ترجمات أدبية
كلير جيا: الرغبة

بقلم: كلير جيا
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
كانت بكين تعجُّ بالأمل. طوال خريف ٢٠٠٧، كانت "ليان" و"وينيو" تمران بجوار القرية الأولمبية تحت الإنشاء بالحافلة وهما في طريقهما إلى المدرسة، وشيئًا فشيئًا كانتا تشاهدان ارتفاع ملعب حفل الافتتاح، تلتحم أجنحته المعدنية معًا لتصبح على شكل عش الطائر المنحني. كل لوحة إعلانية ومحطة حافلات كانت تحمل صورًا لرياضيين مبتسمين يحتسون "باد لايت" ويقودون "بنتلي"، بينما تتصارع العلامات الغربية على جذب الانتباه في شوارع المدينة الصينية: "ليو تشانغ" بزي نايكي، و"تشانغ ينينغ" بزي أديداس. سينتزعون الذهب مدعومين برفاهية أمريكية، تاركين الأمريكيين الأصليين في البرد القارس.
أحست "ليان" بحماس المدينة، وحولته إلى طاقتها في تقديم طلبات الالتحاق بالجامعات. مثل رياضية أولمبية، ستكون ممثلة لبلدها في الخارج؛ ستعود بالميدليات الذهبية، وسط حسد وإعجاب كل من تركتهم خلفها.
في المقابل، وقعت "وينيو" في الحب. بدأ ذلك في سنتهما الثانية. كان الحبيب ذلك الفتى المتمرد في الصف، يتدلّى على عينيه، يرفض ارتداء الزي المدرسي، ويظهر بدلاً منه بملابس فضفاضة بألوان صارخة.. بينما كانت ليان تحدق في المرآة، تتدرّب على تعبيرات وجهها، وتصقل مهاراتها استعدادًا لمستقبلها، كانت وينيو تتسلل من حصص التحضير الدراسي بشكل متكرر لتنفّذ مقالب طفولية مع حبيبها الجديد. تراجعت درجات "وينيو" في الترتيب. تحولت سرقات المتاجر الصغيرة في طفولتهما إلى تحدٍ أكثر صلفًا. فجأة، لم تعد "ليان" شريكة "وينيو" الرئيسية في المشاكسة؛ فقد أصبح صديقها أكثر جرأة. بل إنه كان يسرق أشياء أكبر وأخطر — أحذية، ملابس، مشغلات إم بي ثري — دافعًا "وينيو" إلى تحد جديد. أصبحت الآن هي المُتأثرة بدلًا من المؤثرة. وعندما تسببت حماقات الصبي في فصل "وينيو" للمرة الأولى في شتاء سنتهما الثانية، واجهتها "ليان" وتوسلت إليها أن تعيد ترتيب أمورها:
- لماذا تربطين نفسك ب مثل هذا الأحمق؟
أجابت وينيو بحدة وغضب:
- هو أذكى فتى قابلته في حياتي. مقدر له العظمة. يمكنه أن يكون أي شيء يريده. انتظري فقط. فقط لأنه لا يغوص في الكتب ليل نهار مثلك، لا يعني أنه ليس بنفس ذكائك. بل أذكى على الأرجح. وهو لا يحتاج إلى الذهاب إلى أمريكا الغبية ليثبت ذلك.
صرخت ليان:
- وماذا عن حلمنا؟
ردّت وينيو ببرود لاذع:
- أي حلم؟ كان ذلك مجرد لهو.
لكن في النهاية، لم تكن "ليان" هي من ذهبت إلى "أمريكا الغبية.
في صباح بارد من ديسمبر خلال سنتهما الأخيرة، ظهرت "وينيو" عند باب "ليان" تحمل كوبين من الآيس كريم، يبدوان وكأنهما يتحدّيان قسوة الشتاء ببرودهما القاطع. كانت ليان منهمكة في كتابة مقال للالتحاق بجامعة هارفارد. "لماذا هارفارد؟" لم لا؟ لطالما رغبت في الإجابة. إنها أفضل جامعة في العالم. من منا لا يرغب بالأفضل؟ فتحت الباب وهي غارقة في أفكارها، والعبارات الإنجليزية لا تزال تتدلى على شفتيها.عادت إلى مكتبها بينما ألقت "وينيو" بنفسها على السرير، وأمسكت مجلة بيد بينما تمسك بكوب الآيس كريم باليد الأخرى. ثم، ومن دون تمهيد، قالت وينيو بجملة واحدة سريعة غيّرت كل شيء:
- سأنتقل للعيش في كاليفورنيا.
لم تستطع "ليان" فهم ما تسمعه. استدارت وفمها مفتوحًا على اتساعه.
- صديق أبي يعيش في سان خوسيه، لذا سيدخلوني في مدرسة ثانوية هناك. أليس هذا مثيرًا يا ليانليان؟
قالت ذلك وكأنها اكتشفت للتو أن فرقتهما المفضلة ستأتي إلى المدينة، أو أن مقهى الشاي المفضل لديهم أصبح يقدم نكهة الليتشي. ليس بنبرة من يخبر صديقته المقربة أنها ستنتقل إلى الجانب الآخر من العالم.
- ظننتُ... ظننتِ أنكِ تكرهين أمريكا...
كان هذا كل ما استطاعت "ليان" قوله.
هزت "وينيو" كتفيها:
- لمجرد أنكِ تحبينها لا يعني أنني أكرهها.
قلبت صفحة المجلة وأخذت قضمة باردة من الآيس كريم. كاد أن يسيل السائل الأبيض أن يسيل على أغطية وسائد ليان النظيفة. قالت وينيو ببرود:
- لن يسمحوا لي بتقديم امتحان القاوكاو. فُصِلتُ من المدرسة مرات كثيرة. فطلب والدي من صديقه أن يساعدني، واتضح أن لديهم غرفة إضافية في منزلهم، وهكذا كان الأمر..
أجابت ليان بصوت خافت، وكأنها تردد صدى كلمات لم تستوعبها تمامًا:
- هكذا إذًا... حسنٌ، هذا أمر جيد على الأقل...
لقد كان هذا ما تخشاه على وينيو دومًا: أن تنحدر درجاتها إلى حدّ تغلق فيه الأبواب كلها في وجه مستقبلها. لكنّ ما لم تكن تتوقعه هو أن الطريق الوحيد المتبقي سيقودها إلى أمريكا.
اعتدلت وينيو في جلستها وقالت، بابتسامة خفيفة:
- ربما ننتهي كلتانا في كاليفورنيا! نشتري قصرين على شاطئ البحر!
قالت ليان بصوت أقوى، تحاول مجاراة حماسها:
- نعم، بالتأكيد!
لكنّ شعورًا غريبًا كان يجلدها من الداخل، كريح باردة تهبّ من حيث لا تدري.
كان رحيل وينيو بدافع الضرورة؛ حلمها، محاولتها الأخيرة واليائسة. عادت إلى كتابة مقالها، وفكت غلاف الآيس كريم بسرعة. شعرت بطعمه حامضًا في فمها.
بعد أسبوعين، وقفت "ليان" في غرفة "وينيو" تشاهدها وهي تحشر الملابس الداخلية والقمصان والفوط الصحية في حقيبتها. كانت وينيو تخشى ألّا تجد فوطًا صحية في كاليفورنيا — فبحسب ابنة عمّها الكبرى، الأمريكيات لا يستخدمن سوى السدادات القطنية. كان في تصرفات وينيو توتر محموم، طاقة متخبطة. ارتدت أفضل فستان لها لرحلة الطائرة. كان من المفترض أن تغادر إلى المطار خلال ساعة، لكنها لا تزال في حيرة: هل تأخذ معها حذاء المطر أم لا؟. سألت :
- هل تمطر كثيرًا في سان خوسيه؟
سألت، دون أن توجّه السؤال لأحد بعينه.لم تكن أيٌّ منهما تعرف الجواب. ظنت ليان أن وينيو ربما خائفة، لكنها بدت منشغلة بتفاصيل تافهة - كالسدادات القطنية، والمطر - ولم تستطع ليان أن تجد الشجاعة الكافية لتسألها عمّا يدور في داخلها. سألت "وينيو" مرة أخرى، مثبتة عينيها في عيني "ليان":
- أراكِ في كاليفورنيا، أليس كذلك يا ليانليان؟ ستانفورد ستخطفك فورًا.
ردت ليان، وقلبها يخفق بقوة.
- بالطبع!.
حاولت وينيو أن تحشر دمية دورايمون القماشية في الحقيبة، لكنها قفزت مجددًا إلى الخارج، رافضة أن تنضغط.استدارت وينيو وقدّمت دورايمون إلى ليان، عيناها الكرويتان بالأبيض والأسود تحدّقان بها بثبات.قالت:
- اعتني بها.
في النهاية، نصحت "ليان" "وينيو" أن تترك حذاء المطر. لم يكن هناك مساحة كافية في الحقيبة، ويمكنها دائمًا العودة لأخذه لو تبين أن سان خوسيه مدينة موسمية ممطرة. لكنها لم تكن كذلك، ولم ترَ "ليان" صديقتها مرة أخرى.
لم تأتِ رسائل الرفض في سربٍ كما في كوابيسها، بل تسللت واحدة تلو الأخرى في مظاريف نحيلة، تقرض حلمها شيئًا فشيئًا. همست لنفسها مثل تايتانك والجبل الجليدي الخفي"، لم تكن هناك تفسيرات، فقط اعتذارات مبتذلة بأن عدد المتقدمين المؤهلين كان كبيرًا هذا العام.
طوال ذلك الربيع، كانت تفكر في وينيو، وهي تتحول بثبات إلى "فتاة كاليفورنيا".
ذهبت "وينيو" للعيش مع صديق والدها، الذي كان لديه ابنان. غارت "ليان" من أن “وينيو" حصلت على أخوين جاهزين، وكانت "وينيو" ترسل لها أخبارًا عن تصرفاتهما الغريبة، وألعاب الفيديو الصاخبة التي يحبانها ، وقمصان "المتحوّلون" التي كانا يرتديانها باستمرار.
أرسلت “وينيو" ملاحظاتها المباشرة عن الأشجار الغريبة، والمتاجر الضخمة، وعصا الزبدة المقلية التي جربتها في مكان يسمى "المعرض". في البداية، ردت "ليان” بحماس، ضاحكة مع "وينيو" على غرابة التقاليد الأمريكية. تبادلت الفتاتان عبارات الاشتياق، وأخذت "وينيو" تعد الأيام على أحر من الجمر حتى تلتحق بها "ليان" في كاليفورنيا.
كان صديق والد "وينيو" يأخذها في جولات بالمدينة لتذوق عينات الشوكولاتة من متجر "جيرارديلي"، وليتمشيا على جسر "جولدن جيت". بينما كان حلم "ليان" ينهار، زاد اقتناعها بأنهما قريبًا ستجولان معًا في سان فرانسيسكو.
عندما جاء الرفض الأخير من "بيركلي"، شعرت "ليان" بالراحة تقريبًا. لن يكون هناك "هي ووينيو" في كاليفورنيا، ولن ينقسم حلمها الأمريكي بينهما. الآن، يمكنها أن تكرس نفسها كليًا لامتحان "القوكاو". ستجلس مع آلاف زملائها، تتعرق في فصلٍ حارٍ في يونيو، وستتفوق عليهم جميعًا. ستسلك الطريق التقليدي، الطريق الذي كان متوقعًا منها دومًا أن تبرع فيه. ستلتحق بجامعة من الدرجة الأولى في وطنها، ولن يلومها أحد.
وفعلت ذلك بالضبط. اجتازت امتحان القبول في جامعة بكين للمعلمين، إحدى أعرق الجامعات في البلاد. بينما دخلت "وينيو" جامعة حكومية في كاليفورنيا، وقد أرسلت لها ليان رسالة تهنئة.
لكن ببطء، أصبحت رسائلهما متباعدة. تحولت أخبار "وينيو" من كاليفورنيا فجأة إلى تباه مفرط، وكبرياء زائف، كأنها تلقّي بوجه "ليان" بكل المغامرات التي لن تسنح لها أبداً. وفي النهاية، توقفت "ليان" عن الرد. التقت برجل ذكي وطيب. حصلت على وظيفة مرموقة في شركة أمريكية قبل حتى تخرجها. ألهمت عشرات الطلاب الذين يحملون أحلامًا مثل أحلامها. تناقشوا في الأدب والسينما والسياسة والتاريخ. بينما عاد أصدقاء آخرون من أمريكا يحكون عن العنف المسلح والعنصرية ونظام صحي معطل. لم تكن تلك أرض أحلامها. أقنعت نفسها أن أمريكا كانت أنسب لـ"وينيو" منذ البداية: أرض بلا قيود أو خجل، مكان لا يحترم التقاليد أو الأعراف. كانت ساذجة لأنها ظنت يومًا أنها مناسبة لها؛ أمريكا كانت دومًا لـ"وينيو"، الفتاة التي سرقت وصرخت وتمردت لأنها لم تكن راضية أبدًا عما منحته لها الحياة. أما "ليان" فاستطاعت أن تكون سعيدة. ستكون سعيدة. لذا ركزت على مسارها الخاص: مهنة، زوج، شقة فاخرة.
وبالفعل، بعد اثني عشر عامًا، حققت كل هذا تقريبًا. لم تكن بحاجة إلى عودة "وينيو" المدوية لتذكيرها بأمنية دفنتها منذ زمن بعيد.
التقت رجلًا ذكيًا وحنونًا.
حصلت على وظيفة ذات راتب مرتفع في شركة أمريكية حتى قبل تخرجها.
أثّرت في العشرات من الطلاب الذين حملوا أحلامًا تشبه أحلامها.
كانوا يتحدثون عن الأدب، والسينما، والسياسة، والتاريخ.
كما عاد أصدقاء آخرون من أمريكا ومعهم حكايات عن العنف المسلح، والعنصرية، ونظام رعاية صحية منهار. لم تكن أمريكا أرض الأحلام.
أخبرت نفسها أن أمريكا كانت دائمًا أنسب لوينيو: بلد بلا قواعد، بلا خجل، مكان لا يقدّس التقاليد أو الأعراف.
كانت ساذجة حين ظنت أن ذلك المكان قد يلائمها يومًا؛ أمريكا كانت دومًا لوينيو، تلك الفتاة التي سرقت، وصرخت، وتمردت، لأنها لم تكتفِ يومًا بما منحها إياه العالم.
أما ليان، فبإمكانها أن تكتفي. كانت ستكتفي. لذا ركّزت على طريقها: الوظيفة، الزوج، الشقة الفاخرة في ناطحة سحاب. وبالفعل، بعد اثني عشر عامًا، كانت قد حققت كل ذلك تقريبًا.ولم تكن بحاجة إلى عودة وينيو العاصفة إلى حياتها، لتذكّرها بأمنية دفنتها منذ زمن بعيد.
***
...................
* مقتطف من رواية الرغبة (Wanting) للكاتبة كلير جيا.
الكاتبة: كلير جيا /Claire Jia كاتبة من ولاية إلينوي. ظهرت أعمالها في عمود الحب الحديث (Modern Love) بصحيفة نيويورك تايمز، وفي ذا رامبس (The Rumpus)، وريداكتريس (Reductress)، وغيرها من المنصات. تكتب أيضًا للتلفزيون وألعاب الفيديو، بما في ذلك لعبة We Are OFK الفائزة بجائزة بيبودي لعام 2024. تعيش جيا حاليًا في لوس أنجلوس مع صديقاتها.