قضايا

ثامر عباس: الثقافة في حضرة التاريخ.. حفريات في ذاكرة الثقافة العراقية

حين يسلم المرء قياده للخيال ويمضي خلف دعاوى الذاكرة، لاستطلاع بواكير الوعي في المجتمع العراقي والاستدلال على بدايات تشكيل منظوماته الثقافية، فان الاحالة المتوقعة ستكون باتجاه ما تمخض عن صدمة الحداثة الغربية التي رافقت ظاهرة المدّ الاستعماري وما تبلور على أساسها – ألم يزعم البعض بأنها كانت القابلة التي أنجبت الفكرة الليبرالية من رحم مجتمع عاقر؟! .

بيد ان الاطمئنان لهذه الحصيلة الجاهزة لا يعدو أن يكون سوى ابتسارا "للوقائع واختزالا" للأحداث، التي شهدها ذلك المجتمع منذ مطلع القرن العشرين المنصرم ولحد الآن . ذلك لأن فاعلية تلك الصدمة – وان شملت حقول شتى – كانت ترمي الى تحقيق الهيمنة السياسية، وتعميق التبعية الاقتصادية، وتمزيق الوحدة الاجتماعية، وتلفيق الفتوحات الثقافية، دون أن تحفل بما ستؤول اليه الأوضاع من طغيان في الحالة الأولى، والحرمان في الحالة الثانية، والامتهان في الحالة الثالثة، والارتهان في الحالة الرابعة .

وهو ما تصدّت له وأسهمت بفضحه ثلة من الوطنيين الأقحاح الذين واجهوا، متنكبين سلاح الفكر العلمي والثقافة العقلانية، صعوبات مادية واعتبارية قلّ نظيرها لدى أقرانهم في المجتمعات الأخرى . ليس لأن الأفكار التي كانوا يروجونها تتسم بنزعة المناهضة الصلبة للسلطات الحاكمة والمناوئة الجذرية للسياسات الخاطئة فحسب، بل ولأن المنهجية التي كانوا يحللون بموجبها الواقع ويستنبطون من خلالها المعالجات، كانت متقدمة بأشواط على نمط القيم وأطرالتقاليد السائدة التي كان يرزح تحت وطأتها المجتمع العراقي، بحيث طوحت بالمسلمات القارة في مخياله الجمعي وزحزحت البديهيات الراكدة في سيكولوجيته الشعبية . وهو الأمر الذي دمغ الحزب الشيوعي العراقي – منذ بداية تكوينه وعلى امتداد تاريخه – بطابع الراديكالية النقدية، حيال ثوابت الدولة التسلطية ومرجعيات المجتمع التقليدية ومنطلقات الثقافة النخبوية، بحيث أفضت، بالتالي، لابتلاء اعضائه وجمهوره بأشرس أنواع القمع وأسوأ أشكال الاضطهاد التي قلما تعرض لمثلها أقرانهم من الأحزاب الأخرى، بالرغم مما كانوا يحملونه من آمال وما يضمرونه من نوايا .

ولهذا فان أغلب الذين أرسوا دعائم الفكر التاريخي وقواعد الثقافة الانسانية في بيئة المجتمع العراقي هم من أصول ماركسية بشكل عام وشيوعية بوجه خاص، مما قيض لأطوارالثقافة العراقية أن تحمل بصمات الفكر الذي بشروا به، وتضوع بنكهة الثقافة التي نشروا بذورها . ذلك لأنهم لم يراهنوا – لكي يجعلوا من الثقافة العلمية والفكر الجدلي مهمازا "لتغيير الواقع وتقدم المجتمع - فقط على (قوة الفكرة) بدلا" من (فكرة القوة) فحسب، وانما شرعوا لبناء مدماك ثقافي يقوم على أساس المنهجية الماركسية، التي ما أن يفرط بها أو يساوم عليها، حتى ينمو زؤان الأفكار الفجة وتشرأب التصورات السقيمة . ولهذا كان انجلس يقول في معرض الحديث عن نفسه وعن صديقه الشهير – كما يشير لينين (ان مذهبهما ليس بمذهب جامد، انما هو مرشد للعمل . ان هذه الصيغة الكلاسيكية تبين بقوة رائعة وبصورة أخّاذة هذا المظهر من الماركسية الذي يغيب عن البال في كثير من الأحيان . واذ يغيب هذا المظهر عن البال، نجعل من الماركسية شيئا"وحيد الطرف، عديم الشكل، شيئا "جامدا" لا حياة فيه، ونفرّغ الماركسية من روحها الحية، وننسف أسسها النظرية الجوهرية – ونعني بها الديالكتيك، أي مذهب التطور التاريخي المتعدد الأشكال والحافل بالتناقضات - ونضعف صلتها بقضايا العصر العملية الدقيقة، التي من شأنها أن تتغير لدى كل منعطف جديد في التاريخ) .

ومن المفارقات التي كانت شائعة ابان عهود الأنظمة الدكتاتورية والايديولوجيات الشمولية، أن النقاش الذي كان يجري في ظروف التقيّة السياسية – على ندرة حصوله ومحدودية نطاقه – بين أنصار هذا الحزب أو ذاك، لتحليل قضية من القضايا الفكرية التي كانت تهيمن على فضاء الوعي الاجتماعي، أو تفسير واقعة من الوقائع السياسية التي كانت تفرض سلطانها على جدول أعمال الواقع، غالبا ما كانت حصيلته النهائية تشير لصالح تلك العناصر التي غالبا"ما كانت توصم بمرجعيتها الشيوعية، حتى وان كانت لا تنتمي للحزب الشيوعي، باستثناء كونها تتوفر على رصيد (متواضع) من الثقافة الماركسية . وهو الأمر الذي كان يعد سببا "كافيا" لأن تكون محط ازدراء وضغينة من لدن جميع الاتجاهات التي كانت تعمل معها على نفس الساحة وضمن ذات البيئة، ليس لأن مدخلات تلك الثقافة كانت تشكل تحديا"لرؤى تلك المجموعات التي كانت تتغذى على المتخلف من الأفكار والمتعصب من النظريات فحسب، وانما لعمق مخرجاتها على صعيد الوعي الاجتماعي وشمولية طروحاتها على مستوى الواقع التاريخي .

وعلى ذلك فلن يسع المرء وهو يقلب صفحات ماضي الثقافة العراقية، التي شهدت مختلف ضروب الصراعات الايديولوجي، منذ بواكير تشكيل الدولة (الوطنية) ولحد الآن، ايجاد فاعل اجتماعي / مثقف حقيقي لا يمتح من معين ترسانة الفكر الماركسي أو خال من مؤثرات الثقافة الماركسية، سواء أكان معها – معظم أجنحة اليسار – كخطاب نظري وممارسة عملية، أو عليها – غالبية أجنحة اليمين - كنقد لطروحاتها ومعارضة لاتجاهاتها.

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم