ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: أنطون تشيخوف

ترجمة: نزار سرطاوي

***

"سيدي الطيب، من فضلك، ارأفْ بحال فقيرٍ جائعً. لم أذُقْ للزاد طعمًا منذ ثلاثة أيام. لا أملك خمسة كوبيكات للمبيت هذه الليلة. أقسم بالله! طوالَ خمسةِ أعوامٍ عملتُ مُعلِّما في قرية وفقدت وظيفتي بسبب مكائدِ زِمْسْتوف. كنت ضحيةَ شاهدِ زور. وها أنا الآن في المكان غير المناسب".

نظر سكفَرتسوف، المحامي من بطرسبورغ، إلى المعطفِ الأزرق الداكن الممزق الذي يرتديه المُتكلم، وإلى عينيه الموحِلتين المخمورتين، وإلى البقعِ الحمراء على وجنتيه، وبدا له أنه رأى الرجلَ من قبل.

تابع الشحاذ: "والآن عُرِضَتْ عليّ وظيفةٌ في مقاطعة كالوغا، لكنّني لا أملك ما يساعدني على السفر إلى هناك. ساعدني لو تكرّمت! أشعر بالخجل من السؤال. لكنْ... الظروف تضطرني".

نظر سكفَرتسوف إلى خُفّيهِ المطاطيّين. كان أحدهما قليلَ العمق مثل الحذاء، بينما الآخر عاليًاً يصل إلى ساقه مثل الجزمة، وفجأة تذكّر.

قال: "اسمعْ، التقيت بك أولَ أمس في شارع سادوفوي، ولم تخبرَني أنك معلِّمٌ في قرية، بل طالبٌ مفصول. هل تَذكر"؟

"لا، لا، لا يمكن أن يكون الأمر كذلك!" تمتم الشحاذ مرتبكًا. "أنا معلمُ مدرسةٍ في قرية، ويمكنني أن أريك الوثائق التي تثبت ذلك إن أردت."

"كفاك كذِبًا! لقد قلتَ إنك طالب، حتى أنك أخبرتني بالسبب الذي فُصِلتَ من أجله. هل تذكر؟"

احمرّ وجه سكفَرتسوف، وبنظرةٌ مليئة بالاشمئزاز أشاح بوجهه عن الكائن ذي الملابس الرثّة.

صاح غاضبًا: "هذا شيءٌ مُزرٍ أيها السيّد! هذا احتيال! سأسلمك للشرطة. عليك اللعنة! أنت فقيرٌ وجائع، لكن هذا لا يعطيك الحق في أن تكذبَ هكذا بلا حياء!"

أمسك الكائنُ ذو الملابس الرثّة بمقبض الباب وتجوّل بنظره في أرجاء القاعة بيأسٍ مثلَ طائرٍ وقعَ في فخ.

تمتم: "أنا ... أنا لا أكذب". "يمكنني إبراز الوثائق".

"من يصدِّقك؟" تابع سكفَرتسوف وهو ما يزال حانقًا. "تستغلُّ تعاطفَ الناس مع المعلمين والطلبةِ في القرى – هذا منتهى الانحطاطِ والدناءةِ والقذارة. إنه شيءٌ مثيرٌ للقرف!"

استشاط سكفَرتسوف غضبًا، وراح يوبِّخُ الشحاذ توبيخًا قاسيًا. فقد أثار الرجلُ ذو الثياب الرثّة اشمئزازَه ونفورَه، إذ رأى فيه إهانةً لما كان هو، سكفَرتسوف، يحبّهُ ويقدّرُه في نفسه: الشفقة، القلبَ الرقيق، والتعاطفَ مع البؤساء. وهذا الشخص بكَذِبه واعتدائِه الغادر على الرأفة، دنَّس الصَدَقَة التي كان يُحبّ أن يهبَها للفقراء دون أن تساورَ نفسَه الريبة. دافع الشحاذ عن نفسه في البداية، واحتج بحَلْفِ الأيْمان، ثم غرق في الصمت وطأطأ رأسَه وقد غمره الإحساسُ بالخجل.

قال وهو يضع يده على قلبه: "سيدي، أنا حقًّا كنت... أكذب! لست طالبًا ولا مُعلّمًا في قرية. هذا كله مجردُ تلفيق! كنت في الجوقة الروسية، وطُردتُ بسبب السُكْر. لكنْ ماذا أفعل؟ صدقني، وأقسم بالله، لا أستطيع أن أتدبّرَ أمري دون أن أكذب – عندما أقول الحقيقةَ لا يعطيني أحدٌ أيَ شيء. مع الحقيقة قد يموتُ المرءُ جوعًا ويتجمدُ دونما سكنٍ يقضي فيه لَيْلَهُ! ما تقوله صحيح، أفهم ذلك، لكن... ماذا عساي أن أفعل؟"

"ماذا عساك أن تفعل؟ تسأل ماذا عساك أن تفعل؟" صاح سكفَرتسوف وهو يقترب منه. "العمل – هذا ما ينبغي عليك فعلُه! عليك أن تعمل!"

"العمل... أعلم ذلك، ولكن أين يمكنني الحصولُ على عمل؟"

"هراء. أنت شاب وقوي وبصحةٍ جيدة، وفي وسعك دائمًا أن تعثرَ على عمل لو أردت ذلك. لكنك تعلم أنك كسولٌ واتّكاليٌّ وسِكيّر! رائحةُ الفودكا تفوح منك مثل الحانة! لقد أصبحتَ زائفًا وفاسدًا حتى نخاعِ عظامك، ولا تصلحُ لشيءٍ سوى التَسَوّلِ والكذب! وإن تكرّمتَ وتنازلتَ وقبلتَ بعمل، فلا بد أن تعملَ في مكتبٍ أو مع جوقةٍ روسية، أو أن تكون مشرِفَ بلياردو، حيث سيكونُ لك راتبٌ دون أن يكون عليك أن تفعل شيئًا! ولكن ما رأيك أن تقوم بعملٍ يدوي؟ أنا على يقينٍ أنك لن تقبل أن تكون بوّابًا في منزلٍ أو عاملًا في مصنع! أنت أرقى من ذلك!"

"ما هذه الأشياء التي تقولها، حقًا..." قال الشحاذ وابتسم ابتسامة مريرة. "كيف لي أن أجد عملًا يدويًا؟ لقد فات الوقت لأكون صاحبَ دكّان. ففي التجارة يجب أن يبدأ المرء من مهنة صبي؛ لا أحد يقبل بي بوّابًا في منزل لأنني لست من تلك الفئة... ولم أستطع أن أجدَ عملًا في مصنع؛ يجب على المرء أن يتقن صنعةً، وأنا لا أعرف شيئًا".

"هراء! دائمًا تجد لنفسك مبررًا! ألا ترغب في تقطيع الخشب؟"

"لن أرفض ذلك، لكنّ العاملين في تقطيع الأخشاب عاطلون عن العمل الآن."

"آوه، العاطلون عن العمل جميعًا يجادلون بهذه الطريقة! بمجرد أن يُعرضَ عليك أيُّ شيء ترفضه. هل تقبلُ أن تعمل عندي في تقطيع الخشب؟"

"بالتأكيد أقبل..."

قال سكفَرتسوف بعصبيةٍ متسرّعة: "جيد جدًا، سوف نرى... ممتاز. سنرى!" فرك يديه وهو يشعر بفرحةٍ ماكرة، واستدعى طاهيته من المطبخ.

قال لها: "إليكِ يا أولغا، اصطحبي هذا الرجل إلى السقيفة ودعيه يُقَطِّعْ بعض الخشب".

هزَّ الشحاذ كتفيه كما لو كان مشدوهًا، ولحقَ بالطاهية مترددًا. كان واضحًا من سلوكه أنه وافق على الذهابِ وتقطيعِ الخشب، ليس لأنه جائعٌ ويريد أن يكسب المال، ولكن ببساطة بدافع الخجل والشعور بالخزي، لأنهم وثقوا بكلمته. كان جَلِيًّا أيضًا أنه يعاني من آثار الفودكا، وأنه ليس على ما يرام، ولم يكن لديه أدنى شعورٍ بالرغبة في العمل.

سارع سكفَرتسوف إلى غرفة الطعام. وهناك من النافذة التي تطلُّ على الفناء كان يرى سقيفةَ الأخشاب وكلَّ ما يحدث في الفناء. وقف سكفَرتسوف عند النافذة، حيث رأى الطاهيةَ والشحاذ يأتيان من الممر الخلفي إلى الفناء ويعبران الثلجَ الموحلَ وصولًا إلى سقيفة الأخشاب. ألقت أولغا نظرةً فاحصةً على رفيقها وهي غاضبة، وفتحت سقيفةَ الأخشاب بكوعها وطرقت الباب بغضب.

قال سكفَرتسوف في نفسه: "لقد قاطعنا المرأةَ وهي تشرب قهوتَها على الأغلب. يا لها من مخلوقةٍ عصبية المزاج!"

ثم رأى المُعلمَ الزائفَ والطالبَ الزائفَ يجلس على كتلةٍ خشبية، ثم يميل بخديه الأحمرين على قبضتيه ويستغرق في التفكير. ألقت الطاهيةُ بفأسٍ عند قدميه، وبصقتْ على الأرض بغضب، ومن تعبير شفتيها، بدا أنها قد أخذت تشتمه. جذب الشحاذ نحوه جذعًا خشبيًا بتردد ووضعه بين قدميه، ومرّر الفأس عليه بصورة معاكسة. سقط الجذع أرضًا. جذبه الشحاذ نحوه، ونفخ في يديه المتجمدتين، ثم سحب الفأس مرة أخرى بحذر كما لو كان خائفًا من أن تصطدم به أو تقطع أصابعَه. سقط الجذع مرة أخرى.

كان غضب سكفَرتسوف قد تلاشى في تلك اللحظة، فشعر بالضيق والخجل من فكرة أنه أجبر رجلاً اتكاليًا مخمورًا وربما مريضًا على القيام بعمل قاسٍ وشاقٍّ في البرد.

قال في نفسه وهي ينتقل من غرفة الطعام إلى مكتبه: "لا يهمّ، فليكملْ عمله. إنّي أفعل ذلك من أجل مصلحته!"

أطلّت أولغا بعد ساعة وأعلنت أنه قد تم تقطيعُ الخشب.

قال سكفَرتسوف: "إليكِ، أعطيه نصف روبل، وإن كان يرغب فليأتِ ويُقَطع الخشب في الأول من كل شهر .... سيتوفر له العمل دائمًا."

في اليوم الأول من الشهر ظهر الشحاذ، ومرة أخرى كسب نصف روبل، رغم أنه لم يكن يقوى على الوقوف. من ذلك الحين فصاعدًا، كان يحضر كثيرًا، وكان العمل متوفرًا له دائمًا: أحيانًا كان يجمعُ الثلج في أكوام أو ينظفُ السقيفة، وأحيانًا أخرى كان ينفضُ السجّادَ والمراتب. كان يحصل دائمًا على ثلاثين إلى أربعين كوبيك مقابل عمله. وذات مرة أرسلوا له بنطالًا قديمًا.

وعندما انتقل سكفَرتسوف من منزله، طلب منه أن يساعدَ في تعبئة ونقل الأثاث. وفي هذه المناسبة كان الشحاذ صاحيًا ومتجهمًا وصامتًا. لم يلمس الأثاث إلا لمامًا، ومشى مُطَأطئ الرأس خلف عربات الأثاث، ولم يحاول حتى أن يبدو مشغولاً؛ كان يرتعش من البرد، وقد استحوذ عليه الارتباك عندما ضحك الرجال المرافقون للشاحنات من كسله وضعفه ومعطفه الممزق الذي كان ذات يوم لرجل نبيل. وبعد الانتقال أرسل سكفَرتسوف في طلبه.

قال وهو يعطيه روبلًا: "أرى أن كلامي كان له أثرٌ عليك. هذا مقابل عملك. أرى أنك صاحٍ وغير راغب في العمل. ما اسمك؟"

"لوشكوف".

"يمكنني أن أعرض عليك عملاً أفضل، وليس شاقًّا يا لوشكوف. هل يمكنك الكتابة؟"

"نعم سيدي."

"إذًا اذهب بهذه المذكرة إلى زميلي غدًا وسيعطيك بعض ما تنسخه. اعملْ ولا تشربْ ولا تنسَ ما قلتُ لك. إلى اللقاء."

كان سكفَرتسوف سعيدًا لأنه وضع رَجُلاً على طريق الاستقامة، وربّتَ على كتف لوشكوف بلطف، بلْ إنه صافحه عند فراقه.

أخذ لوشكوف الرسالة وغادر، ومنذ ذلك الوقت لم يأتِ إلى الفناء الخلفي للعمل.

مرت سنتان. وذات يومٍ بينما كان سكفَرتسوف يقف في مكتب التذاكر في المسرح، يدفع ثمن تذكرته، رأى بجانبه رجلاً ضئيلًا بياقةٍ من جلد الخراف وقبعةٍ رَثّة من جلد قطة. طلب الرجل من الكاتب بشيءٍ من الخجل تذكرةً لدخول العرض ودفع بضعةَ كوبيكاتٍ ثمنًا لها.

"لوشكوف، أهذا أنت؟" سأل سكفَرتسوف، وقد عرف الرجلَ الصغيرَ قاطعَ الأخشابِ السابق. "ماذا تفعل؟ هل تسيرُ حياتُك على ما يرام؟"

"الوضع جيد ... أنا الآن في مكتبِ كاتبِ عدل. أكسب 35 روبلًا."

"الحمد لله، هذا رائع. أشعر بالفرح من أجلك. أنا في غاية السرور يا لوشكوف كما تعلم، بالنسبة لي أنت بمثابةِ ابنٍ على نحوٍ ما. كنت أنا من دفعك دفعًا إلى الطريق الصحيح. هل تذكر توبيخي الشديد لك. لقد كدتَ أن تغورَ في الأرض حينها. شكرًا لك، صديقي العزيز، لأنك تذكرتَ كلماتي".

قال لوشكوف: "شكرًا لك أنت أيضًا". "لو لم آتِ إليك في ذلك اليوم، لربما بقيتُ أُسمّي نفسي مُعلمًا أو طالبًا. نعم، في بيتك جرى إنقاذي، وخرجت من الحفرة."

"أنا في غاية السعادة."

"أشكرك على كلماتك وأفعالك الطيبة. ما قلتَه في ذلك اليوم كان ممتازًا. أنا مُمتنٌ لك ولطاهيتك، بارك الله في تلك المرأة الطيبة النبيلة. ما قلتَه أنت في ذلك اليوم كان ممتازًا؛ أنا طبعًا مدينٌ لـك ما حييت، لكنَّ طاهيتك أولغا هي التي أنقذتني حقًا".

"كيف كان ذلك؟

"كان الأمر على هذا النحو. كنتُ آتي إليك لتقطيع الخشب وكانت هي تبدأُ هكذا: "آه، أيها السِّكير! أيها الرجل الذي تركه الله! ومع ذلك فإن الموت لا يأخذك"! ثم تجلس قبالتي وتروح تندب وتحدّق في وجهي وتنوح: "أيها الرجل سيءُ الحظّ! ليس لديك ما يُفرِحك في هذه الدنيا، وغدًا سوف تصطلي بنار جهنم، أيها السِكّير المسكين! أيها المخلوق المسكين البائس"! وكانت دائمًا تسترسلُ على هذا النحو، كما لا يخفى عليك. لا أستطيع أن أقولَ لك كم كانت تزعج نفسَها، وكم من الدموع ذرفت من اجلي. لكنّ أكثرَ ما أثّر فيَّ هو أنها كانت تُقَطِّع الأخشاب نيابةً عني! هل تعلم يا سيدي، لم أُقَطِّع لك جذعًا واحدًا– كانت هي تفعل كل شيء! كيف أنها هي التي أنقذتني، وكيف تغيّرْتُ وأنا أنظر إليها وتوقفت عن الشرب... لا أستطيع أن أُفسِّر ذلك. كلُّ ما أعرفه هو أن ما قالته والطريقة النبيلة التي تصرفت بها أحدثا تغييرًا في نفسي لن أنساه ما حييت. ها قد حان الوقت للصعود على أية حال، فسيقرعون الجرس الآن".

انحنى لوشكوف ومضى إلى المعرض.

***

........................

* نبذة عن الكاتب

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. ولد في تاغانروغ في جنوب روسيا على بحر آزوف في 17 يناير 1860، لأسرة فقيرة، وكان ترتيبه الثالث بين ستة أطفال. كان والده صاحب محل بقالة، أما جده فكان من الأقنان. لكنه اشترى حريته في عام 1841.

التحق تشيخوف بالمدرسة الثانوية في تاغانروغ وفي عام 1879 التحق بكلية الطب في جامعة موسكو. وكان عليه أن يكسب المال ليتابع دراسته ويعيل أسرته. وقد استطاع أن يحقق دخلًا متواضعًا بكتابة القصص والطرائف في المجلات والصحف. وفيما بعدُ التقى بالكاتب ديمتري جريجوتوفيتش، الذي تنبّه إلى موهبته في الكتابة، فوقف إلى جانبه وساعده على تحسين جودة قصصه. ومن هنا بدأ نجم تشيخوف يسطع.

بعد تخرجه في عام 1984، وممارسته لمهنة الطب، بدأت أولى أعراض الإصابة بمرض السل تظهر عليه. لكنه تابع الكتابة، وفي عام 1886 تولت إحدى دور النشر طباعةَ كتابٍ له بعنوان قصص موتلي. وقد حقق الكتاب شهرة واسعة، ومنذ ذلك الحين ازداد تركيزه على الكتابة على حساب ممارسته مهنةَ الطب.

في عام 1988 ذهب تشيخوف إلى أوكرانيا، حيث مات شقيقه نيكولاي، وقد استوحى من تلك الزيارة روايته القصيرة "قصة كئيبة" (1989)، التي يتحدث فيها رجل عجوز عن حياته وهو في سكرات الموت، حيث يعتبرها عديمة القيمة. ثم سافر تشيخوف إلى يالطا في جزيرة القرم. وهناك التقى الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي.

في عام 1890 قام تشيخوف برحلة إلى سجن جزيرة سخالين الواقعة في الشرق الأقصى إلى الشمال من اليابان. وبعد عودته إلى روسيا، كرّس نفسَه لأعمال الإغاثة خلال مجاعة عام 1892. ولم يلبث أن اشترى عقارًا في ميليخوفو وانتقل إليه ليعيش هناك مع أسرته، حيث استقرت أوضاعه الماليه.

كوّن تشيخوف صداقاتٍ مع الكثير من النساء الجميلات والموهوبات، لكنه لم يتقدم لخطبةِ أيٍّ منهن، إلى أن التقى الممثلةَ أولغا كنيبر، ووقع كلاهما في حب الآخر، واقترن بها في أيار/ مايو، 1901. لكنها بقيت في موسكو تعمل في التمثيل، بينما أقام هو في يالطا للنقاهة. وفي عام 1904 ساءت صحته كثيرًا وسافر إلى مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. وفي 2 تموز/يوليو 1904 توفي في أحد فنادق بادِنْ وايلر. وتمّ نقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.

كتب تشيخوف أكثر من 500 قصة قصيرة ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة و 17 عملًا مسرحيًا، حظيت أربعٌ منها على الأقل بشهرة عالمية، وهي: نورس البحر (1895)، العم فانيا (1899)، الشقيقات الثلاث (1900)، بستان الكرز (1903). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدب الرحلات، والثاني كتاب مذكرات.

قصائد للشاعر الروسي الكبير

الكساندر بوشكين، يتغنى فيها بالروح التواقة للحرية

ترجمة الدكتور إسماعيل مكارم

***

إليكم هناك ....*

إليكمْ هناكَ في أعماق مناجم سيبيريا

تمَسكوا بهذا الصّبر الجَميل،

فلن يذهَبَ سدى عملكمُ الجَبّارُ هذا،

ولا طموحاتكمْ وأفكارُكمُ النبيلة.

**

واعلموا ... أنّ الأمَلَ

رفيقُ مأساتِكم في تلكَ المَناجم

سَيبعَثُ فيكم الهمّة َ والنشاطَ َ،

حتى يأتيَ وقت ُ الخلاصِ المَأمولْ .

**

المَحبة ُ والودّ ُ سَيجدانِ طريقهما إليكمْ،

رغمَ هذه البوابات المُظلمة،

مثلما يَصلُ إليكم في تلك الزنزانات..

صوتي َ الحُرُّ هذا ....

**

واعلموا أنّ القيودَ الثقيلة َ سَوفَ تنكسِرُ

وهذه الأقبية ُ المُعتِمَة ُ سَوفَ تنهارُ،

بالفرَح ِ والغِبطة ِ سَوفَ تعانقونَ الحُرّية َ

وإخوة ٌ لكم سَوف يُسَلمونكمُ سُيوفَ العِز.

1827

***

Арион

أريون*

على ظهر القاربِ كنا فريقا كبيرا

جماعة تشدُّ الشّراعَ لترفعه

وأخرى تقوم بقوةٍ

بإسناد المَجاديف إلى الدّاخل

وكان الكابتن يُمسِكُ بعزم بالمقود

ويُسيّرُ القاربَ بهدوءٍ وحكمةٍ .

أنا لم أكن مباليا بشيء

وأردّدُ واثقا تلك الأغاني على مسمع البحّارة،

وفجأة هبّتْ عاصفة قويّة، وارتفعَ الموجُ،

قتِلَ رئيسُ البَحّارةِ ورفاقهُ،

أما أنا فقط، المُغنيّ ذو السّرّ الكبير،

المرميّ إلى الشاطئ،

تراني أردّدُ تلكَ الأناشيدَ المعروفة،

وأنشّفُ ثيابي المُقدّسة،

بجانب صَخرةٍ، تحْتَ أشعةِ الشَّمس.

1827

***

.....................

لمحة تاريخية

عندما جاء القيصر الكساندر الأول إلى الحكم عام 1801 وعد باجراء اصلاحات في البلاد، وأول وعد من قبله كان − العمل على إيجاد صيغة للحكم ذات طابع دستوري، مع التخلي تدريجيا عن صيغة الحكم القيصري المطلق. وفعلا في عصره بدأت تظهر بوادر الاصلاح، وأول قانون صدر بهذا المنحى - هو (قانون حرية الحصادين)، الذي صدر عام 1803، وقد أجري الاصلاح في مجال التعليم أي تم إحداث مؤسسات تعليمية تابعة للدولة، وفي عهده تم اصلاح الادارات في دوائر الدولة، وتشكلت وزارات جديدة، وتم تكليف ميخائبل سبيرانسكي لإعداد نص للدستور، بحيث يصبح نظام الحكم نظاما ملكيا مقيدا بالدستور، الذي ينص على فصل السلطات، غير أن وجود نظام الرق، وسطوة العادات الاجتماعية السائدة في البلاد شكلا أرضية خصبة استندت إليها القوى المحافظة، التي وقفت ضد القيام بالاصلاحات. وفي عام 1812 كانت حملة نابليون على روسيا، هذه الحملة التي أدت الى نشوء مقاومة شعبية ورسمية لهذه الجيوش الغازية، الغربية قوامها كل أبناء الشعب الروسي، إذ انتهت بهزيمة الغازي الفرنسي- الغربي، ومن حاربوا إلى جانبه، وبوصول الجيش الروسي الى قلب باريس.. من الحكمة أن نشير هنا أن ممثلي الأقليات القومية في روسيا القيصرية آنذاك شاركوا بجد وفعالية في مقاومة الغزاة: من فرنسيين وغيرهم، نذكر منهم الشعب في بشكيريا، هنا تم تجنيد كل الرجال في المقاومة الشعبية من سن الخامسة عشرة وما فوق، وكان الفرنسيون يهابون مواجهة رجال المقاومة الشعبية. غير أنّ هذه الحرب أدت إلى انخفاض ملحوظ في عدد السكان، والى تدهور اقتصادي كبير في المجالين الزراعي والصناعي. وقد استغلت القوى الرجعية هذه الظروف وتمكنت من اقناع القيصر بأن الاصلاحات لن تخدم القصر والحكم، بل ستكون أداة للإنقضاض على القيصر والمقربين منه.

أما الضباط الذين داست أقدامهم شوارع باريس، وأقاموا هناك فترة من الزمن، واحتكوا بالأوروبيين، وتأثروا بمفاهيم الحريات، والقانون المدني للمواطنين... ذهبوا بعد عودتهم الى وطنهم نحو تشكيل جمعيات سرية تدعو الى التغيير.

توفي القيصر ألكساندر الأول في تشرين الثاني عام 1825

وفي الفترة مابين وفاة القيصر الكساندر الأول وقبل تولي الحكم من قبل نيكولاي الأول قامت (انتفاضة الديسمبريين) المسلحة لأجل تغيير طبيعة الحكم في البلاد وذلك في 14 (ديسمبر) كانون الأول عام 1825 .

اتصف القيصر نيكولاي الأول بحبه لكل ما هو عسكري، لأن من قام بالاشراف على تربيته كانوا من الضباط وليس من المدنيين. مع الأسف استغِلتْ عملية القضاء على الانتفاضة بقوة السلاح للتخلي كليا عن فكرة الاصلاح ولهذا نرى كيف الكساندر بوشكين يدعو في كثير من قصائده إلى التخلي عن نظام الحكم المطلق، وانهاء نظام الرق. من الجدير بالذكر أنّ الكساندر بوشكين لم يشارك في تلك الإنتفاضة، وكان الشاعر من منتقدي أصحاب التوجه الديمقراطي من النبلاء، الذين أرادوا صادقين العمل لأجل الشعب، وفي ذات الوقت كانوا بعيدين بعدا كبيرا عن أبناء الشعب. ولا يفوتنا القول أنّ هذا الشاعر الروسي الكبير كان من الناس شديدي الارتباط بأرض روسيا، ومن العاشقين للوطن الروسي وقد كان من القامات الوطنية الشامخة في روسيا .

ففي رسالة أرسلها إلى الفيلسوف تشادايف يعترف فيها بحبه لهذا الوطن، ولتاريخ هذا الوطن.

هوامش ومصادر:

* تلك كانت رسالة من الشاعر بوشكين إلى الديسيمبريين، ممن شاركوا في إنتفاضة م 1825

* راجع الأسطورة الإغريقية عن المغني أريون، الذي أراد طاقم القارب، الذي رجع بواسطته إلى وطنه، أراد بالتعاون مع الكابتن رميه بالبحر ليصير طعاما للأسماك بغرض الاستيلاء على ما بحوزته من أموال وهدايا، وفعلا حدث ذلك، ولكن الدلافين، التي كانت معجبة بصوته وغنائه، قامت بانقاذه وإيصاله إلى الشاطئ سالما.هنا بوشكين يتكئ على هذه الأسطورة الإغريقية ليحكي قصة الديسمبريين، الذين قاموا بالإنتفاضة المسلحة ضد الحكم القيصري المطلق، ولكن هذه الإنتفاضة تم قمعها بقوة السلاح، ومن قتل قتِل، ومن بقي حيا تم إبعاده إلى سيبيريا، حيث السجن والأشغال الشاقة، بينما الشاعر بوشكين، الذي هو ممن كانوا يتعاطفون مع أفكار الديسمبريين فقد بقي حيا..في هذه القصيدة يستعمل الكساندر بوشكين وزن (يامب) المعروف في الشعر الروسي، إذ في الرباعية نهاية الشطر الأول والرابع واحدة من حيث القافية، بينما نهاية الشطر الثاني والثالث واحدة.

А.С. Пушкин. Сочинения в трех томах. Том первый. Москва .1954.

بقلم: فيليب تيرمان

ترجمة: صالح الرزوق

***

ولكن كيف يمكننا بغير ذلك أن نحيا،

إن لم يكن في الطابق العلوي من هذا المأوى

المهجور،

حيث أسندت لنا مهمة تحذير المدينة

من لحظة

تحويل المطر إلى ثلج؟.

ومتى كانت آخر مرة جلست فيها قبالة

نافذة

ولم تفعل شيئا

سوى مراقبة التراكم على مدار اليوم؟.

هل ذلك حينما كنت طفلا،

وترتدي البيجاما، لتوقف الدراسة،

وحياتنا كلها تتفتح مثل تلك الرقاقات

التي تتهادى بعيدا عن متناول يديك؟.

والآن الثلج يستنزفنا،

ومع ذلك يبدو جميلا.

أحيانا لا أريد متابعة الخبر.

وأود أن أتجول على عرض الصفحة مثل أفكاري

المبعثرة التي تتضمن

الذكريات والرغبة حين تكون عشوائية وليس لدينا

مكان نكون فيه

ولا شيء ننجزه

ولا موت أحد يضنينا باللوعة،

ولا حتى موتنا.

الثلج لا يزال يهطل وأنا أكتب بإيقاع

أوجده أسلافي

في مناطق معتمة من العالم الآخر.

نحن نراقب الثلج بحثا عن أجوبة

ونكتشف سعادتنا، وهو ما

يريحنا -

ونضع ثقتنا بالصمت الهندسي في كل

رقاقة ثلج

وبالأخص حين ترسم رؤياها التجريدية في الهواء.

ونعود للنص الموجود،

هذه الصباحات - تنحدر في - بعد الظهيرة - وتقفز في - بهجة

المساء.

يمكن أن تقول عنها لعنة

أو تستطيع أن تسميها رحمة من الله -

*

وهي تتحداك لتلاحظ كيف تتكوم.

وتريد أن تثبت لنا أن قلوبنا ما هي إلا مليون

ملاك يهبط.

*

وتقول: استدر للباطن -

اليوم لنا، اصمد في الداخل واستفد من كل هذه

الساعات الإضافية -

لم يعد معنا غير قليل جدا - لنحب.

هذه الساعات، بعد أن نموت، سوف نستميت

لنستعيدها.

الثلج هو توقيع الصامت.

وهو يدون قصيدة

تمحو وتنقح لتكتب غيرها، و

غيرها.

ابنتنا تحدق من النافذة

باتجاه ذاكرة مستقبلها - عاصفة هوجاء، إيقاف

الدراسة، أي شيء ممكن،

ورائحة دخان موقد الطهي، والنعاس يتململ

في شعرها.

فقط لو يمكنها أن تقبض على رقاقة بلسانها الممدود

خارج فمها…

فقط لو يمكنها أن ترى الصيف وراء

هذه الثلوج…

بمقدورها الجلوس على السلالم كل اليوم وحدها

تراقب سقوطه على حديقة أمها.

ولو نظرت بعمق في هذه الدورات

اللامتناهية،

هل سيتجلى لها اللغز الغامض؟.

***

.........................

عنوان القصيدة A Million Angels Falling. من مجموعة ستصدر قريبا.

فيليب تيرمان  Philip Terman شاعر أمريكي معاصر. مقيم في كليفلاند / المصدر مراسلات شخصية

بقلم: جرنايل أناند

ترجمة نزار سرطاوي

***

في طفولتي كنت أعشقُ الدُّمى

وحين كبُرْتُ،

تغيّرتْ أشكالُ الدُّمى

كم كنت بريئٍا

حين خِلتُ أنني

أنا الذي ألعب بالدّمى.

والحقُّ أنها

هي التي

كانت تلعب بي.

ما زلت أتساءل

حين أنظر إليها

من منا كان يُسليّ الآخر

لقد جعلوها صامتةً ساكنةً َ

لكنها تتحرك أحيانًا

بالبطاريةِ حركاتٍ محسوبة

نظرَتْ نحوي

وابتسمتْ ضاحكةً

أنا أيضا كانت حركاتي محسوبة

إلى أن جاء يومٌ ووجدتُني

أُحِلتُ إلى الصمتِ والسكون

بعد بضعِ حركاتٍ محسوبة.

*

الأشجار والفواكه والرياح والقمر،

ضوء الشمس وضوء القمر،

الأحلام والعواطف

الحَمائم وطيور الوقواق،

العنادل والعصافير

الحملان والأسود – تلعب معي.

*

من أرسل هذه الدُّمى

التي لا تعمل بالبطارية؟

سمعت صوتًا يهتف بي:  لستَ بلا أب.

.................

TOYS

Jernail S Aanand

I loved toys as a child

And when I grew up,

Toys changed shape.

How innocent I was

When I thought it was I

Who was playing with the toys.

The facts are otherwise.

It was rather the toys

Who were playing with me.

Who is amusing whom

I still wonder

When I look at them.

They are silenced and stilled

Sometimes make

Measured movements on battery

They looked at me,

And smiled, at the similarity .

I too made measured movements

Till one day I found

I too was silenced and stilled

After a few measured movements.

*

Trees, fruits, winds, moon,

Sunshine, moonshine,

Dreams and passions

Pigeons, cuckoos,

Nightingales, sparrows,

Lambs and lions, play with me.

*

Who sent these toys

Which do not run on battery?

You are not Sireless, a voice tells me.

***

.....................

الدكتور جيرنايل سينغ أناند  شاعر وفيلسوف وباحث هندي يحظى بشهرة عالمية. ولد في عام 1955 في بلدة لونغوال في إقليم البنجاب. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة البنجاب في مدينة شانديغار. صدر له أكثر من 100 كتابٍ باللغة الإنكليزية تتنوع بين الشعر والنثر والقصة والروحانيات وغير ذلك، علاوةً على العشرات من الأوراق البحثية.

نشرت الباحثة الإيرانية الدكتورة رقية فارسي 20 ورقة بحثية حول أعماله. وقد اشترك مع الدكتورة فارسي في ابتداع نظرية البيوتكست (النص المتعلق بالسيرة)، كما ابتدع نظرية "مرض الغيمة" في النظرية النقدية.  ونشر ثلاثة أعمال ملحمية رئيسة، أولاها "غيت، أغنية الخلود التي لم تُغنَّ"، وهي بمثابة تكملة لملحمة "الفردوس المفقود" للشاعر الإنكليزي ميلتون. والثانية هي"حكايات غانتربري"، وهي تكملة حديثة لحكايات كانتربري للكاتب الإنكليزي تشوصر؛ أما الثالثة فهي "الإمبراطورية الشيطانية"، وهي تكملة لملحمة "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي دانتي. كذلك أصدر بعض الأنثولوجيات الشعرية مثل "محاربة اللهب" و "أصوات من الفراغ" و "الاحتراق المشرق" و"وراء الحياة وراء الموت". وقد ترجمت أعماله الروحانية "النعيم: الجمال الذي ما بعده جمال" و "أنا مِلك يمينك" إلى الفارسية ونشرت في إيران.

شغل الدكتور أناند منصب السكرتير العام للبرلمان العالمي للشعر، كما تم اختياره سفيرًا للاتحاد العالمي للشعراء وسفيراُ لأكاديمية الخيال العلمي المقدونية. كذلك فهو الرئيس المؤسس لجماعة الشعر الفلسفي. وقد فاز بالعديد من الجوائز منها: سيد السلام العالمي والأدب،  جائزة التفوق الأعلى [فيشوابهاراتي] ، صليب السلام، صليب الأدب [إيطاليا]، أيقونة السلام العالمية [نيجيريا]، جائزة الدكتور موهيندر سينغ راندهاوا لدعم الفن والثقافة، وجائزة الإنجاز مدى الحياة من مجلس أدبتي كوزموس ، ومؤخرا جائزة الشعر الدولية الإفريقية ، وجائزة الميدالية الذهبية للإبداع.من الاتحاد الأدبي الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية وجائزة غاندي الفلسفية.

بقلم: جيلينا كوكس

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(لا يتبع الهايكو وصفة محددة، لكن يتبع شعراء الهايكو حدسهم وجماليتهم الشعرية. إن الهايكو هو عبارة عن الحد الأدنى من بناء الكلمات مع وظيفة استحضار وعي مكثف للوجود – ماكس فيرهارت)

(1)

ليلة طويلة

يراع

في الغرفة المظلمة

(2)

باكورة الصباح

غمامة

ترعى الضباب

(3)

التمثيل الايمائي

الأشجار التي تغطيها الظلال

في الهزيع الأخير

(4)

يوم ماطر

انتقال الإشارة المرجعية

بين الصفحات

(5)

الغور في صوت المطر

ثمة أصوات أخرى

تبدو مألوفة

(6)

أوصد الباب

تشتد قعقعة

الرعد

(7)

المطر مجددا

موسم الجبال

الخضراء

***

..........................

- (جيلينا كوكس): شاعرة هايكو من ترينيداد وتوباغو. ولدت في عام 1950. تعيش في (بورت أوف سبين) العاصمة. تكتب باللغة الإنكليزية. منحت جائزة في مسابقة اكيتا الدولية للهايكو 2020. صدرت لها مجموعة هايكو بعنوان (لحظات 2007). ترجمنا لها إلى العربية قصائد أخرى ضمن إضمامات مشتركة.

1 – Haiku by Gillena Cox. https: // akitainternationalhaiku

2 – An E – Journal. https: // simplyhaiku. com

3 – Haiku – tempslibres: Gillena Cox. https: / www. Tempslibres..

4 – Shamrock Haiku Journal: 2007 – 2011 – Page 63 – Google Books. https: // books google. iq

بقلم: أنطون تشيخوف

تجرمة: نزار سرطاوي

***

التقى صديقان – أحدهما رجلٌ بدينٌ والآخر رجلٌ نحيف – في محطة نيكولايفسكي. كان الرجل البدين قد تناول عشاءَه للتوّ في المحطة. شفتاه الغارقتان في الدهون تلمعان كالكرز الناضج، وتفوحُ منه رائحة نبيذ الشيري وماء الزهر. الرجل النحيف كان قد ترجّل للتوّ من القطار. وكان مُثقلًا بحقائبِ السفرِ والحُزَمِ والصناديق، وتفوح منه رائحةُ لحمِ الخنزير والقهوة. أطلّتْ من ورائه زوجتُه – امرأةٌ نحيفةٌ بذقنٍ طويلة – يرافقها تلميذٌ مديدُ القامة، وقد زُرَّتْ إحدى عينيه. صاح الرجلُ البدينُ حين رأى الرجلَ النحيف: "بورفيري. أهذا أنت؟ صديقي العزيز! كم من صيفٍ مرّ وكم من شتاء"!

صاح الرجل النحيف وقد اعترته الدهشة: "بحق القدّيسين!ميشع! يا صديق الطفولة! من أين جئت"؟ تعانق الصديقان ثلاثًا، وحدّق كلٌّ منهما بالآخر وقد اغرورقت عيناهما بالدموع، فقد اعتراهما ذهولٌ مِلؤُه الحبور. "آه يا ولدي العزيز"! هكذا بدأ الرجل النحيف يتحدث بعد القبلات. "هذا أمرٌ غير متوقع! هذه مفاجأة! تعالَ وألقِ نظرةً فاحصةً عليّ! لم أزل وسيمًا كما كنتُ دائمًا! ساحرًا ومتأنّقًا! كم أنا مندهش! وأنت، كيف حالك؟ هل جمعتَ ثروة؟ هل تزوّجت؟ أنا متزوجٌ كما ترى... وهذه زوجتي لويز، واسمها قبل الزواج فانتسنباخ... لوثرية العقيدة... وهذا ابني نافانيل، تلميذٌ في الصف الثالث. هذا صديق طفولتي يا نفانيا. كنا أولادًا في المدرسة معًا"! فكر نفانيل قليلا ثمّ رفع قبّعتَهُ. أردف الرجل النحيف: " كنا أولادًا في المدرسة معًا! هل تذكر كيف كانوا يمازحونك؟ لقد لقبوك بـ هيروستراتوس* لأنك أحدثت ثقبًا في كتاب مدرسي بسيجارة، ولقبوني بـ إفيالتيس* لأنني كنت مولعًا برواية الحكايات. هوه – هوه!... كنّا أطفالًا!... لا تخجل يا نفانيا. اقترب منه. وهذه هي زوجتي، اسمها قبل الزواج فانتسنباخ، لوثرية العقيدة..." فكر نفانيل قليلاً ثم اختبأ وراءَ والده.

"آه، كيف حالك يا صديقي"؟ سأل الرجل السمين وهو ينظر بحماسٍ إلى صديقه: "هل تعمل في الخدمة المدنية؟ ما الدرجةُ التي وصلتَ إليها"؟

"نعم أيها الولد العزيز! لقد عملت مُقَيّمًا خلال العامين الماضيين، وأحمل لقب ستانيسلاف. الراتب قليل، لكن هذا ليس بالأمر الهام! الزوجة تعطي دروسًا في الموسيقى، وأنا أمارس هوايةَ نحتِ علبِ السجائرِ الخشبيةِ لحسابي الخاص، علبِ سجائرَ كبيرة! أبيع الواحدةَ بروبل. وإذا اشترى أحدٌ عشرَ علَبٍ أو أكثر، أمنحه حسمًا بطبيعة الحال. وهكذا نتدبر أمورَنا بشكلٍ ما. لقد عملت كاتبًا، والآن تم نقلي إلى هنا لأعمل رئيسًا للكَتَبَة في القسم نفسه. سأعمل هنا. وماذا عنك؟ أراهن أنك قد أصبحت مستشارًا مدنيّا الآن؟ أليس كذلك"؟

 قال الرجل السمين: "لا أيها الولد العزيز، اذهبْ إلى أعلى من ذلك". لقد رُقّيتُ إلى عضوِ مجلسٍ خاص... أحمل نجمتين." أصيب الرجل النحيف بالشُحوب والتَخشّب مرةً واحدة. لكنه سرعان ما لوى وجهه في الاتجاهات كلِّها بابتسامة واسعة. بدا كما لو أن البروق كانت تُشعُّ من وجهه وعينيه. ترنّح، تضاعفَ حجمُه، تكوّم... بدا أن حقائبَ السفرِ والحُزمَ والصناديقَ هي الأخرى تنكمش وتتكوّم... ذقنُ زوجته الطويلةُ استطالت أكثر؛ واستجمع نفانيل نفسَه وتهيَّأَ وربط أزرارَ بدلتِه جميعًا.

"يا صاحب السعادة، أنا... في غاية السرور! صديقُ طفولتي، كما يمكن للمرء أن يقول، غدا رجلًا عظيمًا! هه – هه"!

"ما هذا الذي تقوله"! عبسَ الرجل السمين. "ما الداعي لهذه النغمة؟ أنت وأنا كنّا صديقين في صِبانا، ولا داعي لهذا الخنوع الرسمي"!

"أَستغفرُ الله يا صاحب السعادة! ماذا تقول..."؟ ضحك الرجل النحيف، وراح يتلوّى أكثر من ذي قبل. "الاهتمامُ الكريم من سعادتك كعسلِ الندى المُنعش... هذا يا صاحبَ السعادة، هو ابني نافانيل،.. زوجتي لويز، لوثرية إلى حد ما". كان الرجل البدين على وشك أن يبدي شيئًا من الاعتراض، لكنّ وجهَ الرجل النحيف راحَ يُعبِّر عن تبجيلٍ وتزلّفٍ واحترام مُقزز إلى حدّ أن المستشارَ الخاص أصيب بالغثيان. أشاح بوجهه عن الرجل النحيف، ومدَّ إليه يده مُوَدّعًا. ضغط الرجلُ النحيفُ عليها بثلاثة أصابع، وأحنى جسده كلّه وضحك كأنه رجلٌ صيني: "هه – هه – هه"! ابتسمت زوجته، حكَّ نفانيل الأرضَ بقدمه وأسقط قبعتَه. طغى على ثلاثتهم ارتباكٌ ملؤه الحبور.

***

...................

* هيروستراتوس رجلٌ إغريقي من القرن الرابع قبل الميلاد. اتُهِم بالبحث عن الشهرة بإحراق وتدمير معبد آرتيمِس في مدينة إفِسوس.

** إفيالتيس رجل إغريقي من القرن الخامس قبل الميلاد؛ ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوتس أنه خان بلاده طمعًا في أن يكافئه الفرس الذين غزوا اليونان عام 480 ق.م.

نبذة عن تشيخوف

يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. ولد في تاغانروغ في جنوب روسيا على بحر آزوف في 17 يناير 1860، لأسرة فقيرة، وكان ترتيبه الثالث بين ستة أطفال. كان والده صاحب محل بقالة، أما جده فكان من الأقنان. لكنه اشترى حريته في عام 1841.

التحق تشيخوف بالمدرسة الثانوية في تاغانروغ وفي عام 1879 التحق بكلية الطب في جامعة موسكو. وكان عليه أن يكسب المال ليتابع دراسته ويعيل أسرته. وقد استطاع أن يحقق دخلًا متواضعًا بكتابة القصص والطرائف في المجلات والصحف. وفيما بعدُ التقى بالكاتب ديمتري جريجوتوفيتش، الذي تنبّه إلى موهبته في الكتابة، فوقف إلى جانبه وساعده على تحسين جودة قصصه. ومن هنا بدأ نجم تشيخوف يسطع.

بعد تخرجه في عام 1984، وممارسته لمهنة الطب، بدأت أولى أعراض الإصابة بمرض السل تظهر عليه. لكنه تابع الكتابة، وفي عام 1886 تولت إحدى دور النشر طباعةَ كتابٍ له بعنوان قصص موتلي. وقد حقق الكتاب شهرة واسعة، ومنذ ذلك الحين ازداد تركيزه على الكتابة على حساب ممارسته مهنةَ الطب.

في عام 1988 ذهب تشيخوف إلى أوكرانيا، حيث مات شقيقه نيكولاي، وقد استوحى من تلك الزيارة روايته القصيرة "قصة كئيبة" (1989)، التي يتحدث فيها رجل عجوز عن حياته وهو في سكرات الموت، حيث يعتبرها عديمة القيمة. ثم سافر تشيخوف إلى يالطا في جزيرة القرم. وهناك التقى الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي.

في عام 1890 قام تشيخوف برحلة إلى سجن جزيرة سخالين الواقعة في الشرق الأقصى إلى الشمال من اليابان. وبعد عودته إلى روسيا، كرّس نفسَه لأعمال الإغاثة خلال مجاعة عام 1892. ولم يلبث أن اشترى عقارًا في ميليخوفو وانتقل إليه ليعيش هناك مع أسرته، حيث استقرت أوضاعه الماليه.

كوّن تشيخوف صداقاتٍ مع الكثير من النساء الجميلات والموهوبات، لكنه لم يتقدم لخطبةِ أيٍّ منهن، إلى أن التقى الممثلةَ أولغا كنيبر، ووقع كلاهما في حب الآخر، واقترن بها في أيار/ مايو، 1901. لكنها بقيت في موسكو تعمل في التمثيل، بينما أقام هو في يالطا للنقاهة. وفي عام 1904 ساءت صحته كثيرًا وسافر إلى مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. وفي 2 تموز/يوليو 1904 توفي في أحد فنادق بادِنْ وايلر. وتمّ نقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.

كتب تشيخوف أكثر من 500 قصة قصيرة ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة و 17 عملًا مسرحيًا، حظيت أربعٌ منها على الأقل بشهرة عالمية، وهي: نورس البحر (1895)، العم فانيا (1899)، الشقيقات الثلاث (1900)، بستان الكرز (1903). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدب الرحلات، والثاني كتاب مذكرات.

بقلم: موسى رحوم عباس

ترجمة: نزار سرطاوي

**

كلَّما

اصفرَّتِ الأوراقُ في خريفِ هذه البلاد

وأصبحتْ أغصانُها شاحبةَ الوجوه

رحتُ أُلبِسُ الأشجارَ ثوبيَ الوحيد

وأرشدُ الطَّيرَ إلى أعشاشِها البعيدة

عَلَّها تعودُ قبل النَّوْءِ

فدربُها طويلةٌ

طويـــــــــــــــلة

وحرسُ الحدود لا ينقصه الرَّصاصُ والبارود

أخلعُ قلبي كي أهشَّ بالدَّمِ السَّخينِ للرياح

أنِ ابتعدي، مازالَ للخريفِ بِضْعُ يومٍ

وأغمضي عينيك حين تبدأ الأشجار بالتعري

فقلبي الوحيدُ

حارسُ الفصولِ والظِّلال

وهو مَنْ يقاسمُ الخريفَ حُزْنَه

وربَّما يصيرُ نَايًا للرِّياحِ في المساء

أو غيمةً ينبتُ دمعها كشجرِ الصَّبَّارِ

إذا ما أقبلَ الشِّتاء

لكنْ!

لماذا يُقبِلُ الشِّتاءُ بَغْتةً كحرسِ السُّجون؛

ليجعلَ الأغصانَ في أيديهمُ مثل الهراواتِ

التي تنوس  فوق رأس الخائفين المُدلجين

على ذُرا التِّلال في بلادنِا البعيدة

أقولُ

هذه حبيبتي تمتدُّ في البَياض

تطوي طيورَ رغبتي في جُنحِها الطَّويل

وتمنحُ الدِّفْءَ لها إذْ يجثمُ الشِّتاءُ هكذا

كحرسِ السُّجون!

وعندما تنبجسُ العيونُ والأنهارُ من سمائنا

كأنَّها الدِّماء

أشرعُ في بناءِ ألفِ سدٍّ حولَ الجسدِ المُمتد في البياض

في وِدْيانِهِ الصَّغيرة

بالقربِ من هِضَابه الجميلةِ الصَّقيلة

يا لهذا الجسد المُحاط بالوديان والهضاب!

أنتظرُ الرَّبيعَ؛ لينبتَ الرُّمان في حدائق الصُّدور

والجُلَّنارُ يُعلنُ الحياة

كي أحرسَهُ

أمَسَّهُ كمذنبٍ في غُرفةِ اعتراف

وكلَّما مَسَسْتُهُ فَرَّتْ زرازيرُ الهوى مِنْ خوفِها

وأزهرَ الليمونُ والزيتونُ في أحواضِهِ الخضراء

عندها يحملُ القلبُ فؤوسَ حُزنِهِ الشَّفيف

فلاحًا يُقلِّبُ تُرْبَةَ العشقِ بِمعْوَلِ المَجاز

يرشُّ ماءَ الحُبِّ

في تشقُّقِ الشِّفاه

وتجثو الشُّمسُ كاهنةً تباركُ توبتي للمرَّةِ الألفِ

لكنَّني أعودُ لمثلها لألفِ ألفٍ

لأبنيَ من غُبَارِ الوقتِ سورًا مثلَ سُورِ الصِّين

يمنعُ عنِّيَ الأحلامَ

والأوهامَ

ويمنعَ ما تناسلَ مِن جرادِ الخَوْفِ

يمضغُ خُضرةَ الأشياءِ

رغم أنَّا نقرعُ الطبولَ في الشَّوارعِ المُضاءةِ الأرجاء

لا الصَّيف تَحْملُنا على جُنْحِ السَّراب

وعندها ننجو

ولا قَرُّ الشِّتاء!!

***

The Guardian Of Seasons And Shadows

Musa Rahoum Abbas

Translated by Nizar Sartawi

***

Whenever

the leaves turn yellow in the autumn of this country

and the faces of the branches turn pale

I dress the trees in my sole garment

and guide the birds to their nests far away

so that they may return before the tempest

since their path is so long

so long

and the border guard is never short of bullets and gunpowder

I rip my heart out to send away the wind’s hot blood

Away with you, for autumn has yet a day or two

and shut your eyes when the trees begin unclothing

For my lonely heart

is the keeper of seasons and shadows

who partakes in the sadness of the autumn

and might become a flute for winds in the evening

or a cloud whose tears sprout like a cactus tree

when winter comes 

But!

why comes the winter without a warning like prison guards;

and places branches in their hands like batons

that move above the heads of the frightened, who spend their nights

on hilltops in our distant homeland

I say

There goes my beloved expanding in the white

folding the birds of my desire beneath their long wings

giving them warmth while winter lies heavy like this

like a prison guard!

And when the springs and rivers burst forth from our sky

like blood

I start to build a thousand dams around the body expanding in the white

in its little vales

beside the lovely, shining hills

Oh that body surrounded by vales and hills!

I wait for spring; when pomegranates grow in the gardens of the breasts

and their blossoms announce the birth of life

so that I may guard them

I touch them like a sinner in a confession booth

And when I do, the frightened starlings of passion flee.

and lemons and olives bloom in their green beds

then the heart holds the axes of its transparent grief

like a farmer stirring the soil of love with the shovel of metaphor

sprinkling the water of love

on the chapped lips

and the sun lies down like a priestess, blessing my repentance for the thousandth time

But I do it again for the millionth time

to build a wall from the dust of time like the wall of China

that expels dreams

and delusions

expels what has been born of the locusts of fear

chewing the greenness of things

Even though we beat the drums in the lit streets around

neither does the summer carry us on the wings of the mirage

so that we may survive

nor does the coldness of the winter do!!

......................

الدكتور موسى رحوم عباس: أديب سوري، يقيم في السويد، متخصص في علم النفس العلاجي، صدر له في الشعر: الآفلون،  فبصرك اليوم حديد، وفي القصة: بروق على ثقوب سوداء، العبور إلى مدين، هداليش وقصص أخرى، وفي الرواية: بيلان، وفي المقالة: ليلة إعدام دمشق، وفي علم النفس: الوسواس القهري (بالاشتراك).

 

الادب الكردي

بقلم: بشكو نجم الدين

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

الوطن

وأنت بعيد عني

تكون أقرب إلي

من نبضات القلب

وأنت قريب مني

يكون شعرك

أبعد من أن تلمسه

يدي

كما هي أنجم أحلامي

أنت جنة

متعددة الألوان

عندما أعجز عن بلوغك

أنت هاوية محتومة

عندما القاك ..

***

.................

* بشكو نجم الدين: شاعر كردي مغترب. صدر له:

- صدرت له في عام 1992 مجموعته الشعرية البكر.

- صدر له في عام 1995 عمله الموجه للأطفال الموسوم (كرنفال الغاب) عن إحدى دور النشر السويدية، وقد اعيد نشره في السليمانية في عام 2000 .

- أصدر في عام 1996 مجموعته الشعرية المسماة (البحث عن سراب الوطن) عن إحدى دور النشر السويدية .

- في عام 1998 أصدر عمله الموسوم (في ظل الطرف الداخلي للأحداث) في مجال النقد والبحث الادبي .

- وقصيدته التالية (الوطن) مترجمة عن ديوانه (قطعة غربة من العمر) الصادر في أربيل ضمن سلسلة (كولان) .

قصيدة للشاعر الاسباني:

فريدريكو غارسيا لوركا

ترجمة: سالم الياس مدالو

***

اذا مت

دعوا الشرفة

مفتوحة

*

حيث الطفل

الصغير

الذي ياكل

البرتقالة

(يتسنى لي من شرفتي رؤيته)

*

وحيث الحاصدة التي

تحصد القمح

(من شرفتي يتسنى لي سماع صوتها)

*

لذا اذا مت

اذا مت

دعوا الشرفة

دعوا شرفتي

مفتوحة

***

.................

فردريكو غارسيا لورك - 1898 – 1936: شاعر وكاتب مسرحي حقق اعترفا دوليا هو ومجموعة من الشعراء الاسبان. في الغالب قدموا مباديء للحركات الاوربية امثال الرمزية والسريالية في الادب. اغتيل الشاعر في عام 1936  من قبل القوات القومية انذاك ولم يتم العثور على جثته لحد الان .

سالم الياس مدالو

 

كانت هناك بنت تحبها أمها فقط. واعتادت البنت على ذلك ولم تشعر بالقلق. اسمها أوكسانا - اسم براق وحديث - ولكن رغبت بطلتنا باسم بسيط: تانيا أو لينا أو حتى زينيا. وكانت سيدة حصيفة وشابة وطويلة، ولكنها ليست قريبة من الرب. درست أوكسانا علم الغابات في جامعة من الدرجة الثالثة - وهي الوحيدة المتاحة لها مجانا. وبعد التخرج توقعت أن تحصل على عمل كتابي في وكالة حكومية تصنف به البتولا والتنوب على الورق. تقاسمت مع  أمها شقة من غرفتين في مبنى إسمنتي عادي. وكان لوضع المسكن مشكلة: تحتهما مباشرة في الطابق الثالث، تسكن عائلة شديدة الصخب أفرادها كحوليون يتسمون بالعنف. ويوميا يهتز المبنى من الصياح والخبط والركل: وكانت سيدة البيت تترك جماعتها بانتظام وتتخبط في الممر وتصيح "مجرم" و"النجدة". وكانت أوكسانا تمر خلسة من أمام بابهم المحطم. وكانت ترتدي ثيابا سوداء في الخارج وتعتمر قبعتها لتغطي بها وجهها. فقد كانت تعود إلى البيت في وقت متأخر، بعد هبوط الليل: وكانت لديها فرصة ثمينة أن تتلقى دروسا مسائية في اللغة الإنكليزية بأجر معقول توفره مدرستها.

وروت لها أمها حكاية عن شخص يدعى فلاديمير لينين، تعلم لغة جديدة بترجمة صفحة إلى اللغة الروسية ثم مجددا إلى لغتها الأصلية، فتبنت أوكسانا طريقة لينين، وترجمت نصوصا عن  التحطيب والتعويم والانزلاق - وتوقعت جامعتها من طلابها أن يحملوا الخشب على التيمز. اعترض الطلاب، مؤكدين أن إنكلترا لا تحتاج إلى حطابين روس يحملون شهادة جامعية، وتوسلوا أن يكون التعليم بلغة  إنكليزية عادية. في تلك الفترة كانت أم أوكسانا عاطلة عن العمل. وتخلت عن أملها بالعمل بصفة محررة مطبوعات وتعبت من مراجعة المسودات. اتصلت بالناشرين وأرسلوا لها "موادا اختبارية": رواية من جزئين، رواية تشويق وإثارة من خمسمائة صفحة، كتابا في العلوم الصيدلانية. وكانت مدة كل مشروع أسبوعين. في البداية سخرت نينا سيرغيفنا من هذه المواد ومن لغتها التافهة واختارت أفضل الشواهد لترويها على مسامع روكسانا:" عابر سبيل مر بالجوار" أو "كان قاعدا على مقعد". استسلمت لنداء إنسانة محترفة تعتز بنفسها وسهرت الليل وأعادت صياغة هذه العبارات البائسة حتى آخر فاصلة فيها. ولكن حينما حاولت الاتصال بما يسمى مخدومها، كانت تجيب عليها السكرتيرات فقط، وأخبرنها أنها، بكل أسف، لم تنجح في الاختبار. اشتبهت أوكسانا، وهي محقة، أن هؤلاء المدعوين بلقب ناشرين استغلوها بالمجان. عملت نينا سيرغيفنا كمحاولة أخيرة ملاحظة في مركز رعاية نهاري، وتقاسمت غرفة ضيقة باردة مع كلب بدين، وهو نوع من كلاب الحراسة لم يفارق الغطاء الذي تلتف به، ويرد بنباح عصبي على صوت المعلمة التي تعمل وراء جدار رقيق.

وسرعان ما تبدل هذا الحال الوضيع وغير المفرح للأسوأ. في واحدة من الليالي جاءت مكالمة من مسافة بعيدة: كانت من كلافا، أم أول زوج لنينا سيرغيفنا، الذي توفي في مطلع شبابه. والاتصال كان من بولتافا في أوكرانيا. وقامت كلافا هذه بزيارة نينا حتى بعد زواجها الثاني وإنجاب أوكسانا. وكانت معتادة على إحضار حقيبة من ملابس الصبيان وهي لحفيدها ميشا. قبل مرور فترة طويلة فقدت كلافا ابنها الأصغر أيضا. وتزوجت أم ميشا مجددا وسافرت إلى إسرائيل، ولكن ميشا رفض أن يغادر مدرسته وأن يبتعد عن أصدقائه وعاش مع كلافا. ولعدة سنوات توجب على  أوكسانا أن ترتدي ثياب ميشا المستعملة، ومنها توكسيدو زمردي بكتفين مبطنين وكان هذا يبكيها. فأوكسانا لم تقابل ميشا أبدا، ولكنها لم تحتمل هذا الحال.  وها هي خلفيات مكالمة منتصف الليل.

أخبرتها أم زوجها سابقا بصوت بارد ومعدني أن ميشا أضاع كل شيء: والناس الذين يدين لهم بالنقود استولوا على شركته، وتوجب عليها بيع شقتها والانتقال إلى كوخ صيفي. وأضافت كلافا إن الكوخ مصنوع من الخشب.  وهو دون كهرباء وماء منذ الصيف. وأحدهم سد بئرها بالنفايات. وحطب التدفئة قد نفد.  حاولت أن تحرق أغصان الشجر، ولكنها لم تشتعل. وكان البرد لا يصدق في هذا الشتاء - وبدأ الثلج بالهطول. وقد ذهبت إلى المدين لتقبض تعويضها ولكن قادوها بعيدا عن مبناها السابق: وأخبرها ميشا أنه يمكنهم احتجازها رهينة لو تعرف أحدهم عليها. وأنهت كلافا مونولوجها بقولها: عام سعيد لكم جميعا. اعتادت نينا سيرغيفنا أن تدعو كلافا للمجيء والمكوث معهم، ثم أغلقت الهاتف وحدقت بعينيها الواسعتين في ابنتها الطويلة، والتي ردت لها النظر. قالت أوكسانا مع تنهيدة:"ها نحن هنا مجددا".

كانت معتادة على تصرفات أمها اليومية تقريبا بخصوص التبرعات غير المتعقلة. وأحدثها مافعلته أمس في محطة بيلوروسكي. كانت نينا سيرغيفنا تعبر الجسر، وتفكر بحزن بمهنة المحرر التي انتهت على أعتاب غرفة الحارس، وحينها لاحظت أمامها امرأة طويلة ذات قوام صلب ومستقيم وتسير متخشبة وتحمل كومة من الثلج على رأسها كأنها تمثال بوشكين. مرت نينا سيرغيفنا بالمخلوقة العجيبة وأسرعت إلى محطة المترو الدافئة. ولكن لحقت بها المرأة وسألتها إن كانت ذاهبة إلى مينسك - فهي تتوجه إليها، بالأحرى ترغب بذلك، ولكن ليس معها نقود - وكانت ضحية للغش. قالت إنها جاءت من بيلاروسيا ومعها بعض مواد التجميل للبيع، ولكن المشتري لم يحضر، ولم تحصل على نقودها. وعرضت عليها المرأة جواز سفر بيلاروسيا. طلبت منها نينا سيرغيفنا أن تدخل إلى محطة المترو، فالجو بارد جدا ولا يسمح بالكلام في الشارع، نظرت لها المرأة برعب وقالت:"هل ستدلين الشرطة علي؟". آه. طبعا.  فالمسكينة لا تمتلك سجلا في موسكو ويمكن اعتقالها عند مدخل الأنفاق. سألتها نينا سيرغيفنا كم تحتاج من النقود لتعود إلى بيتها. تعبت المرأة الضعيفة من الحساب: خمسمائة ألف، كلا، ثلاثمائة ألف، كلا، ثلاثمائة روبل. قدمت لها نينا سيرغيفنا المال وكذلك خبزا كانت تحمله إلى البيت. وثلاثمائة روبل هو بالضبط ثلث ما تبقى من تقاعدها بعد دفع الإيجار. والحمد لله أن العجوز لم تطلب خمسمائة أو ألفا- كانت نينا سيرغيفنا ستلبي طلبها للمساعدة. وغالبا لا تنتظر أن يتسول الآخرون منها وتقدم مما تملك. بعد يومين اعتقلوا بابا كلافا في المحطة. كان مع بابا كلافا بعض الأمتعة: الرزمة المعروفة وتتضمن ثياب العمل الصيفي وحصلت عليها من المأوى، أيقونيتين ورقيتين، وكيس من التفاح. وكان حفيدها ميشا قد منعها من العودة إلى الشقة. ونتيجة ذلك لم يكن لديها قطعة ثياب شتوية واحدة، وكانت ترتدي القميص الصيفي في شهر كانون الأول.

علقت كلافا في بيت نينا سيرغيفنا الأيقونات الورقية وراء زجاج خزانة الكتب. وكانت تصلي لها باستمرار. ولكن بالسر كما كانت تعتقد. وبقيت تفاحاتها ليأكلها التعفن تحت طاولة المطبخ: كانت كلافا تتوقع أن تنضج في ليلة أول العام الجديد. وتقاسمت مع نينا سيرغيفنا كنبة تتحول إلى سرير. وكانت في الصالة ولكن لم تنم - حاولت جهدها أن تستلقي هامدة بين نينا سيرغيفنا والجدار. في نفس الوقت كانت الأم المتعبة والابنة تنامان دون أحلام، لاستغلال كل لحظة ممكنة للاستراحة. وعاودت نينا سيرغيفنا الاتصال بصديق نصف منسي كان يحاول تحسين أوضاعه. وساعدها بالحصول على موعد في متجر للأشياء المستعملة، ومنه حصلت نينا على جاكيت دافئ وثوبين منزليين سميكين من أجل كلافا. ومادة رقيقة ناصعة مطرزة بالذهب أيضا - كانت في السابق ستارة. سالت أوكسانا أمها بصوت ثاقب: ما النفع من هذه الأسمال - فهم يمتلكون ما يكفي من الرقع القديمة. ردت نينا سيرغيفنا ببراءة:"أتيحت لي فأخذتها. وتقريبا تبدو كأنها من الحرير".

لاحقا أعادت كلافا سرد الأحداث المأساوية التي قادتها إلى التشرد. فحفيدها ميشا يدير دار نشر صغيرة تطبع التقويم السنوي. وأراد التوسع، ولذلك وضع كراسة غالية التكلفة صممها فنان من موسكو (الذي أقنع ميشا أنه فنان عصره وأوانه). ولكن الكراس لم يحالفه النجاح في السوق، وأصبح ميشا دائنا للجميع. كان العداد يدور، وفي الختام أرسل له ممولوه "القبضايات" - عتاة مختصين بعصر النقود.

بعد ذلك انتسبت أوكسانا لدروس مسائية، ووجدت عملا في شركة تصميم للمساحات المفتوحة. وتأجل تخرجها حوالي سنتين. كان أجرها قليلا جدا، ولكنها أنجزت أعمالا هامة للمول والمكتبة. وتخلفت أوكسانا كثيرا عن حصص اللغة الإنكليزية. وكانت تحمل دائما في محفظتها نفس الكتاب: "كلب  آل باسكرفيل". وحاولت أن تقرأه على متن القطار. ولكنها كانت سريعا ما تغفو. وفي أوقات فراغها عملت نينا سيرغيفنا قدر المستطاع لإعادة الاعتبار إلى بابا كلافا بصفة مواطنة روسية، أو على الأقل مقيمة شرعية، لتتمكن من رؤية الأطباء. ولكن عاملها بلوتوقراطيو موسكو على أنها جاسوسة، ببساطة لأنها أوكرانية، وحرموها من حقوقها. تكلمت نينا مع محرومين كثيرين تعرفهم وقررت أن تذهب إلى بولتافا لتحصل على قطعة من الورق من الأرشيف المحلي تؤكد أن كلافا ولدت في ستافروبول ولذلك هي مواطنة روسية.  وتجمدت كلافا. خافت أن يستدل القبضايات على عنوانها في موسكو. ولدى عودة نينا المجهدة وبحوزتها الثبوتيات سألتها كلافا بهمسة خائفة إن قامت بزيارة بيتها. قالت نينا بمرح:"طبعا كلا. ذهبت إلى بلدية المدينة فقط وعدت مباشرة. والآن ستصبحين مواطنة وتكسبين تعويضاتك".

ذهبت كلافا لمشاهدة التلفزيون وشرحت نينا لأوكسانا أنها زارت بناء كلافا وثرثرت مع بعض الجيران. وهذا كل شيء: أخبرتهم أنها موسكوفية وتريد الانتقال إلى بولتافا - هل يوجد شقق للبيع في المبنى؟. قالوا لها: لا يوجد. قالت: ولكن سمعت أن الشقة العاشرة بيعت للتو. لم يعلق أحد. وساعة مغادرتها لحقت بها إحدى النساء وطلبت رقم هاتفها. وتقريبا أغمي على أوكسانا.

قالت:"متى ستفكرين بعقلك؟ لماذا أعطيت تلك المرأة رقم هاتفنا؟".

"أنت تعلمين كيف أخمن نوع الناس".

"هذا صحيح. عرفت نوع تمثال بيلاروسيا في ذلك اليوم فعلا".

"هذه المرأة المسماة فالنتينا ذكرت كلافا. وتذكرت ميشا وأمه كذلك. وأنها مهاجرة وتذكرت والده الميت. ابن كالفا. وكانت تعمل ممرضة في عيادة أطفال وعالجت ميشا في طفولته. تكلمت معها، فعلا، ولكن كنت أعلم ماذا أفعل".

"آه يا أمي. أراهن أننا سنستقبل قريبا بعض الزوار".

وكانت أوكسانا محقة.

في وقت متأخر من الليل من يوم 28 كانون الأول رن الهاتف بمكالمة بعيدة. قالت أمها:"أوكسانا تصرفي مع كلافا بسرعة".

تكوم جسم كلافا تحت الغطاء السميك. وارتعشت الكومة.

قالت:"من هم. القبضايات؟".

ردت:"لا. لا. هذه أم ميشا تكلمنا من القدس".

وما أن قالت كلافا ألو بصوتها المعدني انقطع الاتصال. قالت كلافا:"لم تحتمل الكلام معي. أخيرا تذكرت ميشا. فات الأوان - ربما رحل". وزحفت نحو الحمام.

في اليوم التالي أحضرت أوكسانا إلى البيت من مكتبها أصيص عرعر صغير - شجرة عيد ميلاد. همست كلافا بصوت ثابت:"آه عرعر. مثل شجرة شاهدة مدافن العائلة. كان ابناي هناك، وزوجي العزيز. شكرا يا أوكسانوشكا". كان مزاج كلافا في هذه الأيام مستقرا. تحب مشاهدة برامج التلفزيون البوليسية والتي ينتصر فيها العدل مؤقتا. كانت تهدئها ولكنها لا تزيد من تفاؤلها.

كانت نينا سيرغيفنا تعمل بجد على قطعة مثل الحرير تقريبا حصلت عليها من متجر أشياء مستعملة. كان "المطرب" الطليعي يملأ الشقة بالدق. وكانت كلافا في المطبخ تحضر فطيرة العطلة مع ما تبقى من تفاح المأوى.  وكانت أوكسانا تحاول الدراسة في غرفتها الضيقة حينما ظهرت نينا سيرغيفنا مع كومة من الأقمشة الذهبية. قالت لابنتها العنيدة بحذر:"هذه هدية العام الجديد لك. البسيها حالما تخرجين".

"ماما. توقفي عن تخيل الأشياء. لن أخرج. ولن أرتدي هذا".

"ولكن يا حلوتي كلافا تعبت بها أيضا. كانت خياطة محترفة. هل تذكرين التوكسيدو الأخضر؟ هي من صنعته".

"التوكسيدو؟ماما. لدي امتحانات بغضون أسبوعين. ومديرتي لا تمنحني إجازة. تقول ليس لديها الإمكانيات للاستغناء عن أي عاملة. وهي ترعى زوجها. وبختني طيلة ساعة. والآن فكري يا ماما. هل تعتقدين أنني مهتمة بملابسك المستعملة؟".

دخلت كلافا إلى الغرفة، وشاهدت كومة الحرير. همست من بين شفتيها:"آسفة يا أوكساندا. كنت أخيط بشكل ممتاز. ولكن يدي تعبتا. وأخبرتك يا نينا أنها لن ترتديه".

وانسحبت إلى الردهة وبدأت تصلي بصوت جهوري.

رمقت أوكسانا الساعة: بقيت ساعة للعام الجديد. استحمت، وجلست بشعر مبلول أمام الكمبيوتر القديم. لمست نينا سيرغيفنا كتفها. قالت:"من فضلك ياعزيزتي. كلافوشكا منزعجة جدا لأنك لم تجربيه. ماذا يكلفك ذلك؟ عمرها بلغ الثمانين".

جاء من غرفة كلافا دمدمة مرتفعة. استسلمت أوكسانا. في الحمام، وأمام المرآة، ارتدت الثوب الجديد. كان ثوبا مفتوحا مسائيا بعنق مكشوف ولفاح خفيف لتغطية ذراعيها العاريين. وكانت الأطراف قد طرزتها نينا سيرغيفنا.  فكرت أوكسانا: يا رحيم. لماذا هدرت وقتها على هذه التوشية؟ من سيراها؟ بل من سيراني؟. كان كفاحها المستقبلي اللامتناهي يخلو من العاطفة والفرح. وقد مر مثل لمعة برق خاطف أمام عينيها. مكتب دبت فيه الفوضى، مع أمينة مكتبة هي ديانا، ريفية جميلة ومسنة، ولكن ابنتها ترفض مكالمتها، وربة عملها أولغا حصان عمل لا يكل مع جيوب تحت عينيها، تقفز من عميل إلى آخر، بسيارة محطمة. والعملاء، زوجات الروس الجدد، بأحلامهم عن حدائق يملؤها عرعر قزم ينمو في أحواض نراها في الأوبرا الشعبية، وتزدحم بأشجار روسية بسيطة قميئة. لمست أوكسانا فجأة حافظة مواد التجميل غير المستعملة ومشطت رموشها عدة مرات بمكحلة. ونفضت شعرها المبلول بشكل موجة، وأضافت مسحوق وجه أمها لخديها، ووضعت الطلاء على شفتيها بكمية كبيرة. لماذا تفعل ذلك. لمن، لا تعرف. ليلة العام الجديد. الثوب الجديد. شعرها الأسود وصل حتى خصرها. فمها كبير ومتورد. ذهبت أوكسانا إلى الصالة. أمكنها سماع القرعات والصرخات المعتادة القادمة من الشقة السفلية. فتحت باب غرفة أمها. اتسعت عينا نينا وصاحت بانفعال نحو المطبخ:"كلافوشكا. تعالي. أميرتنا ارتدت ثوبك".

ضمت أوكسانا شفتيها بابتسامة ضيقة، وأعلنت تقول:"مثل بينلوبي كروز". نصف الموسكوفية أصبحت صورة تعبر عن أصل كلافا الجياش بالعواطف.

ضحكت نينا سيرغيفنا بمرح وقالت:"مرة في المساكن قبل سنوات قررنا جني الفطر. هرعت جارتنا فيرا - على الأقل في الثمانين - إلى المرآة وبدأت تطلي شفتيها. قالت أمي لها 'يا خالة فيرا نحن ذاهبات إلى الغابة، لمن أحمر الشفاه؟'. لن أنسى ذلك ما حييت. ردت 'من يعلم، ربما هناك ستقع المعجزة".

ضغطت كلافا شفتيها مجددا، تنهدت أوكسانا، ورن جرس الباب. فتحت نينا ضلفة الباب قليلا فرأت شابا غريبا.

قال:"عام سعيد يا سيدتي. يجب أن تنادي الشرطة. أحدهم يذبح تحت".

قالت أم أوكسانا:"لا تتعب نفسك. الشرطة لا تأتي إلى هنا منذ عهد بعيد. أخبرونا أنهم يأتون إذا مات أحدهم في نهاية المطاف". وأغلقت الباب وأسرعت إلى المطبخ وكان الفروج يحترق. رن جرس الباب مجددا دون انقطاع. تنهدت أوكسانا، حملت الهاتف، وتحركت إلى الباب.

الكحوليون بشر أيضا. فكرت بصمت. دعيهم يستعملون الهاتف اللعين.

كان الشاب لا يزال واقفا على عتبة الباب. وبيده حقيبته الجلدية الثمينة. وحينما شاهد أوكسانا سقط فكه. همهم:"معذرة. هل يمكنني الكلام معك؟".

سالت أوكسانا بنفاد صبر:"ماذا؟".

وفجأة باشرت كلافا بالصياح:"ميشا".

صاح من الأسفل رجل مخمور:"يا صديقتي. يا صديقتي عودي بالحال". وتوسلت امرأة أن ينادوا الإسعاف لأن هاتفهم مقطوع عن الخدمة. تابعت كلافا العويل قائلة:"ميشا، هل هذا أنت؟".

أومأ الغريب بصمت وهو ينظر بأوكسانا، دون أن يتمكن من نطق كلمة. أخيرا سأل:"هل يمكنني الدخول؟". اقتربت الأصوات من الأسفل. تنهدت أوكسانا وأفسحت له الطريق.

قال ميشا:"من فضلك يا بابوشكا توقفي عن الصياح. اسمحي لي أن أبدل ثيابي أولا".

ثم خاطب أوكسانا:"هل بوسعي معرفة اسمك يا آنسة؟".

نظرت أوكسانا له بعينيها العريضتين، وشدت رقبتها الطويلة، وردت بهدوء:"زينيا". كرر ميشا:"زينيا. يا له من اسم جميل. لا أريد غير ذلك في هذه الحياة".

شاهدت كلافا الموقف. وتبع ذلك تأوهات وصيحات تعجب وعناق وقبل. وأكد ميشا أن كلافا ستحصل على شقة جديدة. وفي تلك الأمسية سيعتني بها - وهنا هدايا للجميع.

لاحظت ماما نينا ابنتها وتساءلت من أين جاءتها هذه الحركة المباركة البطيئة، والبريق في ضحكات عينيها السوداوين. وتموجات انسياب شعرها. أما هذا الثوب الرائع… طبعا، لقد فصلته هي بنفسها.

***

........................... 

* ترجمة عن الروسية آنا ساميرز Anna Summers.  2013

* لودميلا بتروشيفسكايا  Ludmilla Petrushevskaya

روائية روسية معاصرة من جيل البيروسترويكا.

ترجمة صالح الرزوق

بقلم: ماتسو باشو

ترجمة : حسني التهامي

***

مولد الخيال!

أغنية لزراعة الأرز

في أقاصى الشمال

كانت تلك الكلمات مفتتحا لقصيدة ثانية وثالثة حتى أتممنا ثلاث متتايات.

في ضواحي المدينة، تحت ظل كستناءة ضخمة، أدار أحد الرهبان ظهره للعالم، وآثرالاعتكاف في صومعته المنعزلة التي ذكَّرني هدوؤها بمكان في أعماق الجبال، يقتات الخيل من كستنائه. خطر على ذهني بعض كلمات، فقمت على الفور بتدوينها:

هناك ثمة ارتباط بين شجرة الكستناء والفردوس الغربي، لذا يطلق عليها "الشجرة الغربية،  يقال أن الراهب جيوجي اتخذ من أخشابها عِصيا يتكئ عليها ويشيّد بها أركان بيته:

الناس في العالم

بالكاد يلتفتون إلى تلكمُ الأزهار -

كستناء الأفاريز

**

على بعد اثني عشر ميلاً أو نحو ذلك من منزل توكي، خلف هيوادا مباشرة، يقبع جبل أساكا محاطا بالأهوار.. حين أوشك موسم قطاف أزهار السوسن "كاتسومي"،تساءلنا:  "إلى أي نوع من النباتات تنتمي كاتسومي ؟"  لم يجبنا أحد. فتجولنا في الأهوار، علنا نجد جوابا لسؤالنا، حتى توارت الشمس خلف حافة التلال. انعطفنا إلى اليمين في  نيهونماتسو، وقمنا بزيارة خاطفة إلى الكهف في كوروزوكا، وأخيرا مع هدأة  الليل هجعت أبداننا بفوكوشيما.

**

انطلقنا إلى شينوبو في صبيحة اليوم التالي، بحثًا عن صخرة السرخس، حتى عثرنا عليها نصف مدفونة

بتربة قرية نائية تحت ظل جبل. حكى بعض أطفال القرية أن الحجر كان يعتلي قمة الجبل في غابر الأزمان. فلما صعد الناس ووضعوا قطعة قماش وفركوها بالسراخس، ثم قاموا بتمزيق أوراق الشعيرأيضًا، تضايق المزارعون كثيرا، ودفعوا بالحجر إلى أسفل الوادي – وهذا ما يفسر حالته الحالية على وضعها المقلوب. لم تكن القصة ضربا من المستحيل:

أياد تغرس الشتلات

كانت ذات يوم تفرك الأشكال

بالسرخس

**

أقلتنا عبَّارة لاجتياز النهر في تسوكينوا (هالة القمر) إلى بلدة سينوي [رأس السرعة]. على اليسار قريبا من الجبال، وعلى بعد أربعة أميال، في قرية إيزوكا، يقع القصر الُمدمَّر، الذي كان يقطنه ساتو شوجي،

أثناء سيرنا سألنا عن وجهتنا، حتى وصلنا إلى مكان يسمى ماروياما، تقع بوابته الكبرى عند سفح الجبل. اغرورقت عيناي بالدموع عند رؤية شواهد قبور العائلة التي كانت لا تزال قائمة في معبد قديم؛ كان للنصب التذكاري للزوجتين الصغيرتين  بالغ الأثر.

على الرغم من كونهما امرأتين، فقد تركتا وراءهما اسمين يرمزان للشجاعة. ابتلَّ كُمي بالدموع عندما رايت شواهد القبور تملأ المكان. 

دلفنا إلى داخل المعبد لاحتساء الشاي، كان من بين كنوزه سيف يوشيتسون وسلة كان يحملها بينكي:

كلا السيف والسلة

في احتفالية الصبية ، وقتما

تتطايرُ اللافتاتُ الورقية

كنا في اليوم الأول من الشهر الخامس

 [18 حزيران

**

قضينا ليلتنا في إيزوكا؛ استحممنا في الينابيع الساخنة، واستأجرنا غرفة أشبه بكوخ بائس، تناثرت على أرضيته الترابية حصائر من القش. لم يكن ثمة مصباح بالغرفة، لذا هيأنا أسرَّتنا علي ضوء الموقد الخافت. ظل الرعد يزمجر والمطر يتساقط سيلا هادرا. أرَّقنا سقف ظل ينز طيلة الليل فوق مرقدنا، ولدغات البراغيث والبعوض. وما زاد الطين بلة، عودة شكواي القديمة مرة أخرى وهي تضطرم كالنار مخلفة آلاما كدت على أثرها أفقد الوعي.

أخيرا مضت ليلة الصيف القصيرة، وانطلقنا مرة أخرى. استأجرت حصانًا إلى محطة البريد في كوري، ولا زلت أشعر بآلام ليلة البارحة. زادت حالتي المرضية من قلقي، خاصة أن أمامنا طريقا ممتدا وطويلا. عندما بدأت هذه الرحلة القصية، أدركت ضرورة التجرد من كل شوائب العالم وعرفت حقيقة الحياة الزائلة.  منحني هاجس احتمالية الموت على الطريق دافعا معنويا لمواصلة المسير، لا سيما أن كل شئ يسير وفقا لإرادة السماء. مررت عبر "بوابة التاريخ الكبرى" وقد دفعتني الجرأة كي أغزَّ الخطى.

**

مررنا بقلاع أبوميزوري وشيروشي، حتى إذا ما وصلنا إلى مقاطعة كاساجيما، تساءلنا عن قبر الحاكم سانيكاتا، من أسرة فوجيوارا، فدلَّنا رجل قائلا: في قريتي مينوا وكاساجيما  الواقعتين عند سفح الطريق الجبلي أقصى اليمين لا يزال الضريح  والنصب التذكاري وسط أعشاب الحلفا قائمين.

في الأيام الماضية تهاطلت الأمطار، وأصبح الطريق موحشا، فمضينا نستكشف معالم الطريق، ونحن نكابد من فرط الإعياء. 

أوحيتا لي كلمتا مينوا (معطف, واق من المطر)  وكاساجيما (مظلة) اللتان تعبّران عن موسم الأمطار، بكتابة تلك الأبيات:

أين

جزيرة قبعة المطر؟

يا لامتداد مسارات يونيو الموحلة

أخيرا قضينا ليلتنا في إيوانوما.

**

كم كان منظر شجرة الصنوبر في تاككوما مذهلا؛ حيث يتشعب الجذع إلى شقين من الأرض،

وهذا هو شكل الصنوبر العتيق.

منذ زمن بعيد، في بداية عهده كحاكم لمدينة موتسو، قام أحد النبلاء باجتثاث الشجرة واستخدام أخشابها  دعائم لجسر فوق نهر ناتوري. على الفور خطر بذهني كلمات قصيدة للكاهن نوين: "لا أثر الآن لخشب الصنوبر." قيل لي أن الناس قد توارثوا عادة قطع الشجرة جيلا بعد جيل، ثم عاودوا غرسها من جديد. ولا تزال أشجار الصنوبر الحالية بشكلها المميز حتى بعد مرور ألف عام.

في بداية رحلتي، أهداني كيوهاكو قصيدة وداع:

آخر أزهار الكرز...

دع سيدي يطالع الصنوبر

في  تاككوما

فرددت قائلا:

منذ إزهار الكرز

كنت أتوق للصنوبرتين التوأمتين  ...

مضت أشهر ثلاثة طوال

**

عبرنا نهر "ناتوري" حتى وصلنا إلى "سينداي"، في ذلك اليوم كان الناس يعلقون قزحية زرقاء

تحت الأفاريز. مكثنا قرابة أربعة أو خمسة أيام داخل منزل في تلك المدينة التي سمعت فيها برسام ذي حسٍ فني رفيع، يدعى كايمون، أخبرني، عند لقائنا، أنه ظل لعدة سنوات يبحث عن أماكن قرأ عنها في الأعمال الشعرية، وأصبح من الصعب تحديد وجهتها؛ لكنه ذات يوم، اصطحبنا لرؤية بعض ما عثر عليه من تلك الأماكن.

كانت حقول جياجينو مليئة بأعواد البرسيم، في الخريف لا يمكنك تخيل أي مشهد في مدن تمادا، يوكونو، وتسوتسوجي - جا - أوكا و دون أزهار "البيرس" البديعة.

 مشينا عبر غابة كونوشيتا [تحت الأشجار] المكتظة بأشجار الصنوبر الكثيفة التي حالت دون اختراق ضوء الشمس.

كان تساقط الندى غزيرا، ويبدو أنه كان على تلك الحال منذ عصور قديمة، دلَّ على ذلك أن خادما أوصى سيده بارتداء قبعة من القش، في إحدى القصائد التي قرأتها. أقمنا صلواتنا في ضريح ياكوشيدو

تينجين قبيل غروب الشمس.

كهدية وداع، قدم لنا كايمون رسومات تخطيطية لماتسوشيما وشيوجاما وأماكن محلية أخرى عديدة، كما أهدانا زوجين من صنادل قش، بأربطة زرقاء قزحية داكنة.

تشي تلك الهدايا برقي ذلك الرجل ومدى ذوقه الرفيع:

سأعقدُ أزهارا قزحية

حول أقدامي -

أحزمة لنعالي

***

يتبع ...

حسني التهامي

بقلم: د. جرنيل أناند

ترجمة: نزار سرطاوي

***

حين لا أجد سبيلًا

إلى أن أراك

وأكونَ معك

وأجمعَ هذا الكونَ كلّهُ

بأفراحه وأحزانه في نَفَسٍ واحد

*

حين أعلم أنك لست قريبةً

ولا حتى بعيدة

لتواعدينا أنا وعقلي

*

حين يذوبُ الوجهُ الساحرُ

والعيونُ الناعسةُ والصدرُ الرخامي

جميعًا وتغدو محضَ خيال

*

حين يتحرك الوقت إلى الأمام

ويتركنا أنتِ وأنا وراءه

ثمّ يدفعني الآن وحدي إلى الأمام

والتفت إلى الوراء

ولا أجد سوى مساحاتٍ فارغةٍ تتفشّى

كالأبدية –

*

حينئذٍ يتملكني

الشعور بالوحدة

في غمرة هذا الاحتفال الطافح بالأفراح والأحزان.

أتافّتُ حولي ولا أجدك

ولا ألبث أن أجدَه وقد ضاع معناهُ

من عقلي... من وجودي ...

*

وحينها أتمنى أن أمضيَ وراءك

وأغيب سريعًا في غياهب النسيان.

***

..........................

When Time Has Moved Ahead

DR Jernail S Aanand

***

When I have no means

To see you

And be with you

And wrap this whole universe

Of joy and pain in a single breath

When I know you are not around

Nor even far away

To date me and my mind

When the charming face and

Downing eyes and the marble breast

Have melted into fiction

When time has moved ahead

Leaving you and me behind

And is now pushing me alone ahead

And when I look behind

Only to find empty spaces spreading

Like eternity

A feeling of being alone

In this festival of joy and pain

Grips me.

I look around and find you not

Soon I find all sense subtracted from

My reason... my being...

And I wish to follow you

Fast into oblivion.

.........................

الدكتور جيرنايل سينغ أناند  شاعر وفيلسوف وباحث هندي يحظى بشهرة عالمية. ولد في عام 1955 في بلدة لونغوال في إقليم البنجاب. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة البنجاب في مدينة شانديغار. صدر له أكثر من 100 كتابٍ باللغة الإنكليزية تتنوع بين الشعر والنثر والقصة والروحانيات وغير ذلك، علاوةً على العشرات من الأوراق البحثية.

نشرت الباحثة الإيرانية الدكتورة رقية فارسي 20 ورقة بحثية حول أعماله. وقد اشترك مع الدكتورة فارسي في ابتداع نظرية البيوتكست (النص المتعلق بالسيرة)، كما ابتدع نظرية "مرض الغيمة" في النظرية النقدية.  ونشر ثلاثة أعمال ملحمية رئيسة، أولاها "غيت، أغنية الخلود التي لم تُغنَّ"، وهي بمثابة تكملة لملحمة "الفردوس المفقود" للشاعر الإنكليزي ميلتون. والثانية هي"حكايات غانتربري"، وهي تكملة حديثة لحكايات كانتربري للكاتب الإنكليزي تشوصر؛ أما الثالثة فهي "الإمبراطورية الشيطانية"، وهي تكملة لملحمة "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي دانتي. كذلك أصدر بعض الأنثولوجيات الشعرية مثل "محاربة اللهب" و "أصوات من الفراغ" و "الاحتراق المشرق" و "وراء الحياة وراء الموت". وقد ترجمت أعماله الروحانية "النعيم: الجمال الذي ما بعده جمال" و "أنا مِلك يمينك" إلى الفارسية ونشرت في إيران.

شغل الدكتور أناند منصب السكرتير العام للبرلمان العالمي للشعر، كما تم اختياره سفيرًا للاتحاد العالمي للشعراء وسفيراُ لأكاديمية الخيال العلمي المقدونية. كذلك فهو الرئيس المؤسس لجماعة الشعر الفلسفي. وقد فاز بالعديد من الجوائز منها: سيد السلام العالمي والأدب،  جائزة التفوق الأعلى [فيشوابهاراتي] ، صليب السلام، صليب الأدب [إيطاليا]، أيقونة السلام العالمية [نيجيريا]، جائزة الدكتور موهيندر سينغ راندهاوا لدعم الفن والثقافة، وجائزة الإنجاز مدى الحياة من مجلس أدبتي كوزموس ، ومؤخرا جائزة الشعر الدولية الإفريقية ، وجائزة الميدالية الذهبية للإبداع.من الاتحاد الأدبي الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية وجائزة غاندي الفلسفية.

 

 

بقلم: د. إبراهيم السعافين

ترجمة: نزار سرطاوي

***

قال لي صاحبي

لهمُ كلً شيءٍ،

لَهُمْ كلّ صنفٍ من الأطعمة

ولهمْ ما تعالى من الأوسمة

ولهمْ ما يشاؤون من أُعطياتٍ

ومنْ مكرمة

ولهم من رفيع المراتب دومًا

ولهمْ شارة العزُّ  والتّقدمة

قُلْتُ يا صاحبي،

لم الآن يا صاحبي؟!

قد رضيتَ زمانًا، فلا، لا تمدنّ طرفكَ

خلف الحجابْ

فهل تقف اليوم ( عبدًا ) بباب الموالي

ولم تطرق، العمر، يا صاحبي

أيّ بابٌ

لهمْ ما يشاؤون يا صاحبي،

ولك المكرمات  جميعًا

وحسبكَ من عزّةِ النّفس عند ازدحامِ

الموائدِ،

عند ارتعاشِ الأيادي، وعندَ تهاوي

الخطابْ

تنهّدَ، حينئذٍ، صاحبي، واستراح ،

كأنّْ مدّ رجليْهِ فوقَ السّحابْ

.....................

As If He’d Stretched His Legs Above The Clouds

Ibrahim Alsaafin

Translated by Nizar Sartawi

***

They own everything

my friend told me,

they own all sorts of delicacies

accolades of the highest order

All gifts or honors that they desire 

they acquire

They always hold the highest ranks

The badge of glory to them goes;

and only theirs are the forefront rows

 *

I said: My friend

why now?!

For long you’ve been content

Do Not, Do Not ever cast your eyes 

on what’s behind the curtain

*

Would you now stand like a humble slave

at the doors of the serfs

Never ever have you my friend knocked

on any door

Yours are all honors

Sustained you are by pride and self-esteem

when feasts are attended by the crowds

when hands quiver and

speeches fall

*

My friend then sighed in great relief  

as if he’d stretched his legs above the clouds

.......................

Ibrahim Al-Saafin Bio

Ibrahim Alsaafin, a Jordanian poet, critic essayist, novelist, playwright, and academician, received his PhD from Cairo University in Arabic literature in 1978. After graduation he worked at different universities, including Yarmouk university (Jordan), the University of Tennessee, Knoxville (USA), King Saud University (Saudi Arabia), UAE University (UAE), and Sharjah University (UAE). Currently he is a professor of modern Arabic literature and criticism at the University of Jordan. He also serves as a chair and member of numerous editorial boards, a member of the board of trustees at several universities and cultural institutions, and a member of the Jordan academy of Arabic.

Alsaafin has to his credit six collections of poetry, two plays, and two novels, as well as a few unpublished MS’s. He also has penned 35 books of literary studies and literary criticism, and hundreds of literary articles published in prestigious literary journals in different Arab countries. Moreover, he has supervised more than a hundred M.A theses and Ph.D. dissertations in Jordanian and Arab universities.

  Alsaafin has received several literary awards, including Jordan State Award (1993), King Faisal International Prize (2001), and Palestine State Award for Literature (2020).

 

قصة: كارين بويه

ترجمة: فرمز حسين

***

بالتأكيد كان يتعقبها، من غير المعقول أن تخطئ في أمر كهذا. لو كانت فقط تملك الشجاعة لكي تلتفت وتنظر اليه، فقط لتتعرف على ملامحه، جبان أم مرعب، ضخم، خشن وخطير أم نحيف ومسموم- لكنها لم تتجرأ خشية أن يفهم ذلك استحساناً منها ويكون تشجيعاً له . عوضاً عن ذلك بدأت تتسارع في مشيتها أكثر ثم أكثر حتى في نهاية الأمر بدت شبه راكضة حتى توصلت إلى تقاطع شارع عريض، هناك كان لا يزال الشارع مليئاً بالناس رغم تلك الساعة المتأخرة. هناك بدأت تتباطئ في خطواتها المسرعة. كانت مضطرة أن تسير مثل بقية الناس كي لا تلفت الأنظار إليها.

لكن طوال الوقت كان تحس بأنه معها لكن عن مسافة بعيدة دون أن يجعلها تغيب عن أنظاره بالطبع، ولكي تختبر ذلك انعطفت عن الطريق حين وصلت إلى تقاطع طريق جانبي، توقفت لحظة لتستمع: كل شيء بدا ساكناً، تابعت السير لبضع خطوات أخرى: السكون نفسه . ببطء شديد ودون أي ضجيج صعدت في الطريق باتجاه المدخل , سكون أكثر صوت خفيف لخطواته تقريباً مثل صوت مروحة تدور ببطء وتردد. أرادت أن تتوقف لكي تسمع فيما اذا هو أيضاً سوف يتوقف ولن تسمع وقع خطواته من خلفها. ولكن ذلك الخوف الغبي للتو منعها عن جديد: إذا هي توقفت لتنظر إلى شتلات العنب البري المزروعة حديثاً كي ترى بأنها بدأت تنمو، حينها سوف لن يفسر ذلك على أنه فضول من قبلها فقط بل أيضاً على أنه تقبل واستحسان وهذا ما لاترغب المجازفة فيه، ولن تجني شيئاً بهذا. لاهثة وبقلب يخفق استمرت في سيرها.

كيف لها أن تعرف بأنه رجل مخيف؟ كيف لها أن تعرف بالأساس بأنه رجل؟ لكنها عرفت ذلك ربما أنها رأت بعض ملامحه قبل أن تعرف بأنها سوف تصبح ملاحقة منه، أياً كان فهي تريد تجنبت أية صحبة في ذلك المساء.

فجأة خطر لها فكرة رائعة. بسرعة مثل الذي نسي شيئاً ما، استدارت تماماً وعادت مسرعة إلى الخلف في الطريق ذاته وقبل أن يتمكن الشخص الذي يلاحقها أن يختفي عن الأنظار، كانت قد رأت بعضاً من ملامحه. نعم إنه رجل، ليس صخماً مثلما رأته بل على العكس بدا صغيراً ونحيلاً وبلباس رث ينمُّ على أنه فقير الحال.

خوفها أصبح أقل . فهو ليس بذلك الشخص الضخم المخيف الذي يستطيع أن يرميها أرضاً ويرمي بثقله عليها فيما لو خلا بهما الطريق. لكنه رجل فقير وليس بذاك الرجل الأنيق الملبس الذي يتصيد الفتيات- بنفس الوقت الذي لم تعد تحسب له الكثير من المخاوف ازداد عندها موجة من التعاطف معه وكأنهما بشكل من الأشكال يتقاسمان قدراً ا واحداً، هي-- تلك الفتاة الأنيقة الملبس -هو --ذلك الرجل الفقير الضئيل – الاثنان على أية حال ينتميان إلى فئة المظلومين في هذه الدنيا. قبل كل شيء ربما كان على أية حال شيء آخر أزاح ذلك الانقباض عن صدرها، كان يمكن أن يكون شخصاً آخر مخيف.

لكن لماذا هذا الشخص الغريب يلاحقها هي وليس غيرها؟ انها ليست بتلك الفتاة الجميلة، أنيقة نوعا ما ولكن ليس إلى ذلك الحد الذي يلفت الانتباه، ودون أن يكون هناك شيء متميز بأي شكل من الأشكال، كما أنها كانت تمشي مسرعة طوال الوقت ولم تكن بفتاة الشوارع تلك التي تتلفت يميناً وشمالاً بنظرات تستقطب الآخرين. في الواقع كانت خارجة من أجل مسألة لم تكن بذات الأهمية بمن سوف تلتقي معهم . ربما على الرغم من كل هذا أن يكون هذا الشخص واحداً من المعارف ؟أو ربما هو مختلاً؟

عليها أن تعبر الجسر، إلى الشاطئء المقابل . هناك كانت العتمة أكثر وخالية من الناس في ذلك الوقت من اليوم . رمت بنظرة فاحصة إلى ذلك الاتجاه: نعم لم يكن هناك شيئا مرئياً في ذلك الظل الداكن . كان يمكن الوصول إلى هناك عن طريق مختصر من جانب آخر . ذلك كان أفضل وكان في المقدور خداعه. لم تكن قد سارت مسافة بعيدة في طريقها، قبل أن تلاحظ بأنه كان الطريق الصحيح، لانه الآن قد اختفى، ولم تعد تسمع وقع خطواته من خلفها.

أخيراً، أخيراً، وصلت . وحيدة تماماً، غيرة مرئية من المدينة هناك وقفت عند الشاطئ، هناك حيث تتدفق المياه وأمواج البحر تتلاطم مع بعض الصخور. الآن حان وقت التنفيذ.

بتألم واضح نظرت إلى أضواء تلك المنازل الشاهقة وهي تتلالأ على مياه الشاطئ المقابل مع انعكاس بريق خفيف من نور السماء الذي لم يغلب عليه بعد عتمة ليل الصيف المتأخرة، وبعض الانعكاسات الصغيرة من مصابيح الشارع، والشوارع الفرعية الغارقة في عتمة بنية مخملية. الأرض كان جميلاً جداً—جداً ولكن مالفائدة عندما لا يكون الانسان نفسه سعيداً مثلما هي حالها الآن . كانت فَزِعَة عندما تخيلت بأنها لن تستطيع التنفس واستنشاق الهواء- لكن ذلك التفكير زال سريعاً.

سمعت حفيفاً من أسفل الأشجار . نظرت إلى ذلك الاتجاه . هناك في الغابة يقف شخص . تستطيع أن تُقْسِم بأنه الشخص نفسه الذي كان يتعقبها. لابد أنه سبقها الى المكان ووقف ينتظرها.

كنت أعرف بأنني سوف ألتقي معك هنا، قال الرجل بهدوء. كان واضحاً بأنه شخص أجنبي، لأنه كان يتكلم بلكنة قوية. ولكن بصوت خافت هادئ وودي، من ذلك النوع الذي لا يثير أية مخاوف.

حتى لو كان شخصاً مختلاً، فقد يتحلى بروح طيبة .و لذلك أرادت الحديث معه من على تلك المسافة.

كنت تعرف ذلك ؟ ردت قائلة دون أنت تعير اهتماماً. تريد أن يعرف بأنها لم تكن خائفة منه- وهي حقيقة كذلك الآن. ماكانت مقبلة عليه كان قد أخذ جلّ اهتمامها ولم يكن هناك حيزاً للشعور بالخوف.

 مشى خارجاً من ظلال الغابة . الإضاءة كانت ضعيفة جداً على أية حال لتلك الدرجة التي لم تستطع أن ترى سوى عينين سوداوين كبيرتين في وجه نحيل، نعم لقد تخيلت ملامحه أيضاً، وتستطيع تمييزها، ملامح شخص جاد، متعاطف عليها أثار مرارة الصعاب التي مرت عليه.

نعم تابع باللغة المشوبة باللكنة القوية ذاتها، لكنه من ناحية أخرى فقط كان يتحدث بطلاقة. أنت سرتِ من أمامي ورأيتك على أضواء أعمدة الانارة في الشارع وانتبهت بسرعة على ما أنت مقبلة على فعله. ولذلك تتبعتكِ . وقلت في نفسي حتى لو كنت قد أخطأت الظن، فان ذلك لا يضير.

لا، إنه ليس مختل العقل، شعرت بذلك من حديثه، لم يكن ضامراً لشيء في دواخله, انه فقط مهتم بها. لكن لم يكن لديها أية رغبة في تلقي المساعدة من أحد. لكن على فكرة ماذا يستطيع فعله لمساعدتها؟

من حقي أن أفعل ما أشاء قالت بصوت أجش.

بعد لحظة سوف أذهب، قال بجدية. لا تظني بأنني سوف أمنعك القيام بما تريدين بالقوة. أريد فقط التحدث معكِ أولاً.

تفضل، فقط على ألا يأخذ ذلك وقتاً طويلاً، قالت ببرود. ولكن بنفس الوقت شعرت بخذلان كبير وأجشهت بالبكاء.

أمسك بيديها ليس بشدة بل برفق واحترام.

لماذا تريدين فعل هذا؟ قال سائلاً

لماذا؟ لأنني لا أجد مخرجاً آخر للعيش طبعاً.

هل لأن هناك شخصاً تهتمين لأمره وهو لايبادلك المشاعر؟

لا، لا ليس كذلك بل على العكس . هناك من يريدني وأنا من لا أريده!

أولا تستطعين أن تخبريه بذلك؟

لا، لا أعرف كيف سا أقول له. لا أملك الجرأة الكافية لذلك!

لقد كُنتُ على صواب قال محدثاً نفسه وهو يهزّ براسه.

قلقها السابق بأن يتعرف عليها أحد ما، عاد اليها من جديد.

كيف لكَ أن تعرف ذلك؟ سألت بحدة. هل تعرفني؟

لا، لكنني خَمَّنْتُ أن الدافع الذي يجعل أحداً يقدِمُ على هكذا عمل هو في الحقيقة دائماً الخوف، تسعة وتسعون بالمائة من تلك الحالات تأتي نتيجة الخوف المبالغ فيه، الخوف الذي هم بأنفسهم كانوا سيضحكون عليه لو كانوا في حالة صحية سليمة. لأجل ذلك تعقبتكِ، أريد أن أقول لك بأن لا داعٍ للخوف.

بقيت صامتة . بماذا تجيب؟من ناحية كانت لديها الرغبة لكي تصبح قاسية فَظة- ما دخله في خصوصياتها؟ ومن ناحية أخرى كانت ترغب في الدفاع عن نفسها ليس إلا، ولكن لم يكن لديها أية أسباب مقنعة تقدمها. لو كان بامكانها مثلاً أن تقول بأنه أي العم يوناس: سوف يُقدِم على قتلي! كان كل شيء يصبح واضحاً. لكن الأمر ليس كذلك. العم يوناس لم يكن له أن يقتلها.

ربما ليس هناك داعٍ للخوف، قالت ببطء. لكنني على صواب!

الآن جاء دوره في أن يسكت، شعرت وكأنه لا يوافق على ماقدمته من أسباب.

عليها أن تكمل: أريد القول بأنه أحد الأقرباء البعيدين، رجل كبير السن، أخذ على عاتقه أمر الاهتمام بي بعد أن توفيت والدتي أيضاً. إنه غريب الأطوار وقاسٍ، وأنا كنت دائماً أخشاه. ولكني بالطبع ممتنة له أيضاً لأنه اهتم بي وتكفلني . خائفة وممتنة . لا أعرف فيما إذا كنت قادرة على توضيح أسباب معارضتي له.

كم عمركِ؟ سأل الغريب.

أنا بالغة با التمام والكمال . قانونياً لم يعد له أية سلطة عليَّ. لكني بحاجة إلى الاعتماد عليه، أنا معتمدة كلياً عليه.

كلياً؟ قال الغريب بتكلف.

اقتصادياً أعني، اذا كان ذلك التعبير أكثر دقة. لو أقوم على معارضة أوامره غداً فبامكانه أن يرميني في الشارع في أية لحظة يشاء .

عندها نترافق، قال الرجل مبتسماً. أنا في الوقت الحاضر أتجول مثل "مراقب حريق" كما يقال . انه فصل مناسب أريد القول . لو كان فصل الشتاء لكان الأمر أسوأ. تفاجأت ونظرت اليه. حتى هذه اللحظة بالكاد فكرت في وضعه. شعرت بالخجل بعض الشيء. لأنه ربما شعر بأنها تتباكى دون داعٍ حيث وأنها في وضع جيد. ندمت على ثقتها به: من عانى بؤساً سطحياً لا يستطيع بالتأكيد أن يتفهم ذلك الانسان الذي يعاني البؤس في أعماقه. على الأغلب أعتقد بأنه يفكر بأن عليّ أن أقبل راضية بالعم يوناس وهكذا تنتهي المشكلة. المأوى والمأكل أهم أمرين في الحياة لمسكين لا يمتلكهما.

تظن بأنني جاحدة، وغير آبهة بما لديها؟ بمزيج من القلق والاشمئزاز قالت:

بل من المؤسف أنك خائفة الى هذه الدرجة، قال. ليس هناك ما يستوجب كل هذا الخوف. بامكانكِ الحصول على عمل متى تشائين، تابع قائلاً.

أي عمل تقصد؟ قالت . خادمة في البيوت ربما؟ لأجل اتمام تعليمي يدفع العم يوناس، وإلا لن أستطيع المتابعة.

لماذا ليس العمل كخادمة في البيوت ؟ أمامك الحياة كلها وحينها تصبحين حرةً . هل أنتِ خائفة إلى هذا الحد من العمل لدرجة أنك تريدين أن تُغرقي نفسك؟

لدي في الواقع تعليم آخر- حصلت عليه قالت بتلعثم مفاجئ، على فكرة أضافت قائلة بسرعة، ليس العمل بحد ذاته ما يخيفني، فذلك بالتأكيد أستطيع القيام به .... لكن كل معارفنا .... ماذا سيقولون عني . لا تستطيع تصور ذلك: أنت تظن بأنني لا أملك الشجاعة، وهذا صحيح، بمجرد أن يقول أحدهم شيئاً سيئاً عني أفقد توازني. على أقل تقدير لا أريد أن يقول العم يوناس شيئاً سيئاً عني . لا أريده، ولكنني أريده أن يحبني.... الجميع عليهم أن يحبونني.

لاحَظَت بأن ما قالته قد يُفهَم على أن فيه غباء كبير وربما كان الأمر كذلك. بيأس مفاجئ انتقلت من حالتها الدفاعية المرتبكة إلى وضعية الهجوم.

لكن من أنتْ ؟ وماذا تفعلْ؟ سألت بحدة غير متوقعة.

مُعلِم، أجابَ وهو يهز بكتفيه . أكاديمي، مؤرخ، فيلسوف. ولكن هذا كله كان منذ زمن مضى . الآن أنا لاجئ فقط.

لكن ماذا تعمل؟ كيف تعيش؟

أنا عاطل عن العمل. غير مسموح لي أن أعمل، أجاب بهدوء. وأعيش على الاعانات. لكنني على قيد الحياة على كل حال.

شعرت وكأنها لُسِعَتْ . أيهما أفضل: أن تفرض شروطاً كبيرة على الحيا ة مثلها. ثم تتخلى عنها لسبب ما، ربما الآخرين يرون ذلك دون أية أهمية، أو مثله حيث لا يفرض أية شروط وراضٍ بقسمته حتى لتلك الدرجة التي لا يسمح له بالعمل ويعيش على الاعانات؟على أية حال لا يظهر عليه اللامبالاة وقلة الشعور بالتعاطف، لذا قالت: كثيرون على هذه الحالة في أيامنا هذه، وكثيرون أسوأ حالاً أيضاً.

هزّ رأسه بجدية وصمت، وهي نظرت إلى عيناه الواسعتين السوداوين وهما تغمضان وتفتحان وكأنه يشاهد رؤئً.

لقد سمعتُ ورأيتُ أشياء فظيعة، قال الرجل بهدوء . لقد رأيت الكره الذي يجعل من البشر أسوأ من الحيوانات المفترسة، ومن خلف تلك الكراهية رأيت دائماً--- دائماً ذلك الخوف الشديد. الخوف هو ما يحوِّل الناس إلى أشرار . لو أننا لسنا خائفين لما كمن في دواخلنا كل هذا الشر.

أحقاً كل هذه الناس خائفة؟ سألت باهتمام. كنت طوال الوقت أظن بأنني الخائفة الوحيدة.

الجميع ----الجميع خائف، قالها وهو يهز برأسه. الوالدان الخائفين يربيان أطفالاً خائفين.

و أية ثقافة تجري بين الناس اليوم غير تلك المليئة بالذعر والحذر من الأعداء--- والكراهية للأعداء وأكثر من كل شيء هو الحذر من أن يظن الآخرون بأنهم خائفون جبناء؟ الهواء كله ملوث بسموم الخوف.

لم تستوعب تماماً ما الذي يقصد من كلامه لكنها كانت تحب أن تستمع لحديثه. صوته كان هادئاً، لكن فيه نبرة من الحزن، وكأنه كان يروي لها حكايات--- حكايات مفزعة ومع ذلك جميلة للاستماع، تمنت لو أنه يأخذ بيديها مرة أخرى ليس لأنه رجل وهي امرأة ولكن لأن القرب منه منحها الهدوء وكأنه أباها أو أمها. شعرت بالأمان، حين سمعت صوته.

و لكن تابع قائلاً من هناك حيث الانسان يتخلص من خوفه ولو بعضاً منه يلقى الشفاء.

أنتَ تريد أن يكون المرء شجاعاً، قالت بتباطئ.

لا، قال بحدة. لا أريد أن يكون المرء شجاعاً. أنا أكره كلمة شجاع لأن هذه الكلمة تم سوء استخدامها كثيراً.

أليس هي الكلمة نفسها التي قولها دائما بمناسبة وبدون مناسبة من قبل هؤلاء الذين يريدون اخفاء جبنهم؟

 من كان بحاجة الى التظاهر بالشجاعة فهو خائف. شجاعة، بطولة غالباً مايكون الوجه الآخر لذلك الخوف القديم. الحرية الطبيعية البديهية الخالية من الخوف تكون عادة هادئة وغير مرتهنة.

الآن بدأت تقريباً تفهمه، لكن ليس من خلال ماقاله ولكن من خلال نبرة صوته ومن خلال صورته، في البداية تأثرت وتعاطفت مع حالة الفقر الذي بدا عليه وفي الوقت نفسه احتقرته بسبب ماظنته من سوء نوايا لديه. الآن ليس بامكانها ان تفعل أي منهما، انها فقط سعيدة لأنه موجود هناك معها.

وقفت ساكنة وهي تسمع صوت حفيف الشجر من فوقهما، الحفيف لم يكن مزعجاً ولاغريباً بل كان لطيفاً وكذلك صوت تلاطم الأمواج وتلك البيوت الشاهقة في الطرف الآخر للشاطئ بأضوائها الفريدة. كانوا يتمنون لها الخير مثلما هو أيضاً كان يتمنى لها الخير.

طوال الوقت كان يتحدث بهدوء وبصوت خافت، الأن انخفض الصوت أكثر حتى أصبح من الصعب سماعه

لأجل ذلك أنا تعقبتك، لأنني كنت أريد أقول لك ذلك .. عني أنا فقد أصابني القدر بكثير من الألم هذا مايراه الآخرون ولكن ما أراه أنا القدر منحي أكثر مما أخذ حيث أزال عني الكثير من الخوف الذي كان لديّ. ولأجل ذلك أحس نفسي مديناً لذلك القدر الذي منحني الشفاء وأضع نفسي في الخدمة- ولا أبقى بدون مهمة على الأرض.

بقيا صامتين، مع حفيف الأشجار وقرقرة المياه.

نعم، والآن أريد الذهاب، قال. لم أقصد أبداً أن أمنعك من القيام بأي شيء.

لكن أنا ذاهب معك لأنني أفهم الآن أنه من الغباء الخوف من العم يوناس وأفهم أنه من الغباء الخوف من اتخاذ الخطوة باتجاه شيء جديد وكم من الغباء الفظيع ان نحسب حسابات جمةً لما يفكر به الناس. غدا ربما أكون قد نسيت هذا

، حينها سوف أفكر بما حصل في هذه الليلة، ربما أتذكر كل ذلك من جديد.

الاثنين بقيا صامتين، بينما ثابر هو على مرافقتها حتى مدخل بيتها . حينها مدت يدها مودعة وبادرت بسؤاله: هل تظن بأننا سنلتقي مرة أخرى؟

قال اسمه.....

تستطعين دائما السؤال عني لدى الشرطة اذا أردتِ ذلك،قال الرجل بنبرة حزينة. حينها ربما أكون باقياً هنا أو أنني اضطررت للرحيل إلى ديار آخر. أنا لا أريد أن أبحث عنكِ مرة أخرى فذلك سوف يجعلك تعتقدين ببساطة بأنك ملاحَقَة.

حاولت الاعتراض على ماقاله لكنه كان مصراً.في النهاية صافحها ومضى في طريقه. تركها متعبة من كل المشاعر، فيما هي هكذا تعبة وخاوية من الأفكار فتحت باب المدخل وأضاءت مصابيح الدرج... لمحته وهو يغيب عن الأنظار بعيداً في نهاية الشارع .

سوف أنسى ما جرى تمتمت مع نفسها وهي تغلق باب المصعد . ولكنني سوف أتذكر بأن شيئاً ما قد حدث – شيئاً مميزاً- شيئاً له علاقة بالحياة.

***

فرمز حسين

كاتب ومترجم سوري - ستوكهولم

2023-01-08

.....................

كارين بويه 1900-1941

شاعرة وروائية سويدية

لها خمس مجموعات شعرية: الغيوم 1922، الأرض المخباة 1924،المواقد 1927، من أجل الشجرة 1935، الخطايا السبعة القاتلة 1941.

خمس روايات: عشتروت 1931، ميريت تستيقظ 1933، الأزمة 1934، قليل جداً 1936، كالوكائين أو "المصل" 1940 وتعد هذه الأخيرة من أشهر رواياتها وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني 1981.

ثلاثة مجموعات قصصية: تسويات 1934، خارج الخدمة 1940، البشارة 1941،القصة المرفقة من مجموعتها القصصية البشارة.

نرفع القبعة أمام الشاعر الروسي المعاصر

دميتري دارين

أحتفاء بيوم ميلاده الثامن والخمسين *

إعداد وترجمة الدكتور إسماعيل مكارم

***

Родина Моя

بلادي

وُحولُ الخريفِ في كلّ مكان،

ولا تُسمَعُ أصواتُ طيور الغرنوق الحبيبة.

إني أرى تمَوّجَ أرواح الرّوس العاتمَ،

إنها تفيضُ بأحاديثِ زوّار الحانة.

**

أما أشجارُ البتولا، التي كانت ترقصُ رقصة الحلقة

أراها قد اختبأت خلفَ المنعطف.

الناسُ هنا يلجؤون إلى شرب الكأس،

ناسينَ ما قد أمرَ به الرّبْ.

**

إني أستنشِقُ نسيمَ سهولنا البارد،

ولديّ أملٌ بأنَّ كلّ شيء سوفَ يتعدّلْ.

لا يمكنَ لي، ولا لطيور الغرنوق

أن نتخلصَ من جذورنا الرّوسيةِ الأصيلة.

**

نعم، إنّكِ حزينة اليومَ يا بلادي،

وتعرفين منذ القدم هذه الآلام،

و إذا كان نصيبُكِ من المآسي كبيرا −

هذا يعني أنَّ في ذلك إرادة الخالقْ.

**

إني سأخرُجُ عاريَ القدمينْ

كي أتنعمَ بذلك الندى،

ها هو الضّبابُ يُغطي النهر.

آه يا موطني الغالي،

إني لأجلِكَ أحيا.. حقاً

من هنا تبدأ أراضي بلادِنا روسيا.

2002

***

Бескрестье

غِيابُ الصّلبان

برجُ الأجراس يعلوه غطاءِ الرأس الرّوسيّ المُذهب،

في الرّوح إحساسٌ بالألم، ويُسمعُ ثِقلُ الآثام،

ما كنتُ أؤمن، وقد فقدتُ الثِقة بالناس،

فقدانُ الإيمان أكثرُ سوءا من الهرطقة.

**

عندنا – إذا أنتَ لم تقتلْ لا تطلب التوبة،

ربما التوبة والعناءُ أمران مُتساويانْ،

خَفرُ الحراسة والخوارنة – في الزي الجميل،

والمسيرُ ليسَ منتظما − بل سريعُ الخطى.

**

كم من المآسي ارتبطت بالموت،

ها هي ستارتي قد أسدِلتْ.

التبصيرُ بزهرة الأقحوان أمرٌ عَبثيّ،

ما المَصيرُ سوى شيء بلا معنى...

**

التكفيرُ عن الآثام – أمرٌ أقرّهُ الخالقْ

عَملُ الرّهبان مع مساعديهم كان واضحاً

أما القديسون، ممن رضي عنهم الخالق، فقد عُذ بوا –

نرجوا أن تصلوا لأجلنا، لأجلنا نحن المُعتقلين.

**

أنظرُ من فوق الصّلبان،

أنظرُ إلى هذه السّماء الزرقاء

أنظرُ من فوق هذه الرّؤوس

أنظرُ أنا إلى روسيا .

غير قادر على التعرّف على هذهِ الوجوهِ،

كأنها قد اعوجّت وتكرنشتْ.

لا يمكِنكَ تقبيل الصّليبَ

فإنّ الصّلبانَ قد غابتْ.

2002

***

Я сдамся последним

سأكون آخر المُستسلمين

كم من الناس حولي قالوا:

كفاكَ عذابا، كنْ كما الجميع،

لقد وجَدتَ لِنفسِكَ مَكانا تحتَ الشمس،

لماذا لا تستقبل فجرَكَ الجَميلَ.

**

ذكرتهم بالحربِ، ولكنْ دونَ جدوى،

قالوا: لقد بيعَ كلّ شيء دون مشاركتِنا،

الحربُ.. نعترفُ بها وحدها،

نعترفُ بذاك النصر العظيم، وحده يُؤخذ بالحسبان.

**

قلت: لقد بقيت لدينا المُقدساتُ،

بقيت تلك الكنائِسُ، والأسماءُ الشهيرة ُ.

قالوا: لقد استسلمَ الجَميعُ،

أنتَ وحدك فقط غريبُ الأطوار.

**

أيها الإخوة.. عَبثا تحاولون..نحن لسنا قوما

نبيعُ أرواحَنا لأجل العيش الرّغيد،

حقا أنهم ضُعَفاءُ، يشيرون إلى الزمن،

حيث ضاعَ كلّ شيء، حسبَ ظنهم، وغابت الحقيقة.

**

نظرتُ حولي فوجدت أنّ الجناحين قد اضمَحَلا..

قام البعضُ هناك برفع الأيدي، وآخرون باطلاق النار على الأرجل.

ناديتهُم: " لا تستسلموا، العَدوّ لن يَرحَمَكم،

إنهم يقومون بشرائِكم لأجل كروشكم" .

**

أجابوا من ذلك الخندق: " توقفْ عن كلامِكَ الخشبي،

لقد وُعِدنا بالترفيع في هذا الأسر...".

إثنان لامنتميان فقط – شاعِرٌ، وكاتبٌ

قاما بتجَنيد القمَر في فصيل ٍ وطنيّ.

**

ألا ترون أنّ قيمة روسيا أكثرُ من قداسٍ يُقامُ (1)

هذا العدو قد عَرّى الضّميرَ، وأراهُ يتقدّمُ

بسهولة في أراضي وطني، نعم سأستسلِمُ،

نعم سأكون آخِر المُستسلمين – وبيدي قنبلة يَدويةٌ .

2006

***

В России

في بلادنا روسيا

مع رسمنا الدائم للصليب، غير أننا نعيش بلا خجل،

هذا الكأسُ كأسي، وقد غطوهُ بقطعةِ خبز، (*)

ليس الموتُ صَعبا في بلادِنا روسيا -

كأنما القلبُ لا يطالهُ الوجَعُ.

**

هذا السيدُ المتغطرس يقودُ سيارته بصَلفٍ،

يَدفعُ العامة إلى حافة الطريق، حيث الوَحل،

ليسَ المَوتُ - بالأمر المُخيف في روسيا،

بل الخوفُ الأكبرُ أن تعيشَ على الهامِش.

**

ها هم من جديد يقسّمونَ الحِصَصَ..

لهذا أرشين واحدٌ، ولذاك فِرستا (2)

أن يَموتَ المرءُ في روسيا ليس بالأمر الكامل،

قبل أن يقوموا بزرع الصليبِ على قبرهِ.

**

أه يا أشجار البتولا، ذات المناديل،

لقد كنت ضيفا بقربكِ بعضَ الوقت،

في بلادنا روسيا يقومون بتقسيم الأراضي بالعدل والإنصاف

هناك.. خلفَ جدار المَقبرةِ فقط .

**

هذه النفسُ مُعذبة كما الزجاج المَكسور،

لم يبقَ لي من الأيام سوى القليل القليل.

الموتُ ليسَ بالأمر البعيد في روسيا،

غير أنه دون البلادِ أقرَبُ.

2005

***

Крысы

الجرذان تغادر السفينة

السفينة لن تغرقَ، والشاطِئ قريبٌ

هاهي الجرذان الغريبة تغادر السّفينة َ

كون إتجاه السفينة لا يناسبها،

ويبدو أنّ عنبرَ السّفينةِ قد أصبحَ فارغا.

**

الجرذان تهربُ إلى أرض اليابسة الموعودة

كي تجدَ لذواتها الفاسدة الدّفءَ والرّاحة

وتسمَعُ صأصأتها اليائِسة:

لا تحرمونا من التأشيرة !

**

ما هو بالنسبة لهؤلاء أرض خصبة، إنما هو لنا مكانٌ ضحلٌ.

وما هو أمرٌ سامٌ لنا، بالنسبة لهم حبّاتُ كراميلا !

لذا تراهم مقابل حفنة قمح من يد غريبةٍ

مستعدون أن يرموا بنا إلى قاع البحر.

**

من غرائب الأمور عند وصول السفينة إلى الشاطئ،

عندما ترسو في الميناء، تسمَعُ جلبة هناك

كأنما يُرادُ بها إغاضة البحّارة

وما هذه الجلبة سوى جلبة تلك الجرذان.

**

ومن جديد نقوم نحنُ باستقبال من هربوا

ونقدم لهم الفرصة من جديد للقيام بفعل الخيانة !

من يعتز بوطنه الأم يدرك حتما

أن لا حاجة للإقتراب من سلالاتِ تلك الجرذان !

2022

***

* دميتري دارين في قصيدته التي نشرت فقط في وسائل الإعلام تحت عنوان (الجرذان)، التي قمنا بترجمتها وتسميتها (الجرذان تغادر السفينة)

الشاعر هنا يسخر من ضعيفي النفوس، يسخر من أولئك الذين ربطوا مصيرهم بالغرب وبالبنوك الغربية، إذ أنهم غادروا وطنهم روسيا ليس خوفا من قذائف قد تدمر بيوتهم في موسكو أو في إحدى المدن الروسية ...!! لا.. بل خوفا من غضب المؤسسات الغربية، وخاصة العم الأمريكي.

......................

* ولد دميتري دارين في 31 كانون أول عام 1964، في مدينة لينينغراد، وهناك نال تعليمه وحصل على شهادة الدكتوراه بالإقتصاد، غير أن الجماهير عرفته من خلال قصائده، و تلك المجموعة الكبيرة من الأغاني الروسية الجميلة والقريبة إلى القلب، التي هي من كلماته. لا يغيب عن البال أن للشاعر دميتري دارين تجارب وازنة جميلة ورائعة، وناجحة في عالم الدراما والمسرح.

الشاعر دميتري دارين، هذا الأديب والصحفي- قامة وطنية معروفة في روسيا ما بعد الإتحاد السوفييتي، فقد وقف ضد عملية هدم الإتحاد السوفييتي، وحارب النيوليبرالية القادمة من الغرب، وقاوم سلوك الإنحناء أمام سياسة أمريكا، وزلم أمريكا في الوطن الروسي، ودعا إلى عدم الإستسلام أمام قوى الناتو، هذه القوى التي عملت على هدم الإتحاد السوفييتي، وقسّمَت يوغوسلافيا، وقصفت المدن في صيربيا، ودخلت بغداد، وعملت على تحطيم الدولة الوطنية في ليبيا بزعامة القذافي، وكانت خلف ما سمي بالربيع العربي، وأشعلت نيران الحرب الكونية ضد الدولة الوطنية في سورية، ونراها اليوم تحيك المؤامرة تلو الأخرى ضد روسيا، والصين، وإيران، وسوريا، والعراق، ولبنان، وضد الشعب الفلسطيني. ويقف هذا الشاعر الفذ، بقامته العالية ضد الظلم، والعبودية، وضد سلوك القطط السمينة، والأخلاق الكومبرادورية، وما قدم من الغرب من إنحرافات وبدع، وما نشأ ونما في روسيا من شرائح باعت أرواحها للشيطان، وعملت ولا تزال تعمل لخدمة الغرب. بعد إعلان بدء العملية الخاصة ضد الفاشية الجديدة، والنازيين الجدد في أوكرانيا رحلت تلك القطط السمينة نحو الغرب، وإلى إسرائيل، ووصل عدد هذه (القوارض الهاربة) إلى دولة الإحتلال الصهيوني، كما جاء في إحدى قصائد الشاعر، إلى 32 ألفا.

دميتري دارين يُمجِّد التاريخ الروسي، ومنظومة القيم الروحية للكنيسة الرّوسية، والأعراف، والتقاليد الروسية، ويتغنى بروح المحبة والتسامح وهو يطالب بالوقوف إلى جانب الإنسان الضعيف، المظلوم.

نقدم للقارئ المحترم اليوم باقة من أشعار دميتري دارين - صديق حركات التحرر الوطني في أنحاء العالم، هذا الرجل المُحب لوطنه الكبير- روسيا.

هوامش ومراجع:

* دميتري دارين شخصية محترمة في روسيا الإتحادية، كان لي شرف التعرف عليه عام 2019 . قمت بترجمة عدة قصائد له، منها ما نشر في الأردن، ومنها ما نشر في سورية، وفي روسيا، ومنذ شهر آذار لهذا العام تنشرهذه الترجمات في صحيفة المثقف الغراء. أنا لا أقوم كما البعض بترجمة قصائد حسب الطلب. البعض مع الأسف قام بترجمة قصائد للشاعر المعارض يوسف برودسكي، الذي تقدم بطلب إلى القنصلية الإسرائيلية بنيويورك في أكتوبرعام 1973 كي يقبلوه متطوعا للذهاب إلى الأرض المحتلة كي يشارك في الحرب ضد العرب.

1. إشارة إلى أحد ملوك فرنسا، الذي قال: إن باريس تساوي القداس .

2. . أرشين: هو قياس روسي قديم يساوي ( 71 سم)، بينما فِرستا:

هو قياس طوله ( 1060 مترا).

* وضعُ قطعةِ الخبز على الكأس - هو تقليد روسي، وهو وفاء لروح الفقيد، وتوديع لها.

* قمنا بنشرهذه القصائد بمعرفة وموافقة الشاعر الروسي دميتري دارين.

3. Дмитрий Дарин. Безымянный Батальон. Москва. 2018 г.

4. Дмитрий Дарин. В Родных местах. Москва. 2019 г.

مقتطف من "تأملات شعرية" :

من قصيد: الشاعر يحتضر

ألفونس دي لامارتين

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

ما الأيام إذن حتى نَبْكِيها؟

شمس، وشمس، ساعة ثم ساعة؛

الساعة التي تؤون تشبه التي ولّت

وما تحمله لنا هذه ترفعه أخرى:

شغل، راحة، ألم وحلم أحيانا،

هذا هو اليوم ؛ ثمّ يحلّ الليل .

*

آه! فلتمطر، يتمسّك  ببقايا السنين

من يداه شديدتان مثل نبات اللّبْلاب

يرى حلمه ينهار مع الأيام!

أمّا أنا، من لم  يعرِق  في الأرض

سأرحل دون جهد، مثل نبتة رقيقة

يقتلعها نسيم المساء.

*

يشبه الشاعر عصافير عابرة،

لا تبني عشّها أبدا على الساحل،

ولا تحطّ على أغصان الأشجار:

متراخية يهدهدها تيار الموج،

تمرّ وهي تغنّي بعيدا عن الحوافي،

ولا يعرف العالم عنها سوى صوتها.

***

....................

* لامارتين " الأعمال الكاملة " 1860،1 (ص347-35)ّ.

- المصدر :

https://www.lalanguefrancaise.com/litterature/lamartine/le-poete-mourant .

بقلم: كـَن نزبـَت:

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

غزال رنة لأعياد الميلاد

عزيزي بابا نويل، قائمتي لأعياد الميلاد هذا العام صغيرة جدا.

في الحقيقة، عمليا لا احتاج اي شيء مطلقا.

قائمتي صغيرة جدا وسهلة القراءة جدا

لأن هناك شيء واحد فقط احتاجه فعلا.

*

غزال رنة لأعياد الميلاد كل ما اطلبه؛

غزال رنة يستطيع الطيران على نحو ممتاز طبعا.

انا حقا لا يهمني ان كان اسمه المندفع او الراقص.

وسأرضى بكيوبيد او المذنـّب او الوثاب.

*

رجاء لا تظن انني طماع؛ اريد واحدا فقط.

فأنت حتى لن تفتقده، وانا سأمرح كثيرا.

اعدك انني سأطعمه واعامله جيدا،

واخرج به كي يطير في الأنحاء كل ليلة.

*

كما ترى، انني لست انانيا. لذا لتجعلها مفاجئة لي

في اعياد ميلاد هذا العام، ارجو ان تجلب لي غزال رنة يطير.

ولكن ان كان طلبي كثيرا بعض الشيء عليك،

فأظن ان آيباد سيفي بالغرض.

***

.......................

كـَن نزبـَت: شاعر اطفال اميركي من مواليد عام 1962. لقب بأمير شعراء الأطفال في العام 2013. يتميز شعره بروح الفكاهة. اصدر اكثر من 20 مجموعة شعرية. من عناوين مجموعاته: (الكائنات الفضائية قد هبطت) 2001؛ (انتقام سيدات الغداء: كتاب شعر المدارس المرح) 2007؛ (مزيد من الدببة!) 2010؛ (صدق او لا تصدق: أخي يملك وحشا) 2015 و(كلبي يحب ان يرقص ديسكو)2021.

 

بقلم: ألن هوب (متباركة)

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

هذه القصيدة

سوف تتكلم عن البحر البائس

الذي جرف السفن نحو هذه الشواطئ

عن الأمهات اللواتي يبكين صغارهن

الذين ابتلعهم البحر

هذه القصيدة لن تقول شيئا جديدا

هذه القصيدة سوف تتكلم عن الزمن

الزمن غير المحدد

الزمن غير المعرف

هذه القصيدة سوف تسمي اسماء

اسماء مثل

لومومبا

كنياتا

نكروما

هانيبال

اخناتون

مالكولم

غارفي

هيلا سي لاسي

هذه القصيدة حانقة

حول التمييز العنصري

العنصرية

الفاشية

الكو كلوكس كلان

اعمال الشغب في بريكستن

اتلانتا

جيم جونز

هذه القصيدة تثور ضد

العالم الأول

العالم الثاني

العالم الثالث

التقسيم

القرار الذي يصنعه الانسان

هذه القصيدة مثل كل القصائد

هذه القصيدة لن تكون من بين الأعمال العظيمة

لن يلقيها المتحمسون للشعر

لن يقتبسها السياسيون

ولا رجال الدين

هذه القصيدة سكاكين... قنابل... بنادق...

تنفجر من اجل الحرية

اجل هذه القصيدة طبل

اشانتي

ماو ماو

ايبو

يوروبا

محاربو نيابينغي

اوهورو... اوهورو

ناميبيا اوهورو

اوهورو

افريقيا!

هذه القصيدة لن تغير الأمور

هذه القصيدة بحاجة الى تغيير

هذه القصيدة هي ولادة جديدة لشعب ينهض...

يستيقظ... يرفض الاستعباد

... هذه القصيدة تتكلم

هذه القصيدة تواصل الكلام... قد تكلمت

هذه القصيدة سوف تستمر

حتى حين يتوقف الشعراء عن الكتابة

هذه القصيدة سوف تبقى حية... بعدك... بعدي

سوف تلبث في التاريخ

في عقلك

في الزمن...

الى الأبد

هذه القصيدة هي الزمن

الزمن فقط سيروي

هذه القصيدة لم تكتب بعد

هذه القصيدة ليس لها شاعر

هذه القصيدة هي مجرد جزء من تاريخ حكايتنا...

حكايتها... حكايتنا

الحكاية التي ما زالت لم تروَ

هذه القصيدة الآن ترن... تتحدث

تثير

تجعلك ترغب بإيقافها

لكن هذه القصيدة لن تتوقف

هذه القصيدة طويلة

لا يمكنها ان تكون قصيرة

هذه القصيدة لا يمكن ترويضها

لا يمكن توجيه اللوم لها

الحكاية لم ترو بعد عن هذه القصيدة

هذه القصيدة قديمة

جديدة

هذه القصيدة منسوخة

من الانجيل

من كتاب صلواتك

من النيويورك تايمز

من الريدرز دايجست

من ملفات السي آي أيه

من ملفات الكي جي بي

هذه القصيدة ليست سرا

هذه القصيدة ستوصف بأنها

مملة

حمقاء

بلا معنى

هذه القصيدة تراقبك

وانت تحاول ان تجد معنى في هذه القصيدة

لكنك لن تتوقف عن الاصغاء لهذه القصيدة

هذه القصيدة سوف تخيب ظنك لأن...

هذه القصيدة سوف تتواصل

في عقلك...

في عقلك...

في عقلك...

***

.....................

* ألن هوب، الذي اشتهر باسم "متباركة" المشتق من اللغة الرواندية والذي يعني "المنتصر دائما"، شاعر وموسيقي وممثل وتربوي أميركي من اصل جامايكي ولد في العاصمة الجامايكية كنغستن في عام 1952.  يتناول شعره موضوعات سياسية واجتماعية وثقافية متنوعة يدين فيها مختلف أشكال الاضطهاد والتمييز العرقي والجنسي والديني في الولايات المتحدة وفي العالم.

 

(من وحي لوحةِ "السعادة"

للرسام التركي عابدين دينو)

بقلم: الشاعرة الهندية لاكسميسري بانيرجي

ترجمة: نزار سرطاوي

4669 لوحة السعادة

أخيرًا يا بيتي الهانئ

يا خيمةَ النعيم المقيم

يا مأوايَ الذي تتسرب إليه المياه

فأعومُ فيه

مع قطرات المطر والأثير

بينما تمرُّ عبرَ أحلامي

سحاباتٌ لطيفة حميمة

من الدفء.

هنا أبتعد عن الأضواء

عن المآزق والمعارك

العاصفةُ تُوَلّي الأدبارَ

بينما أنعمُ بنومٍ هادئ عميق

تحت أغطيةٍ مريحة

بين أهلي وأحبائي

عائلة مُتراصّة من الحيوانات الأليفة والأطفال

متدثّرين جميعًا

بخرَقٍ باليةٍ تفيضُ حُبًّا وحنانًا

وقد علت وجوهَنا الابتسامات

في جنة من الأحتضان

والعناق المقدس

لا نعرف العوز ولا الجشع،

ولا تعترينا الشهوة الجامحة

إذ يضمُّ بعضُنا بعضًا

ونغني رغم النزيف –

غير عابئين بالفقر

لأننا نتنفس الحرية

المفعمة بالفرح –

4661 لاكسميسري بانيرجي

Happiness (Courtesy Painting by Abedin Dino

Laksmisree Banerjee

*

home sweet home

my canopy of bliss

a leaking shelter

where I swim with

the raindrops and ether

cool and cosy wisps

of warmth in my dreams---

where I shun the glitz

the glitches and the blitz

the blizzard returns in defeat

as I sleep safe and deep

in my comfort quilts

*

with my near and dear ones

snuggling family of pets and kids---

all in swaddles of

loving rags in smiles

a heaven of cuddles

with embraces divine

no want, no greed,

no rapacious lust

in each other's arms

we sing despite the bleed----

no penury

for we breathe free

rich in glee---

***

..........................

تعدُّ الدكتورة لاكسميسري بانيرجي واحدة من الأصوات الشعرية البارزة في الهند. وهي أستاذة جامعية وكاتبة وناقدة أدبية ومحررة وتربوية ومغنية. تولت سابقًا منصب نائب العميد، وتُدّرس اللغة الإنجليزية والدراسات الثقافة. وقد صدرت لها ثمانية كتب شعرية وحوالي 160 بحثًا وكتابًا أكاديميًا حول مجالات متنوعة في الأدب والفن والثقافة، وفازت بالعديد من الجوائز.

والدكتورة بانيرجي خبيرة على المستوى المحليّ والدولي في برنامجيْ فولبرايت والكومنولث، حيث تقوم بتدريس الشعر والموسيقى وإلقاء المحاضرات، علاوةً على قراءة الشعر في الجامعات والمهرجانات في العديد من دول العالم. تؤمن باستخدام قلمها وصوتها من أجل التغيير الاجتماعي.

يُذكر أن الدكتور بانيرجي هي المرشح الهندي لرئيس الدولة في مجالس إدارة الجامعات المركزية.

بقلم: ريموند انتروباص

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

مكبرتا الصوت في أذنيّ تصفران كأنهما تغنيان

لإيكو، إلهة الضوضاء،

عقدة الألسن المحلولة،

عن الطيور الصداحة، كـِسـَر الصوت الصحيح

لأجراس الأبواب المكتومة، الأصوات الغارقة

في أنبوبتي المساعدتين للسمع غير الواضحتين.

كان غاودي يؤمن بالصوت المقدس

فشـيـّد كاتدرائيةَ لتحتويه،

ساحبا الناس الذين يسمعون من ركبهم

وكأن الإلحاد نوع من أنواع الصمم.

من سيخذل الرب؟

ولو أنني لم اسمع

ديسبلات الصوت الذهبية للملائكة،

فلقد عشت في قصر خال من الضوضاء

يبعث جرسُ بابـِه

ضوءا فأستطيع أن أجيب.

2

ماذا؟

كلمةٌ تواصلُ النظرَ

في مرايا كأنها عاشقة

لحجم صوتها.

ماذا؟

انا سؤالٌ من كلمة واحدة،

فحص مريض

لشخص واحد.

ماذا؟

أية لغة

سنتكلم

من دون آذان؟

ماذا؟

هل الفردوس

عالمٌ اسمعُ فيه

كلَ شيء؟

ماذا؟

كيف سيعرف دماغي

بأي شيء يمسك

إن كان لديه اذرع عديدة؟

3

يوم أفرغت شقة والدي المتوفى

رميت صناديق الألبومات، كتب غارفي،

مالكولم أكس، مانديلا، والخطابات المسجلة على الاسطوانات.

وجدت شريط كاسيت تي دي كي على الرف،

ملصقة عليه رقعة تقول "ريموند يتحدث."

اشغل الشريط في مشغل أبي القديم

واسمع صوتي وأنا بعمر سنتين يترنم باسمي "أنتروب"

وضحكات أبي تجلجل في الخلفية

غير عارف بأني لم استطع سماع كلمة "باص"

ولم أتمكن من ذلك حتى حصلت على مساعدات السمع.

والآن اجلس هنا أصغي الى فضاء الصمم—

"انتروب انتروب انتروب"

4

ولم يعرف احد ما الذي كان يتقصني

الى ان أعطاني احد الأطباء مجموعة من مكعبات اللعب

وطلب مني ان أضع مكعبا على الطاولة

كل مرة اسمع فيها صوتا.

بعد الاختبار بقيت امسك بيدي

بمكعبات تكفي لأشيد بها منزلا

واسميه محرابي،

اسميه السبب الذي جعلني اجلس في صمت قدسيّ

خلال عظات والدي التي كان يعظ بها الناس،

والخبر الجيد هو إنني لم أكن اسمع

إلا كما تترد أصداء بلبلة بابل.

5

وان كنت لا تلقط شيئا"

فإذاً هناك خلل في أذنيك—

لقد ضبطتا على التردد الخاطئ"

--كاي ميللر

إذاً فربما انتمي الى الكون

تحت الماء، حيث تكون جميع الأغنيات

عويلا مفضوحا لسلاكيا،

إلهة المياه المالحة، شافية،

الآذان المصابة بالالتهاب،

وهو ما ظن الطبيب

انه علتي، لأن الصمم

لم يصب أحدا في العائلة

بل جاء من مكان مجهول،

لذا فقد زرقوا فيهما زيت الزيتون

والماء المالح، وبتنا جميعا ننتظر

لنرى ماذا سيخرج منهما.

***

...................

ولد الشاعر ريموند انتروباص في هاكني بلندن عن أم بريطانية وأب جامايكي. اكتشف والداه إصابته بالصمم وهو في سن السادسة. واصل تعليمه ليصبح معلما وليكون واحدا من أوائل الحاصلين على شهادة الماجستير في برنامج (التعليم بالكلمة المنطوقة) في العالم من كلية غولدسميثز بجامعة لندن. ظهرت أشعاره في مجلات شعرية مرموقة كما قرأ قصائده في محافل ومهرجانات وقنوات إذاعية وتلفزيونية عديدة داخل وخارج بريطانيا. منحته جمعية الشعر البريطانية في العام الماضي جائزة جيفري ديرمر على قصيدته المعنونة (آلة الأصوات)، وفاز مؤخرا بجائزة تد هيوز للشعر لعام 2019 عن مجموعته (المثابرة) التي نترجم هنا إحدى قصائدها بمناسبة فوزه بهذه الجائزة.

 

3142 caraبقلم: كارا بلو أدامز

ترجمة: صالح الرزوق


عملت هي وأختها معا بصمت. لم تكن توجد حاجة للكلام. وركزتا تفكيرهما على الكلب، وكانتا تتعاملان معه كأنه فراش. كان نصف كولي، ونصف ألماني، ونصف كلب رعاة، ويبلغ وزنه ثمانين رطلا. وكانتا تتعاونان معا على جر قدميه الأماميتين على السلالم كي يصعد إلى الطابق الثاني من البيت. وخلالها ينوح بهدوء كلما رفعتا ساقه ليتمطى باتجاه السماء.

وضعت طبق طعام الكلب قرب فمه. السابع. هذا سابع يوم لم يتمكن من تناول الطعام بشكل مناسب، وبلعومه امتنع عن أداء عمله، وتوجب عليها وعلى أختها أن تمسكا به بطريقة تساعد الجاذبية على إلقاء الطعام في بلعومه ليستقر في بطنه. وهكذا لا يتضور من الجوع إلا بالتدريج. انتشرت رائحة لحوم قوية من الطبق الذي وضعته قرب أنفه. ونبح الكلب بضعف بالغ، ثم نقر الأرض بقوائمه، وكشر لها. لو تركت له الحق بالاختيار لتوقف عن الطعام منذ أيام، ولسمح لضعفه أن يتحكم به، ولغاب عن عينيها في مكان لا تعرفه: الغياب عن الوعي ثم الموت. الموت: يمكنها أن تذكره، لكنه لا يعرف كيف ينطق، وتساءلت، لفترة قصيرة، كيف امتلكت هذا الكلب لتقاوم به زوجها السابق، حتى الموت، ولذلك لن تتخلى عنه ولو حاولت الطبيعة أن تعدمه بطريقتها المسالمة. قال لها البيطري في إحدى المرات: الكلب لا يشعر بالألم مثلنا. وبالتأكيد هو يعني أن الكلب لا  يتأمل نفسه، ولا يتساءل كيف سيتصرف إذا تطفل عليه غريب، وبمن سيضحي - بحياتها، أم بزوجها السابق، أم بابنتهما، أم بحياته - ومن سيكون الثاني والثالث والرابع ومن سيحل في المرتبة الأخيرة - إن الاستلقاء والذهن متيقظ وتدور فيه هذه الأفكار ليس مصدرا للألم عند الكلاب. والكلب لا يمكنه أن يعتاد على الألم، ولا يستطيع أن يرى أنه ضيف محتمل ومحترم. وكلما أطعمت الكلب بهذه الطريقة، كانت تؤلمه مع أنها تبذل جهدها لجره بلطف من صدره العظمي النحيل على السلالم المكسوة بالسجاد، وحتى لو تركته قريبا من أحضانها، كان ينظر إليها بعينيه البراقتين نظرة تقول: لم أتوقع كل هذا منك.

بعد أن انتهى الكلب من الطعام، شعر بالتعب بخلاف أمس وهذا الصباح - وأراح مقدمة فمه على الطبق، وترك نصف المحتويات من الطعام المهروس مكوما تحت أنفه - ثم تعاونت مع أختها لحمله على السلالم. عرج نحو النافذة، ودار حول نفسه ثلاث مرات، ثم انهار مع تنهيدة على الغطاء القديم الذي فرشته من أجله. تحامل الكلب على نفسه بكرامة ولكن دون اعتزاز، واستلقى كما لو أنه يتخذ وضعا لنفسه فوق البقعة التي سيرتاح عليها للمرة الأخيرة. كانت تفكر باستعمال لحافها القطني - فهو على الأقل يستحقه - لكن لم يكن بمقدورها شراء آخر جديد، والكلب لا يعرف الفرق بين نعومة غطاء ولحاف. نقلت ثقلها من وركها الأيمن المتورم لوركها الأيسر، وهي تمعن بالتفكير. وفي الخارج كانت شجرة البتولا تخشخش وتلمع بألوانها الخريفية. تحرك خيال فوق ذيل الكلب ثم تراجع. ورسمت الشمس شكل حدوة حصان على شعره الغزير. يمكنها تأجيل موته ليوم آخر لو أرادت أو يومين. ولها الحق بالاختيار. غير أنه عليها أن تسرع باختيارها، إنما لا توجد لديها فرصة مع القدر، بل مع الوقت فقط. وحينما غادرت أختها، ومعها البنتان لتناول كوكتيل الحليب ثم النوم. طبعت كل منهما قبلة على رأس الكلب، وثانية، والشعر الطويل والأسود يلامس الغطاء. ثم عانقتاه وربتتا على أقدامه. وأخيرا حل الهدوء على البيت. فاستدعت البيطري للبيت. وجاء فعلا في وقت متأخر من تلك الأمسية. 

من هذا المطبخ، سمعت صوت شاحنته تدوس على الممر المفروش بالحصى. هو رجل كبير ووسيم. وقفت قرب النافذة بعيدا عن الأنظار تراقب قدومه. كان فمه مطبقا كأنها تهم بتقبيله، وكلما اقترب، كانت تسمع صفيره. تسلق السلالم الخشبية التي جهزها زوجها السابق ولكنه تردد عليها قليلا، وتراجع، وتوقف، وفحص المواضع الضعيفة. كانت قد انتبهت لبداية تعفنات، واستعارت كتابا من المكتبة العامة يشرح صيانة المنازل. وهي تحتفظ بهذا المشروع لوقت آخر. حينما لا يجافيها النوم. وهي لا تثق بنفسها والمنشار الكهربائي بيدها. وصلت إلى الباب قبل أن يقرعه.

قالت: ”شكرا لأنك أتيت، ولا سيما أنه يوم أحد”.

كانت تعيش على أطراف طريق ترابي، وبعيد عن العيادة. وكان يعمل ويسكن في عيادته. فشقته فوقها في الطابق الثاني.

ابتسم البيطري. هز منكبيه. وقال:”لم أكن مشغولا. أمرر الوقت فقط”.

قادته لغرفة المعيشة.

سألها:”هنا أم في الخارج؟”.

قالت:”هنا”. سألها إن كانت تفضل أن تكون مع الكلب فقالت: ”نعم”. جلست القرفصاء. وشعر الكلب بألمها فاضطرب. لحس وجهها بغيظ. وفك البيطري علبة أدواته، وعبس بالإبرة التي جهزها حتى يستقر السائل في الأنبوب. واستعمل الكلب قائمتيه الأماميتين ليجر جسمه نحو الأمام حتى أصبح نصفه في أحضانها.

قالت: ”وداعا”. وربتت على أذنتيه الناعمتين، وتحسست مفاصله وهي تجر أذنيه للخلف بالطريقة التي يحبها، بمحاولة لترافق هذا المخلوق، وهو يغادر وعيه الرقيق دون أن يفقد الطمأنينة المعتادة التي تشعر بها دائما بسهولة. ولكنها فشلت. ولم تكن تفكر إلا بنفسها. وجد البيطري شرايينه، نبح الكلب، وتوتر، ثم تراخى، وبقيت عيناه مثبتتين عليها بقلق. كأنه لا يزال يسأل: ما هذا؟. ماذا يقلقك؟.

وطبعا كانت تعرف أن البيطري سيحمل معه جثمان الكلب بعيدا كما طلبت منه. وحينما سألها: ”جاهزة؟”. لم تفهم ماذا يقصد. هزت رأسها بكل الأحوال، واستوعبت الموضوع حينما رفع الكلب بين ذراعيه بحركة واحدة. وبعد أن وقفت، حرك البيطري الكلب بيده ليخفف من ثقله. وبدل جثمان الكلب موضعه بخمود كأنه كيس يضم ترابا مفككا.

قالت: ”شكرا”. لم تكن متيقنة لمن توجه شكرها. ولماذا.

فتحت الباب الأمامي للبيطري.

قال البيطري موجها كلامه للكلب: ”حان الوقت لتعود إلى بيتك أيها الرجل الطاعن بالسن”. ثم قال لها: ”سأرسل لك الفاتورة”.

قالت مجددا: ”شكرا”.

راقبت البيطري يحمل الكلب إلى شاحنته، وآمنت أن الأسوأ قد انتهى، هذه الأمسية على الأقل. ولكن البيطري توقف فجأة، وفتح الكلب فمه، وانسكب منه على الأرض سائل أبيض. ولاحظت اسوداد التراب. وانتظر البيطري حتى انتهى التقيؤ ثم تابع مع الكلب بقية الطريق إلى شاحنته. وألقى الجثة في الخلف.

نادت من الباب: ”انتظر”.

وأسرعت على السلالم، ثم عادت ومعها اللحاف. حملته إلى الشاحنة، وهي تقول لنفسها: أنا امرأة حمقاء.

سألته: ”هل هناك مانع؟”. نفض البيطري رأسه. وتراجع، وسمح لها أن تغطي الكلب باللحاف. كانت أقدامه متناثرة بطريقة غير ودودة كأنه ينام على أرض رطبة. وكان جسمه قد تصلب. وبعد أن لفت بإحكام أطراف اللحاف حول خصره، لم تستسلم لها مؤخرته. قالت لنفسها أيضا: أقدم كل شيء في الوقت غير المناسب.  وللشخص غير المناسب. في الغد، حينما تأتي البنتان، ستخبرهما أن الكلب رحل. وستغضبان لأنها لم تخبرهما من قبل لتتمكنا من توديعه. وستقضم الكبرى شعرها، وستضربها الصغرى كما حصل حينما أخبرتهما أنهما لن تلتقيا بأبيهما لبعض الوقـت. وسألتاها: بماذا أخطأت معه؟. ولكن لا يزال أمامها وقت حتى الغد. الآن هي وحدها. وعليها أن تدع الدجاجة المتجمدة أن تذوب لتحضير الغداء، وأن تغسل اللحاف القديم الذي استلقى عليه الكلب قبل ساعة عندما زحف الظلام على البيت، وجر وراءه برد الليل، غير أنها بالتأكيد ستكون آمنة.

سلحت جهاز الإنذار بإضافة الرمز السري بضربات من أصابعها. وغسلت طبق الكلب في المغسلة. وتركت الماء ينسكب حتى ارتفعت حرارته، ووضعت يديها تحته. وأشعلت النور وهي تدخل إلى الغرفة. وأطفأته وهي تغادرها. وأغلقت الستائر بوجه الظلمات.كارا بلو أدامز CARA BLUE ADAMS: كاتبة أمريكية مولودة في هامبشير الجديدة. عملت بتدريس فن الرواية في جامعة أريزونا. تعيش حاليا في لويزيانا. أصدرت أول كتاب لها بعنوان “لن تستعيدها أبدا” في نهاية عام 2021 وحازت به على جائزة جون سيمونز للقصة القصيرة. 

 

 

خيري حمدانبقلم: كالويان خريستوف

ترجمة: خيري حمدان


разговор

حديث

عندما يتوقّفُ المطر

يظهرُ الحمامُ للعيان.

نادرًا ما يلحظه أحد

لكنّ الحمامَ لا يفتأ يذكّرُ بحضوره.

وأنا أريدُ مثله

أن أتربّع بين غصونِ الصمت،

المغطّاة بماءِ المطر

لأذكّرك بين الحين والآخر

أهميّة الاستماعِ لصوتك.

وأذكّرك أن الوقتَ ما بعدَ المطر

حين يملأ الدفْء الأنحاءَ ثانية

بطيفٍ من خيوطِ الذكريات،

لن يكرّرَ المشهد ذاته

إذا لم يتماهى صوتك مع رحابةِ الفضاء

**

دعنا نتحدّث. 

Церква

كنيسة

تُقرعُ الأجراسُ عندَ اكتمالِ الساعة.

رائحة البخّور،

رائحة الفتيل المنطفئ.

تُضاءُ الشموعُ

تلمعُ الأعينُ الرطبة.

الأبسطةُ المغبرّة ترحّبُ

بخطواتِ المصلّين.

شخصٌ ما يقف في المدخل الخارجي

في العتمة.

يتردّد، هل يدخلُ الكنيسة؟

تُقرعُ الأجراسُ عند اكتمالِ الساعة.

**

съвпадения

مصادفات

تصادفتْ خطواتهم

في طرق عديدة

توقّفت أنظارُهُم

في أماكنَ واحدةٍ

متماثلة.

لكنّ حواسهم

لم تلتقِ

أبدًا. 

**

Крепост

حصن

غصنانِ منكسران

حجارةٌ متساقطة

رأسُ مالٍ مهدور.

وهناك عند المدخلِ

ما بين الحجارةِ المرصوفة

انبثقتْ شجرةُ جوزِ هند

بلغَ جذرُها القرنَ الرابعِ الميلادي

وأوراقها تبثُّ

فيلمًا تاريخيًا

في ظلال المدخل.

**

Гара

محطّة

انطلقَ رصيفُ المحطّة

وبقي القطار.

ابتعدت باقةُ الورد

ولم تظهر اليدان.

وسكّةُ الحديد تراقب صدأها الكامن

بخجل.

***

.....................

* ولد الشاعر كالويان خريستوف عام 1997، أنهى دراسته الثانوية في مدينة غابروفو في قسم اللغة البلغارية والآداب. درس الأدب البلغاري في جامعة صوفيا "القديس كليمنت أوخريدسكي" ويعدّ أحد مؤسّسي الموقع الأدبي “Tetradkata.com”. نشرت قصائده في "الصحيفة الأدبية"، مجلة "الشعر الاجتماعي"، "عالم الأدب"، المناخ "زورنيتسا" وغيرها. كتب القصائد المغنّاة. صدر له ديوان "مبارزات ودّيّة" عام 2018، "مصادفات" عام 2018، "جزيئات مالحة" عام 2020. فاز بالجائزة الوطنية "نيكولا فابتساروف" عام 2019.   

 

الصفحة 7 من 7

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم