ترجمات أدبية

آنا ناتاليا مالاكوفيسكايا: أوغرينوفتش وعملاق الجنس

بقلم: آنا ناتاليا مالاكوفيسكايا

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

كانت الساعة تشير إلى الثانية إلا خمس دقائق صباحا. وقد تكومت، بجانب شجرة التنوب المزينة لاحتفالات العام الجديد، أطباق قذرة على الطاولة، وكأنها تتساءل هل يوجد من يغسلها الليلة أم يجب الانتظار حتى صبيحة الغد.  حدقت بها فاليا وآمنت أنها، في النهاية، ستجمعها وتحملها إلى المطبخ. كان عليها مغادرة هذه الغرفة، وأن تتقدم في ممشى شقق البلدية الكئيب، وأن تتحرك في الظلام، وهي تتحسس الجدار لتستدل على طريقها، ثم تشعل الغاز لتسخين الماء…

فجأة انفتح باب الردهة. ووقف على العتبة فيتالي أوغرينوفيتش - الأكثر وسامة بين جيرانها. وكان هذا الشاب أنيق الملبس ومتأهبا دائما. يرتدي قميصا رقيقا من الساتان، ويتصرف بتهذيب قل مثله، كأنه حط هنا من كوكب آخر، وفي الحقيقة كان قد عاد لتوه من خدمة الجيش.

نبح صوت خشن من وراء كتفه: "أعد لي قبعتي". شق صاحبه، زوج فاليا، طريقه قدما من الردهة قليلة الإضاءة. والتمع شعره الأشقر المضموم في النور الضعيف. دخل أوغرينويتش الغرفة وعلى محياه علامات الثقة أن المالك يعرفه، وطلب النبيذ.

ردت المضيفة المضطربة: "لا يوجد مزيد من النبيذ. لقد نفد". كان قد لقبها أحدهم، وبنية خبيثة، فالنتينا الجميلة. وكانت لا تزيد على عشرين عاما. أمسك أوغرينوفيتش زجاجة ليمون كانت على الطاولة، وسكب لنفسه شرابا، وشربه، ثم بصق.

صاح: "أحضري لنا المزيد من النبيذ. أيتها العاهرة. مفهوم؟. إيه. مكان رخيص. جعلتموني أستجدي النبيذ في بداية العام".

شرع طفل بالبكاء في مهده، حملته فاليا بين ذراعيها. عاد زوج فاليا، الذي يلقب نفسه عملاق الجنس، إلى صاحبه الذي يشرب وقال: "هيا بنا، لننصرف".

خرجا إلى الردهة وتكلما، رجل لرجل. جلست فاليا وهي تحضن ابنها في صدرها. وكان هذا الطفل كأنه يستمع للحوار الذي يدور خارج الغرفة. انتقلت الأصوات تدريجيا إلى أقصى اليمين، نحو غرفة أوغرينوفيتش. ومن المرجح أن الرجلين سيحلان الخلاف الناشب بينهما ويجدان مزيدا من الكحول للشراب في مكان ما...

وضعت فاليا الطفل في مكانه، وبدأت تهز المهد نحو الخلف والأمام، إلى الخلف والأمام. هذه العائلة. هذا البيت.. الجميع أغراب جدا بنظرها. كيف وصلت إلى هنا، وكيف جرى ما جرى؟. وكأنها تجلس بين كرسيين، فقد وجدت نفسها بين العام المنصرم والعام الجديد، الذي يزحف تحت قدميها. ولكن شعرت أن العام الماضي لم يذهب تماما: كان يبدو كأنه في متناول يدها. منذ ثلاث ساعات فقط كانت في المطبخ تقشر البطاطا من أجل السلطة. يبدو هذا المطبخ بالهيئة التي يجب أن يبدو عليها في شقة تابعة للبلدية: السقف يضغط على الجدران المتسخة بهباب أسود وهو معلق فوق الطاولات المائلة. كل شيء هنا يدفع فاليا للإحساس بعدم الرضا والاضطراب. في النهاية لقد ترعرعت هنا في شقتها. وهي صغيرة لكنها ناعمة. ولا تفوح فيها رائحة الخوف ولا عتمات الأقبية، التي تملأ شقق البلدية وتفعم فاليا بالخوف. كانت تشعر بالخزي من مخاوفها، ولذلك تتركها في أعماقها وتحاول أن لا تصغي لما يفلت منها من رسائل وهمهمات.

قال لها أوغرينوفتش وهو يتلكأ في المطبخ: "آه، كم أنت بنت جميلة - وتقشرين البطاطا لتتلفي يديك. يجب أن تمثلي في السينما عوضا عن تقشير البطاطا". هذه الكلمات - عن السينما - أصابت فاليا في قلبها مثل سكين مسنونة. تنهدت قليلا وعادت للتقشير بسرعة أكبر.

كانت الأطباق قد وزعت على الطاولة تحت شجرة تنوب العام الجديد في غرفة فاليا، واحتلت سلطة البطاطا تلك مكانها في الوسط وبطبق أنيق. كان الضوء في الأعلى مطفأ، ويوجد على الطاولة شموع حمراء فقط انعكست على الشجرة. وأصبحت الغرفة الآن أشبه بمغارة دب. وظلال أغصان التنوب المدببة كأنها تدل على مكان ما - غابة حقيقية، أو أعماق البلاد، حيث يوجد الكنز الحقيقي في مخبأ آمن.

ولماذا يذكرها بالسينما؟. هذه الكلمات ذكرت فاليا بطلبها الذي قدمته لمعهد المسرح. كان والدها على قيد الحياة. وكانت تحفظ عن ظهر قلب فقرات من رواية "الشراع القرمزي" لأليكساندر غرين. وهي تذرع غرفتها بخطواتها بوجه محمر، غلبتها السعادة مسبقا، ولسبب ما انتابتها الثقة أن هذا المعهد سيضطر لقبول طلبها.  كان لفاليا شعر بني وعينان زرقاوان، وكان والدها يقول أحيانا إن هذا اللون يشبه أزهار الذرة. ولكن لا تذكر فاليا أمها إلا بصعوبة، فقد توفيت وهي بنت صغيرة بعمر خمس سنوات. واعتادت أن تعيش وحدها مع والدها وأن تعتني بواجبات المنزل. وحينما تناديها زميلاتها في المدرسة لتخرج وتشترك باللعب، ترد بصوت عميق وهي تحمل مكنسة بيد ثابتة: انتظروا حتى أنتهي من التنظيف.

لم يكن في بيتها الكثير من الكتب. واكتشفت الكتب بمفردها. وكانت شغوفة بالقراءة ورأت أن كاتبها المفضل هو - أليكساندر غرين.

تذكرت ذلك الربيع - حينما خيط لها ثوب أنيق أبيض، وبدأت وعود الحياة الجديدة تدنو منها، وهي تدق بكل أجراسها الملونة. حصل ذلك في بواكير أيار. كانت عائدة إلى البيت، ومن على مبعدة،  شاهدت سيارة إسعاف أمام المدخل. وعلمت فورا أنها جاءت من أجل أبيها وخافت حتى أنها شعرت أن الكون سقط من قلبها. مات والدها في المستشفى في اليوم نفسه. ولم يسمح لها ولو بوداعه. ومنذئذ وهي تعيش في ظل جدار أسود، في النصف الثاني من العالم. وحاولت أن لا تفكر بالحرق وماذا جرى لجسم والدها هناك. وهذا الغبار الأسود الناعم والجاف وهذا الدخان الذي خرج من مدخنة الفرن ليخيم على الضوء الذي كان ينير حياتها ويطفئه.

لم يفارقها أبوها - كل شيء فيه موجود إلا جسمه، كل شيء فيه تتذكره، طباعه، عاداته. كانت تشعر بحضوره، وأحيانا يكون واضحا ومفعما بالوجود أكثر من أيام حياته. مع أن الطيف لم يكن يجلب لها الراحة. كان راكدا مثل الماء، ويملأ الردهة والغرف في بيتها، أو أنه يتبعها إلى المخزن والمدرسة. لم يسعها أن تنساه. ولم تكن جاهزة للتخلي عن سطوته عليها. ويبدو الآن طلبها لمعهد المسرح مستحيلا، كما لو أنها ليست قادرة على عصر كلمة من فمها. كانت الحياة المزدهرة والمضطرمة تزهر من حول فاليا، ولكنها مفصولة عنها بجدار من غبار ألماسي أسود.

في أحد الأيام وفاليا في طريق العودة بالحافلة إلى البيت، رآها عملاقنا الجنسي "المسكين". كان يدرس الكيمياء، وقد بلغ السنة الرابعة من المعهد. وكان هذا الشاب ممتلئا، ولكنه صغير الحجم. ومع ذلك يعتقد أنه "عملاق" وجنسي. وادعى ذلك بعد تجربة عشوائية في هذا المجال. كان يقف في وسط الحافلة، ويتبادل الكلام مع رفيقه فولودكا. والثاني مدمن كحول معروف، وقد غرق في السنة التالية بعد أن سقط من زورق بخاري في نهر نيفا المضطرب. ولم يكن يعلم قدره. حتى أنه لم يشتبه أنه سيركب الزورق في أحد الأيام، والحق يقال، كان زورقا مهلهلا. وقد اعتلى الزورق إحدى الموجات ثم ألقاه وغمره في الماء البارد. ثم بدأ يختنق وفجأة أدرك أنه شارف على الموت. وكان يشعر أنه ليس بمكانه لأنه سيكون قد واجه آخر امتحاناته متوقعا بداية هامة لحياته الجديدة. آه.. حسنا. أثناء دردشته مع هذا الإنسان الذي يزحف إلى موته، وقعت عين عملاق الجنس في أعماق الحافلة بالصدفة. وعلى اليسار، قرب النافذة، لاحظ المرأة الشابة، وبدت له كأنها بنت وذات شعر منفوش. ونظرتها مثبتة على النافذة، تتأمل ظلام الليل القادم، ولكن لم يكن هناك شيء يرى. كانت فاليا تنظر من النافذة وتتخيل نفسها وسط حوار خبيث مع والدها، ليس عن شيء هام ولكن عن أمور تافهة.

قالت له بلسان حالها: "بابا. ألا ترى أنها تمطر". وأشارت للطريق بعينيها من خلال النافذة.

ويبدو أنه رد بقوله: "نعم يا عزيزتي. إنها تمطر. وآمل أنك لم تنسي مظلتك".

مدت يدها إلى حقيبتها وبحثت عن مظلتها المطوية.

لم يلمس حزن وجمال وجه فاليا عملاق الجنس، ولكن أثر به شيء آخر. نظرت فاليا نحوه لدقيقة وفورا صرفت نظرها عنه كأنها لم تجد في هذا الرجل شيئا يستحق أن تتكلم عنه. أوف. ليس من المهم كيف حصل. اقترب العملاق منها ودخل في حوار معها. ردت مضطرة، وعيناها تنظران إلى الخلف نحو الفضاء المفتوح وراء النافذة. وأخيرا جلس بقربها باعتزاز، مثل طاووس رفع ذيله. وتقريبا شعر بريشه المنفوش الذي رفع معنوياته. كان يتباهى به، ويبرهن له أنه يلمع من كل الأطراف، ويبرق، كأنه زينة على شجرة العام الجديد. آه. أعجب بنفسه كثيرا في تلك اللحظة: كانت حزمة من الأشعة البراقة تنفذ عبر الهواء الصامت من حوله. ولكن فاليا لم تتجاوب مع فتنته.

توسلت لوالدها دون أن تحرك شفتيها: "بابا، اصرفه عني".

رد أبوها المتخيل: "فقط انظري له يا ابنتي". نظرت فاليا ولم تشاهد شيئا. فقط رجل عادي مثل الآخرين، ويدمدم بشيء غير مفهوم. نكست رأسها، وتابعت النظر من وراء الزجاج، مرت بها جذوع أشجار سود. وكان المطر يتخللها بخطوط منتظمة. لكن كيف لا يظهر خيال والدها بينها بعد الآن. أما عملاق الجنس فلا يجذبه رقة وجوه النساء. كان ينجذب لأجزاء أخرى من جسم الأنثى، على سبيل المثال السيقان، ولذلك اضطرب بما جرى له على متن هذه الحافلة الليلية. إن لم يكن الجمال فلا بد أنه  شيء آخر. ماذا يمكن أن يكون؟. وبدا له أنه قابل هذه البنت قبل الآن في مكان ما. هذه البنت، تقريبا طفلة، بشعر مسرح طويل يذكره كلما لمحها بصورة جدته حين كانت طفلة. في الصورة كانت تجلس بشكل استعراضي بجانب أمها. ودون مزيد من التفكير بدأ العملاق من هذه الفكرة الطارئة وحاول أن يتعرف عليها. قال: "يبدو أننا التقينا في مكان ما". وفي لحظة ديجافو شعر بالحدود التي تفصل الحياة والموت. كما لو أنهما وقفا بمواجهتها مرة قبل الآن، في عالم آخر. نظرت بعينيه، ورد نظرتها بدون مباشرة وبلا خجل.  ممكن أم لا - مهما حصل في حياة أخرى فهو لم يحصل فعلا. لأن بنت حافلة الليل لا تريد أن تشاهده.

هكذا تم أول لقاء، ولكن تكرر نفس الموقف لاحقا. تنحى الخريف أمام الشتاء. ورفضت فاليا أن تراه، وصممت أنها لا تريد أن تراه. واقترب الربيع، بكل نفاياته الدبقة والتالفة، التي تنهمر من الأسطح وتنزلق تحت أقدام المارة. وضاق أفق عملاق الجنس كثيرا. ونسي أنه كان "عملاقا"، ناهيك أنه شخص جنسي. في أحد الأيام كان العملاق السابق يمشي على الرصيف، وقدماه تغوصان في الكومة حتى كاحليه، وكان يشق طريقه بهدف زيارة جدته. فهو يعود إليها في الفترات التي تسوء فيها أموره. كانت هذه الجدة تعتبر في عائلته قديسة لأنها في إحدى المرات أنقذت زوجها من حفرة ثلجية. وقد أنقذت حياته بدون أن تفكر بسلوكه العدواني معها، لأنه اعتاد أن يضربها ويسخر منها. ولكن الجد الذي نجا بأعجوبة لم يمتنع عن تعذيب زوجته، وجعل الجميع يتساءل لماذا أنقذت المرأة المسكينة هذا الوحش من الغرق في الماء، ولم تتركه ببساطة أن يقضي نحبه بهدوء. وكان لدى هذا الجد مخزنان في مجمعات غوستني دوفر في بطرسبورغ. ولكن طبعا بعد الثورة، لم يتبق شيء من ثروته. ومات الرجل قبل أن يواجه عقوبة الإعدام أو النفي.

وكان للجد والجدة حفيد اسمه ألكسندر. وكان ألكسندر إنسانا عجيبا. لا يضرب زوجته، ولكنه لم يرث من أمه قداستها. وباع كل ممتلكاته الشخصية، وكذلك ممتلكات جيرانه غير المحظوظين، الذين تصادف أنهم تركوا معاطفهم وأحذيتهم في ردهة شقق البلدية. ولم يخرج شخص واحد من غرفته  إلى الردهة إلا واكتشف أن أشياءه اختفت: لا معطف، لا شيء يلبسه ليذهب به في الصباح إلى عمله. وفي نفس الوقت كان أليكساندر المخمور حتى الثمالة يستلقي في وسط الردهة. تزوج أليكساندر لأنه بحاجة للمبيت. وسابقا كان يدرس الهندسة، ولكن دون بيت يعيش فيه. ولذلك اختيرت له عروس لديها مهر تقدمه وهو حجرة للإقامة.

لم يمر يوم على هذا الزواج دون فضيحة. في أحد الشتاءات، وأثناء فضيحة من هذا النوع، رمت زوجته نفسها إلى الشارع وطفل بين ذراعيها. وخبطت المرأة خبط عشواء في الخارج لعدة ساعات وريح المدينة تعصف بها. ولم تتمكن ابنتها الصغيرة ذات الشهور الثلاث أن تحتمل الجليد القارس. وأصابها فقر الدم وتوفيت. وكانت أخت العملاق. ولذلك لم تقع عينه عليها، فقد ولد بعد عدة سنوات من ذلك الحادث التراجيدي.

ثم حصل ما يلي: عقدت انتخابات، و"اختير" ستالين، كما هو الحال دائما. كان مركز الاقتراع في بناء مدرسة وتغطيه الأعلام الحمراء. وكان ألكساندر يمشي على طول الطريق، وهو يتمايل قليلا، ويشتم ويصيح بشيء غير واضح، ويخلط في نفس العبارة كلمات عن "أعضاء الحزب" و"أعضاء الخصوبة". وحينما وصل إلى المدرسة وشاهد اللافتات الحمراء، قال أخيرا شيئا غير مقبول: "ستالين ابن حرام".

وبالحال شدوا وثاقه. وهكذا أصبح العملاق بلا أب. واعتادوا أن يقولوا إن والده تعرض للضرب على رأسه في السجن حتى تضرر دماغه. وبعد قليل حينما تذكر أحدهم أن أليكساندر مهندس ماهر، استدعي للإشراف على بناء هيكل جديد. ولكن لم يمكنه أن يفعل شيئا - فهو غير قادر على التفكير. كان عليه أن يعمل وهو يغوص بالماء الجليدي حتى خصره، لينهي بناء جسر فوق نهر الفولغا، وفي النهاية، مات بسرطان الرئة.

وتبين أن كلمة "ابن حرام" أضرت بعائلة العملاق. لم تتمكن أمه من تحمل برنامج تلفزيوني عن طبيب في مستشفى السجن، وألقت جهاز التلفزيون من النافذة وهي تقول "هذا التلفزيون ابن حرام". وعلى الفور أودعت، لا في السجن، ولكن في مصحة نفسية. وهكذا ترعرع العملاق دون أب ولا أم. وبين ذراعي جدته القديسة. والتصق بجدته مثل نبات شاذ ينمو على جذع قوية.

لم يحالف الحظ الجدة زوجة التاجر ورجل الدين، ولحكمة ما بالكاد كان لديها وقت لتحمي وجهها من صفعات زوجها - فقد كانت امرأة متعلمة. ولكن هذا لا يعني أنها انتسبت إلى مدرسة، بل تعلمت بجهودها الشخصية، وقرأت كتب الفلاسفة وكانت مغرمة على وجه الخصوص بشوبنهاور. وروت الجدة لحفيدها كل شيء قرأته. وتذكر العملاق كيف كانت جدته تجلس في شمس الصباح قرب نافذة واسعة، وهو يستمع لحكاياتها. وحينما يتعب، يبكي عند قدميها، ويدفن وجهه في ركبتيها.

وكانت حياة جدته تقترب من نهايتها. وكلما فكر العملاق بذلك ينتابه الفزع. فهو بلا عائلة عداها، باستثناء خالته، وهي ابنة جدته. ومن الواضح أن هذه العمة ورثت من أبيها شخصيته القوية وأسلوبا مقلقا في معاملة أقرب الناس لها. لم تكن تركل أحدا بوجهه، لأن ذلك غير متيسر، ولأن ساقها تؤلمها، ولكنها اتبعت أسلوب والدها بكل شيء آخر. ولكن يجب على أحد ما أن يرث الروح الرقيقة التي عرفت بها الجدة ذات الاسم الرائع - ماريا إفانوفنا. لكن لم يلاحظ حفيدها ولو لمحة من هذه الروح. وكان يود أن يكون مثل جدته، وأن يجلس قرابة النافذة الواسعة، وينظر إلى العالم بعينين زرقاوين. لو لا أن عينيه بلون غير واضح وغير مفهوم، ومهما كان اتجاه تفكيره، يذهب ذهنه دائما بنفس الاتجاه - الجنس. وأدرك بشكل ما أنه ليس من المستحسن أن يتوقف عند النكاح. وأمل أن جدته غير واعية لهذا الحلم الملح والدائم. وكان يختفي بحضور جدته، ويتحول إلى شخص مختلف، وكانت تحبه في كل حالاته. وحين يكون بجوارها، لم يكن يحتاج لذيل رائع متعدد الألوان: بلا ذيل لن تكسب درجات عالية في المدرسة - وكانت تغفر له سلفا كل خطاياه، مثل "الرب الطيب" الذي روت له الجدة عنه كل شيء. عموما كان إله خالته مختلفا تماما: بشفتين متهدلتين، وعينين حادتين لا يمكن النظر إليهما، ولذلك لم يؤمن العملاق برب خالته.

اتكأت الجدة على الكنبة في الغرفة الكبيرة. وغارت عيناها وغشيهما الضباب. كانت مصابة بالسرطان، والجميع يعلم ذلك. وجلس العملاق إلى جوارها. وجاء النور من النافذة - حزمة ضعيفة من أشعة الشمس. كانت جدته تعلم أنها مشرفة على حتفها. وكانت قد غفرت للجميع قبل فترة طويلة، وهي الآن مسرورة لأنها ترى حفيدها المحبوب. وهذا الحفيد المحبوب أراد فعلا أن يسأل جدته عن رأيها بالانتحار، ولكنه لم يجد طريقة ليفتح معها باب هذا الكلام.

قال بهدوء لجدته: "إنها لا تحبني". وبدا أن الكرسي المجاور للسرير قد تضرر، وأن غطاء الطاولة المتدلي منها يشع بالألم. التفتت جدته برأسها ونظرت إليه بعينين معتمتين وعميقتين.

قالت: "سأصلي لك. والرب سينجدك. لن يتركك".

بعد أن رأى العملاق جدته ذهب مباشرة إلى مخبر الكيمياء في جامعته - وهناك كان يدرس الكيمياء لخامس عام ولديه إلمام بها.

تأخر الوقت في الليل: كانت فاليا راقدة حينما رن الهاتف فجأة في الغرفة. شخص ما صاح في الهاتف يشتم ويهدد. وشخص ما أسرع  إلى بابها وبدأ يقتحمه. وقفت امرأة عجوز مشتتة على العتبة - كانت عمة العملاق. وجرت فاليا إلى المستشفى. انتظرتا لفترة طويلة قبل أن يسمح لهما برؤية المريض. كان العملاق مستلقيا في غرفة المصحة وحيدا. ووجهه المنكمش والمتوعك شاحب كالوسادة. ولا أحد يعلم لماذا فشل في محاولة تسميم نفسه، وربما حصل ذلك بالصدفة أو بجرعة كيماويات جهزها عمدا. ورنت كلمات عمة العملاق في أذن فاليا مع أوامر وتلميحات: "آه أيتها الزانية. روح هذا الرجل تقع على مسؤوليتك. أنت قاتلة".

بالتدريج بدأت فاليا نفسها تشعر أنها ربما مجرمة قليلا. ومع بدايات أيار أعطت موافقتها - وأصبحت زوجة لشخص غير مفهوم كان في فترات متقطعة لا يحسن معاملتها.

وكل ذلك مكتوب في كتب عن حب أصبح بنظرها غامضا كحلم بعيد. وكل تلك الكلمات البليغة من "الزورق القرمزي"، والتي تحفظها عن ظهر قلب، تبدو الآن بعيدة عن متناول يدها، وعذابا لغيرها. من يجب أن تحب - العملاق أم سواه؟ نعم. بالمناسبة منعها عن التفكير بمعهد المسرح. وبعد فترة ولد ابنهما، وظهر لها أن بداية حياة عائلية من نوع ما أمامها - مكواة وأسرة، وطناجر في المطبخ، وشرب الشاي في الأماسي.

لم يكن يوجد من يعيش معهما في شقق البلدية غير أربع عائلات. هناك غرفة تعيش فيها عائلة العملاق، وهي على يمين المدخل. وعلى اليسار وفي الردهة تعيش عجوز وحيدة. ولكن لم تكن ترى نفسها امرأة متقدمة بالسن، وجعلها هذا الوهم الشخصي تبدو مرعبة. كانت أشبه بفزاعة متحركة ملفوفة بأسمال حمراء تتدلى على صدرها، ناهيك عن شعرها المصبوغ بلون أحمر. وتدور أقاويل أنها كانت رائعة الجمال، ولديها صديق، له رتبة ضابط، وكانت ثرية. ولكن حاليا دائما تشعر بالجوع وتسرق الزجاجات الفارغة من فاليا.

ووراء غرفة هذه المرأة تعيش عائلة من ثلاث أشخاص: زوجة، وزوج، وأم الزوجة. والأخيرة امرأة عجوز هزيلة القوام بعينين ضيقتين مذعورتين. دارت حول الشقة لتطلع بالواجبات البيتية: ولتتأكد أن زوج ابنتها مرتاح، وغير قلق. كانت ابنتها "سيدة مهمة"، وترتدي ثيابا عصرية مطرزة وغالبا ما تطهو الدهن في المطبخ. ولكن زوج السيدة رجل عصبي بوجه جامد: ويبدو كأنه منهمك دائما بعبادة الذات.

في آخر غرفة، قرب المطبخ، تعيش امرأة عجوز أخرى - وهي العمة شورا. وعملت كل حياتها في منشأة كيميائية. وشاهدت كيف النساء، عاملاتها، يسقطن في حمام الأسيد في المنشأة وينتهين بميتات فظيعة. وكانت تخاف من أن تتعثر وتسقط في الأسيد. وكان هذا هو أكثر ما يرعبها في العالم. ولقاء هذا العمل الشاق حصلت على جعالة - 40 روبلا في الشهر. وكانت لا تأكل غير البطاطا، والخبز، ومخلل الملفوف. ولذلك تبدو مثل شبح في ثوب رث. ولأنها غير قادرة على دفع فاتورة الكهرباء، لم يكن باستطاعتها إشعال النور في الحمام أو المطبخ وأدت مهامها هناك في الظلام. وفي غرفتها عاشت على نور الشمعة. ورغم بؤسها وجوعها، لم تسرق الزجاجات، ولم تضع المسامير في أواني الجيران، ولم تستولي على الرسائل من علبة بريد الجيران. وكانت توجد في غرفة العمة شورا عدة أيقونات وأزهار صناعية. وعلقت على يمين المدخل فوق الكنبة لوحة: لبنت شابة، بملامح غير متناسقة قليلا إنما جميلة، وترتدي ثوبا مفصلا على طراز العشرينات. وتنظر من هذه اللوحة بهيئة محتارة وقلقة جدا. ويبدو أنها تتساءل عن مستقبلها، دون أن تعلم: ماذا سيفعل رفاقها في الحمام بالأسيد المطري، أو ماذا ستفعل هي نفسها في هذا الجحر الضيق بضوء شحيح وخفيف يمر من ستائر التول الرقيقة؟.

كانت فاليا خائفة جدا من شقة البلدية هذه. تخاف أن تمشي في الردهة المعتمة، إلى المرحاض، أو إلى المطبخ. ويبدو لها أن المطبخ عرضة لأن ينفتح فجأة من بابه الخلفي، ويظهر على العتبة متشرد بمعطف أصفر، وبجمجمة منتفخة وفأس مرفوعة. ولذلك السبب كانت خجولة وبعد أن تنهي كل مهام مطبخها، تسرع فورا إلى غرفتها عبر الصالة، كأن أحدا يطاردها.

في أحد الأيام سكن في شقة البلدية شاب أنيق اسمه فيتالي أوغرينوفيتش. وهو حفيد المرأة الضعيفة العجوز وابن "السيدة الهامة". وكان زوج أمه يمقته لدرجة أن يرحل إلى مسكن آخر مع زوجته وأمها. وأصبح فيتالي وحيدا في الغرفة، ولكن ليس لفترة طويلة. وبعد أسبوعين استقرت معه بنت حلوة تدعى ناتاشا. واعتاد فيتالي أن يناديها باعتزاز "زوجتي بالعرف الشائع". ومباشرة نشأت بين فيتالي وناتاشا أواصر الصداقة. وأغرم فيتالي باللعب مع ابنة فاليا، وظهر أن الانسجام جمع بينهما. وسرعان ما نقلت ناتاشا أشياءها إلى غرفة فيتالي. وكان مصباحها المثبت على الجدار، وهو بشكل مروحة، مثل ذيل طاووس، يغطي مصباح الغرفة، ويخلق جوا غسقيا غامضا. ليس مثل نصف العتمة التي تخيم على غرفة العمة شورا. بالضد من ذلك. كان حاجز مصباح ناتاشا الملون وبأجنحته المرتعشة والمرحة، ينتشر في الزوايا، ويترك مجالا لحياة، ربما لم تسقط كلها في الجحيم، بتعبير العملاق.

ما لا تفهمه العجائز يستوعبه الشباب بلمح البصر. كانت كل من ناتاشا وفاليا تقرأ أفكار الأخرى بسرعة وتشجعها بابتسامات. وحتى المرأة التي تبدو مثل فزاعة أصبحت على نحو ما غير مريحة وتسيء استعمال المطبخ، توقفت عن الشجار والسرقة من الجيران. وعلى الأكثر تسرق وتأكل بطاطا منسية في مقلاة غيرها.

ثم حل العام الجديد…

جاءت من خارج غرفة فاليا دقات قوية ومتواصلة. نظرت إلى الردهة، رأتها فارغة. زحفت إلى غرفة أوغرينوفيتش ونظرت من الباب نصف المفتوح. كان أوغرينوفيتش يضرب النافذة بجسم زوجها. أسرعت تختبئ وراء الجدار. وعندما نظرت إلى الباب مجددا، كان زوجها يجلس على الكنبة، وأوغرينوفتش يقاتل قرب النافذة صديقه الآخر. علقت فاليا هناك، أمسكت يد زوجها، وجرته إلى خارج الردهة، ودفعته من الباب إلى غرفة العمة شورا. وضعت قدميها في بوط العمة شورا وارتدت معطفها البالي - كانت خائفة من أن تمر من باب غرفة أوغرينوفيتش المفتوح كي ترتدي معطفها. أسرعت إلى الخارج من الباب الخلفي نحو هاتف عمومي في الشارع. بغضون دقائق كانت تصيح في السماعة: "النجدة. رجل تعرض للقتل". سألت الشرطة عن العنوان ووعدوا بالحضور. عادت فاليا مسرعة إلى غرفتها، وأوصدت الباب. كان ابنها يبكي. حملته بين ذراعيها. وبدأ الباب ينكسر ويتصدع من الضربات.

وصوت يصيح: "افتحي أيتها العاهرة. يا كيس القمامة. سأحطم الباب وأرسله إلى الجحيم. سأفجر رأس ابنك وألقيه على الأرض".

همست فاليا لابنها أن الشرطة على وشك الوصول. ولكن الشرطة لم تظهر. وفي الصباح التالي حينما ذهبت فاليا برفقة زوجها إلى المخفر شخصيا، وسألا لماذا لم يحضر أحد في الليل، قيل لهما: "لستما وحدكما من احتفل بالعام الجديد. وها أنتما من بين الأحياء. صحيح؟ إذا قتلوكما تعالا وسجلا شكوى".

بحلول الربيع كان أوغرينوفتش قد شل ستا من خليلاته. الأولى ضرب رأسها بخزانته. الثانية ضربها بالكرسي. وألحق الضرر بالأخريات بعدة طرق مختلفة. وفي أحد الأيام وجد صديقه في المطبخ قبالة المغسلة مطعونا بسكين في ظهره. أما المرأة العجوز، التي تسرق الزجاجات، فقد نظفت بركة الدم التي سالت على الأرض.

في الخريف أحيل أغرينوفيتش إلى المحكمة. في المحاكمة حاولت العمة شورا أن تؤكد للجميع أن أوغرينوفتش ليس الملام على أي شيء - ولكن صديقه من تسبب بهذه الأضرار، فهو من شوه وجرح وكسر الأبواب.

سأل القاضي وهو يشير بقبضتيه وليس بيديه: "حسنا، وها هو يقف مثل ملاك بيدين معقودتين؟". سخر أوغرينوفتش من كل من في المحكمة، من بينهم القاضي، الذي شحب وجهه من الغضب. كانت العمة شورا تذرع الردهة أمام باب المحكمة وتصلي بصوت خافت - تطلب المغفرة بعد أن أخطأت وكذبت وهي تحت القسم. كانت صديقة لجدة أوغرينوفتش، ولذلك غامرت بهذه الخطيئة التي أثقلت على روحها. حكم على أوغرينوفتش بأربع سنوات ونصف - لقاء التخريب بنية متعمدة. ولكن خفف الحكم وتم تخفيضه - إلى ثلاث سنوات - بحجة الندم الصادق.

قال الجيران: "هذا من حسن حظنا. سنحظى بثلاث سنوات من الهدوء".

مر شهران وفي هذه الأثناء عم الهدوء الشقة وكانت ساكنة مثل الجنة.

وفي إحدى المرات كانت فاليا تسير في الردهة، وانفتح باب على يمينها: ورأت أوغرينوفتش واقفا على أعتاب غرفته.

قال بحزم: "يجب إطلاق النار عليك فورا ببارودتين".

دمدم العملاق الذي ظهر وراء كتفي فاليا: "آه - يا لهذه العطايا؟ لماذا أنت هنا؟".

رد أوغرينوفتش: "كما تعلم. من المفيد أن يكون لك أصدقاء في الوزارة".

قالت فاليا لزوجها بعد أن عادا إلى الغرفة أنها لا تريد أن تعيش بعد الآن في شقة البلدية هذه. وحتى الآن هي تؤجر شقتها الخاصة، التي ورثتها عن والدها، وثلاثتهم  كانوا ينفقون من دخلها. وبعد كل هذه الأحداث، انتقلوا إلى شقة فاليا وبدأوا بتأجير غرفة العملاق في شقة البلدية.

وهناك مرت حياة هادئة، هادئة جدا - بلا فضائح على الإطلاق. والجدران المألوفة كانت تنظر بدهشة إلى فاليا الكبيرة بالعمر، وتتذكر طفولتها: بنت صغيرة وأم وأب. ثم امرأة شابة تحلم بالانتساب لمعهد المسرح، وتحفظ عن ظهر قلب سطورا من رواية غرين. اندمجت فاليا بهذا الوجود اللطيف، بهذا العالم المبهر لهذه الجدران المألوفة، مثل سمكة عادت إلى الماء.

في أحد الأيام مرضت. ووجد الطبيب أنها مصابة بفقر الدم. وحاول أن يقنعها باللجوء إلى المستشفى. ولمن تترك ابنها؟. كان زوجها يعمل، وقررت أن تبقى في البيت حتى الشفاء. استلقت في السرير، وقدرت حرارتها. أشار ميزان الحرارة أنها أربعون درجة مئوية. وبعد عودة زوجها من العمل، دخل إلى الغرفة ببوط ومعطف موحلين.

صاح: "أين عشائي؟". سقط من يد فاليا ميزان الحرارة على الأرض.

كرر: "سألتك أين العشاء؟". 

انحنت فاليا من فوق السرير لتحمل ميزان الحرارة.

صاح زوجها: "أنا أعمل وأكسب النقود، لكن أنت أيتها الساقطة، لا يمكنك طهي عشاء لي؟". ومد يده وبمتعة قاسية ضربها على وجهها ببوطه.

***

..........................

* ترجمتها عن الروسية أناستازيا سافينكو مور.

* الترجمة منشورة في punctured lines مع مقدمة للقاصة الروسية أولغا زلبيربورغ

* آنا ناتاليا مالاكوفيسكايا Anna Natalia Malachowskaja كاتبة سوفييتية وروسية معارضة. عاقبها الاتحاد السوفياتي بالنفي إلى النمسا بعد نشاط مشترك عام 1979 مع مناصرات حركة الجندر بعنوان "النساء وروسيا".   تكتب القصة والرواية وترسم. أقامت عدة معارض داخل وخارج روسيا.

في نصوص اليوم