ترجمات أدبية

دابيداه مارتن: أومو برين وأنا

بقلم: دابيداه مارتن

ترجمة: صالح الرزوق

***

شعر أومو برين أنها خرجت منه - صيحة ناعمة من طائر قلق يحوم بالجوار اختلطت بثرثرة  البحر المنتظمة. محا الكانفاز الرمادي اللون وجهزه ليوم آخر.  وحينما وقف في منتصف الشاطئ محاصرا بحطام سفينة اختلط مع أشياء لفظها البحر رفع عينيه إلى النجوم وترنم بأغنية من بدايتها حتى نهايتها. وكان يرقص كيفما اتفق وهو يغني، ويتوقف أحيانا، كأنه ينتظر ردة فعل جمهور غفير من طيور البحر. فتنتني رؤية رجل يبلغ عمره ستين عاما ويرقص بهذه الهمة. وحينما طلبت مقابلته حدد لي موعدا في تراي فادا بتمام الساعة الثالثة صباحا. وصلت حينما أشارت ساعة جيبي لحوالي الثانية والنصف - والساعة إرث تناقلته العائلة عن جدي. وهي أول هدية عيد ميلاد اشترتها له زوجته، وكان يقول لي إنه ينظر لزجاجتها وكأنها نافذة على الحياة التي تنتظره بعد الحرب. وحينما بدأ قلبه يضعف ووصل بعمره إلى ثمانية وستين عاما، علم أنه لم يبق لديه فترة طويلة. وفي أحد أيام الصيف المشرقة طلب أن يراني. كان راقدا على السرير. وحينما جلست بجواره بدأ يروي لي النكات والحكايات. كنت بعمر ثماني أعوام. قبض على يدي بشكل أخرق ووضع فيها الساعة. ونظرت عيناه في عيني، وحينما أفلت الساعة شعرت كأنه يقول لي شيئا، ولكن لم أكن متأكدا منه. ثم طلب مني أن أتعهد له بالعناية بالساعة، وأن أنظر إليها وكأنها نافذة. كانت الساعة الثالثة إلا ربعا حينما سمعت صوت أومو بريم المرتعش يغني أغنية غيلية قديمة وهو يشق طريقه إلى  الشاطئ.

وكان يقول:

"Far am faca mi an oigh

في الموضع الذي رأيت فيه العذراء حينما كنت بشبابي

Thuit mi og anns a’ ghradh

والتي وقعت بحبها".

كانت النسمات الخفيفة تحمل صوته وتعانق بها الشاطئ. وكانت خطواته محسوبة، ولكنها ذكية مثل الدببة حين تحاول أن تقبض على سمكة سلمون من النهر. ناديته ولكنه لم يرد حتى أنهى غناءه. بعد ذلك صمت لحظة، كما لو أنه يترك فرصة لجمهوره المخلص أن يصفق لعرضه الملكي. وحينما رفع رأسه سأل بصوت رخيم: "بماذا يمكنني أن أخدمك؟".

قلت بصوت مضطرب قليلا بسبب مهابته: "حسنا. طلب مني جدي أن أزورك".

لزم أومو الصمت.

فتابعت: "اشترى واحدة من بواباتك وقال إنه يعرفك جيدا. اسمه كامبيل ماكدونالد". كنت متأكدا أنه سيترتب على ذكر الاسم استجابة، ولكنه ركز نظرته على شيء خلف كتفي.  وفجأة فتح ذراعيه وبدأ بالرقص مجددا. وقفت هناك بصمت كما لو أنه كان معنيا بتسلية غيري، نوارس البحر مثلا أو ربما نفسه. وحينما انتهى انحنى وملأ قبضته بالرمل وسألني: "كم حبة رمل في يدي؟".

قلت: "لا أعلم. ربما عشرة آلاف".

قال: "هذه هي المشكلة. أليس كذلك؟. أنت تصل لدرجة تعتقد معها أنك تمتلك كل الإجابات، أو على الأقل يفترض بك أن تعرفها، ثم تكتشف أنك لا تعرف شيئا، وتشعر بالخوف. ولكن كل ما عليك أن تفعله هو أن تحاول وتعدها".

حان دوري للالتزام بالصمت.

وتابع أومو يقول بلهجة المنتصر: "أول شيء شيدته في حياتي بيدي كان قلعة من الرمل، وغضبت لدى عودتي في اليوم التالي لأرى أن التيار هدمه. ولم أرجع إلى الشاطئ لعدة شهور. ثم تبادر إلى ذهني في أحد الأيام أنه بمقدوري أن أعيد بناءه". وافقت بهزة رأس بطيئة، قبل أن انتبه أنه لا ينظر لي. لذلك اكتفيت بالقول: "آه، آه" بطريقة بينت أنني لم أفهم بشكل جيد.  بدأ يمشي عبر الشاطئ وينتشل قطعا صغيرة من الخشب كلما وجدها، وتبعته، على أمل المزيد.

سألته: "هل فعلا أنت تستفيد من هذه الأخشاب العائمة في صناعة بواباتك؟".

توقف عن المسير، والتفت ليواجهني. وكانت طريقة نظره لي وهو يكلمني من عالم آخر. ثم قال: "في نفس سنة عقد قراننا أنا وزوجتي، بنينا البيت الذي أعيش فيه، وكنا ننتظر المستقبل. كنا في الثالثة والعشرين. وكانت تسبح في البحر حين جرتها الأمواج المرتدة. ولعدة سنوات لم أطأ الشاطئ ثم تذكرت قلاع الرمال. وكل عام منذئذ أعود إلى  هذا الشاطئ وأجمع كل ما يلقي به البحر على البر وأستفيد منه في بناء بواباتي".

"آه، أنا متأسف. لم أكن أتصور ذلك".

قال: "كان هذا آخر مكان جمعنا. وأعتبر أن كل ما يلقي به الماء هدية لي من زوجتي. في بعض الليالي أسمع صوتها يرقص حول أذني مع الريح. كما ترى دائما عندي كفايتي من الخشب لأصنع بوابات أكسب تكاليف حياتي منها. والخشب الذي يتبقى من الحطام هو أقوى أنواع الخشب".

أجبت: "لم أفكر بالموضوع بهذه الطريقة". وانتابني الفرح لأنني قلت شيئا ما.

عاد أدراجه على الشاطئ، وأشار إلى طوف كبير أحاط به الزبد، وقال: "ساعدني في إعادة ذلك الخشب إلى البيت  إن كان لديك وقت".

قلت وأنا أطلق سراح ابتسامة مقتضبة: "لا مشكلة".

ونحن نقترب من بيت أومو كانت الشمس المبكرة تهدد بطرد الضباب الذي خيم على الشاطئ. كان من الصعب أن نميز التفاصيل في الضوء الباهت، ولكن من مسافة بعيدة ظهرت أجزاء من البيت وهي تتحرك مع الرياح. عندما اقتربنا أمكننا رؤية أن أشياء عشوائية خارج البيت. وبينها  شبكة صيد بالية تتدلى من طرف مدخنة، وعفن مخضر ينساب من طرف الجملون، ومقود قديم يبرز من حافة النافذة، ولا يزال في مكانه، ويدور.

قال: "اتركها هناك". وأشار إلى كومة ضخمة من الخشب. وجدت أنه يصعب علي أن أعتقد أن كل خشبه قد لفظه البحر على الشاطئ، ولكن لم يمكني صياغة السؤال بسرعة كافية، دون أن أتهمه بالكذب، ثم ذهبت إشراقة اللحظة كلها.

قال أومو: "إن كنت تتساءل عن باحة بيتي، فهي عبارة عن ماضي زوجتي. اعتادت أن تأتي بكل النفايات من الشاطئ حينما أكون غائبا. قالت هذا يعطي البيت جوا خاصا وشخصيا". ثم أطلق ضحكة صغيرة وتابع: "جمعت كل هذه الأشياء بأقل من عام، تخيل كيف يكون البيت لو أنها حية حتى الآن". لم أشعر بالقدرة على مجاراته بالضحك، ولكنني أصدرت صوتا هو ما بين الضحك والشخير.

قال وهو ينحني: "كانت أجمل إنسانة عرفتها. والآن من المستحسن أن نحصل على كوب شاي ندفئ به أنفسنا".

قلت بحماس مفرط: "هذا عظيم".

قال: "بدأت أصاب بوجيب في القلب إن لم أشرب كل ساعة كوب شاي. مثل سكان الجزر الحقيقيين".

جهز أومو إبريقا على الموقد، وجلست في كرسي خشبي قديم، من حلقة من الكراسي المرتبة بلا نظام في المطبخ حول مساحة فارغة في المكان الافتراضي لطاولة الطعام.

قلت بصوت ناعس قبل أن أجرع ملء فمي من الشاي: "إذا دخلت الشمس سيكون صباحنا جميلا". لم يدهشني أنه تعامل مع أحد تعقيباتي بالصمت، لذلك تابعت الارتخاء في كرسيي، وأغمضت عيني قليلا. وبعد دقائق سمعت صوت طرقات أومو على الخشب الذي حملناه إلى البيت للتو.

حتى لا أظهر بمظهر الكسول تركت كوب الشاي وخرجت لأنضم إليه.

قال دون أن يرفع عينيه عن الخشب: "كنت بعمر اثني عشر عاما حينما صنعت أول بوابة. كان لدى الوالدة فسحة تزرع فيها الخضار. غالبا البطاطا، وسنويا كان كلب الجيران يتلف بعضها، ولذلك طلبت في النهاية من الوالد أن يصنع لها بوابة تردع الكلب. حسنا، تابع الوقت زحفه وكان لدى الوالد أشياء أهم لذلك قررت أن أصنعها بنفسي. جمعت ما أمكن من الخشب، وكنت على وشك تثبيتها بالمسامير، حينما خرج والدي، واتهمني بقلة الاحترام وضربني بقفا يده، قبل أن يحمل الخشب ويلقيه في النار". صمت لحظة  كأنه يقلب أفكاره في رأسه.  وقال: "لم أكن مصمما على شيء في حياتي قبل صناعة تلك البوابة. كنت أهدف لتحدي والدي وإسعاد أمي. وهذا شيء غريب". ضحك من تلقاء نفسه وأضاف: "بعد ذلك بيومين أصبح والدي دون عمل وتركنا وحيدين. أقصد كان فيزيائيا موجودا معنا، ولكن كل ما يشغله الشراب وشتم الغبي الذي 'لا يمكنه العثور على سمكة الراهب حتى لو وضعتها في مؤخرته'، وأتذكر علامات وجه أمي حينما شاهدت أول بوابة قمت بتجهيزها، وحينما طبخت أول محصول جنيته من البطاطا الجديدة. قالت إنها أجمل بوابة رأتها على الإطلاق".

قلت بقدر ما أستطيع من العفوية: "البوابة التي صنعتها لجدي تبدو وكأنها صناعة الأمس".

قال وهو يرفع جذع الخشب بيديه: "صنعتها من طرح البحر الذي يشبه هذا".

ومع اشتداد وهج نور الصباح لاحظت بوابة تلوح من فوق قارب خشبي وراء سقيفة أومو.

سألته وأنا أشير إلى الزورق: "هل تخزن بواباتك هناك حين تنتهي منها؟".

قال مبتسما: "كلا. تلك صنعتها لزوجتي. كل عام في عيد ميلادها أصنع بوابة وأحفر اسمي في أسفلها ثم أجدف في عرض البحر، وألقيها في المحيط. وحينما أترك البوابة أصلي أن تنجرف لتقع في أيد أمينة". شقت ابتسامة طريقها إلى وجهه الذابل وكان يحدق بالمحيط الأطلنطي. تابع يقول: "لا يوجد شيء يفصلنا عن أمريكا". ثم التفت بانتباهه إلى شظية خشبية كانت بين يديه.

جلست هناك لعدة دقائق. انتابني حلم نهاري. وتصورت فيه حدائق على طول الشاطئ الشرقي لقارة أمريكا وتحرسها بوابات تحمل توقيع أومو برين. 

***

......................

دابيداه مارتن Daibhidh Martin: شاعر وقاص بريطاني معاصر من جزيرة لويس الإسكتلاندية.

في نصوص اليوم