قراءات نقدية

احمد عواد الخزاعي: رواية (في الطريق اليك) نص النهايات المفتوحة

نص سردي غير تقليدي عتبته الاولى، وصف لسارد عليم لليوم الأخير لصحفي عراقي احيل على التقاعد من مؤسسة حكومية، الاسم (سعيد) ذو دلالة رمزية متناقضة مع طبيعة هذه الشخصية الناقمة على الوضع الحالي والسابق، التي تعيش في دوامة الحزن والعزلة، بعد هذه النهاية المبكرة جدا لرحلة بطل رواية احمد خلف (في الطريق اليك) والصادرة سنة 2023  تبدء رحلة اخرى اكثر تعقيدا وتشعبا، اجتهد الكاتب في تأثيث سينوغرافيا عنصر المكان المركزي للنص، والذي تمثل بغرفة صغيرة في بيت البطل احتوت على مكتبته ودفاتر مذكراته، في هذه البؤرة المكانية الصغيرة  يتوقف الزمن الاَني وينطلق النص نحو مديات اوسع خارج حدود المكان والزمان، باستخدام ما يعرف اصطلاحا (الكرونوتوب الباختيني) اي تعالق مكان النص مع امكنة اوسع اثناء السرد. من خلال حركة البطل داخل غرفته والانعكاسات النفسية السلبية عليه نتيجة الحوارات المقتضبة التي كانت تدور بينه وبين زوجته المريضة، انطلق النص عبر تقنيات الاسترجاع والقفز والاستذكار، الى الماضي في محاولة سيزيفية غير مجدية، لتقبل الواقع الصعب الذي يعيشه، او ربما تكون عملية تبريرية لتتعايش مع ازمته والتشبث بواقعه الحالي، عَبر استحضار الماضي القريب، كقول جورج اوريل (من يتكلم بالماضي يمسك بالحاضر) . فقد اجاد احمد خلف في رسم معالم شخصية هذا البطل الذي منحه وعيا قائما استطاع من خلاله فهم الحياة بطريقة اكثر نضجا، عبر متوالية (الحياة والسرد) اي توظيف السرد لخدمة قضايا انسانية وثقافية. هذا الوعي الاستثنائي الذي تمتع به البطل جعله قادرا على تشخيص السلبيات والمشاكل التي تعصف بمحيطه الاجتماعي، وامتلاكه رؤية واضحة عما حصل وما يحصل. فقد وضع احمد خلف الجزء الاكبر من تجربته الانسانية والادبية في هذا النص، فكان نصا خارجا عن المألوف زج فيه الكثير من المعلومات التاريخية والثقافية واستخدم تقنيات (الاسترجاع، الاستذكار، القفز، الاستباق، الميتاسرد، التضمين، الترميز) جعل من بطله سعيد شماعة علق عليها بعض من آرائه وتصوراته السياسية والاجتماعية، وربما وضع جزءا منه في شخصية سعيد.. هذه الخلطة السردية المتقنة خلقت نوع من التوازن في الشخصيات القصصية داخل النص، واحدثت تناغما بين الصورة والحدث والكلمة تكررت في مفاصل عديدة منه، كما في عملية التناص الرائعة هذه التي تحمل ابعاد انسانية ونفسية كبيرة، السارد العليم يخبرنا بهذا الحدث المفصلي في حياة بطله سعيد، حين طلبت زوجته المريضة منه، ان ينام في سرير اَخر،  لأنها لم  تعد تتحمل رائحة جسده، في هذه  اللحظة المؤثرة تقع عين البطل على قصاصة دون فيها تاريخ اعدام صديقة الشاعر ادم من قبل النظام السابق، لهروبه من الخدمة العسكرية اِبان الحرب العراقية الايرانية (قالت له انها لم تعد تحتمل انفاسه ورائحة جسده حين يتقلب في منامه، كان مقترحها هي ان يستقل كل واحد منهما عن الاَخر وأن يكون له سرير نومه الشخصي.... تلك اللحظة سقطت نظرته على قصاصة ورق التقطها، قلبها بأصابعه واندهش من محتواها، فقد سجل تاريخ اعدام اَدم رميا بالرصاص). عملية الربط بين هاتين الحادثتين اوجدت نصا ذا قيمة انتاجية تركيبية تواصلية، واعطت صورا اخرى لمفهوم الهزيمة والانكسار.3533 احمد خلف

كان التضمين سمة ميزت رواية (في الطريق اليك) فقد استغل الكاتب مكتبة البطل ليفتح نوافذ عدة على الماضي عبر استحضار قصص وحكايات عضدت قصدية النص وجعلته اكثر اثراءً وتأثيرا في المتلقي، فقد تأرجح الزمن وانتقل بين الماضي والحاضر، وتنوعت محاور النص بين (الخيانة ، الرغبة، الطموح، الدكتاتورية، والثورية) فنراه ينتقل من قصة الملكة زبرجد وخيانتها لزوجها الملك مع احد العبيد، وموتها بشكل غامض،  الى قصة رسام الكاريكاتير ابراهيم زايد ومال اليه مصيره حين مات منتحرا في بيروت.. اضافة الى استخدام الكاتب لما يمكن تعريفه اصطلاحا (التضمين المركب) تضمين داخل تضمين ، فقد زج قصة الشاعر العربي امرؤ القيس داخل قصة الملك والملكة زبرجد (يعلم تماما ما من ملك او سلطان الا وله من الخصوم المتربصين به ينتظرون ان تصدر منه اي زلة تنزل من مقامه وتواردت الى ذهنه عشرات القصص التي دفع عدد من الملوك حياتهم ثمنا لخصومهم ساعة غفلة . تذكر حياة الملك الضليل الذي جعلته الخمرة يدفع حياته ثمنا لها ولتعلقه بها ، كيف اطلق صيحته المضحكة اذ قال : اليوم خمر وغدا امر). بعد هذا التشظي المتقن للنص عبر الازمنة والامكنة والبيئات المختلفة والبعيدة عن زمان ومكان وبيئة النص المركزي.. يتوقف السرد فجأة، وتبدأ عتبة سردية جديدة، حادثة افتراضية اَنية (طرق على الباب) عملية ترقب وخوف من قبل سعيد، بعدها ينطلق النص الى مديات اكثر تعقيدا عَبر سؤال مثير (ترى من قال ان مؤلفي القصص يقلدون الله في خلقه للبشر وهم يصنعون لنا شخوصا على الورق  ؟) كانت الاجابة على هذا السؤال الجدلي باستحضار حياة بعض الكتاب العالميين الذين انتهت حياتهم بالانتحار (بعض الاشخاص كأنهم من لحم ودم، وبحكم ولعه المعروف في مطالعة القصص والحكايات الكثيرة، التي قراها من قبل، تذكر موت عدد من مؤلفيها الذين قضوا نحبهم كما تذكر العشرات منهم الذين ماتوا ولم يعلم بهم احد ....).

عنوان الرواية (في الطريق اليك) شكل بمفرده لغزا وعتبة سردية بحاجة الى التوقف عندها، لماذا اختار  احمد خلف هكذا عنوان لنصه الغني بالقصص والحكايات والآراء السياسية والفلسفية والاطروحات الفكرية والمفارقات الحياتية، العنوان كان عبارة عن جملة اعتراضية وفي نفس الوقت افتراضية تأتي من المجهول صوب مسامع بطله سعيد (دائما يسمع موسيقى تباغته حين غرة، يصغي الى نغمات عطوفة تنداح بعيدا في الفلا، يسمع صوتا متناغما رخيا يقول له هامسا: في الطريق اليك، ها انا في الطريق اليك لا تتعجل في اصدار الحكم علي . كان الصوت الناعم المنبعث من المجهول يرغمه على السؤال: من هو في الطريق الي انا المنسي الذي يحاول ان يذكر الاخرين بنفسه انه حي يرزق).. ربما كان استخدام الضمير (هو) بدلا من (هي) اشارة غيرت دلالة المعنى الذي سيذهب اليه القارئ لفك رمزية العنوان.

باستثناء البطل سعيد، كانت شخصيات الرواية الاخرى متباينة في تركيبها النفسي والثقافي، استعان بها الكاتب لبناء هرمية نصه، حيث تحركت داخل اطار حكائي توزع بين الماضي والحاضر، استطاع القارئ من معرفة حياة البطل وميوله واحلامه ومواقفه، من خلال مسيرته معها وطبيعة العلائق التي ربطته بهذه الشخصيات، فقد كانت محطات مهمة في حياته، لم تسطيع ذاكرته تجاوزها او القفز عليها. في رواية (في الطريق اليك) استعان احمد خلف بأسلوب حداثي من خلال ترك نصه مفتوح على نهايات متعددة، واضافة ملحق خارج نصه الروائي، لإشراك القارئ في وضع نهايات لمجموعة الحكايات التي تضمنتها روايته، وعلى الرغم من ان هذا الاسلوب ليس بغريب على الكاتب، فقد عمد على ترك بعض نهايات رواياته مفتوحة عائمة، لاِستفزاز القارئ ومداعبة مخيلته في محاولة لإيجاد نهايات منطقية لها، غير انه في هذا النص افرد ملحق خاصا ناقش فيه بعض النهايات المحتملة وطالب القارئ ان يكون شريكا فعالا في اختيار هذه النهايات.

***

احمد عواد الخزاعي

 

في المثقف اليوم