ملف المرأة

(تشهّي الخراب... العظـيم !).. تحليل رواية (التشهي) للمبدعة (عالية ممدوح) (ق5)

(.. تعرف بطني الخاسفة وعدد شعر عانتي الذي قالت عنه وهي تغني له:

" غابة وما علي إلا أن أدخلها بأمان " – ص 1.9و11.).

وتصل الإحالات التحرّشية أعلى مستوياتها حين يسأل يوسف سرمد عن " مرجعيته "، فكان ردّ فعل الأخير:

(نظرت في عينيه تماما، فتحت أزرار معطفي الصوفي وسترتي أيضا، مددت يدي إلى ذكري وأشرت عليه قائلا بتمهل شديد:

- هذا... – ص251)

هنا يقف سرمد على دكة الإحباط الشامل.. إحباط فرضته لعنات الخيبات التي أصابته بفعل عجزه وانخذاله من جانب، وبفعل انفضاح عجز المرجعيات السياسية التي تصدت لتغيير حياته وانتمى إليها من جانب آخر. وعلى الرغم من أنه يضاجع بصورة عظيمة كما تقول عشيقاته إلا أن تحوّل مرجعيته من " فوق " إلى " تحت " يعكس نكوصا شديدا يحوّله إلى " متشه " مرضي، " يختفي " خلف قضيبه لتغطية " انكشافه " المنخذل. وكون ذَكّر الفرد هو مرجعيته الوحيدة تجعله كما يقول " هنري ميلر ": قضيب يفكر، وهذا يخلق نوعا من نرجسية قضيبية مضللة غطس في عتمة أوهامها المخدرة سرمد مثلما غطست كيتا والبيضاوية المغربية في نرجسية " فرجية "، الأولى كرد فعل على خيبة المشروع السياسي الشمولي الذي نذرت نفسها له والتي توجت بانهيار جدار برلين، والثانية كمغامرة حياتية وجنسية في لندن انتهت بتحريض من سرمد حيث قدمت استقالتها الموجزة إلى مدير شركتها أبو العز: اسمع يا أبو العز، ما أنت إلا حرامي. لكن يبدو أن المرأة " تعرف " الشيء الذي " يخفيه " سرمد حتى لو جعل مرجعيته الوحيدة قضيبه. فمهما أوغل في دفاعاته المغيِّبة فإن كيتا قد أمسكت بالجذر النفسي الحقيقي لبنية شخصيته كـ " متشه " مرضي:

(أظن أنت نرجسي بالفطرة وسادي بالإستيهامات وإشغال المخيلة، ومازوشي عندما بقيت تلتقي بخصوم وأعداء بلدك ما بين عمان وبيروت ولندن وبرلين.. و.. وأنت تعلم، أنت قلت لي ذلك، إنهم فقط متعطشون للسلطة. كلا، أنا قلت لك، متشهّون لها. كلهم.. وأنت يا سرمد لا هذا ولا ذاك. أنت هشّ ومكسور ومجروح – ص 248و249).

وهذا طبعا لا يمكن أن يجعلنا نتغافل عن تلك التحرّشات الحساسة التي سفّهت تلك العناوين التي أسهمت - وبصورة جسيمة - في تعزيز الشعور بـ " الإنخصاء " القائم أصلا في نفوس أبناء أجيال متلاحقة، عناوين كانت مرهوبة تثير الرجفة في أعماقنا وتشل أوصالنا وإرادتنا، عناوين مثل: رئيس مجلس قيادة الثورة، أمين سرّ القيادة... إلخ:

(تقول شاندي الطبيبة في معهد العلاج الباريسي لسرمد:

(دع ذكَرَك في خدمتك وليس العكس وأطلق عليه كلّ ما يخطر على البال من ألقاب وعناوين عامة وخاصة فهو أعظم وأهم من رئيس مجلس قيادة الثورة والحكومات المتعاقبة، قل له يا أمين سر البلد، وأجمل من جميع الآيديولوجيات - ص 155).

 

- التجديف والاستعارات الدينية:

ويبدو لي أن حضور اسم الله كتعبير كوني مصعد عن الأبوة – الله أبونا الذي في السماوات – لا يمكن فصله عن تمظهرات المنافسة الأوديبية، حيث يؤجج هذا الحضور المتشفّي لهيب ظفر " الإبن " بموضوع الحب الذي تمتد جذوره بصورة مستترة ومخاتلة في أعماق تربة الموضوع الأمومي وتشتبك بجذوره فيأخذ نسغ ديمومته منه:

(ألف مجرّة واتجاه وانحراف وترنّح، وعلى بعد خطوتين من إمضاء الإبهام وأنت تضعه على الأوراق الرسمية، لا خائف ولا مرتعب، تفعل ذلك وتعرف أن أصابعك تتحدث عنها وهي تقضي وقتا طويلا تريد لمسها وهي أمامي في الصف محطّ إعجاب الله بالدرجة الأولى – ص 189و19.).

وكثيرا ما تستعير الكاتبة تعبيرات دينية معروفة لتستخدمها في تجسيد فكرة لا تناسب ثقل حضور تلك التعبيرات في لاشعورنا الجمعي. هنا يفيد الاستخدام التحرّشي الالتفات إلى الفعل اليومي وقد تضخم واتسع من ناحية وإلى الوصف الروحي وقد هبط من عليائه من ناحية أخرى:

(نعم أنا بدين تضحكني اللحوم الغالية والأسماك العزيزة... تضحكني الحكمة التي تقول: غايتي أن أعيش سعيدا، غايتي الأكل، هو يهديني سواء السبيل.. – ص 168)

- في موضع آخر تتحدث كيتا عن علاقتها العشقية مع سرمد والتأثير النفسي والفكري لحديثه عليها فتقول:

(نشيط هو يلتقط موجتي الجنسية بيسر ويريد صعودها أو ركوبها. لسانه متجانس هو أيضا، متنوع وشديد السخرية، وكل كلمة كان يتفوه بها أشعر أنها مجرد علامات يضعها في طريقي لكي أستدل عليه. فيما بعد قال: كلماتي مصابيح – ص 64).

وهنا تأتي الإحالة التقاطية سريعة ومموّهة، لكن مخزون وجداننا الجمعي يهيئنا للتداعي إلى ما هو مأثور مواز. والكاتبة تستعير هذا الوصف لتوظفه في سياق مغاير بفعل الإطار الحسّي الذي صممته له والذي يتعلق بالعلاقة الجنسية والعاطفية بين كيتا وسرمد.

 

- المفردات والأفعال البذيئة:

تأتي الشتيمة العامية مكتفية تماما بذاتها وبمعانيها المهينة الصادمة وبحدود دلالاتها القاطعة.. إنها محايدة الإيحاءات صموت وراكدة بفعل الاستعمال العابر، والأكثر خصوصا عندما تنساها الذاكرة القرائية وتشحب لأننا نركنها بعيدا عن الاستخدام السردي بفعل احتقارنا غير المبرر لها، احتقار يجعلنا نخسر موردا هائلا يسهم في تعزيز قدراتنا التعبيرية. يقول سرمد:

(قبل أيام صرت في الخمسين، وألف في الثامنة والأربعين ولديها ولد وبنت وأنا عجوز سفيه... قندرة – ص 166).

ومن المفردات المبتذلة التي وظّفتها الكاتبة في مواضعها الصحيحة كفعل يعبر عن استخفاف سرمد بكل شيء.. عن يأسه الخانق ونفض يديه من تراب الأمل هو " العفطة ". فهي فعل شديد التعبير لدى عامة العراقيين بشكل خاص عن الاستهانة بالمقابل أو بتهديد ماحق أو بحالة معوّقة يعتقد أنها ذات تأثير كبير فيقوم الفرد بهذه الحركة الصوتية المستخفة ليظهر لا أباليته وعدم اكتراثه بها. لكن سرمد يحاول تعليم كيتا الكيفية التي تعفط بها بتنغيم وتوقيع: (في أحد الأيام وأنا أحاول أن أعلم كيتا كيف تعفط بغنج وبصورة عراقية مضبوطة:

" كيتا أنت تضعين بالأفكار الشعر والشفافية وليس العكس، فكيف إذا عفطت، من المؤكد سوف تسجلين مستوى لم تصله العفطة العراقية من قبل " – ص 234).

وفي معهد العلاج حيث تشرح المعالجة " شاندي " له طريقة التداوي بالتنفس الطويل كحكمة انحدرت من الشرق.. من الهند تحديدا، يحاور نفسه بالقول:

(كلما تتحدّث بهذه الطريقة أشفق عليها من العفطات التي خزنتها، وأحاول أن أدخل عليها بعض الموسيقى، لكنني أحجم ليس حياء، وإنما ضجرا – ص 2.3)

هنا لا تمثل هذه الحركة الصوتية استخفافا حسب بل مؤشرا – من خلال عدم القدرة على أدائها وهي على هذا القدر من الابتذال - على الهوة الاكتئابية العميقة والمظلمة التي وقع فيها سرمد. ولعل هذا المؤشر كان مفتاحا لنوبة الإنهيار العاصفة التي اجتاحته في النهاية وأفشلت البرنامج العلاجي. ولم تأت نوبة الإنهيار تلك كأعراض نفسية وجسدية لانفعال إحباط عاصف هو مزيج من العنف الجسمي والعدوان النفسي حسب، بل – وهذا ما يحسب للروائية من ناحية " علمية " بصيرتها السردية الحاذقة التي ركزّت في ما هو فردي معضل الإشكاليات الجحيمية للمحنة العامة، وفي ما هو نفسي سلوكي شخصي المعضلات الضارية للفاجعة السياسية الجمعية، هنا أنموذج لمعنى الكتابة السياسية السردية الناجح – ممتزجة بتداعيات – أو استعادات " فلاش باك " – لمشاهد الإنهيار العام الذي اصاب البلاد. فلحظتا الإنهيار كلتاهما تضمنتا الموقف السلبي المتفرج الذي تتلاعب به الإرادة الخارجية، شاندي وفريق العلاج بالنسبة لسرمد في المستشفى الباريسي، وقوى العدوان بالنسبة لبلاده التي استسلمت بعجز محزن على أرض المواجهة الحربية:

(بدأت أمشي وأهشم في طريقي كل ما تصله يدي. أرمي القطن والشاش وأسحب المناشف وأكداس الورق والكفوف البيضاء.. يوسف والممرض التصقا بالجدار وأنا أقفز داخلا غرفة مهشّما ما بها خارجا إلى أخرى. حيوان أهوج.. الحمام أدخله وأفتح صنابير مياهه الباردة والحارة فيتصاعد البخار من حولي. بخار وغبار الراجمات والصواريخ. تختفي غرفتي في بيت الوزيرية ولم أعد أراها بصورة جيدة. إفراغ وشحن، انتصاب وإيلاج. أجساد تظهر على الشاشة طليقة تُدفن ولا تتخفى، وفرقة دبابات تشارلي كومباني من قوة المهمات الخاصة 1 – 64. سجّل جندي أمريكي اسمه جون مارتس بعض ملاحظاته في الشهور الثلاثة الأولى، قال إنها مشاهد ستبقى معه إلى الأبد وهو يصف الأهوال. كلا، لن أعيدها ثانية، هذا غير مجدٍ كما هو حاصل معي في هذا المركز. فالسماء لازالت في مكانها وكان ينبغي رفع رؤوسنا إليها لنرى تلك الألعاب النارية. إنهم يلعبون ونحن نتفرج. لا أحد يطلق الرصاص على السماوات ولا أحد يصيب أية نجمة – ص 238 و239). والسياق يفرض القول – لكي نكمل الصورة الكلية - إن لحظة الإنهيار الختامية هذه قد أعلنت أن الإختفاء حتمي ولا خلاص منه أبدا. وأن أي طريق علاجية خارجية مهما كان الإجماع على نجوعها سابقا لن تفلح في تحقيق الشفاء الناجز لممثل جيل تأكد انخصاء إرادته وانشلال مبادرته الوجودية إلى الأبد:

(أخذته ونفسي إلى المشافي العامة والخاصة. توقفت في Cromwell hospital وبعد ذلك نصحوني بسانت ماري. ولما لم أفهم ما يتهددني حقيقة أرسلوني إلى مستشفى كنغ جورج. بقيت أمامي ثلاث مشافٍ لم أخبر طبيبي الباكستاني عنها وأنا أدخلها وأطلع منها، وكانت على التوالي: Portland- wellington – bromption. لم أكتف بذلك. لكن نصحت حالي بسؤال بعض الصيادلة أصحابي من النصارى والبوذيين واليهود، ولكن بلا نفع كبير – ص 29). هنا تلقي الكاتبة أمام أبصارنا المتعبة وبصيرتنا المشوشة ما يتطلب منّا العناء في الإمساك بمعانيه الرمزية العميقة، معان تنتقل بنا من معاناة سرمد الشخصية إلى النوائب الفاجعات التي اكتسحت وجود البلاد والعباد.

- الإطاحة بعبودية اللغة:

يتأكد من خلال السمات الأسلوبية السابقة أن عالية ممدوح تدرك أن الإطاحة بالمقدس تتأسس أولا على الإطاحة بلغته التي أصبحت من التابوات الصخرية. ومن المفارقات الصادمة في الحياة العربية أن لغة المقدس ولغة الطغيان واحدة.. فهي لغة أبوية ذكورية خاصية ومهدّدة. والإطاحة بها تبدأ من التحرّش بركائزها المهيمنة.. من تسفيه مقوماتها الخطابية وخصوصا العصمة البلاغية المتعالية التي تدّعيها. وهذه المهمة لا يقوى عليها الشعر أبدا.. فلغته ذات عصمة وإن كانت على الطرف النقيض المقابل. هذه المهمة من اختصاص الرواية، وتتحقق على يدي روائي جسور يدرك أن جانبا كبيرا من عبوديتنا التاريخية والحاضرة هي عبودية لغوية.

- تعدد الأصوات:

ومن السمات السردية الأساسية التي لعبت عليها عالية ممدوح بمهارة هو إحكامها السيطرة على أصوات شخصياتها الأساسية (سرمد، كيتا، البيضاوية، يوسف، ألف)، حيث أن من المعروف أن الرواية متعددة الأصوات تكون صعبة من ناحية " إدارة " كل صوت ومنحه مداه الكافي وعدم إلغائه الأصوات الأخرى. وهي معادلة صعبة غرق في لجّتها مبدعو ن مبرزون حينما حاولوا تجريبها. ولعل واحدة من التقنيات المركزية التي وفّرت لعالية التوظيف المحكم لهذا الأسلوب هو أن صوت كل شخصية أساسية إذ يستهل القسم الخاص به بالحديث عن انشغالاته الأساسية، فإن الكاتبة توجّه هذا الحديث نحو الشخصيات الأخرى، وكأن هذه الشخصية تتجسد من خلال الشخصيات الأخرى إيجابيا أو سلبيا، وتوكل إليها مهمة تشخيص واقع تلك الشخصية النفسي الاجتماعي. ففي القسم المعنون بـ " كيتا " مثلا والممتد من الصفحة 57 إلى الصفحة 71، تستهله الروائية بحديث كيتا عن خيباتها المريرة وخسارتها لنسيم جلال ولبلادها وانهيار تجربتها، ولكن فيه إشارات هامة إلى أبي مكسيم ومهند وسرمد، بصورة تشكل " عقدا " ضمن تكوين شبكي أوسع. هذا التكوين الشبكي – أقصد شبكة الصيد التي من أي عقدة تنطلق منها فإنك ومهما مررت بأي عقد من العقد يمكن أن تعود إلى عقدة الإنطلاق ولكن بعد أن ثقلت زوادتك التحليلية والمعلوماتية عن الرواية أكثر وأكثر – هو سمة خطيرة قد تؤسس لمدرسة سردية عربية، وهي مستقاة أصلا من عطايا سيدة الحكايات " ألف ليلة وليلة ". ولكن هناك عاملا فاعلا آخر عزّز تماسك " أصوات " الرواية وهو أن صوت الشخصية التي خصص القسم لاسمها وللبوح بمكنوناتها وصراعاتها المريرة، يعقبه دائما صوت " سرمد " الذي يبدأ – والأدق يواصل – سرد الثيمة المركزية في الرواية وهي المتعلقة بالمضاعفات المأساوية لعلاقة المثلث الحاسم: سرمد ومهند وألف. في قسم " كيتا " تتحدث كيتا أول من ص 57 إلى ص 66، ليعقبها صوت سرمد دون تخصيص عنونة ليتحدث عن أبي مكسيم والشيوعيين من ص 67 ألى ص 71،. أما في قسم " البيضاوية " الذي يستغرق الصفحات 72إلى 137 فيبدأ بحديث البيضاوية عن أبي مكسيم وعن نفسها وكيف وصلت لندن واشتغلت في شركة صديق أبيه أبي العز، يليه حديث سرمد عن كيتا وانتهازيته الجنسية واليسار.. ثم سرده لجانب من علاقته بأخيه مهند وهو يحدثه عن العاهرات الروسيات وزواجه من ألف التي مازالت مخلصة له - أي لسرمد - ومعرفته - أي مهند - بعلاقة كيتا بنسيم الذي يطارده بعد اتهامه بالمشاركة في تفجير السفارة العراقية في بيروت، والإشارة الرهيبة إلى صلة أبي العز وأبي مكسيم بالجلاد مهند وكيف يوصيان على البدلات من بغداد، ومن محل أبيه تحديدا !!، ثم تداعيات سرمد لموقف مهند من المستر سكوت وعلاقته بفيونا، ثم الحديث عن حياة القسم الداخلي ويوسف ووهاب وخلف اللذين كانا يستعجلان القذف.. وعودة إلى محنته في اختفاء ذكره بإحالة تحرّشية مجيدة وهو يخاطب قضيبه المهدد: (حاولت بشتى الطرق لكي أقيه من الغدر والتحاسد والغيرة فأردد أمامه بصوت به ترقّب:

" لمَ أجلت عمل اليوم إلى الغد؟ ".. وهكذا في مخطط سردي لا ينطبق عليه سوى وصف واحد هو التكوين الشبكي أو البنية الشبكية.. فنحن نتقافز – بمكر الكاتبة – من عقدة إلى عقدة.. ومن خيط مسار إلى خيط مسار آخر يغرّبنا ويتلاعب بتوقعاتنا وإذا بنا نعود إلى العقدة نفسها ولكن من موقع أعلى.. وهنا تتعشق وتتأسس بنية مضافة هي البنية اللولبية على البنية الأساسية – البنية الشبكية – وعلى أرضيتها..

 

- الإلتفات:

ولعل ما يُسمّى في البلاغة بـ " الإلتفات " هو من السمات المركزية لأسلوب عالية ممدوح. وهي سمة كثيرة التواتر لديها حيث نجدها بنية ثابتة. وبنية الإلتفات تعني الخروج من أسلوب إلى أسلوب مغاير لهدف بلاغي جمالي. وهذا الالتفات قد يكون في الضمائر أو في زمن الفعل أو العدد. من أمثلة ذلك الآية الكريمة: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " حيث عبرت الآية أولا بالمثنى (طائفتان) على اللفظ المباشر ثم عدلت عن المثنى إلى الجمع (اقتتلوا) على المعنى. فإن الطائفة هي الجمع الكثير من الناس. والهدف البلاغي في هذا العدول، الإشارة إلى أن الجميع أمة واحدة لا يصح لها أن تقتتل. وبعد إظهار هذا الهدف البلاغي عادت الآية إلى نسقها الأول مرة أخرى (راجع صحيفة أخبار الأدب – 22/11/2..9). وتنتقل الكاتبة في خطابها السردي من ضمير إلى آخر ومن زمن فعل معين إلى زمن فعل مغاير:

- (كأنني سأموت إذا ترجمت، وإذا لم تفعل ستموت أيضا. الإثنان يكذبان. الترجمة تكذب والتدوين أيضا – ص 234).

- تحدث " ألف " سرمدا عبر شريط صوتي فتقول:

(لم أكن جدّ حزينة ولا أخذت وضعية العته. يلزمنا عمرا ثانيا وثالثا وإلى ما لا نهاية لكي نعرف أنها النهاية. أدخّن بهدوء. ماذا تفعلين وحدك وأنت تحت أنظار الموت؟ لا مكان آخر لك، وما عليك إلا أن تحافظي على اللياقة. هيا يا سرمد، هل تسمعني.. – ص 268).

 

- الحبكة:

ومن المقومات الفنية الهامة التي وفرتها الروائية لروايتها هذه هي الحبكة الموفقة. وهنا أعتقد أن التعريف التقليدي للحبكة الذي يرى أنها (التنظيم الداخلي للنص، بحيث يلائم بعضه بعضا،، فالمتأخر منه بسبب من السابق، والسابق يمهد للاحق، وهكذا)، وأن المثل الذي ضربه "فورستر" في كتابه المعروف (وجوه الرواية Aspects of The Novel) المنطلق من تعريفه للحبكة الذي يقول: لإن الحبكة ضرب من الحوادث التي يتم فيها التركيز على الأسباب والنتائج بدلا من التشويق) هو مثال ناقص فهو يقول: (إذا قلنا مات الملك ثم ماتت الملكة، كان ما نقوله حكاية، أما إذا قلنا مات الملك ثم ماتت الملكة حزنا عليه، فإن ما نقوله حبكة. بعبارة أوضح السؤال الذي نطرحه عن الحكاية هو: وماذا بعد؟ أما السؤال الذي نطرحه عن الحبكة فهو لمَ حدث ما حدث؟)(4)، أقول أعتقد أن التعريفين والمثال ناقصين بل غير معبرين بدقة عن مفهوم الحبكة، فعندما نقول مات الملك ثم ماتت الملكة فهذا خبر وليس حكاية، وحين نقول مات الملك ثم ماتت الملكة حزنا عليه، فهذه حكاية موجزة أيضا لأن الحكاية لا تمسك بشروط بنائها من غير الامتداد الزمني. ولهذا هناك تصنيف زمني للفنون السردية: فالقصة القصيرة جدا هي التي تقرأ خلال دقائق والقصة القصيرة خلال ساعة إلى ساعات والرواية خلال ساعات إلى أيام، كما أن الطول يعد أيضا من شروط التمييز بين هذه الفنون السردية (فهناك من النقاد من يقول أن حجم القصة ينبغي أن يأتي في عدد قليل من الصفحات قد تكون صفحة واحدة (كما في القصة القصيرة جدا) وقد تمتد إلى ثلاثين صفحة كما في القصة القصيرة)(راجع العدد الواحد والسبعين من كتاب العربي الشهري). وأي حكاية يجب أن تكون متسلسلة، يمهد فيها السابق للحق وإلا فإنها سوف تصبح نصا مفككا يصدر عن عقل ذهاني لا يستسيغه عقل المتلقي. الحبكة يمكن أن نلخصها بتحوير مثال فورستر ونقول: مات الملك ولا نعلم لماذا ماتت الملكة بعده بهذه السرعة مثلا. هنا سيكون هناك ما هو محبوك ومستتر وكامنا في عقدة يجب على الكاتب – لكي نفك أجزاءها – أن نمضي مع الكاتب ونلاحق تسلسل وقائع روايته المتلاحقة، تلك الوقائع التي لو جاءت على صورة التسلسل الذي أشار إليه فورستر فإننا سنكون أمام حكاية تقليدية من حكايات الجدّات، وحتى هذه فيها حبكة تلعب على التقديم والتأخير والاستدراج. ما يهمنا هنا هو الحبكة التي رسمتها عالية ممدوح لروايتها، فقد بدأت بالإعلان عن أن " بطلها " سرمد يواجه محنة جسيمة تتمثل في اختفاء قضيبه، وهي ستجهض الحبكة بأكملها لو قدمت لنا وقائع المتأخر منها بسبب من السابق، والمتقدم سبب للاحق في تسلسل منساب. لقد أشعلت انتباهتنا، واستدرجتنا من الصفحة الأولى التي أعلنت فيها جوهر حكايتها، إلى الصفحة 27. وهي الصفحة الأخيرة من الرواية، التي اختتمت فيها ألف حديثها إلى سرمد عن الاحتلال وتحطم المدينة الأم والموت وسقراط.. إلخ، ولا أثر في القسم إلى أي إشارة لاختفاء قضيب سرمد، لا من قريب ولا من بعيد، فهل معنى ذلك أن الروائية لم توفر التسلسل المطلوب للمقدمات والنتائج؟. ثم ما هي العلاقة المباشرة بين اختفاء قضيب سرمد وسلوك أبي مكسيم ومشكلات كيتا والبيضاوية؟ وهل أن إلغاء الأقسام السردية المرتبطة بهذه الشخصيات لن يؤثر على حبكة حكاية التشهي؟ طبعا الجواب بالنفي.. فسوف تنهار الحكاية بأكملها لأن كل شيء مرتبط – والأهم الارتباطات المستترة والمناورة – بمحنة سرمد وهي أوجه لها أو دروب توصل إليها أو نتائج تترتب عليها.

- عودة إلى المعنى الرمزي والدور التاريخي للرواية:

يقول " لوكاتش " في كتابه " الرواية التاريخية ":

(إن ما وضعه ماركس وأنجلز وبرهنا عليه بوضوح نظري وتاريخي، يعيش ويتحرك وله وجوده الفعلي، في أفضل روايات " سكوت " التاريخية، ولهذا السبب يؤكد " هاينه " على نحو صائب جدا هذا الجانب في " سكوت "، أي جانبه الشعبي، أو يقول: غريبة هي نزوة الناس ! إنهم يطلبون تاريخهم من يد الفنان، وليس من يد المؤرخ. إنهم يطلبون ليس تقريرا أمينا عن حقائق مجردة، بل تلك التي انحلت عائدة إلى الفن الأصلي الذي جاءت منه). وأقول إن من أهم سمات هذه الرواية الكبيرة هي أنها تحيلنا إلى موضوعة جوهرية يستميت بعض كتاب ونقاد الحداثة وما بعد الحداثة في إلغائها وتسفيهها وتتعلق بالدور الاجتماعي والإنساني للإبداع عموما والأدب خصوصا. ولا أعلم لماذا يحاول البعض جعل الإبداع شأنا ذاتيا مغلقا لا صلة له بالشأن العام. أتذكر أن شاعرا حداثيا كان يكتب شعره بصورة ملغزة وغير مفهومة وحين يُسأل عن ذلك يقول: ليس مهما أن تفهموا ما أكتب، أنا أكتبه لذاتي !! وقبل أسابيع اطلعت على إجابة مخرج فيلم "antichrist" الفرنسي في مؤتمر صحفي على سؤال للصحفيين عن عدم فهمهم للعملية الجنسية الكاملة التي أجهضت التأثير النفسي للمشهد الفاجع الذي جسد فيه سقوط الطفل من الشباك وموته، ولماذا تستمني البطلة بوجود زوجها ولماذا أخصته بصورة مثيرة للغثيان.. إلخ؟، فكانت إجابته: ليس شرطا أن تفهموا ما صورته.. المهم أنا أفهمه. وهذه خديعة كبرى، إذ إذا كان الشاعر والمخرج الحداثيان يكتبان ويصوران لنفسيهما، فلماذا ينشرون ما ينجزونه على الملأ ويتعبون المتلقين المساكين؟! تكتب لنفسك.. إذن احتفظ بما تكتبه لنفسك. المهم أن كل هذه الألعاب التي امتدت لقرن تقريبا لم تستطع إلغاء الدائرة الحيوية بين المبدع والمتلقي والناقد بينهما من جانب، ولم تقوّض دور الحاضنة الاجتماعية التي تترعرع دائرة العلاقة هذه وتنمو فيها من جانب آخر. وعليه فإن هذا النص الخطير لن تكتمل معانيه حين يؤخذ كسرد – مقتدر بالتأكيد – يلاحق مصائر فردية منزوعة المدلولات الرمزية الأوسع: وجوديا كما رأينا، واجتماعيا وسياسيا كما سنرى. إنني لم أستطع مطلقا خلع وقائع الرواية - ومصائر أفراد عائلة برهان الدين وخصوصا معاني الصراع بين الأخوين مهند وسرمد من جانب ومغازي حضور " ألف " الإشكالي بينهما من جانب ثان، وضمور العضو الذكري لسرمد ثالثا عن مرجعيتها الاجتماعية ممثلة بمحنة الشعب العراقي والتحولات السياسية والاجتماعية العاصفة التي محقته خلال العقود الأخيرة والتي وصلت الذروة بعودة الاحتلال إلى بلاد كانت قد تخلصت منه قبل ثمانين عاما، وتمزق المفاهيم والقيم ببشاعة فوق تمزقها المستتر والمسكوت عنه سابقا. إذا كان سرمد قد بلغ من العمر خمسين عاما في عام الاحتلال 2..3، فمعنى ذلك أنه من مواليد بداية عقد الخمسينات، وبما أن مهندا يكبره بسبع سنوات فإن الأول هو من مواليد الأربعينات. وفي الحالتين فإن جيل مهند هو الجيل الشاب الذي تقوض على يديه مشروع الدولة العراقية، وذلك بانفلات دوافعه العدوانية وضغوطه النفسية اللائبة واختلال تربيته الذاتية من خلال خلل النشأة والعلاقة مع الأنموذج الأبوي. مهند هو رمز السلطة الطاغية المتعطشة للفتك والدمار. رجل الدولة المخابراتي الذي يتلون بألف لون ولون ويمارس نشاطاته المدمّرة تحت كلّ غطاء، يلاحق معارضيه ليصفّيهم في بيروت وفي أي عاصمة في العالم. ومن بين من لاحقهم هو " نسيم جلال " الذي فرّ من بيروت إلى برلين بعد واقعة نسف السفارة العراقية بيروت. في علاقات مهند بسرمد وألف من جانب، وفي علاقاته مع الآخرين من معارضين وشركاء تجاريين من جانب آخر خلاصة لتشابكات معقدة شهدها العراق. وحتى التعبيرات البسيطة التي يقولها شخوص الرواية على بعض المكونات البسيطة، بل أبسط التلميحات – بالنسبة لي – لها معاني رمزية عميقة ومقصودة من قبل الكاتبة.. لا يوجد حشو ابدا.. ولا عشوائية في الوصف والتشبيهات. خذ مثلا الإشارة إلى أن (سي الهادي) مدير المبيعات من مدينة في المغرب اسمها (الصويرة).. وانتباهة سرمد إلى أن أرضية معهد العلاج في باريس مرصوفة بالطابوق العراقي وإجابة يوسف عليه أنها مرصوفة بالآجر المستورد من المغرب وأن لا فرق في ذلك، بل أن قسما من الإحالات يحمل مدلولات فكرية وسياسية ونفسية شديدة البلاغة والثراء:

- كيتا تقول: أن لينين لو كان رساما أو موسيقيا أو روائيا لما اتجه إلى النضال – ص 48و49).

- يقول سرمد: من الجائز، أن الضحية تنتج قاتلا، وإذا صان الأمانة فقد يكون شهيدا، لكني حتى تجلّيات الشهداء تنفرني فغالبا ما تصير الشهادة لعنة هي الأخرى – ص 67).

- وكانت إحدى عشيقات سرمد ماليزية رقيقة صغيرة جدا ودافئة جدا غيّر اسمها من راما إلى راضية ووافقت حالا، ولكنها توغل في الاستكانة فتقول له وهي تبتسم وتهز رأسها:

(من يرضى الآن يا مستر سرمد إلا أقلّنا رغبة بالرضا وأنا لا أهتم إن كان اسمي " رافضة " حتى – ص 174).

- كالملابس مثلا ومدخل التوسيع المذهل للثيمة الخلاصة يتمثل في استدعاء ألف لذكرى الروب الياباني الفضفاض وتعليق سرمد عليه:

(ألف: جسمك مكان وصوتك أيضا وهذا الحرير الرقيق سيحرك جميع الحيوانات والمروج والثريات وطبول الحرب أيضا – ص 27.).

ويقول " كارلوس فونتيس ": " تفضح الرواية ما يحجبه التاريخ "، وهو قول بالغ الدقة في انطباقه على هذا المنجز الروائي لعالية ممدوح. فقد تعرض تاريخ هذه البلاد لأبشع عملية تزوير وتلاعب رهيبين. هناك ما هو أخطر من الغلط في " الأرخنة "، هناك " العمى النفسي " الذي يجعل الكاتب يفقد بصره وبصيرته في النظر إلى تسلسل الوقائع التي اجتاحت البلاد فلا يرى سلسلة خطيرة منها. وقد قرأت مقالة لأحد الكتاب يصحّح الوقائع التاريخية التي سطرها "مؤرخ" معروف قال بشكل صارخ أن العنف السياسي بدأ في العراق مع 8/شباط/1963 !! ناسيا - على سبيل المثال لا الحصر - أن أول امرأة تعلق عارية في تاريخ البشرية وفي تاريخ العراق كانت في الموصل عام 1959. تفضح عالية – لكن على مستوى آخر لا يقل خطورة – ما حجبته ذاكرة التاريخ المعروفة بجبنها. ومادام هذا الجبن يتأصل يوما بعد آخر فإن مسؤولية الروائي سوف تتصاعد بصورة تجعل مقولة أن عصرنا هذا وعصرنا المقبل سيكون " عصر الرواية " شديدة التشخيص والدقة.

- وقفة عند مقولة: " الشعر ديوان العرب ":

(الشعر ديوان العرب)، مقولة نجترها ونعيدها منذ قرون وكأنها قاعدة منزلة مثل بقية القواعد التي حكمت العقل العربي والثقافة العربية. لا توجد في حياة أي ثقافة في العالم قاعدة أو شعار (ثقافي) يستمر لأكثر من أربعة عشر قرنا دون تغيير. إن مثل هذه القاعدة أو الشعار يكاد يقترب من منزلة المسلمات الدينية التي تتمتع في ديمومتها بقوة (التابو) والمحرم. وتعود إلى أذهاننا المعارك الفكرية الكبيرة التي خاضها الراحل الدكتور علي الوردي والحملات العنيفة التي شُنت عليه حين بدأ بمشروعه في خلخلة أركان هذه القاعدة في بداية الخمسينات. بطبيعة الحال، لا يوجد اعتراض على أن الشعر العربي كان ديوانا للعرب في العصور القديمة، وخصوصا في الجاهلية والعصر الإسلامي بدرجة أكبر وبعد سقوط بغداد على يد المغول وحتى منتصف القرن العشرين بدرجة أقل. وكلما قطع المجتمع شوطا لاحقا قلت إمكانية الشعر العربي على القيام بمهمته القديمة التي أنيطت به حتى إذا جاءتنا تيارات الحداثة وما بعد الحداثة أصبح الشعر شعر نخبة وتركيب فني معقد ليس من واجبه، ولا من أهدافه القيام بتلك المهمة. صحيح أن الشعر عكس الشعر وبدقة طبيعة حياتهم وعلاقاتهم وقيمهم وعاداتهم، بل أنه قدم تفصيلات لشؤونهم اليومية ووقائع تاريخهم يستند إليها الباحثون والمؤرخون في دراسة المجتمع العربي آنذاك وتسجيل تاريخ الأمة الإسلامية. كما أن الشعر العربي قد حفظ اللغة العربية من الضياع (تسلم هذا الدور بعده القرآن الكريم)، وليس أدل على دوره أكثر من أنه كان (مرجعا) قيست عليه الكثير من الصياغات والبنى اللغوية في القرآن. لكن الأمر تغيّر الآن في ظل التحولات الفكرية والاجتماعية العنيفة والجذرية التي شهدها المجتمع العربي منذ منتصف القرن الماضي تقريبا وحتى هذا اليوم. ففي العالم الغربي الذي سبقنا في جعل الرواية ملحمته (يصف هيجل الرواية بأنها ملحمة البرجوازية في أوربا وأنا أرى أنها ملحمة الطبقة الوسطى في العالم الثالث) بعدة قرون لا تجد الشعر يحظى بالمساحة و (التقديس) الذي يحظى بهما عندنا، فقد أدرك مثقفوه أن هذا الجنس الجديد آنذاك، هو القادر بمساحته السردية، وطبيعته الملحمية، ورصده التصويري الذي لا تلعب به المجازات دورا كبيرا في تحريفه، والمشهدية التاريخية البانورامية التي يرصد بها الأحداث، وبالنفوذية المزدوجة التي تمتلكها في عقل وعاطفة القاريء، وفي صور الحياة الإبداعية الموازية للحياة الفعلية التي ترسمها من خلال الشخصيات وصراعاتها وعلاقاتها، ولغتها القابلة على نقل الأفكار ومناقشتها والمهيأة للاستقبال الواسع من قبل المتلقين، وغيرها من العوامل، هذا الجنس هو القادر على أن يكون (ديوان) الحياة الحديثة، رغم أهمية الأجناس الأخرى. يقول الروائي الراحل (عبد الرحمن منيف): (لقد سبق كتاب (لينين) (ما العمل؟) رواية بهذا العنوان، وتتناول نفس أسئلة لينين، لكن بطريقة أخرى. طريقة فنية. ولينين نفسه لم يكن ليعرف ما ينبغي عمله لو لم يقرأ غوغول ودستويفسكي وتولستوي. لقد عرف روسيا بشكل أفضل بعد أن قرأ لهؤلاء وغيرهم) ثم يقرر منيف حقيقة مهمة بقوله: (إن العصر الذي نعيشه الآن، وربما الذي سيأتي غدا، هو في الجانب الفني، عصر الرواية، لأن الهموم والتعقيدات والمشاكل التي تواجه العرب الآن وفي المستقبل، ستكون الرواية الأداة الأقدر والمهيأة أكثر للتصدي لها. فالرواية تسبر وتعكس وتكشف المراحل الأكثر أهمية في حياة الشعوب، إذ تقرأ أفكار الناس وأحلامهم وطموحاتهم خاصة حين يعجز هؤلاء عن ترجمة هذه الأفكار والأحلام إلى أقوال واضحة أو إلى أفعال ملموسة. وربما ليس من المبالغة القول إن الرواية تنمو وتزدهر حين تعم المأساة ويزيد الظلم. في تلك اللحظات التاريخية الهامة تصبح الرواية لسان حال الناس والمرآة التي يرون فيها أنفسهم، وقد يدهشون أن حالتهم وصلت إلى هذه الدرجة من السوء، ولابد أن يتساءلوا هل نحن مذلون مهانون بهذا القدر؟). وأتساءل الآن هل هناك سوء ومذلة وامتهان وهي مادة العمل الروائي أكثر من التي تعيشها المجتمعات العربية؟ أما آن الأوان أن تكون الرواية ديوان العرب؟ أم أننا – كعادتنا في العيش خارج التاريخ – سنبقى متمسكين بشعارنا المقدس: الشعر ديوان العرب؟.

 تابع القسم السادس من الدراسة 

 

في المثقف اليوم