ترجمات أدبية

كوليت بول: في الهوامش

بقلم: كوليت بول

ترجمة: صالح الرزوق

***

استيقظت سوريندر متأخرة، وسرها أنها نامت طيلة أسوأ فترة من صباح يوم السبت المعتم. كانت الساعة تبلغ تمام العاشرة. استلقت وأصاخت السمع لصوت المرور المكتوم الذي يعبر الشارع بالاتجاهين. ولصخب الأولاد الذين يلعبون في المروج الخضراء خلف نافذتها. هذا هو شهرها الخامس. ولم تشعر من قبل بمثل هذه الوحدة القاسية. في بلدها الأصلي دائما الجماعة حولها. أمها وأبوها وأخواتها، جدها، الطاهية، ومدبرة المنزل. الكثير من الزحام الصاخب الذي يجعلها تشتاق لبعض الهدوء والسلام. ولكن الكلام مع الناس هنا لا يشبه هناك. كان عليها أن تركز على اللهجة، وأتعبها هذا الإجهاد المبذول.  توجب عليها أن تقترب من الناس كثيرا، كما لو أن ذلك يساعد على ردم المسافة الفاصلة بين الاستماع وفهم الكلام. ومنذ أسابيع قالت طالبة في الجامعة: من فضلك يا سوريندر ابتعدي قليلا، تقريبا أنت تمتطينني. ومع أنها تعلم أن وراء ذلك طبيعة وروح إيجابية، أصبحت تخشى من تبادل الكلام مع الآخرين. ولكن كان ينقص أحلامها التوتر والشغف، وكانت أحيانا في أحلامها تفتح فمها لتتكلم ولكنها لا تنطق بصوت واحد. أو أنها تتلعثم بلغة اختلطت فيها البنجابية والإنكليزية معا. نظرت إلى الساعة مجددا، وحددت التوقيت الحالي في بلادها. وتخيلت أخواتها كلا على حدة، وخمنت ماذا تفعلن. وحينما ضجرت، نهضت بسرعة، وهي ترتجف من البرد، وارتدت مئزرها فوق المنامة والقميص الذي ترتديه من أجل السرير. منذ عدة أيام انصرفت كريستين، شريكتها في الشقة، إلى بلدها للاحتفال بعيد الميلاد. وأصبح المكان لها فقط. ومع أن كريستين تنفق وقتا طويلا في بيت صديقها أو في غرفتها وراء باب مغلق، شعرت بالهدوء الغريب في غيابها. كانت هذه عطلة رسمية للجامعة، ولا يتعين عليها الدوام، أو تأدية الواجبات. وفي الأمس صباحا أحضرت كل الكتب المقررة إلى غرفة المعيشة، وعقدت العزم أن تبدأ بكتابة الأطروحة. رتبت القرطاسية ودفتر الملاحظات والورق الأبيض على الطاولة قرب النافذة. ولكن عوضا عن أن تشرع بالكتابة، أمضت المساء كله بمشاهدة التلفزيون، وهي تقلب في أعداد قديمة من مجلة "مرحبا"  التي تركتها كريستين وراءها. ثم نظفت المطبخ، وخرجت للتسوق. وفي لحظة عودتها، بدأت الثلوج تهطل. نظرت من النافذة وراقبت الثلج يسقط بصمت تام من السماء السوداء، وكأنه خدعة سحرية يختفي عن النظر حالما يلامس الأرض. ورغبت أن تضحك بتعجب، ها هي هنا، ترى بأم عينيها شيئا قرأت عنه في الكتب فقط. مدت يدها لتسقط آخر بلورة ثلجية على راحتها. كان يصعب عليها أن تتخيل أنها لا تثلج على كل الكون، وإنما على بقعة منه فقط. وأن عائلتها في بلدها تغرق حاليا بالنوم، والبيت موصد طيلة الليل، والكلب يعوي في الباحة. انتابها القلق فيما تبقى من الأمسية، وشرعت بكتابة رسالة لصديق من بلدها، وحاولت أن توضح ظروفها. فهو لم يدرس في الجامعة: كان يعمل في مكتب والده، ويطبع المطالبات المالية. أما رسائله فقد كانت تضم مقتطفات من قراءاته، وأفكاره. مثلا: صدق ماركس. الدين هو أفيون الشعوب، الوهم  هو الوضعية الحقيقية إذا فتحت عينيك لتنظر بهما إلى العالم الحقيقي. أنفقت سوريندر وقتا مطولا على رسائلها الجوابية، مع أنها حرصت أن تكون آخر صيغة مضطربة وغير واضحة، ومليئة بالتشطيبات والكلمات المعقدة مثله. (كتبت في إحدى المرات: سامحني على التهميشات. فهي تدرك أن هذه الكلمة تسر سانجات - باعتبار أنه إنسان نخبوي). وفي إحدى المناسبات قبل أن تغادر بعدة شهور تبادلا القبلات.  وفي اليوم التالي قابلها في الشارع ليخبرها أنه لم يفكر بها بتلك الطريقة، وافترض أنها أقرب ما يكون لصديقة، ويأمل أن هذا لن يفسد الأمور. قالت سوريندر: أبدا، البتة. كلا. طبعا كلا. وحينما حررت له الرسائل، لم يفارقها ألم ذلك اليوم.  وكانت حريصة أن تتكلم عن حياتها الحافلة والمثيرة، وأن تعرب عن عدم رغبتها بالرجوع إلى الهند. فالهند تقف في آخر مربع: ورد عليها برسالة أخبرها فيها أنه يشعر بالغيرة. أحيانا كانت تكتب فقرات مطولة وغامضة عن اكتئابها من أوضاع العالم. ولكن بدت لها كتابة درامية ومزيفة وتشبه اعتقادها أنها فراشة اجتماعية. وفي الحقيقة مرت تقريبا كل يوم بحالة انفجار عاطفي تبعها انفجارات ضياع كامل، وكلاهما أرعبها بطريقة لا يسعها الإخبار عنها أو تفسيرها.

قامت بطلاء غرفة المعيشة بلون أحمر داكن، مع حدود بيضاء. وكانت قاتمة ورطبة وذات رائحة خانقة. كان هناك موقد تدفئة من الرخام القديم، ويشتعل بشرارة كهربائية، ولكنها لا تعمل. وبجانبه وسادتان مخمليتان مبقعتان. لم تكن كلتاهما تمكثان هنا طويلا. لكن سوريندر بعد أن انتقلت إلى هذا المكان طبخت وجبة لهما، وأمضيتا ليلة طيبة، حول الطاولة. وخلالها أخبرتها كريستين عن مشاكل تعاني منها مع صديقها. فهو في السادسة والعشرين. وأكبر منها بعدة سنوات. ولديه ابنة صغيرة من علاقة سابقة. وقد حولت أم هذه البنت حياته إلى جحيم، فهي تخابره في أوقات متأخرة، وتبدل خططها دون سابق إنذار. وقالت كريستين إنه في نوبة كآبة: وهو إنسان عميق. أومأت لها سوريندر بتعاطف، وأيدتها، وأسعدتها الثقة بذاتها. سألتها كريستين عن الزواج المدبر، وهل مرت بهذه التجربة. قالت سوريندر كلا. فأبواها غير تقليديين، وأمها من دفعتها لتطلب المنحة، وألحت عليها أن تركز في الاستمارة على غلاسكو. وأخبرتها كريستين أن صديقها ذكي جدا، أذكى منها، ولكنه يفشل في امتحاناته. فأعصابه تؤثر عليه. وسألت سوريندر إذا كان يبدو لها إنسانا قلقا ومضطربا. قالت كريستين كلا إن شئت الحقيقة. مع أنها لم تقابله إلا في مرات قليلة.

وفتحت كريستين قلبها وقالت هذا لأنها لا تعرفه. وفي نهاية الليلة، ذكرت عدة أماكن يتوجب عليهما زيارتها معا، حانات تعجبها، ومطعم هندي أصيل لا يعرفه غير عدد محدود، ولكن لم يتحقق شيء من ذلك. وبمرور أيام الأسبوع أصبحتا ودودتين مع بعضهما البعض، ولكن لم تتحولا إلى صديقتين. ويمكن تعميم نفس الشيء على بقية طلاب الجامعة. وكانت سوريندر تذكر نفسها أن الصداقة لا تنشأ إلا بعد وقت طويل. في الليل اعتادت أن ترقد في سريرها، وترتب خططها. وأعجبها أن تحدد أهدافها كل أسبوع، حتى لو أنها مجرد زيارة إلى السينما، أو القراءة في كتاب وهي تشرب القهوة في مقهى كوستا داخل حرم الجامعة. وفي أيام الأحد، حين تخابر أمها، يكون لديها ما تخبرها به. والليلة لأجل خاطر أمها قبلت دعوة سينغ على الغداء، وهو ابن صديق أبيها منذ أيام الدراسة. مع أنها لم تقابل هذه العائلة من قبل. كانت لهجته على الهاتف رسمية. وهو من غلاسكو، لكن زوجته من البنجاب، وقال إنه يسعده أن تتكلم معه عن البلد. وقدم لها خطة معقدة لتصل إلى بيته. حافلتان، ثم مشي لمدة خمس عشر دقيقة، وسجلت ذلك بحرص، والهم يغمرها من كل الموضوع. ومر كل الأسبوع وهي تحاول أن لا تفكر بالمسألة.

واليوم وصل البريد بوقت مبكر، وبينه أربع بطاقات تهنئة وجدتها على مداس الأقدام أمام الباب، بانتظارها. غدا ستبلغ عامها الواحد والعشرين.  تأملت الكلمات المكتوبة، ثم وضعتها وراء الساعة على الطاولة. لن يكون لديها شيء تتكهن به إذا فتحتها اليوم. وتابعت عيناها الالتفات إليها، ثم فتحت الستائر لتموه عن نفسها. كان الشارع عريضا وعلى جانبيه حوانيت فوضوية وقذرة المظهر - عربات فاكهة، ومتجران للأساسيات، وصيدلية رخيصة، وجزارون، ومقهى. حينما انضمت كريستين لها في المسكن ذكرت أنها تشعر كأنها في الهند، وأن جماعة آسيوية كبيرة حولنا. أضر ذلك بمشاعر سوريندر. فالسكان على الأغلب باكستانيون ومسلمون. لهم لون داكن، ولا تشبه أحدا منهم على الإطلاق. النساء تتجولن بجماعات، أو مع أطفالهن، والعديد منهن محجبات. وبطريقة غريبة تفكر بالجسم المدفون تحت الحجاب، بالشعر والعرق الذي يسيل فوق الأبدان. أما سوريندر فترتدي الجينز والبلوزة. وشعرها الطويل يتدلى على ظهرها، وهذا يؤكد أنها ليست منهن. كان أمرا شاذا أن يصنفهم الناس هنا كأنهم جميعا من كومة واحدة. وفي إحدى المرات كانت تودع بتمهل مشترياتها في أكياس السوبر ماركت، فقالت لها امرأة عجوز تقف وراءها وبصوت مرتفع: هؤلاء يتوقعون أن ينتظرهم الآخرون. تظاهرت أنها لم تسمعها. فالمشكلة أصغر من أن تزعجها. تناولت بعض اللبن مع موزة، ثم حصلت على حمّام طويل. وحينما كنت أغادر الحمّام رن الهاتف. وكان من أجل كريستين. سجلت الأسماء بحرص على ورقة، بعد أسماء آخرين اتصلوا سابقا. كانت كريستين مشغولة دائما. ودائما في الخارج تتجول. وفي بعض الأحيان ترافقها زميلاتها وتمضين الليل معها في غرفة المعيشة يشربن النبيذ. وفي عدة مرات نامت خارج البيت، وكانت تقول لسوريندر إنها لا تريد ذلك، وتود لو بمقدورها أن تبقى في البيت. وتضيف: "أشعر بالإجهاد في الخارج".

وكانت سوريندر تكرر هذه العبارة في الجامعة، وكأنها تريد أن تقول، إذا سألها شخص ما، إنها  أمضت عطلة الأسبوع مجهدة من البرد. في الواقع عطلات الأسبوع هي أكثر أوقاتها إحساسا بالعزلة. ودائما يسرها أن تنتهي. نقبت في خزانتها، وتساءلت ماذا ترتدي لدعوة الغداء. أحضرت معها ثوبي ساري، أحدهما أحمر والآخر بنفسجي. ولكنها ستشعر بالاحراج إذا ركبت الحافلة بهما. كان الجو ماطرا، وعليها أن تلبس بوطها ومعطفها ولفاحة على كتفيها. ثم قررت ارتداء بنطال أسود وقميص أحمر، اشترتهما مؤخرا. أخرجتهما من الخزانة وعلقتهما على الكرسي. بلغت الساعة الثانية: بقي أمامها ثلاث ساعات. جهزت كأس شاي، وتجولت بتثاقل في الشقة. وقفت أمام باب كريستين. ثم فتحته قليلا. وقفت لحظة. كأنها تتوقع من يمنعها، ثم دخلت. كانت الستائر الخضراء المخملية الثقيلة مغلقة ولذلك ساد الظلام. كان السرير غير مرتب. والثياب مكومة على الأرض، وكأسا بيرة زجاجيان على غطاء الطاولة ومليئان بالماء. كانت كريستين تبدو لها قذرة قليلا، ولكنها متألقة، كأنها لم تجد الوقت الكافي لتغسل شعرها أو وجهها. كانت تضيف ظل عيون ثقيل، وترتدي الجينز الضيق. وقميصها الرقيق المفضل، من محلات فرانكي وموديل ريلاكس، مرمي على ظهر السرير. وجدار كامل بجوار السرير مغطى بالصور الفوتوغرافية. بعضها تبدو مثل لقطات عائلية، وغيرها كما هو واضح لقطات ليلية في الخارج بصحبة الأصدقاء. ومعظمها لصديقها المقرب. بمفرده أو معها. وبعكس كريستين كان يبدو شديد النظافة. وفي أحد الأيام جاءت سوريندر إلى غرفة الجلوس في الصباح ورأته جالسا على سروالها القصير الضيق، ويتابع التلفزيون. كان يغطي ساقيه وصدره شعر أسود غزير. ولم يكن متلبكا، وباشر بالكلام، وسألها كيف ترى غلاسكو، وأخبرها عن الفرقة التي انضم لها. وبعد أسابيع، شاهدته سوريندر يتكلم باهتمام مع بنت في مقهى شارع بايرز. ويداه على يديها فوق الطاولة. ولم يتبادر لذهنها أن تخبر كريستين. ولكن كانت تشعر بالاضطراب كلما ذكرت اسمه. وفي مناسبة أو اثنتين سمعتها تبكي بعد إجراء مكالمة هاتفية معه. ولكن في اليوم اللاحق يبدو كل شيء مستقرا مجددا. وتقول كريستين: ها نحن عدنا. والفرحة تغمر قلوبنا.

جلست على السرير، وحاولت أن تتخيل كيف يمكن أن يكون الحال إذا عاشت حياة مثل حياة كريستين. وبسرعة تخلت عن قميصها المتعرق، وارتدت قميص فرانكي. ثم تخلصت من بنطال الجينز الفضفاض، وارتدت سروالا أسود ضيقا مرميا على الأرض. وانتقلت إلى المرآة وأخذت نظرة من نفسها. هناك طلاء شفاه أحمر أيضا، وهو بلا غطاء وملقى على جنبه. استعملته كذلك. تجولت في أنحاء الغرفة، وحاولت أن تشعر بها. فحصت الأشرطة المضغوطة (السي دي)، ونظرت في صفحات كتاب عنوانه "اشعر بالخوف ولا تتراجع". وحاولت أن تجد أجوبة للمسابقة - كم تبلغ ثقتك بنفسك؟ - وحينها سمعت صوت خطوات أمام الباب من الخارج. جمدت، وبدأ قلبها يقرع. ولكن ابتعد الصوت على السلالم.  وأهاب بها الخوف أن تستبدل الثياب، وتعيد كل شيء إلى موضعه. أغلقت الباب بإحكام، وعادت إلى غرفتها. استلقت على سريرها، واحتفظت بعينيها مفتوحتين، مصغية لسقوط المطر على الشوارع المعتمة. فكرت بسانجيت. ثم بصديق كريستين. ثم ذهب كلاهما وبقيت وحدها تعاني من جوع غامض لشيء مجهول، أن يحصل أي شيء لها. وغرقت بالنوم حوالي ساعة. واستيقظت مرعوبة. كانت الخامسة والنصف، وعليها أن تتواجد في دينستون بتمام السابعة. حملتها أول حافلة إلى شولاندز. وحسب التعليمات عليها أن تغادرها عند المراحيض العامة، المجاورة للمنتزه، ثم تستقل رقم ثمانية وثلاثين. كان الشارع مزدحما بالمتسوقين، العائدين إلى بيوتهم، والمرور يسد الشارع. نظرت من نافذة مخزن إلى مجموعة حمالات لرفع الصدر. وكانت تغطي حلويات السيد كبلنغ الفرنسية التي ابتاعت منها حينما اشترت مظلتها. والآن هي في الخارج، جزء من الزحام، وشعرت أن قلبها خفيف فعلا. من الجيد أن يكون لك هدف تسعى لأجله في ليلة السبت. وربما ستجد قدرا كبيرا من طعام منزلي، وبدأ فمها يسيل وهي تفكر بطبق ألو جوبي (عجينة البطاطا والقنبيط) ودايل (البازلاء الصفراء المتبلة) ودجاج بالزبدة، وتيكا الدجاج (دجاج بلا عظام مطبوخ مع اللبن) وكومة من خبز روتي (خبز مستدير). ومهما حصل ستكون تجربة بالنسبة لها، وهو أهم شيء. وحتى في هذه اللحظة، وهي واقفة في شارع لا تعرفه، وبعد ركوب حافلتين قادتاها إلى منطقة لا تعرفها، راقبت رجلا مخمورا يلوح بعلبته أمام عابري السبيل: كل هذا ثقافة وخبرة. كان رقم ثمانية وثلاثين مزدحما، وتوجب عليها أن تقف وهي تمسك بعمود حديدي، بينما الحافلة تزحف في الشوارع كالثعبان. بعد قليل فرغت المخازن، ووصلت الحافلة إلى طريق أسود مستقيم، وكانت المسافة تبدو جوفاء ومعتمة. وخشيت أن لا تعرف محطتها، وارتاحت حينما لاح لنظرها مرآب إيسو. غادرت بعد محطتين. وتوجب عليها أن تلتف إلى اليمين، وأن تمشي حتى تبلغ ساحة دائرية، ثم تلتف الى اليسار. كان الشارع مهجورا، والبيوت بعيدة وتفصلها أسوار ذات جدران وبوابات. كانت قد تأخرت، فحثت خطواتها، وتبللت قدماها. كانت بيوت طريق الدردار أصغر حجما، ومن كتل رمادية بصفوف طويلة متعرجة إلى ما لانهاية. وحينما بلغت الرقم ست عشرة، كانت النوافذ معتمة، والممر فارغا. رنت الجرس، ورتبت شعرها بيدها، وانتظرت. لم يرد أحد. رنت مجددا. وأخرجت ورقة العنوان من جيبها، وتأكدت منها. بعد فترة نظرت في صندوق البريد، وكان معتما، ولم تشاهد شيئا. ولم تعرف كيف تتصرف. ماذا لو أنهم خرجوا لخمس دقائق بمهمة عاجلة. إذا انصرفت حالا سيعتقدون أنها لم تكلف نفسها عناء المجيء. وبدأت تحدق في نهاية وبداية الشارع، وحينها ظهرت امرأة في بيت الجيران. صاحت: "مرحبا. أنت. هل تبحثين عن آل سينغ؟". وافقت سوريندر بحركة من رأسها، واقتربت، فأخبرتها المرأة أنهم اضطروا لحمل صغيرهم إلى المستشفى. كانت حرارته مرتفعة، وأخبرهم الطبيب أن ينقلوه إلى المصحة الجنوبية العامة. فقد شك بالتهاب في السحايا. وقالت إنهم طلبوا منها أن تنتظر سوريندر، وأن تخبرها أنهم حاولوا الاتصال، ولكن على ما يبدو أنها كانت خارج البيت.

عادت سوريندر إلى أول الشارع. وأدهشها أن تشعر بخيبة الأمل والبؤس. بدأت تمطر بغزارة، وتسلل المطر إلى بوطها، وسال على رقبتها. فكرت بالأسبوع الذي يمتد أمامها، الشقة المتجمدة من البرد، والمحال المغلقة بسبب أعياد الميلاد. على الأقل وصلت الحافلة بسرعة. جلست قرب النافذة، وأراحت رأسها على الزجاج. السماء غير مقمرة وفيها سرب من الغيوم. بعد فترة فتحت علبة حلويات فرنسا والتهمت ثلاثة دفعة واحدة. تيار من البشر صعد وهبط. جلست امرأة عجوز بجانبها ونظفت معطفها من الماء. قالت: "آه يا ربي. ما هذا الطقس؟. أنا متأكدة أنكم لا تعرفون هذا في البلد الذي جئتم منه". ابتسمت لها سوريندر، فقالت المرأة: "آسفة يا عزيزتي. هل أخذت شيئا من مقعدك؟".

قالت سوريندر: "لا. أنا بخير".

لا زالت علبة الكعك المحلى في حضنها مفتوحة. وفكرت أنه من دواعي الأدب تقديم قطعة للمرأة. اختارت قطعة بنكهة الشوكولا. وأخبرت سوريندر إنها تزور أختها المريضة بانتفاخ الرئة.

وقالت: "أما أنا فلا أدخن يا عزيزتي. يمكن أن أقول لا أفعل. أرى أنه يجعلني مثل مدخنة". وشربتا قليلا. فهو عيد الميلاد. وسألت إن كان من المسموح لشعبها أن يشرب. قالت سوريندر نعم. وأبوها يحب الويسكي. قالت المرأة إنها تحبه أيضا، وإلا بايليز، وأحيانا القليل من الباكاردي والكوك.  ثم قالت إن زوجها مات في العام الماضي، ولذلك توقعت أن يكون عيد الميلاد هذا مملا، ثم أخبرتها عن مرض زوجها. كان أعمى تماما في نهاية حياته. والناس لا يحسنون التصرف مع العميان. وفي الشارع يهربون منهم إلى الرصيف المقابل ليتجنبوهم.

قالت سوريندر: "لماذا يفعلون ذلك؟".

قالت المرأة وخداها يرتعشان: "لأنهم أشقياء وجهلة". كان خداها براقين ولهما لون الكبد بسبب البرد. ولم تكن تبدو بحالة حسنة.

توقفت الحافلة في المحطة لبعض الوقت، ثم خرج السائق من مقعده ليخبرهم أن الحافلة تعطلت، والبديل في الطريق. كانوا وسط محلة غوربالز، شقق مرتفعة على طرف، وأرض عشوائية للنفايات مليئة بالألواح المكسورة على الطرف الآخر. قالت المرأة العجوز إنه بمقدورها أيضا أن تذهب مشيا من هنا - وأشارت إلى برج سكني وقالت: "أنا هناك".

وكان بانتظار الحافلة البديلة رجل آخر، ويشتم بصوت خافت، ويعلو وجهه السخط. وهو يدخن في مؤخرة الحافلة، وحينما طلب منه السائق أن يطفئها، تجاهله. لم ترغب سوريندر بوجوده معها، وقالت إنها ستتابع على الأقدام. أخبرتها العجوز أن هذه المنطقة ليست أفضل ما في المدينة، ولا تصلح للمشي، ولكن سترافقها حتى دكان موزع الصحف. والجميع يعرفها هنا. ولن يعترضوا طريقها. ومع أن سوريندر ارتاحت لذلك قالت: آه، كلا. ليس عليها أن تتعب نفسها. فقالت المرأة إن لم تفعل ستشعر بالقلق. وأضافت عموما عليها أن تخفف من هذه الدهون. وتحركت ببطء، وهي تتمايل بأنفاس مقطوعة. أبطأت سوريندر لتلحق بها. ثم أمطرت مجددا. وتجمعت برك الماء في حفر في الشارع.

سألت سوريندر ماذا تدرس. وهل تحب دراستها. قالت إن أمها تفتخر بها. وأضافت هناك أشياء أحبتها في غلاسكو، وأشياء من بلدها تفتقدها هنا. وأنها تشتاق لأهلها وأصدقائها. وقالت ذلك بصوت مرتفع فشعرت فجأة بالأسف على نفسها. وأدركت، في تلك الدقيقة، أنها تكره أحوالها هنا، وأنها لن تتحسن، حتى بعد أن تتقدم بالعمر.

ولم يفارقها شعورها بعد الوداع. استدارت المرأة إلى الاتجاه الذي جاءتا منه، وتابعت، وتجاوزت مجمع الأشغال، ثم الباحة التي تبيع شواهد القبور، والشقق الجديدة في آخر شارع فكتوريا. وكان خط ضوء رفيع يلمع من وراء الستائر. واستغربت أنها تفكر أن كل من يعيش هناك، يعتقدون أن حياتهم هامة، ومستقلة، كما ترى هي نفسها. طرق المطر أعالي السيارات كأنه يعزف لحنا موحشا. وظهرت جماعة من الأولاد في الطرف الآخر من الشارع، وهم يتشاحنون ويتدافعون، فخافت منهم، وأجبرت نفسها أن لا تسرع بخطواتها. وبعد أن تجاوزتهم، بدأت بالركض. لم تركض منذ مدة طويلة، ولكن استحسنت الركض، مرنت عضلات ساقيها، ولوحت بذراعيها الى الامام والخلف. ولم يكن هناك أحد ليراها، لذلك لم تهتم، وحتى لو هناك احد. سقط المطر على وجهها، وبلل سروالها. وفكرت انها ستبلغ الواحدة والعشرين في الغد. كررت الرقم في ذهنها. يا لها من انسانة كبيرة. وتذكرت أيام طفولتها. واخست بالرقة حيال نسختها الطفولية. تابعت الركض. وفكرت انه في الواحدة والعشرين لا يتاح للناس أن يفعلوا شيئا - كل شيء لا يزال أمامها، ويمكنها أن تفعل ما تريد. وكل ما عليها أن توجه وتجهز قواها الذهنية.

وعمليا كل شيء بموضعه الصحيح. كل شيء صحيح. وحتى لو انه ليس كذلك - وحتى لو لم يغرم لها شاب ما، وإذا تجاهلها الجميع، وسخروا منها وقللوا من شأنها (وهذا لم يحصل) فهذا أمر لا بأس به أيضا. يمكنهم أن يفعلوا ذلك. فهي في الغد بالواحد والعشرين. وهي قوية وفرصة لكل شيء لا تزال أمامها.

***

.......................

* كوليت بول Colette  Paul: كاتبة واكاديمية تعمل في جامعة كامبريدج. لها مجموعة قصص بعنوان "أيا كان من تحبين".

في نصوص اليوم