ترجمات أدبية

فيرجينيا وولف: بيت مسكون

بقلم: فيرجينيا وولف

ترجمة: هشام علي*

***

أيما ساعة تستيقظ تسمع أصوات أبواب توصد. زوجان من الأشباح يتنقلان من غرفة إلى أخرى يدًا بيد، يرفعان هذا، ويفتحان ذاك، ويتأكدان.

تقول الزوجة: "تركناه هنا. يضيف الزوج: "أوّه، هنا أيضًا"، ثم تهمس: "وفي الطابق العلوي". يخافت بصوته: "وفي الحديقة". يقولان بصوت خفيض: "بهدوء كي لا نوقظهما".

ولكننا لم نهتم بإيقاظكم لنا. لم يكن ذلك الذي يشغلنا على الإطلاق. قد يقول قائل: "إنهما يبحثان عن شيء ما، يفتحان الستارة"، ثم يكمل قراءة صفحة أو اثنتين. وقد يجزم: "الآن قد وجداه"، ثم ينحي القلم جانبًا على الهامش. وبعد ذلك، قد ينهض منهكًا من القراءة ويتحقق بنفسه فيجد المنزل خاويًا، والأبواب مشرعةٌ على مصراعيها، وليس هناك سوى حَمامُ الغابِ ينشد أغاريده وهدير آلة الحصاد ينبعث من الحقل. "ما الذي أتيت لأجله هنا؟ ما الذي أريد أن أعثر عليه؟ يداي خاويتان. "لعل ذلك الشيء في الطابق العلوي؟" التفاح كان بالغرفة العلوية. ها نحن نعود مجددًا إلى أسفل الدار، وها هي الحديقة ما تزال على حالها منذ سنين، ولم يتغير سوى ذاك الكتاب الذي انزلق بين العشب.

لكنهم وجدوا هذا الشيء في غرفة الاستقبال. لم يكن بمقدور ذاك الشخص أن يراهما، فزجاج النوافذ تنعكس على صفحته ألوان التفاح والورود، وأوراق الشجر تزدهي خضرة ترف على كامل الزجاج. وعندما يتنقلان داخل غرفة الاستقبال، تظهر التفاحة جانبها الأصفر، غير أنهما سرعان ما ينتشران في أرجاء الطابق إذا فُتح الباب، ويتعلقان بالجدران ويتدليان من السقف، ماذا؟ يداي فارغتان. يعبر ظل طائر القلاع السجادة، وينبعث من أعماق آبار الصمت صوت حمامة الغاب. وإذا بالمنزل ينبض نبضات خفيفة وينبعث منه صوت ينادي: “أمان، أمان، أمان. "الكنز مدفون، الغرفة..." توقف خفقان المنزل فجأة. آوه، هل كان هذا حقًا الكنز الدفين؟

بعد لحظة يخفت الضوء. في الخارج بالحديقة إذن؟ لكن الأشجار ترخي سدول الظلام على شعاع شمس حائر. يبدو الشعاع دقيقًا وغريبًا وهو يغوص بهدوء تحت سطح الزجاج وإذا بي أتابعه مجددًا لأتحقق مصيره الذي سرعان ما يؤول دومًا للاحتراق خلف الزجاج. الزجاج يجسّد الموت، فشبح الموت حال بيننا، خيم على المرأة أولًا منذ مئات السنين فآل زمانها إلى خط الزوال. بعد ذلك، رحل عن المنزل مغلقًا كل النوافذ، حتى سكن الظلام الغرف. ترك المنزل وتركها وطاف العالم من شماله إلى شرقه هائمًا يرمي بنفسه المرامي، إلى أن رأى النجوم تغوص صوب الجنوب، فقصد المنزل فوجده قد انحدر بين التلال. تتعالى نبضات المنزل ومعها ينبعث ذلك الصوت: "أمان، أمان، أمان". "الكنز كنزك".

يشتد صفير الرياح في أرجاء المكان. تتمايل الأشجار وتنحني هنا وهناك. تتساقط أشعة القمر وتنسكب بشدة بين قطرات المطر، بينما تنحدر أشعة المصباح في استقامة من النافذة. تحترق الشمعة في جمود وسكون. يتجول الاثنان بين جدران المنزل ويفتحان النوافذ ويهمسان لكيلا يوقظاننا باحثين عن السعادة.

تقول الزوجة: "هنا كنا ننام" فيضيف: "وهنا كنا نغرق في بحور من القبلات." "نستيقظ في الصباح--" "نرى الأشجار وقد اكتست باللون الفضي--" "وفي الطابق العلوي--" "وفي الحديقة--" "وعندما يحل الصيف--" "وفي وقت تساقط الثلج في الشتاء--". " تنغلق الأبواب في مكان بعيد وتصدر صوتًا خفيضًا يشبه خفقان القلب.

يقتربان ويتوقفان عند المدخل. تهب الرياح، وتتساقط الأمطار بلونها الفضي اللامع على الزجاج. ويهوي الظلام بأجنحته السوداء فيغطى أعيننا. لا نسمع خطوات بجانبنا، ولا نرى سيدة تلقي عباءتها مثل الأشباح. يداه تغطيان المصباح. راح يهمس: "انظري، إنهما نائمان على ما يبدو وأمارات الحب ترتسم على شفاههما".

ينحنيان ويمسكان بالمصباح الفضي فوقنا، ويحدقان فينا برهة. ثم يتوقفان طويلًا. تمضي الرياح في اتجاه مستقيم ويتمايل لهيب الشموع تمايلًا خفيفًا. وتخترق أشعة ضوء القمر المتوهجة أرض المنزل وجدرانه وتلتقي وتلون الوجوه المنحنية، الوجوه المتأملة، الوجوه التي تتفحص النائمين بحثًا عن سعادتهما الدفينة.

"أمان، أمان، أمان" راح قلب المنزل ينبض ويردد باعتزاز. يقول الزوج "ها قد مرت سنون طوال"، وترد الزوجة "وها أنت قد وجدتني مجددًا هنا في نومنا، وأثناء القراءة بالحديقة، والضحك واللعب بالتفاح في الغرفة العلوية. هنا تركنا كنزنا". وهما لا يزالان في وضع الانحناء، انقشعت الظلمة عن أعييننا. "أمان، أمان، أمان!" راح قلب المنزل ينبض بقوة. وبعدما استيقظت صحت: "يا إلهي، هل هذا كنزكما الدفين؟ الضوء الكائن بالقلب".

***

* باحث في الدراسات العربية - جامعة لوفن، أنتويرب، بلجيكا ​

في نصوص اليوم