ملف المرأة

(تشهّي الخراب..العظـيم).. تحليل رواية (التشهي) للمبدعة (عالية ممدوح)

(ولت وتمن)

(الفردوس المفقود)

 

(أفكر بقضيبي... أنا قضيب يفكر)

(هنري ميللر)

 

(أنا الأول وأنا الآخر – أنا البغي وأنا القديسة – أنا الزوجة وأنا العذراء – أنا في عرس كبير ولم أتخذ زوجا)

(عشتار)

من كتاب (جيمس روبنسون) عن مكتبة (نجع حمادي) – 1981

 

 

(العراق هو إناء العسل الذي يجذب الكثير من الذباب)

(جون مكين)

 

 

ملاحظة تمهيدية هامة:

الآراء التي ينقلها الناقد عن الروائية لا تعكس آراءه بالضرورة.

 

تمهيد:

تستهل الروائية (عالية ممدوح) روايتها "التشهي" (1) بقسم عنوانه (إليه... و) يسرد بلسان المتكلم / ضمير الأنا، وهو هنا سرمد متحدّثا فيه عن مراجعته طبيبه الباكستاني (حكيم الصديقي) في لندن، والسبب غريب قلّما نواجهه في حياتنا كأطباء وهو ضمور ذَكَره (قضيبه). وكانت استجابة الطبيب لشكوى مريضه سرمد أكثر غرابة. فمن المفترض – وحسب السلوك المهني للأطباء وقواعد الأخلاق الطبية – أن يأخذ الطبيب أي معاناة لزبونه على محمل الجدّ ولا يستخف بها أبدا. فهو يطلق موجات عالية من الضحك، تعلو وتنخفض، مصحوبة بشهقات غريبة. والكاتبة، بفعل ثقافتها النفسية العالية التي تتجلى في رواياتها عموما وفي هذه الرواية بشكل خاص كما سنرى، تضع على لسان بطلها (سرمد) تفسيرا قريبا من الاكتمال لرد فعل الطبيب، لكنها تعود لتجهضه بعد قليل، وطرح زاويتي النظر أو المقتربين المتناقضين هو من السمات الأسلوبية الراسخة لدى عالية ممدوح. وفي بعض الأحيان لا صلة لهذا التفسير بالناحية التخصصية في علم النفس، ولا بالقراءات النفسية العميقة، لأن المبدع الفذّ هو المتخصص في الغوص في أعماق ظلمات النفس البشرية – وفي الغالب تكون هذه النفس هي ذاته الشخصية منكشفة أو مستترة أو مُسقطة على شخوصه - وهذا ما جعل معلم فيينا يعلن في أكثر من مناسبة أن الأدباء هم أساتذته، فهم الذين اكتشفوا الكثير من صراعات النفس البشرية قبل أن يأتي علم النفس ليصوغها في صورة قواعد وقوانين ونظريات. يقول سرمد واصفا ردة فعل طبيبه على معاناته:

(يضحك بصورة خارقة للعادة، كأنه يريد التخلّص مما يشعر به من خوف، والأدق من خطر، فشعرت أن قلبه أوشك على الانفجار. قلتُ، من الجائز، أن ذلك التصرّف هو من نوع التعاطف المتطرّف معي، لكن هذا لم يكن دقيقا مما جعلني أتأكد أنه يقوم بكل هذه التصرّفات كما يليق برجل لا يزال عضوه في مرحلة الاكتمال – ص 5و6).

ولعل الشق الأول من تفسير سرمد لسلوك طبيبه هو الأكثر دقّة لأنه يقع ضمن حدود دائرة ما نسميه بالطرح - transferance، والطرح المضاد - countertransferance , وفي الأخير يقوم الطبيب نفسه بإسقاط مكبوتاته الدفينة ومخاوفه اللائبة التي اختزنت من العلاقة مع النماذج المهمة - خصوصا الأنموذج الأبوي منها- في طفولته على مريضه، وقد يؤدي هذا إلى فشل العملية العلاجية برمتها. وفي حالة طبيب سرمد، فإن شكوى الأخير ليست أمرا يمكن للطبيب أن يقف محايدا وساكن العواطف تجاهها. إنها معاناة تمثل تهديدا مشتركا بالإنخصاء الأمر الذي يثير قلق الطبيب من أن تتكرر المشكلة عينها لديه ويبدأ ذَكّره بالاختفاء. ولاحظ عبقرية اللغة العربية في مركبها الدلالي الذي تحمله المفردة الواحدة، فالذَكَر الذي هو وصف للعضو التناسلي الذكري مأخوذ من الذكورة، في حين أن الذِكر هو الصيت المشهور الذي يبقى بعد رحيل الفرد، وكأن انخصاء ذَكّر الشخص يعني انقطاع ذِكره، وبالتالي انمحاق وجوده كلية، منتقلين من دائرة الانخصاء الجنسي الضيقة إلى دائرة الوجود الفردي الكلي. ويبدو قلق الطبيب واضحا – ومستترا في الوقت نفسه – في أنه لم يكلّف نفسه، كما هو متوقع، عناء الخوض التفصيلي في معاناة مريضه بصورة علمية منهجية متدرجة. لقد قفز إلى النتيجة القاطعة بلا مقدمات:

(.. إن اختفاء ذَكَرَك يحتمل تفسيرات عدّة، وعودته، ربما، لن تتحقق، ولا خيار أمامك إلا الانتظار – ص 7).

ليعود إلى البدايات التمهيدية التشخيصية المنطقية التي تفرضها قواعد العمل الطبي العلمية فيسأل عن سمنة سرمد المفرطة التي ترافقت مع بدء ضمور ذَكَره، والزيادة المتصاعدة في وزنه. وهي بدانة تترافق مع مظاهر مرضية في الأعضاء التناسلية وتقع في حالات الاضطرابات الهرمونية (اضطرابات الغدد الصمّ تحديدا). لكن الكاتبة وقد صمّمت هدفها المركزي وفق رؤيا فلسفية ووجودية واسعة ومركبة لما يعنيه انخصاء (بطلها) نفسيا واجتماعيا وسياسيا، فإنها تقع أيضا تحت ضغط ما هو مكبوت في لاشعورها فينسرب القصد المهيمن المبيّت على لسان الطبيب الباكستاني بصورة مبكرة حين يخاطب سرمد رابطا بصورة لا تبرير طبيا لها بين ضمور قضيبه وطرقات السياسة الوعرة، قافزا، من جديد، من اشتراطات العمل الطبي التشخيصي إلى موقع المؤول السياسي النزّاع إلى تحليلات فلسفية لا صلة لها لا بعمله ولا بمسارات الشكوى الأساسية لمريضه:

(يضمر العضو في بعض الأحيان ولا يعود إلى سابق عهده، ولا نستطيع الإمساك به. أحد الأسباب ما أنت عليه من شحوم ولحوم. بالطبع هناك أسباب اجتماعية ونفسية، من المؤكد ستوجهنا إلى طرقات السياسة الوعرة فنستطيع الإشارة إلى الفظاعات التي تُقترف في كل وقت ومكان.... أنظر إلي، في هذه اللحظة أريد أن أقول شيئا لنفسي وليس لك فقط، أبدا لم تكن أعضاؤنا ذخرا لنا، أعني ذخيرة وطنية. دائما هناك ذلك الأمر المُثقل بالغم، الضمور، الانكماش وربما الاختفاء – ص 8).

وهنا يلتحم الكاتب بشخوصه الذين يتستر بهم عادة، فتصبح العيادة فضاء لتداول المسكوت عنه من التأثيرات السلبية المدمّرة للواقع السياسي. تلك السلبيات التي يمسك الطبيب "حكيم " – وللاسم دلالته الرمزية يعززها الدور الموسّع الذي بدأ بتلبسه – بجوهرها المفضي إلى لبّ المحنة التي تطوّح بالإنسان من مرتبته السامية المفترضة – وأقول: المفترضة لأننا سنجد في الرواية ما يثبت خلاف ذلك – إلى مرتبة ملتبسة لن نتعجل الحكم عليها لكنها مرتبة موسومة بالفعل / الظاهرة الأكثر إغواء ومخاتلة في السلوك البشري والمتمثلة في " التشهّي ". وهنا ترد هذه المفردة / المصطلح / عنوان الرواية لأول مرة على لسان الطبيب وهو يحدث زبونه الحائر المتعب:

(لا أريد سماع أية قصة من القصص إياها فأنا أعرفها. لكن، اسمع أي " تشهٍ " لا تستطيع تجنبه، ها، قل لي أرجوك؟ أي إلهام، وأي نهم للأكل يمسك بك فيدع الحجاب الحاجز يتشقق لكنك لا تموت لسبب سرمدي خرافي لا أعرفه ولا أعرف سرّه – ص 8).

فالتشهي هو محور محنة سرمد - ولاحظ، من جديد، لعبة مغزى تسمية الشخصية الأولى في الرواية حيث يتعارض المضمون السرمدي الأزلي والأبدي مع اختفاء عضوه المركزي – ويتمثل في جانبين قد يبدوان لا رابط بينهما هنا بينما هما في التحام نفسي لاشعوري شديد الإحكام وهما: تشهي الأكل وتشهي المضاجعة، اللذين يتعجل سرمد في تفسير سبب وقوعه في مصيدتهما المخرِّبة: (ليس من أجل البقاء، وإنما لتجاهل الفشل الذي كان يفاقم عيوبي – ص 9) كما يقول. كملمح تمهيدي نقول أن الفم في معانيه النفسية التي تخط ملامحها في المرحلة الفمية - oral stage من مسيرة التطور النفسجنسي – psychosexual development في الطفولة، يمثل استدخال الحنان الأمومي (والموقف النفسي والاجتماعي الحاني بمعنى أوسع) والطعام الذي سيستمد معانيه المطمئنة منذ تلك اللحظات التي ستترسخ في الوجدان حتى الموت (ولعل في هذا جانبا من محاولة فهم معنى الحكمة التقليدية التي تقول إن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فالمفردات الأولى " تستدخل " أيضا !!)، وبذلك يثقل الطعام بمعاني رمزية قد لا نلتقطها من الفعل المباشر المتكرر الذي تبلّده العادة. وهذا ما تعبر عنه الكاتبة بتورية ذكية – وهي المعروفة بتورياتها السردية العالية كما رأينا في الدراسات السابقة – عندما تجعل الطبيب حكيم في حركة موغلة في الحكمة النفسية – يربط بين الموت واختفاء عضو سرمد متسائلا أولا:

(لماذا لم تمت؟ لا حلّ كان أمامك إلا الموت، أنت أصلا كنت مخصصا للموت، قوّة الموت، وضرورته، لكن، هناك شيء غيّر رأيه، هي المشيئة الإلهية، أو سمّها ما تشاء. عضوك الكريم تخلّص منك وها أنا لا أمزح معك وأردد على مسامعك، ولن أغير رأيي بوهم أن إحداهن تناديك وما عليك إلا أن تلبي النداء.. كلْ يا صديقي لأنك لا تقوى إلا على هذا. الطعام يُدخل السرور عليك فتستطيع تحمّل الأذيّة والقساوة – ص 9).

وعندما يشير الطبيب إلى أن " اختفاء " عضو سرمد يحتمل تفسيرات عدة، يتداعى ذهن سرمد لينقلنا إلى معنى شديد المراوغة من معاني " الإختفاء ". فهو رغم أنه لم يكن يتوقع اختفاء عضوه بهذه الطريقة الخالية من الرحمة، إلا أنه قد هُيىء نفسيا عبر سلسلة من عمليات "الاختفاء" التي عاشها في حياته، حتى أننا نستطيع القول أن حياته كانت عبارة عن اختفاء هائل انكشفت أبعاده القصوى والنهائية في الاختفاء الموجع والمدوّي الذي مثله ضمور قضيبه. وسأشير بسرعة إلى أن " تراجيديا " الاختفاء المأساوية التي عاشها قد دُشّنت بعملية الاختفاء التي صمّمها أخوه الطاغية " مهند " حين أبعده عن العراق – ومهند هنا، وكما سنرى، رمز لا نحتاج كبير عناء لكشف ما يمثله من جوهر السلطة البعثية الباطشة التي كانت قائمة في العراق قبل احتلال العراق في عام 2..3 -.. لكن سرمد تمادى هو نفسه في عملية الاختفاء هذه.. بل استمرأها:

(كنت أتحذلق على حالي وأنا أحسب الاختفاء ضروريا في بعض الأحيان. قلت، ربما هو اختفاء لحقبة من عمري، لمرتبة من مكبوتاتي ودرجة من ميراثي ومواهبي – ص 9و1.).

وهذا الاستمراء سوف نسير معه بهدوء واستفاضة ضرورية لأنه محور الرواية، ولكن بقدر تعلق الأمر بهذا القسم الاستهلالي، والإيحاءات التي يثيرها الطبيب مع مريضه / سرمد، فإن قدرا كبيرا من حركة هذا العالم الراهن الجائر تقوم، بصورة عامة، على "إخفاء" الفرد والإمعان في تسطيح ذاتيته. بإلغاء خصوصية أي إنسان وعدم الاعتراف بحدود وجوده نقوم - فعليا - بـ " إخفائه "، ويبدو أن محنة وجود الإنسان المعاصر في الحضارة الوحشية القائمة تتمثل في إجهاض كل محاولاته المشروعة لـ " الظهور ". وهذا يعزز الرعب من الموت الذي يخصي كل حضارة ويميتها. فعندما ينذعر الإنسان من الاختفاء كشكل من أشكال الموت كما يقول سرمد تتشوّش قدرته على إدراك معنى الموت، هذا الإدراك الذي يعكس نضج شخصية الإنسان واقتدارها، مثلما تكمن فيه نوى بزوغ أي حضارة جديدة أو ديمومة أي حضارة قائمة، ولعل واحدا من أعظم العوامل التي أنضجت الحضارات العراقية القديمة المتعاقبة هو هذا الشعور الناضج والمبكر بالموت والذي تجلى في درة تاج أساطير البشرية: ملحمة جلجامش وموقف جاجامش من "المُثكل" كما يسمّي الموت بحق الذي هو رد فعل على الانخصاء أو " الاختفاء " الوجودي. وهذا ما عبر عنه " عبد الرحمن بدوي " في كتابه " الموت والعبقرية " حين قال: (.. فالموت يكون مشكلة حينما يشعر الإنسان شعورا قويا واضحا بهذه الإشكالية في نفسه بطريقة عميقة. وحينما ينظر إلى الموت كما هو ومن حيث إشكاليته هذه ويحاول أن ينفذ إلى سرّه العميق. إن الإحساس بأن الموت مشكلة، يتطلب الشعور بالشخصية أولا، فكلما كان الشعور بالشخصية أقوى وأوضح كان الإنسان أقدر على إدراك الموت كمشكلة.. فالموت لا يشكل مشكلة بالنسبة إلى ضعيفي الشخصية.. والنتيجة أن اللحظة التي يبدأ فيها الموت بأن يكون مشكلة بالنسبة إلى أي إنسان، هي اللحظة التي تؤذن بأن هذا الإنسان قد بلغ درجة قوية من الشعور بالشخصية، وبالتالي قد بدأ يتحضّر.. ولهذا نجد أن التفكير في الموت يقترن به دائما ميلاد حضارة جديدة، وما يصدق على روح الأفراد يصدق كذلك على روح الحضارات. وقد فصّل ذلك "اشبنجلر"، ولهذا كان كل إضعاف للشخصية من شأنه تشويه حقيقة الموت)(2).

لكن الحضارة القائمة التي تحث الخطى سريعا نحو نهايتها المهلكة، استخفت بالموت وجعلته ألعوبة مصنّعة، بدءا من الأنشطة الإنسانية البسيطة كالترجمة التي كان سرمد يتخذها عملا ومصدر رزق له. كانت دور النشر تقول له:

- عليك بالاختفاء، نعني اختفاء الإسم، اسمك.

وهذا الاختفاء، سواء اختفاء المترجم منكّرا بلا أدنى صلة بالنص الذي يترجمه، أو اختفاء عضوه، هو شكل من أشكال الموت. والاسم ذو دلالة نفسية عظيمة الجانب حيث لا يمكن أن " يبرز " الشخص إلا باسمه، ولهذا أيضا تحقق وجود آدم في وجه إبليس بتعلمه الأسماء كلّها. وهنا إحالة إلى فارق شديد بين مفهومين لـ " الشخصية " بين الثقافتين الغربية والعربية. ففي الأولى يؤخذ مصطلح " الشخصية – personality " من " " persona أي القناع الذي كان يضعه الممثل الأغريقي على وجهه عند أداء دوره وهو الأمر الذي يحيلنا إلى شعار المسرح المعروف والذي نشاهده على واجهات المسارح عادة ؛ القناعان الباكي والضاحك. أما في الثانية، أي الثقافة العربية فمصطلح " الشخصية " مأخوذ من الجذر " شَخَصَ " الذي لو تابعنا سلسلة معانيه في أي معجم لغوي لتجلت أمامنا عبقرية هذه اللغة العربية المهضومة من قبلنا بدعوى فقدانها لروح العصر وترهّلها " بدانتها !! " وعدم مجاراتها لتحولات العصر وروحه في حين أن العيب في إمكاناتنا نحن المشتغلين عليها. سأذكر جانبا بسيطا من معاني الجذر " شَخَصَ " وسنجد أن هذه المعاني قد انسربت في نص الكاتبة الروائي هذا بدءا من العنوان، وتحكمت بالثيمات المركزية التي قامت عليها من معضلة بدانة وشقاق وتآمر وهجرة ورحيل وبروز واختفاء... إلخ. وبطبيعة الحال فإن الروائية لم تذهب لتقرأ المعاني القاموسية لهذا الجذر ثم عادت لتصوغ صراعات شخوص روايتها وفقه. هذه سذاجة في الحكم النقدي. إن المبدع يشتغل بمخزونات لاشعوره وموجهاتها اللغوية والنفسية والفكرية وهي عملية شائكة ليست هنا مناسبة تناولها تفصيليا. فشخص شخوصا الشيء ارتفع (الارتفاع السريع لشخوص الرواية !)، والنجم: طلع، والجرح: انتبر وورم (معاناة "ألف" !)، وبصره: فتح عينيه فلم تطرف (صدمة الحقائق المروعة في وقائع الرواية !)، الميت بصره وببصره: رفعه، وأشخص الرامي: جاز سهمه الهدف من أعلاه أو أجازه هو (على التعدّي واللزوم) (الأفعال الخلاصية المستميتة الخاطئة للشخوص وتشهياتهم الخرابية !). وشخص شخوصا عن قومه أو من بلد إلى بلد: ذهب (فرار وهجرة أغلب الشخصيات !)، وإليهم: رجع (العودة المستحيلة لأغلب الشخوص !)، وشخص به: أتاه أمر أزعجه وأقلقه (أغلب الحوادث مخيفة ومقلقة !)، ومنه شخوص المسافر أي خروجه من منزله (مغادرة المنزل الوطن الأم !)، أشخص الرجل: حان وقت ذهابه، وأشخصه: أزعجه... وشخص شخاصة: بدن وتضخّم (محنة سرمد الأخرى !!) وشخص الشيء عينه وميّزه عما سواه ومنه، تشخيص الأمراض عند الأطباء (فعل حكيم ! وفشل الجميع في تشخيص أسباب فاجعاتهم !)، وشخّص الرواية: مثّلها، وشخص له: تراءى له بصورة شخص، تشاخصوا: اختلفوا وتفاوتوا، الشخص: سواد الإنسان وغيره تراه من بعد، ويطلق على الإنسان أيضا ذكرا أو أنثى، والشخص عند المولّدين: التمثال الذي يُصنع من الحجارة وغيرها، والشخيص: الجسيم، السيّد... وأشخصه: اغتابه، وأشخص له في المنطق وأشخص إليه: تجهّمه، الشخيص من المنطق: المتجهّم... إلخ. ولن يجد القاريء الذي درس رواية التشهي بدقة وتأمل عميقين صعوبة في ربط كل هذه المعاني بما يجري من وقائع في الرواية. وقد قلت سابقا أن بعض الكتاب ليسوا بحاجة إلى قاريء / فاعل، بل إلى قرّاء / فعّال، وشتان بين فاعل وفعّال، وهذا أيضا من عطايا اللغة العربية، وأعمال عالية ممدوح بحاجة إلى قرّاء وليس إلى قاريء حسب. ومن بين ما تفرضه شروط هذه القراءة " الفعّالة " وليس الفاعلة هو أن يحكم القاريء النظر إلى المضامين العميقة وليست الظاهرة فقط، كأن يتساءل:

كيف كان سرمد يواجه تهديد الإخفاء أو الاختفاء هذا؟ وأي آلية دفاعية نفسية – defence mechanism التجأ إليها؟

لقد كان يواجهه بـ " التشهي " !! بالنكوص إلى المرحلة الفمّية ومضامين أفعالها النفسية. ولنتوقف قليلا عند المعاني المعجمية لجذر التشهي وسنجد أن اللغة العربية تجمع المعاني النفسية والحسية المادية منطلقة من الجسد والذات البشرية معممة على المظاهر المحيطة في الطبيعة والبيئة، كما أنه أي الجذر الذي اختارته الروائية بتوفيق كبير يتضمن كل معاني التشهي المميتة والمدمّرة. فـ (شها شهاً وشهي يشهى شهوة واشتهى الشيء: أحبه ورغب فيه رغبة شديدة، شهَوَ الطعام: كان لذيذا،، شهّى الرجل: حمله على الاشتهاء، وشهّى عليه كذا: اقترح، يقال هذا الشيء يشهي الطعام، أي يحمل على شهوته، تشهّى الشيء: أحبه ورغب فيه، وتشهّى عليه كذا: اقترح عليه شهوة بعد شهوة، الشهوة (مصدر) ج شهَوَات وشُهىً: حركة النفس طلبا للملائم أو اللُّذ، (طبّيا): قبول الطعام وارتياح النفس إليه، الشهّاء: الكثير الشهيّة، الشهيّ: من يشتهي، والشهي والمُشتهى: ما يُشتهى، يُقال: شيء شهي، أي لذيذ، والشهواني: ذو الشهوة، الشاهية: الشهوة، شاهى هُ: شابهه، أشهى هُ: أصابه بعين، شاهي البصر: حديده.

وفي تهذيب اللغة ولسان العرب: في الحديث: إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية.

قال أبو عبيد: هو في كل شيء من المعاصي يضمره صاحبه ويصرّ عليه – لاحظ الإصرار أيها القارىء - فإنما هو الإصرار وإن لم يفعله.

وقال غير أبي عبيد: هو أن يرى جارية حسناء فيغض طرفه، ثم ينظر إليها بقلبه كما كان ينظر بعينه. وقيل: هو أن ينظر إلى ذات محرم له حسناء (ولماذا حسناء؟ - الناقد) ويقول في نفسه: ليتها لم تحرم علي. وقال الأزهري: والشهوة الخفية، وجعل الواو بمعنى مع كأنه قال: أخوف ما أخاف عليكم الرياء مع الشهوة الخفية للمعاصي، أو كأنه يرائي الناس بتركه المعاصي، والشهوة لها في قلبه مُخافاة، وإذا استخفى بها عملها.

وتشهت المرأة على زوجها فأشهاها، أي أطلبها شهوتها.

وشاهاه في إصابة العين، وهاشاه إذا مازحه

ورجل شاهي البصر: قلب شائه البصر أي حديد البصر

وشهي: أفسد وعاث.

وفي عملية النكوص إلى المرحلة الفمية يشبه الفرد المحبط – وكما تنص أدبيات التحليل النفسي التقليدية - جيشا مسلحا يتقدم محتلا مدينة بعد أخرى، وفي كل مدينة يضع قسما من قواته لتثبيت وضعها والسيطرة عليها، ولكنه حين يُواجه بمقاومة عنيفة وينكسر فإنه يتراجع نحو المدينة التي ترك فيها أكبر مخزون من قواته الاحتياطية.. وسرمد ارتد إلى المرحلة التي ترك فيها أعظم قدر من طاقته النفسية وتثبت عليها – fixation، وهي المرحلة الفمية حيث تحدّد فتحة الفم ليس استقبال المواد المسؤولة عن الإشباع البايولوجي والنمو الجسمي حسب بل معطيات العالم المعنوية من حبّ وكره وعدوان من ناحية، و "اختبارها " وتكيل الأفكار المرتبطة بها أيضا. لقد أصبح النشاط الفمي دفاعا لمواجهة أي خيبة تهز مسار حياته حتى لو كانت هذه الهزة يومية عابرة، عابرة بحكم مزاجيته وتكاسله:

(نعم، إنني بدين، أنا المترجم الذي لا أنجز شيئا إلا بالإلحاح... تفتر همتي بعد أيام قليلة وأبدو بلا أصالة فأشعر وكأنني أقترب من الهاوية، وقتذاك أصل إلى جميع أدوات التعذيب.. فأشرع بالتهام كل ما يقع تحت يدي.. من المعجنات والحلويات والبزورات والبورك والزلابية... واللوز والفستق... إلخ – ص 12).

وفي المطاعم الصينية والإيطالية مثلا وحين يذهب لتناول وجبة طعام يبدأ بكمية متنوعة وهائلة من اللحوم والأرز والخبز.. ليس كوجبة رئيسية، ولكن " مجرد فاتحة للتشهي، بعد ذلك سأطلب الوجبة الأصلية – ص 13 " كما يقول. وكانت نتيجة التشهي المميت هذا هو بدانة مفرطة جعلت جلده يتشقق وأنفه يتضخم كمنقار غليظ، وخديه يتورمان ويتهدلان، وفمه وحنكه يترهل حتى لم يعد يقوى على النقاش الطويل وهو يعمل في مؤسسة مختلطة من عرب وانكليز ذات نشاط مكثف واجتماعات أسبوعية تجري فيها حوارات معقدة.

 

- الأنف والرائحة:

وليس مصادفة أو عبثا أن سرمد يشكو من عضو يختفي، وعضو آخر يبرز و" تنتفخ " وظيفته ويتضخم بدرجة مقابلة أشد. فالأمر الذي بات يزعجه هو أن أنفه صار يشبه منقارا غليظا حدّ أنه فكر بإجراء عملية تجميل له. وإذا تجاوزنا الحقيقة العلمية التشريحية التي أثبتت أن نسيج المبطن للأنف هو من نفس نوع نسيج القضيب، فإننا لا نستطيع تجاوز حقيقة أن الرائحة المثيرة يمكن أن تسبب الانتصاب للسبب عينه، وأن عطر المرأة يكون مدخلا للاستثارة والإنهاض عند بعض الأشخاص في بعض الحالات (وقبل أيام اكتشف علماء أمريكيون أن رائحة الطمث لدى المرأة تجذب الرجال نحو الفعل الجنسي بصورة أشد !). هذا ما حصل لدى سرمد في عملية تعويضية نمت فيها قدرته على شم الروائح بصورة فائقة.. وتمييزها. لكن الإنهمام بالروائح ومحاولة استكشاف معانيها الملغزة وعدها ممرا لاستكشاف الحفزات الدفينة – المثلية منها بصورة خاصة – نما عند سرمد بصورة مبكرة تعود إلى أيام مراهقته. فقد كان يلاحظ الملابس من سراويل ومعاطف وسترات مستعملة يأتي بها المستر سكوت الموظف في السفارة البريطانية إلى أبيه الخيّاط المشهور في بغداد كي يصلحها ويعيد ضبطها على قياسات جسمه، فلا يجد سوى تأويل غريب هو مؤسس بالتأكيد على ثلاثة ركائز مثلما يتأسس أي تأويل في الحقل المعرفي أو السلوكي: "ترجمتنا" لما "يبرز" من سلوك الآخر المطروح أمامنا، ودوافعنا اللائبة (تشهيّنا) التي " نبرزها " ونسقطها على السلوك المعني والذي نشعر أنه " يترجم " ما هو مكبوت في دواخلنا، وعملية " إخراج " الحكم النهائي الذي ستتدخل فيه هنا السلطة الواعية بمحمولاتها الثقافية والدينية والاجتماعية والتاريخية في محاولة لضبط انفلات المكبوتات الممنوعة. وهذا ما تضمنه " تأويل " سرمد لتعلق المستر سكوت بالملابس المستعملة:

(مستر سكوت كان مفتونا بملابس الغير التي استُعملت ورُميت. كان كما بدا لي يستنشق روائح الناس التي استقرت في النسيج، رائحة العرق والمني والمرض والضحك الخافت والحمى والشهوة التي لن تُستعاد ثانية – ص 1..).

 تابع القسم الثاني من الدراسة

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: ظاهرة الكتابة الايروسية عند المرأة، الثلاثاء 16 - 20/02/2010)

 

 

 

 

في المثقف اليوم