نصوص أدبية

ابراهيم الخزعلي: حُلُمٌ وميلادٌ تَحْتَ الرّصاص

(بما ان القضية الفلسطينية، هي ليست قضية الفلسطينيين فقط.. بل هي قضية انسانية، وحضارية، يشترك فيها من، مختلف الجنسيات والأعراق، والجميع يضحي من أجلها!، إذن لا يستطيع البقاء على ارض فلسطين كيان مصطنع كأسرائيل)

**

وتعود مرةَ أخرى تُهَدهِده، وما ان يهدأ، إلاّ ودوي رصاصٍ، أو أزيز طائرة تُرْعِبَهُ، فَيَصرخُ مَذعورا.

لَمْ تكن عيناهُ ونظراتهُ كالآخرين!

فحين يصرخُ إثرَ أيّ صوتٍ، سرعان ما يتوقف عن البكاء، وترى عيناه تُرْسلان نظرهما بعيداَ بعيداَ، كنجمتين تتلألأن في الأفق.

**

هدأ قليلاَ بعد أن أتعَبَهُ البكاء، وأسدل جفنيه على دموعه التي لم تجف بعد.

بُمب...

قَذيفَةٌ أخرى تَسْقُط وسَطَ المُخَيّم، فينفجر باكيا بأعلى صوته..

لا ياصغيري..

لا ياصغيري العزيز لا تخف، إسمُ الله.. إسمُ الله عليك. أخْرَجت نَهدها لعله يسكت.

هَدْهَدَتْهُ وهو في حُجْرها ويدها تربت على جانبيه، وهي تناغيهِ بصوت شجي.

تبادر الى ذهنها شئ ما، وثمة سؤال غصّت به حنجرتها..

ما هذه الأصوات؟!

إستيقظ الصغير من غفوته، وعيناه تصوبان نظرهما بعيني امه،وقد أشرق بإبتسامةٍ عريضة كهالة ضوئية تحيط بوجهه.

قفزت من بينِ شفتيه كلمات: إنّهُ صوت الطائرات ياماما!

لَمْ يترك أي أثر على أمّه ما نطق به، كا لمسيح حين تكلم في المهد

صبيّا..

و كأنّ كلماته كانت جوابا على سؤالها المتجمد في حنجرتها، وما فتئ ان بادرها بسؤال: والى متى يفعلون ذلك ياماما ؟

**

إرتخت يداها اللتان تحتضنانه الى صدرها، وتلاشت إبتساماتها بانسدال جفنيها كما تتوارى الشمس وراء الأفق. أنفجر بركان مكبوت في أعماقها، هزَّ كيانها وبعث ماضيها.. سؤال اكبر مما تتوقعه !

واعمق معنى من ليل ينتظر خيطا من نور فجر.

**

سرحت مع أحلام طفولتها، تذكرت أختها الصغيرة التي سألت يومذاك، ذات السؤال، فكانت الأجابة أن تطايرت أشلاءها.

اقشعر بدنها، كما لو أن تيارا كهربائيا لامسها!

دّبَّ في عروقها اشبه مايكون بماءٍ ساخن، حدّثت نفسها، ليتها لاتفاجأ بِمِثلِ ما وقع لأختها. نظرت في وجهه، وكلتا يديها تضمانه الى صدرها بقوة.

كانت عيناه تُصَوّبان نظرهما في عيني أمهِ، كمن ينتظر جواباَ.

خَطَرَ على بالها أن تقولَ شيئا، وقبل أن تفتحَ فاها، هَزّت أركان المخيّم قذيفة صاروخية أخرى..

صّرّخت:

ولدي.. ولدي، مات ولدي..

قَفَزَ سالم من فِراشهِ !

ما بكِ، ما بكِ يا مريم ؟ إهدئي.. إهدئي إنّكِ في حُلُم، وأخذَ يَرْبُت على كَتفها مثل صغير بين يديه، واستأنفت صراخها ثانية، وبعد أن هدأت قليلاً صاحت: ولدي، ولدي.. أينَ ولدي ياسالم ؟ قلت لكِ أنكِ كنتِ تحلمين.

**

فتحت مريم عيناها الزّرقاوان على إتّساعهما، إلتفتت يُمنةَ، يُسرَةَ، حدّقت بكل ما يحيط بها، كمن فَقَدَ شيئاَ. مَسَحت عينيها ومن ثم تلمّست بكفيها بَطنها المرتفعة. إتّشح وجهها بشئ من الأصفراء، لِيُغَطّي تلك الحُمرة المرسومة على وجنتيها.

إرتَعَشَت، أصابتها قَشْعَريرة شديدة، جَعَلتها تَهتَزّ، كمن تَعَرّض لريح ثَلجية، أخَذت تَتَلَوّى. لَمْ تُطِق صَبْرا من شِدّةِ الألم. أطلقت صَرَخة عالية تشوبها حشرجة، مصحوبة بزبد، قالت: إذهبْ يا سالم واحضر لي طبيبا، فان أحشائي تتمزق.

قال سالم: ماذا تقولين يا مريم ؟ أتعلمين كم الساعة الآن؟ إنها الثانية بعد مُنتصف الليل، كما أنَّ دوريات العدو العسكرية تتجوّل، لأنّهم أعلنوا البارحة حالة مَنْع التَجَوّل.

أجَلْ.. ان تلك القذيفة التي سقطَتْ وسَطَ المُخَيّم، كانت شَديدة الأنْفجار، أرعَبت أهل المُخَيّم قاطبة، حيث لم يجرؤ أحد على الخروج.

تعالت صيحاتها لترتج حُجُب الظلام الجاثية على صدر المُخَيّم، وكلما تزداد شدّة ألألم، فهي تتقلّبُ كَعُصْفورةٍ طُعنت برأسها. يرتفع صراخها، حتى أمسى وجهها كليمونة صفراء ذابلة، ففقدت كامل شعورها، كالمصاب بالهستريا، تصرخ، تتلفّظ عبارات لا معنى لها. وما أن تهدأ موجة الألم تناديه بصوتٍ ضعيف: سالم.. أين أنتَ يا سالم؟

حاول بكل ما يمتلك من قوة وارادة، حبس أدمعه بين جفنيه، وعبرة بلغت حُلْقومه.

فأجابها بود ورِقّةٍ:

نعم حبيبتي..

قالت: إذهب الى الخالة أم حسن وأحضرها لي، سأموت، سأموت..

**

نَهَضَ سالم من فراشه متثاقلاً، تعتصره الأفكار، واضعاً رأس مريم على وسادةٍ عَتيقةٍ أو بالية الشّكل، بعد أن كان على ذراعه الأيمن، دَسَّ يَده في جيب بنطاله اثناء قيامه، لِيُخْرجَ علبة السجائر التي ما كانت تحتوي إلاّ على سيجارةٍ واحدةٍ. أطلق عنان أهةٍ حرّى مَحبوسةٍ في أعماقه الملتهب، ونفث الدخان بعد أن أشعل سيجارته، فارتسم الشهيد عصام وسط السحابة الدخانية، مخاطبا اياه

(أخي سالم إنَّ أملُنا فيكَ لَهو أكبر من أن تَخدشَ الأشواك قدميكَ، فتُعيق تَقَدّمكَ، نحن نعرفُ أنّكَ تتألم، والحيرة كحبل يلتف على عنقك، ولكن ينبغي عليك أن لا تغضب، أو تنهار، لِما هو ليس بِمُستوى الأهمية. فصلاح عندما وهب قلبهُ لِقضيةِ شَعبِهِ، لم يَمُتْ، ما دامت قضيتنا حيّة لَنْ تَموت. وكذلك أحمد ورُبّما مريم وأنتَ، وتوقّع أنّ أعدائنا الغُزاة سيستعملون أقسى الأساليب في ضربنا جوّاَ وبرّاَ.. بطائراتهم ومدافعهم ودبّاباتهم ورشّاشاتهم وبمختلفِ وأحدث أسلحتهم، توقّع هذا كُلّه يُوَجّه ضِدّنا ما دمنا نحن نناضل مِن أجلِ قضيتنا في سبيل تحرير أرضنا من دنسهم، وما دمنا نَحْمل البُنْدُقية. فلا تيأس ولا تَحْزَن، فالحُزْنُ كل الحزن حين تسْقط الراية والبُنْدقية.. وهذا مُسْتحيل، لأنَّ الدماء التي سالت لَن ولَمْ تَجُفْ، والأرواح التي أزهقت، لَنْ تموت، هي فيكَ، وفيَّ، وفي كُلِّ المناضلين، وإننا لابُدَّ أن ننتصر).

رَمى سالم عقب سيجارته ولم يُكْمِل النّفسَ الثاني منها. دسًّ يديه في سترته، قَدّمَ رِجْلهُ اليُمْنى ثم اليُسرى، تقدّم خطوة لِيَفتح الباب بِحَذرٍ. إنطلق صوت من خلفه لم يألفه من قبل! إلتفت وراءه، لكن ضوء الفانوس الخافت لم يُمَكّنه من ان يرى، ومن أين هذا الصوت المنبعث من الظلمة، تراجع الى الوراء قليلا. ثمّة شئ في داخله يُحَفّزه، وكأنه قد لمح خيطا من نور شمسٍ غابت مُنذُ قرون. إندفع جسمهُ لا إراديّا نحو الشئ المجهول. نادته مريم: سا.. لم، سالم.. تعال ياسالم، إنّهُ.. إنّه هو.. هو..

فانحنى نحوها بكل شوق ليحتضنه بكلتا ذراعيه، وقد غطّت ساقيها، وارتسمت ابتسامة كقوس قزح على وجهيهما، ولاح الفجر من كُوةٍ صغيرة في الغرفة.

***

ابراهيم الخزعلي

قصة قصيرة - 1983

في نصوص اليوم