ترجمات أدبية

كاثرين كونر: الفتى الأجير

قصة: كاثرين كونر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لا توجد أقبية في ذلك الجزء من ولاية ميسيسيبي، لذلك تتجادل الأختان في الليل في غرفة الضيوف بالطابق الثالث. تشربان الكولا من قوارير زجاجية خضراء وتقرر جريتا كيف ستقتل كلب إيلي الأصفر.

تقول جريتا:

- بالسم.

تجلس على الأرض عند قدمي روث. ثوب نومها، كبير جدًا، يتراكم حولها على السجادة.

تقول روث:

- ماذا بعد؟

-  إنه في الحظيرة.

تقول روث:

- لن أشارك.  أنت لا تعرفين إيلي.

- لقد قلت لك ما قاله.

تضرب جريتا قبضتيها، كما لو كانت غاضبة، لكنها لا تفكر في استهزاء إيلي أو إعوجاج فمه عندما قال تلك الأشياء عن والدتهما. تفكر، بدلاً من ذلك، في شعره الشاحب الذي يتقلب على عين واحدة، في ساقيه الخرقاوين، ويداه الكبيرتين جدًا.حذرته. لم يتراجع،  لذا أخبرته بما ستفعله بكلبه الأصفر النباح. سيحاول منعها بطريقة ما.تتخيل مطاردة، مواجهة في الغابة خلف منزله.

تقول جريتا:

- أنا لست خائفةا من إيلي.

تبتلع آخر كولا لها. تجمع حاشية عباءتها وتلفها في عقدة لإبعادها عن الوحل. الفستان بلا أكمام، لذا قامت بسحب سترة فوق رأسها ووقفت وذراعاها إلى الأمام، بينما قامت روث بتسوية  السترة على كتفيها وصدرها.

تقول روث:

-  يجب أن نرتدي السراويل.

- هذا أفضل.

تقذف جريتا إلى روث شالاً. إن ذراعي روث، وهي تمدهما للخارج، طويلتان ومتناسقتان بالفعل. روث تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، تكبرها بسنتين فقط، ولكنها تختلف عن جريتا، فهى مثل والدتها.

تقول روث:

- إيلي يحب ذلك الكلب.

- هذا الكلب ليس على ما يرام على أي حال.

لقد ضربت جريتا إيلي، وضربته في فمه الكبير الناعم بسبب ما قاله. عندما فعلت ذلك أمسكها من معصمها، ووضع يدها هناك عند فمه ومسح القليل من الدم على راحة يدها. ثم رفع يدها بعيدًا، وقال:

- لقد رأيتك تتبينعها. لقد رأيت الكثير. أكثر مما قد تكون .

ولم يكن افتراء بعد كل شيء، لأن ما قاله عن والدتها كان صحيحًا. تعرف جريتا والدتها. كانت تتابع والدتها في فترة بعد الظهر.

ويوم السبت، في وقت متأخر من الليل، وأحيانًا في الصباح الباكر. تعلم جريتا أشياء عن والدتها لم تعلمها روث، ومنذ أسابيع فقط اكتشفت جريتا والدتها لأول مرة وهي ترقص وسط  القش ونشارة الخشب لإيلي، الذي كان يجلس في الكشك ويشاهد.

كانت هناك مرات أخرى، قبل لحظات كان ينبغي أن تنتبه لذلك: والدتها على حصانها بدون سرج، وإيلي خلفها، ذراعاه ملفوفان حول خصرها. وعندما علمته أمه جيدًا، جعلت إيلى يجلس على مقدمة الحصان، وركبت هى خلفه، ثدياها يضغطان على ظهره، وفمها قريب من أذنه ترشده لاستخدام اللجام والميل إلى اليسار، يسحب للخلف ويضغط على بطن الحصان بكعبه. لم تبدو والدتها هكذا من قبل، بكل هذه القوة  والحيوية، وقد ملأت الابتسامة وجهها.

تقول روث:

- لن تقتليه، حقًا.

- سأذهب وحدي.

-  أنا ذاهبة إذا كنت كذلك.

تضع جريتا يدها في يد روث. يد ناعمة، شيء لطيف الملمس، وتمسكها جريتا بإحكام على طول الطريق على درجات السلم الثلاثة. الوقت متأخر بالفعل، بعد منتصف الليل، والبيت هادئ لأنها تقود روث إلى المطبخ. هنا، وجدتا مكعبات من السكر لتحلية السم.

تلف جريتا السكر في قطعة مربعة من شاش الجبن. وهى تقول:

-  الزرنيخ ليس له طعم.

تقول روث:

-  أنت لا تعرفين.

في الخارج، تسيران في ممر عشبي ضيق يؤدي إلى الاسطبلات. إنه أوائل الربيع، وقد خرجت الحشرات بالفعل وبصوت عالٍ في الظلام. تنمو أشجار المسيسيبي حيثما أمكنها ذلك، فتنمو بأغصان متكتلة معًا، متداخلة وتجعلها أغمق مما ينبغي. جريتا وروث يتكلمان قليلا وهما يمشيان. تعمل جريتا على التحرك ببطء، للتغلب على الرغبة في الركض إلى الاسطبلات لتهزم روث وساقيها الطويلتين. تبدأ في القفز، ثم تتبخنر وتأرجح ذراع روث لأعلى ولأسفل. توقفها روث على الطريق، تستدير وتواجهها.

تقول روث:

- توقفى عن ذلك يا جريتا. سوف تستيقظ الكلاب. أنت لا تعرفين كيف تتسللين. أنت تركضين وتدوسين الأشياء.

تقول جريتا:

- لا تقولى ذلك.أنت تفسدين كل شيء.

تصلان إلى الاسطبلات ويمران على صفوف من الأكشاك، بعضها فارغ ولكن الكثير منها مع الخيول، ينامون أو يجرون إلى نوافذهم ليشتموا المتسللين. في بعض الأحيان، يمتلئ الإسطبل بالخيول، وستقوم أمهم بتوظيف صبي إضافي للمساعدة في الماء وإطعام الحيوانات، وتمشيط أعرافها وتنظيف حوافرها. وقد تم التعاقد مع إيلي بهذه الطريقة، كصبي إضافي في البيت المجاور كان سيساعد فقط في عطلات نهاية الأسبوع. لكنه تحول إلى عامل مجتهد. واحتفظت به والدتهما الآن، وهو الوحيد الدائم. الآخرون هم الذين يأتون ويذهبون، أولاد مراهقون بصدور نحيفة، بشعر مشذب، وأرجل رفيعة ذات كدمات وجروح. راقبتهم جريتا لسنوات من سطح المنزل أو من النوافذ أو من أبواب الحظيرة الطويلة. تتذكر ما شعرت به ذات مرة - طفلة تبلغ من العمر ثمانية أو تسعة أو عشرة أعوام، حتى لو كانوا غرباء عنها، كائنات من زمن بعيد.

تقول روث:

- سوف يستيقظ. نوم  يلي خفيف.

تسقط جريتا يد روث.

- هذا تخمين.

تنظر بقوة إلى الممر الطويل الذي يمتد أمامهما، مضاءً فقط بمصابيح صغيرة تتدلى من عوارض السقف. المكان غائم، مضبب بالغبار، من شعر الخيل والظل. تقضي جريتا أحيانًا ساعات هنا، تراقب والدتها. شيء فعلته وتتذكره جيدا، لأنه لم يكن  هناك قبل ذلك أية أولاد هنا على الإطلاق، وكانت والدتها ورث هي نفسها لرعاية الخيول. ولكن لم يكن هناك الكثير من الخيول في ذلك الوقت، وفتحت والدتها الحظيرة للخيول، ثم بدأ كل شيء في الازدهار. كان الأمر أكبر بكثير على والدتها وحدها، ولم يكن هناك أب. لم يكن هناك أب من قبل، ولكن فقط "هذا الرجل"، صورة ضبابية في ذهن جريتا، لشيء طويل، شيء ثقيل وأبكم. لذلك استأجرت والدتها الصبيان وبستاني وحارسا للأرض، ولم تعد هناك فى حاجة إلى جريتا وروث هناك، في الحظيرة، على الإطلاق.

لكن جريتا تواصل الذهاب، كل يوم في معظم الأوقات، لمشاهدة والدتها بوضوح، وهي ترفع كتل الملح البيضاء الصلبة، وتثبيتها بدقة في مكانها لكل حصان. تمتزج النبضات العميقة لصوتها، وهي تغني وهي تنتقل من كشك إلى كشك، مع أزيز الثلاجة في المكتب، والطنين المنخفض لآلة الحصاد  البعيدة في المراعي. وأحيانًا تخنبىء جريتا خلف كتل كبيرة من القش وتجلس ساكنة جدًا وهادئة، وهي متأكدة من أن والدتها لا تعرف أبدًا أنها موجودة هناك. ومن ثم، تراقب والدتها وهى تقفز على طول الممر، وحذاؤها يرن وينفض الغبار الذي تفوح منه رائحة القش والسماد الحلو. تراقب والدتها وهي تجلس على كرسي وتنظف خيولها، وأكمامها مرفوعة فوق المرفقين لتظهر ذراعيها المدبوغتين ومعصميها الضئيلان اللذين يدعمان يديها الكبيرتين  بطريقة ما، بشكل مستحيل، - أكبر، حتى، من أيدي البعض رجال. ستكون روث مثلها تمامًا. الجميع يقول ذلك.

تقول جريتا، وهي تقود روث إلى أسفل الممر:

- هذا الطريق.

- أعرف الطريق. لا تدليني على أي طريق.

غرفة المخزن في الجزء الخلفي من الحظيرة، خلف كومة من الدلاء الفارغة. تسحب جريتا المقبض حتى يفتح الباب وتدع الدلاء تتدحرج في الزاوية. في الداخل، قاما بدراسة صفوف الأرفف المكدسة بالمقاود القديمة وأطواق الكلاب، والشامبو اللزج والبطانيات وزوج من أحواض معدنية كبيرة. توجد هنا أيضًا سموم، متناثرة بطريقة عشوائية، حمام للبراغيث وغطس للقراد، قطعة صابون للقمل، وخلف ذلك، زجاجة من الزجاج البني مع ملصق، " للجرذان "

تقول جريتا:

- للكلاب.

تمسك روث شالها وتقترب من جريتا.

- هذا أمر خطير يا جريتا.

تقول جريتا وهي تهز الزجاجة :

- ليست ممتلئة.

- كم ستحتاجين؟

-  أقل مما يستخدم لشخص.

تقول روث:

- أنت لم تفعلى هذا بشخص أبدًا.

- ولا أنت أيضا

*

ليس منزل إيلي بعيدًا ويمكنهما الوصول إليه دون الخروج إلى الطريق، وعند ذلك عليهما اجتياز  غابة، وسياجين، ومستنقع.

تقول روث:

- الطريق أسرع.

- هل تريدين أن يرانا أحد؟

تقول روث:

- لا يوجد أحد هنا.  على الإطلاق.

لكن جريتا تتجاهلها وتقودها عبر الأسوار وإلى المستنقع الذي ليس مستنقعًا حقًا، ولكنه بقعة منخفضة من الأرض، غمرتها الأمطار الكثيرة. يغرق الماء قدمي جريتا من خلال صندلها. كانت  روث ترتدي حذاء طويل الرقبة  تحت رداءها،لذلك لم تبتل، باستثناء ذيل ثوبها الذي وصل إلى الوحل.

تقول روث:

- كان يجب أن نرتدي السراويل.

خاضتافى الماء وهما  تنفضان الحشائش والطين. ويزعجهما سرب من الذباب الكبير، يطير و يدور  ويصطدم بإذن جريتا. التى تنز بالعرق تحت أثوابها القيلة. ثمة رائحة هنا، رائحة المستنقع والعفن والسوس. وشيء آخر، شيء لاذع ومحموم، شيء مألوف لا تستطيع تحديده.  تقول:

- ما هذا؟

تقول روث:

- اسمعى.

من مكان ما إلى الأمام، يأتي نباح خافت متقطع - ثلاثة أصوات قصيرة، وقفة، ثم ثلاثة أخرى.  عرفت جريتا الصوت في الحال،  لقد سبق ان سمعته مرارًا وتكرارًا. يجلب إيلي الكلب للعمل كل يوم ويقيده في كشك خال. غالبًا ما تقبع جريتا هناك، والشيء القبيح يلهث بجانبها، بينما كانت تنظر خلسة عبر الباب ومن خلال الشقوق إلى والدتها، وإلى إيلي. ومن هناك شاهدت والدتها ترقص له. كان المشهد واضحا لدى جريتا في ذلك اليوم، كانت والدتها في الكشك عبر الممر، وذراعاها فوق رأسها، وهي تتلوى وترفع يديها  إلى أعلى. كانت بلوزتها مفكوكة وكشفت عن بطنها العاري بينما كانت تغني وتطوح شعرها، أيضًا، الذى كان قد سقط من كعكته ليطير حولها وبدا وكأنها تملأ الكشك كله بصوتها الهادئ العذب. لكن كان هناك متسع لكل منهما، لأن إيلي جلس داخل الكشك وأخذ يشاهد. كانت والدتها تقترب برأسها منه في كل مرة تدور فيها. لم تلمسه إطلاقا حتى أنهت رقصها، عندما سوت ملابسها ونفسها،  سلمت له مجرفة ثم ربتت على شعره قائلة، "لنعد إلى العمل، أتسمع؟"   لا تعرف روث شيئًا عن هذا. لم تخبرها جريتا قط.

-  إنه مستيقظ.

تخبطت روث خلفها فى الماء، فتستدير جريتا لترى أختها وهي ترفع ساقيها عالياً، مثل المشية العسكرية، ذيل ردائها مضغوطًا بين ذراعيها. ثم تضيف:

- قلت لك.

تقول جريتا:

- اصمتى يا روث، سوف يسمع.

تتلفت حولها، وتنغرز في الوحل وتسقط،  ينتفخ ثوبها وهي تضرب الماء بيديها.

تقول روث:

- ماذا تفعلين؟

الماء راكد ودافئ وممتليء بالحشرات والنباتات التي تكسر سوقها المنتفخة طبقة رقيقة من الزبد على السطح. شيء ما يوخز ضلوع جريتا بقوة، فتخرج زجاجة السم من سترتها وتلوح بها إلي روث. تقول:

- سنجده.

تقول روث:

- أنت في حالة من الفوضى.  انهضى. سأحضر أمي.

-  لن تفعلى.

- ثم سأعود إلى الحظيرة

- اترك. لن تفعلى

-  اخرسى، يا جريتا. لا تتظاهر بأنك تعرفين.

تقول روث ذلك وهى تمسك حافة ثوبها بين ذراعيها، وقد ابتلع الحذاء ساقيها البيضاوين. كان الحذاء ذات يوم لوالدتها وهو كبير  جدًا بالنسبة لروث، لكنه  أكبر بكثير بالنسبة إلى جريتا، التي غالبًا ما تتسلل إلى خزانة روث لتجربة تنانيرها وأحذيتها ذات الكعوب العالية و كذلك سراويلها الداخلية.

تقول جريتا:

- هل سأغرق في هذا الماء ؟.  لا أعتقد أنني لن أفعل ذلك.

ايلي قادم. إنه يقترب منهما، وهي متأكدة من ذلك. إنها تعرفه، تعرف أنه لا ينام بل يخرج في الليل. كانت تتبعه هي ووالدتها كثيرًا منذ اليوم الذي رقصت فيه والدتها له في الحظيرة. في المدرسة، تجلس وتفكر في الاثنين، فيما سيفعلانه بعد ظهر ذلك اليوم، أو في ذلك المساء عندما تصعدت هي وروث إلى الفراش. تتمتد على فراشها ليلاً وتتساءل عما إذا كانا هناك، يرقصان تحت الأشجار أو تحت سقف الحظيرة المظلم. بدأ الأمر على هذا النحو، مع الحيرة، حتى لم يعد بإمكان جريتا تحمله، وذات ليلة انسلت من الفراش بحذاء مطاطي فى قدميها وغادرت المنزل للبحث عنهما. لم يكن عليها أن تذهب بعيدًا. في الحظيرة، كانا ملتصقين  تماما، يضغط إيلي بذراعيه على ظهر والدتها. إنه أطول بكثير منها، حتى عندما تحدثت، كانت كلماتها مكتومة فى صدره. تلمست يداه الكبيرتان شعرها وكتفيها ونزلتا إلى وركيها. لم تنم جريتا طوال تلك الليلة. استعادت المشهد فى عقلها، فمهاهما مفتوحان ولعابهما سائل، مما جعل جريتا متوترة بشدة، تشعر بوخزات فى جسدها تحت الملاءات.

تقول:

- لن يفلت من العقاب. " أنا حذرته. أخبرته بما سأفعله بكلبه القبيح .

لقد قطعت الوعد بعد أن ضربته. قال لها: "اذهبى وحاولى". حدث شيء ما مؤخرًا وأصبحت اللقاءات بين والدتها وإيلى  نادرة، لم تعد كل ليلة أو حتى كل ليلتين. حاولت جريتا أن تصرخ في وجهه بأنها تعرف السبب، وأنها كانت تعرفه طوال الوقت. لكن هذه كانت كذبة، وبينما كانت تراقب ظهره النحيل، عاريًا ومنمشًا ولامعًا وهو ينحني على كرة متشابكة من الأسلاك الشائكة في العشب، أدركت أنه سيعرف ذلك.

تقول روث:

- أنت لا تهتمى بقتل ذلك الكلب. أليس كذلك ؟

تسحب جريتا ساقيها بسرعة وتقف. الماء يتدفق من ثوبها. فمها مفتوح، ويلتصق هواء المستنقعات الحامض بلسانها، وخلف الأشجار مباشرة ترن سلسلة الكلب، وحفيف قدمي إيلي الكبيرتين وذراعاه الثقيلتان تضربان الأغصان. يطفو عليها بياض قميصه، ويبقى هناك للحظة، هيئة شخص رفيع  طويل يخرج من الظل. ولكنه يختفى مرة أخرى، بنفس السرعة، ضباب أبيض يتخلل الأشجار.

تلوح جريتا لروث التي كانت تتراجع:

- تعالى.  . تعالى يا روث.

وتتبعانه. تشقان طريقهما بين الأعشاب وجذوع الأشجار المتعفنة. تتركان المستنقع خلفهما وتدخلان في الغابة. وراء إيلي، يقودهما وميض أبيض من قميصه وسط الأوراق، ووميض من رأسه الشاحب أيضا.

*

تقول راوث: - إنه يأخذنا إلى المنزل، وهي على حق. هناك، أمامك مباشرة، هو السياج الأول. قريباً، الثانية وتركا الغابة خلفهما، وعبرتا إلى الفناء الخاص بهما، وسيصبح كل شيء مرئيًا الآن. كلهم أيضًا، وعندما يصلون إلى الحظيرة، عندما يكملون دائرة، يدور حولهما ويواجههما.

يقول:  - كلاكما.

تغطي قبعة بيسبول شعره الشاحب وتخفي عينيه. لا تستطيع جريتا معرفة ما إذا كانت كلماته موجهة إليها أم إلى روث. تجيب روث أولاً، تقول:

- بالطبع

- أمكما ستقتلكما .

تقول راعوث: - لن تقول لها . تتحرك نحوه، قريبة بما يكفي الآن لأن تلمسه. يخلع قبعته ويبدأ في تهوية نفسه. ثمة أخدود وردي يمتد عبر جبهته، حيث يضغط الغطاء على جلده. تتساءل جريتا عما إذا كان بإمكانها أن تشعر بالإثارة، إذا ما لمس إصبعها جبينه الأملس الشاحب.

يقول إيلي:

- كيف تعرفين ما إذا كنت سأخبرها؟

تقول روث:

- لن تفعل أبدًا.

يحدقان في بعضهما البعض، إيلي وراوث. إنهما في نفس العمر وكلاهما في السنة الأولى من المدرسة الثانوية. لكن جريتا لم ترهما يتحدثان كثيرًا هنا في المنزل. ليس حتى الآن، وبدأت جريتا تشعر بالحكة تحت سترتها وثوبها. إنها ساخنة، مختنقة، يلتصق النسيج الرطب بلحمها، وتضع زجاجة الزرنيخ بين ركبتيها، تنتزع السترة عبر رأسها وترميها في العشب. يحاول الكلب مطاردتها، لكن إيلي يمسك بالسلسلة ويمنع الكلب ترتفع ساقها الأماميتان في الهواء معافرة.

قال إيلي لروث:

- أختك تريد قتلي.

يستند إيلى على جدار الحظيرة ويثني ذراعيه على صدره.

تقول راعوث:

-  نعم.

- هل تعرفين لماذا؟

- نعم.

-  ما رأيك ؟

تقول روث:

-  أعتقد أنه لا ينبغي عليك على الأرجح أن تقول أشياء عن ماما لجريتا.

نظرت مرة أخرى إلى جريتا. ثم أضافت:

- إنها لا تفهم أنك لا تعني ذلك.

- هو يعني ذلك. إنه يعني كل شيء .

تضغط جريتا بكفها على الزجاجية الثقيلة للتأكيد.

قال إيلي لروث:

- أخبرى أختك أنها لا تستطيع أن تقطع عظمة .

تقول راعوث:

- إنها تعرف،

تقول جريتا:

- أخبريه أنه لا شيء. أعرف ما سيكون عليه، مثل كل الآخرين مع كلابهم السمينة  العجوز القذرة،  حافية القدمين. رجال كبار قبيحون، مشعرون، سمينون للغاية بالنسبة لأكواخهم الصغيرة.

يبتعد إيلي عن الحظيرة، ويأخذ عدة خطوات نحو جريتا.

-  قولى لها أن والدتها عاهرة .

قالت جريتا لإيلي، وهى تحمل زجاجة السم في يدها:

- لقد أخبرت أمى بما قلته. إنها لا تريد رؤيتك مرة أخرى.

-  ما هذا الذى في يدك؟

تقول جريتا

-  ماء للكلب ،  تعال وخذه.

تنقر بلسانها، كما تفعل والدتها عند استدعاء الخيول.

لكن إيلي لا ينتبه. إنه ينظر فوق رأس جريتا، أسفل الطريق المؤدي إلى المنزل. تستدير جريتا ويظهر بريق من الضوء في نافذة غرفة المعيشة.

تقول جريتا:

- سأذهب وأخبرها الآن.  سأخبرها بما دعوتها به. فقط انظر ماذا تعتقد .

ودون انتظار رده، تنطلق في الطريق نحو المنزل، يرتطم ثوبها المبلل بسيقانها ويهب هواء الليل باردًا على وجهها المحترق.

*

على بعد عدة أمتار من المنزل، خلف صندوق سميك من خشب البلوط، توقفت لتحدق في الشكل الداكن لأمها، المظلل في مربع الضوء. من هذه المسافة، تبدو أمها ضبابية، لطخة على الزجاج، بصمة داكنة. جاءت روث مسرعة في الطريق، وإيلي وكلبه على مقربة من الخلف. يختبئون خلف البلوط بجانبها. لم يكن هناك متسع كبير، مع الثلاثة منهم والكلب، وقد تجمعوا معًا، والكلب جاثم أمامهم،يلهث، لسانه الوردي الكبير يتدلى من فمه. تلوى جريتا أنفها وتنزلق بعيدًا في منتصف الظل من الشجرة. يضيء ضوء القمر على ذراعها الشاحب، ويضيء على معصمها النحيل وأصابعها الطويلة الملفوفة حول عنق الزجاجة

همست روث:

- سترانا

تقول جريتا:

-  لا يمكنها رؤيتنا. هناك توهج على الزجاج.

تقول روث:

-  أنت لا تعرف ". ثم،  ماذا يفعل؟

تقول جريتا:

- إنها لا تنام كثيرًا.  حقا يا إيلي؟

لا يجيب إيلي. يلف قبعته بحيث يكون المنقار إلى الخلف وعيناه مستديرتان ومبللتان ومشرقتان من انعكاس الضوء الأصفر في نافذة والدتهما. لكنه ينظر إلى روث، التي تتكئ على جذع الشجرة. روث، وهي صورة مصغرة للمرأة أعلاه، تشد شعرها إلى الخلف فوق كتف واحد بحيث ينكشف منحنى خدها وطول رقبتها.

تلمس جريتا كتفها:

- تخيلى يا روث إيلي رأى ثديي أمى العارييين.

تشعر جريتا بالصدمة هذا ؛ حيث تهز روث كتفيها، وتسحب يد جريتا بعيدًا عنها

تتابع جريتا:

- لقد رأت أكثر من ذلك بكثير. ربما كلها.

وبينما كانت تقول هذا، تتخيل جريتا صورة ظلية والدتها الداكنة الشاحبة، والخطوط العريضة الجميلة لجسدها تحت ثوبها. ما كان يجب أن يشعر به إيلي، وهو يعمل بجانب مثل هذه المرأة، ربما شعرت به جريتا دائمًا. عندما كانت طفلة كانت تحب تقبيل فم والدتها. تحب أن تنظر إليها، و قد استلقت على ظهرها تحت نافذة والدتها، وتخيلت والدتها فتاة لا تكبرها سنًا، وشعرها مضفر إلى أسفل ظهرها، وذراعاها رفيعتان وساقاها طويلتان، مثل روث.

قالت راعوث لإيلي:

- ما الذي تتحدث عنه؟

- أختك تخترع أشياء.

تقول جريتا:

- صدقيه إذا أردت.  سوف تفعلين. لقد تركتيه يدعوها بالعاهرة.

تقول روث:

-   لم يحدث. لا علاقة لي به.

- أنت لم تدافعى عنها. لقد وقفت إلى جانبه.

- لا أعرف.

ثم تستدير راعوث إلى إيلي:

-   كيف يمكنك رؤيتها عارية؟

تقول جريتا:

- لا تكونى عمياء يا روث.

"    - لم أر أي شيء قط.

كانت عيناه على روث بينما كان يتحدث، على وجهها، المتوهجج بالخجل المفاجئ، وعلى أصابعها التي تتلاعب بنسيج ثوبها.

قالت روث لجريتا:

-  لم يفعلا ذلك.  ماما لا.

تقول جريتا:

- أنت لا تعرفين شيئًا عن أمي أو إيلي.

لكن جريتا نفسها لا تعرف إلا القليل عما يحدث بين والدتها وصبيها المستأجر. إنها تعلم فقط أنهم يتلامسان،وأنهما يبدآن إيقاعًا ثم يغيرانه ، أو يبطئانه من سرعته  أو يضيفان إيقاعًا جديدا، أو ضربة سريعة، أو رنين زجاج مكسور عندما اصطدما ذات مرة فى المخزن وكسرا ثلاثة من المصابيح االاحتياطية. وهي تعلم أيضًا أنهما لم يعودا بحاجة إلى بعضهما البعض، أو أن إيلي لم يعد بحاجة إلى والدتها. و هى الآن تعرف لماذا.

تندفع جريتا بينهما وتضغط على ذراع روث:

- ماذا تعتقدين أنها تفعل يا روث؟  إنها تنتظر.إنها تنتظر إيلي ليخرج ويعطيها الإشارة.

تصدقها راعوث. تعرف جريتا  ذلك من وجهها المقروص، والفم نصف المفتوح، أن شيئًا ما قد طقطق، وربما اشتبهت روث في ذلك. ولهذا أضافت جريتا:

- أنت تعلمين أنه صحيح يا روث. إنه لعبة ماما. والآن سئمت منه. لذا حان دورك.

تمتد ذراع إيلي وتلتف أصابعه حول قبضة من شعر جريتا و يصرخ في وجهها:

-   أنت فتاة صغيرة غبية ،. "فتاة صغيرة غبية لا تستطيع أن تهتم بشؤونها الخاصة!  تمسك يده الأخرى بكتفها ويهزها بشدة حتى تنزلق زجاجة الزرنيخ تقريبًا من أصابعها.

يقول:

-  وأنا أعلم لماذا. أعرف لماذا.

- أنت لا تعرف أي شيء.

جريتا متجمدة تحت يديه، الساخنة جدًا واثقيلة على الجزء العارى من كتفيها.

يقول إيلي:

- أنا أعرف السبب.  لأنك مثلها تمامًا.

يختنق صوته وهو يقول هذا، ثم يتراجع خطوة، ويطلق سراحها.

-  لماذا لا يمكنك فقط أن تتركيني وحدي؟

هناك نظرة لم ترها جريتا من قبل – ارتعش فمه متضخم، كاد أن يختفي، وجهه كله قد  انهار. يحنى رأسه ويخفي عينيه بيديه.

تقول راعوث:

- هل تبكي؟

ينحني، والكتفان مترنحان ثم يصدر صوت عاليا ومذهلا مثل صهيل حصان. قبل أن تفكر في ما ستفعله، تلقي جريتا ذراعيها حول عنقه. شدته بقوة على جسدها، وضغطت وجهها على كتفه لفترة كافية لشم رائحته، ورائحة الشوفان والقش وشيء آخر - شيء مألوف -  ثم دفعها بعيدًا.

يختنق بالكلمات ويمسح عينيه بظهر يده

- اتركني بمفردى.

تقول روث:

- لماذا تبكي؟

تجعل النغمة الحادة لنبرة صوتها جريتا تدير رأسها لتنظر إليها، وتتأمل التعبير على وجه روث - الشفة العليا فقط ملتوية قليلاً، وأنفها، وفتحتى أنفها - تشبه وجه والدتها - مثل والدتها تماما، ذلك الوجه الذي تصنعه والدتها عندما تلد قطط الحظيرة قططًا ميتة، أو عندما تنظف جرح حصان مصاب، أو عندما تخطو في شيء سيئ وتنفض حذائها على حافة درجات الشرفة. نعم  الوجه هو وجه والدتها، نفس الشيء الذي كانت تفعله عندما تبلل جريتا سريرها عندما كانت طفلة، أوعندما تمرض وتتقيأ على الأرض. الاستهزاء والقسوة، وهو جعل والدتها قبيحة، وجعل التجاعيد تظهر حول عينيها ؛ لقد جعل هذا الأمر جريتا تريد أن تختبئ، وتهرب في الغابة وتتخيل رد فعل والدتها، وكم ستكون متفاجئة عندما تدرك أن جريتا قد رحلت، وأنها لن تعود أبدًا.

قال إيلي ورأسه مازالت بين  يديه:

-  دعاني وشأني..  اتركاني وحدي.

*

من خارج نافذة غرفة المعيشة، تنظر جريتا إلى صورة والدتها المشرقة. يلتف شعرها بعنف حول الدائرة الشاحبة لوجهها وهي تقف، إحدى ذراعيها ممتدة فوق رأسها. سقط كم ثوبها ليكشف عن طول ذراعها النحيف، وفجأة أدركت جريتا أن ثوبها شىء قبيح، شيء فوضوى وقذر يتدلى من ذراعيها في طيات مبتلة.

إنها قريبة بما يكفي للوصول ولمس الزجاج، وما تزال والدتها لا تراها. إنها تنظر فوق جريتا، وراءها، في الظلام. عيناها الداكنتان نصف مغمضتين، ورأسها متجه إلى جانب واحد كما لو أنها غارقة في التفكير، كما هي تحلم بشيء ما، وفي حركة سريعة واحدة، تسحب جريتا ذراعها للخلف وترمي زجاجة السم مباشرة على وجه والدتها. تحطمت النافذة، والزجاج  تطاير، و جرت جريتا إلى الوراء. الصوت - تنفسها السريع، صوت خفقان قلبها السريع، صدى كسر الزجاج - يقطع النغمة البطيئة للجراد والصراصير، الأنين الناعم للحصان في الحظيرة. يتبع جريتا، زئير أجوف، وهي تجري في الطريق ؛ يغرق روث، التي تصرخ بشيء ما بينما تمر جريتا. إنها تطير معها، هذا الضجيج، وهي تتخطى صورة إيلي المترهلة بجوار البلوط، متجاوزة كلبه الأصفر النباح، متجاوزة الحظيرة  ومتوحهة  نحو الأشجار.

تتسلق السياج الأول وتحتك بالأغصان وإبر الصنوبر الحادة. تواصل السير وعندما تصل إلى المستنقع، تغوص في الماء. يلتصق ثوبها المبلل بفخذيها ؛ كان الماء يتناثر على وجهها، ومرة أخرى الرائحة موجودة، دافئة وحادة، وهذه المرة تعرفت عليها. إنها تشبه رائحة نساء المدينة، اللائي يتسكعن على الشرفات الأمامية، يأكلن الكرز من الأكياس الورقية ويلوين شفاههن ليبصقن البذور بعيدًا في الساحات. لقد رأتهن جريتا، وهن يلوحن بأذرعهن الكبيرة المنمشة وينادين المارة، أمها وروث، ومن خلفهما، جريتا. ما زلن هناك، يفركن أفخاذهن الممتلئة بأكفهن، وأثداؤهن منتفخة تتمايل في أعلى صدورهن، وأفواههن ملطخة باللون الأحمر الفاقع، وهى منتفخة بالفاكهة.

(تمت)

***

......................

المؤلفة: كاثرين كونر/   Katherine Conner/ كاتبة أمريكية  تعمل  أستاذة مشاركة للغة الإنجليزية في جامعة ولاية نيكولز، حيث تدرس الكتابة الإبداعية. ومحررًا لهيئة التدريس في جريس جريس: مجلة على الإنترنت للأدب والثقافة والفنون. حصلت الدكتورة كاثرين كونر على درجة الدكتوراه. من جامعة ولاية فلوريدا، وشهادة الماجستير والبكالوريوس. من جامعة جنوب ميسيسيبي. بدأت كونر التدريس في جامعة ولاية نيكولز في عام 2010. وظهرت قصصها فى العديد من المجلات والدوريات الدبية المعروفة.

في نصوص اليوم