آراء

تماضر كريم: المزاج الشعبي وموضوعية الأديب

هناك توجه مجتمعي جديد ومحموم وهو كره المتدينين، واعتبارهم يقينا محض مدعين للتدين، لاسيما المعممين منهم، بالطبع هم يستندون في هذه القناعة إلى ما آلت إليه الأمور في العراق سياسياً، حيث كانت الأحزاب المتصدرة للحكومات المتعاقبة بعد ٢٠٠٣ هي أحزاب تحت مسميات دينية بارزة، وقع على عاتقها تشكيل حكومات، يرى الشعب عموماً أنها لم تنجح في إدارة البلد، لنقل ولو بنسبة مُرضية مع ما توفر لها من مقومات النجاح، حيث الموارد المالية الهائلة، ومساحة الحرية الكافية، كل هذا ألقى بظلاله على نظرة الجماهير إلى الدين والمتدين العراقي، وبالأخص المعمم، فبعد أن كانت رؤية المعمم في الشارع تثير في نفوس الناس نوعاً من احترام وتبجيل، صارت تثير الإشمئزاز، لأن شكله فوراً يقترن بسرقة أموال الناس وحتى التورط في دمائهم، حتى لو كان ذاك المعمم يعيش ذات الظروف التي يعيشها الإنسان العادي تماماً.

يعبّر الناس عن هذه الكراهية بلا حرج على مواقع التواصل. هناك كمية كبيرة من مقاطع ساخرة وصور مضحكة، فضلاً عن قصص وأخبار يتم تداولها حول أشخاص متدينين ومعممين، مثلاً يتم عرض صورة إمرأةً فقيرة معدمة، بجانبها رجل معمم يقود سيارة فارهة، وقصص أخرى من هذا النوع تضعهم في خانة المتهمين دائماً، كل هذه الممارسات على مواقع التواصل خلقتْ وعياً جديداً في أذهان الناس، يقوم على كره الأشخاص الذين تبدو عليهم السمات الدينية، سواءً كانوا معممين أو خطباء، أو شعراء دينيين أو غيرهم ممن يُظهِرون تدينهم، فهم يرون فيهم وجه الدولة التي سرقتهم، وأخفقت في إسعادهم.

في الأدب أيضاً ذات الأمر، إذ لايوجد روائي أو قاص يقدم نموذجاً دينياً إلّا حسب المزاج الشعبي العام، هكذا لن يعرض الكاتب نفسه لتهمة أنه متواطئ، فيما أن الأديب يعرف جيداً بصفة أنه مثقف، أن الوعي العام هو عاطفي وانفعالي عموماً، وإن الكاتب وهو شاهد عصره عليه أن يكون متوازناً وموضوعياً، فهو أشبه بخالقٍ مواز، يقدم جميع الإحتمالات، ولا ينقاد للوعي السائد، وليست رواية (ألف شمس مشرقة) ببعيدةٍ عنا، وهي رواية عالمية للكاتب الأفغاني الأمريكي خالد حسيني، ورغم إني لست متيقنةً من توجهات الكاتب الشخصية-وهي لا تعنيني كثيراً-إلّا إنني لمست توازناً ملحوظاً في تقديم شخصياته في مجتمع مسلم منغلق مثل المجتمع الأفغاني، فهناك (رشيد) وهو زوج الشخصية الرئيسية (مريم)، إنه شخص متدين، لكنه عدواني، سيء الخلق، فيما قدم لنا ايضاً ( الملا فايز الله)وهو رجل متدين، أراده حسيني رمزاً إسلامياً نقياً، فضلا عن شخصيات أخرى تندرج بين هذين النموذجين. لفتت انتباهي موضوعية الكاتب في خلق شخصيات طبيعية من لحم ودم، ذات قناعات دينية أملتها ثقافة بلده أفغانستان، ولم يكن متجنباً الخوض في تلك القناعات رغم الجنسية الأمريكية التي يحملها فضلاً عن ميوله العلمانية الواضحة.

برأيي أن الشعب له مبرراته في انفعالاته المتطرفة تجاه الدينيين (وأعني الإسلاميين خاصة والمعممين غالباً) لأنها ناجمة عن خيبة أمل كبيرة، وإن كانت تلك الإنفعالات غير موضوعية في تعميمها، لكن ما عذر المثقفين والكتاب في مجانبتهم الواضحة للموضوعية؟

المثقف العراقي، والأديب تحديداً لايقدم لنا شخصيات ذات خلفيات ورؤى دينية جيدة، لأنه يعرف أن سمة الأدب في العراق هي ليبرالية، أو وجودية أو ماركسية أو علمانية، عدا ذلك لا يُعد أدباً. برأيي أنها وجهة نظر لها ما يسوّغها، لكن يفوتهم أن الأديب البارع قادر حتماً على تقديم النماذج، الدينية الجيدة منها والرديئة، مع إبقاء النص في مساره الطبيعي البعيد عن العاطفة والإنحياز كما فعل (خالد حسيني) في روايته، فهي رواية واقعية، لم يفكر فيها الكاتب بردود الأفعال في أميركا مثلاً، ويا للمفاجأة عندما حققت الرواية ذلك النجاح العالمي المدوّي مع كثرة المحمولات الدينية.

الأدب لا ينقاد للمزاج العام، بل هو يخلق مزاجاً موضوعياً جديداً، وينتج وعياً بالحقيقية، حقيقة أننا يجب أن نكون منصفين وموضوعيين في نظرتنا للأفراد والأحداث.

***

تماضر كريم

 

في المثقف اليوم