تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

ترجمات أدبية

جينا شونغ: أسماء اليعاسيب

بقلم: جينا شونغ

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

أخبرتني ستاسي شين إن الطريقة الوحيدة للانتهاء من حكة لدغات البعوض هو أن أبصق عليها وأرسم  فوقها بأظافري إشارة x. ثم بللت ركبتيّ بلعابها، وحركت أطراف أظافرها فوق اللدغات المحمرة والتي تسبب الحكة، وخلفت علامة بيضاء على جسمي الذي لوحته شمس الصيف بلونها.   وبالحال أوقفت رغوة لعابها الحكة.

نحن في صيف عام 2002. بلغت الثانية عشرة.  كذلك ستايسي. رافقت الوالدة إلى السوق لشراء حمالة صدر. كنت أشعر  بها مثل حبل يربط شيئا. ولكن فعلا لا حاجة له ليكون كل شيء في مكانه المناسب.  قبلت جون الأخ الأكبر لإيستر شو، في حفل عيد الميلاد وكنت أرتدي الحمالة، وسمحت له أن يضع يده على صدري. تلاقت أسناننا مثل شوكات طعام مودعة في درج خزانة، ولكن لم أشعر بالبؤس، حتى شاع الخبر بين الجميع، فحاصرني بقية الأولاد، وشفاههم مضمومة مثل فم السمكة الذهبية.

حينما لكمت واحدا منهم، أنا الوحيدة التي تعرضت للجزاء، و اخبرني والداي أنه كان من الخطأ أن أقبل جون. ثم امتنع الجميع عن التكلم معي، ما عدا ستايسي، والتي لا تتلقى الدعوة إلى الحفلات مع أنها فاتنة وعائلتها تعيش في بيت مرتب وكبير.

والسبب أنها كانت تتلو صلواتها في المطعم أثناء الغداء، تغمض عينيها وتدمدم بشفتيها أمام الجميع كالمسخ. أما أنا لم أعتقد أنها دميمة. وأردت أن أنهرها من أضلاعها حينما باشرت بالصلاة، وأن أخبرها أن تفتح عينيها وأن لا تستدعي لفت انتباه الآخرين بسلوكها الغريب. ولكن جزءا مني ارتاح لأنها تبدو غير معنية بأحد، حتى لو أنهم تهامسوا وضحكوا منها.

دعتني ستايسي وعلمتني السباحة بأسلوب الفراشة في بركتها، ومثلنا دور المنقذ وتدربنا على إنقاذ بعضنا بعضا. راقبت الماء الممزوج بالكلور وهو يرتطم بصدرها الهزيل، كان جلدها شاحبا ويميل إلى اللون الأزرق في الماء. أردت أن أبقى في البركة حتى يصبح لون جلدينا بلون السماء في الليل ويصبح لنا حراشف وزعانف، ونتحول إلى سمكتين مؤنثتين تدوران حول بعضهما البعض. في الليل صليت إلى ربي كي تحبني ستايسي كما أنا أحبها.

انتظرت مع ستايسي في الشارع حتى غروب الشمس، وحتى امتلأ الفضاء باليعاسيب، وكانت ستايسي تسميها الحشرات المضيئة. طبعت كلمة "يعسوب" في مربع البحث الوامض الموجود على شاشة الكومبيوتر، ولاحظت أنه له أكثر من دستة من الأسماء، ومنها "ذبابة القمر"، وهي ألطف هذه المرادفات. حبست أنا وستايسي يعسوبا في زجاجة، ولكنها طالبت بالإفراج عنه، فقد كان حزينا في الداخل وهو يومض وراء الزجاج، يلمع ويخمد. وفتحت الغطاء فانطلق كالحوامة واختلط بالليل، وكان مثل نابض ذهبي وهو يندفع من الزجاجة إلى وجهها، ثم إلى أعلى، نحو النجوم.

تعتبر والدة ستايسي جميلة المحيا، مثل ابنتها، ولكن دائما تبدو جاهزة للبكاء، ووالدها لا يترك الهاتف من يده، وباب مكتبه مغلق. أتيت من بيت ستايسي وأنا أحمل الكثير الهدايا في كيسرداخل علبة بريدية مليئة بمطريات الجلد السميك، ومراهم ممتازة، وطلاء شفاه بلون الأجاص، فقد كانت والدة ستايسي تمتلك كثيرا منه. وكانت تفرقع بلسانها من هذه الوفرة، ولكنها لا تعيد شيئا لمصدره.  خزنتها في خزانة الحمام، وأحيانا كنت أفتح العلب والزجاجات الصغيرة والأنابيب واستنشقها بعمق، وأتخيل أنني في بيت ستايسي.

في مساء الأحد بعد الصلاة في الكنيسة، تناولت عائلتي وعائلة ستايسي الطعام في مطعم صيني في باراموس. أكلنا بانتظام وبدأنا بصحن "نودلز لومين"  وانتقلنا لأجنحة الدجاج المقلية، ثم لفافات البيض، والزلابية المدخنة، وأخيرا المثلجات الطرية وطبق من الجيلي للتحلية. وأعجبني أن أراقب ستايسي وهي تأكل، كانت شفتاها تلمعان بالدهون وهي تقضم بأسنانها ساق دجاجة أخرى. 

قلبنا الورق المبقع بالدهون، ولعبنا بقلمي والدينا لعبة ماش، وتنبأنا بحظوظنا. بنسيون، شقة، كوخ، بيت. ثلاثة أولاد، ولدان، سبعة أولاد، لا شيء. بعد الغداء، فتحنا بسكويت الحظ، وقرأنا المكتوب في الداخل على رقعة ورق - ستسمعين أنباء سعيدة. إذا تابعت التجوال سعيا وراء مشكلة، ستورطين نفسك بمشكلة عاجلا - وقبل أن نلتهمها، ذاب الورق الرقيق على لسانينا كأنه سكر.  تجادل والدانا لدفع قيمة الطعام، واختلست خلال ذلك مع ستايسي حفنة من السكر كانت على طاولة التحلية، حتى أصبح حول كرسيينا قوس صغير وردي وأصفر وأخضر من الحلويات، وتلون لسانانا بملونات الطعام. تجاهلنا الجدل المستعر حول الفاتورة، ولم نعلق على طريقة جر أم ستايسي لذراع زوجها وهي تهمس له، بصوت مرتفع، يكفي ليسمعه كل الموجودين حول الطاولة، وتنصحه بالتوقف عن التظاهر، أن يكف عما هو فيه، أو أن يستسلم، ولو مرة واحدة في حياته. 

رد يقول: "لا تكلميني بهذه الطريقة، أيتها المرأة". ولم أفهم هل كان يمازحها أم لا، وفي طريق العودة إلى البيت قالت أمي لوالدي: "أعتقد أن النقود لا يمكنها شراء كل شيء".

في صباح يوم أحد، جلست بجانب ستايسي في الكنيسة، وأرسلت تحية إلى الرب، فقط لأتأكد أنه يستمع لشكوانا.  وكما اشتبهت: لم يرد. حاولت أن أركز على القداس،  ولكنني ضجرت، وشعرت أنني أقف على السقف مثل حشرة تافهة،  ولدي ألف عدسة في كل عين عنبرية. بكت ستايسي وهي تصلي، وعلمت ذلك لأنني كنت أراقبها بزاوية عينيّ متعددة العدسات، مع أنه يتوجب علي أن أحتفظ بهما مغلقتين. كانت رموشها طويلة جدا وتلقي ظلا على وجنتيها المبتلتين.

قالت لاحقا: "أحيانا أشعر أن الرب حولي من كل الجوانب. كيف أنت؟". كنا نجلس في سيارة والدها، ونأكل مقليات فرنسية لزجة من محلات ويندي المجاورة. أردت أن أقول لها نعم، ولكن لم أعرف كيف أعبر لها عن رأيي: أن الله فكرة غير واقعية، على الأقل ليس بالطريقة التي تملأ ذهنها وخيالها.    

كان القس دائما يتكلم عن النار - ألسنة من اللهب تلمس رؤوس المؤمنين المخلصين، وبحيرات من النار مزدحمة بالمذنبين. وحينما أغلق عيني وأحاول تخيل الله، لا أستطيع رؤية تلك النيران. أردت أن أخبر ستايسي أنني أشاهد، عوضا عن النار، كتلة من ملايين اليعاسيب، الحشرات المضيئة، نار متوهجة، شرارات ذهبية، ذبابات القمر، وهي تنير الليل المعتم، ولكن لم أحرك لساني بأي كلمة.

قبل أسبوعين غادرتنا ستايسي وأمها دون خبر مسبق، وكما قالت والدتي في وقت لاحق وراء هذا التكتم طلاق والديها. وحينما سألتها وما علاقة ذلك برحيل ستايسي، طلبت مني أن أصمت وأتوقف عن طرح الأسئلة عن أمور لا أفهم معناها. وبعد ثلاثة شهور أصبح بيت ستايسي معروضا للبيع،  ورأيت أمامه لافتة تحمل صورة وجه مبتسم لشركة "ريالتور"، وتم تجفيف البركة وتغطيتها، واحتلت المنزل عائلة بيضاء لم تستعمل البركة على الإطلاق تقريبا.

ومع ذلك لم أتقبل ما يحصل. وواصلت التفكير أنني سأجتمع مع ستايسي كالسابق، وسنكون معا لفترة طويلة. 

لم أخبر ستايسي أنها حينما بصقت على ركبتي كنت أفكر بطعم لعابها فقط. أو حينما بللت اللدغات المنتشرة على جسمي بلعاب فمي، تخيلت أني أقبلها، وأنفخ بفمها وأنا أجرها من المياه الزرقاء العميقة.  كنت أعتقد أن الله هو ما تيسر من الأخبار الحسنة التي تنتظرنا، وأن المشاكل تترصدنا دائما. أو لعل الله هو اللعاب الدافئ الذي يخرج من فمها ويغلف لدغاتي، ويهدئها مهما كانت إلى أن أشعر أنني أود تقطيع أوصالي وتمزيق الجلد المشدود عليها. أو ربما كان الله هو الشيء الذي نحب أن نؤمن به، مثل قناعتي بظل رموشها الرطبة، ولسانها المعسول، وخربشات أظافرها على بشرتي، فهو أجمل شيء بنظري في الوجود.

جينا شونغ Gina Chung كاتبة أمريكية من أصل كوري. لها رواية بعنوان "تبدل أحوال البحر"، ومجموعة قصص بعنوان "الضفدع الأخضر".

***

.......................

الترجمة عن بومب مغازين Bomb. عدد 166. شتاء 2024.

في نصوص اليوم