها قررت في النهاية أنني لست ضارة، أو ربما أنه لا يوجد ما يدعو للحيطة فعلا.

قالت أخيرا:"حسنا". وأخذت نظرة من الرواق لمرة أخيرة وأضافت:"لدقيقة فقط".

 

ساعة انصرفت جيمينا في ذلك اليوم، كنت قد كونت عنها فكرة كافية. علمت أنها مولودة في بيليز، وأنها عاشت في مناطق مختلفة من المكسيك خلال طفولتها، وأنها انتقلت إلى سان أنطونيو في فترة المدرسة الثانوية.

وكذلك علمت أنها لا تعرف أباها، ولها أختان، كلتاهما أكبر منها، وأن والدتها لا تزال تعيش في مونتري. وعاشت مع خالتها، وابن أخت أمها، طوال مرحلة الدراسة الثانوية، ثم انتقلت إلى كاليفورنيا وأنفقت فترة قصيرة، وكان يبدو أنها لا تريد الكلام عن تلك الأوقات. وقالت فيما قالت:"يا لها من أوقات ملعونة"، وحركت يدها، ثم أضافت بعد تفكير:"كنت تقريبا متزوجة". 

بعد ذلك عادت إلى سان أنطونيو، وعملت ما باستطاعتها لتحصل على البكالوريوس في الفن، في محاولة لإنجاز ما تأخرت عنه لسنوات: الحصول على الدرجة. بالنسبة لي، تكلمت قليلا عن حياتي، وأخبرتها أنني بلا عمل حاليا ولكن مشغول بعدة مشاريع، ومنها فيلم وثائقي عن فنانين محليين من جنوب سان أنطونيو. وذكرت عدة أسماء، على افتراض أنها تعرف شيئا عنهم، ولكن لم تكن قد سمعت بهم.

قالت:"في الواقع لا أحب التسكع مع الفنانين، معظمهم يهتمون بأنفسهم فقط".

أومأت بالموافقة.

قالت: "أحب أن أعمل، وأن لا أتكلم عن عملي".

سألتها ما نوع عملك، فقالت النحت.

"هل من مذهب معين؟".

ابتسمت وقالت:"نعم. الاتقان".

 

في وقت لاحق في ذلك اليوم، بعد عودة كارلي إلى البيت، أخبرتها عن حواري مع جيمينا. كانت كارلي تعمل آنذاك كمروجة لمؤسسة فنون محلية وبالعادة تعود إلى البيت متوترة وساخطة.

قالت:"هل أخبرتك عن أجرها؟".

قلت:"لكنها ليست عاهرة. هي طالبة فنون فعلا".

"هذا ما تدعيه كل العاهرات".

منحتها نظرة عميقة، وسألتها:"ما خطبك؟".

"أعتقد أنهم استبدلونني".

"بمن؟".

"متطوعة".

"طالبة جامعة؟".

وافقت بحركة من رأسها وقالت:"نعم. لكنها ليست طالبة جامعة حقا. فهي في الرابعة والعشرين". أخرجت من خزانة فوق المغسلة زجاجة ماسكال وسكبت لنفسها كأسا صغيرة.

قلت: "تختارين المشروبات القوية فورا هذه الليلة، آه".

قالت:"الليلة. نعم. هكذا هو الأمر".

كانت كارلي تعمل في هذه المؤسسة الفنية منذ أكثر من خمس سنوات بقليل. وتعرضت للطرد مرة من قبل، خلال الركود، بحجة اختصار النفقات، ثم أعادوها بعد ثمانية شهور، ولكن منذ حينئذ كانت على الحافة وقلقة من وضعها في الوظيفة. لم يسبق لها أن تعرضت للطرد من قبل في حياتها، ويمكن أن تجزم أن هذا الحادث هزها من أعماقها. لم نتكلم كثيرا حول ذلك، ولكن كلما صادفت يوما سيئا في العمل، شاحنت أحدهم، أو ارتكبت غلطة، أو كلما أحسن أحدهم عمله، تعتقد أنهم سيستبدلونها. في تلك الليلة، حينما استلقينا في الفراش ونحن نستمع لصوت جيمينا واثنين من أصدقائها وهم يعزفون الموسيقا في الأسفل - نوع من أنواع الإيقاع الصاخب، والنحاسيات القوية، والغيتار الثقيل- انحنت كارلي نحوي وحضنتني بقوة. وقالت:"الا تدفعك للشعور بالتقدم بالعمر أحيانا؟".

"من؟ جيمينا؟".

قالت:"نعم".

قلت:" كلا. ليس تماما. ولا أفهم لماذا تهتمين بها جدا. نحن لا نعرفها إلا قليلا".

قالت:"أعلم". وضغطت على ذراعي وأضافت:"ولا اعلم لماذا أفكر بها كثيرا أيضا".

 

حينما التقيت مع كارلي أول الأمر، كانت لا تزال تدرس في قسم تاريخ الفن بجامعة تكساس في سان أنطونيو. عاشت حياة هادئة في ساوث تاون لعدة سنوات وعملت مع مؤسسة غير ربحية كانت تشجع الكتاب والفنانين على الانضمام للمدارس المجانية. وساعدت في تأسيس تلك المؤسسة منذ البداية وانتابها الحزن ساعة مغادرتها، وأعتقد أنها كانت تفكر بالعودة إلى المدرسة. كنا نعيش في ساوث سايد حين ذاك، وكانت كارلي تذهب إلى جامعة تكساس بسان أنطونيو مرتين في الأسبوع وتحضر حصصها، بينما أنا كنت مشغولا بعدة أعمال تستغرق نصف يوم وفي مناطق مجاورة، وهي أعمال يمكن أن أجدها بسهولة وأحصل منها على أجر مناسب يدعمني في نهاية كل شهر حينما أكون محرجا. مع ذلك كانت تنسى ذلك - أنه مرت أوقات كنت أساعدها فيها وليس العكس. وعندما حصلت على ميراثي من جدي بعد عدة سنوات- لم يكن ثروة، ولكنه يكفي لبعض الوقت، إن التزمنا بالتواضع- توقفت عن العمل. كنت حينها أعمل في محطة أخبار تلفزيونية في نورث سايد، بصفة محرر صوت، وبمجرد تدفق النقود من جدي، طلبت الأذن بالإنصراف.  أخبرت كارلي أنني اأضل اغتنام الفرصة لتحقيق مشروعات أخرى، منها الفيلم اتسجيلي الذي عملت عليه. مر على ذلك خمس سنوات تقريبا، ولا تزال كارلي مصرة أن هذا أسوأ ما حصل لي - الحصول على تلك النقود. بل هو أسوأ شيء جرى لنا.

بالنسبة للفيلم التسجيلي الذي كنت أعمل عليه في حينه، لم يكن مشروعا بمقدار ما هو نوع من البحث عن شيء أنشغل به، أو شيء من المفترض أن يشغلني، ويعطي لحياتي معنى. وكان أيضا طريقة معقولة أفسر بها للناس كلما اجتمعت بهم لماذا لا أعمل حاليا. بدأت بالفيلم قبيل سنوات ولكن لم أحقق أي إنجاز يذكر حتى الآن. أجريت مقابلات مع دستة من الفنانين المحليين منذ أن بدأت به، ولكن لم أضع يدي على خيط مشترك. لم أجد موضوعا يمنح المشروع وجهة نظر موحدة. وآخر فنان التقيت به كان فتاة مضطربة تدعى أمايا سوتيل، وتعيش على مبعدة عدة شوارع من الشقة التي أعيش فيها مع كارلي. وكنا نعيش هناك قبل أن ننتقل إلى هنا. وتلك المقابلة هي أغرب حوار عقدته في كل حياتي وهو مدعاة للسخرية. وفي إحدى اللحظات تساءلت إذا كانت أمايا سوتيل قد تعرضت للرجم أو انها تحت تأثير عقار هلوسة مثل الميسكالين. وربما لم تكن تشعر أننا نجلس معا في غرفة واحدة. وبعد ذلك، تخليت عمليا عن المشروع لبعض الوقت، ولم أفكر بإجراء حوار آخر  قبل أن ألتقي مع جيمينا. ولكن أسأل نفسي هل الحوار كان مبررا لفتح باب الكلام مع جيمينا مجددا أو أنني حقا تصورت أنها يمكن أن تساعد على استئناف مشروعي. في الحالتين، حينما أسرعت إليها بعد أيام، التقينا عند الباب. فقد تصادف أنها قادمة لحظة أن غادرت من البيت. وطلبت من وقتها دقيقة. نظرت لي بشك، كما فعلت قبل أسبوع. كانت ترتدي بوط القتال، وغطاء رأس رقيقا أسود اللون وأكمامها مرفوعة ويمكن رؤية التاتو المنقوش حتى أعلى ساعديها. بعد لحظة هزت رأسها واقترحت أن ندخن سيجارة في الخارج. وحينما شرحت لها غايتي وإشراكها بالفيلم، التزمت الهدوء لفترة، وهي تتأمل الباحة الأمامية، كما لو أنها تفكر. ثم قالت:"هل ستصورني؟".

"لا ضرورة إن لم تحبي ذلك".

"لا أريد أن تصورني".

"حسنا. لا بأس. ربما بمقدورنا تسجيل كلامك أو ما شابه. حول عملك الفني".

"لا أريد تصوير عملي أيضا".

قلت:"حسنا. هل هذا يعني نعم؟".

قالت:"يعني ربما". ثم وقفت واستدارت وعادت إلى داخل المبنى.

 

في تلك الأمسية، خرجت مع كارلي لتناول الطعام برفقة أصدقاء. واخترنا مجلسا جديدا في حينا، وحينما كنا نمر أمام الأبنية المصطفة في نهاية شارعنا، أخبرت كارلي عن فكرة الحوار مع جيمينا. تنهدت وقالت:"هل حقا يمكن أن تعتبرها فنانة محلية؟. أليست هي طالبة بعد؟".

قلت:"هي محلية. وتصنع الفن".

"هل رأيت عملها؟. هذا الفن الذي تصنعه؟".

لم أفعل. ولا أعلم لماذا كذبت وقلت إنني رأيته، ولماذا قررت أن أخبر كارلي إنني شاهدت بعض أعمالها في ذلك الصباح وهي تبدو مقبولة. تابعت كارلي طريقها إلى الأمام بصمت، ووجها يخلو من الانطباعات.

قلت:"لا أعلم، ربما هي فكرة سيئة، ما رأيك؟".

و لم ترد كارلي. كانت ليلة حارة، ويمكن أن أقول إنها كانت تود أن تعود إلى الشقة المكيفة. وحينما بلغنا سلالم المبنى، أمسكت يدها، فضغطت على يدي بقوة.

2-

كان هناك أستوديو في سوث سايد من سان أنطونيو وجيمينا تحب أن تعمل فيه صباحا. وهو مساحة اجتماعية، يمتلكها رجل ثري أجر الغرف الصغيرة للفنانين المكافحين بجعالات بسيطة. ولا تذهب جيمينا إليه إلا بدعوة من أصدقائها الذين يسمحون لها بالعمل بالمجان. وكان لديها مساحة في أستوديو داخل مدرسة، ولكنها تفضل مكانها في ساوث سايد. فهو أهدأ، كما تقول، ومنعزل. وأخبرتني برأيها صباحا بعد عدة أسابيع ونحن نجلس على السلالم الأمامية للبناء، ونتشارك على سيجارة.

كنا نتسكع قليلا هناك  في وقت متأخر من ما بعد الظهيرة قبل عودة كارلي من العمل. وبدأت بالكلام مع جيمينا حول فنها، بشكل حوار أولي للفيلم التسجيلي، ولكن حوارنا تطور فورا إلى شيء آخر. في ذلك اليوم كنت أكلمها عن عاداتها بالعمل، وتقدمها به، ولماذا لا تحتفظ بمنحوتاتها في شقتها. صمتت فترة طويلة عندما قلت ذلك، ثم سحبت سيجارة وقالت إنها لا تعلم، ربما لأن أيا من منحوتاتها ليس مكتملا.

"ماذا تقصدين؟".

"ليست كاملة".

"لم تنتهي من أي منحوتة بدأت بها؟".

تنهدت ولم ترد، وتساءلت إن كان السبب الحقيقي شيئا آخر - ربما لم ترغب أن تكشف نفسها، أو على الأقل جزءا منها، في مكان شديد العمومية، مكان يزوره العديد من الأغراب. وفي مناسبتين عرضت علي صورا تحملها في هاتفها - صور بعيدة لمنحوتات من السيراميك صنعتها لحصص التدريس - قالت عنها تجارب، أو وظائف ( بتعبير آخر، عمل غير احترافي). عرضتها لي بسرعة متناهية- بشكل خاطف أمام وجهي للحظة قصيرة قبل أن تتابع - ولم تتوفر لي الفرصة الكافية لفحصها. وكما أذكرأحدها نوع من الغربان، أو ربما طائر أسود، مصنوع من السيراميك؛ واخرى قناع من الفن الشعبي المكسيكي، منحوت من الخشب، وله هيئة القيوط. وما تبقى تجريد، وكما لاحظت، أقرب لقلبها، وكانت تمررها أمامي سريعا، وهي تتمتم: فظيع أو مخجل. وبكل المقاييس، كانت جيمينا تبدو واثقة من نفسها، ومستغرقة بها، ولكن حينما تصل للكلام عن فنها، تنحو فجأة لتكون متكتمة، مستغرقة بذاتها، وخجولة.

في ذلك اليوم، حينما سألتها عن المزيد حول منحوتاتها، مالت للصمت والسكون، وحدقت للبوغانفيليا المزهرة والصبار الموجودين في نهاية الباحة، وبرقت عيناها. وقالت بهدوء بعد لحظة:"أفكر بالعودة إلى كاليفورنيا لبعض الوقت". وحكت ذراعها.

نظرت إليها وقلت:"حسبت أنك قلت إن لديك عنها ذكريات مريرة".

أخذت نفسا من سيجارتها، كأنها لا تتذكر أنها أخبرتني بذلك أو كأنها مستغربة أنني أعرف شيئا عن هذا الموضوع أساسا. وقالت:"ربما سأغيب لأسبوع أو ما شابه. أو ربما لفترة أطول".

"متى؟".

"الشهر القادم".

"ماذا عن حصصك؟".

نفضت رماد سيجارتها وتنهدت. وقالت:"حسنا، لا أعلم. أتصور أنها ستكون بانتظاري لدى عودتي، صحيح؟".

ونهضت وألقت سيجارتها على السلالم، وداست عليها بقدمها. وقالت:"بالمناسبة أخيرا حلوا المشكلةر".

"آه؟".

قالت:"بابي، في النهاية تدبروا موضوع ذلك اللعين".

 

لاحقا في تلك الليلة حينما عادت كارلي إلى البيت كان بمقدوري أن ألاحظ أن شيئا حصل في العمل. وبالمناسبة يمكن أن أؤكد أنها لم تكن تلقي التحية أو تترك حقيبتها في الردهة، ودائما تنصرف إلى غرفتها وتغلق الباب. وهكذا كانت حينذاك، يوم عزلت نفسها، وانتاب جسمي الضعف من التفكير. كنا بصعوبة نعيش من راتب واحد مع مدخراتي. وإذا فقدت كارلي عملها، سنقع بورطة. حينما غادرت الغرفة لاحقا في تلك الليلة، قالت إن الأمور ليست سيئة تماما، وهي لم تطرد من عملها. ولكن المتطوعة حصلت على ترقية.

"أصبحت أعلى منك؟".

قالت:"كلا. أصبحنا سواسية. وهذا سيء".

"لماذا؟".

قالت:"لأنها في الرابعة والعشرين. وأنا أبلغ ضعف عمرها. وستجني نفس المبلغ الذي أجنيه. وربما أكثر لأنها تحمل الماجستير".

وأمكنني أن أشاهد كارلي تحمل زجاجة الميسكالين وأخبرتها أنه ربما عليها أن تتجنب الشراب الليلة، وذكرتها كيف أصبح وضعها  في المرة السابقة وكيف توعكت، وكيف أنها فقدت رشدها طوال اليوم اللاحق. قلت:"لن يحسن الشراب أحوالك".

ولكنها تجاهلتني وفتحت الزجاجة. وقالت:"حينما بكون لديك عمل، عمل يدر النقود، يمكن أن تنصحني هذه النصحية. قبل ذلك...". ولم تكمل عبارتها. إنما سكبت الميسكالين في كوبها وغادرت من الغرفة.

في الأسفل سمعت جيمينا وإحدى صديقاتها تضحكان، والموجات المتتالية من موسيقا روتينية في الخلفية. وفكرت بما يمكن أن يجري لو هبطت إلى الأسفل وقرعت الباب. ماذا ستقول لي، وماذا ستفعل؟.

بعد قليل نهضت وتوجهت إلى طرف باب المطبخ ونظرت عبر غرفة الجلوس لغرفة نومنا، وشاهدت كارلي تجلس على حافة السرير في الظلام، وترتدي حمالة صدرها وسروالا داخليا فقط. ولدى رؤيتها لي، رفعت كأسها إلى شفتيها، وابتسمت ابتسامة طفيفة، ثم استدارت للطرف الآخر.

3-

بالنظر إلى الماضي، لم أكن متأكدة ماذا أعجبني في جيمينا كثيرا. ربما هي فكرة أنني حينما أكون برفقتها يجب أن لا أفكر بأي شيء آخر. كانت تعرض لي سلسلة أفلام كرتون غريبة على نيتفليكس، وكانت مهووسة بمعزوفات فرقة مجهولة من أيسلاندا وكانت تستمع لها في الوقت الراهن وأحيانا تعرض علي الأشياء التي تعمل عليها في دفتر الرسم. كانت علاقتنا صداقة بريئة ولا شيء أكثر من ذلك. ومع أنها جميلة، ومع أنني مغرم بها، لم أكن مهتما بها فيزئائيا، حتى لو جلست على مقربة مني، وساقها العارية تقريبا تلمس ساقي، كلما عرضت أمامي تخطيطاتها أو فقرة من قصيدة في مجلة أدبية عجيبة اقتنتها. كانت شقتها مثل خيال فنان مراهق. لديها بوسترات فرق الروك التي تعود لمنتصف الثمانينات، ولوحات بروباغاندا للشيوعيين، وقناع غاز من أيام الحرب العالمية الثانية مودعا ضمن علبة، وذراع مانيكان معروضة بطريقة استراتيجية على رف للكتب يحمل مجلدات من هـ ج ويلز وطبعات شعبية من قصص بوليسية رخيصة. وفي مطبخها بوستر عملاق لغالاكسي 500، وصورة لها بزي دافيد بوي الذي يعود لأيام ألبومه “عقل علاء الدين”. وصور فوتوغرافية مكسيكية قديمة ولقى فنية وأختام إسبانية وملاحظات موجهة لها مطبوعة على الجدار. و كل شيء في ظلام تام. وعمليا لم يكن هناك إنارة طبيعية في شقة جيمينا، وهو سبب آخر لأتلفت نظري. كانت مثل من يهبط في كهف مستقبلي حيث لا وجود لعالم خارجه.

كنت أذهب يوميا إلى هناك- كل مساء حينما تكون كارلي في العمل - وبوقت قصير تعارفنا، واطلع كل منا على ظروف الآخر، وتشاركنا حكايات الحرب التي تعود لأيام المدرسة، وتحدثنا عن الفنانين والأفلام التي نحبها كلانا. وكانت جيمينا تدفعني لإخبارها بحكايات عن فرقة الروك وجماهيرها في سان أنطونيو في مطلع الثمانينات، وعن الفرق المختلفة التي مرت هنا وبأوقات منتظمة. ويمكنني أن أقول إنها أحبت الاستماع لتلك الحكايات مثلما أحببت الاستماع لحكاياتها عن صباها في بيلسي ولاحقا في غوادالاجارا ومونتيري. وأحبت هذه الحكايات لأنها بعيدة عنها، ولأنها عن عالم وأزمنة لا تعرفها. وحوالي الساعة 5 أو 6 بالعادة أجد سببا لأصعد إلى بيتي. أخبرها أنه لدي غسيل أو تحضير عشاء. ولم أفصح لها أن السبب هو قرب موعد عودة كارلي أو لأنني أعلم أن كارلي لن يريحها انشغالنا معا، في الحقيقة، لم أخبرها شيئا فعليا عن كارلي أو عن حياتنا معا.

 

آنذاك كانت جيمينا مهتمة فعلا بالمخرجة الفنزويلية مارغرت بيناسيراف، وأنفقنا معظم تلك الأيام نتكلم حول أفلامها: ريفيرون وأرايا وكيف أنها توقفت عن العمل بعد ذلك، منذ الخمسينات، فورا بعد عمليها، ولكن من الواضح، كما قالت جيمينا، إنها لا تزال حية.

قالت:"لا بد أنها بلغت الخامسة والثمانين ، وربما التسعين"، حصل ذلك ذات يوم ونحن نجلس في المطبخ نشرب النيذ وننظر في كتاب فيه مشاهد من أرايا. تابعت:"أتساءل بماذا تشغل نفسها".

وذكرت أيضا أن أرايا حصل على تكريم في كان وحصد جائزة النقاد الدولية مناصفة مع فيلم “حبيبتي هيروشيما” لألان ريني، ولكن للأسف لم نسمع بذلك. قالت:"كل الناس سمعوا بألان ريني، لكن كم من الأشخاص يعرفون مارغرت بيناسيراف؟". توجب علي أن أعترف أنني لم أسمع بها من قبل، فتنهدت.  كانت تحدق باهتمام بصورة بالأبيض والأسود لصبيين دون قمصان يتسلقان هضبة بيضاء كبيرة تبدو مثل كومة رمل. قالت وهي تنظر للصورة:"أراهن أنك تعتقدين أن ذلك رمل، ولكنه غير ذلك؟".

"ليس رملا؟".

قالت:"كلا، هو ملح".

أعدت النظر بالصورة، وبلونها الأبيض الهائل الحجم، وظل الصبيين الملقى عليها، والسماء فوقهما عريضة وصافية. وقفت جيمينا بعد دقيقة واقتربت من المنصة لتسكب لنفسها كأس نبيذ آخر. وقالت وهي تعود إلى الطاولة:"بالمناسبة. كنت أكلم زوجتك".

"ماذا تقصدين؟".

"شربنا القهوة معا".

"شربت القهوة مع زوجتي؟".

"نعم".

"لماذا؟".

قالت:"لا أعلم. أحببتها. وساعدتني بكتابة هذه الاستمارة".

نظرت إليها، محتارا. لم تذكر لي كارلي أي شيء عن ذلك.

"في الحقيقة هذا مدعاة للغرابة. كانت صديقاتي تسخرن مني. ولكنها حاولت أن تقدم لي المساعدة".

جلست منتصبا في الكرسي وأسندت كأسي. قلت: "هل أخبرتها عن زيارتي لمشاهدة الأفلام؟".

نظرت لي كأنني غبي وقالت:"لا. لم يخطر في بالي".

ثم نظرت مجددا للصورة ورسمت بأصبعها منحنى على طول قوس الكثيب، وقالت شيئا خافتا لنفسها. في النهاية قالت وعيناها تصبحان فارغتين من المعنى:"أرايا. هي مقاطعة في فنزويلا. قالت عنها مارغرت بيناسيراف تبدو كأنها قطعة من القمر".

4-

اعتدنا على الخروج ليلة في الأسبوع، أنا وكارلي. وبالعادة نذهب إلى الحانات في المنطقة الجنوبية من سان أنطونيو، مكان إقامتنا القديم، أو نسير على طول النهر نحو الشمال نحو ساحة مقاتلي الحروب الأجنبية، وهناك غالبا يعزفون الموسيقا ويقدمون الجعة الرخيصة، أو نتابع نحو حانتنا المفضلة في أقاصي الشمال، وهي تاكو لاند، بحثا عن مشروبات “كأسان بسعر كأس واحد”، أو مارغاريتا بنصف السعر العادي، ودائما المكان مزدحم وهائج ويبدو أنهم لا يهتمون أننا أكبر بالعمر قليلا من معظم الناس الآخرين هناك. وكنا نحب أن نشرب معا، لأن الشراب هو واحد من الأشياء التي نشترك بها أيام ذاك، وهي إحدى الصفات التي تقرب الواحد منا للآخر. كان العديدون يتشاحنون أثناء الشراب، ولكن نحن لم نفعل. كنا نضحك، ودائما نبحث عن طريقة لتطول السهرة. وكل تلك الأماكن المريحة والمشرفة على الانهيار التي كنا نزورها في ليالي الصيف الحارة، والحانات المفتوحة والمتهالكة وأماكن صناديق الثلج التي تتكوم أمامها والمليئة بعلب تيكاتا باردة. أيام ذاك كنا كلانا نتخيل أنفسنا من الفنانين، وكلانا لديه قناعة أنه مقدر علينا أن نكون عظماء، وفي تلك السهرات المسائية كنا نتكلم عن خططنا، وعن مشاريع مستقبلنا، وعن آمالنا.

في هذه الأيام تراجعت السهرات الأسبوعية. فكارلي تفضل البقاء في البيت، أن نشرب في البيت، ولأنني أقلعت عن الإفراط بالشراب - كما اعتدت من قبل- كنت غالبا أسقط بالنوم قبلها أو أجلس عند طاولة المطبخ وأقرأ في مجلة بينما هي تتصفح هاتفها، وترد على البريد الإلكتروني الوارد من العمل، وبقربها شرابها. وبالعادة تفضل الكلام عن المتطوعة وماذا فعلت مؤخرا، ولكن في تلك الليلة كانت تبدو ضائعة في أفكارها، وشاردة، فاغتنمت الفرصة لأسالها عن جيمينا وماذا قالت لي عن اشتراكهما بشرب القهوة. وذكرت لها أنني كنت اليوم عندها.

تأملتني كارلي بشك. وقالت:"كنت عندها؟".

قلت:"نعم. في الردهة".

ضيقت كارلي عينيها، ثم نظرت للأسفل نحو هاتفها الخليوي وطبعت شيئا ردا على رسالة. ثم تنهدت أخيرا وعادت لشرابها وقالت:"لا شيء يستحق الذكر. الإدارة أرادت منا ترتيب برنامج تواصل مع الفنانين المحليين، ولا سيما الشباب لنساعدهم في طلب معونات وما يشبه ذلك". ورشفت من شرابها وشخرت ثم تابعت:"صادفتها في يوم من الأيام، ورافقتني إلى الأعلى".

وافقت بهزة من رأسي وتراجعت بظهري على الكرسي وقلت:"أفهم أنها ليست مدمنة على المخدرات الآن".

شخرت كارلي وقالت:"من يعلم؟. أعتقد أنها شيء ما".

"مادا تقصدين؟".

لم ترد. وعادت لشرابها فقط، وتناولت رشفة صغيرة، ثم حركت مكعبات الجليد بأصبعها. وأخيرا قالت:"أعتقد أنها عانت من شيء في كاليفورنيا، شيء ضار".

"وماذا يدفعك لهذا الظن؟".

قالت:"لا أعلم. هو ظن فقط".

ثم نهضت، ووضعت شرابها على الطاولة، وغادرت الغرفة.

 

حينما تكلمت جيمينا عن كاليفورنيا، استعملت كلمات مثل مسكون، أو ميت بنظري. وقالت هناك أدركت أنها فنانة، ولكنها لم تنجز إلا القليل، تقريبا لا شيء. وكل ما كانت تفعله هو الشراب، تقريبا كل يوم، حتى تنتشي، وكانت تقبل أي دعوة ولو بالمصادفة، ومن ضمنها دعوة من رجل أصبح مثل زوجها، دعوة لتعيش معه في شقته في ويست هوليود. وكانت أوسع شقة رأتها في حياتها، أربع غرف نوم ومنصة خارجية عريضة، كانت تشرف على بوليفارد لا سينيا. وكان هذا كل ما أخبرتني به عنه. وتبدو بقية الحكاية مغلفة بالظلام، نوع من الظلام الذي يصعب اختراقه. وكلما ألححت عليها لتخبرني عن المزيد كانت تقول: خربت حياتي فعلا. ولا أقصد بسبب المخدرات. ولكن أعني حالتي الذهنية. كنت فعلا وحقا منهارة.

وفكرت بذلك في الصباح اللاحق وأنا واقف قرب المغسلة، أستمع لصوت جيمينا تبكي في شقتها في الأسفل. وذلك بعد وقت قليل من مغادرة كارلي إلى عملها. في البداية تصورت ربما هو أحد الجيران الآخرين، أو المرأة المسنة التي تعيش بجوار بيت جيمينا، ثم سمعت صوت موسيقاها، صوت مرتفع وميكانيكي، وفهمت أنه هي. تخليت عن الكوب الذي أغسله ووقفت هناك أصغي للموسيقا، هذا الروك الميكانيكي الصاخب، كان يرعد بشكل غاضب ومرتفع جدا بالنسبة لهذه الساعة من الصباح. وتوقعت أن الجيران الآخرين سيشتكون حالا، وسيدقون على بابها ويطلبون منها أن تهدأ، وأن توقف الموسيقا، ولكن قبل أن يفعلوا وقفت هناك وأصخت السمع، وتصورتها جالسة على أريكتها، ورأسها بين يديها، وساقاها متقاطعتان، وعيناها مطبقتان، وتبكي أو تصيح أو تطرق على شيء ما بجلبة. قي وقت لاحق من ذلك اليوم، وأنا جالس على الشرفة وأدخن، شاهدت جيمينا تسير مبتعدة. ولم أعلم  إلى أين تذهب، ولكنها كانت مسرعة وكان بمقدوري رؤيتها من مبعدة شارعين تقريبا، تعبر الشارع، ثم تسرع بمشيتها. وكانت تضع سماعات هاتفها بإحكام حول رأسها مع غطاء رأس اسود، وكانت تحمل سيجارة بيد وكيسا من الورق بالثانية. وتساءلت ماذا في كيس الورق، وإلى أين تتوجه. لاحقا، حينما كنت أجلس في شقتها وأتناول كوبا من النبيذ وأتكلم معها عن ظروف يومي، لاحظت الكيس الورقي مركونا على كنبتها الصغيرة في غرفة المعيشة، وأعلاه محكم الإغلاق، وأدناه ملوث بالدهون. وفكرت أن أسألها عما فيه لكن لم أفعل. وفيما بعد، حينما اختفت في الحمام، وقفت وأسرعت إلى الكيس وفتحته. كنت موقنا أن هذا لا يجوز، ولكن لم أتمالك نفسي. في داخله وجدت كل أنواع الصور وبطاقات التهنئة، ومعظمها ممزقة ومصفرة بسبب القدم. وهناك عدة رسائل مكتوبة بالإسبانية، وعدد منها مطوي عدة مرات وخشيت أن تتمزق بين يدي. وفي أسفل الكيس خصلة من شعر أسود محفوظة في كيس شطائر من نوع زيبلوك. مع مسبحة وصورة بالأبيض والأسود لجيمينا في طفولتها، أو هكذا افترضت، وكانت واقفة على هضبة متيبسة في موضع غير محدد، وهي تحدق بقدميها. ولم أجد كتابة على قفا الصورة، ولا أي إشارة عن مكان التقاطها. وبعد عودة جيمينا من الحمام، سألتها عما في الكيس، ودون أي اهتمام ردت مع تنهيدة:"آه، لا شيء. فقط بعض الكعك ، هل تريدين كعكة؟".

نفيت بحركة من رأسي، ولاحقا تساءلت في شقتي: كيف كانت ستتصرف لو قلت لها نعم أريد.

 

في تلك الأمسية توجب على كارلي أن تتأخر في العمل، ولذلك اشتريت الغداء من شاحنة تاكو كانت على الجهة المقابلة من شارع شقتنا وتعسكر هناك ثلاثة أيام في الأسبوع، وتناولت الطعام على السلالم أمام الشقة وجمينا تجلس بجانبي، وتدخن. أعجبتني شاحنة الطعام، ولكن رفضت جيمينا أن تشهد لها، وقالت إنها لا تقدم طعاما مكسيكيا حقيقيا. وعوضا عن ذلك فضلت أن تسير لمسافة سبعة شوارع بعكس اتجاه وسط المدينة لتشتري من شاحنة تاكو مع أنها توفر طعاما حقيقيا más auténtico.

وفي تلك الليلة عندما سألتها كيف تعرف الفرق قالت:"من التورتيلا. إذا كانت الشاحنة لا تصنع التورتيلا تعلم أن وجباتها ليست حقيقية. راقب تلك في الجهة المقابلة. يحضرون التورتيلا من أكياس. وربما اشتروها من مخزن. ويحاولون التستر على ذلك ولكن تستطيع أن تلمس الفرق".

حدقت بعرض الشارع ونظرت إلى داخل شاحنة التاكو المضاء، وأمكنني رؤية شابين يعملان هناك وهما منحنيان فوق الشواء. أضافت:"أيضا لا توجد صلصة. هل ذقت صلصتهم؟".

وضحكت بمرح لنفسها وأخذت نفسا من سيجارتها، ثم هزت رأسها.

نظرت إلى ساعتي وحاولت أن أحسب كم بقي معي من وقت قبل عودة كارلي. وكانت جيمينا قد أخبرتني إنهما تجتمعان كثيرا في الآونة الأخيرة، تقريبا كل يوم صباحا وتعملان على البحث عن منحة.

سألتها:"ولماذا لم أشاهدكما معا؟".

قالت:"لأنه أمر سري جدا".

نظرت إليها وقلت:" بجدية أين تلتقيان؟".

"لا يسعني أن أفشي السر".

حملت شطيرة التاكو وتناولت لقمة، ثم أفلتها.

وقلت: "لم تخبرا أحدا أنكما  تعملان معا؟".

"أبدا".

"حسنا".

"هل تعلم أنها امرأة لطيفة، زوجتك".

"أعلم ذلك".

"وأنت تعلم أنها تريد أن تكافحا معا".

"أعلم".

قالت:"يجب أن تتحلى بالحذر".

"ماذا تقصدين؟"

لكنها لم ترد. نظرت للجهة البعيدة من الباحة حيث توجد حديقة مزدهرة صغيرة اعتنت بها سابقا هذا الأسبوع. واحد من الشباب الذين عملوا في الأستوديو معها في ساوث سايد، وهو رسام عجوز يدعى دينيس، جمع هذه النباتات وكان يقدمها لها كل يوم بمعدل نبات أو اثنين، لتحملها إلى بيتها. وبالوقت الحالي أصبح لديها مجموعة نباتات - البلومر، والصبار، والأجافا- وقد زرعتها في الأرض بجوار السور البعيد وهو ما سيلاحظه بيني ويتذمر منه.

وفي تلك الليلة كانت تحدق بنبات أشفيرية قرمزي عملاق، وقد أحضرته معها إلى البيت في اليوم السابق محفوظا في أصيص كبير من السيراميك. وادعت أن هذه الأشفيرية بالذات نوع نادر جدا وطري، على الأقل كما اخبرها صديقها دينيس، وهو مرتفع القيمة. وبعد فترة، غادرت المكان، وأحضرت الأشفيرية مع الأصيص إلأى المبنى. ووضعت هذا النبات الغريب والجميل على السلالم أمامنا وجلست هناك، تتأمله، وعيناها تلمعان، وكتفها يلامس كتفي. وأخيرا أخرجت هاتفها وفتحت الكاميرا.

قالت:" سألتقط صورة وأرسلها لأمي".

قلت:"لماذا؟". تقريبا لم تتطرق لأمها، ولم تذكرها خلال ثلاثة أسابيع من تعارفنا، باستثناء أنها كآبية، وأنفقت معظم حياتها تدخل وتخرج من المصحات، وفي النهاية اختفت من حياة جيمبنا عندما بلغت السادسة عشرة. وقالت:"أمي تحب النباتات". ونظرت إلى الطرف البعيد من الباحة الأمامية، ثم رفعت عينيها إلى السماء، وكانت الغيوم السود تتشكل، وعاصفة رعدية تزحف من الجنوب. أضافت:"هذا سيسعدها".

5-

في ذلك الربيع أيضا بدأت أشعر بتقدم العمر. طبعا رأيته هناك على سطح المرآة، ولكنه موجود في أماكن أخرى أيضا - في السوق، حيث أسير بين الشباب دون أن ينظر أحد منهم لي ويلاحظ ذلك. شعرت من غياب الاتنتباه لذلك، على ما أعتقد، بأكبر قدر من الحزن. فهذه حقيقة تدل أنني غير مرئي، وأنني أتابع حياتي بطريقة شبح. وعموما حين أكون مع جيمينا أشعر أنني دائما مرئي، وربما هذا جزء من الموضوع. كانت شابة، أو على الأقل أصغر مني، وهي تراني، وربما ليس في ضوء رومنسي - ولكن أيضا لم أكن أفكر بهذا الأسلوب فقط- وإنما بطريقة كائن بشري، إنسان يدب على الأرض مثلها، ومليء بالمخاوف والأسف، محاولا أن لا يخطئ. ومع ذلك كنت أتخبط، ولدي علم بذلك. كنت أخطئ بإنفاق فترة طويلة معها مع أنه يجب أن أنفق الوقت وأنا وحدي، وأعيد تركيب أجزاء حياتي، أو العمل على فيلمي أو أي مشروع آخر.

قالت لي كارلي مرة:"لا يهمني كيف تنفق وقتك. المهم أن تكون مشغولا بشيء وإلا ما الهدف؟".

الهدف من ماذا؟. أحيانا كنت أريد أن أسأل، مع أنني أعرف الجواب.

ماذا يمكن أن تقول كارلي لي في إحدى جلساتنا بعد الظهيرة، وهي تضبطني جالسا في شقة جيمينا، وأنا أستمع  لدانزغ وأدخن الحشيش، أو أشاهد واحدا من أعمالها التسجيلية البولونية المبهمة أو فيلما فنيا منسيا ولكنه لديه جائزة من أيام الخمسينات؟. وماذا كانت تفعل كارلي نفسها مع جيمينا في تلك الأوقات؟. كيف أمضيا صباحاتهما معا حينما لم تكونا مشغولتين بالمنحة؟. أحيانا أتساءل هل كارلي منجذبة إلى جيمينا لنفس الأسباب التي تجذبني لها، أو أنها تنظر للمسألة من زاوية مختلفة. ربما هو شيء أوثق، له اعتبارات شخصية أقوى. أقول هذا فقط بسبب طريقة كارلي في التهرب، أو الدفاع، حينما أرافق جيمينا إلى الأعلى، وحينما أذكر اسمها. كنت أعلم أنهما تتقاربان، وأنهما تعقدان أواصر صداقة بينهما، وأن هذه الصداقة ليس لها علاقة أبدا بي أو بصداقتي مع جيمينا، ولكن في نفس الوقت بدا لي من المستغرب أن هذا يمكن أن يحصل، وأن كلانا، كارلي وأنا، يمكنهما تشكيل صداقة خاصة مع نفس الإنسانة، وأنه بوسعنا بمعنى من المعاني أن نعيش كلانا في حياة متوازية ولكن منفصلة.

ووطدت العزم أن أناقش هذه الفكرة مع جيمينا، ولكن بدا أنها مجبرة للكلام عن كارلي أو عن وقتهما معا. "هذا ينجح فقط إن لم نتكلم عنه". قالت لي في أحد الأوقات حينما ألححت عليها. كنا نتمدد على كنبتها في وقت متأخر بعد الظهيرة، ونتبادل سيجارة حشيش، ونشاهد أرايا للمرة الثالثة أو الرابعة. أوقفت جيمينا الفيلم وأفلتت السيجارة.

قلت وأنا أنهض:"ما هذا؟".

"هاه؟".

"للتو قلت هذا. أي هذا تقصدين؟".

نظرت لي وضحكت وقالت:"اللعنة إن كنت أعلم". ثم تناولت جهاز التحكم وعادت إلى الفيلم وقالت:"من فضلك لنشاهد الفيلم فقط.؟".

 

في تلك الأمسية عندما عدت إلى البيت، وجدت كارلي جالسة على الشرفة بجوار مطبخنا، وتدخن سيجارة وتستمع للموسيقا بالسماعات. كانت هذه طريقتها في ضغط أيامها انذاك، الجلوس هناك لساعة قبل العودة إلى الداخل. وإن لم تفعل، كما تقول، لن يمكنها أن تقوم بأي شيء مثمر بقية ليلتها.

وأدركت أن شيئا آخر يجري في العمل، وأن المتطوعة التي لم تعد متطوعة - أصبحت الآن شيئا مثل مدير مشروعات، وتجتمع حاليا بانتظام مع المانحين وتخطط لحملات جمع التبرعات- أصبحت بطريقة من الطرق أعلى مرتبة، ولم تعد كارلي تشكل ظلا يخيم عليها وإنما زادت حظوظها في أن تحل محلها. الإضافة لذلك، لم تتطرق كارلي لهذه المسألة، ولم تكن تذكر المتطوعة إن لم أفتح معها الموضوع بشكل مباشر.

في تلك الليلة، وأنا أراقبها جالسة هناك، وجدت نفسي أفكر بالزوجين العجوزين في الطابق الثالث اللذين اعتادا الجلوس على شرفتهما تقريبا كل ليلة حينما سكنا هنا. أيام ذاك كنا أصغر زوجين في المبنى، وكنا كلانا في مطلع الثلاثينات، ولكن الآن، بعد سبع سنوات، نبدو أشبه بالحرس القديم. ولا أعتقد أنه كان بمقدوري أن أتخيل حينذاك أننا لا نزال نعيش هنا في هذه الشقة نفسها بعد كل هذه السنوات، وأنه لن يكون بمقدورنا شراء بيت حتى اللحظة لنستقر فيه، وأنه لن ننجب الأولاد ولن نجد عملا مستمرا.

بعد قليل التفتت كارلي وابتسمت لي، وقالت سأعود حالا، ثم استدارت مجددا إلى الممر في الأسفل، ورأسها يترنح بإيقاع متكرر مع موسيقا الآي بود،  كما لو أنهما مرتبطان. وحينما جاءت لاحقا، كنت أقف قرب الموقد، أحضر حساء البوزول المشهور، وحسب وصفة علمتها لي كارلي ذاتها. وقفت كارلي هناك دقيقة من الوقت، تراقبني، ثم ألقت حقيبتها على الطاولة وذهبت نحو زاجة الماسكل. وأمكنني أن ألاحظ أنها متوترة من شيء ما- وكان يبدو عليها الشرود أكثر من المعتاد- وبعد قليل، ونتيجة الإلحاح، اعترفت أنها مرت بيوم سيء في العمل. وقالت في سياق حديثها إن جيمينا تكفلت بمشكلة منحتها.

"ماذا تعنين؟".

"فقدت الرغبة بالمتابعة".

"لماذا؟".

هزت كارلي منكبيها، وشعرت أنها امتعضت، أو ربما تتألم. كان من الواضح أنهما تتقاربان مؤخرا، مع أن كارلي لم تخبرني إلا عن القليل من تلك العلاقة المشتركة.

قلت:"توقعت أنكما أصبحتما صديقتين".

اهتزت كارلي وقالت:"وأنا أيضا. وربما صداقة وثيقة". ونظرت للخارج نحو الشرفة. ثم تابعت: "لكن لا يبدو لي أنه عمل عاقل .. التخلي عن هذه المنحة".

"ماذا قالوا حينما اخبرتهم أنها تستنكف؟".

"لا شيء. بعضهم، نعم، اعتقد أن تلك الفتاة انتهى أمرها".

ثم وقفت كارلي وذهبت إلى الثلاجة لتحضر المزيد من الثلج. ولدى جلوسها مجددا عند الطاولة، نظرت لي بإمعان. وقالت:"أعلم أن هذا يبدو غباء، ولكن كنت أعتقد أنني أساعدها، كما تعلم؟. كأنه الشيء الوحيد في حياتي الذي شعرت أنني أحسنه. كأنني أتطوع بخدمة لشخص آخر".

قلت:"هذا صحبح. كانت محظوظة بك".

"ولكنها لم تهتم".

"ما أدراك".

انتفضت كارلي وقالت:"كما تعلم، تقدمت إيفلين بثلاث طلبات لمنحة من أجل الفنانين المحليين".

"ومن هي إيفلين؟".

"المتطوعة".

"لم تذكري اسمها من قبل".

"حقا؟".

قلت:"بالتأكيد. لم أسمعه منك".

قالت وهي ترفع كأسها:"حسنا اسمها إيفلين. وهل تعلم؟. هي ليست متطوعة فاشلة بعد الآن".

أحيانا ينتابني الحزن لدى رؤية كارلي هكذا، وأنا ألاحظ أن مشكلتها ليست هذه المرأة، ولكن الكراهية التي تغمرها بسبب الخوف من فقدان عملها وهو ما يزعجها حقيقة. أحيانا أود أن أقول: هي ليست متحسسة من هذه المتطوعة، ولكن من شيء آخر.

ولكن أعلم إنها لا تريد أن تسمعني.

ولاحقا في تلك الليلة قالت لي ونحن نجلس على الكنبة:"هذا لأنني طردت في مرة سابقة من عملي. الجميع يعلم، ولذلك أشعر كأنها بقعة تلطخني. ومع أنهم وظفوني مجددا، ومع أنهم منحوني علاوة بسيطة في العام الماضي، لا تزال البقعة مؤلمة".

6-

بعد قليل اختفت جيمينا. أو ربما لم تختفي، أو أنها دخلت في نوبة اعتزال طويلة تجنبت خلالها كارلي وأنا.

وربما ما جرى بيننا نحن الثلاثة أصبح ثقيلا عليها، أو لعلها احتاجت لاستراحة منا. وفي إحدى المناسبات اعترفت لي طالما شعرت أنها تشبه مرشدة حياة زوجية وتلتقي بكل واحد فينا على على حدة، أو في بعض الأوقات تبدو لنفسها مثل خليلة، مع ذلك لم تكن ترى أنها تنفع أيا منا بأي شيء.

قالت:"خليلة أفلاطونية، لا بد من اسم لهذه الحالة".

قالت:"ما رأيك بصفة صديقة فقط. لماذا تعقدين الموضوع؟".

قالت:"لأنه فعلا معقد، ألم تلاحظي؟".

كنا نجلس في الخارج على المنحدر حينما قالت ذلك. وهو روتيننا المعتاد. وكان الحي هادئا. وعدد من الصغار يمتطون دراجاتهم، وعدد قليل من المستأجرين في البناء مشغولون بشواء في وسط الباحة الأمامية. وكانت الشمس تغرب من مسافة بعيدة، وأمكنني ملاحظة الأبنية الشاهقة في وسط المدينة.

قالت بعد فترة وهي تشرب:"أعتقد أنني بحاجة لاستراحة منكم يا أصدقاء".

قلت:"لماذا؟".

قالت:"لا أعلم. أريد ذلك وحسب".

ثم نهضت، ووضعت كوبها على السلالم، وعادت إلى الداخل.

 

في تلك الليلة وقفت في ردهة الطابق الثاني وأصخت السمع لجيمينا وكارلي وهما تتكلمان في الأسفل. ولم أميز كلامهما، ولكن أمكنني سماع ارتفاع وانخفاض صوتيهما، وزاد توتر الحوار مع مرور الوقت. وعادت كارلي لاحقا وشرحت لي أن جيمينا ستسافر إلى كاليفورنيا في الأسبوع المقبل، وهذا ما كانتا تتجادلان حوله، ولكن انتابني الإحساس حينها أن الموضوع أكبر من ذلك.

"هل أخبرتك بيوم مغادرتها؟".

كنا نقف في المطبخ وندخن. هزت كارلي رأسها وقالت:"لا. قالت الأسبوع القادم فقط". ثم نظرت للأسفل ناحية هاتفها كأنها تتوقع رسالة خاصة. بعد أن قرأتها بسرعة غادرت المكان.

لم ترغب كارلي في تلك الليلة أن تجهد نفسها. تناولنا عشاء هادئا معا ثم ذهبنا إلى السرير باكرا، ولكن لاحقا في مرحلة ما استيقظت على صوت نباح كلب في الخارج ولاحظت أن كارلي تجلس في الخارج على الشرفة الجانبية وحدها، وكان جسمها مغمورا بفضة ضوء القمر. وكانت سماعاتها على أذنيها وتهتز إلى الأمام والخلف ببطء، وهي تحضن نفسها. وقفت عند النافذة وراقبتها لحظة. لم أشاهد وجهها، ولكن من ظهرها، ومن طريقة انحنائها، وتهدل كتفيها، كانت تبدو تقريبا لدقيقة من الوقت كما لو أنها تبكي.

7-

وخلال الأسبوعين التاليين لم يحصل جديد يذكر، باستثناء زيارة خالة جيمينا لها مرتين قادمة من نورث سايد. وعرفت خالتها من الصور التي كنت قد شاهدتها في شقتها- سيدة عجوز لها حضور واضح وعزيزة الجانب، بشعر أسود طويل وعظام وجنتين بارزتين وكانت جميلة. أول زيارة لها توافقت مع جلوسي على السلالم الأمامية، وأنا أدخن سيجارة، وسمحت لها بالمرور دون تبادل أي كلام.

ولدى عودتها مجددا، في الأسبوع التالي، شعرت بضرورة تحيتها. كنت على السلالم أيضا، أشرب قهوتي.

قلت:"هل تبحثين عن جيمينا؟".

نظرت لي، محتارة، ثم انتبهت كأنها لم تفهم كيف حزرت.

قالت:"هل شاهدتها؟".

قلت:"هي في كاليفورنيا، أو على الأقل هذا ما أخبرتنا به عن مكان رحلتها".

هزت رأسها، ثم اسود وجهها، كأنني أؤكد لها مخاوف عميقة. وقالت أخيرا:"Polilla a una llama”.

“ما هذا؟".

قالت:"تعبير فقط. ويعني بالإسبانية 'العثة في النار'.".

وافقت برأسي.

والحقيقة كلما طال غياب جيمينا في كاليفورنيا، كلما زاد تفكيري بمعنى هذا الغياب، أو ماذا جرى معها هناك. مرة أو اثنتان أشارت لمجموعة من الأصدقاء الفنانين وطبعا منهم الرجل الذي تزوجته تقريبا، ولكنها لم تفصح عن المزيد عنه، ولا حتى اسمه. أحيانا أتخيل منتجا سينمائيا غنيا جذبه جمال جيمينا؛ وأحيانا أتخيل مراهقا لعوبا، عازف باص في فرقة متمردة، أو موزع مخدرات، أو ممثلا عصابيا. ومع ذلك وبكل الاحتمالات، هذا الرجل، كائنا من يكون، لديه حياته.

قالت لي في أكثر من مناسبة: تقريبا تزوجت، كما لو أن الزواج تراجيديا هربت من عواقبها بصعوبة.

وتهيأت للكلام حول الموضوع مع خالتها في يوم زيارتها الخاطفة، ولكن لم أتجاوز رسم ابتسامة وإعطائها رقمي وإخبارها أنها يمكن أن تتصل بأي وقت إن رغبت مني أن أهبط وأدق على باب جيمينا وأتأكد من وجودها. قلت:"هذا أسهل من القدوم بالسيارة كل هذا الطريق".

أومأت وقالت:"حسنا". ثم مدت يدها بتمهل ولمست يدي، وتأملتني بلا انطباعات وقالت بنعومة:"شكرا لك. سأعود لاحقا".

 

وكما تبين غابت جيمينا لأسبوعين، وهي فترة لا تكفي لإعفائها من عملها أو مكانها في مدرسة فنون ساوث سايد. ولدى عودتها، كان شعرها أقصر ولها وشم إضافي على مؤخرة عنقها، كلمة إسبانية صغيرة، olvidados، ومكتوبة بخط أسود. وقابلتها على السلالم وهي عائدة من غرفة الغسيل في القبو، وتحمل سلة جينزات سود رطبة وقمصانا بلا ياقة. قالت وهي تتنهد:"المجففة معطوبة، اللعنة على بيني".

وسألتها إن كانت تحتاج لمساعدة فردت لا. أضفت:"وكيف كانت كاليفورنيا؟". وكانت تتقدم في الصالة باتجاه شقتها.

قالت من فوق كتفها دون أن تنظر إلى الخلف:"لا تسأل".

"سيئة جدا؟".

أومأت بالموافقة، أيضا لم تنظر إلى الخلف، ثم توقفت أمام باب بيتها ووضعت السلة على الأرض. راقبتها دون أن أتكلم وكانت تفتش عن مفاتيحها. قالت:"مع ذلك قد أعود إليها لبعض الوقت".

"ماذا تقصدين؟".

تابعت التفتيش عن المفاتيح.

ألححت: "بغرض زيارة؟".

نفت برأسها وهي تتابع البحث وقالت:"لا". وأخيرا وجدت مفتاحها ووضعته في القفل. ونظرت لي. وكان بمقدوري سماع ضربات قلبي.

سألتها:"وماذا عن محاضراتك؟".

تنهدت وقالت:"توجد مدارس للفنون في كاليفورنيا، أليس كذلك".

نظرت إليها. وأردفت:"أعني ماذا عن العمل الذي بدأت به؟".

"ذلك العمل لم يتقدم".

وقفت بمكاني، بلا حركة، وحاولت قراءة وجهها. وقلت:"هل ذلك بسبب الشاب الذي تزوجت منه تقريبا؟".

نظرت إلى الأسفل ولم تقل شيئا. وقالت أخيرا:"بل له علاقة بعدة أشياء". ودخلت إلى شقتها.

كانت كارلي قد حصلت على فرصة في أحد المعارض الصغيرة في ساوث سايد واشنغلت بها، ووعدت أنا أن أحضر لكلينا عشاء وأن أنظف الشقة قبل عودتها، ولكن في تلك اللحظة كل ما أمكنني التفكير به كان هو رحيل جيمينا، وأنها لن تكون معنا بعد الآن، وتأثير ذلك علينا. وقفت في الردهة، أنظر ليدي، بمحاولة لأضع نفسي بسياق ما. بعد قليل، فتح باب جيمينا مجددا ومدت رأسها ونظرت لي باهتمام. وتلاقت عيوننا لفترة مقتضبة وابتسمت، والتفتت ببطء، وقالت:"هل تحب مشاهدة الأفلام؟".

8-

نقطة إضافية عن أرايا: إنه عمل تسجيلي ولكن لا يبدو عملا تسجيليا. وإنما كأنه خيال. وله مسحة شعرية، جو شعري. وتلعب فيه شخصيات بعض الأدوار، ويؤديها عمال مناجم ملح محليون. وله شكل تجريبي وبنية تجريبية. وبعد أن انتهت بيناكاريف منه، تابعت لتترأس عددا من المؤسسات الثقافية والسينمائية الفنزويلية، ولكنها لم تعمل في فيلم آخر. ولدى سؤال جيمينا  هل عادت بيناكاريف إلى الجزيرة، حيث عملت على رائعتها، قالت: نعم، بعد سنوات طويلة عادت.

"ولكن تقريبا مات كل من كان على قيد الحياة وعمل هناك. ما تبقى مدينة أشباح".

أومأت برأسي.

قالت:"ولكن لا أحب أن أفكر بذلك، وأود أن أتخيلها كما كانت تبدو في الفيلم".

"لماذا؟".

قالت:"لأنه في نهاية الفيلم يوجد أمل، كما ترى؟. ولا تعلم ماذا سيجري لهؤلاء البشر. هناك احتمال بأن يتوصلوا لحياة أفضل".

قلت:"ولكن هذه ليست الحقيقة".

قالت:"أعلم، ولكن في نهاية الفيلم، كما ترى، لم يكن أحد يتصور هذا المصير المؤسف".

9-

وحينما اتصلت بنا خالة جيمينا بعد ثلاثة شهور لتسأل إن كان عندنا فكرة أين يمكن أن تكون جيمينا - إن رأيناها أو سمعنا منها- توجب علي أن أخبرها بالحقيقة، وأننا لم نسمع منها أو نراها منذ اليوم الذي غادرت به. وكل ما أعرفه أنها عادت إلى لوس أنجلوس، ولكن خالتها تعرف ذلك مقدما. قالت:"إنها تكرر فعلتها. وهذه ليست أول مرة". ثم ذكرت شيئا غامضا عن رجل هناك، وأشارت له أولا بلقب pendejo ( غبي) ثم لاحقا بلقب sucio (قذر).

قالت:"ربما أزمع على قتلها".

قلت:"ماذا تقصدين؟".

ولكنها لم توضح.

قلت:"آخر مرة رأيتها كانت من حوالي أسبوع قبل رحيلها. حتى أنها لم تودعنا".

قالت:"عادي، أليس كذلك؟".

لم أعلق.

قلت أخيرا:"هل لهذا السبب عادت إلى هناك؟. من أجله؟".

قالت:"لا. ليس من أجله. بل من أجل ابنتها".

"وهل لديها ابنة؟".

قالت:"آه، hijo (ابني)، أنت لا تعلم شيئا عنها حقا، أليس كذلك؟".

لزمت الصمت.

"وأراهن أنك أغرمت بها، هل أنا محقة؟".

ثم تذكرت حوارا مع جيمينا قبل أيام من رحيلها وسألتها فيه إن حصل شيء فيزيائي بينها وبين كارلي. جالت جيمينيا بعينيها يمينا ويسارا فقط وضحكت. قالت:"كالعادة. لماذا تفكرون دائما أيها الشباب بالجنس؟". ثم ابتعدت، وهي تهز رأسها.

خيم الصمت على خالتها في الطرف الثاني من الخط، وهي تنتظر ردي. وأخيرا قالت:"لقد أحببتها، أليس كذلك؟".

قلت:"لا". ونظرت من النافذة إلى أشجار النخيل البعيدة. وتابعت:"لم تكن بيننا علاقة".

 

في الأيام والأسابيع اللاحقة، كنت أنا وكارلي نتحرك في شقتنا كالأشباح، ونحاول أن نجد طريقة لنكون معا، طريقة لنتابع حياتنا من النقطة التي وصلنا إليها في الشهور الأخيرة ومهما كانت. ولاحقا سميناها استراحة عشوائية. اخترعنا لها الأسماء، مثل فترة بائسة جدا أو حينما كانت جيمينا تعيش تحتنا، أو تلك الأيام العجيبة التي رافقنا فيها الشخص إياه. ولكن افتقدناها لبعض الوقت، افتقدناها بالطريقة التي يحن بها الإنسان لأحد أبويه في الأسابيع الأولى للدوام في الجامعة. افتقدنا الطمأنينة التي ترافق معرفتنا أنها موجودة، معرفة أنه هناك شخص آخر بجوارنا. ولبعض الوقت بعد ذلك، دخلت كارلي في فترة خمود. وأمضت وقتا طويلا في الخارج على الشرفة الجانبية بمفردها، تستمع للموسيقا، وتدخن. وأحيانا كانت تتكلم عن احتمال إنجاب ولد، وهو شيء لم تتطرق له منذ مدة. كانت تقول إنها بلغت  التاسعة والثلاثين، وسيكون الأمر صعبا بالتأكيد وهو مخاطرة، غير أنه ممكن. وبعد مدة أيضا، صمتت عن هذا الموضوع، نتيجة إحباطات من عملها، وزيادة الشك بالمستقبل.

وبالنسبة لي، حصلت على عمل، دون تفرغ بصفة منتج صوت في معهد أفلام في المدينة. ولم تكن الأجور مجزية، ولكنه أبعدني عن البيت  لأربعة أو خمسة ايام بين الصباح والظهيرة من كل أسبوع. وتخليت عن الأفلام التسجيلية.

وأتذكر أنه في أمسية بعد شهور من اتصال خالة جيمينا لتستفسر عن اختفائها، وكنت جالسا على الشرفة مع كارلي ونستمع لبعض أحاديث جيمينا المسجلة حول الفن. ولم تكن قد عاودت الظهور - والحقيقة، لن تظهر - وكان من المستغرب أن نسمع صوتها مسجلا. وكان التسجيل مشوشا ويتخلله أزيز ولكنه صوتها بكل تأكيد، وكانت تقول: أعتقد أنه لا فاندة من أن تأمل باتصال الآخرين مع عملك الفني،  وفي أي وقت أنشغل به في عمل فني أفكر ببيئتي القريبة... والفنانون الذين أحترمهم لا يعزلون أنفسهم عن الناس ولا يفكرون بذلك. هل تفهمون ما أقول؟.

وأضافت بهدوء: هل تفهمون ماذا أقول؟.

بعد ذلك أغلقت المسجلة، ووضعت كارلي رأسها على كتفي.

نظرنا إلى الأبنية البعيدة وللأنوار الخافتة التي تلمع في وسط سان أنطونيو. كانت ليلة باردة، واحدة من أبرد الليالي في الذاكرة الحالية، كان الهواء متجلدا ويمكن أن تشاهد أنفاسك. وفي الأسفل في الباحة، سمعت أصوات كلام الناس، هناك حفلة وشخص يعزف على الغيتار. سحبت كارلي لجانبي، وعقدت ذراعي حولها، وقبضت على يدها بيدي. قلت بعد دقيقة وأنا أشبك أصابعي بين أصابعها وأنظر للأبنية:"هل تعلمين، أحيانا أفكر أين وصلنا يا كار".

"ماذا تعني؟".

"لا أعلم".

قالت:"لم نصل لأي مكان. وأحيانا أتساءل إن كانت هذه هي مشكلتنا".

نظرت إليها وقلت:"ولكن أنت تفهمين معنى كلامي. أحيانا أجد نفسي أبذل ما بوسعي للتفكير بما كنت عليه، واضح؟. ومن المؤلم جدا أن أنسى ذاتي وأتركها وشأنها".

هزت رأسها وقالت:"ولكن لست مختلفا عما سلف، كلانا لم نتغير كثيرا".

قلت:"ولكن أنا بالتأكيد لم أصنع نفسي. لا أرى أنني أتحسن ذهنيا".

قالت:"صحيح. ولكن ليست هذه المشكلة. لا شيء من كل هذا الهم يصنع فرقا".

ضغطت على يدي وحملت كأسها وأخذت رشفة طويلة، وعادت لتتأملني مجددا وقالت:"هل تعتقد فعلا أنك غير ذلك الإنسان الذي اعتدت عليه؟".

قلت:"لا أعلم. ربما أنا أكثر تحملا. وبالتأكيد أتوقع أن تكون أفعالي أقل".

"هل تعتقد أنك تتساهل مع نفسك؟".

قلت:"لا. توقعاتي أقل مما أرغب".

ابتسمت ووضعت رأسها على كتفي. في تلك الدقيقة لم يكن صعبا أن أرى كم نحن نهتم بجيمينا، وكيف يمكن لأي شخص مثلنا أن تستوعب جيمينا اهتمامه.

بالنسبة لجمينا، لم أكن متاكدا ماذا جنت من ذلك. من أوقاتنا معا. تلك الأيام الطويلة والخاملة في شقتها. ربما كانت تستضيفني لتشغل نفسها، أن يكون معها شخص آخر في غرفة معيشتها. طالت علاقتي مع كارلي وأحيانا أنسى كم من المريح أن تنفرد بنفسك، وأن يكون معك شخص آخر في مساحتك، أن يكون إنسان آخر معك، إنسان عاقل لتبادله الحديث.

أندرو بورتير Andrew Porter كاتب قصة أمريكي. له مجموعة بعنوان (نظرية الضوء والمادة). ورواية بعنوان (بين الأيام). حصل على جائزة فلانيري أوكونور والبوش كارت. يعيش في سان أنطونيو. وهو مدير برنامج الكتابة الإبداعية في جامعة ترينيتي.

 ***

 

...........................

الترجمة من مجلة “ناراتيف” الأمريكية

 

 

في نصوص اليوم