قراءات نقدية

جمعة عبد الله: قراءة في الديوان الشعري (زنابق السنين) للشاعر د. بهجت عباس

إن مضامين قصائد ديوان (زنابق السنين) للشاعر د. بهجت عباس الشعرية العمودية، قد انزاحت الى تناول قضايا مهمة في الشأن السياسي والديني للحقب السوداء المتعاقبة على تاريخ العراق السياسي، التي مرت على العراق، ودفعته الى حافة العواصف الهوجاء، التي تميزت في انحراف البوصلة خلال أكثر من ستة عقود عجاف، تجرع كأس الحنظل في المخاطر الجسيمة، التي لعبت في مصير الوطن والانسان الى حافة الانزلاق والتصادم العنيف بين الفرق السياسية. القصائد الشعرية برعت في صياغة القصيدة العمودية على وقع أنغامها وبحورها الشعرية في إيقاعات موسيقية مختلفة الترنم والترتيل، في لغة شعرية سلسة ورشيقة وواضحة، بحيث تتحرك بوهج الفعل المتجسد من أتون هذه الحقب السوداء، التي مرغت الوطن في المستنقع العكر، عقود عجاف، وتجرع مرارة معاناتها المتشظية، في معالم البطش والاستبداد والطغيان في اتجاهات مختلفة، ولم ينقطع نزيف الدموي منذ آنذاك ولحد واقعنا الحاضر. القصائد الشعرية تمتلك الرؤية الفكرية الناضجة في الإحساس الذاتي الصادق، وتمتلك وضوح الرؤية، هذا الوضوح أتاح فتح معالم القصائد في الاتساع والاشعاع، من افرازات هذه الحقب السوداء، في مراحلها العاصفة على ايقاعات تراجيدية مأساوية، ولم تغب السخرية والاستهجان والألم والحزن والغضب والاحتجاج، من هذا النزيف الدموي. الذي لم ينقطع نزيفه من جسد العراق، من الظلم والحرمان والإرهاب ومآتم الموتى بالمجان، في الانحراف البوصلة السياسية والدينية من السيء الى الاسوأ، في الانزلاق السياسي، وتمزيق الهوية الوطنية والاجتماعية في هذه المراحل العجاف. وقصائد الديوان الشعري ( زنابق السنين) تشكل وثيقة بيانية صارخة للأحداث الملتهبة التي مرت على تاريخ الوطن. منذ ان سرقوا أجهضوا ثورة الشعب في ارتكاب سفك الدماء والمجازر ومشانق الموت في الشوارع والساحات، في اغتيال عهد الجمهوري الوليد، الذي جاء ليضع العراق على سكة السلامة في الازدهار والتطور. وعبر الشاعر عن فرحته بهذا الحدث الكبير في تاريخ العراق بقصيدة (ثورة الشعب). وترنمت على ايقاع صدى الشعبي الواسع الذي فرح في انطلاقة الثورة.

 يا ثورةَ الشعبِ، صُبِّي وابلَ الغضبِ

وحطِّمي كلَّ فـكـرٍ شـاردٍ جدِبِ

*

وقوِّضي كلَّ ما يَبـنونَ مـن عُرُشٍ

فقد أبَـوْا أنْ يسـيرَ الركبُ بالأرَبِ

*

وحطِّمـي كلَّ بـاغٍ من خسـاستـه

أنْ يقذفَ الشعبَ بالأهـوال والكُرَبِ

 لكن مسيرة الثورة انتكست وخابت الاحلام والامال، واجهضت انطلاقة الثورة في مهدها. وضاعت فرحة الشعب، فقد عصفت بها عاصفة هوجاء اقتلعتها من الجذور. من المغامرين المأجورين. الذين عملوا في الظاهر والخفاء على اغتيال الثورة وغرقها بالدماء. من احد المتهورين الذين حط على رأسه طير السعد، ليمتطي الموجة صولجان الحكم والنفوذ، وما شخصية (حمدي) هي رمزية لكل طاغٍ ومستبد يضع نفسه الاله الاعظم والشعب عبيد تابع له، يؤدي فروض الطاعة والمهانة والذل، بالتلويح بالقبضة الحديدية في البطش والتنكيل لكل من يخرج من طاعته.

وربَّ عبدٍ كان يُدعى حمدي

 حطَّ على رأسه طيرُ السعدِ

*

فراح يبدي العنفَ والتحـدّي

وينظر الناسَ بعـين الحقدِ

*

واختار في الدنيا طريقَ الكيدِ

 يُـعلّل النفسَ بأغلى صـيْدِ

*

فلَطَمتـْه كفّ دهـرٍ وغْـدِ  

فصار قرداً من قرود الهنـدِ

*

صـيَّره الزمان حَيْـزبونـا

يبـتدع الفنـونَ والشجونا

*

وينهـش البائسَ والمسـكينا

ويحسَـبُ العبادَ مارقيـنا

*

والناسَ، إنْ لمْ تُصغ،ِ خاسرينا

لا يفـهم اليسارَ واليميـنا

*

لا يُـدرك الظاهرَ والمكـنونا

وإنَّ في الغيب له شؤونـا

 صناعة الدكتاتور وخلقه هي من ارادة الشعب وصنعه بنفسه لنفسه. في بادئ الأمر كان للتسلية والملهاة وانتهى بالتراجيديا المأساوية، حين صنعوا دمية التنين، وصلوا ودعوا الرب ان يبث الروح في دمية التنين، وحين استجاب الرب الى دعواتهم وصلواتهم في بث الروح في التنين، وتحركت روحه واستقام له الحال والمقام، وبعد ذلك جرعهم المر وجعلهم يتلوعون بنار جهنم. فدعوا الله في صلواتهم أن يسلب الروح من هذا التنين الوحش، فلم يستجب لهم، وأخذ التنين يرقص فرحاً ويقهقه زهواً على غبائهم وسذاجتهم.

صنـعـوا مـن الطِّـين تـنّـيـناً للهوهمْ.

صلَّـوْا ودَعـَوْا ربَّـهم أنْ يبعثَ فيه الروحَ، فـفعـل.

فلما دبَّـت الحياةُ فـيه، انـقـضَّ عليهم فهـربوا.

ولما دخـل بـيوتَهـم، هـجروها ونـاموا في العَـراء.

أخذوا يصلّـونَ ويـدعون الربَّ أنْ يسلبَ الروحَ منه، فأبى!

أخذ التِّـنّـينُ يـُقَـهْـقِـه وهـم يُـوَلـوِلـون!

لقد أصبحت نعمة النفط نقمة ودمار ولهيب تحرق الشعوب وتدميرها، أن تكتوي بالنيران، بدلاً أن تكون نعمة رخاء ورفاه وسعادة. حدث العكس، فقد أصبح النفط نقمة ومعاناة، فقد فتح بابواباً عريضة لحيتان الفساد وحاشيتهم في النهب واللصوصية في وضح النهار، ويحرمون الشعوب من خيراته. أصبحت موارد المالية الضخمة مرتعاً لتنافس والنفوذ على الغنائم الحصص بين أصحاب الجاه والنفوذ. فقد اصبح الذهب الأسود مصدر الشقاء والبؤس وعدم الامان والاستقرار، وأصبح مصدر للحروب والنعرات والفتن.

 يـا نفط بـلْ يا لهبُ أأنتَ حقّــاً ذهبُ؟

أشـقيتـَنا أحرقـتـَنا جعـلـتـَنا نـنـتـحـب ُ

*

أغـريتَ كلَّ طـامعٍ بنهبِ ما لا يُنهَبُ

وكـلَّ سـفـّاح ٍ أثـيـم ٍ دمَـــنــا يسـتـعــــذب ُ

*

دعـوتَـهمْ لأرضـنا لبّـَوْا فكان الشَّجَـب ُ

قد خلقـوا أبـشـعَ وحــش ٍ شـهدتـه الحِـقَـبُ

*

ونَصَّـبوا حاشـيـة ً ذئـابُ غـاب ٍ تـثـب ُ

وخـلفـه أزلامـُـــه لا خـُلُــق ٌ، لا أدبُ

وتضمن الديوان الشعري بعض الرباعيات المتفرقة، التي تملك صياغة شعرية وتعبيرية مبهرة في الصورة والدلالة تجسد الواقع في كل مجرياتها المنحرفة عن جادة الصواب، بأن هذه الدنيا من صنع البشر، حينما يعلو الجهل والأوهام والخرافة، الى المراتب العليا، والوعي الثقافي والفكري الى المراتب السفلى، ماذا تكون نتيجة أفعال الدنيا والحياة ؟.

 هذه الدّنيـا صنعــناهـا بأيـديــنـا كـئيـبـة

ورفعنـا الجَّهـلَ والأوهامَ أعلاماً رهيـبة

*

وتركـنـا العقـلَ يستـهدي بآراءٍ مُـريـبـــة

فزرعنا الموتَ والأحقادَ في أرض خصيبة

وكذلك تضمن الديوان الشعري على بعض الخماسيات ذات الاشطر الخمسة، بارعة الصياغة والتعبير في دلالتها البليغة عن حقيقة الواقع للطبقة السياسية الحاكمة للعهد الجديد، التي تملك السلطة والنفوذ والمال الوفير.

 يلعب اللصّ ُبقوتِ الشَّعب والرأسُ عِـمامـة

وجـهـُه ينضح حـقـداً وخداعـاً ولآمـة

فَمـُه يلهـجُ بالحمـد فقـد نـال مـرامَـه

أهوَ الدّيـن الذي أرخـى على العقـل غمامة؟

أم هُـوَ الشَّيطانُ قد سلَّـمَ للشَّيـخ زمامَـه؟

***

 جمعة عبدالله

 

في المثقف اليوم