ملف المرأة

(تشهّي الخراب... العظـيم !).. تحليل رواية (التشهي) للمبدعة (عالية ممدوح) (ق6)

(ستكون الرواية تاريخ الذين لا تاريخ لهم، تاريخ الفقراء والمسحوقين، والذين يحلمون بعالم أفضل. ستكون الرواية حافلة بأسماء الذين لا أسماء كبيرة أو لامعة لهم، وستقول كيف عاشوا وكيف ماتوا وهم يحلمون. وسوف تتكلم الرواية أيضا، وبجرأة، عن الطغاة والذين باعوا أوطانهم وشعوبهم، ولابدّ أن تقرأ الأجيال القادمة التاريخ الذي نعيشه الآن وغدا ليس من كتب التاريخ المصقولة وإنما من روايات هذا الجيل والأجيال القادمة – الكاتب والمنفى – عبد الرحمن منيف المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة الثانية – 1994 –ص 43). لكنني أعتقد أن عالية ممدوح قد حققت خرقا شاسعا في أطروحة منيف هذه، فالتاريخ الذي يجب أن تكتبه الرواية، التاريخ الذي نحن في أمس الحاجة إليه، حاجة ضاغطة تشمل حتى الفقراء والمسحوقين، هو تأرخة مسيرة صعود وانهيار الطبقة الوسطى في الوطن العربي عموما وفي العراق خصوصا. هذه الطبقة التي هي الأب الشرعي ليس للرواية حسب بل للفنون والإبداع أيضا. ولا أعلم كيف يقتنع منيف بأن الرواية تكتب للفلاحين الأميين. وحسب هرم " ماسلو " فإن الطموح نحو الإشباع الفكري يأتي بعد إشباع الحاجات الأساسية، أما النزوع نحو حالات الإنجاز الفائق ذات المسحة الصوفية فهي تقع في قمة الهرم. وبالتالي فإن الطبقات المعدمة والمسحوقة تكون بعيدة في أغلب الأحوال عن تحقيق استكمال صعود درجات هذا السلم، في حين يستطيع أفراد الطبقة الوسطى – كحالة عامة – الوصول – على الأقل – إلى مستوى الإشباع الفكري والتمتع الجمالي والإنجاز الإبداعي. وأغلب المسرّات الجمالية – وهي كثيرة – والسياسية والاجتماعية – وهي قليلة – التي شهدها العراق عبر تاريخه الحديث كانت مرتبطة بانتعاش الطبقة الوسطى، ولكن الظاهرة الغريبة المكملة هو أن شرائح من هذه الطبقة كانت هي سبب خراب الحياة في هذا البلد أيضا !!.

 

- التشهي وضربة الخيانة القاضية:

المهم – كما يقول أحد منظري السرد – أن تأتي نهاية الرواية مثل منديل أحمر يتدلى من جيب جاكيتة ناصعة البياض ترتديها أنثى ساحرة !! هكذا تصمم عالية ممدوح نهاية روايتها هذه. وهي تنتقل إلى نهايتها من خلال المعاني الرمزية والصلة بالحركة التاريخية التي تصر عليها، ووسط خضم الثيمات الهائلة التي تلقيها عالية ممدوح – وهذا الكم يحصل في مرات قليلة في الرواية العربية والعالمية، حيث تعودنا على ثيمة مركزية يخلص لها الروائي، وينسج منها ثيمات ثانوية يحاول من خلالها أن يوفّر نقاط لاقطة مضافة لانتباهة المتلقي من ناحية، ولتصعيد التشابكات الدرامية من ناحية أخرى. لكن التفرّد الباذخ هو في تجميع الثيمات الثانوية في كتلة كبرى مهيمنة، وهذه سمة أسلوبية في اغلب روايات عالية، وهو أمر يتطلب بحثا مستقلا سيربك مسار التحليل لهذه الرواية الآن، لكني أقول أن عدد الثيمات كبير ومزدحم، وسألتقط منه ما هو مترابط مضمونيا تاركا ما هو شكلاني صرف رغم أهميته، ومن بين أهم هذه الثيمات (كررنا مفردة الثيمات كثيرا !!) المضمونية المثقلة – وهذه سمة مضافة – بالمعاني الفلسفية والفكرية والنفسية والجمالية، هي معضلة أو محنة " الخيانة " التي تحوّلها الروائية إلى مشروع جمالي رغم إيحاءاتها المقلقة المترسّخة في الوجدان. أتذكر أن بطل رواية " المسافة " "للخائن" الكبير يوسف الصائغ كان يقول: " لقد خنت.. ولن يفهم الخائن إلا بطل !! ". في الخيانة بطولة سلبية إذا ساغ الوصف. وفي كل مرة يطرق فيها سرمد على سندان الخيانة يتشظى شرر معرفي جديد يصعد بالثيمة العادية والتي صدأت بفعل العادة والرتابة إلى آفاق جديدة. يتحدث سرمد أولا عن خيانة " صاحبه " فيقول:

(تصورت جميع ما يخطر على البال. كأن صاحبي فصل نفسه وترفّع عني، تخطّى الحاجز الذي يفصل ما بين الصبر والفطنة فتركني لأني فظّ وكذوب وخائن. بلى كنت أخونه وخيانتي كانت خطّ سيري وفراري وأريحيتي. إذا لم تخن سوف تضيع، فأردّد على مسامعه: بقوة الخيانة سوف أستحوذ عليك... خن لكي تزداد جمالا وتصل الجمال فأعرف، ولو بصورة مربكة، أن كبار الخونة في العالم كانوا يشيدون نظاما لا أحد بمقدوره اختراقه واختراقهم - ص 114). من الجزئي المبتذل.. المهمل.. والمتروك عادة خارج إطار المعرفة إنكارا نفسيا مشفوعا بآلية الكبت – في حين أن من معاني الجذر (عرف) هي المواقعة الجنسية !! وهذا هو السرّ المكين في شجرة المعرفة التي أكل منها جدنا الخطّاء فحلت عليه، وعلينا – من خلاله - لعنة الشقاء - وكل هذه الأفعال خيانة..فمرحى بالخيانة حسب إرهاصات يوسف الصائغ وتأسيسات عالية ممدوح التي ترى في التخلي وأنموذجه الجزئي في التخلي العضوي.. البايولوجي لمكون جسدي يخلع ولاءه للجسد الأكبر - الأم: (عيناي تقعان عليه، فأشعر أنه بالفعل كسر الجدار وانطلق بدون ندم. فأنا على العموم مرغم على اللاتفكير بأن ما حدث لا رجعة فيه. الأمر لا علاقة له بالجنس فقط، هو أمر له علاقة بالتخلّي. آه، هو أمر يتوافر على نسق غير مبالغ به بالخيانة بالمعنى الدقيق الخارق للمضاجعة، هو الذي ضاجع العشرات والمئات – ص 114و115). إن هذا التصوير الذي قد يبدو جانحا لمفهوم الخيانة هو الذي أعتقد - وقد أكون مخطئا - أنه هو الحجر الصغير الذي يمكن أن ننشيء - ويا للعجب وهذا شأن فعل النفس البشرية المسكوت عنه - على مرتكزاته وبناه المعنوية الصغيرة والمستهجنة، وبطبيعة الحال، من خلال فضائل السموم المعرفية التي تنثرها الروائية، الخيانات الشخصية - البيشخصية - interpersonal، والوطنية الكارثية. لقد " خان " سرمد مبكرا ولاءه للأنموذج الأمومي بارتباطه بالانكليزية / الأسكتلندية " فيونا لنتون "، ثم " خان " لغته الأم من خلال تعلقه بلغة أخرى، وامتهن عملا " خيانيا " هو الترجمة التي – كما قلت - يرى "رسول حمزاتوف" أنها الوجه الآخر للسجادة، في حين يرى "محمود درويش" أنها قبلة من وراء الزجاج، ورغم كل أبعادها "الخيانية" المعرفية فأن الكثير من المبدعين يتوسلون هاتفين: خنّي ولكن ترجمني. المهم أن سرمد عاش سلسلة من الخيانات السلوكية والمهنية والعاطفية لعل أخطرها وما شكل الذروة الخيانية القاصمة هو تخليه عن " ألف " وخيانته لها هاربا إلى المنافي راضخا ومذعورا من أخيه مهند الطاغية، وتزاوجت هذه الخيانة مع موقف سلوكي غريب مفعم بالتشفي بالذات.. وتهييج جراحاتها وكأننا أمام حركة التفافية - قد لا تعيها الروائية - تكشف عن التماهي المنذعر مع الأنموذج الأنثوي - موضوع الحب - المصادر من الطاغية بلا رحمة. هنا الظفر بمصدر لذّي - حتى لو كان ممزوجا بالألم – يتشرب من عذابات الضحية. يصف سرمد مشاعره وهو يستدعي صورة ألف في مواقعة مهند الذي استلبها غصبا:

(أعتزل يوما بعد يوم عن نفسي ومحيطي ونسائي وشغلي فأسقط في دوامة شكوك لا نهاية لها: الشك " بألف " وبالدرجة الأولى. أتلذذ بطريقة ماجنة وأنا أتخيلهما هي ومهند ملتحمين ويئنان. نعم، كنت أسمع أنينهما ولا أتملّص من تلك الأنفاس التي بقيت تلاحقني وتعاقبني فلا أنفصل عنهما، على العكس، أنشط وأتحفّز وأستفز وأتلمظ كلّ ما أتصوّره ودون انتظار أن أجني أي شيء منهما ولا من تلك المدينة. أجل، هو ذاك المنظر الأكثر طبيعية: ما لا يختفي ليس ذكرا حقيقيا. ما العمل إذا لم تكن تملك إلا موهبة واحدة، وكانت هذه الموهبة بصدد الإختفاء. ألن يكون من الأفضل أن تختفي باختفائها؟ - ص 116).

وقفة:

-------

ولكن ما يلخص الإيحاءات الجمعية التي تتضمنها محنة الاختفاء والخيانة والتي قد تريد الروائية الوصول إليها، هو قول علي بن أبي طالب: " الخيانة هي التراخي مع القدرة "، والقدرة قائمة دائما، وهناك شيء منها مهما كان حجمه، كامن وغير قابل لـ " الإختفاء " إلا كنا نحن المعنيين أنفسنا نستمريء لعبة الإختفاء، فيصبح التراخي مع القدرة أي السلوك " الخياني " الهروبي سياقا ثابتا لحل الأزمات الخطيرة التي نواجهها في حياتنا الشخصية في العلاقة مع السلطة مهما كان شكلها.

عودة:

--------

وفي الواقع - وقلت أنني سأعيد "رواية" مقالتي التحليلية بأصوات متعددة مثل التقنية السردية التي اعتمدتها الروائية - فإن سرمد كان قد " اختفى " منذ طفولته المبكرة وهو يلاحق الأفعال الجسورة والسلوك المستبد لأخيه مهند الذي كان الأبوان يفضلانه ويغفران له كل أخطائه. ولكن الإختفاء النهائي هو الذي تحقق مع الخيانة الفاصلة عن ألف بتعبيراتها الرمزية وعن " المدينة ".. وتهمني هنا الإشارة إلى معنى " الألف " الذي اختارته الروائية اسما لبطلتها العراقية. فالألف: ويقابلها في حساب الجمل رقم 1، وهو عِرق مستبطن العضد إلى الذراع، وجمعها آلاف وألوف (جمع الجمع)، ومنها الإلف الذي تألفه، وأوالف الطير التي ألفت مكة والحرم، والإيلاف العهد والذمام، وألفت بينهم تأليفا جمعت بينهم، وألّفت الشيء وصلت بعضه ببعض ومنه تأليف الكتب، وألّفت فلانا الشيء: ألزمته إيّاه، وألّف الألف: كمّله، وتألّف القوم: اجتمعوا، والإلفة: المرأة تألفها وتألفك، وأوالف الحمام دواجنها التي تألف البيوت، والمآلف الشجر المورق. ولن تكتمل النظرة إلى قيمة الألف إلا إذا خذنا بالاعتبار نظرية العلامة العراقي الراحل (عالم سبيط النيلي) في اللغة الموحدّة والحل القصدي للغة التي تفترض أن آلة النطق قد تطورت مع جسم الإنسان عبر ملايين السنين، ولمّا كانت مادة الإنسان بما فيها آلة النطق هي من نفس مادة الكون،، لذا فإن جميع الحركات التي حصلت في الكون قد ظهرت كامنة في أصوات آلة النطق عند الإنسان. وإن الأصوات هذه هي صدى الحركات التي خُلق بها العالم ووُجدت بها الأشياء، وأن تسلسلها يمثل سلسلة من التكوينات التي حصل بها نشوء (الكثرة) في الأشياء أو (التعدّد). فهي فهي مثل الجنين الذي يختصر في تسعة أشهر (في الإنسان) تاريخ تطوّر الإنسان هذا. أما الأصوات فإنها تختصر تاريخ تكوين العالم من مادته الأولية، لذلك فكل شيء وكل حركة في الوجود يمثلها تسلسل معين من للأصوات، وكل حركة مستقلة شاملة يمثلها صوت معين.

والألف هو المادة (الخام) الأولية التي تُستعمل في مراكز الحركة لتشكيل الأصوات المختلفة. فمثلها مثل (الخط) في الهندسة يمكن أن تشكل من مستقيما أو دائرة أو مثلثا أو خطا متعرجا.. إلخ. ولا يخرج أي صوت ما لم يكن محمولا على مادة الألف، ولذلك لا يمكنك نطق أيّ صوت ما لم تبدأ بالألف ومكوناته (الهمزة والواو والياء والسكون). وبذلك فإن الألف هي أس الوجود وأس اللغة. والظهور الأول لأصوات اللغة هو في الألف (أ)، وهذا الألف هو عبارة عن مكوِّن وجودي أول تلاحم فيه الزمان والمكان) (5).

هذه الألف تمت خيانتها خيانة جعلت الأنثى المتفتحة على الحياة والتحضّر والرقي تقع بيد الطاغية وهي في أوج توهج وجودها. لقد هرب كل الأبناء وخانوا مدينتهم الأم في الهروب التاريخي الجماعي الكبير كما هو معروف. وبعد مسيرة مريرة من الاستلاب ومصادرة الإرادة وتصفية كل ما يسند وجود "ألف" كركائز تقوم عليها عائلتها - العائلة الوطنية إذا أخذنا البعد الرمزي الذي صممته الروائية لروايتها - ليبقيها وجودا هشا خذله هو بدوره عندما اكتسحها / المدينة "الشقر المحتلون" كما تصفهم ألف، ليختفي الطاغية - أي مهند - إلى الأبد. لكن مع احتلال المدينة الأم جاء الإعلان عن - قد يكون إعلان ضرورة - إختفاء الجيل الذي مثله سرمد وذلك من خلا التعبير الرمزي الخطير المتمثل في إختفاء قضيبه، ذَكَره وذِكره، ولا يبقي وراءه سوى " وقائع " دراما الإختفاء موزعة على أشرطة صوتية لألف ويوميات لسرمد ووثائق عن مهند وتعاملاته مع " المعارضين " محفوظة في حقيبة سلمها سرمد ليوسف. ولعل أخطر ما في هذه الوثائق هو الشريط الأخير الذي أرسلته ألف إلى سرمد وختمت به الروائية روايتها. في هذا الشريط تلخص ألف أوجه المحنة - محنة الإختفاء والخيانة - كاملة، وتلخّص الأبعاد الرمزية التي تحدثنا عنها. تتحدث أولا عن تعرفها إلى سرمد في الكلية وكيف كان أنموذجا تتساءل الفتيات عن أصله الجنوبي. وكيف كان يلقي سونيتات شكسبير بصورة حازت الإعجاب. كانت تعتبر اسمه ثروة.. وتعتز بلسانها العربي الذي تتضوّع عربيته عندما تتصبب عرقا في المعهد البريطاني. وفي إشارة سريعة لكن حاسمة نعرف أن لقب ألف هو البغدادي ليصل التطابق الرمزي درجة الإفصاح خصوصا عندما تقول ألف:

(صوتك يا سرمد... مصنوع من التبغ والعرق الغالي والغناء العراقي والموت الممتد إلى آخر الليل البغدادي، ليس البغدادي لقب جدي الكريم، لكنها المدينة، مدينتنا التي لازلنا نقتلها يوميا ونقتل فيها أنفسنا. ألا تسمع صوتها وصوتي ونحن نتحدث والمدينة مقبلة علينا ونحن نحبو على أذيال ثوبها الطويل الطاهر الذيل، وهي تقول: هيّا، لا تحلّقوا في الهواء ولا تطيروا عاليا جدا. أي، أنت وأنا من هذه المدينة وهي ملك لنا – ص 261).

لكنهما حلّقا عاليا في سماوات الأحلام متناسين المخاطر الإفعوانية المهولة التي كانت تتمطى وتتسع وتتحفز. ومع هذا التحليق الباذخ – ولأن الرواية صممت مزيجا بين الاستقراء والاستدلال في حركة ذهابيابية تفاعلية خلاقة فيمكنني القول بثقة أن بعض المقدّمات لا تفسير لها في هذا النص إلا بالصبر.. والصبر الطويل حتى الوصول إلى الصفحة الأخيرة، مثلما نجد أن هناك إحالات في الصفحات الأخيرة لا يمكن تفسيرها إلا إذا تراجعنا بتركيز عال إلى مواقف في الصفحات الأولى. قف سريعا على التوسيع المذهل للثيمة الخلاصة الذي يتمثل في استدعاء ألف لذكرى الروب الياباني الفضفاض الذي جلبه سرمد لها من اليابان وعلق عليه وهي تغطس فيه أول ما نزّعها ثيابها كلها :

(ألف: جسمك مكان وصوتك أيضا وهذا الحرير الرقيق سيحرك جميع الحيوانات والمروج والثريات وطبول الحرب أيضا – ص 27.).

كان سرمد يعدّ " ألف " أجمل من مارلين مونرو الأمريكية التي لم يكن يتصورها إلا عضوا أنثويا متورما فحسب. تواصل ألف حديثها، حديث الذاكرة الحادة، فتخبره أنها، أي ألف، لم تفرّ ولم تختف كما حصل مع مهند - وهذا يشمل سرمد ويوسف وأبناء جيلهما وغيرهم رغم أنها لم تعلن عنهما صراحة -. إنها مصرّة على البقاء.. ملتحمة بمدينتها الأم.. مصرة على عدم الإختفاء وما يلحقه من خيانة أبدا.. وفوق ذلك فهي تقوم وبعزم بتوثيق ما يجري من وقائع - حتى في جانبها السراني مع مهند - وبصوتها (فالصوت البشري يحمل إمكانات التدوين الغناء الوقاحة العصيان النحيب الذي لا يغش – ص 265). إنها تؤكد وبصوتها المعبر عنها أن مجرد البقاء حيا يفقأ عين مهند من قبل والشقر من بعد. الشقر الذين أجهض فعلهم المستبد تأثيرات اللغة الإنكليزية التي أحبتها: (هؤلاء الشقر فيما بيننا اليوم، فماذا سنفعل باللغة الانكليزية التي أحببناها سويا، فأتلعثم وأنا لا أقدر على قول YES... كيف تصير اللغة الانكليزية التي استهوتنا فترجمنا عنها وتبادلنا بها المعارف والشغب والأحلام والاستيهامات، لغة السفّاح الغازي – ص 266). وهذا البعد هو الذي كسر جانبا مهما من العمود الفقري للملاحقة والتثاقف مع الآخر في المشروع الوطني. لكن ألف لا تنسى أو تتناسى أن سيادة باطشة للغة دخيلة أجهضت أحلامها لم يتأسس كاملا لو لم تكن لغتها الأم / العربية هشّة ومشوشة، ولذلك يصبح مبررا انفلات نقمتها العارمة:

(فالعربية سوف تتحول إلى نشارة خشب وها أنا أقول ذلك لك وكأن هناك لعنة سرمدية تتعبقني ولغتي، تتعقب بلدي الذي كنت أرفض أن أترجمه فلألعنه وأشتمه. اللعنة تنهض وتتصاعد على بابل وجميع الألسنة، على الإسم والحرف والفعل والمفعول به ورهاب المدينة الوحيدة والنهر الذي لا نقدر على الاستحمام به ودجلة المخنث، اللعنة على حيّ الوزيرية والمسبح، المنصور وشارع المشجر – ص 266).

لعنات لعنات لعنات.. كانت قد بذرت بذرتها - كما توحي ألف - يوم اختفى الحب من حياة المدينة.. اختفى الحب وتسيد الكره والمقت وغريزة الموت ممثلة بحضور مهند العارم والمميت وهرب واختفاء نماذج الحياة ممثلة بسرمد والآخرين.. ولا حل للشدة الفاجعة هذه إلا بعودة الحب.. وعودة الأبناء الذين فرّوا واختفوا.. هذا ما يقترحه قلب الأم / المدينة /ألف العظيمة..الصابرة التي لم تعد تجفلها الصواريخ الأمريكية.. وتعيش وسط لهيب المحن متماسكة ومحافظة على اللياقة كما تقول لسرمد بصوتها البشري: (هيا يا سرمد، هل تسمعني، تكلّم أريد أن أسمع صوتك، أريد أن أرى الصوت كما كنت تردّد من قبل وهو يحطم كل شيء.. صوت الأشواق والقنابل والجزم الفولاذية، صوت الراجمات كالترتيلة.. أضع الصوت في زجاجات شفافة وأبعثه إليك وكلما تفتح الغطاء تفوح رائحة المكان والبيت والشارع والسرير والثياب والشراشف فيظهر ذاك الوميض في الكون: واجب القيام بالحرب. هيا يا سرمد، عد لعادات المغرومين المحبوبين المزعجين. دعني أرى الكتف الجميل. هيّا احضني إلى أن أختفي فيك فلا يظهر الصوت الخافت أو الفصيح – ص 268و269).

هكذا.. وخطوة خطوة.. وعبر الصوت البشري المأزوم والمبلل بندى العبرات.. صوت أمومة مغدورة.. ومدينة مضيعة وضائعة.. ولغة مفتتة.. هكذا مع الخواء واللاجدوى والغائب الذي لن يأتي.. تلخص ألف الحقيقة الخالدة التي تبدأ منها وتنطلق بها وتنتهي إليها حين تذكّر سرمد:

(تعلمنا كيف نبتلع الدموع فنرقبهم وهم يضخون ثلاثة أنواع من السموم القاتلة في عروقنا ومع هذا لا يُقضى علينا.

حسنا، لن أعيد ما كنت تقوله من حين لآخر يا سرمد:

" سقراط ليس طبيبا. الموت وحده الطبيب. سقراط كان فقط المريض ".. و.. – ص 27.).

ولم تصل هذه الخاتمة العظيمة إلى ذروة تأثيرات معانيها الباهرة المضمرة والمعلنة في روحي كمتلق وناقد إلا وأنا أهرع فورا لأقرأ النص العظيم الذي كتبه أفلاطون عن الساعات الأخيرة من حياة سقراط وهو يشرب السمّ كما أورده "ول ديورانت " في كتابه " قصة الفلسفة ":

(... وبعدئذ اشتعلت الثورة، وحارب الرجال لها وعليها، بمرارة حتى الموت، وعدما فازت الديمقراطية تقرر مصير سقراط وأصبح واضحا،، فقد كان الزعيم العقلي للحزب الثائر، مهما كان مسالما هو نفسه، فقد كان مصدر الفلسفة الارستقراطية البغيضة ومفسد الشباب الذين أسكرهم النقاش، ورأى أنايتس ومليتس زعماء الديمقراطية، أن من الأفضل أن يموت سقراط. وبقية القصة يعرفها جميع العالم لأن أفلاطون سجلها في نثر أشد روعة من الشعر. ومن الأفضل أن نقرأ لأنفسنا ذلك " الإعتذار " أو الدفاع البسيط الذي أعلن فيه أول شهيد للفلسفة حقوق الإنسان، وضرورة حرية الأفكار، ورفض أن يطلب الرحمة من الجماهير التي احتقرها دائما. لقد كانت لديها السلطة لتعفو عنه، ولكنه رفض باحتقار أن يناشدها الرحمة. لقد أراد القضاة إطلاق سراحه بينما صوتت الجماهير الغاضبة مطالبة إعدامه، ألم ينكر وجود الآلهة؟ ويل له لأنه علم الناس فوق طاقتهم على التعلم وهكذا حكموا عليه بشرب السم. وجاء أصدقاؤه إلى سجنه وعرضوا عليه مهربا سهلا، فقد رشوا الموظفين الذين يقفون بينه وبين الحرية والفرار. ولكنه رفض فقد بلغ السبعين من عمره (399قبل الميلاد) وربما اعتقد أن الوقت قد حان ليفارق الحياة، وأنه قد لا يموت أبدا بمثل هذه الطريقة المفيدة لتدعيم مبادئه. لقد قال لأصدقائه الحزينين افرحوا وقولوا إنكم توارون في التراب جسدي فقط، وعندما نطق هذه الكلمات قال أفلاطون في فقرات تعد من أعظم فقرات الأدب في العالم:

(نهض سقراط ودخل غرفة الحمام مع كريتو الذي طلب منا أن ننتظر وانتظرنا نفكر ونتحدث.. في حزننا الكبير.. فقد كان بمثابة الأب الذي سنفقده بعد قليل ونعيش بقية حياتنا يتامى.. لقد اقتربت ساعة غروب الشمس.. وعندما خرج علينا جلس معنا مرة ثانية ولكننا لم نتحدث سوى القليل، ودخل السجان ووقف بجانبه قائلا إليك يا سقراط يا أنبل وألطف وأفضل من جاءوا إلى هذا المكان سوف لا أتهم أو استذنب شعور الرجال الآخرين الذين يشتمون عندما أقدم لهم السم وأطلب منهم أن يشربوه إطاعة لأوامر السلطة. وأنا على يقين أنك لن تغضب مني لأنني لست المذنب كما تعرف، وهكذا استودعك وأرجو أن تتحمل ما تستدعيه الحاجة، أنت تعرف مأموريتي، وبعدئذ انفجرت دموعه وخرج. لقد نظر سقراط له وقال أقابل تحيتك الطيبة وسأفعل ما طلبت. وبعدئذ اتجه لنا وقال يا له من رجل ساحر لطيف.. دعهم يحضرون السم يا كريتو.. قال كريتو: إن الشمس ماتزال فوق أعلى الهضاب والكثيرون تناولوا جرعة السم في وقت متأخر، لذلك لا تتسرع. وقال سقراط نعم يا كريتو أولئك الذين تتحدث عنهم على حق في فعل ما فعلوه لأنهم يعتقدون باستفادتهم من التأخير في الشرب. ولكني أعتقد أن تأخري في شرب السم لن يجدي نفعا لأنني بذلك أكون قد وفرت حياة قد انتهت.... وبعدئذ جاء السجان يحمل كأس السم. وقال سقراط: أنت يا صديقي السجان المجرب في هذه الأمور هل تدلني كيف أفعل وكيف أتقدم في شرب السم. وأجاب الرجل عليك أن تمشي فقط إلى أن تشعر بثقل في قدميك فتستلقي وبهذا يسري السم في جسدك، وفي الوقت ذاته قدم الكأس إلى سقراط الذي أخذه بألطف طريقة وبدون تغير في قسمات وجهه ناظرا إلى الرجل بملء عينيه كعادته دائما وقال: ما رأيك لو تقربنا بهذا الكأس لأحد الآلهة؟.. ورفع الكأس إلى شفتيه في هدوء تام وابتهاج. لقد تمالك معظمنا شعوره حتى ذلك الوقت، ولكن عندما شاهدناه يشرب لم نعد نقدر على تمالك شعورنا، وانهمرت دموعي فغطيت وجهي وبكيت.. كريتو وجد نفسه عاجزا عن كبت دموعه نهض وابتعد وتبعته. وفي تلك البرهة أرسل أبولودوروس الذي كان مستغرقا في البكاء طوال الوقت صرخة عالية أظهرتنا جميعا بمظهر الجبن. لقد احتفظ سقراط وحده بهدوئه وقال ما هذا الصراخ والصخب، لقد أبعدت النساء عن هنا كيلا أشعر بالإهانة في مثل هذه الطريقة، فقد سمعت بوجوب ترك الرجل يموت في سلام. إهدأوا واصبروا. وعندما سمعنا ذلك خجلنا من أنفسنا. واستمر سقراط في المشي إلى أن بدأت ساقاه كما قال السجان تخونه ولا تقوى على حمله فاستلقى على ظهره. وكان الرجل الذي قدم له السم ينظر إلى ساقيه وقدميه، وبعد فترة حبس قدميه بشدة وسأله فيما إذا كان يشعر، وأجاب سقراط بالنفي، فحبس ساقيه واستمر يضغط على جسمه أعلى فأعلى، وقال لنا إنه أصبح باردا جامدا، وشعر سقراط بذلك وقال: ستكون النهاية عندما يصل السم إلى القلب. وبدأ البرود يصل إلى فخذيه فكشف وجهه (لأنه كان قد غطى نفسه) وقال كلماته الأخيرة: يا كريتو، أنا مدين بدين إلى اسكيبيوس، أرجوك أن لا تنسى دفع هذا الدين؟ وقال كريتو: سأدفع الدين، هل هناك شيء آخر؟ ولم يسمع جوابا لهذا السؤال وبعد دقيقة أو اثنتين سمعنا حركة وقام الخادم بتغطيته وقام كريتو بإغلاق عينيه وفمه. هكذا كانت نهاية صديقنا الذي أسميه بحق، أحكم وأعدل وأفضل جميع الرجال الذين عرفتهم في حياتي – ص 15- 18) (6).

بعد هذا سترن عبارة ألف الختامية التي أنهت بها رواية التشهي مدويّة تهشم قناعاتنا وميلنا المزمن للإختفاء:

" سقراط ليس طبيبا. الموت وحده الطبيب. سقراط كان فقط المريض "

لو كنا نتشهّى الأولويات الوجودية مثلما تشهّها سقراط ومثلما تذكّر به ألف وسارت عليه في التسمسك بالمدينة الأم، لما انفتحت علينا أبواب الجحيم والمهانة والتمزق من كل الجهات.. والتي سنبقى "نتشهى" أبسط محاولة يائسة لإغلاقها حتى الموت.. الموت الذي لن يكون في تلك اللحظة حتى طبيبا مخلّصا !!.

 

...........................

هوامش:

1 – التشهي – رواية – عالية ممدوح – دار الآداب – بيروت – الطبعة الأولى – 2..7.

2 الموت والعبقرية – د. عبد الرحمن بدوي - دار القلم – بيروت – بلا تاريخ

3 – العقيدة الفرويدية وطريقة التحليل النفسي - رولان دالبير – ترجمة حافظ الجمالي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت - الطبعة الأولى – 1983.

4 – (دوستويفسكي - مقالات ومحاضرات – ترجمة إلياس حنا إلياس – منشورات عويدات – باريس – الطبعة الأولى – 1988).

5 - لمزيد من التوسع راجع كتاب الدكتور إبراهيم خليل (بنية النص الروائي من المؤلف إلى القارىء) – منشورات عمادة البحث العلمي – الجامعة الأردنية – عمان – 2..8.

6- راجع كتاب اللغة الموحدة وتفنيد المبدأ الاعتباطي وتأسيس مبدأ القصدية في علم اللغة العام – دار المحجة البيضاء – بيروت – 2..8.

7- قصة الفلسفة – ول ديورانت- ترجمة الدكتور فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة – 1985

 

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: ظاهرة الكتابة الايروسية عند المرأة، الثلاثاء 16 - 20/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم