ترجمات أدبية

لوري ستون: قطة

قصة: لوري ستون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كنت أجلس بجوار شخص غريب في قطار عندما مررنا بالمنزل الذي كنت أعيش فيه عندما كنت طفلة. كان محاطا بأشجار طويلة لا أعرف أسمائها. كانت الأغصان تسقط وأكسرها على ركبتي مثل العظام. ضبطت يد الغريب تحت معطفه. كان بإمكاني تركها عند هذا الحد.

كان يشرب من قارورة، قال:

- كيف كان حالك عندما كنت طفلة؟

قلت:

-  سرقت قصص الآخرين.

قال:

- كل الأطفال يفعلون ذلك. هل فعلوا ذلك حقًا؟

كنت على استعداد لتصديق ما قاله. كان ثمة نوع منالاسترخاء. أحببته. كان شعوراً بالثقة مهما كان معنى ذلك.

قال:

- ذات يوم وأنا في حالة سكر سقطت على درج وكسرت رأسي. عندما استيقظت كان هناك ملاك جالس على سريري. كان لديها شعر أحمر وقالت إنها تحبني. لقد توقفت عن الشرب بعد ذلك، ولكن لفترة فقط.

ابتسمت. هل كانت ابتسامة حزينة؟ كيف نتفهم الغرباء؟ متعة الغرباء هي متعة الطبيعة. إنه يفوق قدرتنا على المعرفة لأننا غرباء.

كان لدي صديقة كان والدها يمتلك طائرة بحرية، وكان يأخذها لتطير. أخبرت الناس أنني سافرت في هذه الطائرة. قلت إن السحب والرغوة بدتا متشابهتين إلى حد كبير من الجو كما كانتا من الأرض. لم أكن أريد أن يكون والدها أبي. لقد كان رجلاً غير سعيد للغاية. كان ذا فم حاد كالخط المستقيم. أردت أن أكون في مكان ما، وأردت ما لدى الآخرين.

قلت:

-  ماذا تفعل عندما لا تركب القطارات؟

كان للرجل عينان رماديتان. قال:

-  أنا أدرس الشيخوخة في الخلايا.

عندما قال كلمات الشيخوخة في الخلايا، وقعت في الحب. شعرت كأنك تعرضت للانقضاض في فم شيء ما.

قلت:

- كيف تشيخ الخلايا؟

قال:

- جميع الكائنات الحية معرضة للتلف، لكن الكائنات الحية الأصغر لديها خلايا جذعية أكثر، والتي تعمل على إصلاح التلف. الشيخوخة هي الفشل في إصلاح الضرر.

لقد ألقى هذا بضوء جديد على كل شيء. هل تعرف الإحساس عندما تكون في عاطفة قوية وليس لديك فكرة عن السبب؟

مررنا بمزرعة. كانت هناك كعكات ثلجية على سقف مائل. أشرقت الشمس على البياض. لقد جرحت عيني، لكن كان من المستحيل ألا أنظر إليها. كان الثلج يذوب في الجداول. كان بإمكاني أن أرى ما في الغرف. في إحداها كان هناك رأس أيل (ظبى)  مثبتًا على حائط، وقرونه متفرعة على كلا الجانبين، وفمه منحني عند الأطراف مثل الابتسامة، وعملة من الضوء تتلألأ من عين زجاجية كبيرة. ربما كانت الأيائل سعيدة معظم الوقت.

كنت قد اشتريت تذكرة حتى نهاية الخط. ظننت أنني سأذهب إلى المطار من هناك وأسافر إلى مكان جديد. كان بإمكاني أن أرى نفسي كسلسلة من أضواء التصفير النابضة. حرك الغريب وجهه بالقرب من وجهي، وشممت رائحة الويسكي في أنفاسه.

قال:

- ما الذى تحبين الاعجاب به؟

قلت:

- الملابس.

ضغط وركه على فخذي. كان بإمكاني تركها عند هذا الحد. كان الجو باردا في القطار.

قال:

-  ماذا تفعلين عندما لا تركبين القطارات؟

قلت:

- أصمم ديكور المسرحيات.

قال:

- أنت فنانة.

قلت:

- أنا أصنع إطارات للفنانين للعمل فيها.

فجأة قفز الرجل وأشار إلى المقعد المقابل لنا. انطلق فأر ودور حول نفسه بذيله الرفيع والحزين. كان له جسم بني سمين. انتقل إلى النافذة، وتتبعنا نظرتهإلى حديقة شتوية مروعة، مليئة بالسيقان الميتة. انتزع الغريب الفأر بطريقة لا تؤذيه. رأيت فراءه يرتجف في يديه الكبيرتين، وحاولت أن أتذكر آخر مرة أكلت فيها شيئًا. تساءلت  كيف يمكن أشعر بلمس تلك الأيدي.

قال:

- سأطلق سراحه عندما يبطئ القطار.

وذهب إلى نهاية العبرة وفتح الباب، ولم يترك شيئًا وراءه.

أحصيت الثواني التي رحل فيها وفكرت في الاتصال بوالدتي التي ماتت. قلت لها في أفكاري، "أمي، هل شعرت يومًا بالتشويق الذي يأتي من العدم؟ فجأة، أنت معلقة بخيط رفيع. أحب الإحساس بعدم معرفة كيف سينتهي الأمر ". تذكرت وجه الرجل. كانت هناك أخاديد عميقة عمودية تحت أنفه. ظل جانب واحد من وجهه في الظل طوال الوقت الذي تحدثنا فيه، الجانب المظلم من القمر.

عندما وصل القطار إلى المحطة الأخيرة ولم يعد الرجل، شعرت بثقل بدا لي من المستحيل التعافي منه. الحب هو الحب. لقد استمتعت بصدق بهذا الحب ولم أرغب في الشعور بالسوء حيال الإعجاب به. يفعل البشر هذا الشيء المتمثل في سرد قصة إذا كانت النهاية تجعلهم حزينين. يعيدون سردها حتى يتمكنوا من تجنب الحزن لو نظروا فقط. كانت كل العلامات هناك، وتحدق في وجوههم. نحن لا ننظر. هذه هي المتعة.

لم أكن أسير في اتجاه معين بعيدًا عن محطة القطار حتى وصلت إلى صف من الخيام التي أقيمت على طول الجسر الخرساني لنهر جاف. لم تكن الخيام خيامًا حقًا عندما اقتربت. كانت بطانيات وأغطية مثبتة على أطراف الأشجار وغيرها من الأوتاد المزروعة بشكل مؤقت. لقد أمطرت الليلة السابقة، وتناثرت الأرض ببقايا الملابس الحقيرة وصناديق التعبئة.

تساءلت عن الأشخاص الذين انجرفوا إلى هناك. كان المناخ معتدلاً وتذكرت وقتًا لم أقل فيه أنني أعيش في منزل. عشت ذات الصيف في حقل بطاطس مع صديقتي التي كان والدها يمتلك طائرة بحرية. لقد نمنا في سقيفة، وتسممنا بالمبيدات. تباطأت حركاتنا، وتلاشت حواف الألوان حتى عدنا إلى الكلية في الخريف. بينما كنا نتسمم، أخبرتها أنني سرقت قصتها، وأخبرتني ما سيقوله الرجل في القطار لاحقًا - "الأشياء التي نتذكرها لم تحدث لنا." لقد تجاهلنا خطر المبيدات الحشرية.كنا صغارًا ولم نكن نعرف مدى سهولة انتهاء الأمور. لقد جعلنا نشعر بالراحة بطريقة لا يمكنك التعافي منها بعد مرور فترة زمنية معينة بين أصابعك. حتى ذلك الحين، أنت فقط مثل خلية الشيخوخة.

كنت أفكر في أسباب عدم عودة الغريب، وتحرك السؤال المفتوح لأعلى ولأسفل وأنا أتنفس. كان سكيرا. مما جعلني أفكر في كل الأشياء التي كانت خاطئة معي. نوع معين من الرخاوة يسقط عليك جراء الفشل.

عندما وقفت هناك، أتساءل إلى أين أذهب بعد ذلك، قفزت قطة من المخيم إلى الجسر حيث تم إيقافي. كانت القطة سوداء وناعمة وعضلية بشعيرات بيضاء وعيون ذهبية. لقد فهمت القطة الانفصال الجذري عن العالم المادي الذي اختبره البشر بسبب اللغة والطريقة التي يمكنهم بها اختراع الأشياء في رؤوسهم. حَكَّت القطة رأسها بساقي بقوة وإصرار. وعندما جثوت على ركبتي للمسها، فقدت الاهتمام بالعثور على الرجل. ليس حقًا، أو لماذا يجب أن أخبرك بذلك؟

(النهاية)

***

..........................

المؤلفة: لورى ستون / Laurie Stone. كاتبة أمريكية وناقدة أدبية ومسرحية. من مواليد عام 1946 م، خريجة كلية بارتارد عام 1968م وحاصة على الماجستر من جامعة كولومبيا عام 1969م، مارست الصحافة والنقد المسرى والكتابة النقدية بصورة عامة إلى جانب كتابة الرواية والقصة القصيرة، عملت كاتبة مقيمة في معهد برات، جامعة أولد دومينيون، ثوربر هاوس، مركز كيميل هاردينغ نيلسون للفنون، وكلية موهلينبيرج. قامت بالتدريس في ورشة عمل كتاب باريس، والندوات الأدبية الصيفية في سانت بطرسبرغ، روسيا، وجامعة تشابمان، وسارة لورانس، وأنطاكية، وفيرلي ديكنسون، وولاية أوهايو، وجامعة ولاية أريزونا، وفوردهام، ومؤتمر كتاب ستونكوست. حصلت على إقامات قصيرة في جامعة ييل، وكال آرتس، وكلية ترينيتي، وجامعة شمال تكساس، ومركز آرت سنتر في باسادينا، وكلية ميلز، وجامعة إنديانا، وجامعة كونيتيكت، وكلية الفنون في معهد شيكاغو للفنون. عملت في مجلس إدارة دائرة نقاد الكتاب الوطنية وأدرجت في "سلسلة الكتاب الأحياء" في كلية موهلينبيرج. ألفت ستة كتب لكنها اشتهرت بكتابها "حياتي كحيوان، قصص" (2016م)،  نشرت قصصها فى معظم المجلات والدوريات الأدبية المشهورة.والقصة المترجمة من صفحتها الشخصية على الفيس بوك.

في نصوص اليوم