كتب واصدارات

كتب واصدارات

عزيز العرباويصدر مؤخرًا (2022) عن دائرة الثقافة بالشارقة بالإمارات العربية المتحدة كتاب "الذاكرة وآليات اشتغالها" للناقد المغربي عزيز العرباوي، حيث يمثل هذا الكتاب محاولة لدراسة الذاكرة ومدى اشتغالها في الرواية العربية من خلال مقاربتنا لنصوص روائية متميزة استطاعت أن تستند إلى الذاكرة كمنهجية ومنهج للسرد الروائي، وتقديم المعرفة للقارئ المتلهف إلى ما يعيده إلى ماضيه البعيد والقريب معاً، حيث سنحاول أن في الفصل الأول والذي خصصناه للمدخل النظري والمفاهيم الإجرائية أن نقف على المباحث التالية: الذاكرة وآليات بناء المعنى، وعلاقة الذاكرة بالتاريخ من خلال استفادة الواحدة منهما من الأخرى في عملية الكتابة السردية، والذاكرة الثقافية والهوية السردية، والذاكرة والسرد: التأويل وإنتاج المعنى، الذاكرة والتخييل الروائي: آليات بناء المعنى. في حين سنحاول في الفصل الثاني، أن نقارب رواية "الديوان الإسبرطي" للروائي الجزائري عبدالوهاب عيساوي التي استطاعت أن تحصل على جائزة البوكر العالمية في صيغتها العربية لعام 2020م، باعتبارها رواية تاريخية أولاً ورواية تعيد الاعتبار للهوية الجزائرية ثانياً والتي اكتوت بظلم الاستعمار الفرنسي والغزو العثماني في حقبة تاريخية مظلمة من تاريخها.

أما في الفصل الثالث سنحاول تحليل رواية "حصن التراب: حكاية عائلة موريسكية" للروائي المصري أحمد عبداللطيف والتي استغلت مخطوطات تاريخية حفظتها عائلة بسيطة عاشت في مرحلة من تاريخ الأندلس وعانت كما عانت كل الأسر المسلمة والعربية في تلك الحقبة من الأحكام الظالمة والقرارات الجائرة التي اتخذتها السلطات السياسية الكاثوليكية ضدهم، وأخطرها تلك الأحكام القضائية ضد النوايا والمعتقدات الشخصية لدى الناس. ويمكن القول إن الرواية تمثل بامتياز تعبيراً عن وعي عربي مازال يعاني من تبعات التاريخ وهزائمه وسقطاته. بينما في الفصل الرابع، وللوقوف على أهمية الصور التخيلية لدى الروائي العربي بالخصوص، سنحاول في هذا الفصل الوقوف على أهم تجليات التخييل في رسم ملامح الوعي الفردي لدى الشخصيات الهشة في الواقع المفروض عليها، وفي تحديد أهم السمات المحددة للذاكرة الفردية في تأويل المواقف السياسية والاجتماعية لدى الشخصيات الهشة المأزومة والمغلوب على أمرها في المجتمع الكويتي من خلال رواية "في حضرة العنقاء والخل الوفي" للكاتب الكويتي المثير للجدل إسماعيل فهد إسماعيل.

أما في الفصل الخامس فسنعمل على مقاربة رواية "الحي الخطير" للشاعر والروائي المغربي محمد بنميلود والتي تعبر عن هوية مغربية غير متحولة بفعل الاختراقات الثقافية والفكرية والاقتصادية التي تمارسها قوىً داخلية وخارجية. كما تعبر عن هوية الإنسان المغربي الحقيقي الذي يخضع لشروط الوطنية الحقيقية وشروط التجربة الاجتماعية المرتبطة بالثقافة الشعبية البسيطة التي تكونت في فضاءات متداخلة تمدنا بالثقافة الرمزية والتصور الواعي للمجتمع المغربي المنتشر في الأحياء الهامشية والفقيرة الشعبية الغارقة في المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ولكنها لا تفرط في ارتباطها الهوياتي والقومي والإنساني. وفي الختام سنحاول أن نقف على أهم القضايا التي تطرقنا إليها في فصول الكتاب في خاتمة مختصرة وموجزة، لنسدل ستار الكتاب بلائحة للمصادر والمراجع المعتمدة فيه. 

 

أول إصداراتي في الجديد لعام 2022

بفضل الله ومنه علي، استلمت اليوم نسخ أول إصدار لي في عام 2022 وهو كتاب (أثر النص المقدس في صناعة عقيدة المثلة).

وهو الكتاب الثاني من أصل أربعة كتب من هذه السلسلة، كان الكتاب الأول منها بعنوان (أثر النص المقدس في صناعة عقيدة التكفير)؛ الذي طبع في دار المرتضى البيروتية عام 2015،3267 صالح الطائي

وسيصدر الكتابان الآخران، وهما بعنوان (أثر النص المقدس في صناعة عقيدة التهجير) و(أثر النص المقدس في صناعة حكم قتل المرتد) خلال الشهرين القادمين بإذن الله ليكتمل إصدار هذه السلسلة.

يذكر أن هذا الكتاب صدر عن دار المتن البغدادية بواقع 280 صفحة من الحجم الكبير بغلاف وإخراج جميلين.

فلله الحمد أولا وأخيرا، ونسأله اللطف وتيسير الأمور.

نزار سرطاويقبل نحو ستة أعوام دعاني الصديق الشاعر والاقتصادي والكاتب الفلسطيني الكبير الدكتور سميح مسعود لأشارك في تقديم كتابه حيفا.. برقة - البحث عن الجذور: الجزء الثاني  في حفل إ‘شهار الكتاب، الذي كان قد صدر لتوه عن دار "الآن ناشرون وموزعون" في عمان. اليوم أستخرِجُ من أرشيفي الورقة التي قدمتها في حفل الإشهار ذاك، بعد أن علمت أن الكاتب بصدد إصدار الجزء الرابع من الجذور. قلت له حين هاتفني يزفّ إليّ البشرى: "يا أبا فادي، كنا نتحدث عن جزئين، ثم تحول الكتاب بصدور الجزء الثالث إلى ثلاثية. أما عند صدور الجزء الرابع فسوف نشير إليها باسم الرباعية، ولعلنا نحتفل به مع احتفالنا بعيد ميلادك الرابع والثمانين." ضحك وهو يقول: "بل قبل ذلك إن شاء الله".

وفيما يلي نص المقالة التي أشرت إليها:

مقدمة: كتاب وكاتب:

كتاب حيفا.. برقة - البحث عن الجذور في جزئه الثاني هو رحلة يقوم بها سميح مسعود في ذلك الجزء من فلسطين الذي ينتمي اليه، متمثلًا في الجليل والكرمل وبرقة وما حولها باحثًا عن جذوره في المدن والبلدات الفلسطينية، ويلتقي بأعداد كبيرة من أهالي تلك المناطق، ليستمع من كل واحد فيهم إلى حكاية تربطه ببرقة، بلدة الآباء والأجداد، أو بواحدة من عائلاتها.

البحث عن الجذور أشبه بالغوص تحت شجرة تين تمتد جذورها إلى مسافات بعيدة. وهو أيضًا رحلة بحث عن الذات – الذات ببعدها الشخصي، والذات باعتبار أنها تمثل نموذجًا لأبناء الشعب الفلسطيني، سواء أكانوا من الصامدين في أراضيهم وبيوتهم، أو من أولئك الذين شردتهم العصابات الصهيونية، فانتشروا في شتى بقاع الأرض. يقول في مقدمة الكتاب:

سجّلت فيه "شظايا أجزاء موجزة من جذوري في بلدي التي تمتد على اتساع المكان في مسقط رأسي حيفا وقريتي برقة، وأبرزت على إيقاعها مشاهد من جذور أناس غيري من مدن وقرى فلسطينية أخرى، استحضرت فيها ببؤر لاقطة جزءًا مما تختزنه ذاكرتي عن أيام مضت في فلسطين عشتها قبل النكبة والهزيمة" (ص. 7).

إنه، كما يقول الكاتب، رحلة بحث عن الجذور "بالبعد الروحي والمعنوي للمكان" (ص. 9).

أما الكاتب فهو الدكتور سميح مسعود، الذي يكاد يبلغ ثمانين حولًا، ولكنه لم يسأم "تكاليف الحياة" كما سئمها الشاعر العربي القديم. هو سميح الاقتصادي، الباحث، والإداري. وهو سميح المؤرخ، الرحّالة، الأديب، والشاعر. لكنه قبل كل شيء وبعد كل شيء، سميح العاشق لأرضه، الوفي لأبناء شعبه.

نموذج العلاقات في البحث عن الجذور:

حين نتحدث عن الجذور، فإننا نتحدث عن شبكة واسعة تمتد في الأرض عميقًا وبعيدًا، أو بتعبير آخر عموديًا وأفقيًا. الامتداد العمودي هو في المقام الأول من شأن المؤرخ، ورغم أن الكتاب يحتوي إشارات تاريخية عابرة اقتضاها السياق، كحديثه مثلًا عن نابليون وإعدامه لأحد مناضلي برقة، وعن تسمية مدينة شفا عمرو نسبةً إلى الصحابي عمرو بن العاص، أو ربما إلى ظاهر العمر الزيداني، فإن الكتاب يركز على  البعد الأفقي، الذي يتمثل في زياراته ولقاءاته في فلسطين بحثًا عن الجذور.

ورغم أن البعض قد يضعون الكتاب تحت تصنيف السيرة الذاتية، فإن الكاتب يرسم فيه مجموعة من العلاقات والتشابكات اللافتة بين الأرض والإنسان من ناحية، وبين الإنسان والإنسان من ناحية أخرى.

العلاقة الأولى ثلاثية: طرفاها الأول والثاني هما الأرض والإنسان والطرف الثالث هو الكاتب، باعتبار أنه يعرض رؤيته لهذه العلاقة. ولعل الشكل المثلث هو أول ما يخطر ببالنا لتمثيل هذه العلاقة.

3381 البحث عن الجذور

لكن المثلث، بزواياه المتباعدة ونقاط الالتقاء المحدودة فيه، لا يمثل هذه العلاقة تمثيلًا صحيحًا.  لذا أقترح شكلًا هندسيًا آخر، هو الدائرة. فهي الأقرب إلى توضيح العلاقة كما يطرحها الكاتب. وهذا التمثيل يأتي بصور لا حصر لها. لكنني سآخذ بصورة "الدوائر ذات المركز المشترك"، وسأكتفي بنموذجين منها.

المنوذج الأول يتألف من ثلاث دوائر، تمثل دائرته المركزية الكاتبَ، لأنه هو مركز الرؤية، أو هو المصدر الذي يلقي الضوء على الأرض والإنسان. تأتي بعد ذلك الدائرة الثانية التي تمثل الإنسان. والإنسان هنا هو الشعب الفلسطيني الصامد على أرض فلسطين، وتحديدّا أولئك الذين التقى بهم سميح مسعود في رحلته. أما الدائرة الثالثة فهي الأرض – أرض فلسطين التي تحتوي كل هؤلاء، ومن جملتهم الكاتب.

3382 البحث عن الجذور

وقد انطلق في رحلة بحثه عن الجذور إلى الدائرة الثانية، التي تمثل كل أؤلئك الذين ينتمون مثله إلى برقة، لكنهم رحلوا أو رحل آباؤهم وأجدادهم إلى بقاع اخرى في الداخل الفلسطيني أو الشتات. فبحثه إذًا هو السعي لاستكشاف للعلاقة بين هؤلاء وبين الدائرة الثالثة – الأرض التي ينتمون إليها.  

أما النموذج الثاني للدوائر ذات المركز المشترك فيمثل العلاقة بين الأرض والإنسان كما يطرحها سميح مسعود بصورة غير مباشرة في كتابه. فالصورة الأكبر هي الشعب الفلسطيني بأجمعه، سواء كان يقيم على أرض فلسطين، أو في الشتات. ويتكون هذا النموذج من دائرين: الصغرى في المركز وهي الأرض، أرض فلسطين، والكبرى هي الشعب الفلسطيني المنتشر في أنحاء المعمورة.

3383 البحث عن الجذور

والحركة بين الدائرة الكبرى والصغرى لها اتجاهان: الاتجاه الأول من الدائرة الأولى إلى الثانية، وهذا يشير إلى خروج الشعب من أرضه التاريخية إلى المنافي، أما الاتجاه الثاني، الذي يسير بالاتجاه المعاكس، نحو المركز، فيتمثل إما بالعودة إلى فلسطين، كما يفعل الكاتب نفسه من حين لآخر، أو على الأقل في حلم العودة إليها. ولعل في نقل جثمان الفلسطيني البرقاوي البارز حسن راغب شبيب من الشتات إلى فلسطين، ودفنه في تراب برقة، رمزًا يمثل تحقيق هذا الحلم بأبهى صوره.

أما النموذج الآخر الذي يرسمه الكاتب، وهو الذي يتصل بالعلاقات الإنسانية، وتحديدًا العلاقة بين أبناء الشعب الفلسطيني الواحد، متمثلًا في بحثه عن جذوره وامتدادها في البلدات الفلسطينية بصورة خاصة، وفي الشتات أيضًا، فهو نموذج يستند إلى نظرية تسمى: "درجاتٌ ستّ من الانفصال". وهذه النظرية مبنية على فكرة سلسلة الصداقات بدءًا من الصديق وصديق الصديق،... وهكذا في متوالية لا تتجاوز بحدها الأقصى ست درجات. وهذه النظرية تعود إلى كاتب ومسرحي وشاعر ومترجم هنغاري يدعى فريجيش كارينتي قدم فكرتها عام 1929 من خلال قصة قصيرة بعنوان "روابط متسلسلة". وفي عام 1990 التقط الكاتب المسرحي الأميركي الإيرلندي جون غوير الفكرة وأشهرها من خلال مسرحيته، "درجات ستّ من الانفصال". 

3384 البحث عن الجذور

لا أعلم إن كان سميح مسعود قد اطّلع على هذه النظرية. لكنه بالتأكيد طبقها تطبيقًا جيدًا أتاح له اللقاء بآلاف الفلسطينيين في الوطن والمنافي. وهذا واضح في مسيرة بحثه عن الجذور: صديق يرشده إلى صديق... وهكذا دواليك. ولا احسبه احتاج إلى اكثر من درجة أو درجتين في كافة اتصالاته.

بعض الملامح الكتابة في البحث عن الجذور

- لم يتطرق سميح في كتابه إلى الجانب السياسي للقضية ولا إلى جدلية الصراع العربي الصهيوني في فلسطين. بل اكتفى بتسجيل جولاته ومشاهداته ولقاءاته بكل تفاصيلها. فلسان حاله يقول: هذه أرضي، وما دامت أرضي، فإنها ليست لغيري.

- لم يتطرق سميح مسعود في حديثه عن رحلته إلى اليهود في فلسطين إلا بصورة عابرة جدًا. لقد تحدث عن جولاته التي استغرقت أكثر من شهر متجاهلًا تواجد اليهود على الأرض، رغم أن العرب يشكلون نسبة لا تزيد عن 20% من السكان، مع الإشارة إلى أن أهالي الجليل من الفلسطينيين يمثلون ما لا يقل عن 50% من سكان تلك المنطقة. ولو أن قارئًا لا يعرف عن الاحتلال الصهيوني قرأ الكتاب، لما خطر بباله أن سميح يتجول في بلاد محتلة.

- سجل سميح مسعود معاناة الشعب الفلسطيني بصورة ذاتية مليئة بشحنات عاطفية، متمثلًا مشاعره هو كنموذج للإنسان الفلسطيني بحنينه وبمعاناته. يقول في الفصل 23: "ها أنذا أعود إلى شارعي أسير فيه وسط أطلال بيوت ومحلات أغلقت يوم سقوط حيفا وبقيت مغلقة طوال السنوات الماضية". ويستطرد في الوصف إلى أن يقول:

وفي لحظة هدوءٍ وادعة برز أمام عيني شريط مليء بصور خاطفة كثيرة، تتلاحق صورةً تلو أخرى مزدحمة بالمشاعر، تكاد تكون كلها لأمي وأبي... استسلمت لحظتها لذكرى أيامهم بأشواق هائجة، ولم أتمالكك نفسي من البكاء (ص. 210) 

- سميح لا يفصل بين الأرض والإنسان، لا يردد ما قاله الشاعر: "وما حب الديار شغفن قلبي / ولكن حب من سكن الديارا". فهو يستعرض ذكرياته عن حيفا وشوارعها وبيوتها ومحالها المهجورة، ويتذكر لحظتها قولًا مأثورًا لمفكر هندي قديم: "إن البيوت تُنسى مع رحيل أولئك الذين يغادرونها". ويعلق على ذلك بقوله: "إن نظرة أولية بسيطة إلى بيوت حيفا تؤكد أن هذه مقولة تعطي صورة مغايرة لحقائق الأمور، وتثبت أن البيوت جذور مهمة تبقى بعد رحيل أصحابها..." (ص. 210).

خلاصات

يؤكد الكتاب على مجموعة من الأفكار المتعلقة بالقضية الفلسطينية، لعل من أهمها:

- أن الشعب الفلسطيني شعب حي بكل ما في الكلمة من معنى، وذلك من خلال استعراض إنجازاته على الأرض الفلسطينية وفي الشتات. وفي هذا رد على الفكرة التي روجت لها الحركة الصهيونية، والمتمثلة في مقولة: "شعب بلا أرض وأرض بلا شعب".

- أن من الواجب السعي إلى المزيد من التقارب بين أبناء البلد الواحد، فصلات القربى والدم تجمع بين أبناء فلسطين. فينبغي علينا دائمًا أن نسمو على الصراعات بكافة أشكالها: المذهبية والطائفية والفكرية والإقليمية والاجتماعية والعشائرية والطبقية وسواها. فوحدة الشعب الفلسطيني بكل مكوناته هي واحدة من المقومات الأساسية لوجوده ونضاله من أجل استعادة حقوقه المشروعة. وفي هذا الإطار فإن من الضرورة التركيز بصورة خاصة على التآخي الاسلامي المسيحي، الذي يشكل نموذجا يحتذى في كل أقطار العالم. 

- أن من واجب الجيل القديم أن يحرص على ترسيخ الهوية الفلسطينية لدى الأبناء والأحفاد، حتى تستمر جذوة النضال بكل أشكاله مشتعلة إلى أن يعود الحق لأصحابه. وإذا كان اليهود يعودون إلى نصوص العهد القديم التي تنتمي إلى نحو ثلاثة آلاف عام، رغم ما تمتلئ به هذه النصوص من أساطير، وما تعج به من دس وتزوير، فإن التراث والتاريخ الفلسطيني بحديثه وقديمة ينبض بالحياة ويستند إلى حقائق ثابتة لا تشوبها شائبة.  

- أن نضال الشعب الفلسطيني يأخذ أشكالًا متعددة ليس أقلها الصمود في أرض الآباء والأجداد. وفي هذا السياق، فإنّ من الواجب إعادة الاعتبار إلى فلسطينيي 48، الذين استطاعوا بصمودهم الحفاظ على الكثير من التراث الفلسطيني وحمايته من الضياع، والذين يشكلون شوكة في حلق الاحتلال الصهيوني.

- أن من الضروري بذل كل الجهود للتعريف بالقضية الفلسطينية بأبعادها التاريخية والجغرافية والاجتماعية على المستوى الفلسطيني والعربي والعالمي.

بين مدينتين:

فيما يتصل بالمدن اختار سميح مسعود أن يتنقّل بين مدينتين في فلسطين المحتلة للبحث عن الجذور: اختار حيفا مسقط رأسه واختار برقة قرية أبائه وأجداده. وأسميها هنا مدينة لاعتبارين: الأول أن كل قرية من القرى الفلسطينية التي ما زال سكانها يعيشون فيها كبرت وامتدت وتحولت إلى مدينة صغيرة. والثاني أن سكانها الراحلين لو عادوا إليها لتضاعفت ضعفين أو ثلاثة. ولعل عدد أهالي برقة الذين يسكنون فيها والذين رحلوا منها يقترب من أربعين ألف نسمة.

ثمة مدينتين أخريين أعطاهما الكاتب حيّزًا مهما من كتابه. الأولى هي شفا عمرو، التي زارها مرتين والتقى بعدد من أهلها الذين ينتمون في أصولهم إلى برقة. وقد تعرف من خلال لقاءاته هناك إلى آخرين يعودون بأصولهم إلى برقة، ولديهم الكثير من المعلومات التي تهم الكاتب في رحلة بحثه عن الجذور. اما الثانية فهي بلدة يانوح الدرزية الواقعة في الجليل الغربي. في هذه البلدة ثمّة عائلة كبيرة تعود أصولها إلى برقة. وقد زار سميح مسعود البلدة والتقى بسكرتير مجلسها المحلي غالب سيف، الذي يرفض أبناؤه الانخراط في الخدمة العسكرية المفروض على أبناء الطائفة، ويزج بهم في السجون بسبب ذلك.

خاتمة:

كتب سميح مسعود في صفحته على الفيسبوك يوم 30 آذار /مارس بضعة سطور تحت عنوان "لا بد من المغرب وإن طال السفر"، قال فيها:

أزور هذه الأيام المغرب للتعرف على جذر حيفاوي عريق، تغور أطرافه بعمق في أرض مدينة الرباط على مقربة من نهر أبي رقراق، أتلمس حوله شبكة معلومات تتزاحم في أحاديث حميمة يُبهرني سماعها ، تؤكد على ضرورة البحث عن الجذور في كل مكان، وهذا ما أفعله الآن بنفس النهج الذي اتبعته في الداخل الفلسطيني، لتجميع المادة اللازمة للجزء الثالث من كتابي، وهذا ما تحدثت عنه اليوم في لقاء مع مجموعة طلاب ماجستير ودكتوراه من كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية في جامعة محمد الخامس، دعاني للقاء بهم الصديق الحيفاوي الدكتور سعيد خالد الحسن الاستاذ في نفس الجامعة، وهو صاحب ذاكرة خصبة تزدحم بقطوف حياتية عن أيام أهله في حيفا، يستدعيها بتعبيرات متدفقة ودلالات عميقة سيزدان بها كتابي.

رحلة البحث عن الجذور هي إذن مستمرة. والكاتب يعدنا بجزء ثالث نتعرف من خلاله على المزيد من الصلات التي تربط أرض فلسطين بأبناء فلسطين سواء أكانوا مقيمين على أرضها أو منتشرين في المنافي.

 

بقلم نزار سرطاوي

 

جواد واديأول ما يتبادر الى ذهن القارئ ثيمة العنوان الملتبس وغرائبيته، للفرق الظاهر بين الكحول والحصان الهرم، ولا يتسنى للمتابع من فهم قصدية الشاعر من العنوان حتى يكتشف نية الشاعر من خلال نص يحمل ذات العنوان.

الديوان من إصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بطبعته الأولى عام 2021 بطبعة أنيقة وورق بلون مناسب، واعتزازا بموهبة ولده آدم يستثمر الشاعر موهبة نجله في الرسم، فيزين واجهة الديوان بلوحة بريئة وموحية يذيّلها الرسام الصغير بعبارة كتبت باللغة الإنجليزية (أحاول أن أرسم أبي، آدم) تنم اللوحة عن اعتزاز الطفل بأبيه وهذا بحد ذاته موضوع يستحق التوقف عنده بنزوعه البريء ووداعته ليعبر بموهبة فطرية وما يشعر الطفل آدم إزاء أبيه. يقع الديوان في 142 صفحة من الحجم المتوسط.

يهدي الشاعر هذه المجسّات الشعرية الفاتنة لبلقيس، زوجة الشاعر حيث نجد نصين عن بلقيس:1/2 ص 72/75.

يفتتح الشاعر بنص أسماه أحلامي يقول فيه:

نبتت/ في حياتي/ شجرة/ جرداء/

ـ حتى ـ في الربيع/ لكأنني خريف دائم.

يفاجئ الشاعر قارئه بهذا النص الصادم تعبيرا عن الإحساس بالضياع وبجفاف وجوده خريفا دائما حتى وأن كان الوقت ربيعا.

تمر شهوة القراءة لهذه النصوص مثل نسيم عذب يؤثث للحظة الاستمتاع بلغة شفيفة ورذاذ شعري عذب، يجمّل لحظة القراءة رغم الألم الممض الذي يختزنه الشاعر بين جوانحه، وكأني به يحمل هموم وطن مغتصب، انتزع من بين جوانجه.

في نصه: تباين ص13

عالمي/ أشجاره وغيومه/ تتكلم/ لا باب يُطرق فيه/ أبوابه مفتوحة دائما.

هنا وحيث الوطن المستباح لا يملك الشاعر أمام صيغ الخراب إلا المناجاة مع روحه الكسيرة مخاطبا الآخر همسا لمحايثة الراهن المترب بكل تفاصيله، وبين فواصل الفرح النادرة يدسّ الشاعر بين مفردة وأخرى بعض المداعبات ليخفف من وجع الإحساس بالخيبة:

الصدى دراجة الصوت الهوائية. ص13  

عالمي/ ليس عالمكم/ يقول الطفل.

يعود الشاعر هنا الى طفولته العالقة في ذهنه ليغاير الآخرين اعتزازا بذاته أو اختلافا مع كينونته ليخلق ذلك الحيز الخاص بعالمه المتوحد.

كأن/ لا معنى / لبياض، من دون سوادك/ أيها الغراب. سواد ص15

تكاد تشي عناوين القصائد بهم من نوع خاص لم نألفه في الغالب، يغلب عليها الغم والوضع المعتم، بمداعبات سردية وبمعجم لغوي مغري ينم عن فهم واسع ببواطن اللغة الشعرية.

في نصه: السلطة ص16

في مكانٍ وزمانٍ اختارهما بدهاء، أدخلوا الجني الى جسده.

عاد الى البيت. نام/ عندما استيقظ وجدهم فيه...!/ من فتح الباب لهم؟

وأنا أسافر في هذه الرحلة الشعرية الشيقة، لم أبرح من مكاني، فأشعر بأن نسيما عذبا يغزو بدني، لأنتقل من محطة شعرية لأخرى وبفرح غامر.

ما كانت لتلتفت اليه/ ما كان ليلتفت اليها/ لولا إنهما وجدا نفسيهما على خشبة طافية/ بعد غرق السفينة. الزواج ص18

يستحضر الشاعر هنا مأساة الباخرة تايتانك وما جرى من مصير كارثي للعاشقين، كما يبدو لي ذلك. وهي إحالة فاطنة ليسقطها على راهن وجوده الموجع المطوق بالمواجع.

من السماء هذا الحبل الملتف حول الرقبة

إلهي:/ اجذبه إليك/ بكل ما أوتيت. الحياة ص21

تلك هي العلاقة الصوفية المتماهية بين الشاعر وما يفترضه ربا له، بعلاقة سمو روحي هابط عليه من عليٍ لتتحد روحه مع روح الله، ليذكرنا بمأساة الحلاج بقوله: نحن روحان حللنا بدنا... ولا تخلو روح التحدي هذه لتحقيق الغاية والإصرار في الإمساك بهذه العلاقة السامية وبنفَس صوفي خالٍ من شوائب اليومي الرث.

حينما ترى رجلا/ يشربُ/ طوال النهار/ ويبكي/ طوال الليل، فاعلمْ أن لصا سرقه أعز ما يملك. عني: سرقوا بلادي. اللص ص22

ما أمضى على الشاعر وعلى قارئه المضام كذلك هذا الإحساس بالانتماء لوطن نهبه اللصوص دون أن يفعل شيئا غير النحيب.

كلما انتقلت من نص لآخر تتعاظم لحظة القراءة العاشقة دون أن تترك لنفسك متسعا من الإفلات من ربقة هذه النصوص المدهشة، لما تستحق من متابعة ومشاركة الشاعر وجدانيا، أشعر بأنني اكتشفت ضالتي للتماهي مع عالم شعري يشبع فضول القراءة الفاتنة بما للنصوص من لغة وخطاب وسردية شعرية تبيح لك الغور في ذات الشاعر الكسيرة التي هي ذات المعاناة التي تشعر بها.

دعها في حوارها العجيب مع الجذور/ دعها في إصغائها الأزرق/ لثرثرة الطيور/ لُمّ كلامها الأحمر.../ لُمّ تفاحها... الشجرة ص23

إن نصوصا شعرية كهذه تستحق وقفة نقدية منصفة، لأنها تمثل بحق لغة نثرية يدور في فلكها جل الشعراء الشباب دون أن نمسك للحظة نصا يحترم ذائقة المتلقي، إنها ظفائر شعرية مرة تجدها مائعة وغاية في الطراوة ومرة تواجهك بدقة التوظيف وصلابته، وهذا التمازج الذكي والمتحول يمنح القارئ نبضا شعريا مجللا بالمحبة والعشق الآسر.

كالستائر أرتعش/ الكحول حصاني الهرم/ أسقطُ منه كل مساء أمام الناس... كالستائر ص24

هذه الميوعة الشعرية كميوعة المخدَر كحوليا حد الثمالة والذي يحمل عنوان المجموعة لندخل في مواجهة مع الشاعر وهو يبحث عن حالة من التوحد الإنساني حتى وإن كان يبحث عن التوازن الجسدي وهو يسعى لخلق علاقة بين حالة احتسائه للكحول وبين الرمز الذي يصل حد التقديس وهو القنينة وهي بمثابة لحظات احتواء وسمر ومحطات آسرة تنهي الشاعر لأن ينال ما يريد من عطاء أنساني وهو في حالة صفاء روحي وتوحد مع خمرة الروح وفاء لا يريده أن يهرب منه لحظة واحدة.

وضع قدمه اليسرى على عتبة عام جديد/ اليمنى مفقودة/ لا يتذكر متى... أو أين/ إنه يقفز بساقه الوحيدة بين الأيام، / وقد يجد نفسه وحيدا على عتبة عام/ من أعوامه الماضية. المنفى ص25

إن شعراء العراق سيما أولئك المنفيين منهم والموزعين في أصقاع الكون دائمو الألم والحنين واليتم الحقيقي بفقدان وطن، ليصبح المنفى ملاذهم القسري الوحيد للهروب من سياط الجلاد والملاحقات الظالمة، وهذا النص تعبير وجداني حقيقي لحجم الألم والإحساس بالضياع، حين يجد الشاعر نفسه دون ملاذ ولا أرض تأويه  ليتوسد ترابها محملا بأوجاعها وبلاويها، متنقلا بين الأمكنة بإحساس وجودي مهين، تلك هي المعاناة الحقيقية للمبدعين المنفيين، ليكون الشاعر وبصدق لسان حالهم وينوب عنهم بصراخه وبغلٍ بوجه الهمجية والسلوك البهيمي للطغاة.

دائما ما تكون طفولة الشاعر حاضرة براهنية موجعة فيتذكر أيام طفولته وصباه دون أن ينسى تفاصيل وجوده الإنساني منذ يفاعته ومتعة الطفولة التي عاشها تواصلا بالواقع الراهن بمقاربة لا تخلو من الإيلام مهما تباعدت الأزمنة واتسعت الأمكنة وتحولات التفاصيل:

حين أنام/ يعود الغائبون/ أطفالا/ بدشاديش مقلّمة/ ترتفع بهم الأراجيح/ عاليا/ عاليا/ وتعود فارغة. بلا عنوان ص26

أين ذهب شاغلو تلك المراجيح، هذا هو الفقد العظيم والضيم الذي يلاحق العراقيين منذ طفولتهم وحتى شيخوختهم، دون فسحة أمل للإحساس للعيش بسلام كبقية خلق الله. إنها كوابيس تلاحق العراقي ولا يمكن الفكاك منها حتى وإن كان حضورا ذهنيا.

  حين نتفحص بدهشة المكتشف عناوين نصوص المجموعة تتشخص أمامنا مأساة الشاعر قبل أن نلج بعد لمتون النص، وهنا نلاحظ في الغالب أن الشاعر يمكنه أن يوصل فكرة النص من خلال عنوانه.

في نصه: بكاء ص 27 يقول:

إلهي: / لا أجد من أحدثه سواك/ هذه الليلة/ أنت ترى عزلتي/ عزلة العش/ في غابة تحترق.

هذه المناجاة الصوفية من شاعر لربه بنفس صوفيٍ متماهٍ ونقي وهو يعيش حالة العزلة واليتم حين لم يجد من ينادمه لحظته فيتجه الى من يواسيه في عزلته ويتمه والشعور بالفراغ القاتل ليخاطب إلهه صديقا يؤانسه في وحدته بعد أن بلغ به الضياع مداه.

وحشتي/ وحشة قارب/ مقلوب/ على وجهه. ص27

هذا الكولاج الشعري يحيلنا الى حالة الضياع وكأن الشاعر طائر وحيد يعيش منكفئا في عشه وبإلام ممض لقارب مقلوب على وجهه.

صورة شعرية معبرة حقا، تمكن الشاعر من رسم لوحة تحتوي العديد من المعاني والتأويلات وفهم حجم ما يعانيه بلغة شعرية غاية في الدهشة والتوظيف بدربة فاتنة وموحية.

حياتي تنهار أمامي/ قبضة الزلزال أقوى من السقف/ تزوجت الكحول/ هل يدوم زواج كهذا؟ حياتي ص29

كم هي قوية وفاعلة في وجود الشاعر موضوعة الكحول، وكم هو عاشق ليكون احتساء الكحول مهربه الوحيد من الواقع الحسي المرير، بحضور رمزي يبغي الشاعر أن يبني تلك الوشيجة القوية بينه والكحول، نافذة للهروب مما يعانيه، وهذا هو قدر العراقيين المنفيين قسرا، حين لم يجدوا من سبيل للواقع المر غير منادمة الكحول ليحققوا توازنا جسديا وروحيا وهم بهذا الوجع القاتل.

إنه سِفر شعري لكل من يبحث عن ترطيب ذاته المتيبسة من بلاوي حاضره المتعب، وأقصد هنا تحديدا المثقف العراقي، حين ينهي الشاعر رحلته الآسرة بنص طويل أسماه: قهقهة الحفاة قرب أطلال أور ص133

مثلك أنا أيها القارئ الحائر/ المتشبث بسطور هذه القصيدة/ المخفي في ما بينها/ الساقط من سطر الى سطر/ المشيح الوجه عنها/ المسحول من أولها الى آخرها/بدؤها أنت وخاتمتها.

يربط الشاعر قصدا قارئه بحبل القصيدة ليجرجره لعوالمها ويلج مكنونها ليحيله الى مشارك فاعل في هموم النص.

ودائما ما ينح الشعراء المجدون الى اشراك همومهم الشعرية مع قرّائهم، ليحمّلوهم مسؤولية التلقي والمشاركة في متاعب النص ومخاضاته، وأعتبر أن حالات التوحد هذه بين الشاعر وقارئه سمة يتصف بها الشعراء ممن تثقلهم هموم الكتابة فيخففون أعباء ما يعانون مع قرّائهم لتكون المسؤولية الإبداعية مشتركة. وهو تجسير فاطن ومطلوب لتلك العلاقة البهية لا بقصدية لا مراعاة فيها، بل مشاركة وجدانية في كتابة النص. وأظن أن الشاعر المجّد إن أفلح في ذلك ستغمره نشوة لا حدود لها وتفاخر كبير لأنه أشرك القارئ الفطن لا ذلك المتابع الكاسد.

فيا ليت لي مهنة أخرى/ غير رصف الكلمات في جمل/ وغير رصف الجمل/ في قراطيس، سيرهنها القارئ/ لدى بائع الباقلاء/ آمالنا تضيق كصحراء تكبر/ وأيامنا تتلوى/ في حبال المطر الأسود المتيبس/ أجبل الله مصائرنا من لعاب إبليس/ وحراشف جنده؟ ذات النص ص 135

   في هذا المقطع المعبر وكما ذهبنا اليه، نجد الشاعر يشعر بخيبته وانكفائه وهو يرى قارئا طارئا يلف بوريقات الشعر ما يبتاعه من الباقلاء و(اللبلبي). وهذه هي محنة الشعر التي تنسحب بقوة على ذات الشاعر وبشكل محبِط.

آمالنا تكبر لا كمساحات خضراء مورقة، بل كصحراء تتعاظم في جدبها وضررها الكبير، وهو انحسار لا محدود للأمل الذي يعتمل في دواخل الشاعر الإنسان.

في نهاية المجموعة نجد بعض النصوص المطولة، ولعل الشاعر قد أنجزها للمشاركة في الملتقيات الشعرية التي تتطلب نصا طويلا نسبيا بجمل مركّبة وسرد شعري، يكون المتلقي متعطشا للاقتراب من تجربة الشاعر.

إنها أسئلة أطرحها على نفسي/ أنا الجالس، الآن، الى طاولة/ ترتجف، لا عن وهن في عظامي،/ بل عن بلاد أكلت غرائزُها أبنائها/ فدب في أرجائها/ الدودْ... ذات النص الطويل ص139

لا نعرف قصدية الشاعر لينهي نصوص المجموعة بهذا النص الموجع والمستفز للمتعبين من القراء، وكأني بالشاعر يوزع عذاباته على عموم من جايلوه أو من سبقه، لينتهي بهذه الرحلة الإبداعية مثلما بدأ وهو يدور في ذات الهموم والمواجع والمكابدات.

تحية للشاعر أبو آدم على هذه الإضافة الشعرية للمشهد الشعري العراقي الذي ينتظر منه ومن أقرانه من الشعراء الشباب المزيد من العطاء والرفد لتأثيث الحالة الشعرية العراقية بالمبهر والجديد والمدهش، لنتفاخر به وبتجربته الشعرية الفاتنة، جميعا. 

 

جواد وادي

 

نبيل عبدالامير الربيعيصدر الكتاب بطبعتان، الطبعة الأولى عام 2017م، والطبعة الثانية عام 2018م عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة، وبـواقع (297) صفحة من القطع المتوسط. والكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات القصيرة تجاوزت (162) مقالة، لصور ناطقة تحمل في طياتها هموم الكاتب وهموم المواطن العراقي بما يحدث من خراب في هذا البلد الذي يتطلع شعبه بعد عام 2003م للتغيير، إلا أنهُ وبفضل قادته السياسيين الحُكماء يعود بنا إلى ما قبل المربع الأول من خراب ودمار وسرقات وقتل وخطف وانتشار العصابات المنظمة للأتجار بالاعضاء البشرية والمخدرات بجميع اصنافها.

عودنا الدكتور نصير الحسيني منذ فترات طويلة على اقتناص المواقف والأحداث التي مرَّ بها ويمر بها المواطن، لتنظيدها من خلال حروفه الجميلة والساخرة والمبطنّة التي لا تتجاوز صفحة أو صفحتان من القطع المتوسط أو أكثر، وهي مقالات أثارها الحسيني بذكاء ليطلّع عليها القارئ عِبرَّ شاشة الموبايل أو اللابتوب، لأنه في عصر العولمة أصبح شبابنا يمّل من المطالعة ويبتعد عنها أو لا يتابع المقالات الطويلة بصفحاتها.

ويعجبني الحسيني عادةً في اختيار عناوين لمقالاته، واختيار مفرداته وحروفه الناطقة التي تصور لنا حال العالم من تطور ورفاهية وحال ما حلَّ بعالمنا العراقي من خراب، ففي ص9 كان عنوان مقالته (شكراً ماما أمريكا)، وهو عنوان ساخر قائلاً في ص10: "لكل ما جلبته أمريكا للعراق من خراب ودمار وضياع، وتحويل المنطقة إلى (قطعة كيك)، تنزف بالنفط الأسود وتطفو على سطحها الدماء، التي لوّنت الجدران والطرق والأنهار، نقول: شكراً ماما أمريكا"، هذا الخطاب تجد بين طياته الكثير من سخرية القدر لما وعدت به أمريكا العراقيين من بناء واعمار وإعادة عجلة حياة العراقيين نحو الرفاه الاجتماعي.

فنجد في مقالات الحسيني القصيرة الاحترافية في اختيار الموضوع والعنوان والكلمات الدقيقة والقصيرة؛ لنقل المتلقي من خلال شاشة الموبايل إلى عالم الصورة من خلال المتخيل العقلي دون ضبابية، إنها صورة بالالوان أي (سكوب ملون) كما تذكر ذلك الأفلام على شاشات السينما. من الصعب أن يقدم الحسيني تلك الصورة إلا وهي تنطق للمتلقي وتوضح له ما بداخل الحسيني من هموم في عمله وهموم المواطن العراقي.

فكثيره هي الصور الناطقة التي منها لا تتعدى إلا ما يشعر به المواطن، من خلال لغة الإيحاء التي أتخذ منها عنواناً لمقال بثلاث صفحات، فيقول في ص12: "ولغة الإيحاء تقترب كثيراً من لغة الهمس، واعتقد أنها من العلوم التي يجب أن تُدّرَس في كليات الإعلام والعسكرية وغيرها". أو مقال تحت عنوان (زلة لسان) لتصريح لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة أولبرايت، أو عنوان آخر (الديمقراطية أكبر كذبة في العالم)، أو ما اتهم به المواطن المصري اسلام بحيري بتهمة ازدراء الأديان، ومقال تحت عنوان (الاستثمار ما بين الاستعمار والاستحمار!)، وهو يصور البلد كأسير للحكومات المحلية التي لا يعرف على وجه التحديد ما معنى لوجودها، ويتساءل في ص18 "هل هي لتخريب البلد؟ حيث أغلبهم مجموعة من الدلالين يروجون لمصالحهم رغم أن كثيراً من الذين صوتوا لهم لا يفهمون لماذا انتخبوهم؟"، أو مقال تحت عنوان (وشاية)، أو مقالته حول واقع حال (تربية بابل)، ففي ص23 كتب "سألني موظف في تربية بابل وأنا اراجعها، منذ متى لم تراجع التربية، قلت له منذ عام 1979، أجاب حيّل!، والحقيقة حين دخلت إلى الدائرة شعرت بالأسى والشجن، لأن هذه الدائرة قد تأخرت كثيراً في الأداء ويكفي ذلك حديثاً". وكلنا يعلم أن جميع دوائر الدولة قد تخلفت في الأداء، والمواطن يشعر بالأسى وحمل الهموم عندما يراجع دائرة حكومية لما يجد من تردي الخدمات واهمال الموظف لواجبه في أداء الخدمة للمراجعين لهذه الدوائر.

على نمط هذه العناوين يكتب الحسيني صوره الناطقة، والكثير منها لو تطلّع عليها لتجده يحمل عين مصور يلتقط الصور يومياً ويرتبها بحروفه الجميلة الناطقة، فهي يوميات لمواطن يلتقط الصور كما يلتقط الطير الحبوب ليستمتع بغذائه، فالكتابة بالنسبة للحسيني غذاء الروح، ولم يمر يوماً إلا وتجده كتب مقالاً أو اقتنى كتاباً من مكتبة الفرات في الحلة أو في شارع المتنبي، فالقراءة والكتابة همهُالشغل الشاغل للحسيني، فهو المقاول الذي توقفت شركته عن العمل وتوقف منح الحكومات المحلية المشاريع لها بسبب مبدأيته في رفض المشاريع التي تحال مقابل نسبة لمسؤول أو موظف مرتشي يحددها مسبقاً بنسبة 10% على قيمة المقاولة، أو عند استلام المبالغ وهي على شكل دفعات، فالمواطن والمقاول النزيه في عالمنا هذا ووسط هذا الخراب من الصعب أن يعمل.

وعندما ذكرت مقالاته الكثيرة والمتنوعة في كتابه هذا فمن الصعب أن تحتويها هذه الوريقات القلية التي انضد حروفي عليها، ولكن سأذكر بعضها، ومنها: فيلم ملون، لا منتصر، لا هذا فاد ولا ذاك فاد، كلمة اعتذار، ما لم يقله السارد عن العرافة، صرخة، اللعبة، ألا يخجلون؟، مرةً أخرى يخطئون، رجل طيب، طير حمام، طبيب، أم بريص، فيزة، مشاجرة، صحة صدور، مدراء، ساعة، قلق، حَمام، خدمات الطريق السريع، وجاهة، جزية، شخصية، انهيار أمريكا، مشفى، الديك، نقابة، بذور الشر، انتخابات، مكسي مول، تصريح، أسى، فساد (2)، العتاوي، الستار الله، مطلوب عشائرياً، فصل عشائري، مراجعة، لوح الأقدار، القط والفأر، دبلوماسي، مخدرات، تحرش، اجتثاث، أحزاب، حلم الرئيس، جثة الرئيس، قضاء، يا لسعادتنا، تشهير، أبو علوش، تخ... طيط، عجيب غريب، أطباء، جريدي، طرفة.

هذا التنوع في العناوين يمنح القارئ اللبيب الكثير من الخيال والتطلّع لقصص وأحداث واقعية عاشها الحسيني من خلال زياراته للدوائر الحكومية أو متابعته للتلفاز والأخبار أو ما يحصل في حياته وحياة المواطن اليومية من مواقف. حروف الحسيني الجميلة لم تسلم منها الذكريات الحزينة التي ترسم المكان والواقع والرغبة والتفاؤل والمرح والبسمة والسُخرية، تلك الحروف الناطقة للمستقبل الموعود، ولوطن القهر والظلام والفساد والخراب والظلم والتهريب.

يذكر الحسيني عن صفة الصور الناطقة قائلاً: "صور ناطقة عن حجم الفوضى التي مرَّ بها العراق بعد عام 2003م، وهي عبارة عن هواجس شخصية لصور تتحرك يومياً عبر حياة مليئة بالغرابة والدهشة والانفعال، وتجعلنا نعيش حالة من الاغتراب الذاتي، ونحلم بجرعة من الأمل بأن القادم ربما سيكون أجمل! الصور تسلط الضوء على تحولات المجتمع في ظل ظروف أتسمت بالتحولات الرافضة للتبعثر الاجتماعي وفساد الفعل عبر البوح المعترض".

ومهما كانت الظروف بحسنها وقبحها يبقى العراقي يركض كل العمر على مدى صراخه الدامي في وطن يموت ابنائه كالشجر لم يشهد تاريخ الشعوب مثيلاً له، ولكن صراخ العراقي لا يسمعه إلا ابن الوطن المهموم والمجروح، ومن يتحاشى هذا الصراخ، وبفضل الفاتحون الأمريكان غمروا تراب هذا الوطن بدماء الأبناء ودموع الأمهات الثكالى، ليجلسنّ على ترابه المقدس ببركة التغيير والسلام والعالم الجديد المنتصر.

هذه الاطلالة التي كتبتها لقراءة بسيطة لكتاب الحسيني (حروف ناطقة) اعتقد أن لها صور أخرى ناطقة سينشرها الحسيني على صفحات التواصل الاجتماعي في ايامه القريبة، فمداد قلمه لا يتوقف ما زال هناك خراب في هذا الوطن المحتل والجريح.

 

نبيل عبد الأمير الربيعي

 

 

جواد بشارةحقيقة الزمن ونظامه وفق نظرية كارلو روفيللي الأستاذ بجامعة إيكس مرسيليا، ومدير مجموعة بحثية في الجاذبية الكمية.

يشهد العالم أزمة صحية غير مسبوقة تجبرنا على البقاء في المنزل.. إلى متى؟ لا نعرف شيئًا عن ذلك حقًا. لذلك، فهو وقت مناسب لقراءة كتاب نظام الزمن، ومفهومه، ومروره، وقياسه، وما إلى ذلك.

  L’ordre du temps نُشرت طبعة Flammarion في أوائل عام 2018 The Order of Time (L'Ordine del Tempo   ترجمة عن النص الإيطالي لمُنظِّر الجاذبية الكمية الحلقية، عالم الفيزياء الإيطالي كارلو روفيللي المعروف بنجاحه السابق في المكتبات، خاصة في كتاب سبعة دروس موجزة في الفيزياء. إن نظام الزمن كتاب رئيسي عن سؤال يزعجنا جميعًا وخاصة عشاق الساعات: يتعلق بمرور الوقت ومفاهيمه وقياساته، إلخ.

التفكير في الزمن المدرك كشيء فلسفي وكشيء علمي:

في هذا الكتاب الرائع والممتع والشيق الذي يمكن الوصول إليه من قبل أكبر عدد من القراء العاديين غير المتخصصين، يشرح المؤلف في 288 صفحة كيف أن الزمن الماضي والحاضر والمستقبل ليس ما نؤمن به (ليس له أي تفرد) وأنه كلما حاولنا اختراق أسراره، كلما انزلق أكثر. بعيداً! يجب أن يقرأ في هذه الأوقات الصعبة.

كارلو روفيللي هو أحد المتخصصين المشهورين عالميًا في مجال متخصص للغاية من الجاذبية الكمومية، والذي لا يعد في الوقت الحالي نظرية كاملة ولكنه برنامج بحثي واسع. أصبحت مسألة الزمن، التي كانت في يوم من الأيام حكراً على الفلاسفة، قضية مهمة للعلم منذ صياغة نيوتن للزمان والمكان المطلقين، ثم الديناميكا الحرارية لكارنو وكلاوسيوس. أعاد أينشتاين خلط الأوراق بالنسبيتين ومفهومه عن الزمكان. ومن ثم لقد شوشت ميكانيكا الكم المسارات. قدمت الديناميكا الحرارية غير المتوازنة مفاجآت. دون أن ننسى الديناميكا الحرارية للثقب الأسود. لقد درس العديد من الفيزيائيين المهتمين أو المهمين مسألة الزمن. بريغوجين Prigogine، وروجرز ب ينروزRoger Penrose، وستيفن هاوكينغ Hawking، وولي سمولين Lee Smolin على سبيل المثال لا الحصر، والآن كارلو روفيللي Carlo Rovelli الذي أصدر عدة كتب عن الموضوع. أحدها حمل عنوان نظام الزمن، وآخر عنوان ماذا لو لم يكن الزمن موجوداً؟ كما يشير المؤلف، فإن فهم الزمن مهمة موعودة لكل أولئك الذين يفاجئون برؤية الزمن يمر، ولكن أيضًا من خلال النظر في معادلات الفيزياء المعاصرة.

لا تتوقع فهمًا كاملاً ونهائيًا للزمن بعد قراءة كتابي كارلو روفيللي الذي يأخذنا في رحلة عبر متاهة الزمن، بين أحلام اليقظة الشعرية والتلميحات الأدبية والمفاهيم الفلسفية وبالطبع الأساس الرئيسي لهذه الدراسة يتكون من النظريات الفيزيائية. لا توجد حاليًا نظرية يمكن أن تفسر حالة الزمن بل عدة مقاربات ورؤى. ما هو متاح حالياً مجرد دراسات أولية عن الزمن مثل دراسات روفيلي التي سترضي فضول المبتدئ ولكن المثقف والجمهور القلق حول كيفية فهم الفيزيائي لجذور وظواهر الزمن (أو في الوقت المناسب). يستحق أي تفكير علمي ومنطقي اهتمام الرجل الصادق في القرن الحادي والعشرين. خاصة إذا كان هذا الانعكاس يأخذ منحى أدبي وشاعري. هذا يجعل الموضوع متاحًا لخطر تشويه العلوم الأكثر دقة.

انحلال الزمن في الفيزياء المعاصرة:

في الجزء الأول من كتاب نظام الزمن، يحكي روفيللي عن تآكل الزمن. لم يكن ذلك الزمن ينفجر ولكن التفكير في الزمن يصبح غير مؤكد. يهرب الزمن من شبكات الشبكة المفاهيمية التي يعتقد الفيزيائيون أنهم يمسكون بها. لا يتدفق بشكل موحد حسب المكان والسرعة والكتلة والجاذبية أو الثقالة، في السهول أو في الجبال. هذا التحول هو متناهي الصغر. تجعل النسبية العامة من الممكن حساب هذا التباين الزمني ولكن ليس ميكانيكا نيوتن. لا يوجد مشهد ثابت، نوع من البروجيكتور العام يرسل الصور على الشاشة. كل شيء يتطور في زمنه الخاص والفيزياء تشير إلى كيفية ارتباط هذه الأزمان. قبل الاضطرابات التي أدخلها أينشتاين، شكلت الديناميكا الحرارية وصياغة الإنتروبيا سهمًا للزمن لا رجوع فيه. لقد انقلب الزمن إلى زمن عكسي، موجودًا في جميع معادلات الفيزياء باستثناء الأنظمة التي تتبادل الحرارة، والتي وصفها بأنها إنتروبيا يمكن أن تنمو فقط والتي تم تفسيرها إحصائيًا على أنها مقياس الاضطراب من قبل بولتزمان. يقول روفيللي إن الزمن يبطئ السرعة والعكس صحيح حسب مبدأ تباطؤ الزمن مع السرعة التي تضمنته نسبية آينشتاين لاستحضار النسبية ولكن هذه المرة، بصورة مقيدة، التي نشرها أينشتاين عام 1905 وسماها النسبية الخاصة.  انتهى الزمن واختفى الحاضر من النظريات الفيزيائية اللاحقة.

الزمن لا يمر بدون فراغ. يرى أرسطو ونيوتن الأشياء في تناقض وفقًا لروفيللي، وفقًا لروفيللي، حيث يكون الفضاء الفارغ منطقيًا لنيوتن ولكن ليس لأرسطو، وهو تقدير تقريبي لأن نيوتن اعتبر الفضاء متجهًا لسائل يحمل قوة الجاذبية، بينما يفكر أرسطو من زاوية التواصل. كان أينشتاين يوفق بين طريقتين لرؤية الأشياء باستخدام فكرة المجال، والتي هي حديثة جدًا في الفيزياء المعاصرة. ثم تأتي بعد ذلك ميكانيكا الكم التي تطمس المسارات أكثر. ندخل إلى عالم بلا زمن، عالم صاحبنا في رحلته في الجزء الثاني من الكتاب.

عالم مكون من أحداث وعلاقات:

في الجزء الثاني، يصف روفيللي عالما خاليا من الأشياء ويتكون من أحداث. تقودنا فيزياء الحقول الكمومية إلى التفكير في العالم بهذه الطريقة. الفكرة ليست جديدة. كان علماء الفيزياء الغنوصية في برينستون قد تخيلوا بالفعل كونًا مكونًا من عمليات، وفي بعض الأحيان يتطلعون إلى الميتافيزيقيا الشرقية، أو تاو الصينية أو البوذية. وفقًا لروفيللي، يكمن الخطأ في تفسير العالم من منظور الأشياء وليس الأحداث. لأن الفيزياء تصف كيف تتغير الأشياء، في الترتيب أو التعقيد. الفيزياء الحديثة لا تقل شيئًا عن الأشياء. هل من الشرعي التفكير بذلك؟ يعتقد الفيزيائي روفيللي أن الآخرين مخطئون. الفيلسوف سوف يفكر بشكل مختلف.

يحتوي كتاب روفيللي على بعض التقديرات التقريبية التي لا تغير المحتوى وتهدف إلى فرض التفسير. وهكذا يُقال أن معادلة شرودنغر , l'équation de Schrödinger تصف الأشكال الذرية وكيف تتحرك الإلكترونات في الذرات، وبالتالي فهي أحداث وليست أشياء. في الواقع، المعادلة التي تجعل من الممكن حساب شكل الذرات تتعلق بالحالات الثابتة. يتم بعد ذلك فصل معادلة شرودنغر إلى قسمين، واحد تتعلق بالزمان وأخرى تتعلق بالمكان. الإلكترونات متحركة بالفعل ولكن لا توجد أحداث، إلا أثناء الانتقال من شكل (حالة) إلى آخر، وفي هذه الحالة، لا تشرح معادلة شرودنغر أي شيء، كما يعلم الخبراء في العلوم والمختصين بميكانيكا الكم. الحدث ليس هو نفسه عملية متكررة.

ما يلي غريب جدا. روفيلي يطمس المسارات من خلال كونه هو نفسه الشاهد والممثل لهذا التدخل الذي ستكون اللغة المسؤولة عنه، بيد أن اللغة غير كافية للحديث عن الزمن. كان أينشتاين نفسه على خلاف، مع زملائه من العلماء بشأن الزمن فغير رأيه عدة مرات بشأن القضايا الرئيسية. في النهاية نظرية العالم لا تحتاج إلى متغير زمني. يجب أن تخبرنا كيف تتحرك الأشياء وتتحول فيما يتعلق ببعضها البعض. لا تستخدم الجاذبية الكمومية الحلقية التي كان روفيللي أحد مؤسسيها متغير الزمن في معادلاتها.

لا نعرف ما هو الزمن:

في الجزء الثالث، يتم شرح الزمن أمام مرآة الجهل. يكمل روفيللي الزمن الذي يخرج من العالم الخالد أو من أبدية الوجود. هذا الجزء هو الأكثر إثارة للاهتمام بفكرة الزمن الحراري التي قام بتلخيصها في منطقين. التقليدية التي تبدأ من زمن لتتجه نحو الطاقة والحالة العيانية. يبدأ المنظور الجديد من الحالة العيانية للانتقال نحو الطاقة ثم الزمن. في الإصدار التقليدي، يعد الزمن سببًا فعالًا للأشياء المعقدة. في النسخة الثانية التي اقترحها روفيللي، فإن الحالة العيانية هي التي تؤدي إلى الزمن. هذا الاختيار سهل الفهم بالنسبة للفيلسوف. في الحالة الأولى، نضع أنفسنا في الواقعية والأنطولوجيا، وفي الحالة الثانية نضع أنفسنا في الكون الاسمي، وبعبارة أخرى، الزمن، كمفهوم بشري، يبقى مثيراً للجدل منذ العهد القديم، كما كان الحال بصدد الجراثيم في العصور الوسطى، بين الواقعيين والاسميين أو المثاليين والميتافيزيقيين.

ثم تتدخل الإنتروبيا في التفكير. إن الانتروبيا الأولية المنخفضة ستكون مرتبطة بحالتنا أكثر من ارتباطها بالكون. علاوة على ذلك، فإن انخفاض الانتروبيا سيكون سبب تقدم العالم. هذه الأطروحة مثيرة للاهتمام ولكنها مغامرة. إنها تقوم على تأملات قديمة جدًا وعلى تفسير للإنتروبيا ليس واضحًا ويمكن حتى أن يكون مثيرًا للجدل. يأخذ روفيللي بعض المسافة مع الصرامة، من خلال استحضار تكوين فوتون عالي الطاقة كمؤشر على إنتروبيا أقل من تلك الخاصة بعشرة فوتونات ذات طاقة أقل. الفكرة بالتأكيد لها معنى ولكن المنطق خاطئ، الفوتون ليس له تكوين. يبدو أن روفيللي يضيع في تفسير الانتروبيا. كما هو الحال بالفعل في سياق آخر للفيزيائي إريك فيرليند. الأنتروبيا لها صلة بمحرك العالم لكنها ليست هي التي تتبعها روفيللي.

تتميز نهاية الكتاب بميزة إعادتنا إلى حالتنا كبشر في السيرة الذاتية. إنه يقدم الذاكرة ويعيدنا إلى اعتبارات أقرب إلى تجربتنا. ماذا لو ضل الفيزيائيون في مسألة الزمن؟ موقف روفيللي، كما لاحظ هانز هالفرسون، مناهض للواقعية. يمكننا أيضًا الاستشهاد بـ بيشوب Bishop، أحد المتخصصين في نظرية عدم التوازن التي لسنا من أجلها كنا صُنّاع سهم الزمن بل أبناءه. بالنسبة إلى روفيللي، نشعر بالعكس، سهم الزمن باعتباره اختراعًا بشريًا سيكون له فضائل محررة. هذا له ميزة أنه واضح ولكن قابل للنقاش. بريغوجين Prigogine غائب بشكل واضح عن كتاب روفيللي وهذا ما يجعل هذه المحاولة لشرح الزمن غير مكتملة وغير تامة. ومع ذلك، قادنا هذا الكتاب إلى التفكير في الزمن المناسب، والذي، إذا كان قابلاً للنقاش، فله ميزة أن تتم مناقشته من خلال نتائج العلم وكذلك الاعتبارات الفلسفية التي تم اختيارها وترتيبها بطريقة متماسكة. أخيرًا، اشتمل الكتاب على صور ووسائل إيضاح واضحة جدًا، باستخدام الألوان وبعض الرسوم التوضيحية الجميلة.

الزمن هو لب لغز غريب. مثل ندفة الثلج التي تذوب عندما تلتقطها، فإنها تتفكك تدريجياً تحت هجمة العلم: نحن نعلم الآن أن الزمن يمر على السهل بشكل أبطأ منه على المرتفعات والجبال؛ كما هو الحال على مقياس النجوم والكواكب، فإنه يختلف من نقطة إلى أخرى، في حين أنه لا "يمر" على المستوى المجهري.

عالم مكون من أحداث وعلاقات

هل الزمن موجود؟

أصبح زمن نيوتن المطلق، الخطي والعالمي زمناً نسبيًا مع أينشتاين، قادرًا على التباطؤ أو التسارع في وجود مجال الجاذبية وجعل حتى فكرة "الحاضر" تختفي. في المقياس الكمي، يصبح الوقت حبيبيًا ويثير وجوده تساؤلات. رحلة عبر مخاريط الضوء وتقلبات الزمكان، بحثًا عن تروس "محرك الزمن" مع الفيزيائي كارلو روفيللي.

هل حان الوقت أم نحن الذين يمر علينا الزمن؟ وعلى أي حال، لماذا يتدفق دائمًا في نفس الاتجاه، من الماضي إلى المستقبل؟ ألا يمكننا أن نتحرك عكس التيار أو نقطع التيار؟ وقبل كل شيء، ما هو محرك الزمن الغامض الذي يولد هذا التدفق؟ إذا كان للزمن مصدر، بداية، فهل له نهاية أيضًا؟ هل نتجه حرفيا نحو نهاية الزمن؟ ما لم يتم طرح سؤال الزمن بشكل سيء وهذا الشيء الغريب الذي نسميه الزمن يجد أصله في أذهاننا وهو قبل كل شيء سؤال عن الإدراك ... لقد طرحنا كل هذه الأسئلة والعديد من الأسئلة الأخرى على المتخصص في الزمن المناسب، عالم الفيزياء، كارلو روفيللي، هو أستاذ في جامعة إيكس مرسيليا، في مركز الفيزياء النظرية حيث يعمل على الجاذبية الكمية الحلقية. العالم، الذي كتب أنه قضى حياته في دراسة التركيب المادي للزمن، هو أيضًا مبسط علمي للنصوص العلمية النظرية مشهور غزيرالانتاج و على وجه الخصوص، نحن مدينون له بكتاب رائع هو نظام الزمن، The Order of Time - l’ordre du temps Flammarion2018، والذي يستند إلى العديد من المراجع في هذا ويمكن للقراء قراءته لتعميق السؤال. كما نُشر مؤخرًا مقال للمؤلف، Écrits Vagabonds (Flammarion، 2019)، باللغة الفرنسية.

يذكرنا كارلو روفيللي أن الزمن المنتظم والعالمي والحتمي، الذي يمثله سهم ينتقل من الماضي إلى المستقبل، هو في النهاية مجرد بناء ثقافي يأتي إلينا من نيوتن، وعلى مقياس الكون، تختفي هذه المرة هذه المفاهيم الكلاسيكية عن المكان والزمان لصالح الزمكان الذي نظّره أينشتاين: والذي يغدو مرنًا، ويمكن أن يتسارع أو يبطئ وفقًا لقرب مجال الجاذبية أو وفقًا لسرعة الشخص الذي يقيسه. لم يعد الزمن الكوني موجودًا، فالجميع يتطور في "زمنهم الخاص" وفكرة "الحاضر" ذاتها تفقد معناها.

على مقياس الجسيمات الكمومية، يفقد الزمن استمراريته. تصبح ماهيته "حبيبية" وتستجيب لمبادئ الكم، مثل اللاحتمية. يصبح التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل نفسه متقلبًا و"غير محدد". الاضطرابات تتفاعل لدرجة أننا ندخل، مع كارلو روفيللي، إلى "عالم بلا زمن". إلى أن نحاول اكتشاف ما يمكن، في أذهاننا، أن يخلق وهم الزمن، أو استكشاف المسارات الرياضياتية القادرة على وضع القليل من الزيت في تروس "محرك الزمن" ...

الزمن غير موجود: يشرح الفيزيائي كارلو روفيللي السبب في أن "فكرة وجود" حاضر "محدد في جميع أنحاء الكون هي استقراء غير شرعي لتجربتنا." (لودويك هيرنانديز عن "لوبس") في كتابه الأخير، يأخذنا الفيزيائي إلى الشواطئ المذهلة للثواني الممتدة أو الانقباضية اعتمادًا على الموقع، للحاضر الذي هو مجرد وهم، جزيئات وراء ما قبل وبعد. بقلم فيرونيك رادير نُشر في 09 يونيو 2018 الساعة 10:03 صباحًا L'OBS. نحن نعيش في الزمن، كما هو حال، الأسماك في الماء، والزمن يسكننا، أن الزمن ينبض في كل من أليافنا، يتخلل وجودنا، لكن ما نعتقد أننا نعرفه هو وهم؟ يقول كارلو روفيللي، تظل الطبيعة العميقة للزمن، في كثير من النواحي، لغزًا كبيرًا، وربما اللغز الأعظم على الإطلاق. روابط غريبة تربطه بألغاز أساسية أخرى مثل طبيعة الوعي أو أصل الكون أو سير الحياة. لقد اكتشفت الفيزياء بالفعل أشياء مذهلة حول هذا الموضوع. أبسطها وأكثرها مباشرة هو أن الزمن لا يتدفق بنفس السرعة اعتمادًا على الارتفاع: فهو يمر بسرعة أعلى في قمة الجبل أكثر منه في السهل. منذ أكثر من قرن مضى، كان لدى أينشتاين حدس بهذا الصدد ونحن الآن قادرون، حديثًا جدًا، على قياس هذا الاختلاف حتى على بضع عشرات من السنتيمترات من الاختلاف في المختبر. كل ما عليك فعله هو أن تأخذ ساعتين عاليتي الدقة، وتضع إحداهما في الأعلى والأخرى في أسفل مقياس بسيط، على سبيل المثال، انتظر قليلاً قبل تجميعهما معًا ولن يعرض كلاهما نفس التوقيت. "في" التسلسل الهرمي اللانهائي "، كل ما لا نهاية هو أكبر من اللانهاية السابقة" فهو لا غير ملموس ولا عالمي كما نعتقد، الزمن يلتوي، يسرع أو يبطئ. كيف توصل أينشتاين إلى رؤية هذه المفارقة غير المتوقعة؟ تساءل أينشتاين، ربما مثل أي طالب في المدرسة الثانوية يدرس الجاذبية: كيف يمكن للأرض والشمس "جذب" بعضهما البعض عندما لا يلمس أحدهما الآخر، ولا يوجد بينهما شيء رابط كالحبل بل فراغ أو"لا شيء"؟ كان يتخيل أنهما لا يجذبان بعضهما البعض بشكل مباشر، لكن كل منهما يعمل تدريجياً على هذا "العدم" الذي يحيط به، أي المكان والزمان. تمامًا كما يحرك الجسم الذي يغرق الماء من حوله، يغير الجسم هيكل الزمن من حوله، وتبطئه كتلته. إذا تقدم عقرب الساعة الثاني على قمة جبل أسرع قليلاً من عقرب الساعة في السهل، فهذا يعني أنه بعيد عن مركز الأرض. أدناه، جميع العمليات أبطأ، وهذا الاكتشاف بحد ذاته كافٍ لجعل أدلتنا تنفجر. لقد اندهشت عندما علمت عنها أثناء الدراسة في الكلية. الفهم قبل الرؤية هو من صميم الفكر العلمي. تبدو الأرض مسطحة، والسماء "لأعلى" بوضوح، والأرض "لأسفل"، لكنها عبارة عن كرة أرضية تطفو بدون دعم في الفضاء، كما تصورها الفيلسوف اليوناني أناكسيماندر منذ عشرين قرنًا، قبل أن تدور المركبات الفضائية حولها بوقت طويل. تعطي الشمس انطباعًا بالدوران فوق رؤوسنا، لكننا نحن الذين ندور حولها، وبالمثل، يبدو الزمن بالنسبة لنا حقيقة عالمية، وهو التدفق الذي يحملنا جميعًا بنفس السرعة ولكنه مجرد وهم. "يتم تعريف مفهوم الحاضر من حولنا فقط" من هذا الحدس الرائع لأينشتاين نشأ كون جديد حيث يختلط المكان والزمان؟ لجعل نظرية الجاذبية لنيوتن ونظرية النسبية الخاصة متوافقتين، كتب أينشتاين المعادلات التي نشأت ليس فقط الاختلاف في تدفق الزمن وفقًا للارتفاع ولكن أيضًا الثقوب السوداء وتمدد الكون وموجات الجاذبية. في صيغة واحدة، تم إخفاء جميع أنواع المفاجآت. هذه هي أعجوبة الفيزياء النظرية، من خلال وضع الأفكار في شكل يمكن القول إنه صلب ودقيق، يأخذنا إلى أبعد مما كنا نتخيله. كانت الفلسفة قد توقعت ذلك. قال أفلاطون لعلماء الفلك إن فيثاغورس: "استخدم الهندسة لفهم حركات السماء وولد العلم من هذا الحدس: من الممكن التنبؤ بالظواهر." لا يزال العمل الذي كتبه بطليموس في القرن الأول يجعل من الممكن التنبؤ بشكل صحيح بحركات الكواكب التي نراها اليوم في السماء. نحن نعتمد على ما نعرفه، وما نفهمه، للقفز، بالقياس، نحو البقية ولكن أيضًا لانتقاد الماضي وأدلتنا. يمكن أن يقودنا دليل صغير إلى استنتاجات رئيسية: الظل الذي ألقته الأرض أثناء خسوف القمر، دائمًا مستديرًا بغض النظر عن الوقت واتجاه كوكبنا، كان كافياً لإقناع الجميع، قبل خمسة قرون قبل يسوع المسيح بأننا نعيش جالسين على حصاة كبيرة مستديرة! المحرك دائمًا هو المفاجأة والفضول، كما قال أرسطو: "الذهول هو أصل رغبتنا في المعرفة". هوبرت ريفز: "لقد ولدنا من النجوم والانفجار العظيم هو قصتنا" يصل إلينا الضوء القادم من النجوم البعيدة عندما لم يعد لها وجود بسبب بعدهم، ولكن ليس هذا فقط. قام علماء الفيزياء باكتشاف مذهل آخر: الحاضر، كما نفهمه، غير موجود ... كل جسم، كل ظاهرة في الكون، تنتج زمنها الخاص، وإيقاعها يتحدد بتأثير الكتل المجاورة ولكن أيضًا، كما يفعل أينشتاين أيضًا تكون مفهومة، وفقًا للسرعة التي تتحرك بها: تعمل الحركة أيضًا على إبطاء الظواهر، وتقلص الزمن. في فيلم بين النجوم أنترستيلير "Interstellar»، عندما يعود البطل إلى الأرض بعد مروره بالقرب من ثقب أسود، يجد ابنته. لقد تركها عندما كانت طفلة بعمر العاشرة، وأصبحت أكبر منه بكثير بعمر التسعين. هذا ليس خيالًا علميًا ولكنه عرض دقيق للواقع لم تتح لنا الفرصة بعد ملاحظته. كان الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، العالم كيب ثورن، المتخصص في الثقوب السوداء وموجات الجاذبية، تم تعيينه كمستشار فني قام بحساب العمر الذي يمكن أن تحصل عليه الإبنة – الجدة. لذلك عندما نقول كلمة "الآن" فهي لا تعني شيئا إنها من نسج العقل، في الواقع لا شيء يحدث في وقت واحد هنا وفي أي مكان آخر في الكون؟ هذه إحدى نتائج تشوهات الزمن: يتم تعريف مفهوم "الحاضر" من حولنا فقط. السؤال: ما يحدث الآن، على سبيل المثال، على كوكب بروكسيما ب - أقرب كوكب خارج المجموعة الشمسية إلينا، على بُعد أربع سنوات ضوئية من الأرض - لا معنى له. إذا تمكنا من مراقبة هذا الكوكب باستخدام التلسكوب، فسنرى ما حدث قبل أربع سنوات. تُظهر نظرية النسبية العامة أن الكون لا يحكمه ترتيب واحد، بل سديم الأزمنة "المحلية". معادلاتها تجعل من الممكن حساب الفرق الموجود بينها وبين تطورها فيما يتعلق ببعضها البعض. ما نسميه "الآن"، هو مجرد فقاعة زمنية حول الأرض، إذا حددناها، على سبيل المثال بالنانو ثانية، فإنها تمتد فقط بضعة أمتار، أما إذا حددناها في أجزاء من الألف من الثانية فسوف تمتد لعدة كيلومترات. إن فكرة وجود "حاضر" محدد عبر الكون هي استقراء غير شرعي من تجربتنا. ربما كان أغرب ما اكتشفه أينشتاين هو أن بعض الأحداث ليست في الماضي تمامًا ولا في المستقبل بالكامل، ولكن في الفاصل بين الاثنين، نوع من "الحاضر الممتد" الذي يمكن أن تكون مدته طويلة جدًا: ثلاثون دقيقة على المريخ، ثمانية سنوات على Proxima b ... "الديناميكا الحرارية فقط هي التي تعرف اتجاه الزمن"؟ هذا هو أكثر ما يهمنا، هذا التيار الأبدي الذي ينطلق من الماضي الذي حدث والذي لم يعد بالإمكان تغييره، نحو المستقبل غير المؤكد، الأسباب التي تسبق الآثار والنتائج. واجهت فيزياء القرنين التاسع عشر والعشرين اكتشافًا مثيرًا للقلق: القوانين الأولية التي تصف آليات العالم - الميكانيكا والجاذبية والكهرباء والمغناطيسية - لا تميز الماضي عن المستقبل، معادلاتها لا تعرف الزمن. واحد فقط يعرف اتجاه الزمن، وينص على معنى في كشف الظواهر. أعلن العالم الألماني رودولف كلاوسيوس أن هذا هو القانون الثاني للديناميكا الحرارية، حيث ينص على أن: "الحرارة لا يمكن أن تنتقل تلقائيًا من الجسم البارد إلى الجسم الساخن." سقوط الكرة على سبيل المثال، يمكن أن ترتد، وتنتقل من أعلى إلى أسفل أو العكس، ولكن في حالة عدم وجود تغيير خارجي، لا يمكن أن "ترتفع" حرارة الجسم من الساخن إلى البارد. الفرق بين الماضي والمستقبل هو هذا فقط، هذا الممر من الحار إلى البارد. سمى كلوسيوس ذلك "الإنتروبيا" مقياس هذه الكمية من الحركة غير القابلة للعكس للحرارة. إذن الحرارة لا تزيد من تلقاء نفسها في الفضاء؟ لتوليد حرارة النار، على سبيل المثال، عليك تدمير الحطب وليس من الممكن العودة إلى الوراء، فهو فعل لا رجعة فيه، لا يمكنك إعادة الرماد إلى حالة الخشب. هذا هو ما يفصل بين الماضي والمستقبل، لكنه اختلاف طفيف، لأن طبيعة الحرارة معقدة ومرتبطة بوصف غير دقيق للعالم. لا نعرف بعد لماذا، في النهاية، ننتقل من الماضي إلى المستقبل. في الماضي، كانت الأمور أكثر تنظيماً وبرودة، لكن لماذا هذا، لا نعرف، لا يزال هذا لغزًا. "النيازك هي رسل الماضي" لدينا، كما توضح، رؤية "غامضة" للزمن والمادة والتي تمنعنا من فهم كيفية عملها بشكل أفضل. الحدس العظيم لودفيغ بولتزمان ومعاصريه هو أن الحرارة ليست مائعًا. أظهر هذا العالم والفيلسوف النمساوي من نهاية القرن التاسع عشر بوضوح أنه نتاج التحريض المجهري للجسيمات. عندما ننظر إلى كوب من الماء، نراه عندما يرى رواد الفضاء الأرض من القمر: كرة هادئة مزرقة، لا يخمنون شيئًا عن صخب الحياة والنباتات والحيوانات. في انعكاسات كأس ثابت من الماء، يخفي النشاط المضطرب لعدد لا يحصى من الجزيئات المائية، عددًا أكبر بكثير من جميع الكائنات الحية على الأرض. هذا التحريض يمزج كل شيء، إذا كانت بعض الجزيئات ثابتة وباردة، يتم جرها من قبل الآخرين، ينتشر التحريض، تصطدم الجزيئات وتدفع بعضها البعض وتسخن. الفرق بين الماضي والمستقبل غير موجود في القوانين الأساسية للحركة، ولا في القواعد العميقة للطبيعة، ولكن في هذا الاضطراب الطبيعي الذي انتشر منذ ولادة الكون. ومع ذلك، إذا نظرنا إلى الجزيئات الفردية أثناء الحركة، فلا يزال من المستحيل بالنسبة لنا التمييز بين الماضي والمستقبل على هذا النطاق، ولا نعرف ما الذي يميزهما. "خطأ في التطور" على أية حال، اكتشف العلماء في العصور القديمة الكثير عن طبيعة الزمن. بالنسبة لأرسطو، الزمن هو مقياس التغيير المستمر للأشياء، للمرور بين حدث وآخر. حيث لم يحدث شيء، فالزمن، باختصار، لا وجود له. على العكس من ذلك، افترض نيوتن وجود زمن مطلق يتدفق بشكل مستقل عن العالم وظواهره. أظهر أينشتاين أن كلاهما كان على حق في نفس الوقت. التعريف العام الذي قدمه أرسطو وثيق الصلة، ولكن كما كان لدى نيوتن الحدس، هناك بالفعل إطار مستقل ينسج الزمن: إنه مجال الجاذبية الذي يتفاعل مع جميع المجالات الأخرى. أطلق عليها أينشتاين اسم "قنديل البحر". لكن هذا المجال ليس مطلقًا ولا موحدًا. إنه يتجعد مثل الآخرين. إذا كانت الساعات تبطئ، فذلك بسبب اختلاف الجاذبية، يتشوه هذا المجال، ويكون مرنًا ويمتد حيث يكون الزمن أطول، ويتقلص حيث يكون أسرع. وفيما يتعلق بالمادة، هناك، بطريقة ما، جسيمات الزمن الأولية ... هذا هو مسار المقاربة العلمية في، مجال الجاذبية الكمومية. ما زلنا نحاول فهم الطبيعة الكمية للزمن. نعتقد أن مجال الجاذبية لا يفلت من خصائص الذرات، فهو مثل المادة، ليس مستمرًا ولكنه يتكون من "حبيبات"، من الكوانتات وأن هناك حدًا أدنى للفاصل الزمني، وهو نوع من عنصر الجسيم في الوقت الذي يستحيل تقسيمه. لدينا فكرة جيدة عن قيمة تلك الحبيبات. يقول روفيللي: أثناء تأليف هذا الكتاب، أدركت أنه بطريقة غير عادية إلى حد ما، إنها فكرة قديمة، أثارها بالفعل بعض العلماء في العصور الوسطى. "الرياضيات ليست غير إنسانية" إن مرور الساعات والثواني هو أيضًا عبارة عن علاقة بالنفس، أنت تقول إن دماغنا هو آلة للسفر عبر الزمن مما يجعلنا نخاف الموتى وهذا خطأً؟ الزمن الذي نعيش فيه ليس زمن الفيزياء فقط. كتب مارسيل بروست من وحي هذا الحدس الذي أكده علم الأعصاب: ما ندركه مع مرور الزمن يأتي من ذاكرتنا، من بنية دماغنا. الزمن يجعلنا، يفككنا وهو مشحون بالعواطف. إن جنسنا البشري لديه ذاكرة أكثر تطوراً ولكن لديه أيضًا قدرة كبيرة جدًا على التوقع مما دفعنا إلى إدراك محدوديتنا والخوف من الموت. يبدو لي أن هذا نوع من خطأ في التطور. الخطر المباشر، قرب زناد الموت ردود الفعل العنيفة في الثدييات التي يكون اهتمامها بالتطور واضحًا جدًا. إنهم يحشدون قواتهم للهروب، مما يؤدي إلى انفجار. لكن لحظة التأهب القصوى هذه لا تدوم. بمجرد زوال الخطر، تعود الحياة الطبيعية إلى مسارها. بالنسبة لنا، فإن إدراك أننا سنموت قد تسبب في حدوث نوع من قصر الدائرة المعرفية مع غريزة البقاء الفورية. يتجه عدد كبير من الآليات في الأحياء نحو الموت، فالخلايا لديها عمليات تدمير ذاتي حتى نتمكن من الاستمرار في الوجود. نحن أنفسنا سنموت حتى تستمر الحياة. رد فعلنا العاطفي البشري المحدد للغاية هو مرض. أعتقد أننا يجب أن نشفى من خلال الاعتراف بأن الفناء هو الذي يجعل حياتنا ثمينة.

 

عرض د. جواد بشارة

 

اهداء: اهدي كتابي هذا لابنتي الغالية بان اليوسف بكل اعتزاز على ما بذلته من جهود مضنية في تنسيقها الكتاب وغيره من مؤلفاتي كلما وجدتني ارهقني المرض جزاها الله عني خير الجزاء.

المحتويات

المقدمة

الفصل الاول: المجانسة النوعية في المتناهي والمطلق.

الفصل الثاني: المكان .. المادة والفراغ.

الفصل الثالث: زمن الحاضر الوهمي.

الفصل الرابع: كانط.. محض الصورة والمحتوى.

الفصل الخامس: حوار فلسفي افتراضي.

الفصل السادس:الاسقاط النفسي والزمن.

الفصل السابع: جاستون باشلار: الجدل والعدم.

الفصل الثامن: جدل الجدل والمجانسة النوعية.

الفصل التاسع: الحدس والمكان.

الفصل العاشر: سارتر وفلسفة اللغة.

الفصل الحادي عشر:  انطولوجيا الادراك ..الفكر واللغة.

الفصل الثاني عشر: نظرية السلوك اللفظي .

الفصل الثالث عشر: اللغة بين الفطرة والسيرورة اللغوية المكتسبة.

الفصل الرابع عشر: فلسفة اللغة ومصادرة جدل الفكر.

الفصل الخامس عشر: نقد فلسفة اللغة التوليدية عند نعوم جومسكي.

الفصل السادس عشر:الفكر واللغة في تخليق الوجود.

الفصل السابع عشر: اللغة اختلاف دلالة المعنى ومطابقة التفكير.

الفصل الثامن عشر: اللغة الصوت وحدة التعبير واختلاف المصطلح.

الفصل التاسع عشر: كارل بوبر والثورة العلمية.

الفصل العشرون: الجدل  وطبيعة العقل.

الفصل الحادي والعشرون: هيجل وطبيعة التفكير المثالي.

الفصل الثاني والعشرون: مداخلات فلسفية.

الفصل الثالث والعشرون: تناص بعض المشتركات الفلسفية.

الفصل الرابع والعشرون: موضوعات فلسفية.. تحليل نقدي.

الفصل الخامس والعشرون: الذات والمعنى الادراكي.

الفصل السادس والعشرون: قطوعات في فلسفة العقل.

الفصل السابع والعشرون: ساتيانا والمذهب الطبيعي في الفلسفة الامريكية المعاصرة.

الفصل الثامن والعشرون: الجوهر في المادة والميتافيزيقيا.

الفصل التاسع والعشرون: البوذية الصوفية والطبيعة.

الفصل الثلاثون: جدل التاريخ حقيقة انثروبولوجية ام وهم فلسفي مصنوع؟

الفصل الواحد والثلاثون: موضوعات اشكالية من تاريخ الفلسفة.

الفصل الثاني والثلاثون: الحلول الصوفي الذاتي في الطبيعة / البوذية مثالا .

الفصل الثالث والثلاثون: ادراك الوجود في تخليق العقل.

المقدمة

ثلاثة وثلاثون فصلا موزعة بين مقالة نقدية ومبحث فلسفي تتضمنها ثلاثة اقسام كما اعتدته في مؤلفاتي السابقة هي إضمامة متنوعة في فلسفة اللغة والعقل والفكر والوعي والزمن الفلسفي الوجود والمعرفة وقضايا اخرى تخص الفلسفة الغربية المعاصرة حصرا. تناولتها بمنهج نقدي واقعي في ملازمة الفكر واللغة والعقل مباحث الفلسفة المعاصرة منذ منتصف القرن العشرين حينما تسيدت فلسفة اللغة تاريخ الفلسفة بدلا عن الابستمولوجيا التي كانت متسيدة تاريخ الفلسفة منذ القرن السابع عشر لدى ديكارت.

في مقدمة هذا الكتاب الذي ادين بنشره وتوزيعه لدار غيداء الاردنية بشخص مديرها العام الاستاذ غسان حسين الذي عبرت بتعاونه معي  حاجز تأليف العشرين كتابا من اصدارات دار غيداء الفلسفية لي. واقولها باعتزاز اني في كل كتاب جديد ادفعه للدار اتوخى هدفين اولهما اضافة نوعية لما سبق من افكار فلسفية تضمنتها كتبي. الهدف الثاني مراجعة كل الاخطاء التي وردت في مؤلفاتي السابقة. عملا بالمنهج الذي اتبعه الفيلسوف الانجليزي العملاق بيرتراند راسل الذي جعل من منهجه التغيير الفلسفي قاسما مشتركا على مستوى الفلسفة ومستوى فهمه الحياة .

اجد  التقديم المبتسر لمحتوى الكتاب أنه لا فائدة من الخوض بتعريفات مختصرة لفصوله ومحتوياته حتى لو كان عرضا سريعا اجده يربك القاريء لما يحتويه من فصول فلسفية متنوعة. الكتاب يشمل ثلاثة وثلاثون مبحثا فلسفيا لا تستوعبها مقدمة بعشرات الصفحات لكن ارغب تاكيد بعض الثوابت التي لا أحيد ولم أحد عنها في كتاباتي الفلسفية السابقة:

- لا يوجد حسب قناعتي الشخصية الثقافية ومن خلال تجربتي في متابعة مباحث فلسفية غربية معاصرة منوعة، فيلسوفا واحدا تناول مبحثا في الفلسفة الغربية المعاصرة تحمل اراؤه هي تمام الصواب وكمال العصمة بما يجعله فيلسوفا بمنأى عن النقد الفلسفي الموضوعي غير المتحامل ولا المشخصن تحت تاثير دوافع سياسية ولا حتى دوافع دينية أو عرقية، فمثل هذا التوجه لا يمثل عندي منهجا اعتمده، وانما  بحثي عن الحقيقة الفلسفية يلازمني ملازمة الظل وهو ما امارسه بتقويم كتاباتي المنشورة على مواقع التواصل الثقافي العربية الالكترونية على الدوام إذ كلما وجدت نفسي مخطئا في بعض من عبارات توزعت هنا وهناك في مقالاتي الفلسفية المنشورة وكتبي اقوم بعالجة تصحيحها بما تسعفني به الحيلة والمنهج والوسيلة. فلا يصبح الخطأ في دوام التقادم الزمني صحيحا فلا بد ان ياتي عليه يوما يكنسه التقدم المعرفي.

- لم اكتب بهذا الكتاب ولا في سابقيه هوامش ولا ملاحق لفيلسوف غربي بعينه في تمجيده مجانيا وتسويقه عربيا بما لا تحتمله افكاره الفلسفية كما يفعل غيري من المهتمين بدراسة تاريخ الفلسفة، بل مارست المنهج النقدي المادي في مطارحتي النقاشية لافكار كل فيلسوف اجده في بعض آرائه الفلسفية مخطئا ومن واجبي التعريف بتلك الاخطاء في مقارعتها بالحجة او الاشارة لها وتفنيدها واستطيع تلخيص ما ذهبت له ان جوهر الفلسفة كما عرفها فلاسفة عديدون انها  اسئلة متناسلة لا تنتهي تبحث عن اجابات تكون هي بدورها حلقة وصل متسائل على الدوام....،مباحث الفلسفة لا تعنى الاجابة عن تساؤلات تتناولها بل هي تستولد من تلك الاسئلة اسئلة اخرى تبحث عمن يتناولها بمنهج نقدي غير تسليمي انه اي الباحث وصل الى نهايات فلسفية لقضايا لا تقبل بعدها تناسل الاسئلة من مبحثه قيد التناول.. الفلسفة هي تاريخ نقد المعنى في اخطاء اللغة حسب فينجشتين وكذا اخطاء العلوم وكل مظاهر الحياة.

- وكما لم اعتد كتابة عناوين كبيرة عريضة على اغلفة كتبي ليجدها القاريء لا معنى مضموني تحتويه يطابق العنونة يستحق القراءة واضاعة الوقت في المطالعة سواء لاغراض دراسية او لاغراض ثقافية معرفية.. فالمحتوى حتى بالنسبة لافكار فلاسفة اجانب تكون الترجمة فقيرة جدا من ناحية عدم الالتزام بالترجمة الامينة في سيل كبير من الاصدارات يتوزع اوطاننا العربية سواء بالفلسفة او الاجناس الادبية الاخرى. مؤلفات بعيدة جدا عن اعطاء عنونة الكتاب استحقاقها كمحتوى.

كي يصار بعدها خلع الالقاب والتمجيد المجاني الفارغ لضحالة المطبوع في عبقرية فيلسوف يخلعها عليه توصيف الناقد الضحل فلسفيا كما هو القاريء غير الحصيف التي يروّج للتضليل عن عدم دراية وفهم..

- كما اني لم اخادع القاريء العربي في نسخ اراء فيلسوف او اكثرفي كتاباتي كما يفعل غيري وينسبها له من بداية عنونة الكتاب ولا استثني سوى القليل النادر الضائع في بحر من  كتابات معادة ومكررة بكتب وبحوث مترجمة وغير مترجمة اشبعوها الباحثون العرب استعراضا بحجة اصدار تحقيقات ما هو جديد من توضيح او شرح مضاف وتحليل غير مسبوق هو في حقيقته تكرار لا جديد ولا اضافة فيه.

- واجد بعض دور النشر وقعت بالفخ تحت وطأة مغريات تسويق الهابط لقاء تسليع المنتج الثقافي تجاريا. فعمدت تسويق الكثير من المؤلفات الضحلة خاصة في الرواية والشعر والنقد الادبي تتقدمهم الفلسفة والعلوم الانسانية بمجملها مثل السرديات الكبرى التاريخ والاديان والعلوم الانسانية. التي بدات حفريات الاركيولوجيا العلمية تعرية تلك الاراء والنظريات القائمة على المزاج او الايديولوجيا بعيدا عن موضوعية ما تقوله التنقيبات الاثارية والمدونات التي تمت مناقشتها بمنطق مستجدات العلم. على حساب تغييب حقائق ومؤلفات تستحق وعن جدارة الاهتمام غير المسبوق بها. ومثال ما يصحح نقد تاريخ الانسان انثروبولوجيا يصلح نقد بقية اجناس العلوم الانسانية.

انا لا ادعو في كلماتي الاخيرة هذه اننا يجب ان نحتكم في امور الفلسفة في تسليمنا تبعيتها العمياء وراء منجزات العلم، بل اجد المعيار الحقيقي في الاحتكام للوصول الى قناعات ليست نهائية انما تكون المقايسة المعيارية فيها مرجعية العقل وتطور العلوم.

- الاعلام العربي الماجور المملوك لدول ومؤسسات ودور نشر عربية تمارس العهر الثقافي الاخلاقي في تلميع وتقديم اسماء تمنح لهم الامتيازات في مهازل مهرجانات تقام لهذا الهدف تحت عنوان خدمة مستقبل الثقافة العربية ممن يمتهنون ازدواجية النفاق الكاذب الذي ترعاه دول ومؤسسات عربية -  اجنبية افتضح امرها وبعضها الزمن القادم كفيل بتعريتها. كل ابداع ثقافي فني تصنعه دولة يكون كاذبا مخادعا وتضليليا ليخدم اغراضا سياسية في تضليل الشعوب ثقافيا حقيقيا بل يعمدون الى وسائل ملهاة باهتة وبائسة في الركض وراء كسب هتافات الجمهور وتصفيقه الضاحك في دفن حقائق مآسي حياة وبؤس وفقر وظلم ترزح تحته بالاخص الشعوب العربية التي يجري تعليب تفكيرها كما هو حال القطيع.

- كتابي هذا يحتوي اضمامة كبيرة متنوعة من مواضيع مختلفة ومباحث فلسفية عالجتها بالطرح والمناقشة بعيدا عن تقعرات واستعصاءات لغة الفلسفة الاستعراضية المتداولة، املي ان تشبع نهم القاريء الحصيف الذي يلاحق الابداع الحقيقي الجاد بالفلسفة بعيدا عن متابعة اصحاب اصدارات ملازم الخواء الفلسفي في مسعاهم بناء امجاد ثقافية كاذبة وهم في حقيقتهم أدعياء خالي الوفاض من فكرفلسفي جاد يؤسس لمشروع فلسفي عربي. وجميعهم من حملة الشهادات الاكاديمية العليا الزائفة المشتراة من قبل اشخاص امييين لا يفقهون حتى من اللغة العربية ابجديتها النحوية فكيف يكون الحال في انتحالهم موقع المترجم المتمكن الى العربية عن اللغات الاجنبية.

- مباحث الفلسفة تراكمات نوعية مفتوحة في محاولة الاجابة عن اسئلة بلا نهايات ختامية تعجز إيقاف علامات الاستفهامات المتناسلة بلا حدود تقطعها عن النهايات. في الفلسفة مباحث تبقى تساؤلات لم توف الدراسات السابقة حق الاجابة الشافية عنها وهي مسالة طبيعية لا غرابة فيها. وتبقى مهمة من يعنى بقضايا الفلسفة تقصي التصويب في المخطوء المتداول الذي يراكم الاخطاء في سد الفراغ الشاغر بلا كفاءة ولا اهلية مايزيد التعقيد تعقيدا يورثه لمن بعده كعبء ليس ميسورا ولا سهلا معالجته. التوفيق كل التوفيق لمن يحمل راية الفلسفة الحقة بكفاءة ونقد متكافيء مع المنقود الاجنبي ونقد مؤلفات هوامش ما يسمى كتاب عرض حال الفلسفة العربية.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

نيسان 2022

الرسامون هم بين الباحثين عن حجر الفلاسفة، هؤلاء الذين إقتربوا من طبيعة سر التوازن الكوني. من هنا نشأت أهميتهم في الحياة العصرية. أنا أعني الرسامين الحقيقيين، العظام.العلماء، مثل الرسامين، يجرون وراء سر الحياة، والحقيقيون، العظام منهم، يخرقون ما وراء المظاهر. وبحثهم نزيه أيضاً، وهو يعني شيئاً بسيطا جداً :إعطاء البشر الجنة الأرضية ثانية.

جان رينوار من كتابه " رينوار... أبي"

كان أبي ينتظرني جالساً على كرسيه المتحرك، لم يعد يقوى على المشي، منذ سنوات عدة، وجدته أكثر هزالاً من المرة الأخيرة التي رأيته فيها قبل أن أغادر إلى الجبهة"

مذكرات جان رينوار التي نشرتها دار المدى بترجمة عباس المفرجي، حدث فني وثقافي بالغ الأهمية والأثر، استوت فيه لغة الأدب على عرش الفن، بالغ الاقتصاد، بالغ الإفصاح، مقتدر في التعبير عن خفايا النفس البشرية، رحب في المضمون، يضم أسرار فترة زاهية من التاريخ الثقافي في فرنسا.

عندما انتهيت من قراءة الكتاب بصفحاته الـ"500"اكتشفت أن رينوار المخرج أراد أن يجلس على كرسي والده الرسام ليقدّم لنا لوحة متناقضة الألوان، ويعلمنا أسرار حرفة الفن.. فالصفحات التي كتبها أشبة بقطع فنية من معدن نفيس نادر.

يعود إلى ذكريات الطفولة"كان أبي وهو يحدثني عن طفولته، ينتثل بلا تمهيد من الوصف الحماسي للجمال المعماري للحيّ الذي عاش فيه، إلى الثناء الذي لا يقل حمية عن لعبة الدعبل".

نراه ينظر بأسى إلى شارعهم القديم وقد تغيّر: "ثمة أشجار برتقال قرب منزلنا مغطاة بالزهور، أحدّق بها واستنشق عبيرها، حين أرى شجرة برتقال تكسوها الزهور أفكر في شارعنا، والتفكير يستحضر في الحال هيئة أبي، هناك قضى أجمل السنوات الأخيرة من عمره."

ترى أين ذهبت أشجار البرتقال؟

ليست الأفكار والذكريات التي تطرحها هذه القطع الفنية حكايات كتبت لكي تُقال، لكنها أفكار ولدت لكي تكتب بأدقّ تفاصيلها وظلال ألوانها، تقدّم للقارئ وكأنها شريط سينمائي له روح وجسد.. إن رينوار الابن يرى حياة رينوار الأب بعين أشبه بعدسة الكاميرا.

في رسالة يبعثها المخرج السينمائي جان رينوار الى أحد ناشري الكتب يقول فيها:"إن ما أريد أن أقوم به هنا إنما هو محاولة لصوغ ما أملكه من تجميع لمحادثات كنت أجريتها مع والدي خلال السنوات الأخيرة من حياته، في معظم الأحيان. في الحقيقة أنني لن أنقل الحوارات الحقيقية التي لا أتذكرها، لكنني سأحاول أن أعطي فكرة عن انطباعاتي القديمة حول لقاءاتي معه، وعن الكيفية التي تمارس فيها تلك اللقاءات تأثيرها عليّ حتى اليوم. وهي كانت تشهد بيننا تلك المحادثات التي تطاول كل شيء: تجارب والدي الماضية، طفولته، عائلتنا، أصدقاؤه، ملابسات حياته وإدارتها. وكذلك تطاول كثيراً من الشكوك التي كانت تدور في خلده في ما يتعلق بالتبدلات السريعة التي تحدث في عالمنا المعاصر». كان تاريخ الرسالة آذار عام 1953، ارسلها المخرج السينمائي من هوليوود حيث كان يقيم هناك، معلناً للمرة الأولى عن رغبته في إصدار كتاب حول أبيه يروي فيه حكاية الابن مع والد مشهور، كان رينوار آنذاك في التاسعة والخمسين من عمره، وقد مضى اكثر من ثلاثين عاماً على رحيل والده الرسام الشهير أوغست رينوار، والذي كان يعد أبرز روّاد المدرسة الانطباعية، وبعد تسع سنوات ينتهي الابن من كتابة سيرة الاب عام 1961.

عندما صدر الكتاب كان جان رينوار يبلغ من العمر ثمانية وستين عاماً، بعنوان"رينوار ابي" حيث يعيد فيه المخرج الشهير لحظات حميمية وممتعة جمعته بوالده شيخ الانطباعيين، وإضافة إلى ذكريات الابن عن والده، استعان رينوار بعدد كبير من معارف والده والمقربين منه، ما إن تنتهي من الصفحة الأخيرة من الكتاب حتى تشعر كقارئ بأن أمواجاً لا تنتهي من الذكريات تأخذك الى عالم ساحر.. المذهل في"صفحات رينوار ابي"أنك وأنت تقرأ تشعر بأنّ كل صفحة من الكتاب أشبه بقطعة شعر صغيرة، تتبع مسار شاعرها.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

مبحث الوعي في الفلسفة المعاصرة

اهداء

الى ابنتي الغالية بان اليوسف على جهدها المثابر

بمساعدتي تنضيد الكتاب

المحتويات

المقدمة

الفصل الاول: مصطلح الوعي القصدي الفلسفي

الفصل الثاني: اشكالية وعي الذات فلسفيا

الفصل الثالث: الصوفية وعي الذات والطبيعة

الفصل الرابع: الوعي واللغة  في تخليق الوجود

الفصل الخامس: الوعي الادراكي والسلوك النفسي

الفصل السادس: الوعي (ديكارت، برينتانو، هوسرل)

الفصل السابع: الوعي القصدي في تداخل العقل واللغة

الفصل الثامن: تخارج اللغة والفكر في التعبير عن الاشياء

الفصل التاسع:  التحول اللغوي ونظرية المعنى

الفصل العاشر: وعي الذات في الوجودية والفينامينالوجيا

الفصل الحادي عشر: لغة الصوت خاصية التعبير عن المعنى

الفصل الثاني عشر: الانسان مقياس كل شيء.. بروتاغوراس

الفصل الثالث عشر: الوعي وفلسفة العقل

الفصل الرابع عشر: غياب الزمن في وهم الدلالة

الفصل الخامس عشر: انحراف التحول اللغوي ونظرية المعنى في الفسفة المعاصرة

الفصل السادس عشر:حدس المكان والفراغ

الفصل السابع عشر: تمثل الادراك وتعبير اللغة عن الوجود

الفصل الثامن عشر: فائض المعنى في الوعي واللغة

الفصل التاسع عشر: الادراك الصوري وتعبير اللغة

الفصل العشرون: آلان تورين الذات والحرية المسؤولة

الفصل الحادي والعشرون: الوجود ادراك لغوي

الفصل الثاني والعشرون:اللغة التوليدية الفطرة والسيرورة المكتسبة

الفصل الثالث والعشرون: ماهية العقل بدلالة بيولوجيا الجسد

الفصل الرابع والعشرون:مصداقية تعبير اللغة وقصور الفكر

الفصل الخامس والعشرون: مداخلات فلسفية تحليلية نقدية

الفصل السادس والعشرون: وعي الذات الخالص ميتافيزيقا وهمية

الفصل السابع والعشرون: الوعي القصدي في فلسفة جون سيرن

الفصل الثامن والعشرون: ميتافيزيقا الوجود بدلالة الجوهر

الفصل التاسع والعشرون: حوار الفلاسفة (ارسطو، ديكارت،اسبينوزا، بيركلي)

الفصل الثلاثون: اشكالية الادراك الانطولوجي

الفصل الواحد والثلاثون: الادراك الصوري وتعبير اللغة

الفصل الثاني والثلاثون: الجوهر والطبيعة

المقدمة

مارست النشر في الصحف العراقية والعربية منذ سبعينيات القرن الماضي، وانتقالتي الثقافية النوعية نحو الفلسفة تحديدا كانت في عام 2004 حين اصدرت كتابي الاول سيسيولوجيا الاغتراب قراءة نقدية منهجية طبعة محدودة على نطاق مدينة الموصل ونشرالكتاب بعدها بطبعتين الاولى عام 2011، عن دار الشؤون الثقافية ببغداد والطبعة الثانية عن دار الموسوعات العربية في بيروت عام 2013، وصدر الكتاب طبعة ثالثة عن دار غيداء بالاردن وعرض مع مؤلفات اخرى لي في معرض بغداد الدولي للكتاب 2022 لاول مرة..

إنتقالاتي الثقافية هذه قادتني اخيرا نحو المنهج النقد الفلسفي في قراءة بعض تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة، لم تأت الانتقالة نحو الفلسفة حصيلة دراسة اكاديمية، بل جاءت نتيجة تراكم خبرة ثقافية متنوعة مارستها كتابة ونشرت لما يزيد على  على اربعين عاما في مختلف الاجناس الادبية التي لم اجد طاقتي تستوعبها بتفرد متميز بين سيول من الزبد الذي تسيد ويتسيد مرافق المسؤولية الثقافية والفكرية والادبية بممارسات غير نزيهة تطعن السمعة الثقافية عربيا وعالميا.،

كتبت مجموعة شعرية بعنوان (توهج العشق .. احتضار الكلمات) وكتبت في متنوعات الاجناس الادبية في القصة القصيرة والنقد وفي الثقافة عموما فكانت الحصيلة صدور كتابي (جهات اربع .. مقاربة في وحدة النص) صدر عن دار دجلة في عمان بالاردن  عام 2010 وأعترف الآن بعد مضي 12 عاما  على صدوره انه كان مجموعة خواطر اردت  دمجها في نص اجناسي ادبي غير فلسفي فكانت تنويعات في الادب موزّعة بين القصة القصيرة والشعر والنقد الادبي والخاطرة.

استطيع اختصر لماذا تحوّلت حصيلة مجهوداتي في النشر والتاليف الادبي والثقافي عموما لتستقر في الفلسفة:

الاولى أصبح عندي ميلا ثقافيا شديدا نحو الفلسفة يؤمنه لي هاجسي المدفون في اعماق تجربتي الادبية والصحفية المتواضعة التي وجدتها لا تلبي ما يعتمل في دواخلي النفسية الفكرية من ميل كبير نحو الفلسفة. حيث نضجت تماما عندي في منشوراتي ومؤلفاتي الفلسفية بعد عام 2015 تحديدا.إذ كانت كتاباتي ومؤلفاتي قبلها مزيجا من الادب والفكر والنقد الثقافي تتخللها مطارحات فلسفية عابرة.

الثاني اني لم اكتب مقالا واحدا بالفلسفة متاثرا بالنمط التقليدي الاكاديمي المترجم في نسخ اجتزاءات من تاريخ الفلسفة تعنى بفيلسوف معيّن بشكل حرفي اكاديمي استعراضي يعتمد مرجعية ومصدر تاريخ الفلسفة في متراكمه الاستنساخي الثابت المعاد والمكرر، كما وردنا في قناعة خاطئة على أن تاريخ الفلسفة لا يحتمل النقد النوعي في التصحيح أو الاضافة بل إعتماد النسخ الاستعراضي التكراري المشبع بالتمجيد المجاني بلا اضافة تجديدية  ولا حتى استيعاب جامعي.

حدثني طالب جامعي انه حين اراد التحضير لنيل شهادة الماجستير في موضوع فلسفي واخذ عدة كتب تهم موضوعه واذا به يجد في اربعة كتب نفس الاستنساخات الحرفية حول موضوعه بالنص الحرفي المنقول.

وكان السائد قبل ظهور فلسفة اللغة والعقل ونظرية المعنى بداية القرن العشرين أن تاريخ الفلسفة عند اليونانيين والهنود والصينيين وفي بلاد العالم هو من القدسية التي مرتكزها الثابت مرتكز إعادات وتكرارات لسير ذاتية تخص حياة ومنجزات فلاسفة قدامى ومحدثين منسوخة اعمالهم في الترجمة الحرفية العربية اشبعت تناولا فلسفيا عند عشرات من الاكاديمين العرب العاملين على ترجمة قضايا الفلسفة الغربية في غياب منهج النقد من جهة والشعور بعدم الندّية المتكافئة مع آراء اولئك الفلاسفة بالحوار الموضوعي فلسفيا. وغالبا ما تخون الترجمة الى العربية اصالة النص الاجنبي الفلسفي المترجم وتلقى مسؤولية تهمة الخيانة على اللغة وليس على ترجمة المؤلف غير المؤهلة ولا الامينة..

بخلاف هذا المعنى والتوجه مارست الكتابة الفلسفية (نقدا) منهجيا عن يقين ثابت  لافكار كبار فلاسفة غربيين وجدت في ثنايا مقالاتهم وكتبهم الفلسفية المترجمة الى العربية ثغرات فلسفية خاطئة لا يمكن التسليم والاخذ بها وتمريرها كمسلمات دون مراجعة نقدية صارمة لعيوبها المستترة خلف اسم وفخامة و سمعة الفيلسوف الاجنبي فقط في غض النظر عن مناقشة افكاره بل الانبهار  بمنزلته في الاوساط الاعلامية كنجم فلسفي هوليودي. واترك مسالة التوفيق والنجاح في مسعاي النقدي الفلسفي في مجمل كتاباتي ومؤلفاتي للقراء والمتخصصين في الفلسفة.

من الجدير الذي اود التنويه عنه اني كنت في مسعى المنهج النقدي الفلسفي وهو مشروع عربي متواضع صائب في تقديري سبقني به غيري بنهايات مفتوحة تتقبل النقد الاضافي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أن تاريخ الفلسفة الغربية قديمها وحديثها مليء بالمغالطات والاخطاء القاتلة وميتافيزيقا الافكار ومقولات فلسفية وهمية سفسطائية لا قيمة حقيقية لها تقوم على مرتكز مخادعة التفكير الفلسفي ذاته وليس مغالطة معنى اللغة في التعبير عنه كما هو الحال حين اصبحت فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى منذ النصف الثاني من القرن العشرين ولا زالت الى اليوم مزيحة عن طريقها فلسفة الابستمولوجيا ومباحث علم الاجتماع والاخلاق التي وصلت عصرها  الذي تسيّد الفلسفة قرونا طويلة على يد ديكارت ومن جاء بعده..

اذ كانت البداية الحقيقية في نظرية التحول اللغوي ومتابعة فائض المعنى اللغوي علي يد فيلسوف البنيوية دي سوسير عام 1905 ليعقبها بعد ذلك  فينجشتين وفلاسفة البنيوية وعلماء اللغة تلتها الوضعية المنطقية حلقة فينا اعقبتها تاويلية بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا ليستقر مقام فلسفة اللغة التي اصبحت الفلسفة الاولى في تاريخ الفلسفة الحديث منتصف القرن العشرين بعد تنحية ابستمولوجية فلسفة ديكارت كفلسفة اولى جانبا والتي استمرت قرونا طويلة الى فلسفات جميعها تدور حول نظرية المعنى وفلسفة اللغة كانت الغلبة الريادية فيها لفلاسفة فرنسا بلا منازع.. وبعد استلام فلاسفة وعلماء اللغة الاميركان راية فلسفة اللغة من الفرنسيين والالمان والانكليز حلقة اكسفورد في فلسسفة اللغة التحليلية الوضعية بزعامة براتراند رسل ، جورج مور ، كارناب. فينجشتين، وايتهيد وغيرهم.

خلاصة كل هذا التطور في تاريخ الفلسفة كان هاجسه تاكيد حقيقة أن تاريخ الفلسفة معظمه كان افكارا وهمية ومطارحات فلسفية تجريدية سببها المباشر الاول عدم دقة فهم تعبير اللغة الدقيق في تناول قضايا فلسفية مفتعلة لا قيمة حقيقية واقعية لها، ولم يتم التنبيه الى معالجة اخطائها الفادحة الا في وقت متاخر مع ظهور فلسفة اللغة والتحول اللغوي في نظرية المعنى.

ولي عدة مقالات منشورة وموزعة في ثنايا مؤلفاتي ومواقع عربية الكترونية رأيا توضيحيا في معنى التحول اللغوي وفلسفة اللغة والى ماذا اوصلت تاريخ الفلسفة في نهايات سائبة ربما يتاح لي عرض بعضها لاحقا بهذا الكتاب.

فلسفة العقل واللغة لدى الفرنسيين والاميريكان جعلت منذ نهايات القرن العشرين  فلسفة اللغة هي النسق البنيوي الكلي الذي يوازي الواقع الحياتي ولا يقاطع مسيرة الحياة وخير من توّج هذا الانحراف الاهوج كلا من جاك دريدا ليقتفي اثره بول ريكور وعدد من فلاسفة الانجليز بزعامة بيرتراند راسل في التحليلية. مثل رورتي، وايتهيد ، جورج مور، كارناب، فينجشتين قبل انشقاقه عنهم، وسيلارز ، وسيريل، واخرين. وكذلك كلا من فوكو والتوسير وشتراوس وعديدين غيرهم.

أقولها بأمانة وصراحة أني في كل كتاباتي المنشورة ومؤلفاتي لم اكن سوى طالب معرفة فلسفية لا زلت امارس رغبتي هذه من منطلق استزادة الاطلاع على مباحث فلسفية اجنبية غربية تحديدا، ولم أبلغ مستوى التبحركما يمازحني به بعض المثقفين من الاصدقاء وبعضهم ينعتني بلقب الفيلسوف والمفكر. في أغوار التراث الفلسفي الذي لا يسعني استيعاب النزر اليسير منه بما يحتويه من متراكم خبراتي فلسفي تاريخي لا يمتلك رغم ضخامته تزكية الصواب المليء بالحشو الزائد. من جهة اخرى اهتمامي المتأخر بقضايا الفلسفة اي منذ عام 2011 في صدور اول كتاب لي بالفلسفة عن دار الشؤون الثقافية ببغداد حول فلسفة الاغتراب كنت وقتها صرفت اكثر من 25 عاما في كتابة الشعر والنقد الادبي وخواطر متنوعة.

كما ان الغبن الزمني لازمني حيث اتجهت نحو الفلسفة عام  2004 ما جعلني متاخرا كباحث فلسفي وسط امواج متلاطمة من تمجيد اعلامي كاذب وشراء شهادات وغيرها من الاعيب خبيثة جعلت من الفارغين فلسفيا هم رواد الفلسفة العربية المعاصرة ولحد الآن بما حملوه من امجاد اعلامية زائفة وليست فلسفية حقيقية هيمنت على وظائف التدريس الجامعي وحصد اساتذتها وبعض الهامشيين الطارئين على الفلسفة التلميعات ونيل التكريمات وترقية الشهادات المزيفة التي يفاخرون بها حتى تبعهم في هذه المهزلة الكارثة الكثيرين من السياسيين وخاصة العراقيين في شراء وتزوير شهادات في مختلف الاختصاصات في العلوم الانسانية وحتى في بعض قضايا العلوم الطبيعية... استطيع القول باختصار:

* أن انتقالاتي في الكتابة الفلسفية التي لا تتمحور في غالبية مؤلفاتي في منحى فلسفي واحد تعطي إنطباعا لا أنكره على نفسي وبعض الاساتذة الباحثين في المجال الفلسفي اني استطعت تجاوز حاجز الكتابة التخصصية في موضوع فلسفي معين واحد يتمركز حول اجترار معاد ممل لا يفتح آفاقا فلسفيا جديدة يمكنها التطور الى فلسفات مجددة ناضجة..

* منهجي الفلسفي الذي إعتمدته بكتاباتي تحكمه الضوابط المنهجية التالية التي لم أحد أو أتراجع عنها:

عدم التزامي المنهج الاكاديمي الجامعي الذي يعتوره إستنزاف مجهود الباحث في تغطية سطحية التناول الإستعراضي (مرجعية ثبت هوامش المصادر والمراجع ) باللغات الاجنبية في التناول الفلسفي الذي يعتمد الترجمة الحرفية بتقديس مسرف لما يقوله الفلاسفة الغربيون على أنه يمّثل حقائق الامور. الفلسفة أكاديميا في التدريس والتلقي عند الطلبة في الجامعات العربية من أسوأ أخطائها أنها غيّبت الحس النقدي الممنهج على حساب ترسيخ إعتياد الحفظ والاستظهاراليقيني الساذج بعيدا عن الرؤية المنهجية النقدية في ممارسة نقد الفلسفة.

عمدت الابتعاد التام الكامل عن كتابة العروض الهامشية لافكار فلسفية وردتنا بهالة من المكابرة الفارغة التي أسبغناها عليها، في إهمالنا أهمية ممارسة النقد الفلسفي وبذر نواته لدى طلبة الفلسفة واساتذتها اننا لا يجب ان  نتهيب اسم الفيلسوف في اعدام حقنا المكتسب ضرورة ممارسة منهجية النقد في دراساتنا الفلسفية. واستطيع القول بكل ثقة وامانة اني لم اكتب مقالة فلسفية واحدة لم امارس فيها منهج النقد الفلسفي في مقارعة الحجة بالحجة من منطلق التكافؤ الفكري لا من منطلق مشاعرالاحساس بالدونية الفلسفية التراتيبية كما يروج له البعض ويمارسه من عتبة الادنى بالنسبة لفلاسفة غربيين. ولم أقرأ لفيلسوف غربي أجنبي لم يلازمني هاجس النقد في افكاره في بعضها رغم كل إعجابي به كفيلسوف صاحب نظرية فلسفية خاصة به فيها جوانب ليست نتيجة بهرجة وتسويق وتلميع اعلامي وصل حد التسليع..

***

علي محمد اليوسف /الموصل / حزيران 2022

يعتبر يهود العراق من أقدم الطوائف الدينية التي كانت متواجدة فيه، حيث يرجع تأريخ وجودهم إلى أكثر من 26 قرناً خَلَّت، واستطاعوا رغم مناخ العراق وتقلبات الظروف وترادف الغزوات والحروب أن يتشبثوا بترابه إلى وقتٍ متأخر. حتى أنهم شكلوا في أواسط القرن التاسع عشر نصف سكان بغداد، وتمتعوا دائماً بمكانة اجتماعية مرموقة، وأمسوا يشكلون الدالة الاجتماعية المتبغددة المترفة، ويجسدون روح وذوق بغداد الفني والجمالي.

وجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن اليهود تواجدوا في كل المدن العراقية وشكلّوا جزءاً منسجماً في سياق الحياة الاجتماعية لها، فكانت البصرة تضم إلى صدرها الرحب المتسامح بالفطرة أعداداً غفيرة ترد بالمرتبة الثانية بعد بغداد، والحال سيّان مع مدائن الموصل وكركوك وتكريت والعمارة والناصرية والحلة والديوانية ولا سيما الكفل، وكما أنهم شكلّوا حتى عام 1951م حوالي ربع سكان مدينة سامراء، وما زال حيَّهم وكنيسَّهم يقبع في غرب المدينة على بعد خطوات من روضة الإمامين العسكريين.

وفي أيامنا الحالية يعيش في العراق أقل من ستة أفراد، بعضهم يعيشون قرب كنيس طويق في بغداد وأغلبهم من المسنين، وبتاريخ 10/8/2008م رحلت الدكتورة فيوليت شاؤول طويق ودفنت في مقبرة الحبيبية على أطراف مدينة الثورة في بغداد، وكانت الدكتورة مديرة مستشفى الواسطي في بغداد. وبتاريخ 27 آذار 2021 توفى طبيب وجراح العظام المعروف ظافر فؤاد إلياهو الذي لقب بـطبيب الفقراء، وكان يعمل أيضاً في نفس المستشفى، وهو واحد من آخر اليهود العراقيين الذين ما زالوا يقيمون في بلادهم، ودفن في مقبرة الحبيبية أيضاً، بعد وفاته عن عمر ناهز 62 عاماً. وكان إلياهو قد رفض عروضاً للهجرة خارج العراق على مر السنين، وفضّل البقاء في بلاده.

ولقد استرعى انتباهنا أنه على الرغم من اهتمام العرب خلال الحقبة الماضية بالدراسات التي تتعلق بإسرائيل واليهودية والصهيونية العالمية، إلا أنهم لم يوجهوا اهتمامهم نحو دراسة الصحافة اليهودية ودورها في إيقاظ النشاط الصهيوني في العراق، بل أن المثير للدهشة أن معظم المثقفين العراقيين الذين عاصروا اليهود اثناء وجودهم في العراق قبل حرب 1948م لا يعلمون شيئاً عن طبيعة تلك الصحافة، بل أن بعضهم أبدى اندهاشه عندما علموا أنه كانت تصدر في العراق صحفاً لليهود وكان بعضها يدعو للصهيونية، وإزاء ذلك عقدت العزم على دراسة صحفهم ومجلاتهم ومطابعهم أملاً في أن أسهم بنصيب في خدمة بلادي، وفي أثراء المكتبة العربية بكتاب في أشد الحاجة إليه، ليلقى مزيداً من الضوء على بعض الجوانب المجهولة من تاريخنا مما قد يكون مفيداً لنا في مسيرتنا القادمة.

وقد خضعت الصحافة اليهودية أسوتاً بالصحافة العراقية عامة وكل العاملين فيها طيلة الحكم العثماني وأبان الاحتلال البريطاني للعراق والعهد الملكي لمشيئة السلطات الحاكمة المستبدة. ولم يكن هناك صحيفة واحدة تستطيع التعبير بصدق عن حوائج الناس ولو ظاهرياً، فانعدمت اهميتها في وقت حتّمت عليها التطورات السياسية ونمو الحركة الوطنية الاستقلالية واتساعها وأن تلعب دورها التأريخي في هذا المجال.

ولم تنل الصحافة اليهودية العراقية العناية الكافية في الدراسات التي تناولتها الجامعات والمراكز البحثية العراقية، بالرغم من أنها تشمل مسيرة هذا التاريخ منذُ أن بدأ اليهود العراقيون في احتراف الصحافة بكل أنواعها، فمن الضروري أن نتذكر تاريخ الصحافة اليهودية في العراق ودورها في دعم الجانب السياسي والاقتصادي والأدبي، إلا أن بعض الصحفيين استغلوها لدعم النشاط الصهيوني ومنظماته في العراق، ولم أجد من خلال متابعتي إلا كتاباً يتيماً عن تاريخ الصحافة اليهودية في العراق للدكتور عصام جمعة أحمد المعاضيدي المعاضيدي الصادر عام 2001م.

إن الغاية من هذه الدراسة هي تبيان المراحل المختلفة التي مرت بها الصحافة اليهودية في العراق ضمن واقعها السياسي والفكري والفني. وتبيان التقدم الذي احرزته إلى حد ما في أطارها وفق الفترات الزمنية مع بعض المآخذ عليها والحلول لتلك المآخذ على النطاق الفني والفكري. فالدراسة المتعلقة بالصحافة اليهودية العراقية تتحدد بمولدها منذ عام 1863م ثم تطورها وتقدمها حتى تاريخ افولها، وتدخل فيها العناصر التأريخية المحددة، والعناصر المادية الملموسة.

إن المصادر التي اعتمدتها في هذه الدراسة هي مصادر رئيسية وثانوية. وأقصد بالمصادر الرئيسية الشخصيات الصحفية القدامى من الطائفة اليهودية الذين يعتبرون ثقة في الموضوع الذي نحن بصددة. ومن ناحية أخرى، فأن المصادر الثانوية تتألف من مجموعات الكتب التأريخية والصحف اليهودية العراقية. وقد احتوى الكتاب على مقدمة وثلاثة فصول، تضمن الفصل الأول أوضاع اليهود في العراق، أما الفصل الثاني فقد كُسِرَ بنشأة الصحافة اليهودية وتطورها، والفصل الثالث سلط الضوء على أعلام الصحافة العراقية من اليهود.

وقد صدر الكتاب عن دار الفرات في بابل

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

الحلة 1/10/2022

 

نقل لي أحدُ الأصدقاء العراقيين المتوطنين في القاهرة سنوات طويلة، يقول: زرتُ أحدَ المؤلفين المصريين المشهورين في بيته، وفي سياقِ حديثنا عن الكتابةِ والتأليف، سألتُه عن كيفية مراجعته وتنقيحه لمؤلفاته المطبوعة عندما يريد إعادةَ نشرها، فقال لي: لا أعودُ للكتاب الذي أنشره بعد صدوره أبدًا، لأن العودةَ إليه تضطرُني لإعادة تحريره، بالشكل الذي يدعوني لتغييره جذريًّا، عند مراجعته أشعر كأني أقومُ بتأليف كتابٍ غيره، وذلك لا يشجعني على النظر في مؤلفاتي الصادرة مجددًا.

يقول الجاحظ: "ينبغي لمن كتبَ كتابًا ألّا يكتبُه إلا على أنَّ الناسَ كلَّهم له أعداء، وكلَّهم عالمٌ بالأمور، وكلَّهم متفرغٌ له، ثم لا يَرْضَى بذلك حتى يَدَعَ كتابَه غُفْلًا، فإذا سكنتِ الطبيعةُ وهَدَأتِ الحركةُ، وتَرَاجَعَتِ الأخلاطُ، وعادتِ النّفسُ وافرةً، أعاد النظرَ فيه، فيتوقّف عند فصوله تَوَقُّفَ مَنْ يكون وَزْنُ طَمَعِهِ في السلامةِ أنقصَ من وزن خوفِه من العَيْب". حين أقرأ ما كتبتُه بعد سنوات، أحيانًا أكتئب، وأبتهج أحيانًا أخرى. أكتئبُ لشعوري بوهن شيء من كلماتي، وثغراتِ شيء من أفكاري، ولشعوري بما يفكر فيه القارئُ الذكيُّ، وكيف يتأمل ويدقق ما تقوله الكلماتُ وما لا تقوله وتحجبه. أبتهجُ حين يبادرُ قراءٌ أذكياء في الحديث عن الوثبة الروحية التي عاشوها بعد قراءة هذه الكتابات، وما شاهدوه من ألوان مضيئة لصورة الله في شيء من كلماتها، وانبعاث الثقة بداخلهم في أن الدينَ يمكنُ أن يحيي كلَّ معنى جميل في الحياة، ويمكن أن يوقظَ الضميرَ الأخلاقي، ويُكرِّس التكافلَ العائلي، والتضامنَ المجتمعي، ويخفض طاقةَ الشر التدميرية، ويبعث منابعَ الخير في الأرض، ويجعل صناعةَ السلام والعيشَ المشترَك والتراحم هي المشروع الأبدي للتديّن.

الكتبُ كالأبناء يصعبُ على الإنسان العاطفي الانفصالُ عنهم، مهما كانوا، ومهما تقدّمَ به وبهم العمر. أحيانًا تصير الكتبُ أشدَّ صلة بذلك الكاتب الذي نذرَ عمرَه للكتابة وتفرغَ لها، وأعطاها كلَّ ما يملكُ من وقت وطاقة وجهد وصحة، وتنازل لأجلها عن مباهج الحياة ومتعها المتنوعة، وسجن نفسَه في منفى اختياري، بعيدًا عن الأقرباء والأصدقاء، وتجاهلَ ايقاعَ الحياة اليومية وتفاصيلها، وانسحبَ من الواقع بكلِّ ما يحفلُ به من أحزان وأفراح.

كثيرٌ مما ينشرُ لا تنطبقُ عليه شروطُ الكتابة الحقيقية. الكاتبُ الجاد الذي يهمُه حمايةُ صورته أمامَ نفسه أولًا وأمامَ القراء ثانيًا، لا ينفك من تهيب الكتابة مادام منهمكًا بهذه المهمة الشاقة. يقول همنغواي: "إنّ الكتابةَ تبدو سهلة، غير أنّها في الواقع أشقّ الأعمال في العالم". أحيانًا أكون محرجًا أمام القراء بما أحدثه من تنقيح وتهذيب متواصل في كتاباتي، ومحاولات تصفية متكررة لتنقية العبارات، لئلا تشوبها أكدار. ما يتعبني في الكتابة هو انتقاء الكلمات الحساسة، وبناء العبارات الصافية. حين أكتب أمارس عملية كالمهندس المعماري الذي يهمه الوجه الجمالي للبناء. المعاني حاضرة أحيانًا، ‏ما يرهقني هو استيراد الكلمات العذبة ‏مما هو مختزن في الذاكرة، وأحيانًا أعود إلى قواميس اللغة ومعاجمها عسى أن أجد الكلمات الملائمة لسياق النص. يقول الجاحظ: "المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير".

‏ حاولتُ الخلاصَ من عادة استئناف النظر في كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي" وغيره في الطبعات الجديدة إلا أني فشلت. ما يدعوني لاستئناف قراءة ما أنشرُه وأعملُ على إعادة تحريره وغربلته وتنقيحه وإثرائه كلّ مرة، هو شعوري بأني دائمًا في حالة امتحان أمام القراء الأذكياء. القارئُ الذكي بالقدر الذي يجعلُ الكاتب حذرًا، وخائفًا إلى حدّ الذعر لدى بعض الكتاب، لهذا القارئ بالقدر نفسه منّةٌ وفضلٌ على كلِّ كاتب يريد لكتابته أن تظلَّ قيد التداول، إذ يجعله متيقظًا مسؤولًا عن كلِّ كلمة يكتبُها وفكرة يبوحُ بها. يثيرُ القارئُ الذكيُّ الكاتبَ فيضطره لإعطاء الكتابةِ كلَّ طاقته ووقته، ويستفزُ مواهبَه ومهاراتِه وخبراتِه لحظةَ يكتب. يجعلُ هذا القارئُ عقلَ الكاتب دائم الهمّ بما يعتزمُ كتابته، متى لاحت في ذهنه فكرةٌ تزامنت بمعيتها الكلماتُ المعبرة عنها، وأردفها مخزونُه اللغوي بخيارات لصيغ متناوبة متبادلة للكلمات والعبارات الأقرب لذوقه في بيان تلك الفكرة والكشف عن مضمونها للمتلقي.

ما يشعرني بالرضا وأنا أعمل على إعادة النظر في كتاباتي هو الإدراكُ بأن هذا تقليدٌ تفرضه عليّ مسؤوليتي الأخلاقية تجاه القراء، ويلزمني به ضميري الذي يدعوني لأن أتعاملَ مع كتابتي مثلما أتعاملُ مع ما يكتبُه غيري، الذي أقرأ ما يقولُ على مَهَل، أتفحصُ كلماتِه وأفتشُ عن ثغراتِ أفكاره. عندما أقرأ ما يكتبُه كاتبٌ بعيون الناقد، أبادر لنقد أفكاري وغربلتها بعيون الناقد أيضًا، ولا أترددُ بتمحيصها وتهذيبِ كلماتِها. أعرفُ جيدًا أن الكلماتِ التي تمكث طويلًا في ذاكرة الكتابة تتطلب الكثير من الغربلة والتمحيص والصقل.كلُّ كتابةٍ يتسع عمرُها بمقدار ما تستجيب لعملية التكثيف بالتمحيص والحذف والاختزال.

أحاول كتابةَ تجاربي الذاتية، مشغولٌ على الدوام برحلتي في أعماق نفسي، واستكشافِ الإنسان بدءًا من ذاتي. هذه رحلةٌ لا تنتهي، ولن تقف عند نهايات مغلقة.كلُّ يوم يتكشفُ لي في هذه الرحلة الأبدية ما كنت أجهله في نفسي وغيري، وما لا أعرفه عن العالَم من حولي.

أعرفُ أن كلَّ مَنْ يفكر يخطئ، لا يخطئ إلا مَنْ لا يفكر. لا يتحرر الإنسان من الخطأ غالبًا إلا بعد وقوعه فيه. مَنْ يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ يمتلك القدرة على تغيير ذاته. الخوفُ من الاعتراف بالخطأ خوفٌ من التغيير.كلُّ مرة أريد تجديد طباعة أحد أعمالي الذي مضت على صدوره سنوات أتحمس لإعادة بنائه، حين أبدأ بالمراجعة أقع في مغامرة لم أكن أحتسبها، وكأني أكتب كتابًا جديدًا، إذ أقومُ بعمليات تحرير وتنقيح وشطب وإضافات متنوعة. أظن هذه عادة مؤذية يعاني منها كلُّ كاتب يدركُ أن عقلَ الإنسان مهما فكّر وتأمل وراجع تظلُّ النتائجُ التي ينتهي إليها اجتهاداتٍ بشريةً ناقصة وليست نهائية. طبيعةُ البشر النقص، وهو ما يدعو الإنسانَ لطلب الكمال والكدح لبلوغه. الحكيمُ يدركُ أن بلوغَ الكمال متعذر؛ وذلك ما تشي به الآيةُ القرآنية: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ". يوسف، 76.

موضوعاتُ هذا الكتاب تنشدُ التدليلَ على الحاجة الأبدية للدين، بوصفه حياةً في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية، وتشتركُ في بيان هذه الفكرة المحورية الواحدة بمداخل وتنويعات وبيانات متنوعة، إلا أن فصولَه يمكنُ أن تُقرأ خارجَ تسلسلها في الكتاب، بلا أن يخلَّ ذلك كثيرًا بفهم واستيعاب فصل سابق أو لاحق. وإن كنت أقترح على القارئ أن يصبر على القراءة المتوالية، لأن ترتيب الفصول ومواضعها يعكس سياقها المنطقي وليس عشوائيًّا.

في طبعته الرابعة خضعَ كتابُ "الدين والظمأ الأنطولوجي" لبناءِ شيءٍ من أفكاره، وتهذيبِ شيءٍ من عباراته، وأُعيد ترتيبُ فصوله، واغتنت فقراتُه بإضافات رأيتها ضرورية.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.........................

* مقدمة الطبعة الرابعة لكتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي". يصدر قريبًا عن دار الرافدين في بيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين في بغداد.

مثّلَ الانشغال بقضايا اللّاهوت المسيحيّ، وبأشكال حضور الدين في المجتمعات الغربيّة محورَ اهتمامي، على مدى العقديْن السالفيْن. فقد كان لِعامل العيش في مجتمع كاثوليكي الدور البارز في تيسير الوعي من الداخل بالواقع الدينيّ الغربي، وفي التنبّه إلى قوّة نفاذ المؤسّسات الكَنَسيّة فيه، بعد أن كنتُ أحسبها وهنت، بفعل الغشاوة المضلِّلة لمقولة تَعلْمُن المجتمعات الغربيّة. وجدت نفسي، في مستهلّ مجيئي إلى روما، آوي إلى ديرٍ للرهبان، وما يقتضيه العيش في الدير من حرصٍ على التكوين العلميّ في مجمل تفرّعات اللاهوت المسيحيّ وانشغال بالبحث، بدءًا في جامعة القدّيس توما الأكويني ثم لاحقا في الجامعة الغريغورية وكلتاهما من الجامعات البابوية.

أبقى مدينًا في تلك المغامَرة المعرفية إلى الكردينال مايكل فيتزجيرالد، السكرتير الأسبق للمجلس البابوي للحوار بين الأديان في روما، الذي يَسّر لي ظروف خوض تلك التجربة. فالرجل يطبعه عمقٌ روحيٌّ وسعة نظر، فضلا عن انفتاح على المغاير الدينيّ قلَّ نظيره. جعلتني تلك التجربة أغوصُ في الأحوال المسيحيّة بشتّى تفاصيلها، وأرصد تمثّلات وعيِ الدين عند شرائح اجتماعية متنوّعة، من كهنة مكرَّسين إلى عامة الناس، مرورا بسائر أصناف الغنوصيين واللادينيين. فمنذ ذلك العهد وأنا أنام وأصحو على قرع نواقيس الكنائس، وأعيش على إيقاع مجتمع يستبطن عوائد وعقائد، غير ما ألفته في سابق عهدي. ملمحٌ آخر فارقٌ لتجربة العيش في مجتمع كاثوليكيّ غربيّ، أن أجدَ نفسي ضمن أقليّة عربية، تعيش تغريبة الهجرة بكافة تداعياتها، داخل مجتمع محكوم بسياسات متحوّلة، وما تنطوي عليه تلك الأوضاع من تعايُش وتغايُر وتثاقُف وتنافُر. وهو ما كشف لي عن وجه آخر لمعنى عيش الدين، وما يُمثِّله معنى التعدّدية الدينيّة ضمن سياق التحولات الحديثة.

لكن في غمرة هذا الانشغال بأوضاع الدين في الغرب، كانت قضايا الفكر الإسلامي، وأوضاع العالم العربي، تلاحقني في مقامي الثاني، فقد أضحت المجتمعات العربية تتمثّل لي أدنى قربا ممّا مضى، لِفيْض المعلومات ووَفْرة الأبحاث المتاحة عنها. ناهيك عمّا لازمني من حرصٍ على الإسهام في تطوير الدراسات العلميّة للأديان في البلاد العربية، سواء بما أُترجمه من أعمال عن مناهج دراسة الظواهر الدينية أو بما أكتبه عن أوضاع الدين في الغرب، وتساؤلي عمّا يمكن أن تشكّله المقارَبات الحديثة من أُطر للوعي بظاهرة الدين وبواقع التديّن بشكل عامّ.4581 الامام والكاردنال

فلا شكّ أنّ مطالب الإصلاح، والتجديد، والعقْلنة، والأنْسنة للفكر الديني، قد طُرِحت بإلحاح في البلاد العربية وعلى مؤسّساته العلميّة، منذ تنبيه العلّامة محمد الطاهر ابن عاشور في "أليس الصبح بقريب؟" (يعود الانتهاء من تأليف الكتاب إلى العام 1906) لِما يعتري مؤسّسات التعليم من علل واهتراء. وقد مرَّ على حديث الرجل قرنٌ ونيف، دون قدرة على الانعتاق من الأسر التاريخي الذي تردّت فيه مناهجها. لم تحدث نقلة في الوعي بظواهر الدين، وبتحوّلات "الكائن المتديّن"، وبسُبل الاندماج في العالم، وبالمثل لم يتهيّأْ حرصٌ على مواكبة النّسق العلميّ في الوعي بالرأسمال القداسيّ أكان النابع منه من موروثنا والماثل في مجتمعاتنا، أم الوافد علينا بفعل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم. وكأنّ الأمر عائد إلى وهن بنيويّ جرّاء تقادم المعارف، ومكر التاريخ، وانغلاق البارديغمات. فهناك اِستنزاف للعقل في متاهة العلوم التقليدية، دون قدرة على الخروج من هذا الدوران الثابت، أو إدراك للتبدّلات التي هزّت المعارف، بما يُفضي إلى تلبية مغايرة لحاجات الاجتماع ووعي مستجدّ.

ضمن تلك السياقات تطرّقت جملة من مباحث الكتاب، وبأوجه عدّة وبمقاربات متنوّعة، إلى موضوع حضور الإسلام في العالم، وأيّ السبل يسلك لتجنّب كلّ ما يعكّر إسهامه الإيجابيّ فيه؟ فأحيانا تعوز الوعيُ الإسلاميّ الواقعيةَ اللازمة وأخرى تعوزه الشروط المعرفية، وكلّها عقبات عويصة مدعاة لإخراج المؤمن من التاريخ. فعلى سبيل المثال، لا تسعف القدرات العلميّة المتقادمة دارس العلوم الدينية المسلم للإحاطة العميقة بالمؤسسات الدينية المسيحية وبالتحولات اللاهوتية وبالوقائع المسيحية. وبرغم الحوار بين الطرفين المسيحيّ والإسلامي، يغيب التعويل من جانب هذا الأخير على المقارَبات المعرفية والأبحاث العلميّة. وهو ما يملي إعادة نظر معمَّقة وجادة في أُطر النظر الكلاسيكية لدى الدارس المسلم لنظيره المسيحي بعيدا عن الاستعادة الجامدة للقوالب القديمة. إذ ثمة طريق شبه مهجورة في الدراسات الإسلامية، وهي طريق الأنْسَنة والعلْموة للخطاب، في الدين وحول الدين، كي لا يبقى تواصله مع العالم قاصرا ومحدودا.

أردنا كذلك التطرّق إلى واقع التواصل بين الأديان، ولا سيما بين المسيحيّة والإسلام. فممّا يُلاحَظ في واقع الأديان الراهن، أنّها لا تملك خطّة واضحة مستقلّة عن التوجّهات الإيديولوجية. فالأديان اليوم تشكو من فقدان رابطة روحية أو أساسات خُلقية جامعة بينها. وهو ما يُملي ضرورة العمل على استعادة ذلك الرصيد القِيَميّ وعدم الانجرار وراء الأيديولوجيات، التي أفرغت المؤتلف الإنساني من دلالته الحقيقية وحوّلته إلى خطاب مفتقِر للمعنى. فما من شكّ أنّ قضايا السياسة والديمقراطية والتغيير والتنمية تشغل فئات واسعة في البلدان الإسلامية، وقسمًا هامّا من مجتمعات العالم المسيحيّ، لاسيما في إفريقيا وآسيا والشطر الجنوبي من القارة الأمريكية. أردنا تناول هذا الموضوع ضمن الكتاب لإبراز ما يشكّله الدين من إسهامٍ إيجابي حين يرافق مسار تحرّر الشعوب، ومن دورٍ إشكاليّ أيضا حين يتمّ توظيفه بشكل فجّ. فلا يفوتنا أنّ ثمة تنازعات داخل الدين الواحد، منها ما هو متفجّر ومنها ما هو خامد، تُؤثّر سلبًا في الانحراف بمسارات التحولات الاجتماعية.

نشير إلى أنّ الكتاب لا يسلك مسلك المقارَنة التقليدية في الحديث عن المسيحية والإسلام، بالتطرّق إلى عقائد الدينين وتشريعاتهما، أو عرْض موقف من مسألة معيّنة وما يقابلها في الدين الآخر, كما قد يتبادر للوهلة الأولى، وإنّما يعمل على تتبّع كيف يجابه كِلا الدينين المأزق الراهن في شأن قضايا كبرى مثل التحرّر والفقر، أو كيف يتعايش مع الحداثة والتعددية والمسكونية. لذلك يأتي الكتاب، بتنوّع مباحثه، محاولة لتقصّي حضور الدين في العالم الراهن، بما يمثّله هذا الحضور من تجابه مع قضايا وأسئلة مستجدّة. فما يجمع الدينان اليوم هو الحضور في عالم يطفح بالمتغيرات المتسارعة، تفرض إكراهاتها تجاوُزَ المعالَجة المعهودة للقضايا الدينيّة والدنيويّة. صحيح لا يتعاطى الدينان بالأسلوب نفسه مع قضايا الدين والدنيا، ولكن الحيز المتصاغر للعالم المعوْلَم أضحى يلزم بالتفكير الجماعيّ، لتذليل المصاعب التي تواجه الجميع.

الإمام والكردينال ومعارج الإيلاف

المؤلف: عزالدين عناية

منشورات المتوسط، ميلانو (إيطاليا) 2021

عدد الصفحات: 280

نبذة عن المؤلّف

عزالدين عناية، أستاذ تونسي إيطالي يدرّس في جامعة روما متخصّص في دراسات الحضارات والأديان. صدرت له مجموعة من الأبحاث منها: "الدين في الغرب" 2017، "الأديان الإبراهيمية" 2013، "نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم" 2010، "الاستهواد العربي" 2006؛ فضلا عن عدد هام من الترجمات منها: "المنمنمات الإسلامية" لماريا فيتوريا فونتانا 2015، "علم الاجتماع الديني" لإنزو باتشي 2011، "علم الأديان" لميشال مسلان 2009.

***

د. عزالدين عناية

 

ناقش الدكتور وميض جمال عمر نظمي هذا الموضوع بإسهاب في كتابه: ثورة العشرين / الجذور السياسية والفكرية والإجتماعية للحركة القومية العربية "الإستقلالية" في العراق، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط4 2020 وهو في الأصل أطروحة تقدّم بها نظمي لنيل الدكتوراه في إنكلترا عام 1974.

أول ما يقفز لذهن القارىء المُطَلّع: ما هي الإضافة التي سيُدلي بها الباحث في هذا المجال؟ فقد أُشبعت "ثورة العشرين" بحثاً من عدد كبير من الكُتّاب كما هو معلوم؟

يُقرّ الباحث ب"خصوصية" حالته:

1- فالعيب الأساسي في أكثر الكتابات عن الثورة أنها كانت "أُحادية النظرة"، تميل لتضخيم دور هذا الفريق أو ذاك من أطراف الحركة الوطنية على حساب باقي العناصر، أو بالأحرى على حساب الحقيقة ص16، وهذا ما يأمل الباحث تجنبه.

2- وبشأن المصادر فهي غزيرة ومتوفرة بالعربية والإنكليزية، لكن ـ كما يبدو للباحث ـ إن أغلب الباحثين العرب لم يتمكّنوا من الإطلاع على المصادر الإنكليزية. في حين إن أغلب الباحثين الإنكليز لم يتيسر لهم الإطلاع على المصادر العربية ص20 .

لن نبالغ إن وصفنا د. نظمي ب"الباحث الألمعي"، فالجدّية والدقة في العرض وإستخدام المصادر، سمة بارزة في عمله. فعندما يُقر ب"قومية" الثورة، فهذا لا يعني الإطلاق أبداً (إن هذا البحث "سيزعم" بأن الثورة كانت قومية حقاً، ولكنها كانت "جنينية" وليست متطورة أو ناضجة بشكل كافٍ) ص18 .

ما هي الأدلة التي قَدّمها الباحث على مُدّعاه "قومية الثورة؟

1- كانت شعارات فصائلها كافة الإستقلال التام والحُكم العربي لكيان عراقي موَحّد مع تَطَلّع الى الوحدة العربية. 2- وحّدَت فصائل كبيرة من الشعب العراقي من طوائف وعناصر مختلفة ضد الإحتلال.

3- كانت إتحاداً بين عشائر مختلفة وتحت شعارات وأهداف جلية.

4- مارست تأثيراً لا يُستهان به في تكوين الكيان العراقي الحديث.

5- أصدرت صُحفاً قومية تُعَبّر عن فكر وطني وقومي واضح.

6- شَكّلت نوعاً من الإدارة الوطنية في المناطق المُحرّرة حيث عُهد إليها بالإدارة وسُلّم إليها أسرى جيش الإحتلال ورُفع فوقها العلم العربي.

7- تفاعلت مع الحركة القومية في الحجاز وسوريا وأحياناً مع مصر.

8- طالبت بملك عربي ورفضت كل المرشحين الأجانب من سواه، ص18 .

الإستنتاج المتوازن سمة بارزة أخرى عند نظمي (لا يجب المبالغة بالقول بأن الثورة كانت قومية محضة، كذلك فإنه من قُبيل التبسيط المفرط الإدعاء المقابل بأنها كانت مجرد إنفجار عشائري فوضوي وعشوائي، أو الزعم بأنها كانت مجرد إستجابة دينية لبعض الفتاوى) ص15 .

يؤمن نظمي ب"المنهج القومي ـ الإجتماعي" أو "القومي ـ الطبقي" في تحليل أحداث التاريخ، وهذا ما يجعل البحث مختلفاً عن كتابات من سبقوه. فالسيدان محمد مهدي البصير وعبد الرزاق الحسني، كانا في تقدير الباحث، أفضل من كتب عن ثورة العشرين ضمن إتجاه قومي عربي. (ولكنهما لم يريا في الثورة سوى العامل القومي والوطني، العامل المثالي والروحي فقط. ولم يتمكنا من أن يريا خلف هذا الشعور القومي، السياسة الإدارية "الوظيفية" والإجتماعية والمالية والضرائبية للإدارة الإنكليزية) ص 23 .

أما "النمط المعرفي" الذي ينهجه الباحث فهو "النسبية والشمولية". فليس هناك ما هو مطلق أو فوق التاريخ في المعرفة الإنسانية، وبشأن الشمولية فهي ليست نقيضاً للنسبية بل مُكملة لها ص25 .

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

الصفحة 4 من 4

في المثقف اليوم