قراءات نقدية

قراءات نقدية

ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي الذي أقامته الهيئة العربية للمسرح بالتعاون مع وزارة الثقافة العراقية ونقابة الفنانين  - الدورة الرابعة عشر - بغداد، عرضت مسرحية بيت ابو عبدالله يوم السبت ١٣/ ١/ ٢٠٢٤ الساعة الرابعة بعد الظهر في مسرح الرشيد. 

تأليف  وإخراج أنس عبد الصمد.

تمثيل: محمد عمر - ماجد درندش - ثريا بوغانمي - أنس عبد الصمد، ومجموعة من الممثلين. العرض من إنتاج دائرة السينما والمسرح.3231 مسرحية بيت ابو عبد الله

بداية العرض امتحنت صبر المتلقي وبقاءه مصغيا ببط شديد وصمت مهيب، انها خطوة مهمة لتأمل مكونات بيت ابو عبدالله والدخول اليه بهدوء، فلا وجود للضربة الاولى التي تمسك بالمتلقي وتكتم أنفاسه، الضربة الاولى هنا تدعو المتلقي للتأمل في الآتي الذي افتتح بصدمة انتهاك خصوصية الإنسان في مكان لا يتقبل الفرد السوي أن يُشاهَد فعله فيه، ولا أن يُشاهِد هو فعل الآخر/ين فيه، لأن (المرافق الصحية) مكان يقضي الفرد حاجته فيه ولا يقبل القسمة على اثنين، وتتكرر الحالة مرتين من قبل شخصيتين، وفي هذا فضح صادم استهلّ به العرض. 

الفئران تحاصر بيت ابو عبدالله صوتيا منذ البداية حتى النهاية، وبحضورها كوجود عياني مصور على الجدران بكثافة، ولم يكتف الإخراج بصورة عارض البيانات (داتاشو) للفئران وحركتها، بل أظهر الفئران بهيئة شخصيات متعددة ارتدت السواد وتحركت على أربع أرجل حينا وعلى اثنين أحيانا اخرى، الفئران تمشي على الجدران وعلى الارض انها منتشرة في كل مكان، لأن أفراد عائلة أبو عبدالله سمحوا لها بالتسلل الى البيت بسبب عزلتهم عن بعضهم، ودون أن يشعروا بوجود الفأر الكبير الذي اقتحم البيت منذ البداية عندما تسلق الجدران، ما الذي جاء بالفئران؟ (جاءت الفئران، تسلقت الجدران، نهشت الإنسان) قالب الجبن موجود على مائدة طعام عائلة ابو عبدالله، والفئران تحب الجبنة. حدث هذا كله تحت رقابة عين كبيرة بحجم السايك الخلفي للمسرح تبدو حينا وتختفي حينا آخر، انها عين ترى كل شيء ولا تراها الشخصيات.3232 مسرحية بيت ابو عبد الله

تحركت الجدران وانفتحت في بداية العرض وتم إنشاء تكوين البيت، ثم زحفت الجدران لتضيق على ساكني البيت وتبتلعهم، ولكنهم خرجوا من بينها من جديد بقوة إرادتهم، مما استدعى حضور الطبيب لمعالجة الموقف بحقنة نشطت الشخصيات وعادت لفعل جديد آخر.

لم تعش الشخصيات بسلام ووئام، كانوا منعزلين عن بعضهم رغم انهم يعيشون مع بعضهم، يتآكلهم هَمٌ وتوتر يجعلهم غارقين في كآبة مفرطة، حتى لم يعرفوا الضحك ولا الابتسام ليس طيلة الخمسين دقيقة من زمن العرض وحسب، بل طيلة حياتهم، وما يميزهم هو أنهم متشبثون بالحياة، يبدو انهم وُجِدوا هكذا منذ زمن.

تصاعد إيقاع العرض إلى إحدى ذرواته وصولا إلى صوت إطلاق الرصاص، وسقوط الشخصيات الثلاث كجثث هامدة، ولكنهم ينهضون ويبدأون من جديد بفعل جديد.

لم تنطق الشخصيات بكلمة واحدة، فقد أوقفت لغة الحوار العادي، الشخصيات لا تمتلك لغة مشتركة، وتم إعلاء الفعل والايماءة والحركة ولغة مفردات المنظر ومنها: الغسالة - الحبال المتدلية - مقعد التواليت - منضدة الطعام - - الكراسي الثلاثة - آلة الچلو - كيس الملاكمة - الوسائد الثلاثة - المايكروفونات الثلاثة - والجدران وهي الكتلة الضخمة التي تفككها أيادي مجهولة وتحركها بتكوينات عديدة منها (ثلاث جدران متباعدة، تشكل ثلاث خطوط متوازية، تصطف متلاصقة بخط مستقيم، اثنان منها يشكلان زاوية منفرجة ثم حادة ثم تنطبق الجدران على الشخصيات حتى تبتلعها وتختفي داخلها، كانت هذه المفردات فاعلة وحاضرة وجميعها متحركة بفعل الجرذان وفاعلية الشخصيات، لا شيء ساكن وثابت، حتى بوابة خشبة المسرح الخلفية فتحت وألقت بضوء الخارج بوجه المتلقي ولكنها سرعان ما سدت بأحد الجدران، استبدلت لغة الكلام بلغة شعر مكونات الفضاء المسرحي والحركة والايماءة وحركة الممثل والجدران والفئران وكل شيء، بالتداخل مع صوت التأوهات وصرخات الألم واللهاث والتصريح للإعلام أمام المايكروفون بلغة مبهمة، أما الموسيقى والمؤثرات الصوتية التي كانت السيادة فيها لصوت (صرير الفئران) فقد أصبح معتادا بسبب مرافقته لفعل العرض منذ البداية، ولم يتم الانتباه للموسيقى بصورة منفردة لأنها كانت على درجة من الانسجام مع فعل الشخصيات وتكوينات المنظر.

لم تكتفِ الاضاءة بوظيفتها التقليدية بجعل الرؤية ميسرة، والإسهام بإنشاء الجو النفسي العام، بل تعدت إلى تكوين علامات بحسب التحولات المشهدية وكانت العلامة البارزة صورة الخطين المتقاطعين (x) أو (+)3234 مسرحية بيت ابو عبد الله

صورة الشخصيات بالأزياء اليومية العادية وسلوكهم الغارق في الطبيعية (استخدام المرافق الصحية والتقيؤ) لغرض تقديم صورة (الإنسان الذي تُقتحم كينونته ويُضيق عليه، ليتسرب الملل إليه، ويُقهر وتُنتهك كرامته ليصبح بلا ملامح أو هوية) اذ لم يحدد المخرج من هو عبد الله ولا ابو عبدالله ولا ام عبدالله، وأوحى بأن الجميع (الشخصيات والمتلقي) يعيش في بيت ابو عبدالله.

ينتمي العرض إلى اتجاهات قوّضت مسارات الحكاية واستبعدت الفعل التصاعدي نحو الذروة ثم الحل، ولا يبني الحدث المحوري ولا حتى بنية واضحة للشخصيات وأبعادها، إنه عرض يفكك القيم الدراماتيكية ويعيد تركيبها على وفق جدلية عرض مسرحي أكثر منها فكرة مركزية، انها جدلية الثيم المتعددة التي تعيشها وتخضع لها الشخصيات في البيت الذي تزحف جدرانه على ساكنيه الآن، قدم العرض حالات شعورية معدية للمتلقي أكثر منها افكار، خرج المتلقي من العرض محملا بطاقة شعورية ناتجة عن عبء تعرضه لجملة من الصدمات التي تلقاها من كل شيء، من مفردات العرض الكثيرة وكل مفردة أفضت إلى علامة ينبغي أن تصل إلى وعي المتلقي ليمتلك دلالتها ويربطها بما سبقها وما يلحقها من دلالة العلامات وهكذا، لقد وصل العرض باضطراد العلامات وكثافتها وسرعة ارسالها - ربما - لحد لم يتمكن المتلقي من اللحاق بدلالاتها، فصارت عبارة عن شحنات مشاعر وانفعالات.3233 مسرحية بيت ابو عبد الله

قال العرض لتقاليد الدراما الأرسطية وما بعد الأرسطية: اذهبي بعيدا، لنؤسس لما بعد الدراما، أو يمكن أن تندرج تحت مصطلح (ما فوق الدراما) وهو أسلوب اختص بالتأسيس له عدد من المخرجين في العالم، ومنهم (انس عبد الصمد) وقد يشكل هذا الأسلوب مرحلة - ربما - لم يألفها المتلقي العادي - وقد ينفر منها عدد من المعنيين بالدراما المسرحية ويرجمها بفيض من كلمات النقد التقييمي دون الذهاب إلى النقد القائم على التحليل - ولكن حالما تصبح تيارا واضح الأسس سيتم تقبله والإقبال عليه بشغف التحليل النقدي لمجمل شفراتها، دون التخلي عن عناصر الدراما الأصيلة، والروائع الكلاسيكية والتقليدية التي كانت ولا زالت قيمة معرفية ومرجعية لكل ما جاء بعدها.

قال أنس عبد الصمد -الذي استأثر بالإمساك بثلاث تفاحات بيد واحدة - التأليف والإخراج والتمثيل - قال مع فريقه:  لنؤسس روائع على تماس مع حياة المتلقي المعاصر، الذي يعيش معنا الآن، من خلال شخصيات غير مستقدمة من عمق التاريخ، أو مستعارة من بيئات اخرى، ولنبني شخصيات حية تمت صناعة وجودها الدرامي اليوم، لإيصال دلالة مفادها: أن هذه الشخصيات تعيش معك في هذه البيئة، وقد تكون أنت واحدا منها أيها المتلقي، وما هذه إلا حقيقة نكشفها أمامك، ولسنا معنيين بوضع الحلول والمعالجات، انسجاما مع التحديد النهائي لهدف الفن الذي وضعه (هيغل) بقوله: " إذا كنا نريد أن نعزو إلى الفن هدفا نهائيا، فإنه لا يمكن أن يكون سوى هدف كشف الحقيقة، وتمثيل ما يجيش في النفس البشرية تمثيلا عينيا ومشخصا. وهذا الهدف مشترك بينه وبين التاريخ، الدين"(1) وهذا ما تم البوح به بقوة وقسوة من قبل فرقة مسرح المستحيل، عندما أمتعت المتلقي بجدلية (الإنسان/ العائلة قبالة الفئران والعناكب) وجعلت ذاته -أي المتلقي- تنصهر في العرض لأنه وجد شيئا من ذاته ماثلا أمامه- لينتهي العرض بعد أن بثَّ دهشة شعورية وصدمات نفسية وعَمِلَ على ترسيخ تساؤلات.

***

د. حبيب ظاهر حبيب

.........................

- هيغل: المدخل إلى علم الجمال – فكرة الجمال، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط3، 1998، ص100.

تجاوزت رواية العبور على طائرة من ورق للكاتبة زينب السعود الرواية التقليدية ذات الصوت الواحد لتنضم إلى الروايات البوليفونية ذات الأصوات المتعددة والتي كان دويستوفيسكي أول صناعها وتمثل ذلك في روايته "الجريمة والعقاب". ويقوم هذا النوع من الروايات على تعدد الأصوات والشخصيات والمواقف والنتيجة تحرر العناصر المذكورة من سلطة الراوي المطلق، ما يمنح شخوص العمل التي تتصارع فيما بينها فكريا، الاستقلالية في التعبير عن مواقفها ورؤاها وتصوراتها حتى لو كانت مخالفة لرأي الكاتب.

ومن مقومات الخطاب البوليفوني ،التعددية في الأطروحة الفكرية. بمعنى أن الرواية البوليفونية تتضمن تعددا في الأطروحات الفكرية. فكل شخصية تقدم فكرتها وتعرض أطروحتها ،ما يعني أن الفكرة أهم من الشخصية لأنها هي التي تحدد مصير الشخصية.

"كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما عرفت للمرة الأولى أنني لست أنا" ص١٤٩

عبارة وردت على لسان أمجاد الشخصية المثيرة للجدل في الرواية حتى في نظر نفسها الممزقة بين هويتين جنسيتين فالمظهر أنثى والحقيقة ذكر . هذا الوضع الذي يجعل أمجاد تعاني الضياع في مجتمع لا يرحم يجعلها تقدم على فكرة العلاج أثناء دراستها في إحدى الجامعات في أوكرانيا لتأتي الحرب وتقطع علاجها وتعيدها إلى عمان لتكمل ضياعها بسبب أفكار عمتها أميرة ورفضها لقرار أمجاد علاج نفسها وإجراء العملية التي ستساعدها في تحديد هويتها الجنسية. في الوقت الذي يجب أن تتصل فكرة أمجاد بوعي آخر يشاركها وعيها ،معبرة عن ذلك بالكلمة لتصبح حقيقة تطبق على أرض الواقع يأتي رفض العمة ليميت الفكرة مؤقتا، غير أنها في نهاية صفحات الرواية تحضى بدعم من الدكتور عبد السلام والذي امتلك فكرة إبعاد أمجاد حفاظا على نفسية ابنته هتاف.ففي ص٢٣٤ تتجلى فكرة الإبعاد على لسان الدكتور عبد السلام عندما يخبر أميرة (ما الذي يجبرني أنا أن أتحمل وجود

ابنة أخيك في حياة ابنتي من جديد؟ تعرفين ماذا يمكن أن يحصل لابنتي هتاف إذا عرفت أن أمجاد عامر التي كانت يوما صديقة مقربة ل....) وهنا تكون فكرته اتصلت بفكرة أمجاد بصرف النظر عن أهداف الدكتور.  ما كانت نتيجته انتصار أمجاد. ويتجلى هذا ص٢٧٤ فعلى لسان إلياس لهتاف (أمجاد حصلت على قبول لدراسة الماجستير في جامعة غازي عنتاب في تركيا).

كما ويعتبر تعدد الشخصيات أو تعدد الأصوات من مقومات الخطاب البوليفوني. وقد احتوت رواية السعود على مجموعة من الشخصيات والأصوات تصارعت فيما بينها فكريا وأيديولوجيا وبالتالي امتلكت كل واحدة منها أنماطا من الوعي من خلال الإدلاء بآرائها الخاصة والسعي لتحقيق مرادها. وقد تعددت أنماط الوعي في الرواية فهناك الوعي الإيجابي والسلبي والممكن. فمثلا الدكتور عبد السلام مع أنه إنسان مثقف وأستاذ جامعة إلا أن خوفه على ابنته هتاف جعله يتصرف بسلبية تجاه أمجاد الذكر فأبعدها/ ه في المرة الأولى عن جامعتها وتخصصها في الطب إلى جامعة أخرى لدراسة الهندسة الاقتصادية،ما زاد من تأزم الوضع النفسي لأمجاد. ويتضح هذا على لسان أمجاد للدكتور إلياس ص٢٢٣(إذا كنت تراني أنثى، فلماذا أبعدتني عن جامعتي؟) وكان إلياس ينفذ سلبية الدكتور عبد السلام وهنا يكون قد تشارك الوعي السلبي معه.

وفي ص٢٣٦ بدلا من أن يعمل الدكتور على الوقوف مع مشكلة أمجاد أمام المجتمع كان وعيه سلبيا عندما أخذ يشرح لأميرة وضع ابنة أخيها مع المجتمع. وهذا الوعي السلبي الذي تقاسمه الدكتور عبد السلام أيضا مع شخصية زياد الطالب الفاشل والذي أصبح موظفا بيده الأختام التي تتحكم بالناجحين في المجتمعات أدى إلى تفاقم مشاكل الشخصيات أمثال أمجاد الناجحة دراسيا وزادها كرها للمجتمع وحقدا عليه. ذلك أن زيادا كان مطلعا على مشكلة أمجاد عن طريق الدكتور الذي راجعته أمجاد للتأكد من جنسها (أنثى في المظهر ولكنها في الحقيقة ذكر) على لسان الدكتور ص١٥٤ وهنا تقول أمجاد (بحلقة زياد في تلك اللحظة لا أنساها، نظرة الهزء الصفيقة التي جعلت شفته تذهب ناحية أذنه اليمنى طعنتني في ذلك المكان من القلب).

كما تجلى الوعي السلبي عندما رسم الدكتور عبد السلام مستقبل ابنته هتاف عندما قرر عنها أن تدخل كلية الطب وهي غير راغبة.

كما وردت شخصيات أخرى تمتلك وعيا سلبيا  لا يسعنا ذكرها جميعا. وبالمقابل هناك من امتلك الوعي الإيجابي ولكن ما يهمنا أكثر هو نوع آخر ظهر في شخصية أمجاد وهتاف وهو الوعي الممكن من حيث تصوراته المستقبلية الإيجابية المبنية على تغيير الواقع واستبداله بواقع أفضل ففي ص٢٧٩ تنتصر هتاف بتغيير تخصصها والانتقال إلى دراسة التخصص الذي ترى نفسها به فعلى لسان الدكتور عبد السلام لابنته (اجتهدي ،دراسة الأدب ليست سهلة). ومن المقومات الأخرى التي زخرت بها العبور على طائرة من ورق التعدد اللغوي والأسلوبي. فأي رواية من مثل هذا النوع تقوم على هذا التعدد كي تثبت حواريتها وذلك من خلال طرح الشخصيات لمنظوراتها الأيديولوجية والفكرية ،فاللغة هي أساس قيام الرواية. والخطاب الذي يصدر عن المتلفظ ليس واحدا ،فلكل واحد لغته الخاصة. ومن أنواع التعدد الأسلوبي التي حضرت في هذا العمل،الأسلبة مثل إدخال كلمات أجنبية على بعض الجمل فعلى سبيل المثال كلمة (ترانزيت) ص١١٧ على لسان إلياس (هذه العادة رافقتني دائما في كل مطار أنزل فيه منذ أن ألفت السفر والنزول في محطات "الترانزيت " المختلفة).

كما وردت أنواع أخرى للتعدد الأسلوبي مثل المحاكاة الساخرة (الباروديا) وقد تجلى مثل هذا النوع في عدة مواقف نذكر منها ما جاء على لسان زياد للدكتور إلياس ص٥٣ (هل يعقل أن تكون ابنة الدكتور العظيم من مرتادي العيادات النفسية؟).

وفي أماكن أخرى تجلى التناص مثل ما جاء ص١٠٩ حينما اقتبست الكاتبة بيتا من قصيدة للمتنبى أجرته على لسان إلياس (تتحلق الآثار عن أصحابها...حينا ويدركها الفناء وتتبع).

كما استطعنا التقاط نوع آخر وهو اللغة الشعرية. حيث لا بد للمتلقي لرواية السعود أن يلاحظ أن شخصيات العمل تنتمي جلها إلى طبقة مثقفة ومتعلمة ،لذلك نجد بعض الحضور لهذه اللغة ويتضح هذا على لسان هتاف ص١٢٥ (الوحيد الذي لامس ما في قلبي من صدوع وهزني تماما لتتعكر الرواسب في داخلي من جديد كما ترج اليد زجاجة دواء لتمتزج مكوناتها وجزيئاتها) ومن الطبيعي أن نجد مثل هذه الشاعرية ذلك لأن هتاف أحبت الدكتور الياس ،زميل الحرب كما كانت تسميه أحيانا.

أما لغة الحوار فتعتبر عنصرا مهما في بناء العمل الروائي من حيث أنه يكشف الشخصية الروائية ويساعد المتلقي على تمثلها بمعنى أن هذا العنصر يساعد على معرفة المواصفات التي تحملها الشخصية.

ومن الحوارات التي حضرت بكثافة الحوارات الخارجية والحوارات الداخلية وهذه لا تخفى على أحد. أما النوع الذي أود ذكر مثال عليه فهو نوع آخر وهو الصمت في الحوار وقد تجلى مثل هذا النوع ص٧٩ على لسان الدكتور إلياس (وقفت وجها لوجه أمام الدكتور عبد السلام الذي كان ينظر باتجاه غرفتها ،ظهرت في عينيه نظرة إعجاب دون أن ينطق بكلمة واحدة) وقد تكرر مثل هذا الحوار في غير مكان في الرواية لا يسعنا التطرق لها جميعا. كما حضرت لغة الجسد بكثافة في رواية السعود.

ومن المقومات الأخرى التي حضرت لتكمل مسار الرواية البوليفونية الفضاء الكرونوطي. حيث يتكون هذا الفضاء من الزمان والمكان ويشكلان معا فضاء واحدا. وقد جاءت وحدة الزمان والمكان في رواية العبور على طائرة من ورق متنوعة ومتسلسلة حيث تنوعت الأزمنة من ليل إلى نهار ثم ليل وهكذا، وتوزع هاذين الزمنين الذين ارتبطا بالمكان وخاصة المكان المغلق والمتمثل بكثافة في غرفة النوم ،غرفة المكتب وغيره من الأماكن المغلقة كون هذه الأماكن تعتبر أماكن خاصة يختلي بها الشخص وتشعره بالراحة والأمان والبعد عن الآخرين واسترجاع الجروح والآلام ،ونورد مثالا على ذلك ما جاء ص١٠ على لسان هتاف بعد عودتها من أوديسا (أجلت عيني وتمعنت في التفاصيل المحيطة بي ،خزانة ملابسي،ومكتبتي الصغيرة ،باب غرفتي الموصد بأمان،عقارب ساعة الحائط...تذكرت أحداث الأيام الماضية ،يا لها من أحداث! أيعقل أنني نجوت؟).

بقي القول أن رواية زينب السعود بالإضافة إلى كونها رواية بوليفونية فإنها خارجة من رحم المجتمع في وعيها للنسيج الاجتماعي القائم الذي لا يتقبل اختلاف الآخر. وزينب السعود طرحت مشكلة في هذا الجزء ربما سيكون طرح حلها في جزء قادم كونها تركت النهاية مفتوحة.

***

قراءة بديعة النعيمي

لو تفحّصنا التماثيل الإغريقية والرومانية لتكشّفت لنا العلامات الأولى للجمال بصورته الكاملة من حيث الدقة، والإناقة، والنسب الهندسية التي تقاس بها أعضاء الجسم الإنساني، وأخيراً المتعة التي تنبثق عن هذا الجمال عبر عين المشاهد. إنتقلت هذه المعايير الجمالية من فن النحت ومن هذه التماثيل العظيمة الى المسرح. فنجد في المسرح الإغريقي نحت للشخصيات الدرامية في النص المسرحي شديد الدقة من النواحي النفسية والعاطفية والإجتماعية والروحية. ولكن الوظائف الديناميكية للمسرح لا تسمح بالتوقف عند هذا النحت المتكامل والجميل للشخصيات الدرامية، لذلك كان يجب أن تُوضع هذه الشخصيات ضمن البيئات التي تضمن لها السير المنطقي والعقلاني في أحداث المسرحية. أي في إطار إيستاتيكي جمالي، وديالكتيكي ضمن معايير المخيال الجمعي للمجتمع، وللذائقة العامة السائدة آنذاك. إن هذه الأسس الجمالية ظلت سائدة ومهيمنة على المسرح على إمتداد قرون طويلة، وعبر تيارات فنية وأدبية مختلفة، ولم يهتز وجودها الى حين ظهور كوميديا ديللارتي Commedia dell'arte  وشخصياتها الكاريكاتورية المتمردة الغريبة، لتدفع بمعايير وأحكام الجمال الى جهة تبتعد عن الأحكام والحسابات الجمعية للمفهوم السائد للجمال.

ماهي الشروط التي تحمل الذائقة الجمعية للمجتمع على التوافق، مثلاً، على أن منظر شلاّل المياه وماحوله من زهور وأشجار نضِرة هو منظر جميل وممتع؟ ربما نجد أجوبة مختلفة لهذا النمط من الإشكاليات عند مختلف التيارات الفلسفية، حيث أن مثل هذه الأحكام الجمالية (أو "الأحكام التي تتعلق بالذائقة الفردية أو الجمعية") يجب أن يكون لها سمات مميزة وواضحة وأساسية، كما يذكر الفيلسوف الفرنسي إيمانويل كانط، أولها ما يُستنتج عنه من عدم الإهتمام، مما يعني أننا "نستمتع" بشيء ما، لأننا نحكم عليه بالجمال، في الوقت الذي كان يجب الحكم عليه "بالجمال" لأننا نجده ممتعاً. هذه الإشكالية هي جوهر "الجمال ونقيضه" في الطبيعة عامة، كما هي في الفن بتنوعه، وفي المسرح على وجه الخصوص، حيث إنه لا توجد خاصية موضوعية تجعل من شيء ما جميلاً أو عكس ذلك.

مع أن الفكر الفلسفي الجمالي الذي يقوده الفيلسوف كانط يرى أن حالتي "الشمولية والضرورة" في الحكم على الأشياء بمعايير الجمال هما في الواقع نتاج من سمات العقل البشري ويصف ذلك "بالفطرة السليمة". فيما يرى المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) للفيلسوف الألماني أدمون هوسرل بأن الجمال يجب أن يكمن في "الموضوع" أو في "الشيء"، لذلك يجب ان يُنسب الجمال الى الموضوع وما يتعلق به من أنشطة ووظائف وسلوكيات. هاتان نظرتان أو تفسيران لمفهوم الجمال يتعارضان ظاهريا، على الأقل، ضمن ديناميكية الفكر الفلسفي، ولكنهما يلتقيان في الفن بتنوعه، وخاصة بالمسرح الذي تنشغل به هذه المقالة.

إن منهجية علم الجمال تندرج ضمن مجالات الفلسفة، التي في جوهرها البحث بطبيعة وأسس الجمال والمخيال، والركائز التي تستقيم عليها المعايير، والقيم، والأحكام التي تُشكّل الفن بتنوعه، والذائقة المُنتجة للمتعة. فالفلسفة تتفحص القيم الجمالية، التي غالبًا ما يتم التعبير عنها من خلال أحكام الذائقة، وتستكشف المفاهيم والمعايير المستخدمة لتفسير، وتقييم الأشكال المختلفة للفن والجمال. والمنهجية الجمالية تشتمل على مواضيع متعددة، ومختلفة، مثل الجمال بصورته المطلقة بسموها، والجمال النابع من الإحساس والتعبير، ومن العواطف، والجمال المنبثق عن الفرح والسعادة والسرور، كما هو الحال مع الجمال الشفيف النابع من الشجن، والجمال المتشكّل عبر الإدراك الحسي، والجمال الذي يُفيضه التشكيل بأنواعه، والتمثيل، والخيال، والإبداع وفق أحكام الذائقة الجمعية وحركة الزمان.

لذلك فمن الطبيعي أن تتقاطع جماليات الفن مع فلسفة الفن، إنما ما نشهده، مثلاً، من إنغماس المسرح الطليعي والحديث في كلا الحالتين، وفي ذات الوقت، يستوجب التأكيد بأن جماليات الفن وفلسفة الفن يشكلان حالتين متميزتين. فالفلسفة الجمالية تتعامل مع الأشياء بتمييز وإنحياز، أي مع "نوع معين ومحدد من القيمة"، في حين أن الفن، على إختلاف أنواعه، ليس سوى حالة خاصة من مجموع القيم يطبق عليها الشرط الجمالي. إضافة الى أن فلسفة الفن تبدأ بطرح أسئلة ذات أعماق وشروط مختلفة، لكنها لا تتداخل، الاّ جزئيًا فقط، مع الشرط الجمالي. أما التفكير والبحث المنهجي، الفني والجمالي، في المسرح، على سبيل المثال، فإنه يكسبه الآليات والأدوات اللازمة لترسيخ العلاقة بين الجماليات وفلسفة الفن، وإستنباط سمات جمالية تمييزية، خاصة به، تربط بين المعنى الدرامي من جانب، والفعل والمشهدية الجمالية من جانب آخر. 

ولكن عند الحديث عن الجمال والأحكام الخاصة به، يبرز السؤال المتعلق بكيفية إستحداث المعايير والأحكام الجمالية والتوافق عليها بشكل جمعيّ. تُشير الدراسات الجمالية الى معالجة البحوث العقلية ضمن مفاهيم الحدس الناتج عن التجربة الحسية الجمعية. حيث أن كل شيء مثير للاهتمام وأساسي في مبحث صوغ المفاهيم، أو في الإستسلام لهيمنة الحدس، له مبدأ أساسي يحكمه، وفقاً لتفسير كانط. ولكننا نجد بأن هذا المبدأ يؤكد على "القصدية" في جميع الظواهر فيما يتعلق بحكمنا على ما هو جميل. أي أن هذا يفترض، مسبقًا، أن كل شيء نختبره يمكن إخضاعه للقدرة التي نمتلكها (كمجتمع أو كأفراد) في تقنين معايير وشروط خاصة تتعلق بالحكم على الأشياء. ويتوضّح ذلك تماما في حالة الحكم على ما هو جميل. ويعود ذلك ببساطة الى أن "الجمال" يلفت الانتباه بشكل خاص إلى غرضيته. والمفارقة التي تستوجب الملاحظة هي أن الجمال ليس له مفهوم متاح للغرضية، لذلك لا يمكننا تطبيق مفهوم واحد على الجمال والأخذ به كنموذج نهائي وثابت. عوضاً عن ذلك، يُلزمنا الجمال على البحث وتجميع أو ربط المفاهيم المتنوعة للتوافق مع التغييرات الزمنية التي تلحق بالذائقة. وتجدر الإشارة هنا الى التأكيد بأن الجمال ليس بتجربة غريبة، ومقلقة، ومعادية للطبيعة والإنسان، بل على العكس، إنه مصدر لا ينضب للمتعة الإنسانية.

ولكن ما هو الجمال (Aesthetic) وما الذي يعنيه؟ بغض النظر عما توفره التيارات الفلسفية المختلفة من أجوبة صادمة، ومستحثه للتعمق والتفكير بمفهوم "الجمال"، غير أني أميل الى صوغ مفهوم الجمال، لأغراض هذه المقالة، بإعتباره:

"حاجة إنسانية مُفجّرة ومُحفّزة للخيال والإبداع، تُنتَجْ وفق معايير وشروط وضرورات الذائقة (الجمعية أو الفردية)، بخضوع تام الى حركتي الزمان ودينامية المجتمع، فهذه الشروط والمعايير قابلة للتمدد وللتغيير. والجمال، هنا، هو العربة أو الآلية التي يتنقل فيها الإبداع من المخيلة الى الواقع الحسّي".

لذلك فإن الجمال يتركز في ثلاثة مواقع أساسية: أولها الطبيعة وما تحمله من إختلافات في الجمال ونقيضه، يلي ذلك المخيال الإنساني الذي لا تحدّه آفاق، أي الإبداع والفن بعمومه والمسرح بشكل خاص، وأخيراً الفلسفة والفكر المتجدد. وللجمال تيارات متنوعة، تطورت عبر العصور من خلال تجارب الفنون، والبحث الفلسفي، والتغيّرات الزمنية التي تطرأ على الذائقة الجمعية، من بينها تيّار، مثل "السلوكية أو الكيفية" Mannerism الذي تميّز بالبحث عن الأناقة، ودقة التعبير، وتيار "الباروك"، وتيار "الكلاسيكية"، وتيار "الروكوكو"، وتيار "الكلاسيكية الجديدة" التي أحيت مبادئ الكلاسيكية ، كرد فعل على هزالة الروكوكو، ثم يلي ذلك تيار "الرومانسية"، وتيار "الواقعية"، وتيار "الطبيعية" التي تدفع الواقعية إلى أقصى حدودها، وتيار "الرمزية"، والتي تستخدم الصور والرموز للتعبير عن الحالة المزاجية والأحلام وأسرار النفس البشرية.

تلى تلك المراحل ظهور تيارات فنية وفكرية حديثة منفصلة عما سبقها، ويتضح ذلك بجلاء في المسرح (مع تأثيرات كبيرة لتلك التيارات في الفنون التشكيلية والشعر والرواية) مثل تيار مسرح "القسوة" لأنتونين آرتو، والتيار "الدادائي" الذي ولد من رحم العنف والقسوة التي تميزت بها الحرب العالمية الأولى ، ثم التيار "السوريالي" لأندريه برتون الذي تطور عن الدادائية، وعقب ذلك تيارات سُميت "بمسرح العبث والوجودي" لجان بول سارتر والبير كامو والذي تزامن مع التيار "البريختي" لبرتولت بريخت ثم "المسرح الطليعي" لصموئيل بيكيت وأونيسكو، ثم جاء عدد من التيارات المستحدثة من مبادئ وجماليات المسرح الطليعي التي أمتدت الي يومنا هذا.

هذه التيارات تعاملت مع تجارب جمالية مستحدثة، تتكامل أحياناً أو تعادي ما هو سائد من جماليات وأحكامها وحساباتها. حيث إن هذه التيارات شكلت حالة، ربما فريدة، في تاريخ الفن من حيث قوة وشدة الرفض والتمرد الكامن ضد ما سبق من تيارات. هذا التمرد الغاضب أبتدأه في المسرح الحديث وقاده أنتونين آرتو الذي إبتعد تماماً عن المعايير والاحكام الجمالية المتوافق عليها في الإجماع الاجتماعي، وحاول أن يستنبط جماليات أخرى، ولعلها من نوع خاص، جماليات تنحدر من أسفل السلّم الإيستتيكي، ويمكن تسميتها بالجمال الصادر أو المُشع عن القبح والقسوة والضجيج: أو ببساطة، إنه جمال القبح.

 وهنا تجدر الإشارة الي أهمية أن نتفهم بأن التمرد والرفض هنا لم يوجها فقط ضد التيارات الفنية التي سبقته بل كان بمثابة حركة إحتجاجية ضد الأخلاقيات والبروتوكول اللغوي والصيغ الأرستوقراطية والبرجوازية النبيلة التي كانت سائدة في المجتمع الفرنسي آنذاك. أي تمرد ضد، ما يمكن وصفه الآن، "بالآبارتايد" الاجتماعي. وهذا التمرد والرفض الذي إنسحب على المسرح جعل آرتو يستغني في مرحلة من مراحل حياته، والى حدّ كبير، عن مهام المؤلف المسرحي ويستعيض عنها بالرؤيا الاخراجية للعمل المسرحي. وبهذا فقد سعى آرتو الي إزالة المسافة الجمالية التقليدية بين المسرح والجمهور، مما جعل الأخير، أي الجمهور، على اتصال مباشر مع مخاطر الحياة اليومية من خلال تحويل المسرح إلى مكان يكون فيه المتفرج مكشوفًا على العنف والقسوة والصراخ، والبذائة، بدلاً من الحماية التي كانت توفرها له المسافة الجمالية، وبهذا يكون آرتو قد مارس رفضه، وغضبه، وصراخه، وتمرده بصورة قاسية وعنيفة، ليس فقط على خشبة المسرح، بل وعلى الجمهور أيضاً، بجماليات مناقضة للجمال بصورته المتوارثة وأستعاض عنها بجمال القبح.

لعل الأسلوب الذي كان يتبعه آرتو كان بمثابة النبع الذي يضمن له، كمخرج مسرحي، العناصر والمكونات الجمالية التي تنبثق عن الغضب والعنف والقسوة. جماليات تشّع من القبح الذي صار إمتداداً للتمرد الاجتماعي والفني. أي تمرد ورفض ما هو موجود وما هو سائد من جماليات تتوافق والطبقات الأرستوقراطية والبورجوازية النبيلة، هذا النمط من الإيستتيك لايزال قائماً في بعض الاعمال، وبعض المسارح، وربما يستمر الى سنوات أو عقود قادمة، طالما كان هناك إدراك واعي وعميق وعصري للمشاكل الاجتماعية المستعصية، وطالما كان في الصدور غضب عارم وثورة مكبوته، وطالما كان هناك رفض للأحكام والحسابات الجمالية للمخيلة الجمعية التي يتبناها الافراد والمجتمع، وطالما كان هناك إرادة ورغبة في التميّز عن الطبقات الأخرى في المجتمع. حيث أن كل ذلك يشكل تمردآً أخلاقياً وهذا بدوره يكّون الشروط الأساسية لتشكيل الجمال المنبثق عن القبح.

إن أي مشهد مسرحي يستدعي، وعلى عجالة، النظر في التحليل الجمالي والمعرفي (épistémique ) لمجمل مكونات الصورة المسرحية، ثم تفكيك هذه المكونات ومقارنتها بشكل منفرد مع المعايير والحسابات (الأحكام) الاجتماعية التي تشكل الذاكرة الجمعية لمفهوم الجمال. في حال تطابق التحليل المعرفي مع تلك المعايير الاجتماعية فإن الصيغ الجمالية ستكون بالمستوى الذي يطمح أو يستجيب له المخيال الجماعي، أما إذا أتت النتائج مناقضة للمعايير الاجتماعية فإن ذلك سينتج ماهو معاكس للجمال. وما يناقض الجمال قد يكون ماهو قليل الجمال أو بعبارة أوضح هو الجمال الذي يبرزه القبح. وفي المسرح فإن القبح يكون حالة جمالية شاذة تنتج عن:

أولاً: إسقاط المكونات الجمالية من المشهدية المسرحية والتي تتطابق والمعايير المعرفية للمخيال الجمعي الاجتماعي السائد.

ثانياً: كما تنتج عن القسسوة والعنف، والصراخ، والموسيقى الصاخبة المستفزة، وضعف أو قلة الإضاءة، أي العمل المسرحي الذي يدور معظمه في العتمة. مهما كان تبرير ذلك.

ثالثاً: وعن الإلتواءات الجسدية التي تعبر عن الآلام الفيزيائية والمادية القاسية التي يقوم بها الممثل والتي تخرج عن السياق الطبيعي للحركة الجسدية البشرية.

رابعاً: إقحام الرقص التعبيري والبهرجة الشديدة في المكونات المشهدية وتغييب المعنى المسرحي.

خامساً: إرغام خشبة المسرح على قبول وتبني مسرحة ما هو غير مسرحي، وما هو غير قابل للمسرحة، أي إسقاط السلالة الجمالية للمشهدية المسرحية وتشويه المعنى، ويدخل في هذا التصنيف ما سبق ذكره من الصراخ العالي، وأنماط من الموسيقى المنفرة للذائقة العامة للجمهور، والتناقض المُنفر للألوان سواء في الإضاءة، وفي الملابس أو في الديكور.

ومن المهم الإشارة الى أن " القبح" الجمالي (أو جمال القبح) في مكونات المشهد المسرحي له نوعان:

الأول هو "القبح المدجّن" الذي يمكن أن ينتج عنه مكونات جمالية تهادن المخيال الجماعي الاجتماعي لوصف الجمال، وينتج عن تمرد واعي وإدراك عميق لنبضات العصر، والرغبة الصادقة في جعل المسرح فاعلاً نشطاً في التغييرات الإيجابية للمجتمع.

الثاني هو "القبح الجمالي المجّاني" الذي يقع - نتيجة تمرد كبير، ولكن من غير وعي وإدراك عميق - في المحظور المعرفي والجمالي والأخلاقي للمخيال الاجتماعي، لذلك سيُواجه مقاومة الجمهور، لهذا النوع من التمرد المسرحي، بالرفض التام وربما العزوف عن المسرح.

ومع ذلك فإنه من الواضح بأن الجمال والقبح هما وجهان لعملة واحدة، خزانتها الأساسية تتكون من تراكم معايير الذائقة الجمعية. فالجمال بسموه المطلق، يرى القبح كإجراء تصحيحي ضروري يحفز على التقدير الأعمق لما هو جميل وممتع في الطبيعة وفي الأشياء عامة. إلاّ أن الجمال (ببهجته ومتعته) بالنسبة للقبح (الكامل ببشاعته) فهو كالفكر الفلسفي التنويري بالمقارنة مع الفكر الإحتكاري الفاشي الذي ينكر وجود أو حضور كل ما عداه.   

إن من المفيد أيضاً التساؤل كيف يكون إنعكاس مكونات الجمال (منفردة أو مجتمعة) على جمهور من مائة شخص مثلاً إذا كان العمل المسرحي يحمل بالفعل أساليب جمالية ضمن المعايير الجمعية للمجتمع، ووفق شروط ذائقته؟ أعتقد أنه من الصعب جداً القطع بهذا الموضوع، ومع ذلك سأجازف بالقول أن الجمهور بمجموعه سيتحسس ويتمتع بالمكونات الجامعة لجماليات العمل المسرحي مع أن هذا التعميم لا يمكن ان ينطبق على جميع أفراد الجمهور، بسبب وجود فوارق فردية في المعايير، والذائقة مما يُضيّق المجال في إستقبال الجمال كمعايير، وتصورات وذائقة مجتمعة و موحدة. والامر قد يزداد سوءاً إذا تفحصنا الجمهور كأفراد فقد نجد من يتحسس بالإغتراب الجمالي الذي ينكر علية المتعة في العمل المسرحي.

الآن هل يمكن إعتبار كل مايصدر من غضب، ورفض، وتمرد، وصراخ، بجماليات منبثقة عن القبح؟ الجواب سيكون بالنفي بشكل قطعي، لإن الغضب المتولد عن التمرد الواعي وحده القادر على ذلك، في حين نرى في المسارح العربية تجارب ينقصها الوعي بشكل مثير للتساؤل، كما تغيب عنها الثقافة الأولية، وهي ثقافة أن تفهم لمن تتوجه بعملك المسرحي. أضف الى ذلك أن العمل المسرحي، ذاته، يُعلب بحماليات لا علاقة لها بالنص او الرؤيا الإخراجية (الرؤيا هنا مُشار اليها تجاوزاً) مثل الرقص في غير محلّه، والحركات المسرحية البهلوانية غير المبررة، والموسيقي المنفصلة تماماً عن مكونات العمل المسرحي. هذا الغياب سواء في الوعي، أو في الثقافة، يتحول الى إشكالية أخلاقية، ثم الى أن يكون مصدر حقيقي للقبح المناقض تماما للجمال في الاعمال المسرحية التي تغلب عليها هذه السمات، في غالبية الدول العربية المنتجة للمسرح.     

خاتمة:

إن اكتشاف جمال القبح في المسرح هو شهادة على قوة الفن في التحدي والاستفزاز والإلهام. من خلال تبني ما هو غير تقليدي، ودفع حدود الجمال الى آفاق بعيدة، فإن المسرح لديه القدرة على تحويل أحكامنا وتصوراتنا عن الجمال الى فعل مباشر لتحدي الأعراف المجتمعية. يدعونا جمال القبح، بجميع أشكاله، إلى التشكيك في تصوراتنا، وتحيزاتنا، وأحكامنا المسبقة ، وتعزيز التعاطف والتفاهم. فمن خلال هذا الاستكشاف يستمر المسرح في التطور، ويظل قوة حيوية في المشهد الثقافي لدينا.

أخيراً، يجب أن لا ننسى أن المسرح العربي وريث جماليات المسرح العالمي في جميع صيغه الكلاسيكية أو الحداثية، وقد تبع كتّاب المسرح في مشرق ومغرب البلدان العربية هذا النموذج العالمي، وأسسوا لصيغ جمالية محلية سواء في الاعمال الجماهيرية الواسعة أم في الاعمال الحداثية والتجريبية. إنما ظهور أعمال مسرحية في بلدان عديدة وفي مهرجانات مختلفة لا ترتقي لإي من هذه الجماليات المذكورة، سمح بتوسيع الهوة بين المسرح والجمهور. هذه الأعمال المسرحية منطلقة، في أغلبها، من تمرّد ورفض محلّي، ولكن بثقافة واهية، وبقليل جداً من الإدراك والوعي، أو بإنعدامهما، وهما الشرطان الجوهريان لإعادة الجماليات الي المسرح الذي يطمح الى التمرد أو يمارسه. السبب الآخر لنزوع الجمهور عن هذا الشكل من المسرح هو القبح المتكامل على المسرح والطارد لأية ومضة جمالية. إن التمرد والتجريب حالتين هامتين للغاية في جميع مجالات الإبداع وخاصة في المسرح بشرط إحترام الجمهور. فالتكريم الوحيد الذي يمكننا تقديمه للحمهور، كما أكّد ذلك الكاتب المسرحي برتولت بريخت، هو معاملته على أنه في غاية الذكاء.

*** 

علي ماجد شبو

سأقول للعام القادم:

تعلّمت كثيرا

من زاد الصمت

*

من بلاغة النظر في عيون النار المتقدة.

*

سأقول للعام الجديد:

لي أجندة ثقيلة جدا

سفرة حالمة إلى أرض كتبتها

عواصم بالقلب تتأهّب لانتظاري.

سأقول له:

رسائل الله تنقذني …

أفرّ إلى وجهه

أقاوم برغبة أطول

ألا تكون نهاية العام نومة أخيرة

قبل توبة أخيرة.

صليحة نعيجة، من نص / حارسة الجمر

ابتداء من اسمها، تقوم الشاعرة صليحة نعيجة بإصلاح كلّ قطعة خشب تحملها في بسطة نار. أعتقد أنّ الليل والتأمّل الطويل في الظلام قد دفعها منذ كانت طفلة إلى إشعال النار كراهبة تريد انبعاث الإشراق من نفسها كي تتجلّى. فكان عليها إذن أن تحرس شعلتها، أن تكون حارسة الجمر.

الجمر لغة هو النار المتقدة. واحدته جمرة. وللجمرة عديد المعاني منها ظلمة آخر الليل التي يستتر فيها الهلال. وهذه هي المقاربة التي اعتمدها في قراءتي.

والجمرة هي أيضا القبيلة والجماعة والإخوة لأم والجمرة هي الحصاة ومنها جمرات المناسك.

كل هذه المفردات محتواة في الديوان كوحدة بذاتها تستعيدها الشاعرة لتربط بعضها ببعض لتكمل صورة واضحة للجمر التي تمثّلت أمام عينيها فراحت تمعن التحديق فيها لتشاهد عن كثب استواء صدرها المكوي بحرارته.

بوسع علم النفس الذي لجأت إلى مفرداته الشاعرة إدهاشنا كما اللغة من خلال ملاحظاته ومهارته في وضع المعنى والمعنى المضاد ليملك آليات تفسير الشعر . في العادة هناك خطوات ست لكن ليس عليّ عدها إنما يمكن للخطوة الأخيرة أن تعدّل الخطوة الأولى ووفقها يكون الجمر يعني الخشب.

في التحليل النفسي للنبات، الخشب هو الأصل . فلنختبر في ديوان الشاعرة مستوى تأويل علم النفس فنستشف من مسافة معيّنة أقصى ما يمكن الارتقاء إليه / القمّة. فكم هذا مثير!

الشاعرة تحاور السماء فنقرأ لها:

رسائل الله تنقذني

أفر إلى وجهه

أفرّ إلى ورع.

هاهي إذن جمرتها، من جمرات المناسك .

صورة نهائية رسمتها الشاعرة لتبرز امتلاكها للفضيلة وليس للكمال.

وتقول أيضا: أعود إلى مدينتي الفاضلة

أروي لأزقتها ما رأيت بالحلم.

كأنّ هذا الديوان كله بعاطفة واحدة هي عاطفة الأمومة. لا تفسح المكان لغيرها لأن الحارس يلزم مكانه يسهر كأم على سلامة ما يحرسه.

وقد جاء في الإهداء: إلى أمي وهي تراقب مخدتي على مدار العمر لأجل الشعر.

فهذا الربط بين الأم والمدينة الفاضلة على وجه شبه حضاري فتقول في نص أمي خيلاء الأزمنة/

بوجه امي تضاريس الأرض

ملامح قارة عجوز تمسك زمام الأمور

حفظا لحضارة عريقة.

فأي حضارة تقصدها الشاعرة، وأي مدينة فاضلة؟ وكل المدن بمستوى واحد إذا سوّى بينهن الحب؟

أهي الأندلس؟ التي تحرّكها في أغوار نفسها منذ البداية فتقول في نصها الافتتاحي للديوان/ للقلب أندلس تهذي وتبوح؟

أم هي وريثة الأندلس، مدينتها، قسنطينة؟

فقسنطينة هي الحواري القديمة، هي رحبة الصوف . هي " ديار عرب" التي كل لبنة فيها صُقلت في صقلية منذ عهد الأغالبة . الدولة العربية الأولى في افريقيا . فنسبت إليها ديار الطوب فقيل ديار عرب. أميرها الأخير أبو العباس عبد الله ترك القصور وسكن دار طوب. فصاريقال للتكريم " لو أجلستك على عرش لكان دار عرب".

رائحة قسنطينة هي رائحة ديار عرب، بسقوفها التي كانت من أغصان الدردار، والدردار يرمزللاستقامة ويشتق من اسمه لفظ " دار" . فهاهي الشاعرة تحفظ بمهارة سجّل التاريخ. حيث تقول:

أنا الطفلة العاشقة لصباحات رحبة الصوف

أنا أوّل المتعبين بحبها

بحب تلك الحواري والشعاب والجسور

أنا أوّل وآخر المتعبين.

إن المدينة موحشة بغيرديار عرب. إن حالها إذن يشبه خروج العرب من الأندلس.

تقول في نصها خوف الأجنبي/

تركت لك الديار، المدينة، الرفاق والجيران

فلماذا دونا عن جميع سكان المدينة

يحلو لك السطو على ممتلكات القلب البسيطة؟

*

فوبوس،

لماذا يحلو لك المعارك بالمدن الجميلة؟

*

وفي نص آخر تقول:

أنا العربي قتلت هنا

يوم دفنت احلام العروبة

قتلت هنا

هنا اصطلي بنار

لا تنتهي بوجد كل الوافدين لاقتناص اللحظة

هنا زرياب

هنا ابن حزم

هنا ابن رشد

وابن عربي.

فلنحيّ شاعرة لم تكن في ماضي الأندلس فيقال عجزت أندلس أن تنجب شاعرة بعد " ولّادة" حتى أنجبتها " سيرتا" .

فصليحة نعيجة تبدو كأنها ولّادة بنت المستكفي بعباءة الترحيب بالشعراء. فمن الشاعر الذي تخاطبه صليحة ولا يرد؟

كأن مهمة الشاعرة أن تقرأ شعرها بصوت مرتفع في شوارع المدينة خارج جدران البيوتات مبتكرة طريقتها هذه لتبيّن أن الساكن المثالي لهذه الديار،في فترة طفولته الأولى قد امتلك وحده صورة العش على الشجرة وحافظ عليه مثل طائر . يملك جناحين ليحلّق بعيدا لكنه لا يفارق. هاهنا الطبيعة تحفّز الأمومة للحنان اللانهائي.

فتقول:

كان الزقاق باردا إلى أن أتيت

وكانت " القالمية" (والدة الشاعرة) كأيّ مهرة جموح

تمنحني الحياة.

هاهنا الشاعرة تتراقص فوق اللهب/ فراش الأم / كفراشات الربيع

فتقول: لأمي متسّع من الوقت لتقول ما تعجز عنه القصيدة.

وأقول إن الشاعرة لا تتقدّم نحو مجمرتها بالعبارات الغرامية التي شكّلتها، لتضطجع للشاعر الذي كان يبكي من مأزم بين شدّة الرغبة وعدم الجرأة.

الشاعر المسكين الذي هو بمثل البئرالذي تقول عنه:

البئر مسكين

لا يعي قانون الجاذبية فيه/ إليه/ عنه

لا بئر في المدينة يسمع أنّاتهم بعد الآن.

هذا الشاعر الذي من وراء حصون عالية ينتهي السؤال عنه بانطفاء الجمر.

لكنّ طرطقة الجمر أكثر حدّة من السؤال .

تقول الشاعرة:

كان بودي أن أقيم لهم وليمة فاخرة

ودعوة أنيقة

ثمة سر أنوي البوح به

ولا تقوى الكمنجات على عزفه.

فيا لها من شاعرة تضاهي بجمرها أزهار بنات النار، تلك الأزهار التي تتعب نفسها لتعطي حامض الكبريت الواصل للتيار الكهربائي.

فلا بد للوصل بين الشاعرة وشاعرها من عذاب يشبه عذاب مازوش، فداخل نفسها تتمنى أن تصلح كلّ شيء بكلمة واحدة توحي بالدفء وهي كلمة جمر.

بلونه النحاسي في الشتاء يثير الغبطة

بشكله في البرودة الشديدة يحفّز الحب الدائم

الشاعرة بذكائها ومهارتها كأنها حفيدة لآل الأحمر تتألّق بلغة عظيمة عظمة ملكهم .

تملأها الموهبة لكنها تتعلّم وترى وتسمع وتمارس وتهيّئ تجاربها لأنتاج فكر شعري حيث القلب والعقل معا يسهمان في خلق القصيدة.

إنها امرأة عظيمة العاطفة تحث نفسها على الشعور بالألم مثل مازوش لتظلّ حريصة على اتّقاد نارها كعادة العربي الأصيل ليستقبل ضالّي الطريق .

إنّها الفانوس إذن والمصباح وابتسامة تعطي الطاقة للمشاعر الخامدة لتتألّق من جديد.

فشكرا لك أيتها الحارسة،

أهديتنا حرارة العناق فاشتدّ عزمنا على تحمّل العتاب.

***

قراءة الشاعرة إلهام بورابة

................

* الصورة للشاعرة صليحة نعيجة

 

النص السردي يمتلك براعة الصياغة والخيال الفني، في صياغة وخلق وتكوين  الحدث، في الغور في الأعماق في عتبات السردية للنص، في الاتجاه الواقعي، أو الواقعية الاتجاه  التي تملك  المغزى والمعنى والايحاء البليغ في دلالته، هو يدخل في سيكولوجية المرأة التي تبحث عن الأمل والحلم والحب وتشوقه، في مجتمع وتقاليده تقف بالضد  من المرأة، أو  في الاحرى  المجتمع الذكوري يعطي كل الحق للرجل، ويسلب كل الحقوق للمرأة، في سبيل ان تظل ظل الرجل، أو اسيرة رغباته وافعاله، أن يكون ولي امرها، والقائم على شؤونها وبرمجة رغباتها وسلوكها وطريقة حياتها وظروفها وأسلوب طريقة معيشتها . في مجتمع ينظر بشكل أحادي للرجل ويترك المرأة تغوص في الظلم والمشقة والمعاناة  . هذه بيانات النص السردي في المجموعة القصصية (معابر الدهشة) أن الاديبة (زهرة الظاهري) تحاول ان تغوص في الازمة الحياتية الظالمة للمرأة بشكل عام، وبشكل رصين بكشف الحقائق والوقائع في تداعيات الاجتماعية وتصدعها اليومية والمعيشية . في لغة سردية مشوقة وجذابة، بحيث تثير اهتمام القارئ وتترك اثراً في ذهنه من  التأمل والتفكير، وهو يتابع الاحداث الصادمة في النص السردي . واختارت الضمير المتكلم لقيادة دفة الأحداث وبرمجتها، وهي تحمل شحنات  من الانفعال والتعاطف في المشاعر في حسها ونبضها الانساني، وفي مخاطبة الآخر، مواد سردية من خامة الواقع الاجتماعي، في جمالية عتبات النص، الذي يحمل ثنائية قبل وبعد الحدث (ميتا سردية) في النص والشخصيات، التي تغوص في البؤس والمعاناة في حياتها اليومية، يمتلكها القلق والخوف من المجهول، لذلك نجدها محبطة في الخيبة ومنكسرة في التصدعات النفسية في القهر في الواقع الاجتماعي، الذي ينهال على المرأة في كومة اخفاقات لتشكل لها أزمة حياتية ونفسية من الانكسارات .

لنقتبس بعض القصص في إيجاز شديد:

1 - قصة العرافة:

للخروج من دائرة اليأس والإحباط في حياة المرأة المتكسرة نفسياً في مشاكلها اليومية، تلجئ الى العرافة، لكي تساعدها للخروج من النفق الحياتي المليء بالضباب، لكن العرافة نهج عملها الابتزاز والدجل والغوص أكثر فأكثر في المشكلة، حتى تخلق لها عقدة نفسية متشظية عند زبونتها، رغم المرأة دفعت المال و باعت أساورها الذهبية واقترضت المال الكثير،  دون أن تجد كوة أمل . حتى العرافة ضجرت منها بتذمر وأرادت أن تقطع صلتها والكف في المجيء اليها  لتقول لها في آخر لقاء (أتعبتني بشكواكِ  وتبرمكِ من كل ما حولكِ، لماذا لا تقتنعي بأن حظكِ من الدنيا سيء جداً، تصرفي في نظركِ تماماً على ان يكون قادم الأيام مواتياً لامزجتكِ الغريبة، أنسي أنكِ امرأة خلقت لغير البؤس، و تخففي من آفاقكِ الواهية) ص13 .

2  - قصة فلس:

من سخرية الأقدار ومهازلها الاجتماعية من الآباء في اختيار اسماء غريبة لابنائهم، تكون محل تندر واستهزاء وسخرية من الناس، وتكون هذه الاسماء الغريبة،  ثقيلة على صاحبها مثل أسم (فلس) رغم انه خريج جامعة، لكنة يشعر بالارتباك والتذمر من اسمه الغريب بين الناس، وترشده احدى الموظفات التي استغربت من  اسمه (فلس) واقترحت عليه الذهاب الى المحكمة في سبيل تغيير الاسم الى اسم مناسب، وبالفعل قدم طلب الى المحكمة بتغيير الاسم، نظر قاضي الى اسمه الغريب وقال متذمراً (- ابوك الامي الجاهل أسمه ابراهيم العريبي وانت الشاب خريج الجامعة أسمك فلس؟) ص27 . وتم تغيير اسمه الى أسم مجد ابراهيم العريبي .

3- قصة حمام الشفاء:

امرأة بائسة منكودة الحظ، كأنها خلقت للقهر الاجتماعي، ان تكون لعبة بغض وكراهية  من زوجة أبيها بعد وفاة أمها، أن تجبرها على الزواج من رجل يفوقها عشرين سنة ومعتوه كأنه من أهل الكهف، وضع مصير حياته بيد أمه، التي عجزت أن تجد امرأة واحدة تقبل بهذا المعتوه بالزواج، وكانت الام شريرة في تعاملها الخشن والقاسي، وكانت المسكينة في عذاب ومحنة، وكانت على الدوام آثار التعذيب الجسدي واضح في جسمها، من رضوض ودماء من الفم والأنف وبقع السياط على جسمها، وزادت معاناتها انها انجبت جنين معوق ومشوه بعد ولادة عسيرة، فلم تعد تتحمل المزيد من المعاناة، وفي ليلة كالحة هربت مع طفلها المعوق، ليستقر بها المقام . ان تشتغل في حمام النساء، وتحت رحمة صاحب الحمام وزجته العجوز في استغلالها بابشع صور من المعاملة القاسية، وبالتالي زوجة صاحبة الحمام دبرت  لها مكيدة بتهمة سرقة أساورها الذهبية الثمينة وجرجرتها الى المحكمة، لم يفلح بكائها ودموعها الحارقة بأنها بريئة من التهمة،وفي يوم قرار المحكمة طلبت من قاضي أن تكشف خفايا واسرار من الفضائح للزوج والزوجة، وخشية من كشف هذه الفضائح، سارعت العجوز البدينة الى سحب دعوة السرقة والتسامح عنها بحجة (المسامح كريم) .

4 - قصة كورونا:

الاب مناضل سياسي تعرض الى السجن والاعتقال بسبب مبادئه السياسية  السامية بالمثل العليا في سبيل الدفاع عن  المظلومين والمحرومين، وكان يملك الجرأة والعزم والارادة، فلم ينحنِ للمضايقات والاضطهاد وكان داخل السجن (يغني مع رفاقه سجناء الرأي، وللحرية والفلاحين والمقهورين وللذين  قضوا نحبهم تحت السياط وهم يهتفون بالقدس وفلسطين) ص51، وتحملت اعباء الحياة القاسية ابنته، لانه خرج من السجن فقير معدم، ولا يجد احداً يشفع له ويقدم العون لحالته  الرثة، وزاد الطين اكثر بوًساً تعرضه  بإصابة بـ الكورونا، ولم يستطع الذهاب الى المستشفى وشراء الدواء، لأن كل ما جمعته ابنته من المال كان شحيحاً لا يلبي الحاجة للعلاج والدواء . وتدهورت صحته اكثر، وابنته تفتش عن وسيلة نقله  الى المستشفى .

5 - قصة نور:

قصة مأساوية تمثل صرخة احتجاج وادانة للمجتمع وتقاليده الظالمة بحق المرأة، في ارتكاب جريمة قتل متعمدة،  للفتاة انجبت منذ سويعات قليلة  جنين غير شرعي، في عملية دهس وحشية مزقت جسم الفتاة الى اشلاء متناثرة، وبالصدفة كانت هناك امرأة شاهدت مشهد الجريمة بشكل كامل، هرعت اليها، وتطلعت الحاوية القمامة، وجدت هناك علبة بلاستكية، حين فتحت العلبة وجدت في داخلها،  جنين ملطخاً بالدماء، عارياً من الثياب، رغم البرد والمطر، وانطلقت بالجنين وقد لفته بعطفها صوب مركز الشرطة، تطلعت في وجه الجنين، كان نائماً كوجه ملاك بريء، ابتسمت له وهي تردد بحنان الأم (- نور سيكون أسمك نور، ستنيرين الدنيا بضيائكِ) ص109 .

***

جمعة عبدالله

 

عندما نطرق أبواب منطقة الأثر(1) النصّي، سنكون أمام اتجاهين، الاتجاه الحاضر للأثر النصّي (ومن الأثر بمعنى العلامة)، والاتجاه الغائب، فالنصّ الحاضر يكون متأثراً في حضوره ويحاور أدوات وعناصر النصّ الداخلية، جالباً التأثيرات والمؤثرات التي يمتاز بها حضوره، فيدخلنا معها من خلال التأثر وتحضير الأثر المنجز، وذلك لأنّ الآثار النصّية حول الذات الحقيقية تسبح كالنجوم في الفضاء، وكلّ نجمة تحمل أثراً فعلياً تتجانس مع أدوات النصّ الفعلية، مثلاً: أثر الحدث الذي يُرمى تلتقطه العين لتوظيفه في الذات العاملة، ولكن هناك الأثر الباقي الذي لا يلتقط، ولكن من الممكن جداً أن يكون مستهدفاً من أهداف المحسوس الذاتي، فهو الأثر اللامرئي الذي يتناوله الباث في منظور التماسك الدلالي الفعلي؛ فالمستوى الأول منظور تجريبي، والمستوى الثاني يقع ضمن التجريب الاندفاعي، لذلك سنتطرق إلى ثلاث مناطق في منظور الأثر والمأثور، منطقة الأثر في التجريب الأوّل، ومنطقة الأثر في التجريب الاندفاعي والمثير الجامع لحيثيات الأثر لكي يكون المتلقي أوّل من يدخل منطقة المأثور باعتبار أنّ هذه الرسالة موجهة له.

منطقة الأثر في التجريب الأوّل: إنّ سياق التجريب لا ينفصل عن سياق الأثر، وكلاهما يشكّلان منطقة ناضجة مهيأة لتلتقطها الذات، فهي القريبة منها، وعلى اتصال شمولي؛ لذلك عندما تنضج المعاني في الذات الحقيقية ينضج القسم الأعلى من النصّ المنظور، ويكون للعلامات اللغوية تحقيقات قائمة تتبعها العلاقات النحوية.

منطقة الأثر في التجريب الاندفاعي: يندفع الأثر بذاته من أجل ذاته، لذلك يتم توظيفه بشكل محدّد، وذلك بما يخصّ المعنى أوّلا وما يخصّ النصّ ثانياً، ويشكّل دالة حركية بين الدوال التي تتعلق في النصّ المكتوب، وبعض المتعلقات هي عبارة عن علامات وتبادلات دلالية من الممكن أن تحلّ الواحدة محلّ الأخرى. وتعد تجميع أثر الأشياء المتفاعلة صيغة من صيغ النصّ التي يبحث عنها لكي تكون مندمجة في المعنى، فالمعاني النصّية غير محدّدة لذلك تترقب المزيد في الاندماج النصّي.

منطقة المأثور: في هذه المنطقة بالذات لكونها مختلفة لذاتها، يكون الكاتب قد تجاوز الصعوبات الكتابية وراح يبحث عن التصوّرات ومخططاتها لكي يدمج البعد الكتابي بالفعل الآني، وهي قابلة للدمج والتفاعل من خلال العرفانية لدى الباث عندما يكون النضج مع الشخصيات (في الرواية) وعندما يكون فعل المتخيل قد أسّس مساحة يستطيع (الكاتب أو المؤلف) أن يتعامل من خلالها مع الخيال الخلاق بأبعاد ابتكارية أوّلاً وبالضغط على الذات الحقيقية لرسم ما تحويه محفظتها من أبعاد تخييلية – كتابية ثانياً.

وإذا أخذنا النصّ، فإنّه واحد من المأثورات الإنتاجية، فبدايته يراوغ بين الطول والقصر، وبين البقاء والنسف، فالنصّ التركيبي لا يختلف عن النصّ النهائي، فالأوّل في القول التشييدي التركيبي، والثاني قد تجاوز منطقة المأثور ويكون في المقام الإنتاجي.

السلطة النصّية

من خلال السلطة النصّية يظهر المثلث الإبداعي، فالنصّ المكتوب يتجاوز مرحلة عميقة من خلال مراحل عديدة تحدّدها الآليات النصّية من جهة ومميزات النصّ من جهة أخرى، فيكون للغة (هناك أنواع عديدة للغة ومنها مثلاً: اللغة السردية، اللغة الشعرية، اللغة الأدائية، اللغة الرمزية واللغة السريالية) تعدّدية فنّية من الممكن بواسطتها أن نحاجج جنس على جنسٍ آخر، أي (أنّ النصّ لا يكتفي بذاته أو حاضر في ذاته، كما يقول جوزيف ريدل)، أو أن تكون إمكانية الحوار الحِجاجي باعتبار أن محور الحجة الجانب الغامض في المعنى، ولكن هذا لا يسلب سلطته النصّية وذلك لنفوذ العلاقات النصّية من جهة، وعمل العناصر وانسجامها من جهة أخرى.

محور الحِجاج:

لا يختصّ مبدأ الحوار بجنس معيّن من أجناس الأدب، فهو شمولي – فنّي ويؤدّي إلى انسجامات نصّية، مثلا؛ الانسجام اللغوي؛ فاللغة السريالية تتزاوج مع اللغة الرمزية، واللغة الشعرية تغازل اللغة السردية، هذه الخصوصيات الحوارية والتزاوج الفنّي بين اللغات، يعتبر مفهوم القوّة (force) التي تتدخّل في الحوار الحجاجي، ذات دلائل حِجاجية.

من خلال المحور الحجاجي تقودنا التوجهات والاتجاهات إلى بنى ومعايير عديدة ومنها؛ المعيار الوظيفي والبنية اللغوية ومدى توظيفها كمعيار يضمن الربط الدلالي والربط الاستدلالي.

إنّ (الأصل في وسائل الحِجاجية الفلسفية الاستدلال أي الحِجة المنطقية، ولا قيمة للحجة الواقعية أي الدليل إلا في سياق الاستدلال"2")، إذن يكون الاستدلال المنطقي هو المهيمن على السياق الحِجاجي.

محور التسلط النصّي:

إنّ التحوّلات التي تجري في النصّ الوحدوي، هي تلك التحوّلات التي تتمّ من الطبيعة إلى الذات الحقيقية، فالمعاني التي نريدها، تبقى مرسّخة دون تفريط، مثلا التحوّلات الإشارية عندما نكون مع توظيف الأشياء، ستكون هذه الأشياء مصدر محاججة نصّي، وذلك؛ بما آلت لنا وتفضيل هذا الشيء على غيره، وبما تمّ من توظيف بعض الأشياء غير المرئية، ويكون التأويل سبباً من أسباب المحاججة السببية، وكذلك حدّة النصّ التأثيري، حيث يكون مؤطراً بالمؤثرات السياقية، والتي تعمل على جذب الآخر وإن كان عن بعد. وأهمّ السياقات التي تظهر؛ هو السياق الأسلوبي؛ فالقيمة الجمالية والبنى اللغوية التي تعتمد التركيب الجمالي، والاستعارات، والتشبيه، والتصوّرات منها الاستعارية ومنها الذهنية، كلّها تخصّ النصّ وسلطته التفرّدية.

جلّ ما يبحث عنه الكاتب – الشاعر؛ هو ذلك المتلقي النموذجي، حيث يعتبر النموذج الخاص الضمني، وفي الوقت نفسه، المساحة المؤطرة في تلقي الرسالة وحفظها، وقد قال ريفاتير عن مفهوم "القارئ النموذجي" (هو ذلك التفاوت الحاصل بين واقع النصّ الثابت واختلاف وتباين القراء في قراءته بفعل تطوّر السنن وما يحصل تعارض بينه وبين سنن النصّ، وفي جميع الحالات يكون الأسلوب غير واقع على النصّ، ولكنّه موجود في سياق تفاعل القارئ مع النصّ"3").

***

كتابة: علاء حمد

....................

المصادر:

1- قال ابن منظور: " الأَثر بقية الشيء والجمع آثار وأُثور ... والأَثْرُ مصدر قولك أَثَرْتُ الحديث آثُرُه إِذا ذكرته عن غيرك.

2- دروس في الحِجاج الفلسفي – ص 13 – إيمان سعد.

3- معايير تحليل الأسلوب – ص 7 – ميكائيل ريفاتير – ترجمة: د. حميد لحمداني

منذ أن نشر الكاتب الروسي يفغيني زامياتين روايته الديستوبية الموسومة «نحن» عام 1924 في نيويورك، صدرت عشرات الروايات على غرارها، التي تعبّر عما يجري في عالمنا اليوم، رغم أن أحداثها غالبا ما تقع في المستقبل، لعل أهمها «عالم جديد شجاع» (1932) لألدوس هكسلي و«1984» (1949) لجورج أورويل و«فهرنهايت 451» (1953) لراي برادبري، و«حكاية الخادمة» (1985) لمارغريت أتوود، و«الطريق» (2006) لكورماك مكارثي. وهي روايات تتناول العديد من التهديدات والكوارث التي ستواجه البشرية، سواء كانت طبيعية أو من صنع الإنسان، أو تغييرا قاسيا في النظام السياسي يفضي إلى الرقابة والاستبداد والشمولية، أو حربا عالمية. ما يجعلنا نفكر في كيفية منع وقوعها.

قبل أن يبدأ لينش بكتابة «أغنية النبي» الفائزة بجائزة البوكر لعام 2023، نشر فكرتها الرئيسية، التي تدور حول تنامي القوى اليمينية في أوروبا والحرب الأهلية في سوريا وأزمة اللاجئين في أوروبا. يقول لينش: «فكرت في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفي ترامب والقوى التي تتجمع في الأفق: حزب الحرية في النمسا، الجبهة الوطنية في فرنسا، حزب الشعب في الدنمارك، الفجر الذهبي في اليونان، حركة جوبيك (الحق) في المجر، القانون والعدالة في بولندا، حزب الحرية في هولندا، والتحول التكتوني الذي يحدث في الديمقراطيات الغربية. فكرت أيضا في انهيار سوريا واستجابة الغرب الضعيفة لأزمة اللاجئين، أردت أن أفهم إلى أين قد يؤدي كل هذا. بدأت أتساءل كيف ستبدو أيرلندا مع حكومة شعبوية. وتساءلت أيضا كيف سيكون العيش في ديمقراطية تنجرف نحو الاستبداد. سألت نفسي، ما نوع القوة التي يمكن أن يتمتع بها الإنسان عندما يجد نفسه محاطا بمثل هذه القوى الهائلة؟ لقد تشكلت «أغنية النبي» كرواية ديستوبية تدور أحداثها في عصرنا». هل نجح لينش في تحويل أفكاره المعلنة إلى رواية مشوقة ناجحة؟ وما الجديد الذي أضافه إلى رصيد الرواية الديستوبية؟ وهل كانت «أغنية النبي» أفضل رواية ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2023، من حيث القيمة الفنية والجمالية، وعمق التعبير». تختلف «أغنية النبي» اختلافا كبيرا عن أعمال لينش الأخرى، التي هي في معظمها روايات تاريخية تدور أحداثها في الريف الأيرلندي. روايته الأولى «السماء الحمراء في الصباح» (2013)، تحكي قصة مزارع مستأجر يعيش في القرن التاسع عشر. تدور أحداث رواية «الثلج الأسود (2014) في عام 1945، وبطلها مربي ماشية. رواية «غريس» (2017) قصة أشقاء يحاولون النجاة من المجاعة في أيرلندا. وفي «على الجانب الآخر من البحر» (2019)، الشخصيات الرئيسية هم الصيادون الذين تقطعت بهم السبل خلال عاصفة في المحيط الهادئ. وفي جميعها التقى القارئ بأبطال خائبين يعانون في الحياة، لكن «أغنية النبي» تفوق كل ما كتبه لينش سابقا من حيث عمق التعبير، فهي تعكس بحيوية كبيرة، المخاوف الاجتماعية والسياسية في اللحظة الراهنة، وتتسم بالسرد الديناميكي والدرامي والعاطفي، عبر رؤية قاتمة ومؤلمة لبلد ينحدر نحو الهاوية، وصورة إنسانية عميقة لكفاح أمٍ للحفاظ على أسرتها.

الحبكة

بعد عامين من وصوله إلى السلطة، أصدر حزب التحالف الوطني في أيرلندا قانون سلطات الطوارئ «استجابة للأزمة المستمرة التي تواجه الدولة»، ما أعطى سلطات لا حدود لها على ما يبدو لمكتب الخدمات الوطنية التابع للشرطة، وهو في الحقيقة قوة شرطة سرية جديدة. بالنسبة لهذا المكتب، فإن الأشخاص الذين يمارسون الحقوق الدستورية، التي كانت في السابق أساسية للديمقراطية الليبرالية – الحق في الاحتجاج، على سبيل المثال – هم مثيرون للفتنة. لكن تركيز لينش لا ينصب على صعود حزب التحالف الوطني إلى السلطة، أو على الآليات الداخلية للدولة الاستبدادية، بل على التجربة القاسية المؤلمة لإحدى العائلات في دبلن، خلال انحراف الحكم في أيرلندا نحو النظام الشمولي..

السيدة إيليش ستاك عالمة في البيولوجيا من دبلن، وأم لأربعة أطفال، مشغولة بالعمل والأسرة ووالدها المسن، ولا تهتم كثيرا بالتقارير الإخبارية المثيرة للقلق بشكل متزايد، ثم يأتي الواقع المرير يطرق بابها: في أمسية مظلمة ورطبة في دبلن يصل ضابطان من الشرطة السرية المشكلة حديثا لاستجواب زوجها، لاري، حول عمله كزعيم نقابي، الذي اختفى مع العديد من زملائه والناشطين الآخرين، في دولة الفوضى، بعد اشتراكه في مسيرة تطالب بحقوق المعلمين. يريد أطفال إيليش المراهقون النزول إلى الشوارع والاشتراك في المسيرة الاحتجاجية – ولكن كل ما تريده إيليش هو إبقاؤهم مخفيين وآمنين. مع اندلاع الحرب الأهلية، وامتلاء شوارع دبلن بحواجز الطرق والقناصة، ظلت مجمدة في حالة من الإنكار.

يغرق لينش القراء في هذا الكابوس بجمله المتعرجة المليئة بالرهبة، ودون فواصل بين الفقرات، ولا يوفر لهم أي مساحة لالتقاط الأنفاس.. يحاكي أسلوب لينش تطور مواجهة إيليش انجراف بلادها إلى الحكم الشمولي والحرب الأهلية، ومع ما يجب عليها فعله للحفاظ على تماسك عائلتها. تتأرجح مشاعر إيليش بين الذعر والإنكار، بين الخضوع للأمر الواقع والرفض العنيد للانصياع لمنطق النظام، بغض النظر عن اختيارات إيليش، يستمر الرعب دون توقف، وهناك إحساس حقيقي بالأزمة والهلاك الوشيك طوال الوقت.

أيرلندا البائسة في رواية لينش تعكس واقع البلدان التي مزقتها الحرب: لجوء اللاجئين إلى البحر هربا من الاضطهاد على الأرض، وأعمال العنف في فلسطين وأوكرانيا وسوريا، وتجربة كل أولئك الذين فروا من تلك البلدان. إنها قصة سفك الدماء والألم، التي تفضح وحشية ردود أفعال السياسيين الغربيين تجاه أزمة اللاجئين. وحسب لينش، فإن أحد أهداف الرواية كان إيقاظ التعاطف لدى القارئ، الذي أخذ يعتاد على الأخبار الصادمة، وينظر إلى تقارير المعاناة والكوارث على أنها أمر عادي. تصبح الأخبار مملة، أكثر من كونها مرعبة، وتجعل الناس غير مبالين، وربما لهذا السبب فإن نهاية «أغنية النبي» بعيدة عن التفاؤل.

في بعض الأحيان، كانت قتامة الرواية التي لا هوادة فيها، تجعل قراءتها غير محتملة تقريبا، ومع ذلك، فإن صدقها يجعل القارئ يستمر في القراءة. هناك مقاطع في الرواية يتردد فيها صدى حملات القمع الوحشية، التي قامت بها الشرطة في عام 2020 على مسيرات «حياة السود مهمة»، ولغة الرئيس السابق دونالد ترامب الاستبدادية والمروعة بشكل متزايد. وتبدو بعض المشاهد المروعة كأنها مأخوذة من التقارير الحالية عن القصف الإسرائيلي الإجرامي على قطاع غزة وقتل المدنيين الأبرياء، ومن مآسي الغزو الروسي لأوكرانيا. لم يكن أي من هذه الأحداث قد وقع بعد، عندما بدأ لينش كتابة «أغنية النبي». وقال إنه كان يفكر آنذاك في «الاضطرابات في الديمقراطيات الغربية ومشكلة سوريا – انهيار دولة بأكملها، وحجم أزمة اللاجئين فيها، ولامبالاة الغرب». ومع ذلك، يؤكد لينش أن الرواية ليست سياسية بقدر ما هي «ميتافيزيقية»، وأنه شعر بأن «عمل الأدب الجاد يجب أن يكون بدلا من ذلك، الحزن على الأشياء التي لا نستطيع السيطرة عليها، والحزن على ما لا يمكن فهمه، والحزن على ما هو أبعد منا».

إيليش تركز على ما حدث لعائلتها وحياتها، بدلا من التركيز على ما حدث لبلادها، فهي تهتم في المقام الأول بالأعمال المنزلية والحياتية، مثل ملء الثلاجة بالحليب، ونقل الأطفال الأكبر سنا إلى المدرسة، وتهدئة لثة الطفل أثناء التسنين، حتى عندما يفرض النظام حظر التجول في دبلن، وتقصف الطائرات الحي الذي تعيش فيه، ويقوم البلطجية بتخريب سيارتها. في مرحلة ما، عندما كانت تنظف المطبخ بعمق حدث انفجار هز الأرض لذا اضطرت إلى التمسك بحوض المطبخ بكلتا يديها. يجب عليها اتخاذ قرارات مستحيلة لحماية عائلتها. في أحد المشاهد المؤلمة، تضطر إلى الركض عبر المنطقة الحرام لرؤية ابنها المصاب في المستشفى، معرضة لخطر الإعدام على يد القناصة، الذين يطلقون النار على المدنيين. إن مغادرة المنزل إلى حياة مجهولة خارج حدود أيرلندا هو خيار أصبح أكثر خطورة بالنسبة إلى إيليش، حيث يصر والدها سيمون، الذي يعاني من الخرف، على البقاء في المنزل». «إيليش» تسعى جاهدة لجعل والدها يفهم مدى خطورة الموقف، لكن عقله يتجول بين الماضي والحاضر، مستحضرا ذكريات كاذبة عن زوجته المتوفاة منذ فترة طويلة. أحيانا يكون مدركا لواقع الصراع، وعندما يكون كذلك، فهو حاد للغاية: «أنتِ يا إيليش تؤمنين بحقوق غير موجودة، الحقوق التي تتحدثين عنها لا يمكن التحقق منها، فهي محض خيال». يطلب منها أن تتركه وتذهب إلى كندا، أو إلى أي مكان آخر. شقيقتها التي تعيش في مدينة تورنتو الكندية تتوسل إليها عبر الهاتف القيام بمحاولة الهروب من أيرلندا، وتحذر إيليش بأن «التاريخ هو سجل صامت للأشخاص الذين لم يعرفوا متى يرحلون»، لأنه ليس من السهل معرفة متى يتوجب عليك الرحيل».

أسلوب لينش

أمضى لينش أربع سنوات صعبة طويلة، شملت زمن كوفيد، في كتابة رواية «أغنية النبي» التي تقع في 320 صفحة، وهو يتأنى في كتاباته، ويهيم بالصدق والوضوح، ويطلب حتمية اللفظ. أقتبس: «كتابة الرواية ليست عملا سهلا على أي حال. إنه بطيء. أنا كاتب ربما سأكون سعيدا بـ 200 كلمة في اليوم. إذا وصلت إلى 400، فسيبدو ذلك يوما رائعا. أنا بطيء. أنا مجتهد. أنا دقيق، أبحث عن إيقاعات عميقة، أبحث دائما عما تحت السطر، أبحث عن إحساس بالحتمية في الكتابة، وأعتقد أن الكتاب الحقيقي يشبه المعادلة التي يجب إثبات صحة السطر الأخير فيها من خلال كل ما سبقه، ولذا، بينما كنت أكتب، كنت أفكر: «هذا، بسبب هذا، وهذا بسبب هذا». وبالتالي فإن الحقيقة هي الضوء المرشد عبر الكتاب الذي لم أستطع الحيد عنه، أو أي شيء لا يبدو صادقا للقصة، وهو ما يعني الذهاب إلى بعض الأماكن المظلمة جدا بالطبع.

الرواية الأكثر جدارة بجائزة البوكر لعام 2023

ربما لعبت المصادفة دورا في ترجيح كفة رواية بول لينش على بقية الروايات المتنافسة ضمن القائمة القصيرة. ففي عشية الإعلان عن توزيع الجوائز في دبلن، هاجم رجل مجهول المارة بسكين. وأصيب خمسة أشخاص، من بينهم امرأة وثلاثة أطفال. وتم اعتقال المهاجم، لكن لم يتم الكشف عن اسمه. وبعد ساعات قليلة، بدأت الاضطرابات في المدينة، وخرج الناس إلى الشوارع وهم يرددون شعارات ضد المهاجرين، ووقعت اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة. من الصعب تحديد مدى تأثير التظاهرات العفوية في دبلن على قرار لجنة التحكيم، على الرغم من أنه لا يمكن تجاهل الصدى المذهل لما تناوله لينش في «أغنية النبي». بطبيعة الحال، ليست هذه الحالة فحسب، ولكن واقع اليوم بشكل عام: الصراعات العسكرية، والشعبية المتزايدة للأفكار القومية، فضلا عن صعود الأنظمة الشمولية، التي تخدم كإطار لديستوبيا بول لينش. وهو نفسه يعترف بأن الأحداث المأساوية في السنوات الأخيرة، التي غيرت أوضاع العالم، أثرت في فكرة الرواية.

كان المنافس الرئيسي لبول لينش على جائزة البوكر لهذا العام، هو الكاتب الأيرلندي المعروف بول موراي وروايته الأخيرة «لدغة النحلة». وهي قصة ملحمية تمتد إلى ما يقرب من 650 صفحة. تبدو الأمور في الرواية مروعة للغاية بالنسبة لعائلة سيئة الحظ من بلدة أيرلندية صغيرة، والعلاقة الصعبة بين الآباء والأطفال، والنضال من أجل أن تكون شخصا جيدا عندما ينهار العالم.

عائلة بارنز في ورطة. وكالة بيع السيارات التي كان يعمل فيها رب الأسرة ديكي على وشك الانهيار، في أعقاب الركود والعديد من القرارات التجارية المشكوك فيها بشكل متزايد. يعتزل ديكي، ويقضي أيامه في الغابة، حيث يبني مخبأ مقاوما لنهاية العالم مع عامل ماهر. تبيع زوجته إيميلدا مجوهراتها على موقع» إيباي» بينما تبدو ابنتهما المراهقة كاسي، التي كانت في السابق الأولى على صفها، مصممة على الإفراط في الشرب خلال امتحاناتها النهائية. ابنهما بي جي يضع اللمسات الأخيرة لخطة الهروب من المنزل. أين حصل الخطأ؟ قصة عن تقلبات القدر، عن الحوادث (مثل نحلة تطير تحت طرحة العروس، أو الحفر على الطريق) التي تقلب الحياة رأسا على عقب، وتغير مسارها بشكل جذري. كل شخصية من شخصيات الرواية يسرد القصة من وجهة نظرها. يسمح التركيز على الأجيال المتعددة لموراي في تصوير الهوة الآخذة في الاتساع بين تجارب الآباء والأبناء، وما يتعلق بحياتهم الفردية، وكذلك أيرلندا التي عرفوها – وأيرلندا التي ظنوا أنهم يعرفونها. «لدغة النحلة» هي الرواية الأكثر إثارة للإعجاب بين روايات القائمة القصيرة للجائزة وتستحق الاهتمام في كثير من النواحي.

***

د. جودت هوشيار

 

قصيدة افتراق للأديب الشاعر حمودي عبد محسن تمثل قطعة أدبية تحمل في طياتها عمقًا شعريًا مدهشًا. تستكشف هذه القصيدة مشاعر قوية تتعلق بانفصال الحبيبين، حيث يصعب على القلب تحمل تلك الفجوة بين السماء والأرض. يبدع الشاعر في استخدام الصور الشعرية المتنوعة لنقل هذا الانفصال والتناقض العميق بين مفاهيم متناقضة مثل النور والظلام، والسلام والحروب، والحياة والموت. في هذا المقال، سنقوم بتحليل نقدي لبعض العناصر المميزة في هذه القصيدة، لفهم عمق معانيها وتأثيرها الشعري. في هذه القصيدة، نجد صورًا شعرية تعبيرية وقوية ترسم لنا مشهد انفصال الحبيبين بأسلوب مذهل. الصورة الأولى تصف انقسام الشاعر وحبيبته بشكل ملموس، حيث يصعد الشاعر نحو السماء على أجنحة عنقاء، بينما تنزل حبيبته إلى الأرض في ليلة ظلماء بمساعدة أجنحة شيطان. هذا التناقض يعكس حالة الأمل والتفاؤل التي يعيشها الشاعر مقابل تدهور وانكسار حبيبته. الصورة الثانية تجلب لنا منظرًا مائيًا مدهشًا، حيث تصف المياه وهي تُغسل العناصر المختلفة مثل الحجر والصخور والعشب الذابل وأوراق الخريف. هذا المشهد يعبر عن عملية التجديد والتطهير التي يمكن أن تحدث في الحياة والعلاقات. الصورة الثالثة تصف حبيبة الشاعر وكيف تبقى متصلة بالطبيعة والجمال من حولها. ترتسم صورة رومانسية لها وهي تنظر إلى الأعلى وتستمتع بضوء القمر، مما يعكس تفاؤلها ورغبتها في البحث عن الجمال في العالم. أما الصورة الأخيرة، فتكشف عن نهاية نهائية للعلاقة حيث يتجه الشاعر نحو السماء وحبيبته تنحدر إلى العالم السفلي، وهي تُشبه الآلهة عشتار في ليلة ظلماء، وهو رمز للمصير المأساوي الذي تلازم هذا الانفصال. تلك الصور تلقي الضوء على تفاصيل عميقة في نفوس الحبيبين وتجعل القصيدة أعمق وأقوى في تأثيرها. الشاعر يتقن استخدام التناوب بين العناصر المتناقضة في هذه القصيدة ببراعة. يبدأ النص بالتناوب بين النور والظلام، حيث يصعد الشاعر نحو السماء ويتحدث عن النور الذي "يضيء العالم"، مما يمثل الأمل والسعادة. بينما تهبط حبيبته إلى الأرض في "ليلة ظلماء"، مما يرمز إلى تدهور وانقسام العلاقة. يتناول الشاعر أيضًا التناوب بين السلام والحروب، حيث يصف السماء بأنها مليئة بالسلام والمحبة والعناق، بينما يشير إلى تحول حبيبته إلى الحروب والكره والنفاق. هذا التباين يظهر كيف يمكن للحب أن يتحول إلى صراع وتوتر. أما التناوب بين الحياة والموت، فهو واضح في النص حيث يصف الشاعر النور السماوي والأمل كرمز للحياة والتجدد، بينما يشير إلى الظلام والموت والهياكل العظمية كرمز للنهاية والفناء.

الشاعر يجمع بين العناصر المتناقضة في القصيدة، مما يخلق تشابكًا معقدًا للأفكار. يركز بشكل رئيسي على الانفصال بين الحبيبين دون أن يفترقا بالقلب، وهذا يُظهر تعقيد العلاقات الإنسانية والمشاعر المتضاربة التي يمكن أن تحدث فيها. يُظهر الشاعر في البداية انفصال الحبيبين، حيث يصعد الشاعر إلى السماء بينما تهبط حبيبته إلى الأرض، مما يشير إلى الانفصال الجغرافي والعاطفي بينهما. وعلى الرغم من هذا الانفصال، يظل الشاعر وحيدًا في رحلته نحو السماء، مما يعكس الوحدة الشخصية والروحية التي يجريها. يُظهر الشاعر تأثره العميق بالفراق والتباعد عن حبيبته، مشيرًا إلى الحب القوي الذي كان بينهما في السابق. وعلى الرغم من الانفصال الظاهر، يُظهر التشابك بين قلبيهما حيث يقول إن "لا شيء يقيدنا لبعض". هذا يشير إلى أن الحب لا يزال حاضرًا في قلب الشاعر رغم الانفصال المادي. أما فيما يتعلق بالزمن، يشير الشاعر إلى مرور "ألف عام" بعد الانفصال، ولكن يُظهر أيضًا التشابك بين الحب والثبات، حيث يشير إلى أنهما لم يفترقا بالقلب. يبقى الحب حاضرًا وثابتًا على الرغم من مرور الزمن الطويل. لغة القصيدة غنية ومعقدة، حيث يتقن الشاعر استخدام الكلمات والعبارات لنقل مشاعره وأفكاره بشكل قوي. يُظهر الشاعر مهارة في استخدام المجاز والرموز لزيادة عمق النص. يتناوب الشاعر بين الصور الجميلة والمظلمة لتمثيل التناقض في مشاعره وتجاربه. القصيدة تشتمل على صور غنية بالمعاني، مثل "السماء" و"الأرض"، والتي تمثل الفرق بين الحبيبين. يُستخدم "النور" و"الظلام" لتمييز بين الحالات المختلفة التي يمرون بها. يشير استخدام "العشب الذابل" و"أوراق الخريف الصفراء الحمراء" إلى التغيير والزمن الذي يمر بهما. الأسلوب في القصيدة معقد ومنظوم، حيث يتناوب الشاعر بين الصور والأفكار بشكل معقد لنقل التناقض والتعارض الذي يمر به. يمتزج بين الأمل والفراق، وبين الحب والموت، مما يخلق تشابكًا في الأفكار والمشاعر. الشاعر يستخدم المجازات والرموز بشكل مكثف، مثل "أجنحة العنقاء" و"أجنحة الشيطان"، لتمثيل التناقض بين الحب والفراق. كما يستخدم مصطلحات مثل الوحش الدماء" و"الهياكل العظمية" كرموز للموت والظلام. تلاحظ في القصيدة استخدامًا ممتعًا للتناوب بين الأصوات والأنماط الصوتية، مما يجعلها قابلة للسماع بشكل مؤثر. يستخدم الشاعر الصوت والإيقاع ببراعة لنقل العواطف وتعزيز تأثير القصيدة الشعري.

قصيدة "افتراق" تجربة شعرية مؤثرة تأخذ القارئ في رحلة من التفكير حول الحب والفراق، وكيف يمكن للأدب أن يلمس أوجاع القلب وينقلها بشكل رائع وفني.

***

زكية خيرهم

فيما يلي رؤيا مقارنة بين ملحمة جلجامش ومسرحية الكراسي للكاتب الطليعي يوجين أونيسكو. لعل ذلك يثير التساؤل، إندهاشاً أو إستنكاراً، كيف يمكن أن تنشأ رؤيا مشتركة لعملين من " صنفين أدبيين مختلفين" وفي زمنين متباعدين، بمسافة تقارب " خمسة آلاف عام من الزمان "، أي بين نقطة أساسية في بدء تاريخ الحضارة الإنسانية، وبين فاصل يرسم زمن إنحطاط هذه الحضارة. بل والتساؤل الأهم، هو لماذا هذه الرؤيا المشتركة؟ وفي قناعتي هناك عدة إجابات، منها البسيطة، ومنها الأكثر تعقيداً، لكني سأستل من هذه الإجابات، جواباً متشعبآً واحداً فقط: إن هذه الرؤيا المشتركة تتفحص الشريط الفكري والإنساني بين هذين الزمنيين، كما تتفحص القوة والبطش مقابل الخنوع والذل، تتفحص الأمل وعلاقة الصداقة المخلصة مقابل اللا أمل وخواء العلاقات الاجتماعية والإنسانية، تتفحص الوجود والبحث عن المعنى الكامن فيه، مقابل الضياع والتيه المقنّع بأوهام إجتماعية، تتفحص حقيقة الموت والذعر الذي ينتج الطموح الي الخلود، مقابل إستبدال البحث عن المعنى سواء في الحياة أو في الموت، والإصرار على الإنجاز المضلل. وأخيراً لأن الفكر الإنساني بجبروته وعظمته في الملحمة، ينتقل الى فكر سائل يُفضي الى جميع القنوات، فكر رخو للتعادل وللتعامل مع الحياة العصرية.

ملحمة جلجامش إستحدثت سلالة من التساؤلات الوجودية، ومن التعمق في مفاهيم الموت والخلود كما في اللا معنى والعبث عند البحث عن جدوى الحياة، هذه السلالة مشحونة بجماليات مربكة، ومحفزة على التردد، إنما هي تنخر في عمق الوجدان الإنساني. إنها إعلان عن خيبة عميقة تمتد العمر كله، وفشل للتصالح مع الحياة كتوجه وكمعنى، وإنكار لحالة الضياع والتيه الحقيقي المنغمس به كحياة.

تروي ملحمة جلجامش قصة الملك العظيم جلجامش الذي يشرع في البحث عن الخلود بعد وفاة صديقه الأقرب والأخلص "إنكيدو". طوال سرديات الملحمة، يصارع جلجامش مع موته، أي مع حتمية الموت. يبحث عن إجابات لأسئلته حول المعنى والغرض من الحياة، وبشكل موسع البحث عن معنى الوجود. تستكشف ملحمة جلجامش موضوعات مختلفة، بما في ذلك الطبيعة الإنسانية، والرغبة في الخلود، وحتمية الموت، والبحث عن المعنى والجوهر للحياة، وأهمية الصداقة الحقيقية. كما يقدم نظرة ثاقبة لمعتقدات وقيم وثقافة بلاد ما بين النهرين القديمة. أي الثقافة السائدة في العالم آنذاك. وعلى نحو مماثل، تدور سرديات مسرحية "الكراسي التي كتبها يوجين يونسكو، حول زوجين مسنين يدعوان مجموعة من النخب ومن الضيوف إلى منزلهما للاستماع إلى رسالة كتبها الزوج ومن المفترض أن تنقذ البشرية، وتجلب معنى لحياتهم الخالية. ولكن مع تقدم أحداث المسرحية، يصبح من الواضح أن الرسالة لا معنى لها، وتقرأ من قبل رجل أخرس بحيث لا تعكس أي معنى ولا تترك أي أثر، على الإطلاق، ولكنها تترك الشخصيات تتصارع مع عبثية وجودها.

كتبت ملحمة جلجامش على ألواح طينية بالخط المسماري واكتشفت في أنقاض مدن بلاد ما بين النهرين القديمة (أي العراق حاليا). وهي تسبق أعمالًا أدبية مشهورة أخرى، مثل ملاحم هوميروس، بعدة قرون. أثرت ملحمة جلجامش على الأعمال الفكرية والأدبية والأساطير اللاحقة، بما في ذلك قصة نوح والطوفان في الكتاب المقدس.

كان جلجامش خامس ملوك أوروك، ويُعتقد أنه حكم حوالي عام 2700 قبل الميلاد. وبحسب سرديات الملحمة، كان جلجامش ملكًا قويًا ومتغطرسًا يضطهد شعبه. انزعجت الآلهة من سلوكه، فخلقت إنكيدو، وهو رجل متوحش ويعيش في البراري، ليتحدى جلجامش ثم يصادقه. عندما تم إحضار إنكيدو إلى أوروك، تقاتل هو وجلجامش في البداية، ولكن سرعان ما أصبحا صديقين مقربين، فشرع الاثنان معًا في مغامرات مختلفة، بما في ذلك هزيمة هومبابا المتوحش، حارس غابة الأرز، ومصارعة وهزيمة الثور السماوي الذي أرسلته الإلهة عشتار. بعد وفاة إنكيدو، أصبح جلجامش مهووسًا بالخوف من فنائه. عازمًا على العثور على الحياة الأبدية، لذلك فقد شرع في رحلة للقاء أوتنابيشتيم، وهو الإنسان الوحيد الذي وصل إلى الخلود. فقد نجا أوتنابيشتيم من الطوفان العظيم، ومنحته الآلهة الحياة الأبدية. واجه جلجامش في رحلته العديد من التجارب وتعلم دروسًا مهمة عن الحياة والموت، وحالة الوجود الإنساني. فقد واجه العديد من المخلوقات الأسطورية، وعَبَر الجبال الغادرة، ونجا من مواجهات مع رجال أشداء، كما إنتصر على وحوش الغابة.

ا

ثم وصل جلجامش أخيرًا إلى أوتنابيشتيم، وعلم منه بأن الخلود لا يمكن تحقيقه. فقد أخبره أوتنابيشتيم بقصة الطوفان العظيم وأوضح له أن الآلهة منحته الحياة الأبدية كمكافأة له على النجاة من الكارثة. كما أوضح له أيضًا بأن الخلود لم يكن مخصصًا للبشر كما هو حال جلجامش. عاد جلجامش بعد ذلك إلى أوروك بخيبة أمل كبيرة، ولكن بحكمة أكبر. وعلى طول طريق العودة، أدرك أهمية أن يترك إرثاً دائماً من خلال أعماله وإنجازاته. لذلك فقد عقد العزم على بناء أسوار عظيمة حول مدينته أوروك لحمايتها، وليؤسس لسمعة له قادرة على تجاوز الزمن، أي أن تدوم من بعده. وهي صورة أخرى من صور الخلود المنشود. يقول جلجامش: "سأقيم اسمي حيث تُكتب أسماء المشاهير، وحيث لا يُكتب اسم أي إنسان، سأقيم نصبًا تذكاريًا للآلهة".

أما في مسرحية الكراسي فنلاحظ تزاحم شديد جراء تساقط مفاهيم البحث في جدوى معنى الحياة، كما تتساقط من خلال المنجز الفردي، الوهمي، الذي يؤمّن ديمومة للفرد في ذاكرة المجتمع، أي أن يكتب في صفحة، هامشية ما، من تاريخ البشرية، ضمن جهود السعي الى الخلود. هذا التساقط يغزو كل جوانب المسرح بمظلات من اللا جدوى والعبث، ثم يسير بسكة دائرية مغلقة من لغة تعادي اللغة المنطقية، وبسخرية شديدة الحزن، ممزوجة بهزال حاد وكوميديا غير مترابطة، لتجلس على كراسي المسرح الفارغة وتملأ الفضاء ضجيجا، وتوسلا واحتجاجاً واستسلامآً.

مسرحية الكراسي ليوجين أونيسكو كُتبت عام 1952. وهي تصور زوجين مسنين، يعيشان في عالم فارغ، وموحش وبلا معنى. تدور أحداث المسرحية في غرفة فارغة وواسعة، ثم تُملأ بالكراسي الفارغة، كتعبير رمزي على فراغ حياة الشخصيات. تُوصف سردية المسرحية محاولة الزوجين فهم وجودهما، المفرّغ من الجوهر، عبر ترتيب لقاء وهمي مع ضيوف وهميين. يجلسون على كراسي فارغة تملأ المكان تماماً، ويتخيلون أن ضيوفهم، غير المرئيين، حاضرون ويشغلون جميع الكراسي. ثم يبدأوا بالحديث والتفاعل مع هؤلاء الضيوف، غير المرئيين، مما يخلق عندهم وهمًا مؤقتاً بلحياة، وذلك بإعطائها المعنى المفقود. ومع ذلك، يتم تدمير هذا الوهم بسرعة عندما يبدأ الضيوف الوهميون في الجدال المتناقض وغير المسموع. وحين يصل الخطيب المفوّه، فعلياً، والذي أُُستأجر ليقرأ رسالة الرجل العجوز التي يمكن أن تنقذهما وتنقذ الإنسانية جمعاء، ولكن هنا يتضح بأن الخطيب أخرس. هذا الحدث يجعل الزوجان مدركان تماما بأن محاولتهما لإعطاء معنى لحياتهما هي محاولة عقيمة وعبثية، حيث إن الحياة فارغة من كل جوهر، ولا معنى لها، وأن أفعالهم لا أهمية لها.

"الكراسي" مسرحية تتحدى المعاني التقليدية للغة المألوفة والواقع، مسرحية مستفزة، وعميقة تستكشف موضوعات فردية، واجتماعية، وإنسانية كالوحدة، والشيخوخة، والموت، والروتين اليومي والاجتماعي، والمعنى المفقود للحياة. يستخدم أونيسكو أسلوب لغوي يُمزّق ما هو منطقي في اللغة، لذلك فإن الحوار غير المترابط، وغير المنطقي، والمتكرر يعكس انهيار التواصل وعدم قدرة اللغة على نقل المعنى الحقيقي. ثم يضيف مواقف ساخرة، وحزينة وكوميدية لكشف المستور عن عبثية الحياة البشرية، وعن عقم البحث عن معنى لحياة بلا جوهر. المسرحية أيضًا تقدم نقداً للمجتمع الحديث وللحالة الإنسانية الراهنة، فالناس تعيش حياة مدجنة بالروتين وبالرتابة التي تفرزها ضرورات الحياة اليومية، مما يجعل رغبتهم أكثر إلحاحاً في البحث عن معنى لوجودهم.

لنرى إذن ماهي الروابط الفكرية والفلسفية بين الملحمة والمسرحية؟ في جلجامش نجد ينابيع التفكير الفلسفي، التي أخصبت معظم التيارات الفلسفية، فيما أعقبها وعلى مدى التاريخ. فمحاولات جلجامش الإنغماس بالملذات الشخصية وخاصة التعامل مع رعيته بتعسف شديد، وبإستكبار، وبإستبداد، ولكنه كان أيضاً يقف بتحدي بطولي لقوى ذلك الزمان، وكان يأمل، عبر محاولاته الى فهم روابط الصداقة (مع أنكيدو) الإنسانية، ومحاولة إيجاد فهم معمق للحياة، وكذلك معنى لتفسير ظاهرة الموت، والتوق للانتصار عليه بالتمسك بالحياة أي بالخلود. كل هذه العناصر الفكرية صبت في الكراسي، بعد أن ترشحت، على مدى القرون، عبر تيارات فكرية وفلسفية، لتصوغ " الكراسي" أفكارها وفلسفتها مبنية على الإرث السابق، وعلى طبيعة الحياة البشرية المعاصرة، أي الممارسة الفعلية لفلسفة اللاجدوى في البحث عن " معنى " للحياة، وعن العبث في الاستمرار بحياة ليس لها من " جوهر "، ومعنى، ومن وجود دائم التشكك بكنهه، باحثا عن " ماهيته ".

دور الزمن في الملحمة والمسرحية

إن حركة مسار "الزمن" كمفهوم في ملحمة جلجامش وفي مسرحية "الكراسي" يأخذ مسارات متعددة ومختلفة. فكلاهما يستكشف مفهوم الزمن، بشكل عام، ولكنهما يسلكان طرق مختلفة لتلمس معاني الزمن. تؤكد الملحمة على حتمية انقضاء الزمن وفناء البشر، بينما تطرح المسرحية الزمن بإعتباره مفهوم دوري، وروتيني، لا معنى له في الوجود الإنساني، بل يُضيف تأكيداً على اللا جدوى التي تحكم الحياة والوجود بصورة عامة.

أولاً. لا شك أن الزمن كان عنصرًا دائماً وحاسمًا في كلا النصيين، مما يؤكد على الطبيعة الانتقالية والمؤقتة للوجود الإنساني. ففي "جلجامش"، تمتد رحلة البطل لفترة طويلة من الزمن وهو يسعى إلى الخلود، لكنه يدرك في الأخير أنه مهما استطالت الحياة فهي بالنهاية حياة محدودة، فالزمن هو تذكير دائم بالفناء وبحتمية الموت.

ثانياً. أما في "الكراسي"، فيكون للزمن دورًا مختلفًا، حيث تنتظر الشخصيات بفارغ الصبر وصول ضيوفهم غير المرئيين. ومع مرور الوقت، يزداد ترقبهم ويأسهم، مما يسلط الضوء على عبثية انتظار رسالة، يُفترض بأنها ذات معنى، ولكنها لا تأتي أبدًا. إن المسرحية كما الملحمة، تبرز الزمن كتأكيد على الطبيعة العابرة والمؤقتة للوجود الإنساني، وعبثية إضاعة الزمن في مساعي لا جدوى منها، بل هي مشروع لفقد الأمل.

ثالثاً.  يتسرب الزمن في ملحمة جلجامش كقوة جبارة لا يمكن السيطرة عليها أو الهروب منها. فبعد الرحلة الشاقة والطويلة، يعود جلجامش خائباً، حيث إن "الخلود" المنشود لا يمكن تحقيقه للبشر، وأن الموت أمر حتمي لا مفر منه. تطرح الملحمة حقيقة أن الزمن هو جانب ثابت، وغير قابل للتغيير، من الوجود الإنساني. لأنه بغض النظر عن مدى سلطة وقوة الشخص أو تصميمه، فإنه لا يمكنه الإفلات من تسرب الزمن ولا من الخاتمة النهائية لحياته.

رابعاً. في مسرحية "الكراسي"، يُطرح الزمن كمفهوم دوري مغلق، وروتيني ولا معنى له. فانتظار الزوجين لضيوف وهميين والتحدث اليهم بانتظار الخطيب الذي سيتلو رسالتهم التي ستنقذهم كما تنقذ البشرية، هو الشكل المثالي لعالم من الوهم. مما يرمز إلى عدم جدوى وجودهما. إن تكرار نفس الأحداث وعدم وجود أي نتيجة ذات معنى يوحي بأن الزمن عبارة عن دورة لا تنتهي ولا هدف لها ولا أهمية. إضافة الى إن تصرفات وهزالة الشخصيات، والسردية الدرامية والكوميدية الساخرة التي تتبناها المسرحية تؤكد على حقيقة أن الزمن لا معنى له في النهاية، وأن الحياة عبارة عن سلسلة من التجارب الزمنية الروتينية، والمتكررة والعقيمة.

التشابه بين جلجامش والكراسي

أولاً. على الرغم من الاختلافات في الشكل والأسلوب والسياق الثقافي، فإن "جلجامش" و"الكراسي" يتشاركان في أوجه تشابه موضوعية عميقة في استكشافهما للحالة الوجودية الإنسانية. يتعمق كلا العملين في البحث عن المعنى، وعزلة الوجود، ومسيرة الزمن التي لا هوادة فيها، والطبيعة العابرة والمؤقتة للوجود الإنساني. يقدم "جلجامش" انعكاسًا خالدًا لهذه المواضيع من خلال منظور إستثنائي يبرز في طيات هذه الملحمة القديمة.  بينما تقدم مسرحية "الكراسي" منظورًا أكثر حداثة، وعبثية حول نفس الاهتمامات التي تشغل الوجود الإنساني، وترصد الأسئلة الكبرى، ولكنها تهمل الأجوبة. إنهما معًا بمثابة شهادة على الطبيعة الدائمة للأسئلة الإنسانية الدائمة حول الحياة والموت، والبحث عن المعنى في عالم غير مؤكد. أسئلة ظلت تبحث عن أجوبة في الفلسفة وفي ثنايا التاريخ على مدى الزمان وبلا نتائج.

ثانياً. أحد أوجه التشابه الرئيسية بين جلجامش والكراسي هو استكشافهما لنوازع، أو لرغبة الإنسان في الخلود أو الانتصار على الموت. في ملحمة جلجامش، يسعى الملك جلجامش إلى الخلود كوسيلة للهروب من حتمية الموت. وهو يعتقد أنه من خلال تحقيق الخلود، يمكنه إيجاد المعنى، بل التمكن من جوهر الحياة. وبالمقابل، نجد في مسرحية الكراسي، بأن الزوجين المسنيّن يأملان بأن تجلب لهما الرسالة التي أعدّاها شيئاً من البقاء الدائم والشعور بالإنجاز. لا شك بأن كلا النصين يسلط الضوء على توق الإنسان إلى ما يتجاوز الطبيعة الدنيوية والعابرة للوجود الأرضي والإنساني.

ثالثاً. تشابه آخر بين العملين هو تعمقهما بفقدان "المعنى" والتوافق مع عبث المساعي البشرية. ففي الملحمة، يفشل سعي جلجامش إلى الخلود في نهاية الأمر، ويُجبر على مواجهة حقيقة موته. فمن الأفكار الفلسفية التي تثيرها الملحمة هو ما ذهبت اليه، إلى أنه بغض النظر عن مدى قوة الشخص أو إنجازه، فإن الموت جزء لا مفر منه من التجربة الإنسانية. وكذا الحال، في مسرحية الكراسي، فإن محاولات الزوج والزوجة المسنين، للعثور على المعنى والجوهر في الحياة من خلال الرسالة التي أعدوها، هي محاولات بلا جدوى، وعبثية، وعقيمة في نهاية الأمر.

رابعاً. تُسلط كلّ من "الكراسي" وملحمة جلجامش الضوء على العبث المتأصل في الوجود الإنساني. ففي مسرحية أونيسكو، يقضي الزوجان المسنان، (المعروفان باسم الرجل العجوز وزوجته سمير أميس)، حياتهما في عزلة، محاطين بكراسي فارغة ترمز إلى غياب التواصل الاجتماعي، وفقدان المعنى والجوهر. وبالمثل، يشرع جلجامش، بطل الملحمة، في رحلة بحث مجهولة، وغامضة، وغير مجدية عن الخلود بعد أن شهد وفاة صديقه الأقرب إنكيدو. يؤكد كلا النصين على الطبيعة العابرة، والمؤقتة، وخواء الحياة البشرية إنعكاساً لحتمية الموت.

خامساً. البحث عن الخلود، في سرديات الملحمة، كما في المسرحية، نجد الأبطال مدفوعين بالرغبة العارمة في نيل البقاء المؤكد والدائم أي الخلود. في "الكراسي"، يدعو الرجل العجوز وزوجته، جمهورًا وهميًا كبيرا، من نخبة المجتمع، ليشهدوا لحظاتهم الأخيرة، على أمل ترك إرث أبدي. وبالمثل، يسعى جلجامش إلى الخلود بعد تجربة فقدان صديقه، على أمل الهروب من حتمية الموت. ومع ذلك، فإن كلا العملين ينقلان في النهاية استحالة تحقيق الخلود، ويسلطان الضوء على عجز وحدود الوجود البشري.

سادساً. يكشف كلا النصين عن الموضوعات التي يمكن وصفها بالوجودية، وفق النظريات الفلسفية في القرن العشرين، بشكل واضح، من خلال عناصر مثل العبثية، واللاجدوى، والعدمية، وجوهر الوجود التي تسود أجواء الملحمة كما تسود المسرحية. تستخدم مسرحية أونيسكو الفكاهة، والسخرية، والهزال، والحوار غير المترابط، وغير المنطقي لنقل عبثية الوجود الإنساني. فالمحاولات الفاشلة التي تقوم بها الشخصيات للتواصل وإيجاد المعنى في عالم فوضوي تعكس عبثية الحياة نفسها. وبالمثل، تعكس ملحمة جلجامش عالمًا خاليًا من المعنى، حيث لا تستطيع حتى الآلهة تعطيل الموت ومنح الخلود. يسلط، هذا المنظور العدمي، الضوء على الأزمة الوجودية التي يواجها أبطال الملحمة والمسرحية على السواء.

سابعاً. في الوقت الذي كانت فيه "الكراسي" نتاج المسرح الطليعي والفلسفة العبثية في القرن العشرين، وعلى الرغم من الاختلافات الثقافية، والفكرية، والزمنية بين المسرحية والملحمة، نجد بأن كلا العملين يستخدم، في سياقاتهما وسرديتاهما، الوسائل الرمزية لنقل موضوعاتهما الوجودية. ففي "الكراسي"، ترمز الكراسي الفارغة إلى غياب المعنى والبحث العقيم عن الأهمية والجدوى، بالمقابل فإن البحث عن الخلود، في ملحمة جلجامش، يرمز إلى توق البشرية العميق إلى السمو والترفع عن الخوف من الفناء والموت.

ثامناً. ملامح الوجوه في ملحمة جلجامش تكاد لا تتغيّر فهي واضحة عند كل منعطف من الجبروت الى الحزن العميق ومنه الى التحدي والبحث عن الخلود، ثم ملامح الإقتناع والقبول بالأمر الواقع، والعودة الى مدينة أوروك. في حين يجد المرء كثير من الإرباك في قراءة ملامح الوجوه في شخصيتي الكراسي، فهي مزيج، يكاد لا يمكن فصله، من الطمأنينة والاستقرار الى التوتر والقلق، ومن البساطة والطيبة، ومن الغرور، ومن الغضب والخنوع ومن النرجسية والتفاخر الي التوسل. ولكن هذه الملامح بمجموعها سواء عند جلجامش أو عند شخصيات الكراسي تنتهي بملمح واحد صارخ في وضوحه، إنه الإستسلام التام.

تاسعاً. الاختيارات التي اتخذها الملك جلجامش، فيها من التشابه أكثر من التناقض، فمثلاً، عند دخوله فضاء الملحمة بالقوة والجبروت والطغيان والانفراد المطلق بالقرار الذي يخص رعيته المُهملة في أوروك يتشابه كثيراً مع بداية بناء هوية لشخصيتي الزوج والزوجة في مسرحية الكراسي حيث القلق، البادي على ملامح وتصرفات الزوج والمغلفة بلا مبالاة شفافة في حين إن هوية الزوجة كانت ترتسم بالطيبة، وبالإلحاح والثرثرة، ومحاولة طمأنة الزوج حيناً ومعاتبته في أحيان أخرى. هذه الخيارات، سواء في الملحمة أم في المسرحية، تدخل في دينامية من التحولات تعاكس غالباً ما ابتدأت منه، لكنها تنتهي بخيار واحد وهو قبول الموت.

عاشراً. التشابه في حالة العزلة الإنسانية، ففي الملحمة يعزل الملك جلجامش نفسه عن رعيته والآخرين عبر الغطرسة والانغماس في الذات، مما ينفر رعاياه ويخلق فجوة كبيرة في التواصل. لكنه يُدرك، بعد وفاة صديقه الأقرب أنكيدو، أهمية وقيمة التواصل الإنساني. إن موضوع الوحدة والعزلة الإنسانية، وكذلك قيمة، وفهم، وإدراك عمق الحاجة الى الصداقة والرفقة يشكل أحد أهم أعمدة السرد في الملحمة. أما في الكراسي فيتخذ موضوع الوحدة والعزلة ضخامة خاصة من خلال محاولات الشخصيات الفاشلة للتواصل مع ضيوفهم، الوهميين، وغير المرئيين. المسرحية تكشف بإن عزلة الشخصيات لم تكن جسدية ومادية فقط، بل كانت عزلة وجودية كذلك، حيث تتصارع الشخصيات مع عبثية الوجود المتمثل في عدم قدرتهم على إيصال رسالة تحمل معنى ينقذهم وينقذ العالم. تسلط المسرحية، عبر الكوميديا، والسخرية والهزال، الضوء على الانعزال البشري، وإنعدام المعنى المتأصل في الوجود الإنساني.

الاختلافات بين جلجامش والكراسي

أولا. على الرغم من أوجه التشابه المذكورة، هناك أيضًا اختلافات ملحوظة بين جلجامش والكراسي. أحد الاختلافات المهمة هي سياقاتهما الثقافية والتاريخية. فجلجامش نص ملحمي قديم من بلاد ما بين النهرين، يعود تاريخها الى الالفية الثالثة قبل الميلاد. في المقابل فأن الكراسي من الأدب المسرحي في القرن العشرين. تشكل السياقات الثقافية والتاريخية لهذين النصيّن جوهر ديمومتهما عبر الوسائل التي تستكشف بها الأسئلة المتعلقة بالوجود البشري. ففي حين تعكس ملحمة جلجامش وجهة النظر الفكرية السائدة في العالم آنذاك، ومعتقدات مجتمع بلاد ما بين النهرين القديم، نجد بأن مسرحية الكراسي، بمضامينها النهائية، تعكس معتقدات وسلوك المجتمع الحديث، وروح الفلسفة الوجودية السائدة في القرن العشرين.

ثانياً. البنية السردية في ملحمة جلجامش عبارة عن قصيدة شعرية سردية طويلة تتبع مغامرات البطل جلجامش، أما "الكراسي" فهي مسرحية حوارية من فصل واحد تركز على عبثية الوجود الإنساني كتبت بلغة معادية للغة اليومية أو اللغة المنطقية. يتسلسل منهج الملحمة على أساس بنية سردية أفقية ومترابطة، بينما تستخدم المسرحية نهجًا درامياً متجزئاً ومنفصلا، مراوغاً بين سرديات أفقية ودائرية مغلقة.

ثالثاً. المواضيع: يستكشف كلا العملين موضوعات ترتبط بشكل وثيق بالوجود البشري، ولكن بطرق مختلفة. تتعمق ملحمة جلجامش في العزلة الانسانية، وفي البحث عن الخلود وحتمية الموت ومعنى الحياة. إنما نجد بمقابل ذلك بأن "الكراسي" تبحث في الإحساس المرير بالاغتراب والوحدة، وبعبثية إنقطاع التواصل الإنساني، وفراغ الوجود البشري، وعبثية المساعي والاهداف الإنسانية.

رابعاً. الأسلوب والتقنيات، حيث تمت كتابة ملحمة جلجامش في أسلوب شعري، بإستخدام صورًا حية وعناصر أسطورية، وبمنطق تحكمه ضرورات الملحمة.  في المقابل، تتميز مسرحية "الكراسي"، باستخدام شخصيات شبه كاريكاتورية وبأسلوب السخرية والهزال واللغة غير المترابطة، وغير التقليدية متحديةً الأساليب المسرحية القائمة على مختلف أسس ومعايير الاستدلال. فالمنطق ينساب بشكل متعرج وغير مفهوم، وصادم أحياناً ولكنه يمتثل لضرورات العبث.

خامساً. الأهمية الفكرية والثقافية، حيث تعتبر ملحمة جلجامش واحدة من أقدم الأعمال الأدبية الباقية، وتوفر نظرة ثاقبة لثقافة ومعتقدات بلاد ما بين النهرين القديمة، أي نظرة لفكر وفلسفة ما كان عليه العالم القديم. وقد أثّرت هذه الملحمة على التقاليد الفكرية والأدبية اللاحقة، بل وأصبحت مرجعاً تاريخياً وفكرياً وأدبياً. بالمقابل يُعد مسرح أونيسكو الطليعي، بما في ذلك مسرحية "الكراسي"، جزءًا من الحركة المسرحية، أو الفنية والأدبية، الأوسع التي تحدّت المعايير المسرحية التقليدية الشائعة، ومهدت الطريق لأساليب تجريبية ومبتكرة للمسرح.

سادساً. في حين أن ملحمة جلجامش ومسرح أونيسكو الطليعي في "الكراسي" يستكشفان موضوعات وجودية، إلا أنهما يختلفان من حيث السياق التاريخي، والبنية السردية، والموضوعات، والأسلوب، والأهمية الثقافية. ومع ذلك، فإن كلاهما يساهم في النسيج الغني للتعبير الفني الإنساني ويقدم وجهات نظر فريدة حول الحالة الإنسانية.

مفهوم الموت

وهنا نحتاج الى وقفة قصيرة لاستكشاف مفهوم ومعنى "الموت" في الفلسفة عبر مراحل زمنية مختلفة منذ نشأة الفلسفات القديمة. فالموت ظاهرة كونية، أرضية، أثارت اهتمام الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ. لإن الموت يحفّز على طرح أسئلة عميقة حول طبيعة الوجود، ومعنى الحياة، والمصير النهائي للبشر. أستعرض هنا، ولكن بإختصار قاسي، بعض أهم هذه الرؤى بهدف التعمق، ولو قليلاً، في مفهوم ومعنى الموت في الفلسفة، وبعض النماذج من الأفكار والنظريات الفلسفية المختلفة التي طرحها المفكرون المؤثرون بين زمن ملحمة جلجامش وكتابة مسرحية الكراسي.

أولاً: الفلسفة الأبيقورية تعرّف الموت على أنه "انقطاعا تاماً عن الحياة"، أي أن الموت، وفق الفهم الشائع، هو توقف عناصر وحيوية وطاقة الحياة. فالموت مادياً يعني اللحظة التي تتوقف فيها، نهائياً، الوظائف الحيوية للفرد مثل التنفس ونشاط الدماغ. أي أن هذه الفلسفة (وفق أبيقور، في رسالة الى مينوسيوس) تعتبر أن الموت هو نهاية الوعي وانحلال الذات.

ثانياً: باعتبار الموت ليس شكلاً نهائياً للانقطاع التام عن الحياة، بل "كمرحلة انتقالية". لذا يرى بعض الفلاسفة أن الموت هو مجرد حالة انتقال مادي من وجود الى آخر. ويتجلّى ذلك بوضوح عند أفلاطون في حواره "فيدون" الذي يعكس نظريته في خلود النفس او الروح، فهو يرجح أن الموت هو حالة انفصال الروح عن الجسد. أي أن هذه النظرة لا ترى في الموت ذاته نهاية قطعية، بل بوابة نحو حياة أخرى في عالم آخر، أي ببساطة ان الموت هو انتقال الى شكل مختلف من الوجود.

ثالثاً: الموت بإعتباره "جوهر الحياة" وفق الفلسفة الوجودية، لا سيما عند الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (في الوجود والعدم)، والفيلسوف الألماني مارتن هايدجر (في الوجود والزمن). فإن "مفهوم الموت" عند هذين الفيلسوفين هو جانب أساسي من الوجود الإنساني، وهو الذي يشكّل الطريقة التي يعيش بها الأفراد حياتهم. أي أن الوعي الخالص بفنائنا يمنح الحياة معناها وتحدّياتها، لإنه سيضعنا في مواجهة قاسية أمام وجودنا، ويُلزمنا على اتخاذ خيارات تتناسق مع ذواتنا الحقيقية.

رابعاً: أما في فلسفة العبث فإن الفيلسوف الفرنسي البير كامو (في أسطورة سيزيف) يرى الموت على أنه لغزاً بعيد المنال عن الفهم البشري. حيث إن الموت حالة عبثية لا يستطيع البشر فهمها أو حتى تبريرها بشكل تام. والسبب الجوهري بالنسبة لكامو، هو أن الرغبة الإنسانية للبحث عن معنىً واضح وصريح للحياة تتعارض جوهرياً، بل وتتناقض مع اللا معنى أو غياب المعنى المتأصل في جوهر مفهوم الموت. وبسبب هذا التناقض بين طموح البشر لعقلنة الموت وبين الافتقاد الصريح للمعنى تنشأ حالة من التوتر الوجودي تُفضي الى الإحساس بالعبث.

خامساً: الموت ليس بإعتباره مفهوماً مقتصراً على البحث الفلسفي، بل بإعتباره يتقاطع مع اعتبارات أخرى وعلى رأسها الاعتبار الأخلاقي. فمثلاً يناقش فلاسفة عدّة، من بينهم الفيلسوف الأمريكي توماس ناجل، حالة ما إذا كان الموت، بذاته، سيئاً أم جيداً بطبيعته.  فالموت، بالنسبة لتوماس ناجل، هو الحرمان من الخيرات المحتملة التي تمنحها الحياة، مما يجعل الموت ضرراً جوهرياً وخطيراً بالنسبة للبشر.  وهذا المفهوم، برمته، يتناقض مع بعض الفلاسفة الأوائل، مثل أبيقور، حيث إنه يرى بانه لا ينبغي الخوف من الموت، لأنه حالة من غياب الألم والمعاناة، أي الاستكانة الأبدية.

مفهوم الخلود

مفهوم الخلود، سواء في الملحمة أم في المسرحية، منبثق عن رغبة بشرية، لا تقاوم، لاختطاف الحياة وتملّكها مدى الدهر. يثير مفهوم الخلود أسئلة عميقة حول طبيعة الوجود، ومعنى الحياة، وحدود الفهم البشري. إنه يتحدى تصورنا للزمان وللوقت باعتباره تقدمًا ميتافيزيقياً، ويدعونا إلى التفكير في إمكانية وجود واقع يتجاوز تجربتنا الزمنية. إنما يبقى مفهوم الخلود عصيّاً، ويصعب فهمه بشكل كامل حيث أنه لا يزال يأسر الخيال البشري. سواء من خلال المعتقدات الدينية، أو التأملات الفلسفية، أو الاستكشافات العلمية، فإن فكرة الخلود تدعونا إلى التأمل في أسرار الوجود ومكانتنا في النسيج الكوني الواسع.

أولاً. بعد عرض الموضوع المركزي الذي انشغلت به الملحمة والمسرحية على السواء وأعني بذلك "الموت"، تأتي موضوعة الخلود لتكمل الوجه الآخر من المشروع الفكري الإنساني. فالخلود هو المفهوم الذي سحر البشر عبر جميع القرون. إنه يشير إلى حالة من الوجود اللانهائي، بما يتجاوز موانع الزمان والمكان. حيث إن فكرة الخلود ظلّت في صلب مختلف الأفكار والتقاليد الدينية والفلسفية، باعتبار أن كلّ من هذه الأفكار قدّم تفسيره وفهمه الخاص لهذا المفهوم العميق والشائك.

ثانياً. إن مفهوم "الخلود" أُستبدل في السياقات الدينية بمفهوم " الأبدية ". والخلاف بين المفهومين يُشير الى وجود حياة أخرى ووجود إله واحد له سلطات القرار المطلقة، حيث إن الأبدية مشروطة عند الديانة المسيحية للمؤمنين في السماء، وكذا الحال فيما يخص الدين الإسلامي حيث الجنة، وهي الحياة الأبدية، تُخصص للمؤمنين الصالحين. فالأبدية هي حالة من انقطاع الزمان وتأرجح المكان الذي ينتج وجودا سعيدا في حضرة الخالق، الله. هذا الوجود يكون محررا تماما من اشتراطات ومعاناة الحياة الأرضية، أي من قيود الزمان والمكان.

ثالثاً. هناك أيضاً بعض وجهات النظر الفلسفية التي ترى أن الخلود أو "الأبدية" حقيقة سرمدية وثابتة. من بين هذه الفلسفات ما كان يؤمن به الفيلسوف أفلاطون بوجود أشكال أو أفكار خالدة وأبدية كاملة لا تتغير. وتذهب هذه الفلسفة الى ما هو أبعد من ذلك، فتصور عناصر حياة الخلود على أنها هي الواقع الحقيقي، في حين أن العالم المحسوس المادي والذي نعيشه وندركه هو في الواقع انعكاس مشوّه ومحرّف عن هذه المُثُل الخالدة والأبدية.

رابعاً. من الملاحظ أن للفيلسوف فريدريش نيتشه مفهوم مخالف لما سبق من تفاسير، حيث يقول بإن الخلود هو اختراع بشري، الهدف منه التخلص والهروب من حقائق الوجود القاسية.  لذلك اعتقد نيتشه إن مفهوم الخلود، أو الأبدية، أو الحياة الأخرى الأبدية، أو السعي نحو عالم فوقي متعالي، هي ليست أكثر من تبريرات بشرية للعثور على المعنى المفقود في الحياة، وبلورة هدف سام وجوهر لوجود بلا معني في عالم  فوضوي لا يخضع لمقاييس العقل.

خامساً. لا بد من الإشارة الى أن النظرية النسبية لألبرت أينشتاين أعطت مفهوما آخر للخلود ضمن سياقات الزمن. فالزمان بالنسبة لأينشتاين ليس كتلة أو كيان مطلق وثابت. بل هو في الفضاء الواسع عبارة عن بُعد ديناميكي قابل للتأثر بالحركة وبالجاذبية، ولهذا، ووفق هذه النظرية، يمكن تمديد الزمن كما يمكن تحريكه، أي أن للزمن خصائص مطاطة قابلة على الالتواء، والتدوير مما يمنح الزمن إمكانية التشكل بأوجه مختلفة في مناطق مختلفة من هذا الكون الواسع.

لا شك بأنه سيكون من الصعب، وبهذا الاختصار وهذه العجالة، تحديد أهم الفلسفات، والمدارس الفكرية، التي انبثقت عبر التاريخ منذ زمن جلجامش حتى الآن، إذ تعددت هذه الفلسفات والحركات الفكرية المؤثرة التي شكلت تأملات وتفكير الإنسان وأثرت في طبيعة وتفكير المجتمعات عبر التاريخ. ومع ذلك، سأذكر، بإيجاز شديد، أبرزها والذي كان له انعكاسات مهمة ومؤثرة في الفكر والوجود الإنساني في مختلف المجتمعات، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن هذه الأمثلة تقفز على التسلسل التاريخي للفكر الفلسفي، وهي مذكورة هنا كنماذج مختارة لعمق تأثيراتها الفكرية:

الفلسفة اليونانية القديمة، حيث كان لهذه الفلسفة، بما في ذلك أعمال سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، تأثير عميق على مجمل مدارس الفلسفة. وتبقى أفكار هذه الفلسفة حية فيما يختص بالأخلاق، والميتافيزيقا، ونظرية المعرفة، وهي مصدر ثري للدراسة والبحث والمناقشة حتى اليوم. ثم يعقب ذلك فلسفة التنوير التي أنتجت، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مفكرين مؤثرين مثل رينيه ديكارت، وجون لوك، وإيمانويل كانط. وقد أنشأت أفكارهم، حول ماهية العقل والدفاع عن الفردية المطلقة او ضمن المجتمع، والبحث الجاد عن المعرفة، الأسس الصلبة للفكر الفلسفي الحديث. ثم تأتي الفلسفة الماركسية لتحاجي ما سبق. هذه الفلسفة التي تطورت بأفكار كارل ماركس وفريدريك إنجلز في القرن التاسع عشر، لتنجز نظرية اجتماعية وسياسية تركز على الصراع الطبقي في المجتمعات، ونقد النظام الرأسمالي. ومن المعلوم أنه كان لهذه الفلسفة تأثير هام وكبير على الفكر السياسي والاقتصادي، وعلى تشكيل الحركات التحررية والثورية، وتشكيل الحكومات في بلدان متعددة، وكذلك على الحركات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم.

يلي ذلك الفلسفة الوجودية التي تطورت في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي تبحث وتستكشف طبيعة وجوهر الوجود الإنساني ومفاهيم الحرية ومعاني الفردية. وبذلك فقد تحدّى فلاسفة مثل سورين كيركجارد، وفريدريك نيتشه، وجان بول سارتر المعتقدات التقليدية السائدة، وشددوا على الأصالة في البحث والفكر، وعلى المسؤولية الشخصية في الاختيار وسلوك دروب الحياة. عقب ذلك ظهور فلسفة ما بعد الحداثة في منتصف القرن العشرين، وهي فلسفة وفكر اجتماعي يتحدى المفاهيم التقليدية للحقيقة المجردة، والسرديات الكبرى، ومفهوم الموضوعية بشكلها النسبي. وكان من أعمدة هذه الفلسفة مفكرين مثل ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجان فرانسوا ليوتار، حيث كان تأثيرهم بارز جدا في مجالات مختلفة، بما في ذلك الأدب، والفن والدراسات المجتمعية والثقافية.

هذه مجرد أمثلة قليلة وموجزة جداً، وهناك، بطبيعة الحال، العديد من الفلسفات والمدارس الفكرية المهمة الأخرى، التي شكلت التفكير البشري عبر التاريخ. قد تختلف أهمية كل فلسفة حسب وجهة نظر الفرد والسياق الذي يتم النظر فيه. ولكن هناك ايضاً أفكار وفلسفات ضاعت بين تلافيف التاريخ لأسباب عديدة ومختلفة وغالباً مجهولة. وهنا يجب التذكير بأن التاريخ البشري هو من إبتكر حالة فقدان الذاكرة (Amnesia) بين الحقب المختلفة. فالفجوات الضائعة في تسلسل تاريخ الفكر البشري كانت، دائماً، المُحفز على البحث عن تلك الحلقات المفقودة. لأن التاريخ كان دائماً تحت رحمة المتسلطين من الطغاة والجبابرة المتعسفين، ومن سطوة رجال الدين بكل ألوانهم، ومن سلطات المال، في خلق ظلال تخبئ الحقائق والوقائع، وتستولد أخرى على مقاس مصالحها.

وختاماً، لا شك أن ملحمة جلجامش بقيت علامة مفصلية في تاريخ البشرية. فقد كانت نبعاً ومصدراً لما تلاها من أفكار وفلسفات أثرت في تيارات ومدارس الفكر، كما في الشعر وفي الأدب والفن. فقد إستلهم جلجامش الحكمة الكبرى من رحلته الشاقة الطويلة، التي لم تتمخض سوى بخيبته في الحصول على الخلود، لذلك فقد حولّت الحكمة آماله من البحث عن الحياة الأبدية والخلود الى السعي نحو انجازات إنسانية عظيمة وملموسة، إنجازات قادرة أن تبقى في ذاكرة الناس فهي الطريق الى تخليده. حيث إن حكمة جلجامش الأساسية هي في إدراكه بأن ذاكرة الناس هي قلم التاريخ الراسخ الذي يكتب به صفحات البقاء. ولهذا فإن الملحمة، بلا شك، كانت مصدر الهام، وهي اليوم مرجع أساسي لفهم التاريخ، ولفهم المجتمعات والثقافات القديمة. واهم من ذلك كانت الملحمة، ربما اول عمل ادبي في التاريخ يتعرض الى النفس البشرية، ونوازعها ومآسيها في فهم الوجود والحياة.  تشكل هذه الملحمة مصدراً فذّاً، ولا غنى عنه لفهم الانسان كما عبرت عنه الأفكار والفلسفات عبر التاريخ.

بمقابل ذلك تقف مسرحية الكراسي لترسم أطراً فكرية، تبدو مشتتة وغير مترابطة وغير منطقية، للحياة العصرية من خلال القبض على اللحظات الأخيرة لعجوزين تدور حياتهما بحلقة لا نهائية من ملل يومي وروتين مستدام. يحاول العجوزان كسر هذه الحلقة الجهنمية عبر منجز يخرج عن المألوف، أي عن الروتين والحياة اليومية المملة. لكن ذلك لم يحصل، بل أنتج خيبة امل أخرى، تضاف إلى ما تراكم من خيبات لدى العجوزين. الكراسي وضعت التساؤلات الكبرى جانباً، وأستغنت عن الأجوبة، بأن دجّنت الإحساس بالعبث ليبدو عادياً، ومنطقياً، بل وضرورياً في الحياة اليومية. كذلك فإن أهمية المسرحية، ضمن التيار الطليعي في المسرح، والذي كان أونيسكو أحد أبز قادته، ساهمت في تأسيس صيغ جديدة لشكل ومحتوى المسرح ومنطق وسرديات المسرحية يبتعد ويتناقض في معظم الأحيان مع ما هو قائم من قواعد واشكال وصيغ تحكم قواعد الدراما المسرحية منذ قرون. الكراسي صورة حديثة لما عليه المجتمعات الحالية من انعزالية وفردية وغياب التواصل. انه نص كُتب بلغة مربكة، وبأسلوب يتظاهر بالبساطة والسذاجة، ولكنه نص يعبر بعمق عن الانكسارات الإنسانية بكل أشكالها، وإن كان مستتر تحت الهزل والكوميديا والحزن العميق.

***

علي ماجد شبو

النص:

وأَنا أَجلسُ القرفصاءَ على دكّةِ البنات

سألتني

من خاطَ ثوبَ صباك؟

أنا من أَنَّثت ضبابَ اللذةِ

حينَ تأججتْ ثورةُ الوردِ

كنتُ كبيرةً كبغداد

وصغيرةً كبعقوبة

كانَ طوفانُ الخجلِ

يضربُ سفينتي المهددةَ بالانقراضِ

والفراغاتُ من حولي ناضجة

*

كنتُ محاطةً بالأَصفارِ

والسوائلِ العارية

*

حيثُ لم تكنِ السماءُ سخيةً كما ادعيت ذاك العام

وشعراء بغداد كالساعات حينَ تتوقف على وقتٍ سيّال

*

كانتْ سنواتي الأثيرة

تمدُّ أعناقَها كناقةٍ جفَّ ضرعُها

*

نعم أرضعتني أمي الطهرَ والحنين

لكنني هرمتُ قبلَ أنْ اركض

*

أنا لستُ كالنساء

فستانُ صباي مطرزٌ بأوجاعِ الصمت

مخاطٌ بأبرةٍ غاضبة

*

لاعاصم اليومَ لفساتيني الممهورةِ بكركراتِ السنابلِ

وجدرانِ الدهشةْ

*

كانت أمي منشغلةً بالولد

وأنا أجلسُ القرفصاءَ

على دكَّةِ البناتْ

*

تُحرّكُ يدَها

وسبعَ عيونٍ

لدفنِ الحدقاتِ في مغارة

*

مازالتْ تسألُني عن حقيبتي

وأقلامِ الرصاص.

***

القراءة:

منذ قراءتي الأُولى لنص الشاعرة العراقية " رند الربيعي" والذي عنونته بـ " وأنا اجلس القرفصاء " والمنشور في مجموعتها الشعرية الموسومة " أُقشّرُ قصائدي فيكَ " فقد شعرتُ أنَّهُ نص محتشد بذكريات طفولية ونستلوجيا مُعتّقة وتفاصيل ماضوية منقوشة بقوة وشجن على جدران ذاكرة الشاعرة اليقظى والمتوهجة المشاعر والشاعرية. وكذلك لمستُ بأَنَّهُ نص أَنتجته مخيّلة مكتنزة بالرؤى والاخيلة وعين ثالثة مفتوحة ومراقِبَة ومصوّرة لمشاهد وتفاصيل هذا العالم الطفولي المُكتظ بشفرات خفيّة، توحي وتُشير  الى ان الشعر والشاعر.ة قادران على تأسيس وتكوين فردوس طفولي كي يستوطن ذاكرتيهما القويتين والعميقتين. وكذلك يعبق بذكرياتهما الطفولية الملآى بكل ماهو مدهش وجريء ومشاكس وسحري وحاشد بالاسرار التي يمكنهما استحضارها في اي وقت يريدان. ومما لا شك فيه ، فإنَّ هذه الاقانيم لايمكن ان تستحضرها  الا مخيلّة وذاكرة وعين شاعر..ة: راءٍ او رائية ؛وهذا ماكانت عليه عين ومخيلّة وذاكرة الشاعرة " رند الربيعي " التي لا اتردد في القول: ان نصها هذا قد غمرني بمتعة خاصة واستثنائية وباذخة اثناء قراءاتي المتعددة لهُ وفيه. ولهذا أَرى وأَشعر انه نص مهم لأنه مكتوب بدمع حار ودم موجع وموجوع حدَّ الصراخ والنزيف والشجن الثاقب. وكذلك فهو نص قد اخترق أعماقي بلا " فيزا " ولا جواز سفر.

وبطبيعة الحال فأنا كقارئ ومتلقٍ لن أَتردد في القول بكل صدق ووضوح وصراحة: إنَّ هذا النص هو من أَجمل ماقرأتُ للشاعرة من نصوص في السنوات الاخيرة. ويُمكنني أَنْ أُؤكد أن رأيي او انطباعي هذا متأتٍ من كوني واحداً من القراء والمتلقين الذين يهتمونَ بشكل خاص وعناية استثنائية بقراءة اغلب ماتكتبه وتنشره الشاعرة من نصوص في الصحف والمجلات العراقية والعربية سواءً كانت الورقية منها او الألكترونية. ولهذا السبب كنت انا اول من اطلق على " رند الربيعي " تسمية {نحلة الشعر المثابرة}.

ونتيجة لتلك المحاولات النصية الجادة فقد كنتُ وسأبقى أَعتبرها " شاعرة مثابرة حقاً " ؛ وكذلك أرى وأشعر انها منهمكة ومشغولة ومهمومة من أَجل تطوير موهبتها وطاقتها الشعرية، وكتابة كل مايُختزن في ذاكرتها ومخيلتها وروحها الطامحة للتحليق الى فضاءات الحرية والابداع والجمال والخلاص الحقيقي.

وأُريد القول أيضاً وبحدس عال وثقة شاسعة: انَّ الشاعرة "الربيعي" اذا ما ثابرت أَكثر وأكثر في اكتساب مهارات وخبرات شعرية ولغوية وأدائية في كتابة النص الشعري، فأنا واثق من انها ستتمكن من ايصال صوتها الشعري الى أبعد المديات الأدبية والثقافية سواءً في الداخل أَوفي الخارج.

 وكذلك لا يغيب عن بالي أَن أُذكّر الشاعرة " رند " بأَنَّ عليها أَن لاتنسى أنها شاعرة هايكو جيدة ؛ فيا حبّذا لو انها تعود وتهتم بكتابة نصوص هايكوية جديدة ، من أَجل ديمومة وتنوّع وتراكم وسطوع موهبتها وقدرتها الشعرية في المرحلة القادمة.

وعلى هامش هذه القراءة الذوقية ، أَودُّ أن احيي الشاعرة... وأرفع لها قبّعتي عالياً ؛ لأنها عراقية أولاً ، وموهوبة ثانياً ، وهي مشروع شاعرة حقيقية ثالثاً. وسوف يكون لها صوتها وحضورها المضيء في الحركة الشعرية العراقية والمشهود لها تاريخياً وابداعياً وجمالياً بالريادة والتميّز والفرادة الشعرية ؛ منذ ملحمة " جلجامش " التي هي أهم وأقدم وأروع ملحمة شعرية منذ فجر التاريخ ؛ مروراً بشعر العصور التالية وكذلك شعر وشعراء العصرين الاموي والعباسي ،ومن ثم شعر وشعراء العشرينيات والثلاثينيات والاربعينيات حتى ثورة الشعر الحديث التي فجّرها شعراؤنا الرواد {السيّاب والملائكة والبياتي والحيدري} ثم توهّجت شعلة شعرنا الحديث والمعاصر من خلال المنجز الشعري الرصين والكبير لشعراء حركة الريادة الثانية الذين يمكن البعض منهم مثل " سعدي يوسف ومحمود البريكان وحسين مردان ويوسف الصائغ ومظفّر النوّاب ولميعة عباس عمارة " وغيرهم ؛ وصولاً الى الحركات والتيارات والتجارب الشعرية الحداثوية لشعراء الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي ؛ وحتى تجارب شعراء الالفية الثالثة التي ارى ان الشاعرة " رند الربيعي "هي واحدة من شاعراتها وشعرائها المهمات والمهمّين والمبدعات والمبدعين الذين يُبشّرون بمستقبل شعري عراقي وعربي مهم ومختلف ومغاير.

***

سعد جاسم

معْبد ديونيزوس: في كتابنا هذا نقصد عروض المهرجان الوطني ("الاحترافي") التي قدمت في الدورة 23 بمدينة " تطوان" إذ المؤسف بعد كل دورة، يغيب ما يسمى علماء المسرح في المغرب، لتحليل وقراءة العروض المسرحية المدرجة في كثير من المحطات والفضاءات، وفي بعض المهرجانات المسرحية، ذلك من أجل إثراء المشهد الإبداعي بالطروحات والأفكار الفنية والجمالية، كما كان في العقود السالفة (!) على أمل تقويم بعض الرؤى و المغالطات الفنية، والأخطاء الإخراجية والدلالية واللغوية... من لدن [الجمعيات المسرحية] رغم أن تلك الزمرة من هؤلاء "العلماء" دائما منوجدين في أغلب التظاهرات: يقدمون/ يسيرون/ يناقشون/ يتملقون/يمدحون/ يتهافتون على (...) مما يوحي بأن هنالك شيئا غير طبيعي في معْبد "ديونيزوس" والمفارقة الرهيبة، ففي المهرجان الوطني (23) وفي جل المهرجانات؟ كلما صادفت أحدهم؛ إلا ويدين ويستنكر ما شاهده البارحة من (عرض/ ما) طبعا في الكواليس ومن تحت إبطه؟ علما كيف يمكن أن يستقيم إبداعنا ومنتوجنا المسرحي/ الفني، في غياب التوجيه والإرشاد الأخوي، بعيدا عن المنبرية / الأستاذية. وفي انعدام النقد الفاعل والقراءة الفعَّالة والطموحة نحو أفق إشتغال أفضل؟ ومن زاوية المنطق، فأي عمل مسرحي هو عمليا مجهود إنساني، ومن الطبيعي أن يكون موصوفا بالقصور ومشوبا بخلل أو نقص (ما) أوضعف في جوانب فكرية أوفنية وأدائية، أو تركيبية، وبالتالي فالتحولات السريعة [الآن] تفرض بكل جدية تقلبات وتغيرات عميقة. في الأفكار والقضايا التي تواجه الفنان المسرحي، مما يدعو بداهة أن يكون "النقد" المنهجي/ الموضوعي / ملازما للعروض المسرحية، لتأهيل المسرح" حتى لا يستطيع "هيروسترات" إحْراق "معْبد ديونيزوس". ومن موقع آخر لكي يكتمل اغتناء أية تجربة من الداخل، لامناص من فعل خارجي، يكمن في المقاربات النقدية، وذلك بشكل تفاعلي بعيدا عن الجدلية.أو الركوب(الانتهازي) وخاصة نحن أمام اقتصاد [السوق] الذي لم يستطع لحد الآن مسرحنا المغربي (اختراقه) ! العائق منظور (الدعم المسرحي) الذي أفقد حيوية الانتشار وابتكار التسويق والمقاومة، ولاسيما أن المسرح هو بالأساس فعل مقاومة اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية وفنية. بعيدا عن المجاملات والرياء. تأكيدا بأنه ليس بنية للنفاق ولإرضاء الخواطر. بقدرما هُو بنية للمواجهة وتصدي الصعاب، وأبعد من هذا، إنه رسالة و رؤيا لطرح قضايا إنسانية وكونية؛ بطرق إبداعية،هاجسها الصدق والبحث الدؤوب، لكن (الدعم) عمق الهوة بين ما نريده من المسرح، وما لا نريده، وذلك بتزايد الرغبة في كسب المال بأيّ وسيلة كانت، مما يتم جدليا الخضوع لنزعات سلطوية وإخضاع الإبداع لما تريده بعض المؤسسات التي لا تكون غاياتها دائما نبيلة. وبعين مجردة للعروض المتبارية في (د/ 23) تتخندق في منطوق الناسخ والمنسوخ، سواء بقصد وترصد لعملية النسخ للمنسوخات أو بدون قصد. لأن عملية الناسخ والمنسوخ يعود لاختلاف الفهم وتقنية " النسخ "بين المخرجين / الدراماتوجيين وفي تحديد معنى النسخ (ضمنيا) أثناء الإشتغال هل هو النقل أم الإزالة.أو كما يفسره البعض بالتحويل والتخصيص، لتصور فني أو جمالي بدليل عمل مسرحي متأخر عنه. بحيث وبعين قرائية يمكن نستشف المنسوخ من الناسخ، أو من خلال ثقافة المشاهدة. وطبعا بالإمكان ان يكون الناسخ كالمنسوخ لافرق إن كان في سياق التجريب المسرحي؟ لكن نحن أمام مسرح " احترافي" كما يشاع. بمعنى له أرضيته الفنية والإبداعية التي تتجاوز منظور التجريب المسرحي. وبالتالي فالفرق (الإحدى عشر/11) المشاركة في المسابقة الرسمية. تشترك في عملية النسخ والمنسوخ، معتمدين على الترجيح بالقرائن. معتمدين على تناسخ في الخطاب اللغوي/ البصري، و توظيف تقنيات تكنولوجية / رقمية، مرورا بالاختيارات الجمالية وتناسخ التيمة. بدء ب:

الملصق:

يعد الملصق في فعاليته (الإعلانية/ الإخبارية/ التواصلية) إحدى العتبات التي تعبر عن تاريخ الفن، و مع تطور لغة الفنون الجمالية و المرئية، أضحى من أهم وسائل التواصل الحديثة والوسائط الأساس بين العَرض والمتلقي قبل مشاهدته، والمؤسف أننا لا ننتبه للملصق، ك[إبداع وجمالية ورؤيا]. ولم يدرك بعض أصحاب النقد [الفايسبوكي] بأنه إحدى ملحقات العَرض المسرحي، كالملابس(مثلا) قبل أن يكون كإعلان وعمل إبداعي صرف. فملصق (الآن) يتداخل فيه الرسم التوضيحي والغرافيك، مما لم يعُد هنالك فرق أو تمييز بينهم والطباعة، وبالتالي يلاحظ بأن "ملصقات" الفرق المشاركة. بأن هنالك تشابه من حيث الأبعاد وإبراز شخوص المسرحيات مثل ملصقات "الأفلام الأجنبية" باستثناء (الفاتورة/ لا فيكتوريا / اشاوشاون/ تكنزا) وكذا تناسخ الألوان، التي يغلب عليها(الأسود/ البني) على مساحة الملصق، مما يوحي بأن هنالك اختناقا مسلطا بطرق غير مباشرة على العَرض المسرحي، ربما يتهيآ هذا لمخيلتي. مما يحتاج الموضوع لدراسة سيكولوجية من جوانية العَرض، وارتباطه بالملصق، باستثناء (خلخال وغربال /اشاوشاون) إضافة: لترجمة العنوان عربي/ فرنسي (chute des roses / سقوط الورد)(إكستازيا / XTASY)(الفاتورة/ LAFACTURE)(ASTURAIAS)(اشاوشاون / ichawchawen) فهذا يؤشر[حَدسا]بأن هنالك توجيه (ما) وبناء على هذا: هل العروض ستقدم في مدينة " بوردو "الفرنسية؟ أم في تطوان المغربية؟ فهل طابع الملصقات ومصممها واحد؟ رغم تباعد المدن(شكليا)لأن أغلب المشاركين متمركزين في مدينتي(الرباط/ البيضاء)؟

اللغة:

 طبيعي أن أي عمل مسرحي؛ يرتكز على لغة إما منطوقة / لفظية أو إشارية أو بصرية، لكن الغريب، فكل العروض ركزت على (الدارجة) كقاعدة لغوية/ خطابية (الفاتورة/ خلخال غربال) باستثناء عرض (اشاوشاون) باللغة الريفية، وبدوره لم يسلم من الهجانة والرطانة اللغوية، بحيث كل العروض أمست تعجِّن وتخلِط بين الفصحى والفرنسية والدارجة والإسبانية والإيطالية والسوقية، ممكن أن أصف بأن جل [العروض] عبر الموضوع اللغوي/ اللسني، بأننا كنا أمام [جوطية لغوية] فاقت الهجانة والرطانة، فالسبب يكمن في إقصاء نصوص، لا تتلاءم لمن يرسم خرائط المستقبل للمسرح في المغرب، ولا تنسجم والتصورات الممنهجة للاستفادة من[الدعم/ الترويج] وبالتالي بكل بساطة نجد تداخلا بين الإقتباس / إعداد/ ترجمة التي تناهز( 54 في المئة) أما الكتابة مغربية (27.2) وكتابة جماعية (18.18) فهل هذه النسب المئوية، ستصنع اللحظة التاريخية للمسرح المغربي؟ علما أن المسرح الذي لا يكون نبضه على قضايا مجتمعه وإشكالياته، فلن يعيش أبدا(!!) هنا نتساءل قبل إنجاز مقاربات نقدية(لاحقة) فهل مسرحية "إكستازيا" روحها منبثقة من بين سطور رواية(إكستازيا" لعنة كاتب"): لنرسيان أبو ناب (أردنية) أم لا؟ ومسرحية(الفاتورة) هل هي منسوخة عن مسرحية (الراديو) التي قدمتها كلية الفنون الجميلة جامعة بابل (العِراق) للكاتب النجيري "كين تساروا ويوا " سنة 2021؟ أم هنالك إعداد من النص الأصلي؟ ولقد أثرت هاته الأسئلة السريعة تجاه العملين محاولة منا، لخلق جدل بين النفي والإثبات، إن كانت هنالك حمية للفعل المسرحي حقيقة (؟)

التيمة:

 بداهة فأغلب العروض كانت بمثابة سرد "جاف "لحكايات متنافرة ومواضيع باهتة تتقاطع مع العديد من الأعمال الميلودرامية، إذ بإمكان تلك العُروض أن نصنفها في التمثيلية الإذاعية، تجاوزا؛ لأن التمثيلية الإذاعية (هي) أرقى خطابا وإخراجا.

ففي الحبكة العامة نتلمس حضور[الحب/ الأسرة] كموضوع سطحي ومسطح، بعيدا عن روح "دراما الأسرة" كما وظفها "أبسن "أو "تشيخوف" أو" لوركا" أو" موريس ماترلنك" على سبيل المثال. والمثير بأن الموضوع (الحب / الحبكة) فيه مغالطات وهفوات سيكولوجية، وباثولوجيه، وقانونية. ولم يطرح كقضية من ضمن القضايا الإنسانية، إذ كنا أمام عرض يلغي أطروحة " دونية / استعباد / تشيؤ"[المرأة]أمام[الرجل] ليدخلك عرض آخر في عوالم "دونية / سلبية / ضعف" [الرجل]أمام[المرأة] ليتم نسخ تيمة [الجنس] بتوالي، خارج البعد الرومانسي / الشاعري لمفهوم[الحب] والسؤال الأهم، حتى في (د22) تم طرح موضوع المرأة / الرجل وصراعهما السيكولوجي/ الإيروتيكي، ليتم إلغاء أو تلافي أوجه صراع [الرجل / المرأة] و[الأسرة] مع البنيات الإدارية،البيروقراطية /السياسية /الفكرية /الاقتصادية. وهذا لتنميط الذوق وإسفافه، ارتباطا بمحاولة تغييب الوظيفة التثقيفية للفن الدرامي. وبعضهم يلوح بان أعمالهم هاته تندرج في سياق[مابعد الدراما] هل تحقق البعد الدرامي في تلك العُروض، حتى ننتقل إلى وهْم [مابعد الدراما]؟ ونوع من التحليل السريع؛ فهاته الأعمال غير بريئة بالمرة، بحيث يبدو أن هنالك توجّها مقصودا مع سبق الإصرار والترصد من أجل تمييع ما يمكن تمييعه من إبداع وثقافة فكرية/ بصرية، ارتباطا بمظاهر "المثلية " التي أمست تغزو أرضية الملعب، بكل وقاحة ! وتسريب مفهوم العلاقات الإرضائية ! وظهور العديد من الأدوية والأطباء على الفضاء الأزرق (الفايس بوك) في غفلة منك، ينصحونك بعلاج الضعف الجنسي وسرعة القذف ! ويقدمون لك خدمات ضد العجز، وعَدم القدرة على الانتصاب ! ففي سياق كل هاته الملابسات، فما ما دور علماء المسرح ببلادنا؟ ومايدور في سياج المسرح في المغرب؟

الملابس والإيقاع:

بدون تفاصيل، ما أهمية الزي في العَرض المسرحي، ودلالته الإيحائية للشخصية، وللشريحة الإجتماعية. فملابس العروض يغلب عليها الزي العصري، ذات "اللون الأسود" كأنها تعكس ما يحمله الملصق من قتامة، باستثناء (تكنزا/ خلخال اغربال) والعملين معا ركزا على ملابس تقليدية مختلفة الألوان، بخلاف (اشاوشاون/ الفاتورة) ركزا على ملابس تبدو "مسرحية" خارج نطاق الواقع. وما يبدو غرائبيا لباس "خنثوي" للموسيقي في(إكستازيا) ولباس شخصية الراوي / الحاوي ذو اللون الأصفر. الذي يحيل إلى (كاهن/ أسقف/ شيطان) ولباس الطبيب (سقوط الورد) الذي يحيل إلى مايسترو(أوبيرا) ولكن من زاوية النسخ ذكرنا بمسرحية(الدكتور فاوست) ل"كريستوفر مارلو" أو لشخصية "استروف" الطبيب الذي يحب البيئة في مسرحية (خال فانيا) ل"أنطوان تشيخوف"... هنا فالعروض تعطي فرصة للنقاش والتحليل في العديد من مكوناتها منها تناسخ الملابس، من مسرحيات سابقة عن هاته العٌروض، وسيأتي ذكرها إبان القراءات المفصلية. وبالتالي فالعديد من المسرحيات كان يغلب عليها التكرار والتكرار الممل، لفظيا /أدائيا مشهديا (إكستازيا/ استورياس/ طلوع الروح/ سقوط الورد/ التي قالت لا / اشاوشاون/) كمحاولة لتمطيط وقت العرض، وليس زمن الحبكة ! ناهينا عن الإيقاع المسرحي والأدائي، الرتيب والبطيء / الممل. بالنسبة للمتلقي(فطائر التفاح/ استكازيا /التي قالت لا / اشاوشاون استورياس/ طلوع الروح/ سقوط الورد/ وكان عرض(تكنزا) في بعض اللحظات ينزل إيقاعه لنصف درجة حرارة الفعل المسرحي. أما عرض(خلخال اغربال) فكان إيقاعها متفاعل مع أجواء (الحكاية /الحلقة)وإيقاع الطرب والأهازيج الهوارية، والعجيب أنها لم توظف كموسيقى مباشرة، كبعض العروض التي كان أغلب إيقاعها الموسيقي ضجيجا، ولم يتم توظيفها وتشكيلها كشخصية ضمن شخوص العمل؟ هذا إذا أضفنا ظاهرة التدخين المباشر بشرهة فوق الركح (التي قالت لا / سقوط الورد/ استورياس/ فهل ذاك التدخين: أضاف جمالية للشخصية وللعرض المسرحي عموما؟

المؤثرات البصرية:

أي مبدع كيفما كان مستواه الفني والمعرفي، هو مع التطور والتجديد، ومواكبة المتغيرات والبدائل، اللهم إن عدميا/ متحجرا/ متزمتا / ذاك شأنه. ولكن "نحن" علينا أن نؤمن ونشجع ونصفق، بأن هنالك انفجارا للطاقات الإبداعية، في المغرب وغيره. ساهمت فيها الثورة الرقمية ووسائطها، التي غيرت معالم التواصل والتفاعل الواقعي، لتفاعل إبداعي وفني افتراضي/ رقمني. لكن الإشكالية في عروض المهرجان وغيرها فيما سبق، تحاول وحاولت أن تكون في معمعان مجتمع الرقمنة وحضارة الذكاء الاصطناعي، مما اتخذت من آليات التكنلوجيا الجديدة مدخلا لتحقيق جمالية العرض، عبر)المؤثرات الخاصة/effets spéciaux ) باستعمال (الهولوجراف) الوافد للعالم الضوئي، وكأحد تطبيقات الليزر لإنتاج واقع افتراضي لمنح صور تخييليه، تخيلية مجسمة في ثلاثية الأبعاد(تكنزا/ استكازيا / طلوع الروح/ لا فيكتوريا /) والبعض استعمل تقنية "المابينغ بالفيديو"(هي قالت لا / سقوط الورد/ لا فيكتوريا /الفاتورة/) من أجل تحقيق صور بصرية تطعم وتقوي من العرض ومن الفضاء المسرحي معا، لكن المفارقة: بأن كل ما قدم فيه المنسوخ عن الناسخ، من خلال التأثير الوظيفي لتكنولوجيا المسرح، وخاصة لما قدمته الأعمال التونسية، ابتداء من سنة 2013 من خلال احتفالية ثلاثة الاف سنة حضارة! وإن سبقتهم تجربة مسرحية رقمية لسنة 2006 للمسرحي العراقي "حسين حبيب" بعنوان «مقهى بغداد» والبعض تأثر بالبالي الوطني الإنكليزي/ والذي له موقع إلكتروني (الآن) ! هناك من تأثر بمسرحية (تيتانيك التي عرضت سنة 1997) وهناك البرمجيات الإلكترونية التي سهلت توظيف المؤثرات والخدع في العَرض المسرحي.

 لكن المعضلة الفنية:أغلب الأعمال مارست الإبهار والإدهاش، فسقطت في منظور الشكلانية الفجة. لأن أهم شيء في المسرح هو جوهره الإنساني وقدسيته الخلاقة، متنافيا النزول للحضيض والرضوخ للابتذال والفهلوة، فمن باب المبالغة والابتذال في استعمال المؤثرات البصرية. تم تشويه الثالوث الرقمي في المسرح[المبدع/المتلقي/ الوسيط /(الفضاء الرقمي)] من هنا كان بالإمكان أن يناقش "علماء المسرح" الوضعية الحالية للعالم الافتراضي/ الرقمي. من خلال سؤالين جوهريين:

- هل المسرح في المغرب انخرط انخراطا شبه كلي في "المنظومة الرأسمالية" بكل ما تحمله من سمات كسلوك استهلاكي، تمظهر في إنتاجية العُروض المسرحية؟

- أم انخرط انخراطا شبه كلي في مجتمع معلوماتي تمثل فيه المعلومة كمصدر ومحرك أساس للإنتاج الإبداعي/ المسرحي؟

بدل مواضيع أمست شبه متجاوزة مثل محور[رهانات الاخراج المسرحي اليوم بالمغرب] وفي سياق هذا الموضوع سؤالي الجوهري، لكل من شارك في الجلسات: فما دور الدراماتورجي في المشهد المسرحي، الذي زحزح أنماط تفكير (الإخراج)؟

***

نجيب طلال

(الوطن ليس قطعة من الأرض ولا مجموعة من البشر.. الوطن هو المكان الذي تحفظ في كرامة الإنسان)... ليف تولستوي

عندما يكتب مثقف عراقي من بلد الرافدين مثل الروائي جمال العتابي، يذكرنا بملحمة جلجامش التاريخية لما فيها من سرد جميل، كما ورد في ترجمة طة باقر، لقد بدأت بقراءة رواية العتابي، منازل العطراني، استعدت مع نفسي فطاحل الرواية الروسية الذين لهم منزلة في الأدب العالمي ومنهم تولستوي في روايته الحرب والسلام، وكذلك أنطوان تشيخوف ومكسيم غوركي في روية (الأم) واستروفسكي في رواية و("الفولاذ سقيناه) وميخائيل شولوخوف (الأرض البكر حرثناها)، أضافة إلى روائيين عالمين مثل فكتور هيجو الفرنسي في روايته (البؤساء) والكاتب الكولومبي غابريل غارسياماركيز في روايته الم (شهورة (مئة عام من العزلة)، وهناك كتاب عراقيين سطروا بأقلامهم قصص في الواقعية الإجتماعية، جسدت رواياتهم لتاريخ، من أمثال ذنون أيوب وغائب طعمة فرمان وفائز الزبيدي ومحمود البياتي وغيرهم، سقت هذه الأمثلة لأقول أن الرواية تجسد لنا التاريخ بصفحاته من خلال شخصيات لعبت أدوارا كبيرة هنا وهناك، واليوم ومن خلال قراءتي لرواية الصديق جمال العتابي، يمكنني أن أضعه في خانة الروائيين العراقيين، أضافة إلى مساهماته النقدية العديدة .

رواية (منازل العطراني) تبني أحداث شخصيات التي لعبت أدوار مهمة، بلا أسماء صريحة، ولكنها تشير لتاريخهم ومعاناتهم، ونجد أنها واقعية في احداثها التاريخية، حيث تسلسل احداثها منذ ايام حكم عبد الكريم قاسم أي بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، وتتعرض لحياة مناضلين دخلوا السجون وذاقوا صفوف الاضطهاد، خصوصا بعد انقلاب الثامن من شباط 1963 الدموي، وبطل هذه الرواية هو شخصية محمد الخلف، البطل الذي هرب من السجن عند وقوع الانقلاب، وانتقل إلى ريف الكوت ليختفي في بيوت متعددة.

وعلى الرغم من تكتم الروائي عن ذكر بعض الأسماء الحقيقية، لكن المتابع لتاريخ العراق الحديث لهذه الفترة، يمكنه أن يستدل على تلك الشخصيات وأسمائها الواقعية الصريحة. وكان هاجس الخوف لدى عائلة بطل رواية محمد الخلف قائما في تنقلاته من مكان لآخر بسبب من أن الانقلابين أقاموا نقاط تفتيش في خارج المدن ولديهم اسماء المطلوبين للسلطة، فكتبت العتابي يقول [أحذر يا محمد أن تصدر عنك اية كلمة تكشف عن هويتك وانت بلا هوية تعريف إياك الكلام، في الصمت النجاة، أنه لغة التفاهم، ومملكة الإنسان السرية الداخلية، في بلدنا يقتل الصمت، ينتزعوه منك بالتعذيب،بقلع العيون والأظافر وبالاغتصاب]، وكان ذلك بمثابة مونولوج داخلي. وهنا نقرأ أن السجين الهارب إلى الحرية، عليه الالتزام بعدم كشف هويته من خلال كلمة يقولها، أضافة أن التحذير يأخذ صورة بالتعذيب القاسي والذي فعلا تم في التحقيق ويبشع الكاتب التعذيب الذي كان يتم في غياهب السجون التي فتحت أمام معتقلي الرأي .

و يذكر العتابي كيف كانت معاناة شخصية بطل الرواية محمد الخلف، فضلا عن اماله في الانتقال إلى برلمان وإنهاء الحكم العسكري، ولكن العكس ما حدث حيث زجت الحكومة بالسجون عدد غير قليل من المناضلين رفاق محمد الخلف، الذي كان يستمع إلى الراديو الشغال على البطارية في نشرة اخبارية محلية، الحكم عليه غيابيا، فقد فقد قرأ المذيع مجموعة قرارات في الفقرة الثالثة من النشرة جاء فيها:

1- حكم المجلس العرفي الأول غيابيا على (المجرم) محمد الخلف بالحبس الشديد لمدة 5 سنوات لهروبه من السجن.

 2- قرر المجلس غيابيا الحكم على (المجرم) محمد الخلف بالحبس لمدة سنة واحدة مع وقف التنفيذ لتحريضه المتظاهرين على مهاجمة مركز شرطة الغازية (النصر)، يوم 14 تموز 1959، مع غرامة نقدية قدرها الف دينار، ثم سفره ليلة وقوع الحادث إلى العاصمة لإبعاد الشبه عنه.

3- حكم المجلس على (المجرم) الهارب محمد الخلف غيابيا بثلاث سنوات سجن، لمشاركته التظاهرات المطالبة بوقف القتال في شمال العراق عام 1962، على الأجهزة الأمنية كافة تنفيذ الأحكام حال إلقاء القبض عليه، وتسليمه لأقرب مركز للشرطة].

وجدت أن الراوي يجسد في عائلة محمد الخلف معاناة الكثير من العوائل العراقية في تلك الحقبة الزمنية من تاريخ العراق، أي ما بعد ثورة الرابع عشر من تموز وحكم عبد الكريم قاسم مرورا بأنقلاب شباط الدموي وما بعد انقلاب الثامن عشر من تشرين بقيادة عبد السلام محمد عارف ومن استلام أخيه عبد الرحمن محمد عارف لرئاسة الجمهورية وحتى انقلاب 17 تموز 1968 واستلام البكر وصدام للسلطة وما رافقه من العفو عن السجناء السياسيين وإعادتهم إلى وضأئفهم بإستثناء العسكرين، وما بعدها قيام الجبهة الوطنية والقومية التقدمي1973-1978 وانهيارها وما رافق الانهيار من قتل وتعذيب للشيوعيين الذين بقوا في الوطن، والمقابر الجماعية، والحرب الإيرانية العراقية وجثث الشهداء، وغيرها من الحروب.

وعن الاضطهاد الداخلي وما رافقه في زمن الجبهة وبعد فرطها من قبل الحليف، نجد أن ام خالد كأي ام عراقية عانت من الاضطهاد وزيارات زوار الفجر إلى منازلهم، واخذ فلذات اكبدهن إلى المصير المجهول وتغيبهم واستشادهم .

يكتب الراوي في سرديته النص التالي عن دور ام خالد [يشعر خالد بالوحدة في وقت الغروب لدرجة لا يمكن احتمالها، خطفوا عامر، اختفت أخبار ضياء، إذ ذاك تلتقي عيناه بعينين متسائلتين من النافذة المقابلة يثب مذعورا : كنت أسهو مثل طائر لأيام عديدة لا انام، كانت أمي أقوى الآمال التي تشدني إلى الثبات، لم أكن أريد أن أرى أحدا أو اسمع صوتا، هاتفي ابي اتفقنا على اللقاء في المقهى، كنت أرى في وجهه بعد غياب علامات من الارتياح، كان ينظر إلى الأمام، ثمة شيء كالنور ينبثق من داخله، فيضطره إلى الابتسام، يفك أساريره؛ اخيرا أصبح معلوما لدي مكان ضياء].

وفي الرواية يسرد الراوي حول موقف بعض القوى اليسارية والانقسامات الدائرة، بما فيها في الحزب الواحد، تأثيرها على موقف اليسار من تنفيذ برنامجه النضالي والحفاظ على كوادره.

و أقول أن الشخصيات المناضلة في رواية جمال العتابي، تذكرني بما انشده الشاعر مهندل مهدي الصقور قائلا :

أتظن انك قد طمست هويتي/ ومحوت تاريخي ومعتقداتي

عبثا تحاول/ لافناء لثائر / أنا كالقيامة ذات يوم ات .

واناشد المثقفين المهتمين قراءة الرواية، لما فيها من سرد فني جميل لتاريخ العراق منذ الستينات في القرن الماضي على الاقل، علما بأنها من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2023 .

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

يتعلّق السياق والسياق النصّي بوحدات لغوية وأخرى دلالية، هذا إذا كانت الدلالة قد وضعت في منظور المعنى وتتحرّك على ضوء الفانوس الحركي، ومن هنا تكون المستويات التتابعية للوحدات اللغوية والوحدات الدلالية من خلال الدلالة الحسيّة ذات منحى نصّي معتمداً على علاقات البناء النصّي.

إنّ وحدات المستوى اللغوي تبدأ من الأدنى إلى الأعلى، ولكي تكون بتوضيح أوسع، هي مستويات الوحدات اللغوية الصغرى، والمستويات الكبرى، فالنصّ الذي اشتغل عليه الشاعر من خلال العلاقات اللغوية والدلالية والمبدأ الاستطيقي كمنظور فلسفي جمالي، يُعد وحدة لغوية كبرى متكئاً على علاقات ووحدات لغوية صغرى، لذلك نقول إنّ هناك المستوى الأدنى، وهو بداية النصّ انطلاقاً من الصفر كأدنى مستوى، وانتهاء بالنصّ الشامل كمستوى أعلى.

وأمّا وحدات المعاني، فهناك المعاني المتحوّلة، وذلك كلّما وضعت الكلمة في سياق معين، يتحوّل معناها، من المعنى الثابت إلى المعنى المتحوّل، وهو الشعرية ومعانيها التي ننظر بها، وفي الوقت نفسه، هناك المعاني الحسّية، وهي المعاني الداخلية والتي تؤثر على الحسّية الداخلية وحتى تؤدي أيضاً إلى تغيير التيار الشخصي، وهناك المعاني المجرّدة الاختلافية، وهي تتبع لغة الاختلاف وكيفية ظهور المتعلقات الذاتية في المنظور النصّي، وسوف نلاحظ ذلك من خلال الدخول إلى المساحة النصّية لدى الشاعر المغربي المصطفى المحبوب، وكيفية تداول الكلمات والعمل على توظيفها في معاني حسّية من جهة ومعاني متعلقة بلغة الاختلاف من جهة أخرى.

ندخل إلى الترابط النصّي من خلال السياق الذي أسّسه لنا الشاعر المغربي المصطفى المحبوب، والذي استطاع من خلال الدراية الفنّية أن يؤسس أبعاداً نسقية في المنظور النصّي، فهو لا يبتعد عن الأشياء مثلاً، ولا يبتعد عمّا تحمله الذات الحقيقية من محامل دلالية تؤدي وظائفها في المعاني وفي التأويلات ولا تفوتنا الوظائف اللغوية أيضاً، باعتبار وظيفة اللغة الدلالية الأثر والفعّالية في الترابطات النصّية، ويأتي الترابط بين الجمل من خلال علاقات تناسقية، وهو العمل الأكثر قرباً في المنظور النصّي.

مرتبك كالعادة

كأيّ عاشق

كأيّ متشرّد يتشدّق

قطع الإسمنت المخلوطة بقهقهاتٍ..

كأيّ متمرّد على طرق الفرح

متعالياً على كلّ التعاليم

المخلوطة بقطع الخبز..

من قصيدة: الحبّ نوزّعه بحرية – مصطفى المحبوب

**   

إنّ الوحدات اللغوية هي التي تربط الجمل والجمل المجاورة ببعض، ولكن هذا لا يكفي دون التناسق مع المعاني وكينونتها التواصلية، ويكون للنحو الفعالية في تأطير الترابط أيضاً.

مرتبك كالعادة + كأيّ عاشق + كأيّ متشرّد يتشدّق + قطع الإسمنت المخلوطة بقهقهاتٍ.. + كأيّ متمرّد على طرق الفرح + متعالياً على كلّ التعاليم + المخلوطة بقطع الخبز..

الجملة لدى الشاعر المغربي (المصطفى المحبوب)، جملة دالة بتركيبها، وهذا يعني أنّه تخطّى وتجاوز الأفعال الانتقالية والحركية بشكليها المكثف والحركي، فقد نابت الجملة عن حركة الأفعال، ولكن في الوقت نفسه؛ اشتقّ القول و(القول الشعري) مبادراته من خلال التوزيعات القولية الحسّية؛ فالجمل التي اعتمدها، تواصلية من خلال المعاني وهي تدلّ على نسق تركيبها ومنها مثلا:

كأيّ متشرّد يتشدّق = قطع الإسمنت المخلوطة بقهقهاتٍ... نلاحظ أن الشاعر استخدم التشبيه وهو النظرية التابعة لنظرية الاستعارة، ومن خلال هذه الجمل التي عبّر عنها كموضوع يؤدي إلى معنى استطاع أن يكون مع زمنية الحدث، وهو الحدث الآني.

هذه المرة

سأتلصّص على الملائكة

سأعطي الفرصة لقلقي لكي

يرسم طرقاً جديدة للخلاص

أمّا الحب فجميعنا نعرفه

ونوزّعه متى نشاء وبحرّية...

من قصيدة: الحبّ نوزّعه بحرية – المصطفى المحبوب

**

يحرص الشاعر المغربي مصطفى المحبوب على اللغة وتلذذها في المنظور النصّي، حيث أنّها تشكّل جملة من المفردات والجمل المركبة، لذلك فهي نسقية الاستعارة ومنهجها المتواصل، وهي المعنى الذي لا يظهر إلا من خلال علاقات نصّية من جهة وعلاقات زمنية انتقالية من جهة أخرى. ومن خلال المنظور اللغوي فهو الممثل الأول كسياق تواصلي أمام التأويل، وكذلك هو المساحة المعتمدة في مجموعة من الدلائل اللغوية الآنية وغير الآنية.

هذه المرّة + سأتلصّص على الملائكة + سأعطي الفرصة لقلقي لكي + يرسم طرقاً جديدة للخلاص + أمّا الحب فجميعنا نعرفه + ونوزّعه متى نشاء وبحرّية...

يقودنا الشاعر إلى المعنى القصدي، وهو المطلوب عندما نرغب أن نداخله من خلال النصّ وتوزيع الحبّ، هذه المفردة الذكية أصنّفها بمشاهد عديدة، فهي تتقبل التعدّدية وليست لزوما بالمعنى المتداول الذي يقودنا إلى الحبّ (حبّ المرأة فقط) وإنما حبّ المرأة وحبّ الرجل ومحبّة الأشياء، فالحبّ للجمالية لا نستطيع الاستغناء عنه، ولكن، وبما يحمله النصّ من دلالة حسّية وأخرى معنوية. تلتقي المساحة النصّية مع المعنيين، ويبقى المعنى الدلالي الحسّي هو النافذ، ويتميز بشيوعه أيضا.

ينقلنا الشاعر من الجملة الدالة إلى حركة الأفعال الدالة في هذه المرّة، وهو الفعل الحامل للمعنى ويمتثل أمام الجملة كمحرّك أساسي في المساحة النصّية، مثلا: أتلصّص، أعطي، يرسم، نعرف ونوزّع.

تتنوّع الأفعال بين الـ (أنا والـ هو والـ نحن) وقد أراد منها أن تكون مندمجة مع سياق الجملة الحركي، وهو المطلب الذي يبني من خلاله الوسائل القصدية، ليست الوحدات اللغوية هي التي تربط الجمل ببعضها، بقدر ماهي العلاقات النحوية التي تقوم بذلك أيضاً وكذلك الضمائر المتصلة.

السياق الدلالي:

السياق الدلالي أو المعنى الدلالي في السياق، ولكي نكون مع هذا المنظور، فإنّ هناك المعنى المعجمي وهو المعنى المركزي أو المعنى الوضعي الأصلي، كما أكّدت بعض المراجع على ذلك (المعنى الأساسي أو الأولى أو المركزي ويسمى أحيانا المعنى التصوّري أو المفهومي conceptual meaning، أو الإدراكي cognitive. وهذا المعنى هو العامل الرئيسي للاتصال اللغوي، والمثل الحقيقي للوظيفة الأساسية للغة، وهي التفاهم ونقل الأفكار. – علم الدلالة – ص 36 – الدكتور أحمد مختار). وهو المعنى المتصل بالمعنى المعجمي، أي أنّ هناك معنى أصلي للمفردة قبل تركيبها وتحويلها إلى معنى دلالي جديد حسب السياق الذي يحضن المعنى الدلالي.

أحلامي

تشبه بقايا خضار

ساقطة على الأرض..

ترفض الجلوس إلى جانبي

بمقهى الحي الفقير..

تمنيتُ أن تمسك

ولو مرة فنجان الحظ،

تضعه في الجهة المقابلة

لنافذة غرفتي المطلة على الشمس...!!

من قصيدة: أحلامي – المصطفى المحبوب

**

نبدأ قبل كلّ شيء بالمطابقة الدلالية للمعنى، والمطابقة (تعني الموافقة أو الاتفاق) وهي نفسها لدى النحاة، لتلتقي لدى المحدثين أيضاً؛ فالتعيين الدلالي يبدأ متعلقا بتعيين اللغة، ومن هنا تكون العلاقة، ليست فقط علاقة دلالية بالمعنى، وإنما هناك علاقة لغوية أيضاً.

أحلامي + تشبه بقايا خضار + ساقطة على الأرض.. + ترفض الجلوس إلى جانبي + بمقهى الحي الفقير.. + تمنيتُ أن تمسك + ولو مرة فنجان الحظ، + تضعه في الجهة المقابلة + لنافذة غرفتي المطلة على الشمس...!!

إنّ العلاقة التي تواجهنا هنا علاقة (سيمانتيكية) وهي العلاقة الدلالية بين الداخل النفسي، وما يدور من معاني خارج النفس، لذلك فقد لملم الشاعر الأشياء بكلمة واحدة وهي الأحلام، وهي المعنى الدلالي الخاص الذي لا نستطيع اقتحامه، ويشكّل عالماً بذاته، وخصوصاً علاقته بالذات الحقيقية التي لا تبتعد عن الأحلام. ومن هنا، فقد شبّه أحلامه بالخضار، أي أنّ نظرية الاستعارة كانت حاضرة مع كلّ حلم وظيفي من وظائف النصّ المكتوب، وقد شغل النصّ بعض التأويلات الواضحة، وهذا يعني أن الشاعر ابتعد عن الغموض وراح يغذي نصّه بحركة فعلية توضيحية.

أصبحتُ

لا أصدّق الفقراء

يتذمّرون في الظلام

يأكلون أي شيء

يتعلمون في الظلام

يمارسون الجنس في العتمة..

وحينما

تأتي أسراب القسوة

يرتدون لباساً جديداً

ويتسلّون بالتصفيق ...!

قصيدة: الفقراء - المصطفى المحبوب

**

عندما ننظر إلى السياق، لا نكتفي بالمواضع الدلالية، بقدر ما ندخل إلى مواضع التركيب اللغوي أيضاً ومدى احتواء الجملة على النوع الجمالي (الاستطيقي)، لذلك قسّم النقاد القول والقول المركّب إلى طبقتين، (فالأوّل مدلولات التراكيب، وبالمعاني الثواني؛ الأغراض التي يصاغ لها الكلام – التركيب اللغوي للأدب – 13). وفي المنظور الحديث هناك التركيب المختلف، وهناك القصدية، ويتجانسان في منظور القول والقول المتقدم، عندما نكون في المساحة الشعرية.

أصبحت + لا أصدّق الفقراء + يتذمّرون في الظلام + يأكلون أي شيء + يتعلمون في الظلام + يمارسون الجنس في العتمة.. + وحينما + تأتي أسراب القسوة + يرتدون لباساً جديداً + ويتسلّون بالتصفيق ...!

من أدنى محطة ينطلق الشاعر المصطفى المحبوب في تجسيد المعاني، فقد خصّ كلامه من خلال وحدة لغوية مفردة، لكنّها على صيغة جملة (أصبحتُ) والتي يثيرها الضمير المتصل (تاء الفاعل)، وممّا لاشكّ فيه أنّ الشاعر اعتمد القصدية في البنية النصّية، لذلك ينقلنا من لغة شعرية توضيحية إلى دلالة سياقية، حيث أنّ الدلالات التي اعتمدها هي المعاني بذاتها، وهي المنفذ اللغوي الذي اعتمده في تشكيل النصّ من جهة، والتفاعل القائم مع موضوع الإثارة من جهة أخرى.

لكي أكون أكثر وضوحاً عند الوظيفة التفاعلية، فقد صفّ الجمل شاعرنا خارج الترتيب المعرفي، وذلك لكي يغذي النصّ بمعرفة شعرية:

يتذمّرون في الظلام + يتعلمون في الظلام = يأكلون أي شيء

هذه الجمل تقودنا خارج التضليل والإبهام، بقدر ما كانت هي الإصبع الإشاري للتواصل النصّي وهي السياق المتواصل في الوقت نفسه كمهمّة تمتّعية أيضاً تُظهر المدلول الشعري.

نصوص قصيرة..

الحبّ نوزّعه بحرية

مرتبك كالعادة

كأيّ عاشق

كأيّ متشرّد يتشدّق

قطع الإسمنت المخلوطة بقهقهاتٍ..

كأيّ متمرّد على طرق الفرح

متعالياً على كلّ التعاليم

المخلوطة بقطع الخبز..

*

نعم سأحلم يوماً ما

لكنّي مازلت أفكّر

هل بإمكاني أن أجرم الحبّ

أم أترك كلّ شيء للصدفة...

*

هذه المرة

سأتلصّص على الملائكة

سأعطي الفرصة لقلقي لكي

يرسم طرقاً جديدة للخلاص

أمّا الحب فجميعنا نعرفه

ونوزّعه متى نشاء وبحرّية...

.................

أحلامي...!

أحلامي

تشبه بقايا خضار

ساقطة على الأرض..

ترفض الجلوس إلى جانبي

بمقهى الحي الفقير..

تمنيتُ أن تمسك

ولو مرة فنجان الحظ،

تضعه في الجهة المقابلة

لنافذة غرفتي المطلة على الشمس...!!

*

أحلامي

لا تزال تصاحبني

إلى الأسواق ودور السينما

والمحلات التجارية والفنادق..

أكثر من مرة حاولت

أن أشتري لها بيتا خاصاً

لكن راتبي بشكله البليد

يسقط مني كل مرة أفكر

في تناول طعام جميل...!

***

المصطفى المحبوب

المغرب..

......................

الفقراء ..!!

أصبحت

لا أصدق الفقراء

يتذمرون في الظلام

يأكلون أي شيء

يتعلمون في الظلام

يمارسون الجنس في العتمة..

وحينما

تأتي أسراب القسوة

يرتدون لباساً جديدا

ويتسلون بالتصفيق ...!

***

المصطفى المحبوب

المغرب

بين "زينب" الرواية العربية الأولى (1911) لمحمد حسين هيكل و"زينب" الثانية لعارف الساعدي (2020) قرن من الزمان ونيّف، لكنهما لا تتشابهان بالعنوان نفسه فحسب، بل واستخدام اللهجة وعلاقة الإنسان بمجتمعه والمشاعر الرومانتيكية! ولا أقصد هنا المقارنة بين هاتين الروايتين، بل التذكير بتشابه العنوانين بالدرجة الأولى!

تتسم رواية "زينب" لكاتبها د. عارف الساعدي بسردٍ واضحٍ، لكنها ذات مضمون فريد وحزين ومؤلم، بحيث تبدو كأنها قصة حقيقية!

تتحدث "زينب" عن امرأةٍ عراقية تعود أصولها إلى قرون في هذا البلد لكنها تُضطر لإخفاء هويتها الأصلية، و"الانسلاخ" منها، على الأقل ظاهرياً!

تزوجت سعاد من شيوعي عراقي، وعاشت حياة قاسية جداً، وحيدةً مع ثلاثة أبناء بعد إعدامه ومقاطعة أهله لهم، في ظروف مالية قاسية جدا، بالذات في فترة الحصار على العراق. وسأتحدث لاحقا عن المضمون التشويقي!2141 زينب محمد حسنين هيكل

غلاف رواية زينب للكاتب محمد حسين هيكل 1888-1956

تتميز هذه الرواية بحضور حوار فيسبوكي من خلال تواصل البطلة زينب، ابنة سعاد مع صديقها حازم وتختلط اصوات السرد بين "صوت" الكاتب وزينب وآخرين كما سنرى.

تعيش سعاد مع أطفالها الثلاثة في كربلاء، متماهيةً مع سكانها الشيعة، تمارس طقوسهم وظلت مخلصة لها بحسن نية، بعد أن كانت مجرد مجاملات. وصارت تعرف تفاصيل الأماكن المقدسة. ص 69

يسرد حياتها عندما بدأت تتعرف إلى شاب قَدِمَ من الناصرية إلى بغداد، وسكن في احد الأقسام الداخلية، وفي النهاية يتزوجها متجاوزين بذلك االفوارق بينهما. وطبعا هذا الأمر يُحزنُ عائلتَه فتقاطعه.

أغلب حوارات هذه الرواية باللهجة العراقية، مما أعطاها جماليتها وقدرة كبيرة على السخرية والتهكم، كما يظهر ذلك في سردية زينب وملاسناتها. ص 34

حوارات زينب منذ بداية الرواية حتى نهايتها تهكّمٌ دائمٌ، بالذات من المظاهر الدينية، تقولُ لصديقها حازم عن والدتها سعاد: "هي ما تنام، لك هاي أمي بين مدة ومدة تخترع من كيفها مناسبات دينية لأهل البيت، مرة ولادة ومرة وفاة، ومرة استشهاد، وتعرفهم كلهم وتعرف أقاربهم ونسوانهم وولاداتهم، تقول كأنما عاشت ويّاهم..."  ص 36 - ص 37

وتقول له إن أمها سعاد لم تكن متدينة!

الحقيقة، إن الكاتب يتميز بالجرأه فهو يمارس السخرية بموضوعة استغلال الدين وتسييسه في العراق، فيقول أيضاً على لسان زينب: "وكأن الحسين سيأتي أيام محرم هو وأصحابه وإخوته وأبناء عمومته بأطفالهم ونسائهم وقيامه إلى بيتنا ياكلوا ويشربوا، كان هذا الهوس الجنوني هو المهيمن على فكرة أمي، فهي تحضر لشهر محرم كل شيء". ص 37 . وتقول زينب: "ولا ادري لماذا دائما تراودني فكرة مفادها ان بيتنا لا يبعد اكثر من ميل عن ضريح الإمام الحسين فربما يكون الحسين قد وصل بفرسه إلى هذا المكان قريباً من غرفة نومي". ص 38

وهناك ملاحظة بأن الكاتب استخدم صوت زينب بلسانها السليط لتنتقد، فهي الآن تشتم أبيها الميت، يقول عنها الكاتب: "تحتفظ بصندوق من الشتائم"... تتفنن بشتم أبيها مبررة ذلك "باليتم الذي اكلهم وهم صغار... وبالجِدّ الذي طردهم". ص 39 لكنها أيضاً لغة تجسد حالة المجتمع العراقي في السنين الأخيرة بعد الاحتلال حتى وقتنا الحاضر، "لغة الأيام والساعات" على حد تعبير باختين. إنها فترة سقوط الايديولوجيا وقيمٍها، وصعود أخرى مثل الدين السياسي والطائفي، والفوضى باسم الحرية والدمقراطية الأميركية!

تعتمد بنية الرواية على سرد مباشر من خلال فصول مكرّسة لأبطالها: لحياة والد زينب، محسن ووالده داوود حيث يصف انزعاجه من اهتمام ابنه (محسن) بالفكر الشيوعي بتأثير من ابن عمه محمد، بينما كان يريده أن يكون مسلما شيعياً حقيقيا ملتزما، لا سيما أنه ولد بعد نذور وزيارات لآية الله محسن الحكيم، ولهذا أسماه باسمه تبركاً به ص 43. ثم ينتقل السرد عن الأم وتلعب زينب الدور الرئيس فيه منافِسةً والدتها سعاد الشخصية المحورية.

يقول الكاتب عن زينب "إنها تثرثر مع حازم معظم الوقت وتروي له بين كلمات الغزل ذاكرتَها وذاكرةَ أهلها...". ص 44. وهكذا، فنحن هنا أمام سرديتين: الأولى للأم (سعاد) والثانية لابنتها (زينب) "بنت الطبيعة" مرةً بصوتهما وأخرى من خلال الكاتب، الذي يوزعها بطريقة تبدو عفوية، لكنها "عادلة" تتسم بالمناصفة والموائمة.

زينب ناقمة! كأنها تمارس رد الفعل ، أو "الثورة" بدلاُ عن والدتها سعاد الراضية بمصيرها! زينب شابة  تنشدُ الحرية، مطلّقة في جوّ خانق، متعبة من إطفاء غرائزها افتراضياً، تبث همومها إلى حازم، ومنزعجة منذ طفولتها لمقاطعة أهل والدها لهم، وهم يعانون من المرض والقسوة، لكنها تحب جدتها تقول: "تدري حازم، فأنا دائما أذكر حبّوبتي فأنا حاملة اسم جدتي... لأن أبويه كلّش يحبها، وبعدين اسمي منذور على اسمها.". ص 46

زينب تتهكم من كل شيء بلا حدود حتى من والدها الميت: "هدأت زينب بعد موجة الشتائم التي اطلقتها على أبيها، ومن ثم راحت تضحك، وكعادتها بدأت تنسج الحكاية على أبيها وتقول "هَمْ زين انعدم لو بقي حيا لتحول إلى أحد الأحزاب الإسلامية، وهو الآن بدرجة وزير أو عضو برلمان وربما انتفخ جيبه كثيرا، و أطلقت ضحكة مستهترة ومخنوقة في نفس الوقت،... مات نظيفاً، لم تتلوث يداه بأموال العراقيين". ص 48

هل هناك أكثر من هذا النقد اللاذع للفساد وربطه بالأحزاب الدينية التي تسيطر على البلد؟ وهل كان يمكن أن يقدم عليه كاتب آخرمحسوب على دين آخر أو طائفة أخرى؟

في الفصل  الخامس يتحدث الكاتب عن سعاد، يقول: "إنها غريبة الأطوار، ألبومها الوحيد... حين اطّلعت عليه زينب وجدت أمها شخصية أخرى غير تلك التي تغرق بين العدّادات والملاّيات.. امرأة حسناء ... ترتدي الميني جوب..." ص 50

ويتحدث عن اللهجة العراقية البغدادية يقول إنها "مدنية ناقعة بغنج بغدادي متصل بخيوط من عوائل العصر العباسي". ص  50

وبعد إعدام زوجها الشيوعي نذرت حياتها كلها له، وصارت تصلي من أجله لأنه لم يكن ملتزماً لتعوض عن تقصيره! ويتحدث عن زوجها محسن وبنتها زينب التي تحبها امها كما يبدو واضحاً من حواراتهما كأنهما صديقتان، زينب تنادي أمها: "بربوك"!

ولاحظتْ زينب أن والدتها سعاد تحضّر "عصير" عنب بطريقة خاصة، يصفها الكاتب بالتفصيل، لكنها تبعثه لأخيها كمال. قالت زينب: "عندما كبرت عرفت أن هذا ليس عصير، والدتي كانت تتقن صنعته منذ كانت صبية في أحياء بغداد". ص 53 حيث تخلت عن كل شيء، الملابس والزيارات والسهرات والحفلات، ... وارتكنت إلى كل ما يخالف هذه الحياة بخشونتها وفقرها إلا أن الواين بقي رفيقا لها أينما تذهب". ص 53

قد يرى بعضهم أن الكاتب يبالغ في تصوير"تحرّر" زينب هي وصديقاتها في كربلاء في 10 محرم حيث يحضرن حفلات سكر سرية، يتضح ذلك من خلال حديث زينب لصديقها حازم بأنها تشرب الخمرهي وصديقتها التي تدبّره. ص 54

لكن الكاتب يورد مثل هذه الوقائع بالتأكيد رغبةً منه لاكتمال الصورة البونورامية عن المجتمع العراقي، بالذات بعد السقوط! وإن ما يحدث في الخفاء أعظم بكثير من العلن!

بعد احتلال العراق يعاد الاعتبار إلى والدهم محسن ويعتبرونه شهيداً رغم صعوبة الأمر لأنه لم يكن من الأحزاب الدينية، فيحصلون على تعويضات وتقاعد وتُعيّن زينب موظفةً في البلدية، وتقول لحازم: "يعني شتريد؟ بنيّة وبكربلا ومطلقه وبنص مجلس المحافظة تشتغل؟ ويمها الحسين والعباس شتلبس؟ أكو غير هذا الجادر الخانقني، لك آني حتى من أنام اتخيل نفسي لابسه حجاب". ص 54

موضوعة هذه الرواية الرئيسة هي حياة الناس المخفيين من خلال شخصية سعاد المحورية، قد تكون آخر يهودية لم تغادرالعراق، بعد 80 صفحة تعلن إلى أبنائها أنهم يهود الأصل لأنها يهودية والأطفال يتبعون أمهم، وتبدأ المعاناه.

الشخصية الرئيسة الأخرى هي زينب ابنة سعاد تحمل رمزية خاصة، فمن ناحية اسمها زينب تيمناً بجدتها لوالدها، لكنها مهووسة بالجنس، ما هو السبب؟ لماذا تعشق الحرية؟ تزوجت وتطلقت من زوجها الأول الملتزم "الإسلامي" مهند وبدأت بعلاقات جنسية مع (قيصر) صديق طليقها! ثم تتواصل مع شخص آخر(حازم) الفيس بوكي؟

هذه الشخصية برأيي نتاج فترة الحصار والاحتلال ويتمة الأب، "لا تحب الأديان وريثة أبيها" ص 155 وقد تكون باعتبارها من أصل آخر "العرق دساس"، لكنها أيضاً معتدّة "بهويتها" ترفض فيما بعد ضغط أخوالها اليهود لتغيير اسمها زينب كي تحصل على الجنسية الإسرائيلية أو انتقادهم لها لابتعادها عن تعاليمهم اليهودية.

نجح الكاتب في تصوير شخصية سعاد وصدقها وإصرارها على وفائها لزوجها محسن وعلاقاتها مع الناس في كربلاء. قد يعدّها بعضهم ذات وجهين او منافقة، لكنها تجسد الصدق والالتزام في العلاقات رغم ان ابنتها زينب تسهر الليالي هنا وهناك، فهي تلتزم لكنها تخمّر العنب لأخيها كمال "سرّاً"، علماً أن هناك مسلمين يقومون بالأمر نفسه في الخفاء.

يهمني أنا شخصيا كقارىء وناقد الاطلاع على كيفية وصول الكاتب إلى هذا المضمون والحبكة، هل هي قصة حقيقية سمعَ عنها؟ أم أنها مجرد خيال يمكن أن يحدث؟ فمن الصعب مثلاً على اليهودي أن يتخفّى بين مواطنيه المسلمين بحيث يحصل على وظيفة مرموقة، بالذات في القصر الجمهوري مع صدام حسين.

بل إن الكاتب يبين لنا فيما بعد على ألسنة يهود يعملون في دائرة الهجرة الإسرائيلية، يتكلمون عن حال أقرانهم لا يزالون يسكنون في النجف ولا يرغبون الرحيل منها إلى إسرائيل! ويطلع القارىء على معلومات عن مقبرة اليهود في الحبيبية في بغداد وأمور أخرى لا يعرفها عامة الناس عن هذه الفئة من البشر التي عاشت في العراق منذ البابليين، لكنهم غادروه في ليلة وضحاها ليحلّوا محلّ الفلسطينيين بعد أن اغتصبوا أرضهم! والآن تحترق غزه والمدنيون فيها  يعانون الأمرّين بسبب المتطرفين منهم!

لكن المهم هنا هو أن الروائي وُفّقَ بإدارة أغلب الحوارات البغدادية والجنوبية: بين حازم وزينب عبر الفيس بووك، وكذلك بين الأخيرة ووالدتها سعاد بنوع من السخرية والتهكم، وكل أفراد العائلة حتى في تنقلاتهم بين هلسنكي وإسرائيل بحيث إنها تجسد وعياً جديداً بين جيل الشباب.

وكل هذا حدث بفضل خزين اللهجة العراقية التي أعطت زخما كبيرا لموضوعات الرواية رغم ابتعاد بعض مقاطعها عن السردية الفنية واقترابها من الشرح، وهي معروفة وواضحة يمكن تلافيها. وهذه السمة أضحت منتشرة في عدة روايات صدرت في السنين الأخيرة.

اللهجة العراقية، وبالذات الجنوبية هنا قد تحدّد انتشار الرواية بين القراء غير العراقيين، لكنها أعطتها طاقة زاخرة كبيرة جدا وضخّت في شخصياتها الحياة والنمذجة من خلال خزينها الحضاري الذي يعود إلى آلاف السنين. لكن قد يكون التأثير مقتصراً بالذات على قراء يجيدون أو يستسيغون وقع اللهجة الجنوبية مثلاً.

‏الدين من أهم موضوعات هذه الرواية! تطرق الكاتب إليه بجرأةٍ كبيرة تُحسب لعمله وقدمَ العديد من المواقف التي تجسد تأثيره على علاقات الناس ولم يخشَ أن يجاهر بدين "الحب" اهم من الدين العادي. انظر ص 90 عندما يصور حب سعاد لرجل مسلم!

شعور المواطن بالغربة وهو في وطنه موضوعة أخرى كرّس الكاتب روايته لها، من خلال سلوك سعاد، رغم إن اسمها يدل على حقيقة مشاعرها، لكنها تعاني أيضاً، وإلا فكيف تكون معاناة الإنسان النفسية الداخلية عندما يُضطر إلى أن يعيش حياة خفية وآخرى صريحة، فهي تمارس طقوس المسلمين علناً، لكنها تلتزم بيهوديتها بالخفاء!

وعندما تقرر أن تخبر أطفالها بحقيقتها تبدأ التواصل مع اهلها المقيمين في هلسنكي وتبدأ بالتماهي مع أهلها من جديد، وهنا تحصل رحلة الفرح والعذاب وتبدأ بالتفكير بكيفية الهجرة من العراق، وهي مسألة ليست صعبة فحسب، بل قاسية للغاية عليها! العودة إلى الجذور ليست دائماً سهلةً!

وإعادة الاندماج بيهوديّتها والتماهي معها بدون التخلي عمّا تعودت عليه من طقوس المسلمين، أيضاً ليس سهلاً عليها!

لكن زينب بالذات توّاقه إلى ممارسة الحياة بحرية كونها الكبرى والأكثر "وعياً" أو إحساساً من أختها وأخيها، بالذات هي تنتقد مظاهر الدين والمتاجرة به، وهو وعي شبابي جديد ظهر في العراق كرد فعل على الفساد السائد، ولهذا نسمع على لسانها وعلى لسان أخيها أثناء وجوده في إسطنبول لوحده، ليقول لأخته: "شوفي زينب شوفي هاي شوارع إسطنبول لعد شبيها كربلاء بس تراب والنظافة صفر؟" ص 94 " ليش يا رب يعني بكربلا ويم الحسين ويبوكون، بعد وين نودّيهم ليش ذولي تركيا موهمّين مسلمين". ص 94

‏ الحرية هي الموضوعة الأخرى، لكن يتم تصويرها كإنفلات أخلاقي غير مقبول في مجتمع محافظ، أو على الأقل يجري كل هذا في الخفاء وبنوع من النفاق والتظاهر بمظهر آخر! نلاحظ أن ابن سعاد (دانيال) عندما يسافر إلى تركيا يلتقي بامرأة منفصلة عن زوجها، ونفهم من علاقتهما أنها تمارس حريتها لأنها خارج البلد. ص 96

يحدث الأمر نفسه مع زينب عندما تلتقي "صدفةً" بطليقها مهند في ألمانيا وباليهودي سامان في إسرائيل الذي يغدق عليها بالهدايا، وإعجاب يوسف ابن خالتها بها وهذا تأكيد على أن العراقيين مكبوتون، توّاقون إلى الحرية الشخصية.

‏وعبرت سعاد عن صعوبة إخفاء الإنسان لمشاعره وبالذات دينه وتقول: "هل تغيرت ديانتنا في لحظة واحدة كم هي صعبة على المرء أن يخفي حتى دعاءَه من أقرب الناس إليه". ص 108

‏الناستولجيا موضوعة إيجابية في الرواية، يعرف الكاتب تفصيلاتٍ دقيقةً عن حياة اللاجئين ومشاعرهم تجاه وطنهم، والحياة في فنلندا وإسرائيل. اليهود لديهم تسهيلات كثيرة، ويمكنهم السفر بفيزة وبدون التعرض للخطر بفضل تواصلهم مع السلطات المحلية في أغلب بلدان العالم، لكن الكاتب اختار التهريب إلى اليونان ليصف الواقع، وهناك التقى (دانيال) بابن خالته يوسف وسهل له كل مهمات الانتقال إلى فنلندا.

‏وهكذا فالكاتب يهيأ القارىء لذروة النهاية بمقاطع مؤثرة في الرواية:

ولترتيب ذروة النهاية في بنية الرواية  لجأ الكاتب إلى عامل "الصدفة"، حيث التقوا بأهل والدهم، فيبرر ذلك على لسان زينب، "تعرف حازم والله اللي ديصير ويّانه بالروايات ميرهم، والله كأنه فيلم". ص 124

يتحقق الهرونوتوب (العلاقات الزمكانية) في لقاء سعاد وزينب بِأهل والدهم في الصحن الحسيني قبل مغادرتهم العراق حيث  كانوا يزورون "حضرة الإمام علي بن أبي طالب"  "وذهبنا إلى المقبرة مباشرةً وتعبنا كثيرا بجانب القبر وها نحن مسترخين وكان الموقف مؤثراً اتسم بالعتاب والاعتذارات من قبل جدّهم ليس بدون تأثير اللهجة الجنوبية بالذات واختلاطها مع البغدادية. ص 123- 114

يمثل هذا اللقاء مجمل العلاقات الزمكانية ويعيد القارىء إلى صور تراجيدية قبل أكثر من عقدين، وكأننا حقّا في فيلم نتطلع إلى مشاهد قديمة: سعاد وحدها مع ثلاثة أطفال تُطرد من قبل جدّهم بالعراء في زمن الحصار لا من معيل ولا كفيل ولم يلقوا الحنان "المعنوي" إلا من جدّتهم زينب!

وصوّر الكاتب سعاد "اليهودية" أنها على خلق عظيم و"براءة الذمة" أكملت صحيفة زوجها محسن الدينية وملأتها بالفروض والطاعات". ص 131 وتقول زينب: "طبعاً انبهر أجدادي بالعمل العظيم الذي قامت به تلك اليهودية". ص 131

طريقة السرد:

بدأت الرواية بأصوات زينب وصديقها الفيسبووكي والراوي (صوت) الكاتب، كذلك في عدة حالات يأتي السرد بطريقة بسيطة وواضحة سلسة، بالذات في مقاطع يحاول الكاتب أن يبين أن أصول الأديان إنسانية ومتشابهة والرب واحد، بخاصة عند مقارنته بين دعاء كميل وأدعية إسرائيلية. ص 139

وهذا يعني، إنه صوّر أصالةَ سعاد، رغم أنها كانت تجامل المسلمين، لكنها أيضا تعبر عن أحاسيس دقيقة لحب زوجها وتقول له: " كنت لي "أنا سعاد اليهودية" بلسماً تداويتُ به من علل الأنام". ص 139

إنه موقف حساس ومؤلم ومحزن، وعندما تقرر سعاد اليهودية مغادرة العراق تطلب من الحسين السماح، تقول: "أتأذن لي بالخروج، اتأذن لي بالخروج؟" ص 140

وتقول سعاد لبنتها زينب: "شوفي لِج زينب آني علاقتي بالحسين اكثر من كل الناس تشوفين هاي الآلاف اللي تجي وتزور وكلهم مسلمين وشيعة آني أشعر آني سعاد اليهودية أشعر أقرب من هاي العالم كلها من أحجي ويا أبو عبد الله كأنه أحجي ويا أبويه". ص 142

السخرية:

حقيقة إن الكاتب أيضا كرّس عمله لموضوعات إنسانية يتحدث عنها العراقيون دوماً مثل الحنين الى الوطن والمتاجرة بالدين والشعور بتأنيب الضمير بسبب هجرة اليهود "فرهود مال اليهود" بأسلوبه الساخر معتمداً على اللهجة كما قلنا، وبالذات الجنوبية أحيانا.

نقرأ في الرواية: "أخت سعاد سوسن تطلب منهم صابون رقّي الأصلي ومشط خشب وبهارات الصبّه مع قطع قماش كوردي". ص 143

‏تتضح السخرية السوداء أيضا في محاولات حازم الحثيثة لتأمين مكان يختلي فيه بزينب بدون انفضاح امرهما، يُضطر لأخذها إلى منزله، إلا أنه لم يحالفهما الحظ، حيث عادت زوجته إلى المنزل قبل الموعد المتفق عليه مما اضطرهما هو وزينب إلى الهروب قبل أن تراهما، او حادثة الفندق عندما اكتُشفَ أمر زينب مع قيصر "متلبسيّن بالجريمة" لولا رشاوي كبيرة دفعوها لوقعت هي بالذات في فضيحة كبيرة جدا.

وكمثال على سخرية زينب، تقول لوالدتها: "أمي إشكد أنت بربوك أنت مو قبل يومين جنتي يم الحسين وشبعتي صلاة وزيارة وأدعية وهسه تريدين تروحين للكنيس؟ ما ملّيتي من الزيارات والأدعية مال الشيعة حتى تجين تكملينها الأدعية اليهوديه". ص 155

وعندما رأت زينب والدَتها تصلي خلسة وهي تضع ورق الزيتون بدل "تربة": قالت لها بسخرية: "ها أمي شتسوين، ما خلصنا من صلاتج، و الله دوختينه، هسه شنو أنتي على يا دين؟؟". ص 156

وتلاحظ زينب أن مناجاة اليهود والشيعة متشابهة من خلال دعاء كميل. ص 158

‏ويصور الكاتب هوس زينب بالحرية بطريقة ساخرة يجعلها تخرج مع بنت خالتها في احد شوارع هيلسنكي شبه عارية! ص 161

‏زينب تقارن أسلوب كلام اليهود عند حديثهم عن مظلومية سبي نبوخذ نصر لليهود إلى بابل بطريقة حديث رجال الدين الشيعه! ص169

وتسخر زينب، تقول لأمها عندما كانوا في هيلسنكي مع أهل والدتها اليهود: "لا، إن شاء الله تريدين من عدنه نلطم: نلبس أسود ونتصخم بصخام الجدورة تريدين نجيب خالاتي (اليهوديات) وبناتهم زوجات أولاد خالاتي نسوي مجلس حسيني موعيني هيجي تردين؟ ص 172

إنها حالات مؤثرة بالذات بالنسبة للمغتربين العراقيين الذين لم يسمعوا مثل هذه الكلمات العراقية الدارجة:

"ونتصخم بصخام الجدورة"!

***

د. زهير ياسين شليبه

"لم يكن مني إلا أن مزقتها إربا، حينها شعرت بسعادة عظيمة وأنا أرى أوراقها تتطاير في الهواء"

ما بين نكسة عربية افرزت خسارة فلسطين بالكامل واحتلال أمريكي أفرز تمزق العراق يقدم نصر بطل رواية"الآن في العراء" على تمزيق روايته عدة مرات. وكأنه بين هذين الحدثين لم تعد ترضيه أية كتابة أمام عدم قدرتها على التعبير عن خذلان الواقع وملامحه التي أصبحتها. وكأنه بهذا يعيد طرح سؤال لصنع الله ابراهيم" كيف أعبر عن الواقع، كيف أكتب؟"

لا بد بأن النكسة قد أصابت الأمة في عافيتها بعد أن دمرت حلم الوحدة العربية فكانت السبب في سقوطها في أتون اليأس والتشظي والاغتراب. ومما زاد الوضع سوءا ما حدث من احتلال أمريكي للعراق فزاد بذلك تمزق الأمة وتشرذمها،فكان من ابرز آثاره في المجال الأيديولوجي والسياسي والثقافي في معناه العام. ولا بد للمدقق في شخوص رواية "الآن في العراء" أن يلمس ما تمر به من اغتراب لأسباب متعددة منها السياسي والاجتماعي والنفسي. والاغتراب حالة نفسية شعورية تصاحب الشخص وما ينجم عنها من شعور بالقلق والسخط والصراع مع البيئة. وكما أن للاغتراب أسباب فإن لها أشكالاً أيضا ومنها الاجتماعي وهو عجز الشخص عن التأقلم مع بيئته وإحساسه بالعزلة داخل هذا الوسط ويتضح هذا مما جاء على لسان البطل نصر ص٢٠" أعيش في غربة مع من حولي،جربت الزواج وأخفقت،وأخذت عهدا ألا أكرر هذه التجربة مرة أخرى.فقد حاولت أن أتصالح مع نفسي والعالم من حولي فلم أستطع. وطبيبي النفسي لم يستطع أيضا"

كما وجاء الشكل الثاني من أشكال الاغتراب وهو الاغتراب السياسي فعندما يشعر الشخص بالعجز عن المشاركة السياسية والعزلة تجاه دولته بالتأكيد سيعيش حالة من الغربة بسبب هذا القيد ويتضح هذا جليا في موقف نجيب عند خروجه من السجن ص٢٣٢ على لسان نصر" قرر أن يمارس نضاله الحزبي ،ولا سيما بعد موت الرفيق انيس في ظروف غامضة حتى أصيب بالخيبة لاحقا عند إبرام معاهدة السلام في وادي عربة ،فهاجر إلى كندا" فهجرة نجيب جاءت بسبب عدم قدرته على المشاركة في الشؤون السياسية في بلده.

أما الشكل الثالث فهو الاغتراب النفسي ويحصل هذا الشكل عندما يشعر الشخص بانفصاله عن واقعه وانعتاقه إلى عالم من وضع نفسه ويتجلى مثل هذا الشكل على لسان نصر ص١٨٢"كنت ارى جدران الغرفة كانها تتحرك نحوي توشك أن تطبق علي. أغمض عيني لعلها تتراجع للوراء تمنيت حينئذ لو ينبت لي جناحان فأرى نفسي محلقا تحت أكثر من سماء"

أما تجليات الاغتراب في رواية "الآن في العراء" فتمثلت في:

أولا: الأماكن المغلقة حيث تعزل هذه الأماكن الشخص عن العالم الخارجي فيمثل له الملجأ والحماية التي يأوي بها بعيدا عن صخب الحياة. وقد ورد في رواية حسام الرشيد ذكرا لعدد من الأماكن المغلقة كان أبرزها من حيث التكرار غرفة نصر. والغرف عادة توفر لصاحبها جزءا من الأمان الذاتي لكنها حين تصبح مكانا للحزن والوجع تصبح مصدرا للاغتراب. كما حصل مع نصر في أكثر من فقرة في الرواية نأخذ كمثال ما جاء على لسان نصر ص٨١" في المساء عدت إلى البيت جلست طويلا في غرفتي من حولي الليل أخطبوط أسود يلتف حول حواسي كلها" من خلال هذا الشعور نستطيع أن نقول أن غرفة نصر انقلبت مصدرا للخوف والتوتر والاغتراب وهذا هو الاغتراب المكاني.

كما ورد السجن في أكثر من موضع في الرواية منها ما جاء عن الرفيق أنيس ص٢١٠ على لسان نصر" في أول ليلة له في السجن" وقد ورد هذا المكان في الرواية ربما ليحمل للقارئ دلالة على المعاناة وقساوة الحياة التي فرضت على شريحة المثقفين في تلك الفترة التي أفرزتها النكسة حيث أفرزت القومية والإسلامية والشيوعية وغيرها. ومن هنا تأتي الأماكن المقتوحة في الرواية ونورد منها مثالا،ذلك المقهى الذي تجتمع به هذه الشريحة وحيث أن الأماكن المفتوحة هي أماكن للتفريغ والترويح عن النفس إلا أنها في رواية الرشيد تضيق على أبطالها وتدفع بهم نحو الشعور بالاغتراب.

ثانيا: الاغتراب الزماني:

والمتتبع لرواية الرشيد سيجد أن للاغتراب الزماني تجليات كثيرة. والزمن في مفهومه العام معنى مجرد يتسع ليشمل كل ما له علاقة بالحياة أي يتعلق بالكون والوجود فهو الذي يربط الماضي بالحاضر والمستقبل. وقد سجلت رواية "الآن في العراء" حضورا قويا لظاهرة الاسترجاع والاستباق ،وهذه الظاهرة لا تحدث إلا إذا خالف زمن السرد ترتيب الأحداث.

فمثلا تتجلى ظاهرة الاسترجاع وهي العودة إلى الماضي في عدة فقرات من الروايةنذكر منها ما ورد ص٤٠ على لسان نصر عن حبيبته سماء" ما أن تصفحت الكتاب السنوي لخريجي الجامعة في ذلك العام البعيد حتى باغتتني صورتها ،ارتعش قلبي وأنا أبحلق فيها كالمجنون وسرعان ما اشتعلت النيران في هشيمي" فالعودة إلى الماضي واسترجاع ذكرى حبيبته سماء أشعرته بالمرارة لدرجة الاحتراق الداخلي وهذا الشعور بحد ذاته ينم عن اغتراب البطل. كما تجلت ظاهرة الاسترجاع عندما نظر والد نصر نحو صورة رفاقه الذين استشهدوا في حرب ٦٧ ومنها ما جاء ص٦٥ على لسان نصر عن والده" التفت إليه محاولا سبر أغواره كان ينظر إلى صورة رفاقه الخمسة آخر ذكريات حرب حزيران المريرة التي أكلت ساقيه ،حدثت أبي عما يشغله لم يجب كان يصهره الصمت لحظتها" نستشف من هذه الفقرة الاغتراب الزمني الذي تمثل في استرجاع هذه الذكرى.

أما ظاهرة الاستباق الزمني وهو القفز نحو المستقبل وتجاوز اللحظة الراهنة، فقد تجلت في أكثر من فقرة في الرواية إلا أنني للاختصار سأذكر ما جاء على لسان بهجت لنصر ص١١٤" أنا أحلم وربما تحقق هذا الحلم ذات نهار بهيج ثأتزوج ميادة ونعيث معا في الثراء والضراء نتقاثم رغيف الخبز" بهجت يهرب من اغترابه إلى أحداث مستقبلية يتخيل حدوثها بسبب فقده حبيبته ميادة المصابة بالسرطان والتي تحتضر. هذا الاستباق يمنحه بعضا من الطمأنينة والسعادة مع علمه بأن كل هذا لن يحدث ومن هنا يتضح لنا أن هناك اغتراب زمني يتمثل بتمني حدوث شيء لن يتحقق.

ثالثا: الاغتراب الاجتماعي:

وهو انطواء الذات على نفسها وخروجها عن المجتمع ومعاييره الثقافية أي الانفصال الكلي عن المجتمع ومنها ما جاء على لسان نصر عندما دعاه جاره الروائي لزيارته ص٢٢"إنني لا أريد أن اتواصل معه أو مع سواه، أعترف أن هناك هوة بيني وبين ما حولي"

رابعا: الاغتراب النفسي

وهي حالة تصيب الشخص فيشعر باليأس والضعف وفقدان الثقة بالذات والقطيعة مع المجتمع ويتبدى لنا هذا على لسان نصر ص١١٥" نظرت إلى السماء ،بدت لي كمارد عملاق ينام قرير العين يتدثر بالغيوم على جسده سيصحو في أي لحظة ثم يحبسني في قمقمه ألف عام".

ويتعمق شعور الاغتراب عندما يجعل من الكتابة متنفسا له لما ينتابه من حرقه وحنين إللى الحبيبة ويتجلى هذا ص١٥٦ على لسان نصر" الكلمات هي من يجعلني أبترد" وهنا نستطيع القول ان البطل فقد الإحساس بذاته وفر من واقعه إلى عالم الكتابة للتخفيف من معاناته. وتواصل مشاعر الحزن والأسى لتنعكس على شخصية نصر التي تقع بين براثن الإحباط والاضطراب النفسي وهذا ينتج شخصية مستسلمة للخوف ومنفصلة عن ذاتها تأبى الواقع لتكون سجينة الماضي لأنها تجد فيه راحتها النفسية لأن الحاضر تعبير عن الألم والحزن.

وقد تتخذ النفس من الطبيعة ملجأ ومهربا لها لأن الواقع أصبح غريبا عنها منفصلا عن ذاتها فأصبحت الطبيعة عالما ينجو بنفسه الضائعة القلقة والمشبعة بالاغتراب.وقد اتخذ الكاتب الطبيعة في مواقف كثيرة من الرواية كملجأ لبطلها نصر.

***

قراءة بديعة النعيمي

رؤية نقدية في مسرح الشارع

إنَّ المنظور الذي نتناول فيه هذا المصطلح يأتي من كون (مسرح الشارع) غير متفق عليه بسبب عدم الارتكاز على المعنى الحقيقي المستقى من هذا المصطلح، هل أن هذا المصطلح يعني المسرح ذو التوجه الخاص المختلف عن المسرح الذي يقدم في الأماكن الأخرى المغلقة أو المفتوحة لكونها محددة في بناية قد تكون سقوفها مفتوحة أو ما يشابه ذلك؟ أم أن المصطلح يطلق على التشابه الكامن بين عناصر العرض في المسرح عمومًا دون تحديد المكان الذي تقدم فيه العروض المسرحية؟، ومن ناحية أخرى، هل يأخذ هذا المصطلح حضوره المعرفي في أذهان الدارسين لهذه الظاهرة المسرحية في كون هذه العروض هي من أجل التسلية والمتعة من خلال الاستعراضات التي تقدم في أماكن مفتوحة مثل الاحتفالات بذكرى النصر، أو الاحتفالات الدينية وغيرها؟، أم أن هذه العروض لها غاية معينة قدمت على أساسها في الأماكن المفتوحة من أجل الإفلات من سلطة ما، أو جهة رقابية ما وغيرها؟ وإذا اختلف هذا المصطلح عن غيره من أنواع العروض المسرحية التي تقدم في الأماكن المغلقة، هل من الممكن أن يقسم إلى أنواع أخرى داخل التقسيم ذاته وحسب الغرض المقام لأجله؟ أم لا؟.

إنَّ الكتابات الجادة في هذا الموضوع قليلة نوعًا ما، أو موجودة بشكل مبعثر في عدد من المؤلفات التي لا تشير إلى هذا الموضوع بشكل مباشر ، لذا فإن الخوض في تحديد هذا المصطلح واشتغاله فنيًا، وما هو الغرض منه، يحتاج إلى تحديد أهم ملامحه وتتبعها من خلال ما كتب عنه بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر. وسنتناول في هذه الفقرة أهم ما يحدد مصطلح مسرح الشارع، وبعد ذلك نحدد وجهة نظرنا في هذا الموضوع ومدى اتفاقها أو اختلافها في تحديد المصطلح.

يرى كل من (ألان ماكدونالد، ستيفن ستيكلي، فيليب هوثورن) في كتاب يحمل عنوان المصطلح نفسه (مسرح الشارع )، في معنى مصطلح (شارع) بقولهم الآتي: " عندما نقول شارع فإننا نعني فعلياً: حقلاً، أو شاطئ بحر، أو أحد الموالد، أو كرنفالاً أو احتفالاً، وهذا يعني في الحقيقة: أي مكان لا تجد له أبواباً، حيث يتجمع الناس، إذ من الطبيعي أن يكون لك متفرجون " (1). من جهة أولى، هم يميزون بين كلمة الشارع واستخدامها العرفي، وبين ما يقصدونه من كلمة الشارع التي تعني مساحة مكانية يمكن أن تتحول إلى مساحة فنية يمكن تقديم عرض مسرحي عليها. ومن جهة ثانية: هم يميزون أيضاً بين المكان المسرحي الذي يحمل اسم الشارع وبين المكان التقليدي، أو بناية المسرح التقليدية من حيث المكان، أو ما يسمى بمسرح المكان المغلق، أو مسرح العلبة، أو أي مسرح يحمل ما يقابل المكان المفتوح في الشارع، على اعتبار أن مسرح الشارع يمثل المكان المفتوح الذي لا تحدّه جدران وبين المكان الآخر الذي تحدّه جدران بغض النظر عن طبيعة المكانين، أي أن تحديد مصطلح مسرح الشارع قائم على التمييز بين الحد واللّاحد، وهذا ما يسوقونه في تميزهم بين المسرحين في تحديد شكل مصطلح مسرح الشارع من خلال السياق الآتي في كتابهم بالقول: " ونحن لا نعني بهذا المصطلح مسرح (شكسبير)، أو مسرح (أجاثا كريستي)، اللذين يقدمان في مكان عرض مزود بوسائل الراحة، بل نعني به الفرجة المليئة بالضجيج والموسيقى والرقص والألعاب البهلوانية والقافية والإيقاع والألوان، فهو بمعنى آخر: فرجة المسرح في أوسع معانيها وتعريفاتها، وهو كشيء يختلف عن مستوى المسرحية ذات الفصول الثلاثة " (2). ويقصد بالمسرحية ذات الفصول الثلاثة هو ما يقدم من المسرحيات المعتادة داخل المسارح في أوروبا والغرب بصورة عامة. ومن خلال ما يحمله الكلام السابق من تحديدات في التفريق بين المصطلحين في كون أن مسرح الشارع من حيث الفرجة في أوسع معانيها حسب اعتقادهم فيه حرية أكبر من المكان التقليدي الذي يحتوي على قوانين خاصة بالفرجة من حيث المكان والوسائل التي تحدّ من اتساع دائرة الضجيج والموسيقى وغيرها التي يحتويها مسرح الشارع، على اعتبار أن المسرح خارج الأطر التقليدية، أو " الذي يقام ويؤدى خارج الأبواب يجب أن تكون به اضاءة من الورق الأزرق الحساس ويتضمن الحدث الذي يعزز الموضوع. وإذا لم يوجد به استعراض، فسوف ينصرف الجمهور عنه، ويفر منه. ولا تباع التذاكر في مثل هذا المسرح. بينما المكسب الوحيد والفائدة التي يجنيها أصحابه تتوقف على الممثلين والمؤدين الذين يستطيعون بمهاراتهم احتجاز الجمهور هؤلاء المتفرجين والاحتفاظ بهم حتى نهاية العرض "(3)، دون أن يكون لهؤلاء المتفرجين نصيب من الضجر الذي يوجده العرض الرتيب.

ويستمر التمييز من قبل مؤلفي كتاب مسرح الشارع بين المسرحين في كون أن الفائدة المرجوة من مسرح الشارع هي ليست مادية، أو بالأدق مالية يشتغل من خلالها شباك التذاكر بشكل واضح وصريح على خلاف المسرح التقليدي الذي يقوم في أغلب الأحيان على المبدأ (المادي / المالي) والمرتكز في استمراريته على شباك التذاكر. وفي تمييز آخر لابد للقائمين على مسرح الشارع من السيطرة والحفاظ على الجمهور من خلال وسائل أخرى قد تختلف بشكل كبير عن المسرح التقليدي.

وفي تعريف آخر لمسرح الشارع يرتكز فيه المعرّف على قضايا أخرى في الأداء المسرحي ذاته من حيث ربطه بمفهوم الارتجال دون تحديد الجمهور، كون الارتجال يأتي من طرفي المعادلة المسرحية في طبيعة التمثيل المؤدى، وفي طبيعة الجمهور المشاهد للعرض، في العادة يكون في المسرح التقليدي في أغلب الأحيان التمثيل يعتمد الأداء المسرحي المبني على التنظيم المسبق، أي البعيد عن الارتجال، وليس سمة عامة في المسرح التقليدي إبعاد الارتجال، لكن عادةً ما يكون العرض قائماً على نص وفكرة وأداء معيّن مسبقاً يقدم للجمهور، وفي هذه الحالة يكون الجمهور على علم مسبق في ما يقدّم من عرض مسرحي من خلال الإعلانات وعرض نبذة مختصرة عن الممثلين واسم العرض المسرحي، تكون العملية مهيئة مسبقاً بين الطرفين، لكن في مسرح الشارع تكون سمة الارتجال حاضرة حسب رأي المعرّف لمسرح الشارع بين طرفي المعادلة من حيث المجموعة التي تؤدي العرض والجمهور الذي يفاجئ بطريقة العرض وتكون لديه المشاهدة مرتجلة أيضاً، والقصد بالارتجال في المشاهدة عدم تقصد مكان العرض ولا طريقة المشاهدة ولا أمور أخرى متعلقة بهذا المضمون، لذا فإن مسرح الشارع يعرف بأنه" فن مسرح الشارع أو ما يسمى الارتجالي": هو أداء مسرحي يعرض في الأماكن العامة المطلة على الهواء الطلق دون تحديد جمهور معين. حيث يمكن أن يكون في مراكز التسوق، مواقف السيارات، الأماكن الترفيهية كالحدائق، زوايا الشارع. وتم مزاولة مسرح الشارع في البداية كنشاط من قبل الموسيقيين المتجولين، و في المهرجانات والمسيرات، ولكنه تحديداً يقام من خلال مجموعة من الممثلين المتميزين في مجال فنون الأداء". (4) قد يجعل هذه الفنون الأدائية درامية بحتة، أو يدخلها في مجال الأداءات الفنية التي تشمل فنون أخرى غير المسرح.

ويعرف مسرح الشارع على أساس الغرض المستهدف من تقديم عروض مسرح الشارع، فهو لا يحدد طبيعة الجمهور المستهدف، أي يجعل الجمهور هو من يختار، لذا يعتقد من يضع هذا التعريف أن الجمهور وطبيعته ونوعه ليس شرطاً من شروط مسرح الشارع أن يكون محدد بفئة ما، أو طبقة ما، أو عرق ما، بل كل ما يكون حاضراً في العرض هو مستهدّف، وهنا تكمن العشوائية في طبيعة الجمهور، كما أن الأفكار التي يتخذها العرض قد لا تكون فنية تنتمي إلى عالم الدراما التي ترتبط بالخيال والقصص التي ليس لها علاقة بالواقع اليومي، بل أن العرض يستهدف يوميات الناس حتى يكون قريباً منهم في طرحه ووجوده، لذا فإن مسرح الشارع يعني:" كل عرض مسرحي يقدم في الشارع والساحات والأماكن العامة متخذاً من الناس الحاضرين عشوائياً جمهوراً له، ومستلهماً موضوعاته من الواقع اليومي بهدف إيصال أفكاره عن طريق المشاركة التفاعلية في العرض".(5)بين المؤدين والجمهور الحاضر كجزء من المكان المسرحي المحدد في الشارع.

ويركز (باتريس بافي) في تعريفه لمسرح الشارع على مجموعة من النقاط التي يرى بأنها تحقق فكرة هذا المسرح، على الرغم من عدم توضيح نوع الأمكنة التي يقصدها، أي أن طبيعة المكان الذي يشير إليه (بافي) يمكن أن يكون بجدران، لكنه يرى هذا المكان ينتمي لمسرح الشارع، لذا فهو يعرّف مسرح الشارع بـ " إنه مسرح يحصل في الأماكن الخارجية وفي مبان تراثية: شارع، سوق، ميترو، جامعة... إلخ.

إنَّ الإرادة في ترك حرم المسرح تأتي من رغبة في الذهاب لمقابلة جمهور لا يذهب لمشاهدة عرض مسرحي، ويأخذ مبادرة أجتماعية – سياسية مباشرة، ويشاركه بإحياء مناسبة ثقافية وتظاهرة أجتماعية، وينخرط في المدينة كمحرض وكضيف، لطالما كان هناك خلط بين مسرح الشارع والمسرح التحريضي والمسرح السياسي" (6). ومن ثم فإنه يرى في مسرح الشارع، غايات هي كالآتي:

1. إنَّ الغاية التي يهدف إليها مسرح الشارع هي عكس القضية التي اشتغل عليها المسرح التقليدي وهي أن يأتي الجمهور إليه، بينما مسرح الشارع يبحث عن غاية جديدة ويُستعمل بوصفه وسيلة لهذا الغرض، كون الجمهور في أماكن بعيدة عن الأماكن التقليدية والتي يستهدف من خلالها الجمهور الذي يشتغل من أجله في تكوين هذا العرض الجمهور، والذي يُعتَبر غاية هذا المشروع المسرحي.

2. أما الغاية الأخرى هي قلب اتجاه السير لتكون من المسرح إلى الجمهور بدلاً من الجمهور إلى المسرح، حتى لا يكون الجمهور القادم إلى البناية المسرحية مهيأ وقاصداً للعرض، ومن ثم لا يكون الغاية التي يبحث عنها المسرح متحققة، بسبب أن طبيعة الجمهور القادم إليه قد يكون هدفه الترويح عن مشاكل الحياة اليومية من خلال العرض.

3. أما الغاية الثالثة لمسرح الشارع من خلال استهداف الجمهور هو اقتحام المجال الفكري والنفسي والاجتماعي من أجل جعل التفكير في القضية التي يحملها العرض أكثر تأثيراً في حالة المفاجئة والدهشة التي يبحث عنها هذا المسرح.

4. أما الغاية الرابعة هي مشاركة الجمهور هو على طبيعته التي هو عليها دون أن يكون هناك شحن عاطفي واندماج مع ما يعرض، ومن ثم يكون فاصل بين الفضائين، العرض والجمهور، فالمشاركة وكسر مجال التوقع لدى الممثل والجمهور هو من أسس المشاركة الوجدانية الفاعلة في هذا المسرح.

ومن ثم فإن ما عمل عليه مسرح الشارع حسب (بافي) يحسب في رسالته التي ركّز عليها وبيئته الدرامية الفنية التي ارتكز عليها في اشتغالاته، مع أهم ما قدمه وحققه من تطور " في الستينيات بشكل خاص (بريد أند بابيت، والسيرك السحري، والهابيننغ، والتحركات النقابية) (...) وللمفارقة، فإن مسرح الشارع حاول أن يتمأسس وينتظم كمهرجان، ويقيم في إطار مدني أرضاً للفن، أو سياسة للتجديد المدني، مع محاولة البقاء أميناً لخطه الفني بالإشاحة عن ما هو يومي " (7)، لكنه لا يغفل عن اليومي في هذه الجزئية المهمة من عمل مسرح الشارع، فهو يقتحم اليومي وتحويله الى فني، لأن الجمهور في المسرح التقليدي يترك ما هو يومي وراء ظهره ويأتي لمشاهدة ما هو فني، بينما في مسرح الشارع فإن اقتحام اليومي بما هو فني يجعل من الرسالة مغايرة تماماً عما هو تقليدي ومتعارف عليه لدى الجمهور.

ويأتي تعريف آخر يركز على سمة اليومية أيضاً من خلال ما يدور في يوميات الانسان العادي، ويضاف إليه سمة أخرى هي أن مسرح الشارع ليس مسرحاً إيهامياً ولا يسعى لتحقيق الإيهامية في عمله، كون أن سمة اليومية والارتجال التي تناولناها في التعريفات السابقة تكسر رتابة إيهامية الشارع وما اعتاده الناس يومياً من أحداث تجري في الشارع ذاته، لذا فإن تسمية مسرح الشارع "تطلق على عروض مسرحية تجري خارج العمارة المسرحية في الساحات العامة وفي الشوارع (...) فالعرض الذي يجري في الشارع كمكان مفتوح مقتطع من الحياة اليومية لا يسعى بالضرورة إلى تحقيق الإيهام وإنما إلى مشاركة المتفرج " (8). لكن السؤال الذي يطرح في تبيان حقيقة أخرى أغفلها هذا التعريف إذا كانت الأحداث التي يناقشها عرض مسرح الشارع هي جزء من الحياة اليومية، فهل يعيد العرض رتابة الحياة اليومية ذاتها؟، أم يحاول إعادة صياغتها بأسلوب فني جديد يكسر هذه الرتابة في الأحداث اليومية العادية التي تجري في كل شارع؟

إنّ من يحاول أن يقدمه مسرح الشارع عليه أن يعيد ترتيب الأولويات في الحياة اليومية لدى الأفراد من أجل أن يصوغها في تساؤلات أخرى أكثر وعياً من كونها أحداث تجري كل يوم بنفس الطريقة أمام الفرد ذاته، وهذه الجزئية هي ما نعتقد أنها المقصودة في ما يتكرر من عبارة تقديم جزءاً من الحياة اليومية في مسرحي الشارع، وهذه النقطة وغيرها سنحاول أن نناقشها من خلال التركيز على أهم ما خرجت به هذه التعريفات، وما أغفلتها في تحديد مسرح الشارع.

***

أ.د محمد كريم الساعدي

...................

الهوامش

1. ألان ماكدونالد، ستيفن ستيكلي، فيليب هوثورن: مسرح الشارع / الأداء التمثيلي خارج المسارح، ترجمة: عبد الغني داود، أحمد عبد الفتاح، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999ص12.

2. المصدر نفسه، ص 12.

3. المصدر نفسه، ص 12.

4. يندريك هونزيل: سيمياء براغ للمسرح، ترجمة: أدمير كوريه، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1997 ص99.

5. عبد العزيز بن فهد العيد: عن مسرح الشارع والعروض المبتكرة، انترنيت:

https://www.arabicmagazine.net.

6. باتريس بافي: معجم المسرح، ترجمة: ميشال ف. خطَّار، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2015، ص554.

7. نفسه، ص554.

8. الدكتورة ماري الياس والدكتورة حنان قصاب حسين: المعجم المسرحي، بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ب، ت ص 268.

 

ومـضـة بمناسبة الإنتخابات

يحيى السماوي

يـا لـهـا مـن رِحـلـةٍ قـاتـلـة !

مـنـذ عشرين عامًا :

والـركّـابُ لم يصلوا

مدينةَ العدلِ والنزاهةِ والأمان !

//

أيـهـا الـحـالـمـون بـالـمـديـنـة الـفـاضـلـة :

الـحـلُّ لـيـس فـي تـجـديـدِ مـقـاعـدِ الـعـربـةِ

واسـتـبـدالِ الـحـصـان

..

إنـمـا:

بـتـغـيـيـر الـحـوذي والـطـريـق !

***

ومضة قصصية بعنوان حدًدَ الزًمن الخاصً والحصريً لما له من تداعيات ستتسارع في ذهن المتلقًي كحدث يشرك المجموعة في اختيار المفرد وفق علاقة تنظيمية معروفة معلومة .علاقة عمودية تنزل من الحاكم إلى المحكوم .

العنوان كمشروع قولٍ ووليدُ  حدثٍ "مناسبتيً" يقتضي توصية أو اقتراحا أو احتفاء كإثباتٍ لممارسة أحد حقوق الإنسان المعاصر وواجباته. تلك هي المناسبات التي تخرج عن المألوف والمعهود لأنها تهمً الجمع لا الفرد. وبما أنها حدث استثنائيً بمرجعيًة تنظيميّة إجرائية تخوًلها "الديموقراطية" لاختيار مرشًح دون غيره لمنصب مصيريً بالنسبة إلى المجموعة المعنيًة "بالانتخابات" مهما كان توصيفها أو عددها أو مكانها. وما دام الشاعر صنّف احتفاءه بهذه المناسبة في شكل ومضة فالمتلقي سيرفع سقف توقعاته إلى الإختيار الأمثل لغد أفضل فالانتخابات مناسبة تضع حجر الأساس لعهد جديد يأمل أن يكون أفضل من كلً ما سبق.

والنًاخب بدلالة كونيًة سيطلق عنان التصوًر والتوقًع والتًمنًي.

لتكون الانتخابات مفتاحا استباقيًا للفصل بين الموجود المتردي والمنشود المجمّل بالعدل والأمن والرًفاهيًة.

المتن ٱستهلً بأسلوب إنشائيً غير طلبيّ " يا لها" تعجب من تصنيف "رحلة قاسية" نكرة موصوفة. وتحديد العدد الدالً على الطول والقدم بالظرف اللاًزم للإضافة "منذ" ابتداءً وانتهاءً بالحاضر "الانتخابات" والمعدود"عشرين عاما" عدد برر قساوة الرحلة كمًا ليحيل على محطًة زمنيًة تخصً واقع الشاعر وبني وطنه والتي يؤكد قساوتها النفي المطلق في الماضي الممتد إلى الحاضر " والرّكّاب لم يصلوا" الركاب جمع مُعرَّف لان المقصود فئة دون غيرها . لتكون المفعول المقصود "مدينة العدل والنزاهة والأمان" فالمضاف مفرد والمضاف إليه متعدد متجانس مع ما يطمح إليه الناخب من ." عدل ونزاهة وأمان" هذا المرتجى لم يحصل ولم يتمً.

يمرً الكاتب من مجرًد الإخبار الى الانشاء الطلبي التحفيزي "أيًها" نداء للحثً على الإنتباه لسماع مضمون القول الذي يمهًد للمطلوب حثا وتنبيها، غير إنً المنادى في شكله الشبه اسنادي 'الحالمون بالمدينة الفاضلة " حاد بالمقصود من الواقع البيّن إلى الافتراض "المدينة الفاضلة " ليدخل النص في تناص مع فلسفة أفلاطون ومدينته الخياليًة التي حلم بأن يسكنها أُناس طيبون يعيشون فيها في سلام ووئام. الجمهوريةالخياليًة التي حلم بأن يسكنها أُناس طيبون يعيشون فيها في سلام ووئام.

وكما حلم أفلاطون ومضى قبل تحقق أمنياته فإن الحالمين لم يصلوا بعد .والكاتب سيسعى إلى النصح والإرشاد والتوعية لتصحيح الخطإ واقتراح البديل للوصول إلى برً الأمان.

تصحيح مسار في سياق الحصر والتأكيد والاثبات "الحلً" كل ما سبق مثل الاشكال المانع من تحقق "المدينة الفاضلة" بانزياح بيًن يوازي بين المدينة والعربة والقائد المنتخب و "الحصان" صورة شعرية تجسيدية كمثال للقياس تمثًل وجه الشبه والبديل حصريا وبالحاح و" بإنًما بتغيير الحوذي والطريق" والحوذي من يسوق الحصان والعربة " والطريق .مكان مفتوح متواصل والسبيل إلى المدينة الفاضلة المفقودة يوجب التًغيير الجذريً الكلًيً لا الجزئيً .

خاتمة تذهل وتربك وتدعو إلى مراجعة أساسيًات الانتخابات وبتغيير المسار كلًه.

ومضة مكثًفة مرتبة جسّمت معاناة الشًعوب سبب غطرسة الحوذيً وتمسًكه بالقيادة وخطورة الطًريق المفتوح على الأهوال والأغوال والذي لن يؤدي أبدا إلى المدينة الفاضلة إن ظلّ واقع الانتخابات على حاله.

***

حبيبة المحرزي - روائية وشاعرة وناقدة تونسية 

 

قصيدة (مازلْتُ حيَّة) مثالاً

الشاعرة (فضيلة مرتضى) ابنة بغداد/باب الشيخ، والتي وُلدت ونشأت في أزقتها، وفي بيتٍ كان مركزَ اشعاع دينيٍّ وسياسيٍّ وثقافيٍّ لوسطٍ من بسطاء ومكافحين في الحياة البغدادية العراقية. ضمَّ ذلك البيت الشعبيّ البسيط كسبةً يعيشون بعرقِ جبينهم ليوفّروا لأولادهم حياةً آمنةً مطمئنةً ومستقبلاً زاهراً يُشارُ اليه. كما تخرّجَ منْ أعماقِهِ وبتربية أولئك الكسبة منْ عامّة الناس متعلمون، ومناضلون عرفتهمْ سوحُ النضال الوطني في بغداد والعراق، ومثقفون عركوا الحياة، ونهلوا من الثقافة المعاصرة، والفكر التقدمي القريب من نبض الشارع والناس، من العمال والكسبة والموظفين والمتعلمين، وأصحاب المهن مِمَّنْ تحمّلوا مشاق الحياة من أجل لقمة العيش الكريم لهم ولأطفالهم بسواعدهم الصلبة المتينة، انطلاقاً منْ أملهم وتفاؤلهم وإصرارهم العنيد لبناء مستقبل أبنائهم بناءً متيناً، وبتحديهم الظروف الصعبة والقاسية. أولئك المناضلون والمثقفون الذين انطلقوا من ذلك البيت كانوا مدافعين بالفعل والقول والكلمة عن حقوق الناس في الحياة الحرة الكريمة. فكانت لهم بصمتهم المشرقة في تلوين حياة تلك الأزقة المضيئة والمعانية والمكافحة، والتي شهدت وعاشت مختلف الظروف قاسيها وحانيها، مرَّها وحلوها.

هذه الظروف وما مرّت فيها من أحداث عظيمة كان لها أثرها بالتأكيد على حياة وموقف وشعر الشاعرة فضيلة (نورعلي) مرتضى، لتلوّنَها بصبغة الصلابة والقوة والعنفوان، والتفاؤل والتحدي. كما أنّ ما عُرف به أهلُ تلك الأزقة من طيبةٍ وألفة ومحبة وتمازج ونقاء وتلاحم اجتماعي كان له أيضاً ذاك الأثر الإيجابي من الرقّة والتعاطف مع هموم الناس ومعاناتهم شكلاً ومضموناً، مما أضفى مسحة من الشفافية والتفاعل والتعبير الجزل ببلاغة حديثة، وبأسلوب خالٍ من التعقيد والغموض، بحيث جعل منتجها الشعري قريباً من النفس والناس عموماً.

لم تبتعد الشاعرة عن ذاتها كثيراً، ولم تنسَ مسيرتها الحياتية وما عاشته، فقد وظّفت جانباً مما تكتب لهذه السيرة. لكنْ بالقراءة الموضوعية لهذه اللوحة الذاتية نستطيع التقاط الصورة العامة ممتزجةً بالخاصّة، بحيث أصبحتا واحدة تأثيراً وأثَراً وامتزاجاً. فما ترسمه بالكلمات هو ما يعيشه الكثيرون، وهي واحد منهم. وبهذا تخرج من شرنقة الذاتية المحصورة والمُحاصَرة الى حقل الجَمْعيَّة المنفتحة المنطلقة في هواء هذا الكون المترامي الأطراف، والقصيدة المعنيّة هنا خير مثال ودلالة ولوحة.

(فضيلة مرتضى) منذ صغرها كانت أسيرة رغبتها في التعلّم، وفي التزوِّدِ بالثقافة من خلال القراءة المتواصلة، فقد كانت تدخل غرفتي في بيتنا القديم، منذ كانت في الابتدائية، لتستعير من مكتبتي ما يثير اهتمامها وشغفها من مجلات الأطفال. ثم تطورّت لتصل يداها الى الكتب الأدبية والثقافية الأخرى، ثم صعوداً لتكون لها مكتبتها الخاصة، وبعدها كتاباتها شعراً ونثراً، ومقالات سياسية واجتماعية في الصحف والمجلات المختلفة، حتى اليوم. إنها تكتب شعراً بالعربية والكردية، وقد تمّ تلحين وغناء العديد من قصائدها الكردية. لم يمنعها اختصاصها العلمي (هندسة مدنية / رسامة هندسية)، وعملها في دائرة المشاريع النفطية في بغداد، وكذا في الرسم الهندسي في السويد، لم يمنعها من مواصلة ما اختارته من فنّ الكتابة الجمالية والسياسية، اضافة الى العمل الطوعي في المنظمات المدنية الاجتماعية في المهجر، ومواصلة الكتابة شعراً ونثراً.

القصيدة:

مازلتُ حيَّةً

(فضيلة مرتضى)

خيوط القمر الضوئية

سقطت فوق سريرها

تكوّمتْ تحت الغطاء الدافئ

الأحلامُ ألسنتُها بدأتْ ثرثرتَها

تبتكر الأشكال والأحجام والأصوات

جسدها الناعم يتقلّب يميناً ويساراً

تسقط عيونٌ على جبينِها

شاشاتٌ وأصواتٌ تردِّد:

إنها ميتة ..لا، إنها حية ..على الأغلب ماتتْ.

تصرخ ساحبةً قدميها من أرض صخرية

تصرخ من أعماق الكهف المزدحم بالأحجار

فوق الغطاء تسمعُ اشتعالَ الصواعق

ترتطمُ بالجدران والشبابيك المغلقة

تصرخ ..تخرج من كهوف البحار

مشتتةَ الأفكار

بين خصلات الضباب وجوهٌ غيرُ مألوفة

في عيون القمر نام الغضبُ

تنادي بأعلى صوتها: أنا هنا

أنا حية ..ما زلتُ حية

فوق الغطاء سقطت حرارةُ الشمس

الرجلُ القمر غادر

المرأةُ الشمسُ أستيقظتْ من النوم

الأحلامُ أطبقتْ أسنانَها على الثرثرة

دقّتْ أقدامُ الصباح فوق الرياح

أرتشفتْ رحيقَه المولود

ومنْ بشاشة الملامح

حطّت الخيوطُ اللامعة

فوق عينيها وجسدها

منْ أمام بصرها رحلتِ الغيومُ الداكنة

فتحتْ شبابيكُ الحياة مصاريعَها.

ابتسمتْ

تنهَّدتْ:

الجمالُ والحياةُ

يولدان من الصلابة

(13/11/2021 )

***

عبد الستار نورعلي

كانون الأول/ديسمبر 2023

(الشخص الذي وضع هذا اللوح

هو انخيدو أنـّا

مَلكي

ما أبدع َ هنا

لمْ يبدعـْهُ أحد من قبل)

توقيع الشاعرة

"إنخيدوانا"

***

تعد حضارة وادي الرافدين من أقدم الحضارات الإنسانية، الذي أجمع الباحثون على قدمها وتطورها من عصور ما قبل التاريخ حتى بلغت أوج تطورها في آواخر الألف الخامس وبداية الألف الرابع قبل الميلاد، فهي نتاج فكري وثقافي ومادي متراكم منحها خاصية ميزتها عن حضارات الأمم الأخرى. لقد عبرت حضارة وادي الرافدين عن نفسها، حيث قدمت الأنماط الأولى من الأدب العالمي، وكان الشعر أحد الأنماط الأدبية التي أهتمت به. قد لا يعرف القارئ متى بدأ الأدب في التاريخ وما هو شكله؟

أدب وادي الرافدين يعد أقدم الآداب العالمية التي عرفتها البشرية، الغني في مادته وأسلوبه، فكانت الملاحم والأساطير تمثل نصوصاً أدبية وثقافية ذات نزعة إنسانية تعبر عن دقة التفكير وإنفتاح هذه الحضارة على ثقافات الأمم الأُخرى. وقد ظهرت ملامح هذا الإبداع في مطلع الألف الثالـث قبل الميلاد، الذي كشف عن ملامح هذا الإبداع الباحثين الذين أكدوا على أن أصول العلوم والمعارف والفنـون والأداب وجدت أسسها الأولى في حضارة وادي الرافدين. ولعل نصوص النتاج الأدبي لهذه الحضارة تعكس تميزها بنزعتها الوجودية التي عالجت قـضايا الوجود، التي شغلت فكر الإنسان منذ لحظته الأولى الى يومنا، لقد أظهرت آداب وادي الرافدين التفوق الفكري والروحي على آداب الأمم الأخرى. وكان الباحث والآثاري العراقي "طه باقر"، قد ذهب إلى أن للأدب في وادي الرافدين، ميزتين ليستا في غيره من الآداب القديمة: (الميزة الأولى، أنه موغل في القدم وسبق جميع الآداب العالمية، سواء أكان ذلك من ناحية الأساليب وطرق التعبير، أم من ناحية الموضوع والمحتوى، أم من ناحية الأخيلة والصور الفنية. والميزة الثانية أنه وصل إلينا على هيئته الأصلية غير محور، أي كما كتب ودوِّن بأنامل الكتبة السومريين والبابليين قبل 4000 عام، على عكس الآداب العالمية القديمة، التي عانت من التحوير والتبديل والإضافة، على أيدي النساخ والجماعين والشراح).. "طه باقر، في تاريخ الحضارات القديمة".

وأشهر الموضوعات الأدبية التي تناولها أدب وادي الرافدين سواء كان شعراً أم نثراً، أصل الكون والوجود وقصص الطوفان والملاحم وعالم ما بعد الموت والأساطير والشرائع والأبتهالات والتراتيل والأدعية والمزامير وغيرها من الموضوعات.

لا يخلو الأدب الرافديني من تأثير النزعة الدينية وهيمنت المعابد عليه، خصوصاً في نشأته الأولى، من خلال الأناشيد والتراتيل والأدعية والأبتهالات والتسابيح الدينية. وإن الآداب الرافدينية من حيث النشأة الأولى (لم تكن أناشيد أو أراجيز غزلية بل كانت صلوات وأدعية دينية)، "ول ديورانت، قصة الحضارة، الجزء الأول، ص233". أو كما يقول عالم السومريات "صموئيل كريمر" (إن أكثر القصائد الغنائية القديمة لم تدون ألا بعد أن دخل عليها التبديل والتحوير من قبل الكهنة والكتبة)، "صموئيل كريمر، من الواح سومر، ص 334".

في ظل هذه القفزات الحضارية تبوأت المرأة مراكز بارزة في إدارة المشهد السياسي والثقافي والأدبي والديني في حضارة وادي الرافدين، وتمكنت من وضع بصمة في عالمها، أشتهرن كآلهات أو ملكات أو شاعرات أوفنانات أوملهمات أو موظفات أو مغنيات، فهن صنعن جزءاً هاماً من تاريخ حضارات وادي الرافدين. كما تحدث التاريخ عن منح الأكديين الآلهة "عشتار" صفات الحرب والقتال فصارت آلهة الحرب وآلهة الحب في الوقت نفسه.

(يتفق العلماء عموماً على أن المرأة كانت تتمتع بأكبر قدر من الحريات في المراحل المبكرة من التطور الثقافي في بلاد ما بين النهرين، من فترة أوروك (4100-2900 ق.م) إلى فترة السُلالات المبكرة (2900- 2334 ق.م) قبل صعود سرجون الأكّدي (حكم 2334-2279 ق.م). ومع ذلك، فقد لوحظ أن "سرجون" أختار إلهة أنثى (إنانا / عشتار) كحامية له، ونصب ابنته إنخيدوانا (إنخيدوانا)، (2285- 2250 ق.م) كاهنة عليا لأور، وتشير السجلات إلى أن النساء ما زلن يتمتعن بالعديد من الحقوق نفسها كما كان من قبل)، "جوشوا ج. مارك، النساء في بلاد ما بين النهرين القديمة، ترجمة سامي الاطرش". حيث شغلت العديد من الوظائف كملكة وكاهنة وأديبة وشاعرة وغيرها من الوظائف. فقد تم تصنيف النساء وفقاً لوضعهن الأجتماعي:

(- النساء الحرائر من طبقة النبلاء (الطبقة العليا).

- نساء أحرار كاهنات في المعبد.

- الإداريات

- النساء الحرائر من الطبقة الدنيا.

- البغايا أو النساء العازبات.

- الإعتماديات الذين لا ينتمون إلى منزل رجل).

- العبيد الإناث)، "جوشوا ج. مارك،

النساء في بلاد ما بين النهرين القديمة، ترجمة سامي الاطرش".

يصف عالم الآثار العراقي الدكتور "بهنام أبو الصوف" في كتابه (التاريخ من باطن الارض)، الدور المحوري الذي لعبته المرأة في العراق القديم في نهضة المجتمعات القديمة، حين أثبتت قدرتها على أحداث التغيير الفعال في تلك المجتمعات، فكان لها الظهور الأولي في الجانب الديني الذي مثل بواكير العقيدة الدينية في عبادة الإلهة الأم "نينهورساج" زوجة الإله (إنكي)، في حضارة بلاد الرافدين، حيث يتسع مفهوم الأمومة إلى ما هو أبعد من الأمومة البيولوجية، فصور فلاحو العراق القديم الأرض بهيئة المرأة وهي في حالة الحمل. ويذكر الدكتور "خزعل الماجدي"، الباحث في علم تاريخ الأديان والحضارات القديمة، إنه في حدود (8000 ق.م) أكتشفت المرأة الزراعة في شمال وادي الرافدين، ولذلك أصبحت زعيمة المجتمع الفلاحي لأعتقادهم بأن في جسدها قوة خارقة تجعلها تنجب وتزرع، فهي ترمز للخصوبة، وصورتها توضع في الحقول تبركاً. كذلك الآلهة العذراء (إنانا) زوجة الإله (ديموزي) وكانت قصتهما تعبر عن أجمل قصص العشق والحب في سومر.

هذه المنزلة تعكس المكانة التي تمتعت بها المرأة، وبيان منزلتها في مجالات الأدب والكهانة وقيادة الدولة والثقافة والأقتصاد والموسيقى. ويمكن أن نذكر بعض النساء اللواتي خلدهن تاريخ العراق القديم؛

- المغنية "أور-نانشي" أو "أورنينا"، أو "بُلبالة" وهي موسيقية سومرية (2000 ق.م)، كانت تعمل في فرقة "إنانا" للإنشاد، وكانت تغني في البلاط السومري أواخر القرن الثالث قبل الميلاد. ترجم لها "صموئيل نوح كريمر" أغنية (أيها العريس الحبيب إلى قلبي).

- الملكة "كوبابا"، أول امرأة حكمت في تاريخ العراق القديم (2500 - 2330 ق.م)، حيث ورد أسمها في قائمة الملوك السومريين في مملكة مدينة (كيش)، وخلفها على الحكم أبنها "بوزور سوين" ثم حفيدها "أور زبابا".

- ملكة أور "بو آبي" المعروفة باسم "شبعاد" زوجة الملك "آبار كي" أحد ملوك سلالة أور الأولى في فترة حوالي (2650 ق.م)، والتي كشفت البعثة البريطانية في عشرينات القرن الماضي عن مدفنها وهي بكامل زينتها.

-  الملكة الآشورية "سميراميس" أو "سميراميدا" وتعني (محبوبة العالم)، التي كانت زوجة للملك الآشوري "شمشي أدد" الخامس (822-811 ق.م)، حيث حكمت كوصية على العرش بعد وفاة زوجها حتى بلغ أبنها "أدد نيراري الثالث" السن القانونية.

- خلد تاريخ العراق القديم أيضاً، (صانعة الملوك) الملكة "زاكوتو النقية" (705-681 ق.م)، التي تمكنت من أن ترتقي بنفسها من محظية إلى أرملة ملك ووالدة ملك وجدة ملك. كانت من محظيات "سنحاريب" (705-681 ق.م) التي تمكنت بطريقة ما من جعل أبنها "أسرحدون" (681-669 ق.م) يخلف والده في الحكم على الرغم من أنه الأصغر من بين أحد عشر أبناً على الأقل، كثير منهم أنجبتهم الملكة "تاشميتو شراط" زوجة الملك "سنحاريب". أمرت "زاكوتو" ببناء قصرها في نينوى وأصدرت نقشاً خاصاً بها، وفي عام (670 ق.م) سنت (معاهدة زاكوتو) الشهيرة التي تضمنت الأنتقال السلمي للسلطة من أبنها إلى حفيدها "آشور بانيبال"

(668-627 ق.م) الذي جلس على عرش أبيه بعد وفاته. وحافظت على حضورها في البلاط الملكي الى حين وفاتها.

- زوجة الملك "شمشي أدد الخامس"

(823-811 ق.م) "سامو رامات" كانت وصية على عرش الإمبراطورية الآشورية لأبنها الصغير "أداد نيراري الثالث" (811-783 ق.م) بعد وفاة زوجها.

- الملكة "شيبتو" هي ابنة "يارملم" زوجة الملك "زمريلم" (1780- 1760 ق.م) ملك دولة ماري، وكانت متميزة في الحكم والإدارة، وكانت تخلف زوجها في إدارة شؤون البلاد أثناء الحرب، أشتهرت بأفكارها العسكرية.

- سيدة الجنائن المعلقة "أميديا" أو "أوميت" هي زوجة "نبوخذ نصر الثاني"، التي أتت بفكرة الجنائن المعلقة، فكانت تسقي الجنائن من مياه الفرات بواسطة نظام ميكانيكي معقد.

- سيدة الأعمال السومرية "أماه"

(2330 ق.م)، من مدينة (أوما)، كانت متزوجة من رجل يُدعى "أور-سار"، أدارت عملها الخاص بأسمها لتستثمر في العقارات ومشاريع البناء وأشرفت على شبكة تجارة واسعة.

- المشرفة على القصر الملكي "تابوتي بيلاتكاليم" في بابل حوالي القرن (12 ق.م)، تعد أول كيميائية وصانعة عطور مسجلة في التاريخ، كما تشير الالواح البابلية التي تعود إلى حوالي 3200 عام، وهذه العطور كانت تستخدم للأغراض الطبية، كما أنها أول من أكتشف عملية التقطير. - "سيروا إتيرات" (652 ق.م) كبرى بنات "أسرحدون" والأخت الكبرى "لآشور بانيبال". حازت منزلة رفيعة في البلاط الملكي، تظهر بالمهرجانات الملكية إلى جانب أخوتها.

- ملكة كاريا "أرتميزيا الأولى"

(480 ق.م) كانت مشهورة بدورها في معركة سلاميس عام (480 ق.م) خلال غزو "زيركسيس الأول" لليونان، حكمت "أرتميزيا" وصية على أبنها الصغير بعد وفاة زوجها من دون إشراف أو نصيحة ومشورة من أي رجل.

- كان للمرأة دور كبير ومحوري في ملحمة "كلكامش"، إذ يقدم  البروفيسور "إيدوارد غرينستاين" من جامعة "بار إيلان"، رؤية مغايرة للملحمة حين يرى أن عملية تحول "إنكيدو" من الطبيعة الوحشية إلى الحضارة ما كانت لتتم إلا عبر المرأة البغي المعروفة بـ "شمحات" أو "شمخات" بمعنى "الفاتنة". كما يشير، إلى الدور الكبير الذي قامت به الإلهة "ننسون" أم "كلكامش"، وكذلك المرأة "سيدوري" صاحبة الحانة التي عرفت "كلكامش" بالطريق الذي يجب عليه سلوكه ليصل إلى هدفه. في حديثها عن دور المرأة وحقوقها في بلاد الرافدين، تذكر الدكتورة "لمياء محمد علي كاظم" العديد من الكاتبات والناسخات منهن: "سركا" زوجة الملك "اورنمو" (2112 -2059 ق.م)، التي كتبت مرثية لزوجها وأقامت مناحة على موته. وأبنة الملك "سن كاشد" حاكم مدينة الوركاء في حدود (1865 -1833ق.م)، وفي العصر البابلي القديم ورد ذكر عدد من الناسخات التابعات للمعبد كانت معظمهن من الكاهنات منهن "اننا- امامو" التي كان والدها كاتباً، وكذلك ورد ذكر أسم الكاتبة "بليتي-ريمن" إذ كانت كاتبة وأديبة.

إن الغرض من كتابة هذا البحث هو لفت الأنظار الى الشاعرة السومرية "إنخيدوانا" لقلة ما كتب عنها، فرأيت أن أضع امام القراء جانباً من سيرة هذه الشاعرة معتمداً على بعض المصادر في أقتفاء كتاباتها وموهبتها ودورها في الحياة العامة كونها أميرة والدها الإمبراطور الأكدي سرجون، وشاعرة وكاهنة. وفي بحثنا هذا، سوف نستكشف الإرث الثقافي والأدبي الذي تركته أحدى نساء حضارة وادي الرافدين، ألا وهي الشاعرة السومرية "إنخيدوانا" وأثرها في الآداب السومرية والأكدية. وتسليط الضوء على تجربتها الشعرية في التعبير عن ذاتها، والتي مثلت تحدياً للمجتمع الذكوري السائد في عصرها. ودورها السياسي والديني والأجتماعي كناشطة نسوية في مواجهة التمييز الذي تواجهه المرأة.

عُرفت شخصية "إنخيدوانا"، لأول مرة، من خلال عمليات التنقيب التي قامت بها البعثة الأثرية المشتركة من المتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا الأمريكية في مدينة أور، حيث جرى التنقيب للمرة الأولى في خمسينيات القرن التاسع عشر، إلا أن الكثير من المدينة لم يكتشف حتى بدء العمل في عام 1922 وأستمر الى عام 1934، عندما تولى عالم الآثار البريطاني "تشارلز ليونارد وولي" (1880ـ 1960)، قيادة مهمة أستكشافية بتمويل من المتحف البريطاني ومتحف جامعة بنسلفانيا، الغاية من هذه البعثة هو البحث في تاريخ أور بأعتبار أنها كانت موطن "النبي إبراهيم" والبحث عن أدلة مادية تثبت صحة الروايات التوراتية في كتاب العهد القديم. لكن في العام 1927، أي بعد خمس سنوات من بدء الحفر، أكتشف فريق التنقيب أنقاض المقبرة الملكية في المعبد "گيبارو" (معبد زقورة أور العظمى) في مدينة أور مكان إقامت "إنخيدوانا" الرئيسي ومدفنها. الذي ضم العديد من الأضرحة الملكية، والكنوز النفيسة التي يعود تأريخها إلى نحو منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وأثناء التنقيب أكتشفت البعثة قرصاً مدوراً صغيراً من المرمر قرب مكان إقامة الكاهنة الكبرى في معبد (إله القمر) يصور الكاهنة "إنخيدوانا" تترأس طقساً دينياً، وكان هذا القرص مكسوراً ومشوهاً، وبعد ترميمه برزت على ظهره أشكال مصورة وهي: "إنخيدوانا"، ومديرتها "أدا"، ومصفف شعرها "إيلوم باليليس"، وكاتبها "ساغادو". ومنقوش على ظهر القرص كتابة: (إنخيدوانا، امرأة نانا الحق، زوجة نانا، ابنة سرگون، ملك الجميع، في معبد إنانا في أور، منصّة أنتِ بنيتِ، ومنصّة مائدة السماء "آن" أنت سميتِ). تصف مؤرخة الفن بجامعة (هارفارد) "إيرين ج. وينتر" هذا القرص بأنه منحوت من المرمر شبه الشفاف، يبلغ قطره حوالي 25.6 سم وسمكه 7.1 سم. وكشف كذلك عن وجود أشياء أخرى تحمل أسم الكاهنة وأختام والواح من الطين مغطاة بالخط المسماري، وكانت بعض هذه الألواح عبارة عن نسخ من نصوص "إنخيدوانا". لكن كتاباتها لم يتم نسخها أو نشرها وأسنادها اليها حتى أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، صدرت أول ترجمة لكتاباتها من السومرية الى الأنكليزية في عام 1968. وظهر كذلك نقش ملكي آخر بخط الشاعرة "إنخيدوانا"، تصف فيه نفسها: (إنخيدوانا، كاهنة الزيرو، زوجة الإله إنانا، ابنة سرجون، ملك العالم، في معبد الإلهة إنانا). وهذا القرص محفوظ في متحف جامعة بنسلفانيا للآثار في ولاية بنسلفانيا الأميركية. وهناك قرص من الحجر أحتوى على نحت بارز يمثل الكاهنة العظمى وهي ترتدي عباءة طويلة وغطاء على رأسها، وقد تدلت ظفائرها على كتفيها، حاملة الصولجان، تترأس طقساً دينياً أمام مذبح الإله، تقوم بتقديم الصلوات والطقوس الدينية خلال أيام السنة، يتقدمها كاهن يسكب الماء المقدس في إناء، بالقرب منه بناء مدرج شبيه بالزقورة، ومن ضمن المشهد مجموعة من الكاهنات، أما الوجه الآخر من هذه القرص فانه يحوي كتابة مضمونها: (إنخيدوانا كاهنة الإله ننار، زوجة الإله ننار، ابنة سرجون). وعُثر على خاتمين يحملان أسمها، في موقع المقبرة الملكية في المعبد (گيبارو).

وعُثر على ثلاث قصائد طويلة لها في تمجيد إله القمر "إنانا" (سين) وثلاث طوال أخرى، إضافة إلى 42 ترتيلة لـ (إنانا) نفسها. وختمت الترتيلة الثانية والأربعين بتذييل جاء فيه (الذي وضع هذا اللوح هو إنخيدوانا، مليكي، ما أبدع هنا، لم يبدعه أحد من قبل). وهذا التذييل هو الأول في تاريخ الأدب الإنساني يصدر من شاعرة خاطبت قراءها بضمير المخاطب وأعلنت عن أسمها وهويتها في الوقت الذي نجهل فيه هوية معظم مبدعي الأدب السومري، عندما كانت النصوص تكتب مجهولة الكاتب، بما فيها (ملحمة كلكامش).

في كتابها (صلوات إنخيدوانا) تخبرنا المؤلفة الامريكية "بتي دي شونك ميدر" التي نشرت ترجماتها للشعر السومري في كتب عديدة منها: (إزالة لعنة الظلام) و (السيدة ذات القلب الأعظم)، عن أهمية هذه البعثة التي (غيّرت أكتشافاتهم معرفة العالم وفهمه للتاريخ، وحقبة ما قبل التاريخ. اللّقى الغنيّة التي عثروا عليها في تنقيبهم، سلّطت الضوء على 3500 سنة من الحضارة المبكرة أبتداء بالقرى الأولى، التي بُنيت على حافة الأهوار الملحية حوالي 4000 قبل الميلاد، في ما يُعرف اليوم بالعراق الحديث، وتراكمت طبقات عدّة كان وجودها متخيّلا فحسب. كانت أور مركزاً للحضارة السومرّية التي أزدهرت على طول الفرات). فقبل العثور على القرص، (لم يكن الباحثون يعرفون ما إذا كان سرجون شخصاً تاريخياً حقيقياً أو أسطورياً متخيلاً. لم يسمع أحد قط بـ "إنخيدوانا" قبل ذلك. وقد مرت خمس وسبعون سنة منذ أكتشاف "إنخيدوانا"، قام فيها الباحثون بالكشف وفك مغاليق آلاف الألواح الطينية التي وسعت نطاق معرفتنا عن العراق القديم، من بين الخمسة آلاف، أو أكثر، من الألواح الأدبية العراقية القديمة، يوجد من أعمال "إنخيدوانا" ثلاث قصائد طويلة لإنانا، وثلاث قصائد، وأثنتان وأربعون تسبيحة)، "بتي دي شونك ميدر، صلوات إنهيدوانا، ترجمة د. كامل جابر ". ثم عثر لاحقاً على تراتيلها بين آثار المعابد "إريدو" و"سيبار" و"إشنونة". فعلى لوح من الطين هناك كلمات محفوظة لقصيدة طويلة تضمنت عبارة "أنا إنخيدوانا" تقول فيها (لقد توليت أخذ مكانتي في مسكن الحرم. كنت الكاهنة الكبرى. أنا إنخيدوانا)، وهذه أشارة ترمز الى بداية التأليف، وبداية كتابات السيرة الذاتية. يقول الدكتور "خزعل الماجدي" (إن السبب الذي دفع بالمؤرخين والباحثين الى أعتبار "إنخيدوانا" أول شاعرة في التاريخ هو أنها كانت تذيّل أسمها على ألواح قصائدها، فيما كانت ألواح الشعر قبلها خالية من أسم مؤلفيها وكان بعضها يحمل أسماء نسّاخ هذه القصائد وليس أسماء مؤلفيها).

توصف "إنخيدوانا" في الوسط الأدبي العالمي بأنها الأديبة الأولى في التاريخ، التي ساهمت في تغيير قصة الأدب، فهي أول مؤلفة موثقة في العالم، وصاحبة أقدم نص شعري مكتوب، وبذلك تكون أول امرأة شاعرة في التاريخ، وصفها الناقد والمترجم والباحث من (جامعة ييل) المختص في أدب الآشوريات والبابليات، والمولع بأدب وشخصية "إنخيدوانا" "ويليام فولغانغ هالو" بعد قراءة أعمالها وكتاباتها بـ(شكسبير الأدب السومري)، فهي سبقت في كتاباتها الشعرية، ملحمة كلكامش ب(800) سنة، وسبقت الشاعر الإغريقي "هوميروس" الذي كتب (الالياذة والاودسية) بحوالي أحد عشر قرناً. وكان الشائع في تاريخ الشعر العالمي أن الشاعرة الغنائية الإغريقية "سافو" هي أقدم من عرف من النساء الشواعر. ولكن كان هناك الشاعرة العراقية "إنخيدوانا" تقدمت عليها بنحو (1700 سنة)، ف(سافو) عاشت خلال القرن السادس قبل الميلاد، في حين عاشت "إنخيدوانا" في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد.

إن أقدم الإشارات التي تشير الى ممارسة المرأة الكهانة والسياسة وكتابة الشعر، وردت من العصر الأكدي، إذ برزت الأميرة الأكدية "إنخيدوانا" من النساء اللواتي لهن دور في العراق القديم، والتي عُرفت قبل حوالي (4300 عام)، في الفترة (2285 - 2250 ق.م)، في الألف الثالث قبل الميلاد. أي؛ في القرن (23 ق.م).

عرفها علماء الأدب والباحثين في التاريخ والآثار والمهتمين بالآداب القديمة، كشخصية تاريخية، جمعت بين كونها أميرة وكاهنة عليا، وكاتبة للعديد من القصائد الأدبية والتراتيل الدينية مما جعلها شخصية أستثنائية في تاريخ العراق القديم. فهي صاحبة أقدم عمل إبداعي نسائي في التاريخ، حتى عُدت رمزاً لآداب بلاد وادي الرافدين والعراق القديم. ظهر كشخصية نسائية وتاريخية راسخة ومؤثر في ثقافة عصرها، أضافة الى كونها كاهنة فهي شاعرة ومؤلفة وأول ناشطة نسوية في تاريخ البشرية. عاشت في فترة لم تعرف فيه النساء شاعرات أو كاتبات.

كُتب عنها الكثير وترجمت أشعارها إلى الإنكليزية والألمانية، وقالت عنها "روبرتا بنكلي" أستاذة الأدب الأنكليزي في جامعة (تينيسي) بأن صوتها هو (الصوت الحازم، والقوي الذي تحتاج النساء لسماعه)، وذكرتها الباحثة في آداب بلاد الرافدين في (جامعة بيركلي) "بتي دي شونغ ميدر" بأن صوتها (يحطم الصمت الذي فرضته على المرأة الثقافات والعقائد الدينية السائدة في الغرب). ولخصت "جانيت روبرتس" في مقالة لها (إنخيدوانا ابنة الملك سَرجون الأميرة، والشاعرة، والكاهنة)، ما تُمثله بإختصار: (مثلت إنخيدوانا شخصيةً قويةً ومبدعة، إمرأة متعلمة انجزت ادواراً متنوعة في مُجتمع مُعقد، بطموحات لا تختلف عن طموحات نساء اليوم). وهناك من يصفها (شخصية صوفية وبطولية، قد تكون صورتها مقدراً لها أن تستحوذ على الخيال الشعبي في عصر الحركة النسائية الناشئة واستعادة الصور الأنثوية القديمة).

وتخليداً لأسمها قام الأتحاد الفلكي الدولي عام 2015 بتسمية فوهة بركانية على سطح كوكب عطارد بأسم "إنخيدوانا"، وذلك وفقاً لقواعد الأتحاد الفلكي الدولي بتسمية كافة الفوهات الجديدة على سطح عطارد بأسماء فنانين أو مؤلفين أو كتاب، فقد أعتبر الباحثون وصفها للقياسات والحركات النجمية على أنها ملاحظات علمية مبكرة.

فمن هي الأميرة والكاهنة والشاعرة إنخيدوانا؟

ولدت "إنخيدوانا" من أب أكدي وأم سومرية، سنة (2285 ق.م) في بلاد وادي الرافدين في العراق. حصرت عالمة الآثار الأمريكية الدكتورة "جوان جودنيك ويستنهولز" تاريخ حياتها بين (2300 – 2225 ق.م.)، في حين يضع عالم الآثار السير "تشارلز ليونارد وولي" الذي أكتشفها في مقابر أور الملكية، ولادتها ووفاتها بين (2285 – 2225. ق.م).

والدها "سرجون الأكدي" (2334- 2279 ق.م)، مؤسس الإمبراطورية الأكدية الذي دام حكمه نحو خمسة وخمسين عاماً (2371-2316 ق.م).

وحد مدن شمال وجنوب بلاد الرافدين تحت راية واحدة تحمل اسم "الإمبراطورية الأكدية"، ولقب (ملك الجهات الأربع)، وأمها الملكة السومرية "تاشلولتوم" من جنوب العراق، والتي كانت زوجة الملك "لوغال زاغيزي سي" ملك اوروك السابق والتي تزوجها سرجون بعد فتحه لأوروك ومن أولادها(إنخيدوانا وريموش ومانشتوسو وشو انليل وأبيش تاكال) وجدة الملك "نرام سين". وهي كاهنة عالية المقام للالهة "إنانا" (سين) إله القمر. وهناك من يعتقد من الباحثين أن "إنخيدوانا" ليست ابنة "سرجون" من زوجته "تاشلولتوم" التي تتحدث السامية، بل من زوجة سومرية وذلك لطلاقة لغتها السومرية وكتابة شعرها بالخط المسماري السومري.

عاشت "إنخيدوانا" في قصر كبير، مع أبيها وهي البنت الوحيدة بين أربعة أبناء، وهم (وشو انليل، وأبيش تاكال وريموش، وما نشتوسو) وعمة الملك "نارام سين" حفيد الملك "سرجون". تعد "إنخيدوانا" أول أميرة تحتل مركز الكاهنة العليا لإله القمر "إنانا" (سين) في أور، وهو أعلى رتبة كهنوتية في الألف الثالث قبل الميلاد، أضافة الى أنها تشغل مناصب عليا ورفيعة في العديد من المعابد طوال فترة حياتها. فهي حين تولت منصب الكاهنة العليا مسترشدة بسيرة جدتها أم سرجون في أور .

أسمها أنثوي أكدي، تُرجم بأكثر من لفظ "إيهودينا" أو "أنخيدوانا" أو "إنخيدوانا" أو "أنهيدوانا" أو "إن-هيدو-آنا" أو “أنخدوانا"، يتألف من خمس مقاطع سومرية (إن، هي، دو، أن، نا). والتي تعني ("إن" تعني الكاهن الأعلى، و"هيدو" معناها زينة، ومعناها زينة الكاهن الأعلى للإلهة "إنانا"، و"إنانا" هي نسبة إلى السماء أو إله السماء "القمر" أي " زينة الكاهنة الأعلى لإله السماء")، وهناك ترجمات أُخرى لأسمها: (الكاهنة العُليا مَفخَرَة السماء/الجنة)، ولكن أسمها الحقيقي غير معلوم، يقول الدكتور "دنحا طوبيا كوركيس" في مقالته "إنخيدوانا الأكدية أول شاعرة في تاريخ البشرية" (إن المقطع الأول من اسم شاعرتنا له دلالات أكبر بكثير من المعنى التقليدي المتعارف عليه آنذاك. وأهم ما يحمله من معنى هو أنه كان لقباً يكنى به ملوك أوروك القدماء لأن تنصيبهم ملوكاً كان يقتضي اختيارهم بمباركة رجال الدين قبل كل شىء وإقامة أحتفالات رسمية بمناسبة الجلوس على العرش. وربما لأنه لقب ذكوري أيضاً، إختارته "إنخيدوانا" بدلا عن لقب "زرو" الأنثوي الذي كان يمنح للكاهنات من قبلها). (كان من الممكن أن يكون لها اسم ميلاد سامي لكن عند أنتقالها إلى أور، معقل الثقافة السومرية، أخذت لقباً سومرياً)،كذلك يدخل في تركيب أسمها إله السماء (آنو) والذي كانت مدينة الوركاء مركزاً لعبادته، إذ تولت بصفتها كاهنة عظمى العمل في الوركاء فضلاً عن مدينة أور.

قام والدها "سرجون" بتعيينها لتكون كبيرة آلهة القمر "إنانا" المنصب الذي شغلته حوالي أربعين عاماً، فهي أقدم شخصية معروفة تحمل هذا اللقب الديني، أضافة الى كونه منصب ذو أمتياز وأهمية سياسية كبرى. حيث رفعها إلى منصب رئيس الكهنة في أهم معبد في الإمبراطورية الذي يطلق عليه إسم "گيبارو" في مدينة أور السومرية، فكلفها بمهمة توليف المعتقدات السومرية والأكدية، وتقريب ودمج طقوس عبادة الآلهة السومرية "إنانا" والآلهة الأكدية "عشتار". كذلك عينت، كاهنة كبيرة على معبد الإله "آنو" (أبو الآلهة) في الوركاء، إحدى المدن السومرية القديمة، لتكون أول امرأة تترأس معبدين لإلهين. تقول "الدكتورة عزة جاد الله": (قام الملك سرجون بالمساواة بين إنانا (سين) إله القمر في سومر وبين إينانا (عشتار) البابلية، وبهذا أصبحت أسماء "إنانا" و"عشتار" مترادفة في قصائد إنخیدوانا). ومنح الأكديون الآلهة "عشتار" صفات الحرب والقتال فصارت آلهة الحرب وآلهة الحب في الوقت نفسه. وبما أنها كانت كبيرة الكهنة فكانت داهية سياسية، نظمت وترأست مجمع معابد المدينة، بإنشاء مؤسسة دينية جعلت منها أقوى سلطة دينية في زمانها. تمثلت وظيفتها الأساسية، العناية بالمعابد الدينية والإشراف على أملاكها من أراضي زراعية وماشية، والدعاء للملك في الصلوات وفي المناسبات العامة. وكان الغرض من ذلك سياسي وهو فرض سلطة والدها على بلاد سومر وإبقائها تحت السيطرة من خلال الدين، كونها أكدية المولد وسومرية الثقافة، فكان بحاجة الى كاهنة عليا من نسل ملكي ممزوج بين ألهة سومر مع الآلهة الأكدية، كذلك حركت أبيها "سرجون" للبناء في جنوب بلاد سومر وتحديداً في مدينة أور، وأن تكون أميرة وحاكمة لهذه المدينة. ويشكك بعض الباحثين في كونها ابنة سرجون من صلبه، وإنما كانت تتحلى بشيء مميز وكاريزما آخاذة. فقد ظلت تعمل بصفتها كاهنة عليا لأكثر من 40 سنة، كونها شخصية فعالة حتى بعد وفاتها.

يظهر من خلال أعمالها انها كانت (امرأة ذكية، قوية الشخصية، صلبة الإرادة، ذات شمم وكبرياء، وكانت تدرك أهمية موقعها، وتتخذ الموقف الذي يليق بها كأميرة وكاهنة عظمى)... "سامي مهدي، آفاق نقدية، إنخيدوانا أقدم شاعرة معروفة في العالم"

حصلت على ألقاب متعددة فهي : (زوجة "إنانا" لأنها الكاهنة العظمى له. أما ثاني صفة فهي المخلوق الفاني، كونها ابنة الملك "سرجون". أما الصفة الثالثة فهي المحبة والمخلصة لإنانا، وقد ظلت معروفة بتلك الصفات).

يعتقد أن والدها "سرجون" قد عينها في هذا المنصب في أواخر سنوات حكمه وأستمرت فيه حتى خلال حكم إخوتها "ريموش" الذي حكم تسع سنوات، الذي يقول عنه عالم الآثار العراقي "طه باقر" في كتابه (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة)، إن ابن "سرجون" الملك "ريموش" حكم اولاً ولكنه لم يكن الأكبر بل الأبن الأصغر) و"مانشتوسو" الذي حكم خمس عشرة سنة، ثم ابن أخيها الملك "نرام سين"، الذي حكم قرابة ثلث قرن من الزمن. وهو أبن "مانشتوسو". يرجح البعض أن تعيين "إنخيدوانا" جاء لتعزيز سيطرة حكم والدها على الشعب المتمرد في الجنوب السومري للإمبراطورية، لأن من خلال خدمة ابنته الأكدية لآلهة سومرية قد قام بمزج الآلهتين في شخص ابنته، الأمر الذي له أبعاد سياسية أكثر منها دينية، وهذا ينسجم مع سياسة الملك سرجون التوحيدية لبلاد سومر، الذي لقب نفسه بـ(الأخ الأكبر للإله آنو). وعليه من المرجح أن تكون بعض قصائد الكاهنة "إنخيدوانا" ذات غاية سياسية. يرى "د. نعيم الرضوي"، في كتابه (ملامح التوحيد في الديانة العراقية القديمة)، أن قصائدها تكشف عن (روح توحيدية مبكرة)، فهي قامت بخلق تناغم بين المعتقدات السومرية والأكدية.

يرسم لنا الناقد "بول كريوتشيك" صورة للشاعرة "إنخيدوانا" في العمل:(أثناء تواجدها في غرفتها، أو ربما مكتبها، وبصفتها مدير مؤسسة كبيرة ومرموقة مثل معبد نانا في أور، يجب أن تحصل بالتأكيد على أفضل ترتيبات عمل، رونق شعرها يملأُها جمالا بعد أن زيّنَهُ "إيلوم باليليس" مصفف شعرها والموظفون التابعون لها، تُملي على كاتبةٍ لها، ربما هي نفسها "ساغادُو" التي عُثِر على ختمها)، وعمل على خدمتها حارس يُدعى "أدا" وموظف يدعى "كوكودوك".

خلال حكم أخيها "رَيموش" (2315- 2306 ق.م)أعلنت عدة مدن سومرية تمردها، وهذه التمردات تسببت في تدهور مكانة الشاعرة والكاتبة والكاهنة والحاكمة "إنخيدوأنّا" وفي زمن أخيها "ريموش" أشتدت هذه الأضطرابات التي قادها المتمرد السومري "لوكال آن" التي أدت الى أحداث محاولة إنقلاب ضد "إنخيدوانا"، وأجبرها على أن تُنفى، فأخذت تتجول تائهة في البرية بعدما جرى اخراجها من أور، كتبت في قصيدتها نفي من أور تقول:

(سألتني أن أدخل المعبد المقدس

الـ (كَيبارو)

ودخلتُ، أنا الكاهنة العليا

انخيدوانا

حاملة قُـفّــة الطقـوس، ورتّلـت

أدعيتك.

منبوذة الآن بين المجذومين

حتى ماعاد بمقدرتي أن أحيا معك

ظلال تدنو من ضوء النهار،

النور اسّود حولي.

أفياء تقرب من بياض النهار

تغشيه بعاصفة رمل.

وفمي العذب من الشهد.. بَهُت بغتة

وجهي الحلو.. هباء

إدانة إله القمر نانا

أما أنا، فقـد أهملنـي إلهـي نانا

أخذني للخراب

لدروب الخطيئة

أشيمبابار لم يظلمني

إن فعل ذلك، لما أهتم؟

لو فعل، لما أكترث؟

أنا انخيدوانا

كنتُ المظفرة.. المبجلة

لكنه ساقني من حَرَمِي

صيّرني هاربة كسنونوة من النافذة.

حياتي في سعير

جعلني أمشي بين العليق في الجبال

عرّاني من الإكليل

ناوَلني خنجراً وسيفاً

وقال:

أديريهما صوب جسدكِ

قد وجدا لكِ).

وفي قصيدة أخرى تكتب "إنخيدوانا" طلباً للمساعدة إلى الإلهة "إنانا"، ترجوها أن تطلب المساعدة من الإله "آن" (إله السماء) بعد عزلها من منصبها كاهنة عليا، وطردها إلى المنفى:

(تم إحضار القرابين الجنائزية

كما لو أنني لم أعش هناك أبدًا اقتربت من الضوء

لكن الضوء أحرقني

اقتربت من الظل

لكن عاصفة غطتني

أصبح فمي المعسول غثاءً

أخبر آن عن لوغال آن ومصيري! بمجرد أن تخبر آن عن ذلك

سوف يطلق سراحي).

خاض "ريموش" حروباً عديدة لإعادة السيطرة على المدن المتمردة، التي عانت أغلبها من خراب الحرب، وقد خلدت "إنخيدوانا" هذا الخراب في قصيدة رثاء أعتبرت فيها أن الإله تخلّى عنهم، لكن ابن شقيقها "نرام سين" تمكن من إخماد التمرد، وعادت "إنخيدوانا" الى منصبها كاهنة، وأسترداد مكانتها، ويبدو أن الإلهة "إنانا" أستجابت لدعواتها بقمع التمرد وتمكن ابن أخيها "نرام سين"، بتوحيد سومر. وكان لها دور في أقناع الجنوب السومري بأعادة حكم الأكديين عليهم، وساعدت في توفير التجانس الديني الأساسي الذي سعى إليه الملك سرجون. ثم بعد ذلك توفيت، ولكن بقيت ذكراها قائمة كشخصية مهمة في تاريخ بلاد الرافدين.

كانت "إنخيدوانا" امرأة جمعت مناصب ثلاثة، بين المكانة السياسية والقداسة والشعر، فكانت أميرة وحدت الحضارات، وكبيرة كاهنات الآلهة، وشاعرة تخاطب القلوب. ورائدة وناشطة نسوية، تراها تهتم بشؤون المرأة، صاحبة فكر رافض للتمييز الجنسي بين المرأة والرجل، تسعى أن تدخل المرأة في التعليم، ويكون لها وظائف كما الرجل.

أعتبرها المؤرخون والباحثون أول مؤلفة معروفة تكتب بضمير المتكلم في عصر كان مجال الكتابة فيه خاضعاً لسلطة الذكور، مما أظهر مكانتها الدينية الفريدة والعالية. فهي في إحدى قصائدها، تقتل الإلهة "إنانا"، الإله الرئيسي السابق في آلهة بلاد الرافدين آن، وبالتالي تصبح القائد الأعلى للآلهة. يبدو أنها "روجت" لإله أنثى محلي إلى ملكة السماء. أنتقدت المجتمع الذي عاشت فيه، والذي يسيطر عليه الذكور، وربما "إسقاط" رغباتها على خصومها الذكور، إلى حد ما. فقد بالغت في حماستها للدفاع عن العنصر النسوي، تقول الكاتبة الامريكية "أماندا فورمان" (إنه أمر مثير للغاية منذ آلاف السنين تم حجب فكرة "أنا" عن النساء، حتى بعد عصر إنخيدوانا. ومع ذلك كانت هنا امرأة تتمتع بسلطة ومكانة لا تصدق وتطالب بعملها الخاص، منذ ما يقرب من 5000 عام)، وتكشف نصوصها عن شخصية بطولية وعرفانية في آن واحد، حكيمة ذات سطوة، وقد بدأت صورتها تستحوذ على المخيال الأدبي المعاصر مع بروز نظريات النقد النسوي، وإحياء صورة الأنثى في العصور الخوالي. قالت عنها "روبرتا بنكلي" أستاذة الأدب الانكليزي في جامعة (تينسي) بأن صوتها (الصوت الحازم، والقوي الذي تحتاج النساء لسماعه)، اما الباحثة في (جامعة بركلي) "بتي دي شونغ" تقول: بأن صوتها (يحطم الصمت الذي فرضته على المرأة الثقافات والعقائد الدينية السائدة في الغرب).

تقول عنها "جانيت روبرتس" (مثلّت إنخيدوانا شخصية قوية ومبدعة، امرأة متعلمة أنجزت أدواراً متنوعة في مجتمع معقد، بطموحات لاتختلف عن طموحات نساء اليوم)، "عبد الله حسين جلاب، قصيدة النثر تواقيع".

وفكرة تعيينها كاهنة أولى، أصبح تقليداً أستمر لقرون، قام عليها أغلب ملوك بلاد الرافدين بتعيين أخواتهم وبناتهم في ذات المنصب من بعدها.

في كتابه (قصيدة النثر تواقيع) يرى الباحث "عبد الله حسين جلاب"، في دراسة مستفيضة، أن قصيدة النثر هي قصيدة أكدية بأمتياز تفردت بأبتكارها الشاعرة ُ"إنخيدوانا"، فهي رائدتها الأولى في التاريخ البشري، فلا سبق لأي شاعرة أو شاعر من الغرب والشرق، بكتابتها قبل الميلاد. فهي رمز لآداب العراق القديم. كتبت شعرها بلغة سومرية، لأنها تتكلم اللغة السومرية بطلاقة. وتنوع قصائدها بين الحب والجنس والغزل الإلهي، في كتابها (أميرة، كاهنة، شاعرة: تراتيل المعبد السومري لإنخيدوانا)، أكدت "بيتي ميدور"، أن قصائدها وصفت لنا تفاصيل الحياة اليومية السومرية، وطبيعة الحياة داخل المعابد. ويذكر الباحثون أن مؤلفاتها الموقعة بأسمها، دُرست بعد وفاتها، لمئات السنين في العراق القديم، وأستنسخت على مدى أكثر من خمسة قرون.

لم تكن "إنخيدوانا" أول شخص يؤلف قصائد وتراتيل، إلا أن الكتابة بصيغة المتكلم، ومطالبتها بأن تُنسب أعمالها إليها جعل عملها فريداً، فنصوصها تُعد أقدم مثال للكتابة من منظور ذاتي بصيغة المتكلم. ففي مجموعة التراتيل التي نظمتها أضافت حاشية ذكرت فيها أنها:(كاتبة هذا المخطوط اللوحي هي إنخيدوانا، يا مليكي لقد أبدعتُ شيئًا لم يبدعه أحد من قبل)، وعلى الرغم من كون "إنخيدوانا" شاعرة الجنس والحب، إلا أنها كرست نصوصها الشعرية للتسابيح والتراتيل والغزل الإلهي. ربما كان الهدف من وراء قصائدها دينياً وهو تسبيح وتمجيد الإلهة "إنانا"، لكن تنوع الأماكن الجغرافية الواردة بها وأختلافها كان له هدف سياسي هو إظهار مدى سيطرة الإمبراطورية الأكدية على تلك المناطق. فكان لها ولشعرها تأثير كبير في التفكير الديني في حياتها وبعد وفاتها بقرون. وقد وصفتها كاهنة عظمى جاءت بعدها بأنها (امرأة بخواصر مؤهلة في طهرها، جديرة بالكهانة).

تركت الشاعرة "إنخيدوانا" أعمالاً شعرية غزيرة وتراتيل أطلق عليها (تراتيل المعبد السومري)، وكانت تدون كل كتاباتها باللغة السومرية، لأنها تعتبرها لغة دينية مقدسة، مكرسة للإلهة (إنانا)، التي تعد (أول المحاولات في الإلهيات المنتظمة)، ومولعة بالأطلاع على الأساطير والآثار السومرية القديمة. فتراتيلها أقدم أثر أدبي في التاريخ الإنساني، مكتوبة على الرُقم المسمارية قبل 4300 سنة. فقد كتبت قصائدها، بين عامي 2285 و 2250 قبل الميلاد، وعُثر عليها مكتوبة على ألواح فخار مطمورة في أماكن مختلفة في جنوب العراق. ربما كان أهم شيء بالنسبة "لإنخيدوانا" هو أنها (وقعت اسمها) على أعمالها الشعرية. وهذه من النوادر في الآداب القديمة أن يضع شاعر أسمه على كتاباته. فهي أول شخص في تاريخ العالم كتب شعراً ووقع على ما كتبه، وأعلن الملكية لمؤلفاته وأعماله وتصميمه، وسجل أسمه في قصيدة معلومة التاريخ، بعد أن كانت الكتابة مجهولة. لهذا يعدها الباحثون أول مخترعة للتوقيع. وأول مؤلف في التاريخ كتب بصيغة الضمير المفرد الأول، "أنا إنخيدوانا". تقول الكاتبة والمؤرخة "أماندا فورمان" (إنه أمر مثير للغاية: منذ آلاف السنين تم حجب فكرة "أنا" عن النساء، حتى بعد عصر "إنخيدوانا". ومع ذلك كانت هنا امرأة تتمتع بسلطة ومكانة لا تصدق وتطالب بعملها الخاص، منذ ما يقرب من 5000 عام).

في عام 2003 صدر كتاب بالإنكليزية عنوانه (إنانا السيدة ذات القلب الأرحب، قصائد الكاهنة العظمى إنخيدوانا) من تأليف الباحثة الأمريكية ”بتي دو شونغ ميدور” وهي محللة نفسية يونغية، ذات نزعة جنسانية، تعرفت مصادفة على شخصية "إنانا" فراحت تبحث عن كل ما يتعلق بها، وقادها البحث إلى التعرف على "إنخيدوانا" وشعرها، وصار بحثها عن "إنانا" يمتزج ببحثها عن "إنخيدوانا" حتى كأن كلاً منهما هي الأخرى. وواضح أن أهتمامات "ميدور" الجنسانية هي التي خلقت لديها هذا الشغف بالبحث عن طقوس الزواج المقدس لدى السومريين، وبإنانا حبيبة دموزي، وبأنخيدوانا التي بجلت "إنانا" وعظمتها. ولذا جاء كتابها عن "إنخيدوانا" وشعرها في سياق بحثها عن "إنانا"، وقد تضمن الكتاب ترجمة ثلاث قصائد طويلة من شعرها عن إنانا، مع تحليل وافٍ لكل منها.

لقد أرست الشاعرة "إنخيدوانا" تقليداً شعرياً من خلال كتاباتها، لا يزال يحتفظ به، وما تزال القصائد تؤلف على النمط الذي أبتكرته، في ثقافة بلاد الرافدين الحديثة، وتأثيرها على الأدب، منذ أكثر من أربعة آلاف عام. فقد أكدت دراسات الباحثين أن كتابات "إنخيدوانا" كانت ذات قيمة عالية وتنوع في الأسلوب، أستمر تأثيرها لقرون طويلة بعد وفاتها. فكانت قصائدها وترانيمها وصلواتها وتراتيلها عكست مشاعرها الشخصية،حول شؤون العالم وحياتها، فهي كل أعمالها تتحرك بضمير المتكلم. فهي تحاكي مشاعرها الشخصية عن العالم الذي عاشت فيه، في إحدى قصائدها تذكر:

(أنا مَن جَلَستَ مبتهجةً بالنصر هو من إندفع خارجاً من المعبد

كالسنونو جعلني أطير من النافذة

حتى ذهبت أنفاسي

لقد خلعني من التاج لكي أُوائم الكِهانة

وإعطاني خِنجراً وسَيّفاً

وقال لي: هكذا تكوني أنتِ)

يُنسب اليها إنشاء أشكال شعرية ومزامير وصلوات أدت إلى تطوير الأنواع الشعرية. فأحدثت مساهماتها في الأدب السومري ثورة في طريقة السرد القصصي، فكانت كتاباتها مصدر إلهام للأعمال الأدبية اللاحقة.

كانت "إنخيدوانا"، بإجماع الباحثين المختصين، (شاعرة موهوبة وقديرة، كتبت شعرها بلغة سومرية عالية، ويمتاز شعرها بسعة الخيال، وجمال التشبيهات، وحرارة العاطفة، وقوة التعبير عن حياتها الباطنية)، "سامي مهدي، آفاق نقدية، إنخيدوانا أقدم شاعرة معروفة في العالم". كانت تتحدث عن كيفية كتابتها للترتيلة، وعن الجمر الذي كانت تشعله بعد منتصف الليل، والذي يمنحها الإلهام، حيث كانت تؤلف على وهجه أغانيها.

تعتبر قصيدة “نن-مي-سارا” (تمجيد أنانا) من أشهر أعمال الشاعرة "إنخيدوانا" التي كتبتها في المنفى المتضمنه (تمجيد إنانا)، المؤلفة من 153 سطراً، فمن خلالها سجلت فيها عدة تفاصيل عن حياتها، فهي عبارة عن ابتهال أسهبت فيه عن وضعها كأعلى كاهنة، ومعاناتها عن طردها من أور، فهي تكريس شخصي للإلهة "أنانا"، في طلب العون والمساعدة لأنها طردت من منصبها من قبل المتمرد السومري "لوكال آن" الذي أجبرها على النفي الى الصحراء، الذي قام بمحاولة أنقلاب ضدها، خلال حكم أخيها "ريموش"، أجبرها على أن تُنفى الى الصحراء، ولم يُظهر الأحترام المناسب للآلهة ودنس معبد الآلهة العظيم. فهي تظهر توسلها للإلهة "إنانا" كي تعيد إليها مكانتها: (جعلني أمشي في أرض الأشواك، سلب مني الإكليل النبيل لمكتبي المقدس، أعطاني خنجراً وقال: هذا ملائم لك يا امرأة).

تقول "زينب بحراني" أستاذة تاريخ الفن وعلم الآثار في جامعة كولومبيا، ومؤلفة كتاب (نساء بابل: الجندر والتمثل في بلاد ما بين النهرين): "إنخيدوانا" تصف نفسها (كيف عوملت بأحتقار في أثناء الأنقلاب، وفي مقطع من القصيدة تتحدث عن تعرضها لما بدأ أنه أعتداء جنسي).

قام "ويليام هالو" و"فان ديك" بتحرير وترجمة هذه القصيدة من اللغة المسمارية الى الانكليزية عام 1968، ثم ترجمتها "أنيت زگول" عام 1997 إلى الألمانية.

شكلت هذه القصيدة (تمجيد إنانا) نصاً مهماً في مدارس المخطوطات. يقول عنها "سيدني بابكوك" مسؤول معرض (الكاتبة: إنخيدوانا ونساء ما بين النهرين 3400-2000 ق.م) في متحف مورغان في نيويورك :(يمكن القول إن القصيدة أصبحت جزءاً من النصوص المُعتمدة المتعارف عليها بوصفها مناهج أساسية، دُرست على مدار أكثر من 500 عام التالية في مدارس المخطوطات. نتيجةً لذلك، بلغنا ما لا يقل عن 100 نسخة مختلفة من قصيدة التمجيد). كذلك عدت القصيدة نصاً مقدساً في الأدب السومري حتى إن الطلبة والكتبة كانوا يدرسونه خلال العصر البابلي بعد 500 سنة من وفاتها.

أحتوت قصيدة (تمجيد إنانا) على جمالية الفكرة وكثافة الدلالات وتناسق اللغة وروحانية وعمق المعنى، (تمنح المتلقي مساحة واسعة للبحث عن جوانيتها داخل استعارات وتشبيهات ضمنية واخرى تخيلية أخذتنا في رحلة الى تاريخ بتفاصيل حددتها الشاعرة).

توجه الأسطر الـ 65 الأولى إلى الإلهة وصفاتها ومقارنة بكبير الهة سومر، ثم توضح عدم سعادتها أثناء وجودها في المنفى خارج المعبد، وتتكلم عن مدن أور وأوروك، وتطلب شفاعة "انانا"، ثم تسرد الأسطر من 122 وحتى 135 الصفات الإلهية لإنانا.

قصيدة "نن-مي-ساررا" (تمجيد إنانا)

(12-1 يا سيدة النواميس الإلهية كلها، النور المتوّهج، أيتّها التقيّة التي تكتسي بالإجلال، محبوبة السماء والأرض. سيدّة السماء، يامن تزّين صدرها الحلي العظيمة، التي تحب غطاء الرأس المناسب لكهنوتها. يامن تمسك بيدها النواميس الإلهية السبعة! يا سيدتي: أنت حارسة النواميس الإلهية العظيمة. يامن رفعت النواميس الإلهية وعلّقتها بيديها-

يامن جمعت النواميس الإلهية وضمّتها الى صدرها. لقد ملأت البلاد الغريبة بالسم الزعاف كالتنين. وأنت عندما تزأرين على الأرض يختفي الخضار وتصير الأرض قفار.

تهبطين كالطوفان على تلك الأراضي الغريبة،

ياقوة السماء والأرض.. يا إنانا.

أنت (انانا) السماء والأرض

19-13 يامن تمطرين البلاد بالنار الملتهبة.

يا من كرّمها الإله آن بالنواميس السماوية.

أيتها السيدة التي تمتطي الوحوش،

يا من تنطق بالكلمات المقدسة بأوامر آن المقدسة.

يامن تملكين الشعائر المقدسة العظيمة. من ذا الذي يسبر غورها.

يا مدمرة البلدان الأجنبية وواهبة الأجنحة للعاصفة.

حبيبة إنليل.. أنت من أنزّل الرعب على البلدان..

يا من تقف جاهزة لتنفيذ أوامر آن.

33-20 يا سيدتي – يا من تنحني أمام زئيرها خوفا كل البلدان الغربية. وعندما يمثل الناس أمامك، خائفين صامتين من نورك الوهاج وعاصفتك الفتّاكة.

يا من تمسكين زمام أكثر النوامسي الألهية رعباً.

بسببك أنت تنهمر الدموع خوفاً. وتسير الناس على طريق بيت الأحزان الكبرى سيراً.

صرعى أمامك كل البشر يستاقطون.

بقوتكّ ياسيدتي، الأسنان تسحق الصُوان.

حينما تهجمين، تشهبين العاصفة الهوجاء.

وتزأرين كما العاصفة وترعدين.

كل القوى أمام رياح غضبك تنهار، يا أيتها القوية الصامدة.

وأماك شخصك طبول النحيب يقرعون.

41-34 يا سيدتي، ان انونا الآلهة العظام، ينهزمون أمامك إلى الكهوف مثل خفافيش مرفرفة.

فلا قدرة لهم على الصمود أما نظرتك الحارقة. ولا يمكنهم الوقوف بوجه طلعتك المرعبة.

من ذا الذي يقدر على تهدئة قلبك الغاضب؟ فغضبك القاتل نارُ مستعرة لا تبرد.

هل يمكن أن يهدأ مزاجك، ياسيدتي.

مليكتي، هل يمكن أسعاد قلبك؟ يا أيتها البنت الكبرى لسوين. لا يمكن تهدأة غضبك.

59-42 يا أيتها الملكة الحاكمة المُطلَقة في البلاد الغريبة.

من له القدرة على إستلاب أي شيء من مملكتك؟

أمتّد سلطانك على كل السهول والجبال.

وحينما تغضبين على الجبال، تتيبس أعصانها وتصير قاحلة.

أضرمتِ النارَ ببواباتهم العظيمة،

وجرت أنهارُهم دماً بسببكِ، وصار شربه على ناسهم لزاماً.

وأنقادت جيوشهم طواعيةً إلى الأسر أمامكِ،

وتفرقّت وحداتهم أمام سطوتك طواعيةً،

ورجالهم الأقوياء طواعيةً خرّوا أمامكِ لخدمتك.

رياحك بعثرَت مدنهم وأمتلأت بالفوضى أماكن رقصهم.

ورجالهم البالغون سيقوا كأسرى أمامك.

أنت من أصدر ألأمر على المدن التي لم تعلن أنّها ملك لك.

وأيهما لم يعلن الولاء والطاعة يأتي صاغرا تحت أقدامك.

حلّ الفزع بين ظهرانيهم.

فلم تعد الزوجة بحديث الحب تسّر زوجها.

ولا تحدّثه ليلاً عن مكانه في قلبها.

يأيتها البقرة الجامحة البريّة.. الأبنة الكبرى لسوين ( إله القمر).

يا من تفوق بعظمتها الإله آن.

من ذا الذي يجرؤ على أستلاب أي شيء من مملكتك؟

65-60 يا ملكة الملكات العظيمات،

يا من ولدت من الرحم المقدس للنواميس الإلهية.

يا من أصبحت أعظم من أمك التي أنجبتكِ

لحظةَ خرجتِ من الرّحم المقدس،

عارفة، حكيمة، وملكة على كل البقاع الغريبة.

يا مانحة الحياة لكل البشر المزدحمين.

سأتغنّى بأغنيتكِ المقدّسة!

أيتها الإلهة المناسبة حقاّ للنواميس الإلهية.

رائعة كلماتك البهيّة ياسيدتي.

سيدتي ياكبيرة القلب الطيب.

دعيني أذكر خصائلك ونوامسيك الإلهية لك.

73-66 أنا –أنا الكاهنة، إنخيدوانا- دخلتُ أمامكِ إلى معبدي المقدس جيبارو لخدمتك.

حاملةً سلّة البخور وأنشدُ ترنيمتكِ السعيدة.

ولكنّ نذور العزاء كانت زادي وكأنني لم أعِش هناك يوماً.

حلّ النهار وأحرقتني الشمس

وأتى ظلّ الليل، ومعه غطّتني العاصفة القوية.

وفمي الحلو كالعسل صار مرأً كالسم الزعاف.

وقلّت حيلتي على تهدئة الأمزجة

80-74 هلاّ أخبرتي آن عن قدري وعن ما فعله لوغال؟

لعلّ آن يخلصني،

ويقلبُ السحرَ على الساحر ويحرّرني.

فالمرأة ستخلصني من آن ..

تلك السيدة التي تقف الأراضي الغريبة والفيضان تحت أقدامها.

انّها ممجدة هي الأخرى.. ويمكنها أن ترعب المدن.

تقدّمي من أجلي.. علّ قلبها يحّن الي.

90-81 أنا إنخيدوانا، أصلّي إليك، إنانا،

اليّك يا إنانا المقدّسة.

ساُنزِلُ دموعي كشراب حلو.

وسأخبرها عن قراركِ.

لا تقلقي حول اشيمبابار.

وفيما يتعلّق بطقوس التطهير للإله آن المقدّس.

لوغال آن هو من غيّرَ ودنَّس.

وهو لوغال من جرّد آن من الكهنوت المقدّس.

فلم يرتعب ولم يخف من الإله الأعظم.

بيده أضحى خراباً،

ذلك المعبدـ جاذبيته

ولايتنهي جماله للأبد.

وقد سبقني في الدخول الى معبدي المقدس

وكأنه شريك لي. ولكنّه الحسد.

108-91 يا بقرتي البرّية المقدسة الطبية. أخرجي المعتدي وأسّريه.

أين مكاني الأن وسط المكان المقدّس؟

ليقتلع آن الأرض التي تمرّدت بخبث ضد نانا!

ليحطّم آن تلك المدينة!

وليلعنها إنليل.

لتنقطع مشيمة كل طفل فيها من رحِم أمه.

سيدتي! ها قد بدأ النواح!

أتضرّع اليك أن تتركي سفينة نواحك في أراضي العدو.

هل يجب عليّ أن أموت بسبب أغنيتي المقدسة؟

لقـد أهملنـي إلهـي نانا

أخذني للخراب- حطّمني بالكامل

ورماني في أراضي المارقين.

أشيمبابار لم يصدر حكما ضديّ.

إن فعل ذلك، لما أهتم؟

ولو فعل، لما أكترث؟

لقد وقف لوغال منتشياً بالنصر في معبدي المقدس.

ورماني خارج أسواره.

صيّرني هاربة كالسنونو من النافذة.

خارت كل قواي.

جعلني أمشي بين العليق في الجبال

عرّاني من الإكليل– الحق لكاهنة عليا

ناوَلني خنجراً وسيفاً

وقال:

أديريهما صوب جسدكِ

قد وجدا لكِ.

121-109 ياسيدتي الثمينة يامحبوبة آن.

ما أعظم قلبُك. ليخفف همّي نيابة عني.

يأتها الزوجة المحبوبة لدوموزي،

أنت سيدّة الأفق العظيمة وقمّة الأرض.

أستسلمت كل الإلهة أمامك.

ومنذ أن ولدت، كنت أنت الملكة الصغيرة.

اُنظري كيف ترتقين فوق كل الإلهة الكبرى،

التي تقبلّ تراب الأرض الذي تدوسين.

ولكنّ حكمي لم ينتهِ لحد الآن،

رغم معاناتي من حكم عدو يطوقنّي وكأنه حكمي.

لم أتعدَّ على السرير المزخرف بالورود.

ولم أكشف أسرار نينغال لأي شخص.

يا سيدتي يا محبوبة آن.

هلاّ عطفت علي.

هل يحن قلبك على الكاهنة العليا لنانا!

138-122 ليكم معلوما ً ! ليكن معلوماً!

لم تتكلّم نانا لحد الأن.

لقد قال " بأنه تحت تصرفك"

ولم يكن معلوما بأنك شامخة كالسماء.

ولكين معلوما بأنك واسعة كالأرض.

وليكن

بأنك من يحطّم أراضي المتمردين.

وليكن معلوماً بأنك على الأراضي الغريبة تزأرين.

وليكن معلوماً بأنك رؤوسهم تسحقين.

وليكن معلوماً بأنك لجثثهم كالكلاب تمزّقين.

وليكن معلوماً أنك لنظراتك المرعبة توزعين.

وليكن معلوماً أنك لعينيك المخيفة تفتحين.

وليكن معلوماً بأن عينيك بالرعب تبرقان.

وليكن معلوماً بأنك لا ترتعدي ولعدوك لا تستسلمين.

وليكن معلوماً بأنك دوماً بنصرك تحتفين.

نانا لم يتكلم لحد الآن. وبأنه حينما قال بأنه " تحت تصرفك".

قد جعلك عظمة على عظمةٍ تزدادين.

يا سيدتي! ها قد أصبحت أعظم العظماء!

سيدتي يا محبوبة آن . سأتحدث عن كل غضبك.

لقد كومت الفحم في المبخرة وحضرّت شعائر التطهير.

وأضحى بأنتظارك.

عسى ولعل أن يرّق قلبك علي.

139-143 وبما أن الأمر أكتمل ! أكتمل بالنسبة لي، ياسيدتي المبجلة المقدّسة.

عسى أن يعيد الكاهن المنشد في وضح النهار

ما تلوته اليك من صلوات في آخر الليل.

154-144 السيدة القوية المحترمة في تجمع القادة،

تقبّلت صلواتها ونذورها.

وحنّ قلب إنانا المقدّس عليها وهدأ.

والضوء جميلاً قد أضحى،

وملأتها الفرحة.

وهي تكتسي بالحسن وتزخر بفتنة الأنوثة.

وصارت مبتهجة كضوء القمر البازغ .

وخرجت نانا لتحدّق فيها جيداً،

وباركتها الأم نينجال.

ليعش مجدُكِ يامدمرة الأراضي الغريبة.

يامن منحك الإله آن النواميس الإلهية.

الى سيدّتي التي تكتسي بالحسن و الجمال،

الى إنانا).

أشتهرت "إنخيدوانا" بأعمال أدبية أخرى، بالأضافة الى نصها "نين مي سار را" (تمجيد إنانا)، الذي يتألف من 153 سطراُ. هناك نصان أخران منسوبان لها وهما "إن نِن سا غور را"، وتعني (العاشقة كبيرة القلب) مكونة من 274 سطراُ"، وهي غير مكتملة، قام "سوبيرغ" بتحريرها عام 1976. و"إن نِن مي هوس آ" وتعني (إلهة القوى المخيفة). ترجمت من قبل "ليمِت" عام 1969. وفي كل واحد من هذه الأعمال، تتكلم بصيغة الشخص الأول وليس صيغة الشخص الثالث.

أضافة الى تراتيل كتبت لكل معبد من المعابد الرئيسية في مدن سومر وأكد والبالغ عددها 42 ترتيلة دينية، وهذه المجموعة من التراتيل تعتبر من قبل الباحثين كأول محاولة لتنظيم الدين (اللاهوت)، وفيها ذكرت "إنخيدوانا" بنفسها بأنها الأولى من نوعها: (مَليكي شَيئاً ما قَد صُنِع لَم يُصنع مثله قبلاً). يقول عنها المؤرخ "ستيفن بيرتمان" : (تزودنا الترانيم بأسماء الآلهة الرئيسية التي عبدها سكان بلاد ما بين النهرين، وتخبرنا أين كانت معابدهم الرئيسية. هذه الصلوات هي التي تعلمنا عن الإنسانية، لأننا نواجه في الصلوات الآمال والمخاوف من الحياة البشرية اليومية).

ويعود الفضل الى "إنخيدوانا" في إنشاء نماذج من الشعر والمزامير والصلوات المستخدمة في جميع أنحاء العالم القديم والتي أدت إلى تطور الأنواع المعترف بها في الوقت الحاضر.

ترجمت أعمالها هذه من قبل فريق من خبراء اللغات القديمة في جامعة (بركيلي) بكاليفورنيا نثراً، قبل أن تصاغ الترجمة شعراً إلى الإنكليزية على يد الباحثة في آداب بلاد الرافدين "بيتي دي شونغ ميدر". أما عالم السومريات ”صموئيل نوح كريمر” والشاعرة “ديان وولكستين” قاما بترجمة أعمالها وجمعها في سرد موحد تحت عنوان (إنانا ملكة السماء والأرض) ونشرتها(دار هاربر بيرنيال) عام 1983، وكانت نسخة "وولكستين" مصدر إلهام لعدة أعمال شعرية أخرى كـ(ملكة السيوف) للشاعرة "جودي غران"، و(بين الآلهات) "لآنّ فينتش".

أما قصيدتها (رثاء لروح الحرب) أو (ندب روح الحرب) هي أول قصيدة مسجلة رداً على الحرب وأهوالها كما وصفتها.

(تطحنُ كلَ شيء في المعركة ....

إله الحرب، بأجنحتك الشرسة

تقطّعُ الأرضَ وتشنّ هجوماً

متنكرا في زي عاصفة مستعرة،

تذمر كإعصارٍ هديرٍ،

تصرخُ كما العاصفة،

رعدٌ، غضبٌ، هديرٌ،

كصوت طبول الحرب،

تطرد الرياح الشريرة!

تمتلئ قدماك بالقلق!

على قيثارة تنهداتك،

أسمع صراخك بصوت عال.

مثل الوحش الناري تملأ الأرض بالسم.

كما الرعد تهدرُ على الأرض،

تتساقط الأشجار والشجيرات أمامك.

أنت دم يهرول أسفل الجبل،

روح الكراهية والجشع والغضب،

المسيطر من السماء والأرض!

نيرانك ترفرف على أرضنا،

ممتطية وحش،

مع الأوامر التي لا تقهر،

عليك أن تقرر كل مصير.

أنت تنتصر على جميع طقوسنا.

من يستطيع أن يشرح لماذا تستمر في ذلك؟).

وفي ترنيمة الى انانا (العاشقة صاحبة القلب الكبير)، تكمن العاطفة والحماس:

(أنت رائعة، يُمتَدَحُ اسمك، أنت وحدك الرائعة!

سيدتي ... أنا لك! هكذا سأظلّ الى الأبد. ! عسى أن يحُّنُ قلبك عليّ!

الهويتُكِ أًزهرًت في الأرض! شهد جسدي عقابك الكبير.

الرثاء، المرارة، الأرق، الضيق، الانفصال ... الرحمة، العطف، الرعاية،

إن التسامح والتكريم من شيمك.

ولك القدرة على التسبب في الفيضانات وقهر الأراضي العصيّة وتحويل الظلام الى نور).

ومن نصوص الشاعرة "إنخيدوانا" الاخرى، ترتيلة في مدح إلهة الحب والحرب انانا (عشتار)، التي تؤكد انها حظيت بقبول الإلهة انانا، التي عرفت في المعتقدات السومرية بهذا الاسم، أم عند الأكديين، عرفت باسم "عشتار"، التي تحولت من مجرد إلهة محلية للطبيعة، والحياة، والخصوبة، إلى ملكة السماء. فكانت الإلهة الأكثر شعبية في جميع بلاد الرافدين.

يقترن اسم عشتار في أدب العراق القديم باسم الراعي "دموزي". فهو حبيبها وزوجها وشريكها في طقس أحتفالي سنوي كان ملوك العراق القديم يقيمونه في الربيع لكي تنعم البلاد بالخصب، هو ما يعرف بطقس (الزواج المقدس).

وكانت "إنخيدوانا" (عظمت إيننا وأسبغت عليها من الصفات، ونسبت إليها من القوى والقدرات، ما يضعها في قمة البانثيون الرافديني)، فهي تشعر بوجود صلة حميمة عميقة بينها وبين "إيننا"، وتعتقد أن حياتها ومصيرها يتوقفان على هذه الصلة، ولعل هذا هو سر تعلقها بها وتعظيمها لها. هذه الترتيلة طويلة تحتوي على أدعية ومدائح موجهة إلى الإلهة مستعرضة قدراتها الكبيرة على إنزال العقاب والدمار، فهي العاصفة المدمرة التي يرتعش لهولها البشر وهي إلهة الحرب الغاضبة التي لا يعرف قلبها الرحمة والتي ينهزم أمامها الآله مثل الخفافيش. في قصيدتها (تسبيح من أجل إنانا) التي تعتبر من أهم أشعارها تتحدث بلسان الأنا في قصيدتها، التي تتألف من 153 بيتاً.

"تسبيح من أجل إنانا"

(يا ملكة كل شيء، أيتها الضوء المتوهّج/أيتها المرأة الواهبة للحياة/

أنتِ يا من تجلبين الطوفان من الجبل،/أيتها الشاهقة، يا إنانا السماء والأرض،/يا من تمطرين ناراً ملتهبة على القفار/يا من بعثها إليّ الإلهُ (آن)،/أيتها الملكة التي تمتطي الوحوشَ/والتي نطقت بالكلمات المقدسة/تنفيذاً لأوامر (آن) المقدسة،/من يستطيع أن يسبرَ شعائركِ المقدسة!/يا مدمّرة الأراضي الأجنبية/منحتِ الأجنحةَ للعاصفة،/

حبيبة (أنليل)- وجعلتها تهبّ على الكون،/وحملتِ أوامر (آن)./مليكتي،/

الأراضي الغريبة تطأطأ أمام صرختكِ،/رعباً وخوفاً من الريح الجنوبية أتى البشرُ/إليكِ بضجيجهم الملتاع/حملوا صراخهم إليكِ/ووقفوا أمامك يولولون وينتحبون/وأمامكِ جلبوا النحيبَ العظيم لشوارع المدينة./

مليكتي،/أنتِ الافتراسُ كلّه في قوّتكِ/وظللتِ تهاجمين مثل ريح مهاجمِة،/وظللتِ تعولين أعلى من الريح المعولة،/وظللتِ ترعدين أعلى من الرعد،/وظللتِ تئنّين أعلى من الرياح الخبيثة،/قدماكِ لا يمكن أن يصيبهما الإعياء/وجعلتِ الولولة تُعزف على "قيثارة النحيب."/مليكتي،/جميع الآلهة العظام/فروا أمامكِ مثل خفافيش مرفرفة،/لم يستطيعوا الوقوف أمام وجهك المهيب،/لم يستطيعوا الاقتراب من جبينكِ المهيب،/من يستطيع أن يهدّئ قلبكِ الغاضب!/قلبكِ المهلِك لا يمكن تهدئته!/أيتها الملكة، يا سعيدة الروح،/ يا فرِحة القلب،/يا من لا يمكن تهدئة غضبها، يا ابنة الإثم،/يا ملكة، يا الحاكمة المُطلَقة في البلاد،/

من قدّم ولاءً كافياً لكِ!/الجبل الذي امتنع عن تقديم الولاء لكِ/يبست أعشابه وصارت قاحلة،/أضرمتِ النارَ ببواباته العظيمة،/أنهارُه جرت دماً بسببكِ،/وناسُه نشفَت مياههم،/جيشهُ انقادَ طواعيةً إلى الأسر أمامكِ،/قواته تفرّق شملها طواعيةً أمامكِ،/ورجاله الأقوياء طواعيةً خرّوا أمامكِ،/أماكن اللهو في مدنه امتلأت بالفوضى/ورجاله البالغون سيقوا كأسرى أمامك./

يا ملكة الملكات العظيمات،/يا من أصبحت أعظم من أمك التي أنجبتكِ/

لحظةَ خرجتِ من الرّحم المقدس،/عارفة، حكيمة، وملكة على كل البقاع،/يا من ضاعفتِ كل المخلوقات الحية والبشر/لقد نطقتُ بأغنيتكِ المقدّسة./أيتها الإلهة الواهبة للحياة، المولودة للألوهة،/يا من أسبّح تهليلها،/الرحيمة، المرأة الواهبة للحياة، يا مشعّة القلب،/لقد نطقتُ بأغنيتي أمامك حسب ما يناسبُ ألوهتكِ/دخلتُ أمامكِ إلى معبدي المقدس،/أنا الكاهنة، إنخيدوانا،/

حاملةً سلّة البخور، أنشدُ ترنيمتكِ السعيدة،/لكنني الآن لم أعد أسكن المعبد المقدس الذي شيدته يداك./

أتى النهار، وجلدتني الشمس/وأتى ظلّ الليل، وأغرقتني الريح الجنوبية/

صوتي الرخيم الحلو كالعسل صار نشازاً/وكل ما أعطاني المتعة تحول إلى غبار./آه، أيها الإثم، يا ملك السماء،/ياقدري المرير،/إلى الإله (آن) بلّغي شكواي، و(آن) سوف يخلّصني/

أنا إنخيدوانا، أتضرّع إليك، إنانا،

ودموعي مثل شراب حلو.

أنا، من أنا بين المخلوقات البريّة!

أه، أيتها الملكة التي ابتكرت النواح

مركبُ النواح سيرسو في أرض معادية

وهناك سأموت، أنشدُ الأغنية المقدسة.

أوه، إنانا، المجدُ لكِ!)

تبدأ الشاعرة "إنخيدوانا" قصيدتها "تسبيح من أجل إنانا" بوصف مطول، لشخصية الإلهة "إنانا"، وخصائصها الإلهية، وتقدم للقارئ صورة عن تنوع نشاطها كالإلهة-الملكة، رافعة من شأنها إلى مرتبة كبير الآلهة "آن".

(يا ملكة كل شيء، أيتها الضوء المتوهّج/أيتها المرأة الواهبة للحياة)

(أيتها الملكة، يا سعيدة الروح،/يا فرِحة القلب)

(يا ملكة الملكات العظيمات،/يا من أصبحت أعظم من أمك التي أنجبتكِ/

لحظةَ خرجتِ من الرّحم المقدس،/

عارفة، حكيمة، وملكة على كل البقاع،/يا من ضاعفتِ كل المخلوقات الحية والبشر/لقد نطقتُ بأغنيتكِ المقدّسة./أيتها الإلهة الواهبة للحياة، المولودة للألوهة،/يا من أسبّح تهليلها،/الرحيمة، المرأة الواهبة للحياة، يا مشعّة القلب،/لقد نطقتُ بأغنيتي أمامك حسب ما يناسبُ ألوهتكِ/دخلتُ أمامكِ إلى معبدي المقدس).

تشير "إنخيدوانا" في القصيدة إلى أن الالهة "إنانا" على مستوى واحدة مع الإله "آن"، كبير الآلهة لدى السومريين.

(يا من بعثها إليّ الإلهُ "آن"،/أيتها الملكة التي تمتطي الوحوشَ/والتي نطقت بالكلمات المقدسة/تنفيذاً لأوامر "آن" المقدسة،/من يستطيع أن يسبرَ شعائركِ المقدسة!/يا مدمّرة الأراضي الأجنبية/منحتِ الأجنحةَ للعاصفة،/حبيبة "أنليل"- وجعلتها تهبّ على الكون،/وحملتِ أوامر "آن").

تعود الشاعرة "إنخيدوانا" إلى ضمير الغائب في سياق تمجيدها وتسبيحها لإلهة الحب والحرب. حيث تنتقل إلى تصوير "إنانا" وهي (تؤدب) الجنس البشري بوصفها إلهة الحرب. وهي بذلك تدمج بين الصفات الحربية للالهة الأكدية عشتار، وتلك الخصائص اللطيفة التي تميز إلهة الحب والخصوبة لدى السومريين.

(مليكتي،/الأراضي الغريبة تطأطأ أمام صرختكِ،/رعباً وخوفاً من الريح الجنوبية أتى البشرُ/إليكِ بضجيجهم الملتاع/حملوا صراخهم إليكِ/ووقفوا أمامك يولولون وينتحبون/وأمامكِ جلبوا النحيبَ العظيم لشوارع المدينة).

وتشبه الالهة "إنانا" بطائر العاصفة الذي ينقض على الآلهة الآخرى ويفرق شملهم كالخفافيش.

(مليكتي،/جميع الآلهة العظام/فروا أمامكِ مثل خفافيش مرفرفة،/لم يستطيعوا الوقوف أمام وجهك المهيب،/لم يستطيعوا الاقتراب من جبينكِ المهيب،/من يستطيع أن يهدّئ قلبكِ الغاضب!/قلبكِ المهلِك لا يمكن تهدئته!).

وتنتقل "إنخيدوانا" لتصف أمجادها الماضية، مستخدمة ضمير المتكلم، وذلك في أكثر مقاطع القصيدة جمالاً ومتعة.

(لقد نطقتُ بأغنيتكِ المقدّسة./أيتها الإلهة الواهبة للحياة، المولودة للألوهة،/يا من أسبّح تهليلها،/الرحيمة، المرأة الواهبة للحياة، يا مشعّة القلب،/لقد نطقتُ بأغنيتي أمامك حسب ما يناسبُ ألوهتكِ/

دخلتُ أمامكِ إلى معبدي المقدس،/أنا الكاهنة، إنخيدوانا،/حاملةً سلّة البخور، أنشدُ ترنيمتكِ السعيدة،/لكنني الآن لم أعد أسكن المعبد/ المقدس الذي شيدته يداك).

كما أنها تكتب عن معاناتها في المنفى بعد أن نُفيت من قبل المتمرد السومري "لوكال آن" وهي كاهنة عليا من المعبد في مدينة أور، ومن أوروك، إلى الصحاري القاحلة.

(لكنني الآن لم أعد أسكن المعبد/المقدس الذي شيدته يداك./أتى النهار، وجلدتني الشمس/وأتى ظلّ الليل، وأغرقتني الريح الجنوبية/

صوتي الرخيم الحلو كالعسل صار نشازاً/وكل ما أعطاني المتعة تحول إلى غبار./آه، أيها الإثم، يا ملك السماء،/ ياقدري المرير،/إلى الإله "آن" بلّغي شكواي، و"آن" سوف يخلّصني).

ثم نراها تتوسل لإله القمر، "إنانا"، للتوسط من أجلها.

(أنا إنخيدوانا، أتضرّع إليك، إنانا،

ودموعي مثل شراب حلو.

أنا، من أنا بين المخلوقات البريّة!

أه، أيتها الملكة التي ابتكرت النواح/

مركبُ النواح سيرسو في أرض معادية/وهناك سأموت، أنشدُ الأغنية المقدسة).

كذلك نظمت بعض التراتيل في مدح إلهة الحب والحرب انانا (عشتار):

(يا سيدة النواميس الإلهية كلها، النور الساطع.

المرأة واهبة الحياة التي تكتسي بالإجلال، محبوبة السماء والأرض.

كاهنة الإله آنو، ذات الحلي العظيمة.

التي تمسك بيدها النواميس الإلهية السبعة.

يا سيدتي: أنت حارسة النواميس الإلهية العظيمة.

أنت التي رفعت النواميس الإلهية وأنت علقت النواميس الإلهية في يدك.

لقد ملأت البلاد بالسم الزعاف كالتنين.

وأنت عندما تزأرين على الأرض يختفي كل ذي حضرة من سطحها.

يا صاحبة المقام الأول، أنت (انانا) السماء والأرض.

تمطرين البلاد بالنار الملتهبة.

يا مدمرة البلدان الأجنبية لقد أعطيت أجنحة للعاصفة.

يا سيدتي ان البلدان الأجنبية تنحني خوفاً من صرختك.

وعندما يمثل الناس أمامك، خائفين مرتعشين من نورك الوهاج فانهم ينالون منك جزاءهم العادل.

يا سيدتي، ان انونا الآلهة العظام، ينهزمون أمامك إلى الكهوف مثل خفافيش مرفرفة.

أيتها الرحيمة، المرأة واهبة الحياة، صاحبة القلب النير ها قد أنشدتها أمامك بموجب النواميس الإلهية.

ودخلت أمامك في الكيبار المقدس. أنا الكاهنة العظمى انخيدوانا.

حملت سلة الطقوس وأنا أشدو ـ ولكني الآن لم أعد أسكن في المكان المريح الذي أقمته لي.

فإذا ما حل النهار، حرقتني الشمس، وإذا ما حلَّ ظلام الليل حدقت بي ريح الجنوب.

لقد أضحى صوتي العذب مضطرباً ـ وتحول كل ما يسعدني إلى تراب.

أنا انخيدوانا، سوف أتلو الصلوات لها ـ وأقدم دموعي كالشراب العذب إلى انانا المقدسة وأسلـّم عليها.

يا سيدتي، يا محبوبة الإله آنو، عسى أن يرق عليّ قلبك.. أنت معروفة، أنت معروفة (بعظمتك)، وما أنشدته لم يكن من أجل آنو، بل من أجلك أنت، لقد كومت الفحم (في المبخرة) وأقمت الشعائر.

وان ما تلوته عليك في منتصف الليل ـ عسى ان يعيده عليك الكاهن ـ المنشد في منتصف النهار.

السيدة الأولى، يا عماد قاعة العرش، تقبلت صلواتها ـ واستعاد قلب انانا راحته.

كان يومها سعيد، وهي تكتسي بالحسن وتزخر بفتنة الأنوثة.

المجد إلى سيدتي انانا، التي تكتسي بالحسن).

كان هم الأميرة الأكدية "إنخيدوانا" التي كتبت قصائدها في اللغة السومرية، بث روح التسامح والألفة فلم تهجوا أحداً رغم المآسي التي حلت بها ونفيها من أور، كتبت قصيدتها (نفي من أور) التي تحمل ذاتيتها كشاعرة نُفيت من مدينتها وأزيحت من منصبها الكهنوتي.

(نفي من أور)

(سألتني أن أدخل المعبد المقدس

الـ(كَيبارو) - معبد زقورة أور العظمى-

ودخلتُ، أنا الكاهنة العليا

انخيدوانا

حاملة قُـفّــة الطقـوس، ورتّلـت

أدعيتك.

منبوذة الآن بين المجذومين

حتى ماعاد بمقدرتي أن أحيا معك

ظلال تدنو من ضوء النهار،

النور اسّود حولي.

أفياء تقرب من بياض النهار

تغشيه بعاصفة رمل.

وفمي العذب من الشهد.. بَهُت بغتة

وجهي الحلو.. هباء

إدانة إله القمر نانا

أما أنا، فقـد أهملنـي إلهـي نانا

أخذني للخراب

لدروب الخطيئة

أشيمبابار لم يظلمني

إن فعل ذلك، لما أهتم؟

لو فعل، لما أكترث؟

أنا انخيدوانا

كنتُ المظفرة.. المبجلة

لكنه ساقني من حَرَمِي

صيّرني هاربة كسنونوة من النافذة.

حياتي في سعير

جعلني أمشي بين العليق في الجبال

عرّاني من الإكليل– الحق لكاهنة عليا

ناوَلني خنجراً وسيفاً

وقال:

أديريهما صوب جسدكِ

قد وجدا لكِ).

***

حسين عجيل الساعدي

.........................

مصادر البحث:

- بيتي دي شونج ميدور، إنانا سيدة القلب الأكبر: قصائد الكاهنة السومرية العليا إنهيدوانا، ترجمة الأستاذ كامل جابر عام 2009.

- بيتي دي شونج ميدور، الأميرة، الكاهنة، الشاعر: تراتيل المعبد السومري في إنهيدوانا، جامعة تكساس (2009).

- وليام وولفغانغ هالو، تمجيد إنانا، جامعة ييل (1986)

- جانيت روبرتس، إنهدوانا، ابنة الملك سرجون: الأميرة، الشاعر، الكاهنة، (2004)

- سيرجي ماركوف، إنخيدوانا : سيرة ذاتية، إنخيدوانا - أوّل شاعرة ومؤلفة في التاريخ

- الكاتبة الاميركية فيكي ليون، نساء متميزات في العصور القديمة

- عزة علي أحمد جاد الله، الأميرة أنخيدوانا ابنة الملك سرجون الأكدي (الكاهنة-الكاتبة). مجلة مركز الدراسات البردية والنقوش،مج. 2017، ع34، ص381-417.

- طه باقر، في تاريخ الحضارات القديمة

- سامي مهدي، آفاق نقدية. إنخيدوانا أقدم شاعرة معروفة في العالم.

- سعيد الغانمي، فاعلية الخيال الأدبي، محاولة في بلاغيّة المعرفة من الأسطورة حتى العلم الوصفي.

- عبد الله حسين جلاب، قصيدة النثر تواقيع.

- الموسوعة الحرة ويكيبيديا

- صالح حميد، نساء عظيمات من تاريخ وادي الرافدين

- الدكتور بهنام ابو الصوف، الكتابة والتدوين في بلاد سومر منجزات بلاد الرافدين

- الدكتور بهنام أبو الصوف، التاريخ من باطن الارض.

- الدكتور دنحا طوبيا كوركيس، أنخيدوانا الأكدية أول شاعرة في تاريخ البشرية.

- إنخيدوانا شاعرة سومر- مقالات مترجمة حول أول شاعرة في التاريخ المؤلف: مجموعة من الباحثين ترجمها قاسم محمد الأسدي.

- د. إحسان هندي،اشهر شاعرات الحب في بلاد الشرق والغرب

- جوشوا ج. مارك، النساء في بلاد ما بين النهرين القديمة، ترجمة سامي الاطرش

عندما يشاهد الأطفال عرضا مسرحيا فإنهم يخوضون تجربة جمالية جديدة وربما فريدة، ويقبلون عليها على أساس من تذوق المتعاطف، ويشير لفظ " المتعاطف في تعريف الموقف الاستطيقي الى الطريقة التي نعد بها أنفسنا للاستجابة للموضوع فعندما ندرك موضوعاً بطريقة استطيقية، نفعل ذلك لكي نتذوق طابعه الفردي، وندرك ان كان الموضوع جذاباً أو مثيراً أو مليئاً بالحيوية او  هذه كلها معاً وإذا شئنا أن نتذوق الموضوع، فلا بد لنا من أن نقبله على ما هو عليه" (1) وهذا يكون لدى جمهور الاطفال اعلى من الراشدين، لأن المرتكز الأساسي لدى الأطفال هو الإدراك الحسي.

عرضت مسرحية (شهاب وسر الكتاب) من إنتاج (قناة شهاب الفضائية) يوم السبت 9/12/2023 الساعة الثالثة عصراً على مسرح الرشيد، ضمن فعاليات مهرجان شهاب الدولي لمسرح الطفل/الدورة الأولى .

تأسس العرض على ثيمة مركزية هي أهمية (الكتاب ودوره في حياة الانسان بعده طارد للجهل وفاتح لأفق المعرفة والعلم) وهي فكرة متداولة وتناولها الكثيرون في الدراما المسرحية والتلفزيونية واختلفوا في توجيهها للفئات العمرية، أما في هذه المسرحية فقد توجهت الفكرة إلى فئتين متداخلتين هما (6-9) و (9-12) سنة أي عمر المرحلة الابتدائية .2087 مسرحية شهاب

إن الجديد الذي طرحه المؤلف (حسين علي صالح) يكمن في أسلوب عرض الفكرة وفي معالجة المخرج الذي هو نفسه، إذ عمل على صياغة حكاية قدم فيها الشخصية المحورية (شهاب) بعمر الاطفال، مولع بالجانب العلمي وخصوصا عالم الروبوتات وقد اهدى له احد اصدقائه كتاباً وعليه أن يقرأه ولكن أباه يمنعه من القراءة بوقت متأخر فيأخذ منه الكتاب ويأمره بالنوم، ينام شهاب ويحلم بالكتاب، فقد استعان المؤلف / المخرج بتقنية الحلم ليتمكن من الدخول الى عالم الشخصيات المؤنسنة، وهنا ظهرت ايقونتان في العرض هما شخصية: (الكتاب) وشخصية (الجهل) وبينهما يفكر ويتحرك ويتكلم الفتى (شهاب) ويفصح عن حيرته ودهشته من صراعهما مع بعضهما، فقد استند الصراع على فكرة انجذاب (شهاب) إلى إحدى الأيقونتين (العلم والجهل) الحاضرتين في وجدان المتلقي، وبلا شك أن الكفة ترجح للكتاب على وفق المبدأ التربوي/ التعليمي، وهذا ما ذهبت إليه المعالجة الاخراجية واعتمدت على مسار إشراك جمهور الأطفال بصورة فاعلة كآلية لحسم الصراع ودفعه باتجاه طرد الجهل والانتصار للكتاب .

يقول الكتاب لشهاب: انا اشكرك لأنك تهتم بي و المطالعة وحب الاستكشاف، وتبتعد عن الجهل .

ظهرت شخصية الكتاب بهيئة الكتاب نفسه وبصورة مضخمة ولا مجال فيها لأي التباس في الشكل، بينما بدت شخصية الجهل مقزمة (اداها ممثل قصير القامة) وعلى رأسها قفص حديدي وبقفل، وفي هذا قصدية  واضحة وذات بعد رمزي سهل الإدراك للمتلقي الراشد وربما بحاجة الى إيضاح للمتلقي الصغير للوهلة الأولى ولكن مع مرور الوقت تتضح صورة الجهل، وذلك عندما يوجه (شهاب) باتجاه السلوك الرذيل ويدفعه إلى كراهية العلم والتعلم .

كانت السيادة في المنظر للكتب، فقد عمت صورة مكتبة السايك الخلفي من جهاز عرض البيانات (الداتاشو) وقبل نهاية العرض ادخل المخرج مجموعة من الأطفال الى الخشبة حين ظهرت الست شخصيات وجعل كل منهم يمثل كتاباً منهجياً متداولاً في المرحلة الابتدائية مما دفع المتلقي الطفل الى الربط بين الكتاب ذي الشكل التجريدي الذي بدت عليه شخصية الكتاب، بكتابه الدراسي الفعلي في الواقع، مما قرب صورة العرض الكلية من وعي المتلقي ومدركاته الحسية، وبلا شك ان تعضيد فكرة الكتاب في العرض جاءت بالأساس من شخصية الكتاب المتحركة بِعدها جزءاً من سينوغرافيا العرض .2088 مسرحية شهاب

الاستجابة الجمالية والمشاركة الفعلية لجمهور الأطفال في عرض (شهاب وسر الكتاب) جعلت للمتلقي الطفل دوراً اساسياً في إضفاء إثارة وتشويق وحيوية على الشخصيات وعموم العرض، ومنحه طاقة ايجابية، وقد نظم المخرج ايقاع العرض على ذلك باعتماد ثلاث آليات:

الأولى: السؤال المباشر للأطفال (مثل: ماذا تريد ان تكون في المستقبل؟) كما جعلهم يرددون حواراً مع الممثل (مثل: عملية عد الأرقام باللغتين العربية والانكليزية) جعلت المتلقين مشاركين ايجابيين، وطردت الملل تماماً، وخلقت متعة وتسلية لهم، كما أسهمت حركة شخصية (شهاب) ونزوله الى صالة جلوس الجمهور لاختيار عدد من الأطفال في اتساع مشاركتهم وارتفاع صيحاتهم وتحرر رغبتهم بالمشاركة في الرقص والغناء .

الثانية: المواقف الكوميدية الطفلية بمعنى آخر أن الكوميديا جاءت تلقائية بلا افتعال، وكانت كوميديا موقف وليست كوميديا حوار، فقد تصاعدت ضحكات الاطفال، وتحققت الجاذبية ودفعت لترقب الموقف الكوميدي الآخر .

الثالثة: الموسيقى والغناء، قد يرى البعض أن الموسيقى والغناء لازمة لعروض مسرح الطفل وهذا صحيح لكن اية موسيقى واي غناء، هنا يمكن القول أن العرض وببراعة الإخراج وبواسطة اللحن وكلمات الاغاني والحركات الإيقاعية تمكن من صياغة مقاطع موسيقية قصيرة ولكنها كثيرة حركت مشاعر الجمهور، وربطت ما بين محاورة وأخرى بين الشخصيات، انها موسيقى واغانٍ هزت وجدان المتلقين الصغار وتحركوا مع إيقاعها، ويمكن تسميتها بالموسيقى الراقصة، لقد ساهمت عناصر المبالغة والتكرار وقصر الحوار في خلق استجابة انفعالية واسعة من قبل جمهور الأطفال، تعاظمت هذه الاستجابة مع اغنية نهاية العرض (اقرأ، اقرأ في أول آية ... كي نرتقي بين الأمم) وكانت عبارة عن احتفال مبهج انضم للممثلين عدد كبير من جمهور الأطفال، اعتلوا خشبة المسرح وحرصوا على التقاط صور تذكارية مع الشخصيات، وفي هذا دلالة مهمة على استمتاعهم وإفصاح عن مدى انطباعه في خيالهم وذاكرتهم وبذات الوقت مؤشر واضح على نجاح العرض.

***

د. فاتن الربيعي

..................

(1) جيروم ستولنيتز: النقد الفني - دراسة جمالية وفلسفية، ترجمة: فؤاد زكريا، ط1، دار الوفاء، الإسكندرية، 2007، ص 58.

 

تساؤلات في أصل فكرة مسرح الشارع

الشارع هو مكان مفتوح لا يمكن السيطرة عليه، تحدث فيه قصص وأحداث مختلفة في كل دقيقة وثانية، وكل قصة لها أحداثها وأبطالها ولها من المشاركين والمشاهدين، وهذه القصص عندما تتحول إلى مسرحية وتقدم من على خشبة المسرح يصبح لها شكل آخر، تكون فيها المشاهدة على وفق ما يقدم على الخشبة من تشويق وإثارة خاصة بتحديد شكل المكان وطبيعة العرض .

إنَّ الشارع وما تحدث فيه من أحداث يكون من المصادر المهمة التي يستقي منها الكاتب أفكاره والمخرج رؤاه الأخراجية والجمالية، كون أن الشارع بمختلف أمكنته يعطي للمشتغل في المسرح مساحة فكرية واسعة للتأمل، لكن هل الشارع نفسه من الممكن أن يكون هو المعطي وهو الآخذ للفعل المسرحي في نفس الوقت؟، أي هل المسرح من الممكن أن يكون هو البديل الذي يقدم عليه الكاتب أفكاره والمخرج رؤاه من بعد ما كان الشارع هو المغذي الرئيس لهذه الأفكار والرؤى الإخراجية؟، هذه من جهة، ومن جهة أخرى، هل الشارع يصلح أن يكون مكان للفرجة المسرحية بشكل قصدي مباشر؟ من خلال عرض مسرحي يقدم بعنوان مسرحي أصيل يحوي على عناصر درامية وتكوينية وجمالية؟، أم يكون مكان للفرجة بشكل قصدي غير مباشر من خلال عرض مسرحي لا يبيّن للجمهور في الشارع بأن ما يقدم هو مسرح، ومن ثم يقنع المشاهد بأنه حدث يومي عابر يحدث في الشارع كما هي العادة في كل يوم في هذا المكان؟.

وبتصور آخر: هل أن مسرح الشارع هو: حكاية ما يحدث يومياً في الشارع من خلال أشخاص يجسدونها ويقدمونها للآخرين الذين يقفون عندها لدقائق ومن ثم يواصلون سيرهم في أشغالهم ومتعلقاتهم اليومية واهتماماتهم التي تنسيهم ما شاهدوه وتابعوه من أحداث طبيعية حدثت أمامهم في الأسواق العامة والساحات المفتوحة؟. أم أن مسرح الشارع يوصف بأنه عرض مسرحي محبوك على أساس درامي يشبه بما يقدم على خشبة المسرح، عرض مسرحي يتدرب عليه أصحابه من ممثلين وتقنيين لأيام وليالي قد تصل إلى شهور مع أزياء خاصة وإكسسوارات متعلقة بالعمل المسرحي ذاته، وبعض القطع الديكورية التي قد تكون بسيطة تلاءم طبيعة المكان ويأتي الجمهور ليشاهد عرض مسرحي بعنوانه ومكانه المحدد للوقوف والمشاهدة كون أن هذا العرض المسرحي ينتمي إلى مجال مسرحي درامي بحت؟.

أليست مشاهدة حدث عابر كما يحدث بشكل يومي في الشارع أمام المارة قد لا يعون بأنه عرض مسرحي هو مسرح شارع؟، وإذ وعوا الظاهرة بأنها دراما أخرى تختلف عن دراما المسرح التقليدي، مقدم أمامهم يعرفون بأنها تحمل طابعاً فرجوياً درامياً ينتمي الى الفن المسرحي بما تحمله كلمة مسرح في هذا المجال؟ . كذلك هل سيختلف الحكم لديهم في حال تقبلهم لها، أي دراما مسرح الشارع بنفس تقبلهم للدراما التي يشاهدونها في المسرح التقليدي؟ . وهل سيختلف الغرض بين الدراما التقليدية والدراما المقدمة في الشارع، كون أن ما بينهما يوجد تدرجات في الرؤى والحكم والنقد حول طبيعة وانتماء هذا الشكل الدرامي أو ذاك . إذ يوجد عرض مسرحي يحمل طابع الدراما هدفه المتعة والترفيه، ويوجد عرض مسرحي هدفه ليس المتعة والترفيه للمتفرج، بل هدفه التحريض السياسي والاجتماعي وغيره .

إنَّ الممارسات النقدية الموجهة لشكل العرض المسرحي وطبيعته جعلت من تحديد الغرض من وراء انتماءات المسرح لأمكنة (مفتوحة،أو مغلقة) تقع في جدلية تحديد الشكل المسرحي وخصائصه الجمالية والفنية، كون أن هذه الآراء أصبحت في جدال مستمر تجاه كل عرض مسرحي وخاصة التي تقدم في الأماكن المفتوحة بأنها تنتمي لمسرح الشارع حتى وإن كان أصحاب هذا العرض لم يقصدوا الأنتماء لهذا الشكل المسرحي .

من هذه التباينات بين المشتغلين في المجال المسرحي، أو المجال النقدي للمسرح جاءت بوادر الأختلاف والانقسام بحقيقة وطبيعة مسرح الشارع، وما هي طبيعة هذا المسرح؟ وما هي الانتماءات الحقيقية لهذا المسرح؟ هل ينتمي من طبيعة عروضه إلى الطريقة التي تتوافق مع المسرح التقليدي؟ أم هو ظاهرة عادة ما تكون أقرب إلى سلوك وطبيعة الحدث اليومي العادي الذي يقع في الشارع بين الناس من الأفراد والجماعات بشكل يومي؟ .

ومن ثم فإن على من يريد أن يتصور دراما الشارع عليه أن يأخذ بالحسبان جانبي المفاجئة والصدمة للمتفرج، المفاجئة للحدث الذي يقع، والصدمة للمتفرج عندما يعرف بإن ما حدث هو دراما وليس حدث ينتمي للحياة العادية .

أن هذه الدراما قد تقع في حياتنا دون أن تكون ممثلة، أو تقع في حياتنا وهي مصممة على أن تكون شبيه بما يحدث في الشارع يومياً لكنها ممثلة وليست حقيقة، ومن هنا يكون جانب الصدمة والتساؤل؛ لماذا قدمها أصحابها هنا وليس في المسرح؟ أي، لماذا في الشارع وليس على الخشبة؟ وما هي الرسالة المختلفة بين الشارع والخشبة؟، وهل هذه الرسالة ممنوعة على المسرح مما أضطر أصحابها أن يقدموها في الشارع؟، وهل الشارع أكثر حرية من الخشبة؟ أم ماذا كان المقصد والغرض من العرض في مثل هكذا مكان والقصد هنا الشارع .

تساؤلات عديدة واختلافات كبيرة بين المشتغلين في مجال المسرح حول مفهوم مسرح الشارع، وحول الاصطلاح والأشتغال، وحول الغرض منه، وما هو الفارق بينه وبين المسرح الذي يقدم على الخشبة في مسرح العلبة وغيره من الأمكنة المخصصة للمسرحيات التقليدية. من هذه التساؤلات، نتبين حقيقة مسرح الشارع ونحدد على وفق المسار التاريخي والفني الدرامي طبيعته واشتغاله ومقاصد أصحاب الفكرة من وراء تقديمها في الشارع وليس على الخشبة في المسارح المغلقة . هذه التساؤلات وغيرها جعلت من مسرح الشارع ووجوده إشكالية متداولة بين أصحاب الاختصاص ذاتهم .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

منذ ان طبعت رواية عيناها عام 1952 في ايران للكاتب الإيراني بزرك علوي وهي مثار حديث النقاد واستمرارها تحقيق للمبيعات، حتى بعد 71 سنة لما تحمله من أفكار وقيم مهمة، ولما تمثله من خصوصية في الأدب الايراني المعاصر، والرواية تتمحور حول قصة حب والأحداث السياسية في تلك الفترة في البيئة الطهرانية حيث التيارات السياسية والثقافية المختلفة، وتنوع الطبقات الاجتماعية، في زمن استبداد الشاه، والأحداث الكبيرة المتسارعة آنذاك والتي كانت البذرة لما عليه الان المجتمع الايراني، بعد صراع كبير مع نظام الحكم الوراثي ذو التوجهات الغربية.

طريقة السرد

يعتمد الكاتب على صوتين للسرد في هذه الرواية، الصوت الاول هو الراوي العارف بكل شيء وهو (ناظم المدرسة) والذي في البداية طرح سؤال عن سر ورمز لوحة تحمل اسم الرواية للرسام (ماكان)، والصوت الثاني في السرد يعود للبطلة (فرنكيس)، حيث كان رواية تتحدث عن المرأة مما أعطاها ميزة مهمة، فهي رواية تخص المراة وكتبت بقلم رجل، حتى وإن كان في النهاية من يستحق المديح والتبجيل هو الرجل، فالمراة هي الاسطورة في الرواية، فهي التي تضحي بنفسها وتتحطم حياتها في سبيل نجاة حبيبها.

وعلى الرغم من ان بطلة القصة هي امراة (فرنكيس)، لكن اشتهرت الرواية باعتبارها رواية عن (رجل) مناضل يكافح الاستبداد والدكتاتورية.

وهنا يستشعر القارئ الواعي قدرة الكاتب العميقة في كتابة بلسان امراة، قصة حبها، وعن مشاعرها واحاسيسها وافكارها، والتنقل مع فارق الزمن بين البطلة الشابة العاشقة المتوهجة، ثم السيدة الاربعينية الخاسرة لاغلب معاركها في الحياة.

تشابه موضوعي

لا يغيب عن المتابع التشابه بين حياة الكتاب والبيئة التي نشأ فيها، وبين بيئة شخصية بطلة روايته التي يجب ان تكون مرفهة ماديا وتعليما في أوروبا، فهذا يجتاج لأدوات وفهم واسع، قبل الشروع في الكتابة وهذا ما ظهر، مما يؤكد المقدرة الكبيرة للكتاب،  والكاتب بزرك والشخصية فرنكيس كلاهما نشأ من بيئة مترفة ومتعلمة، وكلاهما قدم تضحيات كبيرة في سبيل حركة النضال اليساري في ايران في تلك الفترة من حكم الشاه.

حيث يمكن القول أن الكاتب علوي اقتبس من حياته الشخصية في هذه الرواية، وكان مبدعاً في إضافاته وتلميحاته.

نضال الأغنياء غير مقنع

الرواية طرحت فكرة المناضل من اسرة غنية مرفهة! وهو قد يكون غير مقنع، خصوصا ان الطبقة المترفة عموما كانت مع حكم الشاه وبقاء نظامه، لان مصالحهم مرتبطة باستمرار حكمه، وأي تغيير يجعل مستقبلهم غير واضح، لكن من يقرا حياة الروائي بزرك علوي يفهم الامر جيدا، فهو احد مؤسسي حزب توده اليساري في ايران، وقد ناضل من اجله مبتعدا  حتى عن الأدب في كثير من فترات حياته، وهاجر عن ايران ليخسر الكثير، واظهر في النهاية اسفه عن تلك الرحلة والمرحلة بل حتى عن بعض اصدقائه الذين ضحى من أجلهم.

لذلك جاء خط الرواية مرسوم بعناية ليعبر عن الكاتب، فالبطلة غنية مرفهة كما هو الكاتب علوي، وتحصل على كل ما تريد، لكنها تحب رسام (ماكان) وترغب في البداية بجذبه لكنه لا يعيرها اي اهتمام، وتصمم على القبض على قلبه، فتتحول الى مناضلة وتنخرط في صفوف حركته، فيرحب بها لانها دخلت عالمه، ويعطيها كل الاهتمام، ثم تصبح لمجرد اداة بيد المناضل لتنفيذ مهماته، هي هدفها الحب وهو هدفه استغلالها لتنفيذ النضال.

وهنا ينجح الكاتب علوي في تحريك القارئ ضد المناضل ويجعله يصرخ بالبطلة فرنكيس قالا لها: توقفي فانت مجرد اداة لهذا الاناني... حيث يتعاطف القارئ مع الفتاة التي تمثل الطبقة الغنية والتي يتم استغلالها من قبل المناضلين دون ان يظهروا لها اي احترام او تقدير او ثقة.

الحب والمرأة

الحب يختلف من الرجل الى المراة كلا يعبر عنه بشكل مختلف ومن زاوية مغايرة، وينجح الكاتب علوي في تصوير هذا الاختلاف، وكيف تفكر المرأة وما تقدمه وما تنتظره في الحب، في المقابل ما يفكر به الرجل وبما يريد من المرأة في الحب. هذا التصوير الواقعي لم يحظَ بإعجاب الكثير من النقاد، فقد اعتبروا رؤية علوي للمرأة سلبيةً كبقية أقرانه من كتاب في تلك الفترة، لاسيما حين يصور أنانيّتها بتملّك المناضل، فيما يجيب هو أنه لا يرغب بالسعادة الفردية بل يبحث عن النوع الشعبي منها.

وقد صوّر الكاتب بزرك علوي الواقعية بشكل جيد، فيما يمكن لمناضلٍ محروم أن يفعله أمام سيدةٍ حسناء غنية، فهو استغل مالها وجمالها وجسدها أيضاً، طبعاً لصالح القضية، أما هي كعاشقةٍ فقدمت عُمرها لأجله لتنقذه من الموت المحتم في السجون.

الرمزية في الرواية

رمزية الشخصيات في رواية “عيناها” ذكيةُ جداً مثلا الرسام المناضل لم يفهم الشابة العاشقة أبداً فرسم عيناها كأنهما فخٌ له، هكذا عبر الكاتب بشكل رمزي لرؤية البطل للعاشقة! ولتعقد الأحداث كان يجب استخدام الرمزية أحيانا، أما واقعية بعض الأحداث والتواريخ التي مرت بها طهران وتم نقلها بين سطور الرواية، فهي أيضاً قيمةٌ مضافة للرواية المكتوبة بقلم أحد المناضلين والأدباء المميزين في القرن العشرين. من دون شكٍ فإن رواية “عيناها” من أفضل الأعمال الأدبية المعاصرة في إيران، ولا بد لقراءتها من المرور على تاريخ حقبةٍ مميزةٍ من نضالِ اليساريين في إيران وخسائرهم لاحقاً.

سيرة حياة الكاتب

بزرك علوي ولد في عام 1904 في طهران، وهو روائي وكاتب وسياسي إيراني شهير. من مؤسسي حزب توده الإيراني في أربعينيات القرن الماضي، ويعتبر من أشهر الكُتاب اليساريين الإيرانيين، ويشتهر بروايته (عيناها) التي تحكي قصة أبناء إيران في ظل حكم الشاه، وكان والده –أبو الحسن- ثوريا شارك في الثورة الدستورية في بدايات القرن العشرين، وكان جده عضوا في البرلمان.

وفي عام 1923 بُعِث الكاتب مع أخيه «مرتضى» إلى ألمانيا لاستكمال تعليمهما، وعاد إلى إيران بعد التخرج في بدايات الثلاثينات، وبدأ التدريس في (شيراز)، وخلال إقامته بألمانيا اطلع على الأدب والشعر الأوربى، وبدأ في ترجمة كتبا مشهورة إلى الفارسية.

تم إلقاء القبض عليه عام 1937 لانتهاك القانون المضاد للشيوعية، وقد ظل في السجن حتى احتلال التحالف لإيران في خريف عام 1941، وقد قبض عليه وحُكِم بالسجن لمدة سبع سنوات.

وفي الحرب العالمية الثانية، كان «علوى» واحدا من مؤسسي حزب (توده) الشيوعى بإيران، وحرر جريدة الحزب «مردم». وفي عام 1952 نشر «علوى» أشهر كتاب له وهي رواية بعنوان (عيناها)، ومجموعة قصصية عنوانها (الرسائل وقصص أخرى)... وتوفي الكاتب في عام  1997 في مدينة برلين، في ألمانيا إثر نوبة قلبية.

***

اسعد عبدالله عبدعلي

هذا هو العنوان الذي أقترحه بدلا عن عنوان "المنتصف المميت" للشاعرة سهام جقيريم الصادر قبيل آخر سنة 2023 وهو باكورة قصائدها والشاعرة سهام جقيريم أستاذة متخصصة في اضطرابات التعلم ومولعة بالشأن الثقافي فهي من الأعضاء الناشطين في الجمعية المتوسطية الثقافة والفنون وهي عضو الهيئة المديرة لصالون الربيع الثقافي وهي خاصة من الفاعلين الرئيسيين في تنظيم مهرجان البحر ينشد شعرا الذي يشرف عليه متحديا الصعوبات صديقنا  الشاعر عبد الحكيم الربيعي وبالإضافة إلى هذا وذاك هي  من المساهمين في دورات أيام الطاهر شريعة للصورة والكتاب وفي مهرجان إبداع ذوي المهم ناهيك أنها متحصلة على جوائز عديدة في تونس وخارجها.

أذكر هذه التفاصيل لتأكيك أن الشاعرة سهام جقيريم مولعة بالشأن الأدبي خاصة والهاجس الثقافي عامة مما أكسبها خبرة ومصداقية بين كثير من الرموز الثقافية في تونس فلا عجب أن يحظى ديوانها البكر هذا بتقديم الصديقين محمد الغزي وأحمد الحيزم وهما العلمان البارزان شعرا ونقدا.

من المفيد إذن ولكن في غير هذه المناسبة أن نقرأ متأملين هذين المقدمتين وقد أشادتا بهذه الباكورة من القصائد على سبيل التشجيع فلا عجب في ذلك فالمجموعة الشعرية تنبئ بموهبة تدل  على صدق المعاناة وعمق المكابدة فشكرا للصديقين على دعمهما لأن الأجيال الأدبية بعضها يستفيد من خبرة السابق وكذلك السابق ينفتح على اللاحق فيطور من قناعاته وآلياته الفنية أيضا وما تواصل الأجيال الأدبية بين بعضها إلا مكسب للحركة الأدبية بما فيها من تجدد وتنوع تواصل .

ثمة سواد قاتم يخيم على أغلب هذه القصائد فالحزن والخيبة والشعور بالوحدة واليأس والخذلان جميعا متواترة الحضور في أغلب الصفحات فالشاعرة مثلما كشفت عن نفسها أنها - سريالية الحزن وتجيد إقامة الحداد في كل آن وحين وتسكنها الجنائز وتساعد بكامل أناقتها لإقامة الجنازة الموالية - كما ورد في قصيدة الجنائز امرأة ص66

والشاعرة سهام جقيريم تشعر بالغربة حتى عندما ترى وجهها في المرآة كما ورد في مطلع قصيدة وجهي لم يعد يعرفني حيث تقول

هذا الوجه الذي يطالعني

في المرآة غريب...غريب

لأنه بلا تقاطيع

لا أعرفه لا يعرفني

أين بريق الحياة في أحداقي

ولون الأحمر الصادي

من سلسبيل الرضاب

يرشف  زلاله!

فكأن بعض قصائد هذا الديوان تعبر عن مكابدة ذاتية تركت جرحا ينزف حبرا في كل حرف على الورق!

من دواعي هذه المعاناة الأليمة ما صرحت به فقد تواترت  خيباتها من العلاقات الإنسانية التي كانت تأمل أنها  تقوم على الصفاء والإخلاص غير أنها اكتشفت أنها تخفي أنياب ذئاب مثل قولها في قصيدة سنمار

أنا يا سيدي امرأة

لا أعرف كيف أختار

كيف تميز بين ذئاب الأنام

**

كثيرون قبلك يا سيدي

أقسمت على وفائهم

ذبحوني بخنجر بروتوس

أراقوا دماء الطهر دنسوها

وقدسوا ريش الغراب

إن قصيدة ملح الكادحين

 وقصيدة ولم نلتق

 وقصيدة نيسان خلف القضبان

 وقصيدة مدافن الغرباء

 وغيرها من مثل هذه القصائد تعبر عن وهج التجربة المضمخة في المرارة والأسى والحسرة مع الإحساس الإنساني بمآسي الآخرين وهم يواجهون مصاعب الحياة التي تؤدي بهم إلى المآسي وهم يبحرون في قوارب الموت...

مثل هذه القصائد المثخنة بالألم  تؤكد أن الشاعرة سهام جقيريم تجاوزت مرحلة البدايات والهواية لتخطوَ بثبات على درب الإبداع.. ومن سار  على الدرب وصل.

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

استطاع الدكتور جمال العتّابي أن يوثق ضحايا أحداث انقلاب 8 شباط 1963 من خلال روايته (منازل العطراني) الصادرة مؤخراً عن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، وبواقع (253) صفحة من الحجم المتوسط، وبتصميم رائع للدكتور فرات جمال، وهي الرواية الأولى للكاتب جمال العتابي.

حين علمت بإصدارها وأنا بشوق للاطلاع عليها، وكان قلبي يرشدني أن الدكتور سيرسلها اهداءً، وكان ذلك، استلمتها وأنا اتمعن بتفاصيل أدوار أبطالها، وأماكن أحداثها وهذا ما كان، فقد كتبها من القلب، وهو ينقل لنا الأحداث بشكلٍ مفصل ومذهل للأماكن والأحداث.

بطل الرواية محمد الخلف المعلم من مدينة الخضر جنوب مدينة السماوة والسجين السياسي الهارب من السجن وهو يواجه أحداث انقلاب شباط 1963م. يروي لنا العتّابي اصداء سور السجن التي تنشد لنا نشيدهم (السجن ليس لنا نحن الأباة... السجن للظالمين الطغاة). ثم ينقلنا بحوار حول نتائج الانقلاب ومقتل الزعيم قاسم والثرثرة في الباص الخشبي ص14: (الزعيم ما زال يقاوم من مقره في الدفاع، معه عدد قليل من معاونيه. فقراء الشاكرية والصالحية وحي الأكراد والكاظمية يحملون السلاح ضد الانقلاب. عبد الكريم قاسم كان لا يثق بالشعب وحتى في أصدقائه المقربين إلى آخر لحظة. والله يبين الأمور محسومة لجماعة الانقلاب... الفلاحون البسطاء يدركون مقدار حماقة القائد العسكري). بهذه الكلمات ينقلنا لواقع حال ساعة الانقلاب، والدكتور العتّابي قد عايش تلك اللحظات، وهو الذي يحلل النتائج وينقلها لنا بحوارية رائعة من خلال بطل الرواية محمد الخلف المولود في قلعة سكر.

لقد انصف الدكتور العتّابي ضحايا الانقلاب، والقتلة المتعطشين للدماء، وهو يصف لنا لحالة مقتل الزعيم في دار الإذاعة. وبسياحة ممتعة جمع العتاّبي أساليبه السردية المتعددة بصفحات الرواية، وهي مزيج من الأحلام والانكسارات، فكتبها بذهنية ممن استوعب التاريخ. أجد في رواية منازل (العطراني)، يرغب الروائي فيها أن ينقل لنا كشاهد على زمانه، وقد كتب لنفسه قبل أن يكتب لأي أحداً آخر في العالم، فهو ادرك خراب العراق نتيجة طبيعية للفشل الشامل المستمر مُنذُ عقود عدة في العثور على جوابٍ صحيح لإشكاليات مجتمعنا. فرواية (منازل العطراني) أجد فيها ذلك النص المستكشف في رحلة الروائي العتّابي بعد انقلاب 1963م، وذلك العالم المجهول بعد الانقلاب، فلا يعرف المبدع نفسه كروائي في كثافة أدغاله المتشابكة، إلا بعد أن كان منجزه واضح القسمات، بعد عناء الروح وغربتها لبطل الرواية (محمد الخلف)، فيفتح الروائي ذراعيه لاستقبال قاطني بلده من التردد، ليمسكوا بمجساتهم المرهفة، فدهشة الروائي وحلمه في تجاوز ما هو كائن، فالكتابة تناسل وحبل، ومن ثم ولادة نصوص.

ففي ص19 يربط الروائي (رائحة الدخان المتعالي من أطراف المدينة، برائحة نفط أسود مشتعل لشواء الطين في كورٍ بدائية تصنع الفخار، توارثها العراقيون من أجدادهم السومريين)، بهذه الكلمات يؤكد لنا الربط بين صناعة الفخار الموروث من قدماء العراقيين، ثم ينقلنا بلحظات خاطفة وبطيئة إلى قرية العطرانية ومنزل اخته (أم عباس) الملجأ الأخير للهروب من عناصر الحرس القومي.

الرواية فيها الكثير من الأوصاف الأدبية الجميلة التي لا تتكرر أمثال ("مزموم الفم"، "الريح نحسٌ في الشتاء تسرق نعاس الأطفال في الليالي"، "النجوم الشفيفة كانت تضيء"، "أسمع صرخاتها كبكاء النوارس في صباحٍ شاحب"، "الويل لمن يتنصت على قلبه أو يسترق السمع لرئتيه، هذا البلط يقتل الصمت"، "ليرى مشهد المدينة المسوّر بالخوف والترقب"، "أعمدة تلغراف صدئة يحوم حولها غرابٌ أسود").

فالروائي كان متمكناً من أدواته في السرد والتسلسل التاريخي للأحداث، ليجد القارئ نفسه يعيش تلك الأجواء كحقيقة مرعبة، ينتقل مع بطل الرواية عبر تسلسلها الزمني، خائف عليه ليسقط في أيدي عسس الليل أو عناصر الحرس القومي. نجد الروائي يعاني من واقع حال ما يعيشه المجتمع العراقي مع الطغاة والقادة المتجبرون بالأمس واليوم. ومع ذلك فإنه لا يستطيع إلا أن يكتب من خلال طموح الاعتراف بموهبته التي لن تفارقه، فيتعلق بالهدف من خلال روايته التي يضفيه على نفسه وعلى كتابته. فالاعتراف به يعني الاعتراف بدوره الاستثنائي داخل المجتمع. ونجد ذلك في صفحات روايته ص33: حين تلومه والدته على دخوله المعترك السياسي (خلّي سلاتين يسلتكم!!)، ترددها كنوع من العتاب لأم متلهفة لإبنها الكبير وهو منصرف عنها للعمل السياسي، و(سلاتين) هنا تقصد به القائد الشيوعي (ستالين)، أو في ص40 حينما ينقلنا الروائي لحال عائلة محمد الخلف حينما تتحدث زوجته لأبو عباس المرسل كي يجمع اطراف العائلة في قرية العطراني: (كما ترى يا ابن عمي، انقطع خالد عن الدراسة لا أظن أنه سيعود إليها، لديه خشية من الاعتقال، البقاء في البيت بعيداً عن عيون العسس أسلم له من التجوال، محسنة انصرفت للخياطة ليل نهار بأجور توفر بعض احتياجاتنا اليومية، عامر يلفّ الأزقة في دراجته منذ الصباح الباكر يبيع الصمون قبل الذهاب إلى المدرسة، أما عادل فما زال صغيراً لديه رغبة بالمشاركة). هذا هو واقع حال عائلة السياسي في عراق الثورة والثروة، ثم ينقلنا الروائي في ص43 إلى حال العاصمة بغداد وكثرة نقاط التفتيش للبحث عن أخوة الأمس وخصوم اليوم.

شخوص الرواية قد صاغها ونسجها بتأني وبدقة عالية ليظهرهم من الواقع الذي جعلنا ندور مع افلاكه وهم يتعذبون بسياط الدكتاتورية أمثال: محمد الخلف صالح كيطان، نوار، خالد، عويد، رضية، فطيم،  وغيرهم.

الرواية تتسابق الأحداث فيها بوصف تنقلك من حدث إلى آخر، وتوثق الواقعية التاريخية والأدب الحقيقي. ويصعب عليَّ هنا أن أقدم ملخصاً للبنية المركبة للرواية وبناء فصولها، إذ ما يهمني هنا هو الإشارة إلى الروح الملحمية التي تكتنف السرد، حيث يختلط الواقع بالأسطورة، والحقيقة بالحلم، والبطولة بالفكاهة، والبشر بالملائكة والشياطين. وتشكل موضوعة الرواية الضحية والجلاد وجوهر تأريخها الإنساني كله، فثمة دائماً جلاد وضحية، ليس في السياسة وحدها وإنما في كل ما يرتبط بالحياة الإنسانية، بقدر ما يهدم الجلاد الضحية؛ تهدم الضحية جلادها. هذا هو ديالكتيك التاريخ نفسه. من عادة العتّابي أنه لا يترك ثيمّةً أو موقفاً أو وصفاً في مسار السرد إلا ويعتصره عصراً من خلال الطرق المتكرر، وعلى مفاصل مختلفة مرة، إلى أن يفككها تماماً، وهذا ما وجدته في روايته (منازل العطراني) التي يتكون عنوانها من كلمتين. فضلاً عن أن الرواية تحمل موقف استشهاد (عامر)، كذلك موقف الزوجة (زهرة) التي تمثل الزوجة العراقية المضحية.

الرواية تمثل سيرة ذاتوية بعد ربط الرواية بمذكرات الأديبة والصحفية منى سعيد الطاهر (جمر وندى) الصادرة عن دار سطور، والمتزوجة من الشهيد سامي العتّابي، والمتمثل بالرواية باسم (عامر). فالسرد الذي تسير به الأحداث حين تعرض منى سعيد الطاهر رحلة الخوف هذه، والهروب والتخفي من الاعتقال حتى تنال الأجهزة الأمنية من زوجها، و(سما) هي يمام ابنتها كانت في عمر الشهرين وبدسائس لا تجد للآن تبريراً لها ينال سامي حصته من التعذيب والشهادة.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

تجربة قراءة مستفيضة مقرونة بصور التخيل

بحرف ينبؤ عن دقة التوصيف جاء به شلال عنوز في قصيدته (جنون العواصف) ليضعنا في خضم بوح الحالة التي تشعر القارئ بالانقلاب على لاشيء، على كل شيء، يدفعنا بحرفية مايوظفه من صورة تنطق بجمال الوصف عبر تكريس التنافر في الدلالة والمعنى عبر الزمن باختلاف تقلباته مابين الانتظار والضياع الذي تمثله الخيبات التي عبر عنها ب(تذرع الوقت وتحصي مطارق الخيبات) تلك الخسارات التي يحصيها بحساب الوقت، ضياع في ضياع.

أي أن عنوز ادخل عنصر الوقت لأحصاء الزمن ومايتركه على الإنسان بحسابات الخسارة والربح مخلفا حالة من الضياع أو الشتات في الفكر الذي يتجاوز الحاضر وينشغل بما كان.توصيف دلالي رائع هو أقرب للفلسفي في توظيف الشعر الوجداني، فالخسارة حالة وتجربة حياتية، وكلاهما معايشة إنسانية تترك أثرها على كل ماله علاقة بالإنسان، اجاد شلال عنوز بمدخل وصفي دلالي استطاع من خلاله أن يترك أثره المغاير على طبيعة القراءة السائدة عند المتلقي، ويحفز عقله للخوض في تجربة قراءة مستفيضة مقرونة بصور التخيل الذي ترك فيه عنوز الحرية للمتلقي من أن يبحر خلاله عبر الصمت الذي وشحه بطيلسان يلف فيه مواطن ما تخلفه العاصفة من وجع.

في عُنف جنون العواصف

كنت تذرع الوقت

وتُحصى مطارق الخيبات

تُلملم أذيال الاغتراب مُنهكا

تُدثّر مكامن الوجع

بطيلسان الصمت

وحين أراد أن يصور مواسم الدهشة في قصيدته، أوقفنا شلال عنوز عند منعطف الاستفهام فأورد تساؤل دلالي ب (مَن) الاستفهامية، ليضع القارئ في حيرى السؤال وحيرة الإجابة، فليس من بيننا من يعرف جواب ذلك الاستفهام (من القائل) وتلك حركة تصاعدية في توظيف الصورة الناطقة في القصيدة ليضفي على شكلها العام جمالية مزدوجة تنبؤ باستمرار التخيل والقراءة في آن، والتصاعدية في التوظيف الدلالي تتوج أبيات عنوز بغموض موشح بالغيبيات التي غالبا ماتضع القصيدة في خانة الاستفهام الدلالي الذي جاء به بدلالة الزمان (النهارات وسكنات الليل).

مَن قال أن للعواصف حَين

ومواسمها مُطلَقة النزول

هي تأتي حيث لا يشتهيها

بَوح النهارات

وقد لا تشتهيها سكنات الليل أيضا

صور شلال عنوز الشعرية في قصيدته جنون العواصف لم تخرج من فراغ، بل على العكس سعى جاهدا من خلالها وبخبرته وتجربته الشعرية الفذة ليضع بين يدي القارى مصارف التوظيف الدلالي فذهب لاستخدام الدلالة العلمية (علمنا) أي أن هناك تجربة للتعلم عاشها الشاعر ووظفها في أبياته، فجاء ب (علمنا الدهر) نانجة عن فعل التعلم والجمع (نحن) جماعة المتكلمين، اي تجربة عامة، جمالية الصورة التي وصفناها بالناطقة فعلا، ومنها ادخل عنوز الوصفية الدلالية فقال (عاصفة تسر وعاصفة تضر)، أراد منها تقلب الأحوال وانطباعات الناس فيما تجسده من اختلاف وهنا الجمالية الحركية للصورة التي ترك من خلالها عنوز فسحة الأمل لمن يتضرع لينجو ممن اسماهم ب(الخائفون).

استطاع عنوز عبر صوره تلك رسم لوحة شعرية مطعمة بالتوصيف والدلالة الحسية والمكانية وصور التخيل الوصفي من أن يسحب القارى نحو استنطاق المشهد الشعري برمته في قصيدته ليضعه على مكامن التقلبات الحركية التي أبدع فيها عبر توظيف عناصر البناء الشعري بما يخدم التصور والتخيل، ثم ليستبدل ذلك كله بمشهد شعري رائع ينفي فيه كل ماكان فجاء بحقيقة كونية جسدها الإيمان القطعي بالإستفهام حيث قال متسائلا في ختام قصيدته (وهل صدق المنجمون)؟!!

تساؤل يجسد حقيقة المقولة المأثورة التي تقول :(كذب المنجمون ولو صدقوا).

متلازمة شعرية رائعة بأبعاد دلالية وصفية حسية جمالية رسم من خلالها شلال عنوز قصيدته الجميلة (جنون العواصف) فأبدع بما جاء من صور شعرية احتوت في الكثير منها على التناقض الممتع الذي يخدم المشهد الشعري بشكل عام.

عَلّمنا الدهر أنّ العواصف نوعان

عاصفة تَسرّ وعاصفة تَضرّ

ومابينهما يتضرع الخائفون

بالنجاة

من أعاصير تأكل آمالهم

وأنت المٌقيّد بسلاسل القهر

تُمعِن النظر في عين السماء

وترفع كفّيك بالدعاء

عَلّ العاصفة تنجلي

عن بريق فرح

في خضمّ وِفادة

عام قادم

وهل صدق المُنجّمون ؟!!

***

سعد الدغمان

إن الكاتب ولاعب رقعة الشطرنج كلاهما يلعبان (العقلانية) على رقعة جغرافية الواقع في مواجهة الحدث، وهكذا أقتحم العبيدي(الواقع) بجرأة وثقة كبيرة في كشف أفرازات القرن العشرين التعيسة وما تبقى من فواتير الخيبات والنكوصات لتلك الحروب العبثية الملوثة بالحصار الأقتصادي الظالم، نعم (غداً) سوف تسددها جراحات الشعب العراق .

إن سيمياء العنوان "كم أكره القرن العشرين" يحمل كل مفردات السيمياء والتي هي (أداة) لقراءة السلوك السايكولوجي للذات البشرية في عموم مظاهرهِ المختلفة بداً من الأنفعالات مروراً بالطقوس الأجتماعية والأنتهاء عند الآيديولوجيات، وتدور أحداث الرواية في ثمانينيات القرن الماضي وتحكي حياة أبطالها من جيل الشباب الغض مرغمين ومدفوعين  إلى محرقة الموت حيث المجهول والضياع . 

أبرر كراهية الروائي العبيدي للقرن العشرين وأشاطرهُ الرؤى فيها لكوني تعايشتُ مآسيها وخيباتها ومطباتها التأريخية مثل (الحرب العراقية الأيرانية 1980 ، ضرب حلبجة بالكيمياوي 1988، حرب الكويت 1991، قمع الأنتفاضة الشعبانية 1991الحصار الأقتصادي 1991)، وأبدع الروائي عبدالكريم في تجسيد تلك الحرب بمسلسل درامي في هجرة آلاف من الأ سر البصرية وتألم الروائي البصري من أوجاع البصرة وما أصابها من شظايا تلك المآسي والويلات لتلك الحروب المجنونة، ودخل العراق في القرن الواحد والعشرين بأم النكبات التي هي الأحتلال الأمريكي البغيض في 2003، لذا أثني على رؤية الروائي عبدالكريم العبيدي في كراهيتهِ للقرن العشرين ولآن الرواية تحكي عالم أبناء جيلنا وطفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وأمنياتنا وأحلامنا الممنوعة ومدينتي بغداد التي غادرتها ولم تغادرني، إنها الرواية الواقعية ذات النهايات المفتوحة بأسئلة وأرهاصات سوداوية لم تتم الأجابة عليها، لقد أقنع المتلقي بكونها منجز أدبي وثقافي متكامل من بنية معمارية وهندسة لغوية ونصية نثرية برصانة أدبية شكلاً ومضموناً، وهو يريد توصيل القاريء إلى أن السعادة تنبثق من ليل الألم الطويل عبر مطحنة الصراع الطبقي التي أجهزت على الطبقات الفقيرة بلا رحمة وكأنها هي المعنية وحدها بفواتير الحرب الثقيلة، فهي حكاية تراجيدية مأساوية لتلك الزمكنة السوداوية المظلمة ذات البوصلة المضطربة، وبحبكة سردية رصينة يلقي ضوءاً كاشفاً على صيرورة وكينونة جيل القرن العشرين على أنهُ : فقد الأحساس بالزمن ولم يعي لديناميكية الظواهر السوسيولوجية عدا الدموع والجنائز وخيم الفواتح والجدران الموشحة بيافطات سوداء تحكي أسماء دافعي فاتورات تلك الحرب المجنونة وهم يتعايشون خلال فراغ زمني موحش يجتر الغيبيات في تقديس القديم بعفوية فطرية بسبب فوبيا المجهول، وهو شيءَ طبيعي حين تنحوالطبقات الفقيرة البائسة إلى ما هو معروف بألعاب الحظ ولو إنها من أختراعات مافيات المال والفساد للوصول إلى المال السهل .

نجح الروائي العبيدي في أظهار مأساة جيل الحرب العبثية ومقصلة الحصار الأقتصادي والتآسي للذين ولدوا أبان تلك المطحنة البشرية وأكتوت طفولتهم المبكرة بمآسي حصار الموت البطيء وتهجروا قسراً، حقاً هو كاتب محترف بميتافيزيقية الكينونة البشرية وأعماقها المظلمة بتوليفة نهايات براكماتية تعكس الواقع .

اسلوب الروائي عبدالكريم العبيدي

-يلقي الضوء الكاشف برشاقة وشفافية متناهية على سرديته النصية وترويج تكريس " السلام العالمي. "، ونبذ الحروب والنظم الشمولية وهو القائل: ومن قال : إن الحرب فيها منتصر!؟ وهي تسرطن النفوس .

- وبروايته يحتفي بقضايا الرأي والثقافة والتأريخ .

- توظيف تجارب أدباء عالميين في الصبر والمطاولة القيمية المعرفية متقارباً مع صبر همنغواي في روايته الشيخ والبحر.

- توظيف تصارع الأضداد (العقل والجنون، الحرب والسلام، الخير والشر، الرحمن والشيطان، الحقيقة والزيف) .

- تمكن من رسم السعادة بأرق معانيها وعرى واقعية الحرب بكل جرأة مبيناً عبثية الحياة في جغرافية أتون الصحراء الملتهبة والمستلبة للروح البشرية، لذا اراهُ يلقن أبطال روابته معايشة الجفاف الروحي .

- وجدت في قراءة الرواية: بروز الملامح وحركية الأبداع والتجريب في الخطاب الروائي، حينها أبدع الروائي عبدالكريم في تجسيد أوجاع تلك الجريمة بمسلسل درامي في أستلابات الحرب وهجرة الآلاف .

- أعتمد الروائي على سيمياء العنوان كما هو أسلوب أكثر الروائيين عموماً نموذج رواية ماركس في العراق للروائي فرات المحسن في أستعماله أسما بارزا، وربما تنحو عند ألآخرين إلى السعة والتنوع كما في رواية الرجع البعيد لفؤاد التكرلي والنخلة والجيران لغائب  طعمة فرمان، والثلاثية لنجيب محفوظ، ربما ترى سلبية عادية في سريان اليأس في أدبيات الروائي الفذ العبيدي في الفصول الأولى وهو شيء طبيعي يظهر في أغلب الروايات العالمية، وهويقول: كثيراً ما أذلني اليأس من مرارة التجوال داخل أزقة غدت عزوفة عن تقبل أي أحساس يداهمني من خارج خوائها شاخت البصرة يا (بالاجاني) غادرت ماضيها بلا رجعة، وتحولت نهاراتها إلى مترادفات مبهمة قبيحة الوجوه وفاقدة للوضوح، أيضاً لم يعد فيها ما سيستوجب التمعن أو يستحق أي رثاء لقد بدأ الأمر وكأن البصرة قديمة تنزاح مقسمة لمعاول الخراب، رسم ركام دولة جديدة من دويلات أواخر القرن، وببراعة الروائي نقل الفعل من واقعه الحقيقي إلى عمل فني يترك للمتلقي خيال الم مزدوج بنوع من الأضطراب والقلق المتأتية من فوبيا جمهورية الخوف والأستدعاءات الشبه أسبوعية من قبل دوائر الأمن وليس بالضرورة أن يعود إلى البيت لحماً حياً أو يبتلعهُ الثقب الأسود لجمهورية الرعب .

- وشكل العبيدي في رواته الرائعة " كم أكره القرن العشرين " نسيجاً محكماً في سداه ولحمته من خلال الأحداث الواقعية على جغرافية العراق في الحرب والسلم والحب والكراهية والرعب والأمان والموت والحياة .

- وأجمل ما في الرواية وجدتُ بمجمل فصولها شعبية واسعة من الجمهور المتلقي والأعجاب الشديد بفصول الرواية لتسلسل الأحداث وتراكيبيتها التأريخية ربما تأثر الروائي ببعض الفلسفات كالفلسفة اليونانية والفلسفة الماركسية من خلال معالجته للأحداث وهي مارة بالصراع الطبقي وحتمية التأريخ .

- ويتألم العبيدي من بؤس ووجع البصرة الفيحاء ويقول في فصله الأخير: لابد أن أقر بهزائمي لم يعد العقل أعدل الأشياء توزعاً بين الناس يا " ديكارت " في هذه المدينة المجنونة هو بيت الداء المسكون بالجن، النخل شاص مبكراً وبات في أعنف نوبات شكوكك يا "ديكارت "وتكون مسؤولاعن أول ضربة معول في فوضى هذه الحواس .

***

عبد الجبار نوري - كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

ديسمبر2023

 

إقامة المهرجانات والعروض والمعارض الفنية والندوات والمؤتمرات ظاهرة ثقافية حضارية مهمة تتضمن دلالات تعافي المجتمعات، وارتقاء الوعي وتنمية الذائقة والحس الجمعي، وإكساب الإنسان المزيد من التوجهات المفيدة، والقدرة على فرز النتاجات ذات المضامين والأساليب الراقية عن النتاجات المتدنية.

قدم في مهرجان مسرح الشارع في كركوك - الدورة السابعة بتاريخ ١٩- ٢١/ ١١ / ٢٠٢٣ أكثر من عشرين عرضا مسرحيا متنوع الطروحات والتوجهات الفكرية والفنية، وهذا أمر طبيعي في المهرجانات كافة، ولكن ما تفرد به المهرجان هو فتح بوابة جمالية جديدة نأمل أن تحذو حذوه فيها المهرجانات الأخرى اللاحقة، وذلك حين جعل للمهرجان بأربعة مسارات:2039 مسرح كركوك

المسار الأول: العروض ذات المضامين الموجهة للإنسانية جمعاء.

المسار الثاني: العروض العامة ذات المضامين الموجهة للمجتمع المحلي.

المسار الثالث: العروض ذات المضامين الموجهة لطلبة الجامعات / الشباب.

المسار الرابع: العروض الموجهة للأطفال.

وذلك استنادا إلى أن مسرح الشارع واحد من أنواع المسارح التي:

1. تسعى إلى جذب المتلقي بالذهاب اليه، ولا تنتظر قدومه إليها.

2. تقدم مضامين تمس حياة المتلقي بصورة مباشرة ومكثفة.

3. تسهم في صناعة جمهور مسرحي وتنمي ذائقته الجمالية.

فيما يلي عرض لنموذج أو أكثر من المسارات الاربعة:

نموذج المسار الأول: العروض ذات المضامين الموجهة للإنسانية جمعاء.2040 مسرح كركوك

قدمت فرقة (كويا) من مدينة كويسنجق - اربيل مسرحيَّة (رسائل البحر) أداء (هونر محي طاهر - دكتور كيفي أحمد عبدالقادر - فريدون حمد أمين) في مجمع (بوليفارد) للتسوق.

بدأ العرض مع الموسيقى، دخول اثنين من الصيادين، يسيران بحركة إيقاعية، يحملان أدوات الصيد (دلو وسنارة) ومفارقات كوميدية بسبب صعوبة تفاهم الشخصيتين، فهما يسيران، يصطدمان ببعضهما، وعندما وجدوا شيئا مهما في حوض النافورة أحدهما يطلب الصمت والآخر يصدر ضجيجا، أحدهما يجد صعوبة وشقاء وعناء لفتح الكرسي المحمول لغرض الجلوس والآخر يأتي إليه ويفتح الكرسي ببساطة وسهولة، وعندما ينوي الجلوس على الكرسي يسحبه الآخر من تحته فيسقط أرضًا، وحالما يقشر موزة ليأكلها يأتي صاحبه ويأخذها منه فجأة ليعطيه قطعة صغيرة منها ويأكل هو الباقي، وهكذا تستمر المفارقات.

شخصيتان تم طلائها بلون ذهبي من أعلى الرأس وحتى الحذاء، انهما صورة جمالية للصيادين جميعا، يبدأ الصيد بواسطة السنارة، ولكنهما يتركان الصيد، ويسحبون شبكة صيد، لا يستطيعان سحبها من الماء بمفردهما، تتم دعوة اثنين من الجمهور للمساعدة في سحب الشبكة، المفاجئة هنا هي أن ما موجود في الشبكة ليس سمكًا -كما هو متوقع- بل علب مشروبات غازية وقناني ماء فارغة وأحذية تالفة وقطع بلاستيكية وبعض الكائنات البحريّة المشوهة بسبب ما ابتلعته من نفايات.

ثمة تركيز واضح على وجود النفايات في المياه مما يقتل الكائنات البحريَّة ويجعل المياه ملوثة، لم يقل الممثلون كلمة واحدة ولكنهم أوصلوا رسالة بليغة.

استند العرض إلى فكرة موجودة ومتداولة كثيرا في العديد من المجتمعات، وتعمل عليها الحكومات والمنظمات بالندوات والمؤتمرات والملصقات الدعائية، وجميعها صيغ وطروحات مباشرة، أما العرض المسرحي (رسائل البحر) فقد عمل على تأطير الفكرة بجماليات جعلته جاذبا ومتفردا، فقد حضرت الكوميديا ووحدة الحدث وسادت فكرة أساسية على وفق ايقاع محكم، فضلا عن توظيف المكان.2041 مسرح كركوك

نماذج المسار الثاني: (العروض العامة) وهي التي تتناغم مع اتجاه الرأي العام وتوجهه:

عرضت في باحة المركز الثقافي يوم ١٩ /١١ مسرحية (مسافر من غزة) تمثيل (موختاري محمدي) وإخراج نجاة نجم، تناول العرض القضية الفلسطينية وتضحيات غزة وصمودها، وهو عرض مونودراما باللغة الكردية ، امتلك العرض وضوح الفكرة من خلال مفردات العرض غير الحوارية مثل الطفل المضرج بالدماء، العلم الفلسطيني، تعطير الجو برائحة البخور، طغيان صرخات غاضبة موجهة إلى الجمهور مباشرة، ومثيرة للتفاعل الوجداني، في نهاية العرض وزع الممثل طرود بريدية ملطخة بالدماء على عدد من المتفرجين وعند فتحها، كانت الصدمة، اذ كان في كل طرد حذاء ممزق ومدمى.

وغزة كانت حاضرة أيضا في عرض مسرحية (رسائل) الذي قدمته شعبة المسرح المعاصر في العتبة الحسينية المقدسة يوم ٢٠/ ١١،باللغة العربية، توليف وإخراج صادق مكي وتمثيل جعفر الأمير، قدم العرض في مجمّع (بوليفارد) للتسوق، وقد استخدم مفردات الكوفية الفلسطينية، وفرش مساحة التمثيل بالتراب واستخدم عبوات الدخان في إشارة واضحة للحرب، وقطع قماش بيضاء للدلالة إلى الأكفان والموت المحيط بالمكان فضلا عن لغة الحوار التي أفصحت عن الصراع مع الاحتلال وفيض مشاعر الغضب الممزوجة بالحزن والتحريض على الاستمرار بالمواجهة واستنهاض الهمم.

وعرضت مسرحية (كفى) من جمهورية سوريا تناولت قضية غزة (يحتفل عروسان بليلة زفافهما، يقصف المكان، يستشهدون) وهو عرض قصير وصادم.

توضح هذه النماذج الثلاثة أن مسرح الشارع يتناول القضايا الإنسانية الساخنة التي يعيشها المجتمع والعالم ويقدم رؤيته لها، فقد أفصحت العروض عن مشاعر التضامن والغضب، وطرحت المضمون نفسه ولكن برؤى متعددة.

نموذجين من المسار الثالث: العروض ذات المضامين الموجهة لطلبة الجامعات/ الشباب، وتم تقديم العروض للطلبة في (جامعة الكتاب)

عرضت مسرحية مونودراما لمعاناة امرأة في مجتمع الاستغلال الذكوري، فهي تفرح بزواجها ولكن بعد الترمل يظهر الوجه القبيح للتعامل مع المرأة /الأرملة، ويباع جسدها من أقرب الناس إليها وتتعرض للمهانة، استعان العرض بمفردات بسيطة ودلالات عميقة مثل الاستعانة بقطع ملابس رجالية من الجمهور لتكوين جسد الرجل الذي تفرح وترقص بزواجها منه، وتشارك الجمهور بورق لعب القمار عندما يصبح جسدها سلعة رخيصة، وقد شهد العرض تفاعلا جماهيريا بفعل تمكن الممثلة من تحريك المشاعر قوة خطاب الشخصية.

والنموذج الثاني هو عرض مسرحية (نخاسة) انتاج كلية الكنوز الجامعة، تأليف سعد هدابي، وإخراج علي الأحمد، تمثيل (أحمد الشمالي - احمد محمد - مصطفى مكي - احمد الغانمي) الموسيقى المؤثرات الصوتية الحية لحسام المبارك، شباب ملؤهم الحيوية جاءوا من مدينة البصرة، تناول العرض قوى السلطة التي تعمل على تحويل الناس إلى عبيد، وتدعي تمكنها من بيعهم في سوق النخاسة ولكنهم في النهاية يثورون على السلطة الغاشمة، سادت مفردة شد الحبال والتفافها بقوة السلطة على رقاب الناس وتحكمها بهم مثل الدمى المتحركة بواسطة الخيوط، وعندما يعيدون اللعبة بوعي آخر جديد، يتحررون من حبالهم ويطرحون السلطة ارضاً و يستعيدون حريتهم، تميز العرض بصوت تحريضي على خلفية من الإيقاعات الشعبية.

ومن نماذج المسار الرابع: العروض الموجهة للأطفال قدمت فرقة (اتحاد فناني كوردستان - فرع حلبچة) في مجمع (بوليفارد) للتسوق عرض مسرحية (العمل سحرية كاتا وكالي) باللغة الكردية، تأليف وإخراج (هه ردى هادى) اشتركت في أداءه ثلاث فتيات (توران وبيتا وبارين) أبرز ما عمل عليه فريق العرض هو الإيقاع الصوتي الحركي الذي تناغمت فيه الموسيقى مع استلام وتسليم حوارات فردية وجماعية وغناء وعزف حي من قبل (ياسين علي و ئاكار مصطفى) مع الحركة المعبرة المتنوعة، التي شغلت أرجاء مساحة العرض، وكانت خلفية العرض هو مسرح دمى خرجت منه الشخصيات في البداية، لتعلم الحضور بصيغة درامية عادات حميدة وسلوك جميل بواسطة الفعل وليس النصح والإرشاد المباشر، ثم عادت إلى بيت الدمى بعد أن أكملت مشاكساتها وحكايتها في النهاية، حضرت في هذا العرض الأجواء الاحتفالية بزيارة بابا نويل وهداياه الجميلة وأداء الدمى.، شكل هذا العرض علامة بارزة بالمهرجان لما تضمنه من متعة وتشويق وتعليم وتثقيف.

وإذا ما تم تعريف مسرح الطفل: بأنه مؤسسة اجتماعية تربوية.

وتعريف مسرح الشارع: بأنه مسرح المجتمع/ الشعب.

بناء عليه يمكن الجزم على أن مسرح الشارع ومسرح الطفل يعدان مدخلين للعمل على إعداد وصناعة الجمهور، فكيف هو الحال إذا قدمت عروض موجهة للأطفال في الشارع، ربما هي حالة فريدة من نوعها، تنطوي جرأة على فتح أفق جديد في المسرح.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

 

"رحلة إلى ذات امرأة" رواية تطرح العديد من النقاط، سأتناول في هذه المقالة بعضها:

المازوخيّة في الأدب: المازوخيّة هي مصطلح يُستخدم لوصف الشخصيّة التي تَشعر بالمتعة أو الإثارة عند تعرّضها للألم أو الإذلال. وقد تمّ استخدام هذا المصطلح في الأدب لوصف بعض الشخصيّات.

علاقة المازوخيّة في الأدب:

تتعلّق علاقة المازوخيّة في الأدب بالاستخدام المتعمّد لهذا المفهوم كجزء من تصوير الشخصيّات أو الأحداث في القصص والنّصوص الأدبيّة. وعادة ما يتمّ استخدام المازوخيّة كجزء من النزعة العاطفيّة للشخصيّات في الأدب.

على سبيل المثال، قد يتمّ استخدام شخصيّة مازوخيّة في الأدب لتصوير شخص يشعر بالإثارة عند تعرّضه للألم أو الإذلال، وعادة ما يتمّ تصوير هذا الشخص كشخصيّة مضطربة عاطفيًّا أو مريضة نفسيًّا، وقد يتمّ استخدام هذا المفهوم كجزء من النزعة الخاصّة بالشخصيّة أو كوسيلة لتعزيز القصّة بشكل عامّ.

يمكن أيضا استخدام المازوخيّة في الأدب كجزء من دراسة الإنسان ونفسيّاته، إذ يمكن استخدامها لتصوير العلاقات العاطفيّة المعقّدة بين الأشخاص، أو لإبراز العواطف الخفيّة التي تتحكّم في سلوك الشخصيّات.

على الرّغم من أنّ المازوخيّة قد تكون مثيرة للجدل وقد تثير بعض الانتقادات، إلّا أنّ استخدامها في الأدب قد يكون ذا معنى وفعاليّة إذا تمّ استخدامها بشكل صحيح وبدقّة، وعادة ما يستخدم المفهوم كأداة دراميّة لإثارة الاهتمام بالشخصيّات والأحداث في القصّة، وقد يُساعد في إضافة العمق والتعقيد إلى النزعات العاطفيّة للشخصيّات.

حنان تمثّل المازوخيّة بتجلّياتها المؤلمة، لدرجة التساؤل المُستهجَنة: لماذا ترضى حنان بكلّ هذا الألم ما دام باستطاعتها منعه، بل وتجنّبه منذ البداية؟ مازوخيّة حنان تعكس ساديّة المجتمع. مازوخيّة الفرد هي انعكاس لساديّة المجموع الذي فرض عليها الخضوع لئلّا تخالف التقاليد، هي قيود كبّلتها لتُمسي المازوخيّة نهجًا.

الخطّان المتوازيان في الأدب:

يُشير مصطلح "الخطّان المتوازيان" في الأدب إلى تقنيّة أسلوبيّة تُستخدم في الكتابة الإبداعيّة، وتتمثّل في استخدام جملتين متوازيتين في الشكل والمعنى والايقاع والنغم، ويتمّ تقديمهما في نفس السياق أو بنفس الوزن. وتُستخدم هذه التقنيّة الأسلوبيّة في الأدب لإبراز المعنى وتعزيز الصورة الشعريّة أو الروائيّة، وتتيح للشاعر أو الكاتب إيصال رسالة معيّنة بطريقة جذّابة ومثيرة للاهتمام.

فيما يلي مثال لاستخدام الخطّين المتوازيين في الأدب: "كانت الشمس تشرق على الأفق الرقيق، تصير أشعة شمسها الذهبيّة بينما تمسح الليل الظلاميّ عن وجهه". في هذا المثال، تمّ استخدام الخطّين المتوازيين بين عمليّة شروق الشمس وتغيّر لونها، وعمليّة تمسح الليل الظلاميّ، واللتين تمثّلان تغيّرين متوازيين في الطبيعة. تُستخدم هذه التقنيّة الأسلوبيّة في الأدب بشكل واسع، ويمكن استخدامها في الشعر والرواية والقصّة القصيرة وغيرها من أشكال الكتابة، ويساعد استخدامها على إضافة قوّة وإثارة للنصّ، ويمكن أن يساعد في توصيل الفكرة بشكل فعّال وجذّاب للقارئ. وهنا تستخدم صباح بشير تقنيّة الخطّين المتوازيين: الخطّ الفرديّ والخطّ الجمعيّ، مسيرة أنثى ومسيرة شعب، يتماثل الخطّان تارة، ويتوازيان تارة أخرى.

زمنان في الرواية:

"زمنان في الرواية" يُشير إلى استخدام مزيج من الزمن الحاضر والماضي في السرد الروائيّ. ففي العادة يستخدم الكاتب الزمن الماضي في السرد الروائيّ لوصف الأحداث التي حدثت في الماضي، بينما يستخدم الزمن الحاضر لوصف الأحداث التي تحدث حاليًّا أو في المستقبل. من خلال استخدام الزمنين في الرواية يمكن للكاتب إضفاء بعد إضافيّ على النصّ، وجعله يتمتّع بحيويّة وواقعيّة أكثر.

ويعتمد استخدام الزمنين في الرواية على الغرض الذي يريد الكاتب تحقيقه، إذ يمكن استخدام هذه التقنيّة السرديّة لتسليط الضوء على أحداث الرواية وجعل القارئ يعيشها بشكل أكثر حيويّة، كما يمكن استخدامها لإبراز بعض الجوانب النفسيّة للشخصيّات.

في بعض الأحيان، يستخدم الكاتب الزمن الحاضر لوصف الأحداث الرئيسة في الرواية بينما يستخدم الزمن الماضي للتركيز على تفاصيل أكثر دقّة، وقد يتمّ استخدام الزمن الماضي في الرواية للعودة في الزمن والتركيز على أحداث تاريخيّة مهمّة أو لتصوير الذكريات والتجارب السابقة للشخصيّات.

ويمكن استخدام الزمنين في الرواية بشكل متناوب، إذ يتمّ تبادل استخدام الزمن الحاضر والماضي بين الفقرات أو حتّى الجمل، وقد يمنح هذا التنوّع في استخدام الزمنين النصّ جاذبيّة خاصّة، ويجعل الرواية أكثر تنوّعًا وإثارة للاهتمام.

لكنّ الكاتبة بشير تستخدم زمنين متوازيين هما زمن حنان وزمن شعبها، أو زمن حنان كما تودّ أن تكون وحنان التي تعيش القهر غصبًا عنها في كلّ ما يدور حولها وتدور هي فيه. إنّهما زمنان يعكسان ذاتين: الذات الفرديّة والذات الجمعيّة، والذات الفرديّة والذات الجمعيّة هما مصطلحان يستخدمان في العلوم الاجتماعيّة لوصف الطبيعة الاجتماعيّة للإنسان وسلوكه. الذات الفرديّة هي الشخصيّة الفرديّة للإنسان، وهي الصفات والمعتقدات والقيم التي تميّز الفرد عن الآخرين. وتتأثّر الذات الفرديّة بالخبرات الشخصيّة والتربيّة والتعليم والثقافة والتعالقات والعلاقات الاجتماعيّة الشخصيّة، بينما تعكس الذات الفرديّة تجارب مجموع من الناس: مجموعة أو شعبًا، فتميّز السلوك الجمعيّ والثقافة الجمعيّة لهذا المجموع.

قصًة البعث في الرواية:

" قصّة البعث" هي مصطلح يُستخدم في الأدب، ويُشير إلى الحياة بعد الموت والعودة إلى الحياة مرّة أخرى بعد القيامة، وقد تمّ تصوير هذه الفكرة في العديد من الروايات والأعمال الأدبيّة. وفي أدبنا الفلسطينيّ والعربيّ شهدنا، وما زلنا نشهد هذا البعد في الكتابة.

في هذه الروايات، يتمّ تصوير الحياة بعد الموت والعودة إلى الحياة مرّة أخرى بعد القيامة، ويتمّ وصف المشهد الذي يظهر فيه الجميع يوم الحساب، والميزان الذي توزَن به الأعمال، والتصوّرات المختلفة حول العذاب والجزاء في الآخرة.

يعتبر هذا الموضوع من الموضوعات الهامّة في الأدب، إذ يحرص الكتّاب على التركيز على الإيمان باليوم الآخر وعلى أهمّيّة العمل الصالح والابتعاد عن الذنوب والمعاصي، ويعتبر هذا الموضوع جزءًا من العقيدة الإسلاميّة والمسيحيّة التي تؤمن بوجود الآخرة ويوم الحساب والجزاء والثواب. الكاتبة بشير تأخذ الموضوع إلى منحى أبعد، فحنان تعيش حالة من الموت، يشبه الموت السريريّ بمعنيين كاسم الحالة المرضيَّة، وكحالة رفض زوج لا تربطها به أيّة علاقة أو مشاعر، لكنّ هذا الموت ينزاح إلى حالة من البعث، وكأنّها بطل ينهض من رماده وينتصر بعدما كانت مثالًا للّابطلة ذات الضّعف المزعج.

إذًا فالشخص الذي يواجه الصعاب والتحدّيات يمكنه النهوض والانتصار، حتّى لو كان قد خسر سابقًا أو فشل في إحراز تقدّم. ويعني "البطل" هنا الشخص الذي يكافح ويحارب من أجل تحقيق أهدافه وأحلامه، والذي قد يواجه عراقيل وصعوبات على طول الطريق.

وتعبّر "ينهض من رماده" على القدرة على الاستفادة من الأخطاء والتجارب السابقة، وتعلّم منها، وقدرته على تحويلها إلى قوّة ودافع للنجاح في المستقبل. وفي النهاية، يعبّر "ينتصر" عن تحقيق النجاح والتغلّب على التحدّيات والصعاب التي واجهها الشخص على طول الطريق. حنان تنهض من رمادها، وتشبه آلهات ورد اسمهنّ في الميثولوجيا.

إنّها الآلهة التي ترفض الموت، وهناك العديد من الآلهة في العديد من الثقافات والأديان التي يتمّ تصويرها على أنّها ترفض الموت أو تتمتّع بالخلود، ومن بين هذه الآلهة:

1. آنانكي: هي الآلهة القدر والحظّ في الأساطير الإغريقيّة، وتعتبر رمزًا للخلود والبقاء.

2. تشايو تشينغ: هي إلهة الخلود والحياة الأبديّة في الثقافة الصينيّة.

3. أماتيراسو: هي إلهة الشمس في الأساطير اليابانيّة، وتعتبر من بين الآلهة القادرة على الخلود.

4. أبولو: إله الشمس والفنون والآداب في الأساطير الإغريقيّة، ويتمّ تصويره على أنّه يتمتّع بالخلود.

5. أودين: إله الحرب والحكمة في الأساطير الإسكندنافيّة، ويعتبر من بين الآلهة القادرة على الخلود.

6. قوبيل: إلهة الخصوبة والزراعة في الأساطير الكنعانيّة والفينيقيّة، ويتمّ تصويرها على أنّها تتمتّع بالخلود.

7. كريشنا: إله في الأساطير الهندية، ويعتقد أنّه يتمتّع بالخلود والبقاء إلى الأبد.

يمكن القول إنّ هذه الآلهة تمثّل رموزًا للقوّة والخلود والبقاء، وتعكس تقاليد ومعتقدات الثقافات والأديان التي نشأت فيها.

حنان ببساطتها تحاول أن تكون مخلوقًا يرفض الموت، وتحاول أن تكون الأنثى البطلة، أنثى البطولة، أنثى لدى جميع الشعوب.

الأدب المرآة:

الأدب المرآة هو مصطلح يستخدم لوصف الأدب الذي يعكس ويعبّر عن المجتمع الذي ينشأ فيه، بمعنى آخر، فإنّ الأدب المرآة يعكس الأحداث والمواضيع والأفكار التي تشتغل الناس في الحياة اليوميّة، ويعرضها في شكل قصص وروايات وشعر ومسرحيّات، ويمكن التوسّع بدراسات لوكاتش.

ويمكن القول إنّ الأدب المرآة هو وسيلة لتصوير الواقع والتعبير عن مشاعر وآراء الكاتب تجاه العالم من حوله، ويساعد الأدب المرآة في فهم المجتمع والثقافة التي ينشأ فيها وفي إبراز القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والنفسيّة التي تقع في المجتمع.

وبشكل عامّ يمكن القول إنّ الأدب المرآة يساعد على فهم المجتمع وتاريخه وثقافته، ويعكس الأفكار والمشاعر والتجارب الإنسانيّة التي تشغل الناس في المجتمعات المختلفة.

بشير ترفع الأدب مرآة تعكس قهر المرأة وقهر مجتمعها وشعبها لها، هي مرآة لا تكذب ولا تُجَمِّل، مرآة أصدق من البشر، فكلّ من حولها حاول خداعها، بل خدعها، إلّا مرآتها، لهذا تختار الأدب مرآة في بحثها عن الصدق والمثاليّة المفقودة.

مبارك للكاتبة صباح بشير في رحلتها إلى المرأة وإلى الذات، ومبارك للمرأة صدور رواية ترحل منها إليها.

***

د. أليف فرانش

كتاب "حكايات من فوق الغيمات" مجموعة قصص موجّهة للطفل للكاتبة الفلسطينية هدى ثابت، صدر في طبعتين. الأولى باللّغة الانجليزيّة من ترجمة الكاتب السوري محمّد صالح عن دار صافي للنشر بواشنطن سنة 2016، والثانية باللغة العربية عن دار الاتحاد للنّشر والتوزيع بتونس سنة 2017. وعنه نقرأ في صحيفة دنيا الوطن الالكترونيّة أنّ" القصص هي عن حياة وأحلام أطفال غزة في الحرب الأخيرة على المدينة والتي أدّت إلى استشهاد الكثير منهم مع أحلامهم الكبيرة. هي قصصهم وهم يتلونها علينا في بيوتهم الجديدة فوق الغيمات". هي إذن قصص من قطاع غزّة وعنه بمُستوييه: الأرضيّ والسماويّ.

يتضمّن هذا الكتاب مقدّمة وإحدى عشر حكاية مرفقة بنفس العدد من الصور رسمتها الفنانة عدلة ثابت.

المقدمة ليست مدخلا نظريّا نقديّا ولا تفسيريّا، بل هي نفسها حكاية لا تختلف في البناء الفنيّ والأسلوب عن غيرها سوى أنّها كانت ذريعة سرديّة بسطت من خلالها الكاتبة مشروعها: تخليد قتلى الحرب عبر الحكاية حتى لا يكونوا "على لسانهم مجرّد أرقام"، كما يسعى إلى ذلك كيان الاحتلال الإسرائيلي. تقول بتلة زهرة عبّاد الشمس في المقدّمة/ الحكاية :" والله يا زهرتي لقد سمعتهم يذكروننا أرقاما، ألا يعرفون أنّ الشهداء ليسوا مجرّد أرقام؟"(ص7) ثمّ تقول: "سأوشّم جبينك الطّاهر بأرقامهم والأسماء، بحكاياتهم التي طرّزوها بالدّموع وصارت غيمات حملتهم بعيدا إلى السماوات." وما زهرة عبّاد الشّمس هاهنا إلاّ القدس، "زهرة المدائن" وما بتلتُها إلاّ هدى ثابت نفسَها في سعيها إلى مقاومة الوحشيّة الصّهيونية عبر إعادة إحياء الضّحايا من الأطفال في سماء القطاع وتخليدهم من خلال سردهم للحكايات، وعبر كتابتها ونقلها على أجنحة الأحرف للعالمين. أمّ الصور ومن ضمنها صورة الغلاف فتنقسم إلى منطقتين ومستويين من الإضاءة وفق مبدإ التناظر الأفقيّ. منطقة قاتمة في الأسفل تغلب عليها الألوان الحارّة الأزرق والأحمر والأصفر مع تكثيف درجة الظلّ والعتمة بتوظيف تقنية المزج بين الألوان. إذ لا حياة في منطقة الظّلمة والظلال والأدخنة. ليس إلاّ "وجهَ طفل من دون ابتسامة، ذلك أنّنا لا نبتسم حين تكون الحياة على تراجع، وحين يضعف القلب بضربات مرعبة." (أناندا ديفي)

إنما الحياة في مستوى أعلى. وهي منطقة مضاءة بشكل جيّد تتدرّج فيها الألوان المتعدّدة من القتامة إلى النّور، باتجاه البياض والشّمس. وفيها نجد الأطفال والفَراش والغيم المبتسم. وجوه الأطفال هناك كلّها بلا ملامح، فلا شيء يُرى منها غير ابتسامة مشرقة. إنّهم غيمات أخرى، ذوات مشكّلة من بياض الغيوم، يتحرّكون في عالم من ضباب، وأرواح مشبعة بالطفولة والحلم والجمال الأبديّ، يقاومون النسيان بالبسمة والحكاية. وهذا التقسيم الأفقيّ هو ما سيحكم منطق السّرد في هذا الحكايات رغم مظاهر الوحدة المختلفة

1) الوحدة في الحكايات:

وحدة الرّاوي: يرد في الصّفحة 11 من الحكاية الأولى التي بعنوان "الرّاوي: " هتف جميع الرّفاق: نعم أيّها الراوي. أخبرت النّاس عن حكاياتنا، حان دورك، نريد أنّ نسمع حكايتك" انطلاقا من هنا وحتى النهاية سترد كلّ الحكايات على لسان هذا الراوي حالما يفرغ من سرد حكايته. لكنّه لن يستأثر بفعل الحكي على معنى الراوي العليم، بل سيقوم بدور الراوي الجوّال على ظهر غيمته رقم (1) من مكان إلى آخر في "سماء القطاع" بحثا عن مناسبة ملائمة للسّرد كأن يثير انتباه الأصدقاء إلى غياب أحدهم (دبدوبة السّمينة التي أخفت عمدا رقم غيمتها عن الجميع) مثلا أو إلى غضب أحدهم من الآخر أو انتهاز مناسبة قادم جديد يروي حكايته أو يتعرّف إلى غيره: "وقعت غيمة عمر في مركز الوردة فكان عليه أن يعيد سرد قصّته ليتعرّف السّاكنون الجدد إليه" (ص 98)، حينها ينزاح الراوي قليلا عن أنظار القارئ ويسلم "الميكروفون الضبابيّ" للشّخصية حتى تروي حكايتها بنفسها. والسّرد هاهنا، هو معبر الرّجوع الوحيد إلى أرض القطاع لهؤلاء المهاجرين الصغار قسرا إلى السماء، معبر لا يمكن لجيش الاحتلال غلقه أو منع العبور منه أو تقنينه على نحو مجحف بأبناء الأرض الأصليين.

وحدة الموضوع وذريعة السّرد الواحدة: وهي ما سبق بسطه في معرض حديثنا عن مشروع الكاتبة في المقدّمة.

وحدة مصير الشّخصيات: كلّ الشّخصيّات الرئيسيّة أو أصحاب الحكايات هم من الأطفال ساكني الغيمات بسماء قطاع غزّة. تتراوح أعمارهم بين الأشهر الجنينيّة مثل بائع الحلوى الذي "كان جنينا صغيرا لا يزال حبله السُريّ مرتبطا به" (ص75) وبين من لا يتجاوز السنّ الثانية عشر فيما نُقدّر. نقرأ في الصفحة 11: "محمّد تصله الكرة، لكنّه مازال صغيرا. صغيرا إلى درجة أنّه لا يستطيع تحديد الهدف بدقّة." وفي ص32: وفي علاقة بمحمّد أيضا: "ما أجمل أن يكون الإخوة وأبناء العمّ بنفس العمر". من حيث الجنس: هناك خمس إناث، أربعٌ فتياتٌ: أريج، ياسمينة، أماني، ودارين، والأنثى الخامسة هي بتلة زهرة عباد الشّمس. وعشرة ذكور أي بنسبة الضّعف كما نلاحظ، ستة كأفراد (الرّاوي، أكثم، محمّد، عبد الله، عمر، وبائع الحلوى وهو الجنين) وأربعة يشكّلون فريق كرة الشّاطئ. كلّ هؤلاء المختلفين من حيث الجنس والصّفة والوضعيّة الاجتماعيّة والأحلام والهوايات يشتركون في مصير واحد يتربّص بهم: هو الموت جرّاء الحرب، وما يليه من هجرة فرادى وجماعات إلى سماء القطاع عبر غيمة دائما ما تكون قريبة بانتظار أحدهم " لأنّهم في أيّ وقت قد يمتلكون غيمة" (17ص). ذلك أنّ كلّ الأرواح التي تسقط أرضا مضرّجة بدمائها "دائما تجد طريقها إلى السّماوات.( ص9). والموت هاهنا ليس فقط مصيرا موحّدا لجميع الشّخصيات الآن وغدا ومدى ما ظلّت فلسطين محتلّة. إنّه كذلك مصير الحكاية الأرضية ونقطة انغلاق خطّ السّرد الدّائريّ على ذاته: في السّطر الثاني من المقدّمة (ص5) نقرأ" يأتيها الموت في كلّ حين لأنّها تعشق الحريّة والحياة" وفي السّطر الأخير من الحكايات ( ص 104) ننهي القراءة بـ: "قتلوا انتظاري للفرح".

2) التثنية أو التقسيم الأفقي في الحكايات:

على غرار التقسيم التشكيلي للغلاف تمّ تقسيم الفضاء السّردي للحكايات إلى مستويين متوازيين: فوق- سماء / تحت –أرض

أمّا الفوق مكانيّا فهو سماء قطاع غزّة. فضاء للحلم والمرح والطفولة الأبديّة. مكان واسع لا يضيق بأحد من القادمين الجدد، مفتوح للحبّ والصّداقة والمشترك، فـ " أصحاب الغيمات مستمتعون جدّا باللعب، لا يتعبون ولا يملّون، ولا ينفكّون عن اختراع المزيد من الألعاب". لكنّه ليس نقيضا حدّيا للعالم الأوّل/ الأرض بل امتداد آخر له مخلوق من مادّة الضباب وطينة التخييل المرنة، يرتبط بالأسفل عبر سكّة عموديّة متينة مفتولة من نعومة القطن، يسير عليها قطار الغيم لكن في اتجاه واحد: من تحت إلى فوق محمّلا بأرواح الشهداء الصغار وبقايا عالمهم غير المكتمل. مظاهر كثيرة من الحياة اليومية الأرضية ارتفعت إلى السّماء كـ "الزّحام الشّديد" وترقيم الغيمات وتحوّلها إلى أحياء سكنيّة وشقق متجاورة سكّانها من الأطفال فقط: يقول الراوي: سمعت تصفيقا حارّا يصدر من مالكي الغيمات المنتشرة على امتداد سماء قطاع غزّة" ص63)  فضلا عن تحوّلها إلى مراكب تنقل الأطفال من مكان إلى آخر، وإلى وأراجيح وملاعب كرة ومنصّات للغناء والاحتفال وحلقات لرواية الحكايات الشّخصية والتعارف بين السّكان القدامى والقادمين الجدد، والمجال الزّمني هناك هو المطلق حيث يظلّ الطّفل أبدا طفلا يتجوّل حرّا وآمنا نفسيّا وجسديّا وسعيدا "لأنّه لا توجد انفجارات في السماوات" (ص53) ولا يعتريه ما يعتري الطفل السّاكن في العالم الموازي له، كلّما سأل محتجّا" ما علاقتي أنا بالحرب" يجيبه القصف. فأرض القطاع مكان منذور للموت والسّواد والحزن وبلا أفق للسعادة في سماء التوقّع، فليس سوى ألم الفقد المستمرّ على إيقاع الحروب المتتالية التي يشّنها العدوّ الصهيونيّ على غزّة مستهدفا المدنيين العُزّل وما يملكون: "استشهدت البيوت فلم تعد تملك سقفا للحبّ ولا حائطا لتعليق صور الأهل والخلاّن، اغتيلت البيوت فلم يعد هناك نوافذ للأمل بغد يرسمه الأولاد والبنات بكلّ الألوان"( 7ص). وزمن أرض القطاع هو اليوميّ الجريح والمروّع، الموقّع على أصوات الانفجارات وجنون القصف وموسيقى الساعات الجنائزيّة: "كانت إسرائيل قد بدأت بقتل العائلات المجتمعة معا" حكى محمّد نافخ البالونات. إنّ عالم الفلسطينيّ على الأرض غابة ظلماء تعجّ بالوحوش الآدميّة والذّئاب المسعورة. فمن هو الذّئب في حكايات هدى ثابت؟

لا تخلو أغلب القصص الموجّهة إلى الطفل وأوسعها انتشارا من الذّئب أكان في هيئته الطبيعية المباشرة كما في قصّة "ذات الرّداء الأحمر" أو قصّة "الذّئب والخراف السّبعة" مثلا لا حصرا، أو بصفته خطرا عائليّا كأن يكون زوجة أب غيور تكيد لابنة زوجها الجميلة وتحاول قتلها بطرق عدة (بيضاء الثّلج)، أو تحرّض زوجها على ترك صغاره نياما في الغابة لغرض التخلّص منهم (عقلة الإصبع)، أو قد تكون ساحرة شريرة تمسخ الأميرة بجعة (إخوة البجع) أو تحوّل الأمير إلى ضفدعة أو غول (جميلة والوحش)، وقد يكون رمزا للمخاطر الاجتماعية التي تهدّد الطفل في حياته كالاختطاف والحروب العالمية والأهليّة واليتم والتشرّد والتعصّب والعنصريّة وغير ذلك، وهذا الخطر/ الذّئب عنصر ضروريّ في القصّة فهو محرّك للأحداث، وبداية لمرحلة فقدان التوازن( امبرتو إيكو)، بظهوره يخرج السّرد من دائرة الهدوء النّمطي أو الاستقرار الذي يولّده الخير أو تشيعه الشّخصية الخيّرة إلى حيّز التوتر الدراميّ الباعث على التّصعيد والتّشويق من أجل تحفيز القارئ وتحريك سواكن الأسئلة لحثّه على المتابعة حتى النهاية.

في حكايات هدى ثابت حيث التباين بين عالمين سماويّ وأرضيّ، يختفي الذّئب كلّية في العالم الأول/ السماويّ ويحضر بشدّة مرعبة في العالم الثّاني، لا بصفته الرمزيّة أو التخييليّة الوظيفيّة، بل بما هو واقع مأساويّ معيش وحقيقة فظيعة. قطاع غزّة السّماويّ ليس غابة على أيّ معنى من المعاني التي سبق عرضها. ذلك أنّه عالم الثبات والهدوء التامّ والأبدية، "مكان آخر" " حيث في إمكان الطّفل أن يصطفي مملكته الشّخصيّة وأن يبني فيها يوما بعد يوم كلّ أحلام طفولته"( أناندا ديفي) وحيث كلّ شيء مثاليّ وتامّ ونهائيّ: الفرح والأمن والسّعادة واللعب والأمنيات. والطّفل هناك هو طفل أبدا، فمن مات سائق قطار أو بائع حلوى أو جنينا سيظلّ كذلك إلى أبد الآبدين مثلما ستظّل ياسمينة الدّبودوبة سمينة دائما. حتى المجتمع الغزّاويّ سيظلّ هو نفسه في السّماء، في مدن الغيم، يلتزم فيه أفراد المجتمع بعادات المجتمع الأرضيّة وقوانينه الدّاخليّة كأن تُفرد للمرأة مهن بعينها ويختصّ الرّجال بمهن أخرى هي خارج المنزل بالضّرورة. فنحن لا نلاحظ فقط هيمنة الذّكور في هذه الحكايات ( نسبة الشّخصيات من البنات هي النّصف مقارنة بعدد الأولاد، وهناك امرأة واحدة ذكرت في الحكاية الأولى " الراوي" " تعمل خارج المنزل، في المكتب الخاص بإحصاء السّكان في قطاع غزّة"، هي "السيّدة هدى" والبقيّة هنّ أمهات وربّات بيوت) بل نلاحظ ذلك كذلك في نوع المهن وخاصّيّة الطموحات التي يحلم بها الأطفال، فللأولاد: مهن وأحلام من قبيل: سائق قطار، صحفيّ، بائع بالونات( تاجر) لا عب كرة، موظّف في مركز الإحصاء بغزّة، وللبنات: الحلاقة، والرّسم والتهام الحلوى بشراهة.

في السّماء يكون السّرد بطيئا رغم ما بدا من حركيّة ظاهرية في الأحداث وتعدّدها وتعدّد الشّخصيات التي تجتمع هناك بعد أن كانت متفرّقة في الأرض. والبطء في تقديرنا ليس تقنية في القصّ بقدر ما هو واقع حال تفرضه "البيئة الجديدة" التي انتقلت إليها الشّخصية: فالمكان: مكان للمطلق والزّمان زمن المطلق والشّخصيات في اكتمالها النّهائيّ والأحداث هي نفسها في تكرّرها المستمرّ أبدا. والمجتمع مجتمع أطفال عُزلوا في مدن الغيم بعيدا عن النّجوم التي يسكنها الكبار فصاروا بذلك "مجموعة نوعيّة" مستقّلة بذاتها ومعزولة عن غيرها فيما يُشبه المستوطنة المغلقة على الغيم والضباب. فلا ذئب يجبر الخطى على الرّكض إذ لا غابة هناك، ولا مستذئب يهدّد الحياة إذ لا حياة بالمعنى المتعارف عليه في سماء القطاع، وبالتالي وعد بانعدام الحرب وأهوالها، ووعد كذلك بانتفاء المغامرة والشجار والعبث تحت المطر وفي الوحل وعلى الرّمال، وفي الحالين لن يكبر الطفل الفلسطيني ولن يغامر أو ينضج بفعل التجارب ولن يجد ما يقاومه أو ينمّي البعد البطولي في شخصّيته.. لقد حقّق سعادته القصوى بخروجه من الحياة الدنيا وحقّق أيضا سعادة الصّهيوني بالتخلّص منه وإلحاقه بالسّماء من أجل أن ينعم طفله هو وحده بالأرض أرض فلسطين. كلّ ما على الطفل الفلسطينيّ، على ما لاحظنا في هذه الحكايات، هو أن يحلم بأن يغادر الأرض سريعا ليكون هناك خاليا من الواجبات والهموم والمخاطر جميعها منشغلا بحلمه الصّغير الذي لن يكبر.

بالمقابل قطاع غزّة الأرضيّ عالم متسارع يركض على إيقاع الحرب المتسارع، غابة ظلماء تعجّ بالذّئاب والمستذئبين وتحيط بها الوحوش المفترسة من كلّ صوب. كبيرة الذّئاب هاهنا هي الحرب. حرب الكيان الاسرائيليّ المحتل على غزّة. هي الغولة بعينها. تقول أريج: "قامت الغولة بصبّ شلال من الموت العنيف على بابا وعربته"، وهي الشرّ المستطير:" يشمّر عن ساقيه القبيحتين وينهال عليها ضربا وركلا ورفسا ثمّ يقوم بتكويم الرّكام على وجهها الجميل" (ص 5). وهي " ظفر الشّيطان اللعين" كلّما حلّ " حصل الجميع على كسور وحروق وأطراف مبتورة" (ص20)، وهي المستوطن الهمجيّ يخوض حربه الفرديّة العبثية إزاء أطفال عُزّل ثم يُكرَم من قبل سلطة الاحتلال مثلما نقرأ في قصّة "فريق كرة الشّاطئ المحترف". في أرض القطاع "العنف المفرط أصعب من أن يوصف"،" كأنّ غزّة تحوّلت إلى دولة نوويّة تهدّد أمن إسرائيل (ص 35). إذ " حتى الخضراوات اختفت، يقول عمر، الخضراوات طيّبة وتخاف من الصّهاينة"(ص99). وأينما ولّى الطّفل الفلسطينيّ وجهه من أرض القطاع " كانت الحرب، كان الدّمار، وكان الموت. حرب دمّرت وأبادت وقتلت الجميع، جميع من في مربّعنا السّكنيّ." (ص14). مقابل كلّ هذا القتل المستفحل هل من شخصية منقذة في أفق هذا الطّفل؟ في الواقع الإجابة سريعة وجاهزة. لا. لا صيّاد يقتل الذّئب ويخرج الطّفل من بطنه المظلم، ولا خير ينقذه من براثن الشيّطان، لا أمير ولا جنيّة ولا صديق ولا زورو ولا بابا سنفور، إذ لا أمل في التخلّص من وحشيّة الحرب/ الغولة آكلة لحم البشر التي تبدو كما لو كانت أبديّة ولا نهاية لها في أفق التوقّع.. العزاء الوحيد هو أنّ أطفال غزّة سيرتفعون شهداء أحياء في مدن الغيم يُرزقون السعادة.

لقد تُرك الطّفل الفلسطينيّ وحيدا للموت والهلاك. تُرك لشرشبيل يصرخ على الدّوام في السنافر الصّغيرة " أنا أكره السنافر، سأنتقم منكم ولو كان ذلك آخر يوم في حياتي"، بل لم يُمنح في هذه الحكايات ولو على سبيل التخييل فرصة للمغامرة والنضال والمقاومة والأعمال البطوليّة على غرار ما يجول في مخيلة كلّ طفل وما هو عليه في حقيقة الأمر أيّا كانت ظروف معيشه. وحدها الغيمات كانت قريبة منه وجاهزة لحظة يسقط لترتفع به إلى السّماء" حيث تبدأ هناك (فقط) حياة نظيفة خالية من الاستهتار والحمق."( قصة رائحة في السّماء)، ووحده مشروع الكاتبة المعلن عنه في المقدّمة، هو الذي طغى وهيمن: الكتابة عن الأطفال القتلى. كلّ الأحلام قُتلت في الواقع كما في الحكاية الأرضيّة. في الصّورة المرافقة لحكاية" فريق كرة الشّاطئ" نقرأ ما يلي: كنّا سنبهر العالم بمهاراتنا لكنّهم فضلوا منظر أشلائنا". الكاتبة أيضا فيما بدا لنا لفرط ما روّعها منظر الأشلاء ولشدّة حرصها على إسماع العالم الآخر/ الغربيّ صوت هذه الصرخات والآلام، "فضّلت " بوعي أو دونه الكتابة عن الأشلاء بدل الكتابة عن عرق الحياة النّابض فيها. يشغلها فيما تكتب عادة وتنجز من مشاريع تربوية وتعليمية الجانب التربويّ، وهي هنا سعت إلى تخفيف وطأة الموت على الطفل بتزيين فكرة الشّهادة التي ستنقله من عالم البؤس والشقاء والجحيم/ عالم الأرض الفلسطينية والحياة الدّنيا فيها إلى عالم الخير والنعيم والجنّة/ عالم السّماء- سماء القطاع.

***

بسمة الشوالي- تونس.

- جاء بالاستهلال ليختصر المعنى العام وحمل قصيدته الكثير من الصور الشعرية

 - ذهب ظافر البياتي إلى الحفاظ على النسق الشعري الجمالي للأبيات

تبقى ميزة الشعر الحر( شعر التفعيلة) كما يسمى، أن صاحب القصيدة فيه ينتهج نهجاً يسير من خلاله نحو أفاق الكلمة وأبعادها اللامحسوبة، ويمكن من خلاله للشعراء أن يرسموا ما شاؤوا من صور، نعم المخيلة الشعرية تمنح الشاعر الإبحار على متون الأمواج ليتجاوز من خلالها حدود التناظر والتناغم، لكن وفق أصول العملية الشعرية وقواعدها ليكتب برصانة الكلمة ووقعها على مسامع المتلقي بثقلها وموسيقاها وشجونها وحتى ألامها وأمالها في الكثير من الشعر المستتر بخفايا الاحاسيس والعواطف والمواقف والمحن.

أردت أن أسوق تلك المقدمة المبسطة لأدلف إلى ما كتب الشاعر ظافر البياتي في قصيدته التي وقعت بين يدي (غربة) والتي ذهب من خلالها ظافر إلى الحفاظ على النسق الشعري الجمالي للأبيات، والتي سعى وبجهد واضح أن التمسك بالجوهر الذي حفه بتقنيات ورؤى جمالية أثرت ما كتب من حيث الجنس والنوع لينتقل من خلالها إلى مراحل التطوير والتشكيل الصوري ليخلق نموذجه الشعري الذي احتوى صوراً عدة لايحار المتلقي بتلمسها في القصيدة والوقوف على أبعادها ومعانينها، وتلك خاصية قصيدة ظافر البياتي والتي كتب أبياتها ببساطة المفردة ودلالة معانيها.

غربة

ويأتي الليل ...

فتصب العيون

دموع العتاب

تصب الآلام ...

ووجع العذاب

تصب الظنون

تناول الشعراء صورة الغربة كل حسب رؤياه وتفاعلاته وما عاشه وما سمعه، لكن أن تقل صوراً للغربة من الوطن، فتلك هي المأساة التي تمثلها كلمات ظافر، قرأنا صوراً شعرية لشعراء مغتريبن عاشوا عقوداً بعيدين عن أوطانهم وكتبوا الشعر لما عاشوه من لحظات ألم وحنين وفراق وهم خارجه في الغربة، وهو شعر وجداني مؤثر وغاية في الروعة، لكن الصورة الشعرية الظاهرة في القصيدة عن (غربة الوطن) من داخله، وأنت تعيشه في أنفاسك، وتستشعر حنينه أكثر بشاعة من الغربة الأخرى التي تتماسك وتمتلك فيها نفسك وحرية التصرف والتجوال والعمل، أما الأولى فلا خيار لك فيها سوى (الغربة) بمعانيها الشاملة المملة الممنهجة لقتل النفس والوطن.

تلك هي غربة ظافر البياتي، ومحنته التي أسس عليها أبياته التي احتوت الوصف وألقة والنسق الموحد الذي يفضي إلى التعبير الصادق عن ما يستشعره من ألم وهو في وطنه، بل في بغداد التي باتت غريبة على أهلها ومحبيها.الاستهلال الذي جاء به ظافر البياتي في قصيدته أختصر المعنى العام، وعبر عن القصيدة بشكل مجمل، بل كان قصيدة بحد ذاته، تحمل عشرات الصور التي يسطتيع القارئ أن يلمسها بقلبه لا بيده، فتجسدها العين صورة ناطقة بالإحساس والشجن، ( ويأتي الليل)، ولك أن تسرح في متاهات الصور التي يسلط هذا البيت ضوءه على فحواها، فالليل قاتل في الغربة، أجاد ظافر في هذه، لكنه أخفق فيما بعدها (فتصب العيون، دموع العتاب، ووجع العذاب، تصب الظنون)، كان لابد لهذه الصورة ان تكون مخفية على القارئ لأنها مجسدة في قدوم ليل الغربة، وفيها أن العيون تصب دون إشارة، بل هي يجب أن تكون ضمنية لا حسية، يعني خافية عن عين القارئ، يستشعرها حين يريد، فكثرة الشجن تثير القارئ وينفر من القصيدة.

ثم أنها تحدد، والتحديد مرفوض في فناءات الشعر، إلا الاستثناء، (ولكل قاعدة شواذ)، لذلك تنجح (قصائدالمدح) وبخاصة في الشعر الشعبي حين يمتدح الشاعر و يعرف بالعامية (المهوال)وهوالذي اتخذ من المدح منهجاً محدداً لمسارات شعره يمتدح شخصيات بعينها من اجل المال او لقضاء حاجة معينة، لكنه لاينجح في غير المديح، وذلك هو (التخصيص).

ومن تلك السمة التي أقحمها ظافر في الاستهلال، يعود ليخرج من التخصيص إلى فضاء القصيدة المفتوح حين جاء بـ(تحكي) إشارة واضحة بتوظيف الدلالة حين استخدم الزمن الحالي ملحق بالتاء، وهي ضمير المتكلمة المؤنث، لكنها هنا مجهول جيء به للدلالة على حركة الزمن وانفعالات القصيدة وإرهاصات الفعل الدال على أن ثم حركة ستحدث تغييراً ملموساً في ال\مشهد الشعري.

لكن ظافر البياتي لم يفصح من تلك التي تحكي عن الغريب، هل هي الغربة أم من عاشتها، أم ما يتطلبه السياق العام للقصيدة التي جعل منها في مشهدها الثاني (جواب شرط) عن دالة الحكي، فأستخدم عوضاً عنها الإشارة ليُثَبت الدلالة (ذاك الغريب)، ولاستكمال كونها تفيد بالاستفهام، ومنها ليُضمن المشهد الشعري دلالة الاستفهام فقال (هو الجنون)، وتشعب في مابعده في الاستفهام ( أو من يكون، تراه الغياب؟)، دون أن يحرر جواب عن تلك التساؤلات المفردة والجمعية التي ضمنها القصيدة في مشهدها الثاني، حتى أني أطلقت عليه (مشهد التساؤل)، ليتمه بوصفية حاول البياتي أن يختم بها ذلك المشهد، وأظنه لم يخرج فيه من الإبهام والتساؤل والحيرى، فجاء ليورد وصف الليالي وشجونها وما تخلفه من ألم الغربة، فأفرد لها التوصيف ب (الثكلى) .

تحكي ....

عن ذاك الغريب

هو الجنون

جاء يبحث الأسباب

تراه نبياً أم رسولاً

او مَنْ يكون؟ !

تراهُ الغياب ..؟

وتظل الليالي بالآه ثكلى

وألم الشجون

وتسالوني نبض

السنون

ضاعت أوماتدرون؟!

ومن تلك التساؤلات وتضمنين المشهد بالاستفهام والمبهم، والتي خرج ظافر البياتي منها بحصيلة دالة على الحقيقة التي بنى مشهد برمته عليها، حين أورد جواباً للسؤال الأخير الذي ضمنه المشهد الثاني ومثله بالضياع نتيجة تلك الغربة والألم الناتج عنها، (ضاعت أوما تدرون)، ليختم المشهد بتوظيف حقيقة مجسدة للفقد الذي يعاني منه الكثير في عالم تسوده عدم المبالاة وسيطرة قطاع الطرق على مصائر الناس.

من هذا التوصيف يدخل ظافر للمشهد الأخير لقصيدته ليقف على دهشة الحقيقة وثبات التوصيف (ستظل أغنيتي الحزينة) تاكيد يتطلبه المشهد بعد تلك التساؤلات والليالي المثقلة بألآم الغربة وشجونها ومرارتها و(المجون)، (جواز اغتراب) كل ذلك التوصيف يدفع لوصف ما كتب ظافر بالوجدانية المطلقة، والتي لاتقف عند حد التوصيف ورسم الصورة الشعرية التي تجسدها المشاعر، بل دقة الدلالة (مدن الضيم الدامي)، (بين السجون) على اعتبار أن الغربة في الوطن هي سجن مفتوح على غربة الروح، واغتصاب للمعنى السامي للحياة.

ستظل أغنيتي الحزينة

والمجون ...

جواز اغتراب

في مدن الضيم الدامي

بين السجون

يبقى أغتصاب .

القصيدة بمشاهدها الثلاث احتوت توظيف عناصر البناء الشعري بشكل جمالي يتناسب والمعنى العام والوقفات الدلالية التي جاء بها ظافر البياتي كانت متناسقة وموسيقى القصيدة، ومنها انتج شكلاً درامياً يوحي من خلال وصف الغربة بأن صعوبة ما يعانيه الناس كشعور إنساني يتمثل في غربتهم داخل أوطانهم، والتي تفوق الغربة عنها على الرغم من أن الغربتين تمثلان مآساة دائمة لايحبذنبل من الجرم أن يعيش الإنسان تجربتها بسبب الكثير من المتسلطين العابثين بالأوطان ومصائر الناس.

فحوة القصيدة رائع وموضوعها أروع بوصفه يشير لحالة ومشاعر إنسانية نبيلة، ناهيك عن ما تحمله من مشاعر وطنية خالصة.

***

سعد الدغمان

استكشاف التأثيرات المتعددة للتقارب الأدبي

كان الأدب بكل أجناسه وضروبه ساحة للتجريب والابتكار منذ أزمان بعيد، وربما كان الشعر أبرز تلك الأجناس الأدبية التي كثر حولها الجدال في أدبنا العربي، إذ كان دائما محط اهتمام وبحث وابتكار، ربما منذ كسر (عمود الشعر) الذي يصفه أحد النقاد بأنه (يشبه عمود الدين، الحياد عنه بدعة من البدع، أو ضلال يجب أن يتناول بالكراهة التي تبلغ أحيانًا حد التحريم)، إلى الزمن الحالي والجدال حول قصيدة التفعيلة، ومن ثم قصيدة النثر والنص المفتوح وغيرها، لذلك كان الشعراء هم المبادرين دائما، في الخروج عن الأطر التقليدية، وهذا لا ينكر أن هناك بعض تلك المبادرات في الأجناس الأخرى، لكنها كانت دوما ضعيفة وخجلة، وقد برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة ملفتة للانتباه، هي كثرة الشعراء الذين توجهوا إلى كتابة الرواية، حيث أخذ التجريب منحى آخر بخروجهم عن حدود الشعر وإطاره، ليغامروا في عالم الكتابة الروائية، وهناك نماذج عالمية معروفة، حيث كتب فيها بعض الشعراء العالميين الرواية أمثال (مارغريت أتوود، وسليفيا بلاث بروايتها (الناقوس الزجاجي)، ومايكل أونداتجي وروايته المشهورة (المريض الأنجليزي)، و د. ه. لورنس، وبول أوستر.. وغيرهم)، وهناك من الروائيين الذين كانت بداياتهم مع الشعر كـ( ميلان كونديرا، وغونتر غراس، وماركيز .. وأخرين)، أما الشعراء العراقيين الذين كتبوا الرواية فعلى سبيل المثال لا الحصر (فاضل العزاوي، وصلاح نيازي، وجواد الحطاب، وعبد الزهرة زكي، وعارف الساعدي، وأحمد الشطري، وحسين القاصد، وسنان أنطوان، وعلي الأمارة.. وأخرين لا يسع المجال لذكرهم)، ومن الشاعرات العراقيات (فليحة حسن، رسمية محيبس، بلقيس خالد، هدى محمد حمزة... وإخريات).

غالبا ما يتم الاحتفاء بالشعراء باعتبارهم لاعبين ماهرين باللغة وصناعة الكلمات، وقدرتهم على إثارة المشاعر، وصناعة الصور الحية، لذلك فقد يبدو لنا -على أقل تقدير- إن هذه المهارة قد تدفع أغلب الشعراء إلى أن يجربوا كتابة أشكال إبداعية أخرى، وأجناس أدبية مغايرة، ومنها الرواية، التي قد أخذت حيزا كبيرا من الاهتمام في الآونة الأخيرة، ففي عالم تتغير فيه الحدود الفنية للأجناس الأدبية باستمرار؛ يجلب الشعراء الروائيون منظورا جديدا للمشهد الأدبي، لا يثري عالم السرد فحسب، بل يرفع الرواية أيضا إلى أفاق جديدة من الجمال اللغوي والصدى العاطفي، فنحن محظوظون كقراء، أن نشهد هذا الاندماج بين البلاغة الشعرية والابتكار السردي واتساعه، مما ينبهنا الى أن الجوهر الحقيقي للأدب يكمن في الاستكشاف لأنماط وأشكال تعبيرية متنوعة وجديدة.

يُظهر الشعراء الذين يغامرون بكتابة الرواية مزيجا فريدا من المهارات الأدبية، التي تضفي غالبا على رواياتهم جودة غنائية مميزة، بلغة مشبعة بإحساس شاعري، يوفر للقارئ مساحة جمالية واسعة، وفرصة كبيرة للتأمل، فالتزاوج بين الحساسية الشعرية واتساع السرد الروائي، هو تعزيز للصدى العاطفي والفكري في السرد، إذ أنَّ قدرة الشعر على إثارة المشاعر ومناطق التفكير والخيال من خلال بناء الصور البلاغية الحية، وتوقع غير المتوقع؛ تثري البناء السردي، الذي يخلق تجربة قرائية متميزة، فعندما يكتب الشعراء الروايات، فإن فهمهم العميق لكيفية بناء الكلمات عاطفيا وفكريا، يُمكنهم من صياغة الشخصيات والمواقف والأَحداث التي يتردد صداها لدى القراء وبمستوى عميق، إذ أنَّ هذا التقارب لا يجذب القراء على المستوى الفكري فحسب، بل يجذب أيضا أحاسيسهم ومشاعرهم الإنسانية، مما يخلق علاقة قوية بين الرواية ومتلقيها.

يجد الشعراء، من خلال هذا التقارب والاندماج، مساحة تتشابك فيها سيولة اللغة الشعرية والبناء السردي المرن، والذي يقود إلى نصوص تطمس الخطوط الفاصلة بين الأجناس الأدبية، والتي دفعت بعض النقاد والباحثين للتأكيد على أهمية انتقال الشعراء إلى كتابة الرواية، كشكل من أشكال التجريب، الذي يدفع حدود البنية السردية إلى مناطق جديدة، لكن عملية الانتقال من الشعر ببنائه المكثف إلى اتساع السرد، تتطلب اتباع أسلوب جديد في الكتابة الروائية، من خلال قيام الشعراء بتكييف تقنياتهم الشعرية مع الأشكال الروائية، ليقدموا بناء سرديا جديدا، ووجهات نظر غير تقليدية، متحدين بها المعايير التقليدية للكتابة الروائية، ولكن نرى إن أغلب التجارب التي أطلعنا عليها - على أقل تقدير- انساقت مع الرؤية التقليدية للكتابة الروائية، ولم تستطع أن تتخطى حدودها، وأيضا على الرغم من الصورة الجميلة التي يمكن أن نتصورها لما يمكن أن يقدمه الشعراء للكتابة الروائية، بعيدا عن انسياقهم وراء البناء التقليدي، فهي سلاح ذو حدين، فقد تنتج من هذه العملية نصوص روائية متميزة، مكتملة فيها كل عناصر الرواية، أو ربما تتغلب على الشاعر صنعته الشعرية ولا يمكنه عقد توازن بين صنعته هذه والمجال المغاير الذي يجرب فيه، لأنَّ الكتابة الروائية عملية معقدة ومختلفة تماما عن كتابة الشعر، لها قواعدها وأعرافها التي يحيط بها صناعها، لذلك قد لا يستطيع الشاعر- الروائي أن يحقق هذا التمازج والتقارب المنشود بصورة متوازنة، تحافظ على كيان كلا الجنسين وبنائهما، الذي ينتج لنا ربما نصا هجينا، لا يمتلك هوية إجناسية واضحة.

قد يعتقد ربما بعض الشعراء الذين تحولوا إلى روائيين، أو الذين كتبوا الرواية كتجربة إبداعية جديدة، إن لديهم القدرة على التعمق في الموضوعات المعقدة، بما يمتلكونه من حساسية شعرية؛ تساعدهم على بناء روايات تدرس التجربة الإنسانية من زوايا مختلفة، حيث العواطف والأسئلة الفلسفية، والتعقيدات المجتمعية، ولكن هذه الحساسية غير كافية لبناء روايات تغوص في النفس البشرية، وتحول كل تلك التعقيدات التي تحيط بها إلى شخصيات واحداث مفعمة بالحياة والمشاعر الإنسانية، لأن الرواية هي عملية بحث وتشريح لتلك النفس البشرية، ضمن بنى وعناصر ربما لا تتشابه مع بنى الشعر وعناصره وخطابه، وإن كانت تستوعبه ضمن خطابها.

يستعير بعض الشعراء الروائيون جزءا من التقنيات الخاصة بالشعر، ويحاولون استخدامها في الكتابة السردية، كالتقطيع والتكرار، والبناء غير الخطي للأحداث.. وغيرها، مما قد يدفع بهم إلى الجنوح بعيدا عن الحدود الإجناسية للكتابة الروائية، بصورة مقصودة كنوع من التجريب وكسر القوالب التقليدية، أو بصورة غير مقصودة نتيجة عدم إدراكهم للفروق العميقة بين خطاب الرواية والخطاب الشعري.

تُظهر لنا ظاهرة تحول الشعراء إلى روائيين مدى تنوع الكتابة الإبداعية، والقدرة على دمج الشعر بكل نسيجه الفني والبلاغي في نسيج الكتابة السردية الروائية، من خلال روايات تتشابك فيها عوالم الشعر والسرد، لتشكل نسيجا أدبيا آسرا.

***

أمجد نجم الزيدي

يظن البعض إن الكاتب والروائي التشيكي ميلان كونديرا هو روائي مثل أي روائي آخر، لكن المطلع على أغلب ما كتبه كونديرا وتحديدا في سنواته المتقدمة من عمره، هو سعيه ولجوءه الى فلسفة كتاباته الروائية، ليمنح فكرة الصراع مستويات متعددة من التداخل السردي الذي يأخذ شكل البناء الروائي.

إن ميلان كونديرا هو فيلسوف الأدب الروائي إن صح التعبيرـ فضلاً عن بقية الروائيين الآخرين الذين سبقوه من أجيال مختلفة ومن جيله أيضاً، لقد حظي كونديرا بتقدير واهتمام كبير من قبل النقاد والأدباء حول العالم، بسبب أسلوبه الفريد والمميز في كتابة الروايات، إذ تتميز رواياته بالفلسفة والأفكار المعقدة والأبعاد المتعددة، فهويتناول الشخصية ليمنحها جدلية التعايش مع حركة النص الروائي الذي يكتبه، كذلك يبتعد في محور الشخصية التى منحها شكلاً  للوهلة الاولى بأنها عادية هزلية أو لا مبالاية او هامشية ..الخ، ثم يفاجيء بها القاريء بغرائبيتها وعمقها الفلسفي ودلالاتها المتعددة.

بصفة عامة، كانت روايات ميلان كونديرا تحظى باهتمام كبير ليس فقط من قبل النقاد بل حتى المراكز الثقافية في العالم، حيث اشتهرت رواياته بالتفكير الفلسفي العميق الذي يتناول فيه العديد من المواضيع الإنسانية، وقد عُرف بتقديمه لتحليلات دقيقة للشخصيات والعلاقات الإنسانية والتعامل مع المواقف الحياتية المتشعبة.

ومن الجدير بالذكر أن الرأي الفردي للنقاد والأدباء قد يختلف في التقدير والتفسير، لذا يلجأ الكثير من الباحثين للأخذ بالدراسة المقارنة لرواياته واسلوبه مع من يماثل طروحاته الفلسفية داخل النص الروائي، كما يُعتبر كونديرا من الأدباء الذين تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات وانتشرت شهرته حول العالم رغم تأخرها بعض الشيء، وتُدرس أعماله في الجامعات والمدارس الأدبية، حيث تميّزت القراءات والتحليلات لأعماله بالإشادة بالأفكار الفلسفية المعاصرة التي يقدمها للعالم، والتي تتناول صراع الانسان المعاصر بين الحرية والتحرر والبحث عن كينونة الاشياء وصراع الوجود الأبدي وماهيته وغيرها من قيم إنسانية وبأسلوب سردي مميز، الذي ينقل القارئ إلى عوالم مختلفة تجعله أكثر التصاقاً بواقع يتوزع بين التمرد تارةً وبين البحث عن معنى الحياة المتجددة في عالمنا المعاصر.

وفضلاً عما تقدم، الى إن روايات ميلان كونديرا، غالبًا ما تتناول مواضيع غير تقليدية او رتيبة وتقدم تحليلات عميقة للشخصيات والمجتمعات العالمية والانسانية.

 ولكي نعطي تفسيراً أكثر دقة، يمكن تلخيص الأبعاد النفسية لرواياته بشكل عام، حيث إن روايات كونديرا غالبًا ما تتناول مشكلة الهوية الشخصية والوجدان البشري، وتبحث شخصياته في أسئلة مثل من أنا؟ وما هي أهدافي ورغباتي؟ وكيف يمكنني تحقيق السعادة؟  كما تمتزج العديد من شخصيات كونديرا بين العقلانية والجوانب العاطفية والجدل الفلسفي، إذ تتيح للقارئ فرصة التفكير في أفكار مثل الحرية والقيم والوجود والزمن، إن رواياته تستكشف العلاقات الإنسانية بأشكالها المختلفة، مثل الحب والصداقة والخيانة والغيرة، حيث يعرض كونديرا طروحاته بابعاد مختلفة واصوات متعددة،  وكيف يمكن أن تؤثر هذه العلاقات على الأفراد نفسياً وتغير مسار حياتهم، فضلاً عن، يصبغ أسلوب كتاباته بالسخرية والفكاهة تارة، فيقدم تحليلاته العميقة بلمسة من الفكاهة، مما يساعد في جعل قراءته أكثر تشويقًا ومتعة، وبالتالي تشجع رواياته القراء على التأمل والتفكير العميق في معاناة الإنسان والبحث عن المعنى في الحياة تارة أخرى، فالمتابع لروايات كونديرا  يعرف بكتاباته الفلسفية والأدبية التي تتطلب تفكيراً عميقاً واهتماماً بالجوانب النفسية للشخصية البشرية.

وللخوض في قراءة أحدى روايات ميلان كونديرا التي شكلت أهمية أدبية في عالم الرواية الفلسفية المعاصرة،  هي رواية "رقصة الوداع" التي تعتبر من ضمن أعماله الادبية المهمة والتي سلط الضوء عليها عدد من النقاد في العالم لما تمتلك من خصائص  في الهندسة البنائية السردية التي أبدع بها كونديرا، والتي نُشرت لأول مرة في عام 1994، هذه الرواية تتميز بالأسلوب الفلسفي والأدبي العميق الذي يُعتبر عملاً مميزًا لكونديرا، فهي عمل أدبي يشكل تحقيقًا أدبيًا معقدًا يتناول مواضيع فلسفية وإنسانية، كونها تركز على حياة الشخصيات الرئيسية فيها هما توماس وتيريزا، كما تتقاطع مع أحداث التأريخ السياسي في تشيكوسلوفاكيا، وانعكسات أحداث براغ عند دخول الاتحاد السوفيتي السابق عام 1968. الرواية تتحدث عن التناقضات في العلاقات الإنسانية والحب، وكيف يتأثر الفرد بالظروف الاجتماعية والتاريخية التي يعيشها، فيطح أفكاراً فلسفية حول الحرية والقدر وتأثير القرارات الفردية على مجرى الحياة، كما يتمثل الوداع في الرواية في مواقف الفراق والفهم العميق للحياة ومعناها.

يتميز السرد في الرواية عند كونديرا بالتشعب والتفاعل بين الأحداث والشخصيات، وتشكل الرقصة عنده رمزًا لتعقيد العلاقات وتلازم الحياة، حيث يستخدم كونديرا أسلوبه الأدبي بمهارة لاستكشاف الجوانب العميقة للحياة البشرية بمنظور فلسفي.

ففي هذه الرواية، يقدم ميلان كونديرا نظرة عميقة على التأريخ السياسي والاجتماعي، هذه المنحنيات منحت كتاباته البعد السياسي والاجتماعي والفلسفي في معترك الحياة، والتي أنعكست في روايته (رقصة الوداع) مما أضافت له تجربة غنية في معظم ما كتبه فيما بعد هذه الاحداث، خاصة بعد أن هاجر الى فرنسا والاستقرار فيها لمدة طويلة.

أما شخصياته وأبطاله، فأن كونديرا يتميز برسم شخصياته بعناية فائقة وإعطائها عمقًا جدلياً كأن الفلسفة هي ديدنه، فعنده  الشخصيات في الرواية، تمثل رموزًا لمفاهيم مثل الحرية والحُب والسلطة والوجدان، كما تمثل تجاربهم الشخصية لأبطاله تصاعد هارموني للصراع بين الفرد والنظام من جهة، وبين الأنا للبطل ومنظوره الفلسفي للحياة وصراعه معها بشتى الطرق، أوأي وسيلة يسعى من خلالها لأجل التغيير.

كذلك، فأن  كونديرا يقدم في رواية رقصة الوداع مجموعة من الأفكار الفلسفية حول الحرية والتفكير والوجدان والمسؤولية الاجتماعية، كما يتناول أيضًا التناقضات والصراعات الداخلية في النفس البشرية التي ما أنفك عنها بجدلية تسكن أبطاله بنزعة يخلط فيها الدراماتيكية المتوزعة بين الفرح والألم، أو التراجيدي والكوميدي.

وإذا ما عرجنا الى التدقيق والغوص أكثر في أسلوبه وحواراته والمنلوج الداخلي، فيضعنا أمام تساؤلات وجودية متعددة على لسان أبطاله، ذلك لأن كونديرا يستخدم اللغة بشكل جميل لتجسيد الأفكار الفلسفية والمشاعر البشرية، لينقلها الى المتلقي دافئة ناضجة عميقة المعنى قريبة من القارئ، وكأن يشعره بأنه قريب منه أي القارئ، ويفهم ما يريد منه القارئ، فهذه الرواية  تحديداً تتميز بالعديد من المقارنات والرموز التي تعزز من تعقيد الرواية، ولكن بالتعقيد الذي يعطيك التحفيز نحو متابعة سلسلة أحداثه بشكل تفاعلي متناغم ومتطور مع صعود الاحداث داخل البناء السردي للرواية.

وهو كغيره مثل أكثرالمبدعين الكبار في الرواية العالمية، يمنح القارئ التفافاً حوله، ويسعى لزرع بكل ما يملك من أدواته الابداعية التي يرسمها بيانياً في سطور روايته، لكي يقول؛ إن الإلهام جزء أساس وحيوي في جسد كل رواية،  ويريد  أن يلهم في رواية رقصة الوداع القراء للتفكير في القضايا الأخلاقية والفلسفية المعقدة وتحفيزهم على البحث في المعاني العميقة للحياة والإنسانية.

ولاشك، فأن ميلان كونديرا لا يخلو من الانتقادات، فاستخدامه المفاهيم الفلسفية العميقة تكون عصية أحياناً لبعض القراء، أضافة الى أنه يميل إلى التفكير العقلاني الزائد، مما قد يؤدي إلى إبراز جوانب باردة وغير عاطفية في رواياته، كما أنتقدت بعض الآراء السياسية التي طرحها كونديرا في أعماله، والتي قد تكون مثار جدل لبعض القراء.

بأختصار، إن رقصة الوداع هي واحدة من روايات كونديرا التي تبحث لفك عقد الحياة الساكنة في الروح البشرية، تقدم نظرة عميقة على الإنسانية والعالم السياسي والثقافي وصراعاته وجدلية الانسان، والبحث عن الاستقرار، إنها تحتاج إلى وقت لفهم وتقدير جميع الأفكار والرموز المدرجة فيها، وهي قراءة مثيرة للعقل الانساني ولمحبي الأدب الفلسفي.

***

د. عصام البرّام

الإبداع السردي يمثل تنفيس لهموم واشجان الاستاذ (واثق الجلبي / شاعر وقاص) ويقتحم اصعب التقنيات التقنيات الحديثة في براعة الابتكار والتجنيس الأشكال الادبية في الصياغة السردية واللغوية، ان تجنح في أعالي الأفق بجناحين (النثر والشعر) هذا التجنيس يمتلك براعة ممن امتلاكه الإمكانيات لغوية وشعرية وبلاغية. وهناك تجنيس اعتقده الاهم، ان الحدث السردي تسيره جملة أو منطلقات من الأفكار الفكرية والفلسفية وهي التي تكون المقود والمحرك، وتلعب دوراً حيوياً في المعنى والمغزى والرمز بشكل عميق وبليغ، يوظف معارفه في نواحي الحضارة والدين والتراث، أو بمعنى تشريح الواقع القائم، او بشكل أعم ماديات ومعنويات الحياة والوجود والعدم، في صراعهم القائم بشكل ايجابي أو سلبي. ليس هناك ممنوعات في تناول الثلاثي في (الحضارة والدين والتراث) بعمق وبشكل رصين وهادف، أي يضع في مجهره الإبداعي بشجاعة في مخاطبة العقل من أجل إيقاظه من سباته، حتى يملك قدرة الوعي على مقارنة الأشياء والمكوناته، التي دأب عليها واعطته ميزة اسلوبية متمكنة، في الفرز بين السلفية المغلقة والانفتاح في العقلية، بين الخرافة والحقيقة، بين الدجل والزور والوعي الناضج، بين التصديق والتشكيك في المسلمات الظاهرة، التي تحرث في تخريب الواقع والعقل، لمآرب خبيثة شيطانية للضحك على عقول البسطاء والجهلة. أي يعزف في مرايات الواقع والحياة والوجود، المرئية و اللامرئية، يوظف رسائله المشفرة في الرمزية والدلالة، حتى في المسلمات الموت والحياة، يقتحم معادلتهما بطرح الصور التعبيرية والافكار والاحلام والامال، اي بكل بساطة لا يستسلم وانما يتسلح بقوة التمرد الهادف، ويحشر القارئ أن يتفاعل ويتأثر أن يمتلك ناصية التفكير والتأمل، لان المعروض على سطح الواقع، هو بضاعة مستهلكة غير صالحة، وإنما هي قشور الملح، أو فضلات الملح، مثل فضلات القمامة، لأن غايتها انهزام الوعي والعقل ان يغرقان بطوفان الخرافات المدمرة أو بثقافة التجهيل، يجري إنتاجهما بشكل مجدد وبشكل طاغٍ، والمجموعة القصصية القصيرة (قشرة الملح) تعزف في هذا الاتجاه، في المحاججة والحوار أو ما يسمى بحوار الجدل (تكلم حتى اعرفك / سقراط). بكل تأكيد انها مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولكن ليس هناك بديل الى الوصول الى (إيثاكا) حتى لو أغلقت الطرق بالأفاعي والوحوش الكاسرة، ولكن لابد من الوصول. مهما كان الثمن.

لنسنرتشف بعض السرديات القصيرة من المجموعة القصصية:

× في القصة القصيرة (أبر وقرون): هي تتناول رحلة الحلاج الشاقة والصعبة في إيقاظ العقل من سباته وتمزيق تراتيل أهل الكهف، ليستنشق الحياة روحها، في جمالية العيش والسلام والمحبة، وقدم حياته، حتىى لا تنطفي شريعة السماء النورانية، وظلت شعلته خالدة بالسجود للعظماء.

وفي (قبلة واحدة):

(دعوني أخبر الموتى بأنهم ليسوا بأحسن حال، مما عليه نحن الآن.. ودعوني أخبار الأحياء بأنهم ليسوا بأحسن حال مما عليه الآن... نحن في منطقة بين الموت والحياة) يعني الحياة والوجود في منطقة رمادية، يعني لا تبشر بالخير لا للاحياء ولا للاموات. طالما الحمقى بيدهم الجاه والنفوذ والمال و يلوحون بالسيوف المتلهفة لإجهاض الحياة والوجود بالدم .

في سردية (قشرة الملح):

هي مغامرة في إيقاظ العقل من سباته وانقاذه من الطوفان (نم على الأنفال لتجد وسيلة تسترد بها نفسك.... هكذا كان السطر الأول) العمل على موت العقل وتسفيه الوعي، لتكون الحياة في قعر البئر. أما بقية سطور الرسالة. نصفها ابتلعتها المعدة، والنصف الآخر عبارة عن ورقة بيضاء، تغوص في الوحل لتنتج قشور الملح، مستهلكة لا تصلح للحياة.

سردية (شجرة موسى):

(اذا كان الكفر الخروج من العتمة فأنا أول الكافرين.. هكذا بدأ سطره الذي اراد أن يخرج... كل مردفات العصر ميتة كانت ولادته العادية.. حد التقيؤ لم يستطع أن تنجيه) لأن السلطة الالهة بالارض، مطلقة تميت وتحيا البشر، وبكل بساطة ترسل الاحياء الى القبور.

في سردية (الخاسر):

(سأكتب ما اقول.. ويقول.. وتقول) ولكن هموم القرن ومصائبه هي أكبر ما أقول وما يقول وما تقول. وهي اكبر من ما افعل ويفعل وتفعل. لأن شريعة القتل والدماء، تخنق كل شيء، وحتى جدارية فائق حسن في (ساحة الطيران) التي رسمت الخيول العربية انهزمت من الجدارية.

المقطوعة الشعرية (مفاتح):

هي تمثل الرؤية الفكرية والفلسفية للمجموعة القصصية بأحسن تعبير.

كل شيء عار..... ي

حتى الذي في ردهة الملكوت

خان الليالي...... لوحة الأرقام

كل شيء خالد الأضداد.......... إلا بغداد

كل شيء عار.... ي... الطفل والخمار

لا تستر الأشجار .... أصابع العذراء تنهشها الدماء المستضيئة.

لم يعطب الناي..... بل وسوسوا للقرد أن يعطيه درس الغناء

كانت تجاربنا بطوناً في الظهور.. عشنا نخيلاً في زمن اللانخيل.

هكذا راى كل شيء فعزيَّ بذكره يا بلادي.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد ومترجم

 

(ما بين الفيلم و الرواية)

صدر الرواية:

في البداية و قبل الدخول في تفاصيل النقد الأدبي لهذا العمل العملاق والذي هو من تأليف المبدع / دوستويفسكي والذي تتمتع كتاباته بالعمق المتداخل بين جنبات النفس الإنسانية،  يجب عليك العلم بأنني لست أول من تطرق للنقد لهذا العمل الكبير والذي وصف من قبل كبار الشخصيات بأنه من اعظم الأعمال الأدبية علي الأطلاق.

ــ في عودة سريعة للنقد الادبي يتطرق الكاتب في صدر الرواية إلي التعريف بالشخصيات الاساسية للرواية وهم الأب أفانوف كارامازوف وهو شخصية نرجسية ممزوجة بشيء من المكر والدهاء بجانب تخلية عن الجانب الانساني في حياته فهو لا يهمه إلا نفسة،  عربيد لا يكاد يفيق من السكر وهو شخصية غنية.

الابناء

ديمتري وهو ضابط في احداث الفيلم  / الراهب إيفان / المفكر أليكس / والابن الغير شرعي سماردياكوف وهو يعاني من صراعات نفسية بداخلة لديه إيمان قوي بأخيه أليكس.

الاحداث

يحدث صراع بين الأبن ديمتري الضابط وبين والده علي المغنية الشهيرة جروشنكا ويستغل شخصية أخري وهي سماداركوف هذا الصراع الناشب بين الأبن ديمتري الضابط و أبيه ويقوم بقتل الأب مستغلاً ذكائه في توجيه الاتهام إلي الضابط ديمتري والذي يحكم عليه بعشرين عام خلف القضبان.

ــــ ليموت سماداركوف بعد ذلك وتموت معه الحقيقة إلي الأبد.

بين يدا الأحداث

تتمتع الرواية بالعديد من الفلسفات الاجتماعية والدينية من خلال الابناء الأربعة ليغوص الكاتب الرائع دوستويفسكي في أعماق النفس البشرية ليقدم لنا عمل متفرد في أحداثه اقرب ما يكون إلي دراسات علم النفس والكتابات الإنسانية لتقول لنا ما الذي يحدث داخل هذا الخضم من الاختلافات الإنسانية في صورة فلسفية ترتقي في سموها ارتقاء الذات الإنسانية متمثلة في الراهب إيفان وورعته وزهده في سياق الأحداث ضارباً المثل والقدوة لرجل الدين علي اختلاف الأديان فليس شرط أن تكون رجل دين مسلم او يهودي او مسيحي او أي ديانة اخري لتسمو نفسك فوق الأنا.

وليس هذا فحسب بل هناك صراع بين الخير والشر في محاولات المفكر أليكس للعودة بوالده إلي طريق الخير ولكن رغم فكره الراقي ومحاولاته المتعددة إلا أنه يفشل في ردع ذلك العربيد والقضاء علي النرجسية داخل نفس والده.

ــ ولكن هل بائت محاولات الأبناء بالفشل مع هذا المتغطرس السادي والذي يجري طوال الأحداث وراء شهواته وملاذه ليفاجئنا ممثل القانون الضابط ديمتري لمحاولة أبعاد المغنية جردشكا والتي تريد الاستلاء علي امواله وليست رغبة فيه من خلال استغلال مميزاته كشاب لاستقطاب المغنية بعيدا عن والدة ولكن يأتي صراع آخر من الصراعات الإنسانية وهو الانتقام ليقتل الأب ويتهم فيه الأبن وتموت الحقيقة مع موت القاتل الحقيقي إلي الأبد  .

ــ من الجدير بالذكر أن هذا العمل تناولته السينما العالمية ففي مصر مُثل في أحداث فيلم الأخوة الأعداء وفي المغرب مُثل كعمل درامي تحت عنوان:  تريكة البطاش كما تناوله المسرع ايضا.

رؤية الناقد

الفلسفة الإنسانية لا حدود لها فمهما طرقها الكتاب من جميع الأجناس تبقي سر دفين لا يعلمه إلا من خلق تلك النفس و اودع فيها الحياة ففي كل يوم تطالعنا الأحداث الإنسانية بكل ما هو غريب وعجيب بين جنبات ذلك النفس البشرية من جديد لم تري الإنسانية مثيلا له إنها فلسفة من نوعاً متجدد كتجدد تلك العملاقة بين جنبات الأنسان.

لقد جاء العمل الأدبي (الأخوة كارامازوف)  كمصنف أدبي من الطراز الأول تطرقت أحداثه إلي فلسفة انسانية جمعت بين شخصيات متباعدة في مخاضها الإنساني تبعد كل البعد عن بعضها البعض متأثرة في ذلك بشخصية الأب النرجسي السادي المنبوذ من قبل المجتمع فسلكت كل شخصية درب من دروب الشخصية الإنسانية في محاولة منها إلي تغيير ذلك الأب و لكن تأبي النفس التي جلبت علي حب الذات إلا أن تبقي في مستنقع الرزيلة ضاربتاً بالأعراف الإنسانية عرض الحائط عابسة بكل القيم الجيدة و الرصينة لتنتهي النهاية الحتمية إلي حتفها بين طيات النسيان رغم الأثر السيئ الذي تركته في نفوس الأبناء معلنة في ذلك عن فلسفة انسانية تسأل عن التوجه النفسي و ليس الكيف الإنساني.

***

بقلم الناقد الأدبي / احمد عزيز الدين احمد

عضو اتحاد كتاب مصر

مقدّمة: ندرك أنّ المراحل الأولى من حياة الطّفل تعمل على تشكيل شخصيّته، في هذه الفترة يتشكّل نمط حياته اليوميّ، وتترسّخ عاداته وتوجّهاته ومعتقداته وقيَمه، هي مرحلة حيويّة تتطلّب التّثقيف والتّعليم والتربيّة السّليمة، فالطّفل في حالة نموّ مستمرّ، وكلّ ما يتلقّاه من تأثيرات على مستوى العقل والقلب والرّوح يلعب دورا حاسما في تكوين شخصيّته المستقبليّة.

من هنا يأتي الدّور الحيويّ للأدب بشكل عام، وأدب الأطفال الجيّد المُعدّ والمدروس بشكل خاص، الذي يلعب دورا حيويا في إعدادهم للمستقبل، يؤثّر في سلوكهم وفي بناء القيَم التّربويّة الإيجابيّة لديهم، يطوّر  لغتهم ويسهم في تثقيفهم وتلبية حاجاتهم المعرفيّة.

رواية "جبينة والشّاطر حسن" للأديب الشيخ جميل السّلحوت، صدرت هذا العام (2023) عن مكتبة كل شيء في حيفا، وهي رواية مُوجَّهة إلى الجيل الصّاعد من الفتيان والنّاشئة، تقع في (112) صفحة من القطع المتوسّط، يتداخل فيها السّرد الواقعيّ مع الخيال المشوّق ومع الحكاية الشّعبيّة والأسطورة على غرار حكايات ألف ليلة وليلة. وما بين الحقيقيّ والمتخيّل، يعيد الكاتب خلط الأوراق، يعيد تشكيلها برؤية جديدة، يستدعي فيها الحكايات الشّعبيّة والتّراثيّة؛ للتّفاعل معها وإعادة إنتاجها من جديد، وذلك لإعطاء النّصّ لمسة إبداعيّة من الحكايا المتجذّرة في تاريخنا الشّعبيّ. والأديب الشّيخ جميل معروف عبر مسيرته الطّويلة، حاز على جوائز عديدة، وفي رصيده الأدبيّ الكثير من الرّوايات، كتب للكبار والصّغار، وكتب في أدب السّيرة وأدب الرّحلات، ولنا في أدب المراسلات كتاب مشترك بعنوان: "رسائل من القدس وإليها"، بالإضافة إلى العديد من الأبحاث المختصّة في التّراث، وسنوات طويلة من الكتابة الصحفيّة وكتابة المقالات السّياسيّة، والاجتماعيّة والأدبيّة وغيرها.

الأحداث والشّخوص:

تحكي الأحداث قصّة جبينة التي ولدت بعد معاناة وطول انتظار، وكانت تتمتّع بذكاء حادّ وجمال واضح.

تسكن أسرتها في بلدة القدس القديمة، تطلب من والدتها "بثينة" إنجاب أخت لها، فيتعذّر الأمر على الأمّ التي تقترح على زوجها "كنعان" الزّواج بامرأة ثانية؛ لتحقيق رغبة ابنتها في الحصول على أخت، لكنّ كنعان يرفض ذلك، ويتّخذ قراره لاحقا بتبنّي الطّفلة "زينب".

زينب هي ابنة لامرأة أرملة فقيرة جاءت إلى بقّالة كنعان بحثا عن فرصة عمل لطفلتها، وبدلا من ذلك قدّم لها كنعان اقتراحا بالاعتناء بزينب والاهتمام بها، وبعد موافقتها، أخذ الطّفلة لتعيش مع أسرته.

بهذا القرار الكريم، أصبحت زينب جزءا من الأسرة وأختا لجبينه، عاشوا سويّا في بيت واحد، ممّا منح زينب حياة أفضل وأكثر تلاحما مع العائلة.

في أحد الأيام، قامت الأسرة برحلة إلى البراري، وهناك أُغويت جبينة بفضولها لاستكشاف إحدى الكهوف، دخلت وجلست في زاوية الكهف وأسندت ظهرها على الحائط؛ لتنعم بالرّطوبة، نظرت إلى يمينها فرأت رقعة ناشزة في الحائط، تفحّصّتها جيّدا، وخرجت تخبر والدتها وزينب بما رأته، وقفت وأشارت لزينب إلى الرّقعة البارزة في الحائط، لم ترَ زينب شيئا وهي واقفة، وبحركة عفويّة منها ضربت المكان الذي أشارت إليه جبينه بقدمها؛ فانهارت الرّقعة، هرعت أمّ جبينه على صوتهما، وقفت مشدوهة أمام ما رأت، نظرت إلى الحفرة التي ظهرت فرأت جرّتين نحاسيّتين مزخرفتين، مدّت يدها وأزاحت غطاء إحداهما، وتوقّفت تتمعّنها وهي تتهيّب من إدخال يدها إلى باطن كل منهما؛ لترى ما فيها، لكنّ زينب مدّت يدها وغرفت ملء كفّها، فإذ بها تُخرج من الجرّة بعض القطع الذّهبيّة.

بعد ذلك بفترة اقتحمت المنطقة عصابة من اللّصوص، اختطفت زينب وجبينة، فأعلن الأب كنعان عن منح خمسين ليرة من الذّهب مكافأة لمن يجدهما ويعيدهما إليه، خرج "الشّاطر حسن" وشقيقه "حسين"، ابنا شاه بندر التّجار للبحث عن الفتاتين. انطلقا إلى مدينة أريحا، رافقهما سرب من الطّيور الذي ظلّ يحوم فوقهما ويتّجه شرقا، فهم الشّاطر حسن أنّ هذه الطّيور مرسلة إليهما؛ لتقودهما إلى مكان الفتاتين. وبالفعل قادتهما الطّيور إلى شمال أريحا، وهناك وجدا جبينة وزينب تستظلّان بظلّ دالية، عرفت جبينه الشّاطر حسن؛ فانشرح قلبها وقابلته بابتسامة، أردفها خلفه على الفرس في حين قفزت زينب خلف حسين، وأطلقا العنان لفرسيهما عائدين بجبينه وزينب.

أعلن الأب كنعان عن خطبة ابنته جبينة إلى الشّاطر حسن، وخطبة زينب إلى حسين، لكنّ الأخوين قرّرا تأجيل الزّواج إلى أن يتمّ القبض على اللّصوص ومعاقبتهم.

الخصائص الفنّيّة في الرّواية:

تصنّف هذه الرّواية ضمن الأعمال الأدبيّة التي تجمع بين الأسطورة والحكاية الشعبيّة بالواقع الحالي بشكل إبداعيّ، وربطها بالواقع الإنسانيّ بطريقة فنيّة وجديدة في أسلوب التّعامل مع الفكرة والحدث، وفي بناء الشخصيّة وتطويرها. احتوت على مجموعة وافرة من المعلومات التي تعرّف النشء على أماكن في بلادنا وجغرافيّتها وطبيعتها الغنيّة وأماكنها التاريخيّة، فمثلا تمّ ذكر معلومات وافرة عن "دير مار سابا" الموجود شرق مدينة بيت لحم، أيضا تمّ ذكر بعض أسماء الأعشاب والنباتات والحيوانات، وبعض المعلومات عنها، الأمر الذي أضفى على العمل طابعا تثقيفيّا خاصّا.

المفاهيم والقيَم التربويّة:

مع التقدّم التكنولوجيّ وتفجّر المعلومات والتّقنيات، نشهد اهتماما من المربّين بدراسة القيَم التي تحدّد مسار السّلوك الإنسانيّ، وتكوّن ثقافة المجتمع، من هنا يحضر الأدب كعنصر جوهريّ في عناصر الثّقافة المجتمعيّة وقيَمها، يتجلّى كمحور هام يعبّر عن القيَم، ينقلها ويعزّزها، وكما أسلفت في المقدّمة، أدب الأطفال وسيلة تربويّة ضروريّة، تساهم في تشكيل شخصيّة الطّفل منذ المراحل الأولى.

يتوجّه المؤلّف في هذا العمل إلى مراحل الطّفولة الأعلى سنّا - من العاشرة فما فوق- وذلك لإشباع حاجات هذه المرحلة الوجدانيّة والفكريّة، واستثارة خيال الفتيان وتحفيزهم على التّفكير، وتبصيرهم بتاريخ أجدادهم، وتعريفهم بالقصص التراثيّة، وبالتّالي تحقيق الفائدة والمتعة والتسليّة دون إغفال بعض المقاصد السلوكيّة والتعليميّة. وعن المفاهيم والقيم التربويّة التي جاءت في الرّواية:

تجلّت فيها مساعدة المحتاج والمعاملة الحسنة، وذلك من خلال المعونة التي قدّمتها عائلة كنعان لوالدة زينب، تجلّت كذلك علاقة الاحترام والتّآخي الإسلاميّ المسيحيّ القائمة منذ عهود طويلة، وذلك حين تبرّع الشّاطر حسن ببعض الحافلات لإرسال الأطفال وذويهم في رحلة إلى البراري، ثمّ اقترح على إمام المسجد التّنسيق مع بطريرك الكنيسة لتنظيم وترتيب الرّحلة.

هي رواية متعدّدة الأهداف، نجد فيها الأمانة والوفاء بالوعد، وذلك حين وعد كنعان زينب بحصّتها كاملة من الكنز الذي عُثر عليه في المغارة، نجد أيضا ما يعلّم الطّفل أهميّة التمسّك بالأرض والتّاريخ وتراث الأجداد، وكذلك الصّدق وحسن الضّيافة الذي تحلّى به الأب كنعان، والكرم الذي اتّسم به البدو، الذي شكّل جوهرا أساسيا في طابعهم الاجتماعيّ.

الأسلوب واللّغة والسّرد:

يقوم الكاتب بإعادة نسيج عالم متخيّل، وتقسيمه داخل الحبكة التي تجلّت فيها الحكاية التّراثيّة، والرّحلات والجولات التي قامت بها الأسرة، نقرأ ذلك عبر سلسلة من المشاهد التي تحرّكت بحيوية في النّص، وارتكزت على مجموعة من الصّور المخزّنة في ذاكرة المؤلّف، تلك التي استحضرها وتعامل معها بوعي الحاضر؛ ليخرج العمل بسرد مشبع للفضول، تتلاحم فيه العناصر الرّوائيّة في وحدة وانسجام، ضمن منطق التّضمين السّرديّ للحكاية الرئيسة، التي تتفرّع منها الحوادث والقصص؛ لتشكّل بذلك عنقودا من الحكايات القصيرة التي تتداخل وتتمحور حول الخيط الأساسيّ للقصّة الرّئيسة.

أمّا اللّغة فهي منمّقة ومتقنة، تميّزت بسلاستها وبساطتها وبعدها عن التّكلّف والتّعقيد، أبرزت حيويّة السّرد ودور الشّخوص وصفاتهم، خاصّة بطلة الرّواية جبينة والشّخوص المُقرّبة منها.

اعتمد الكاتب على الكلمة في عمليّة التّجسيد، حيث اتّخذت مفرداته مواقعها الفنيّة فشكّلت العناصر الرّوائيّة وكوّنت الأجواء والمواقف والحوادث، وعرضت المعاني والأفكار، وأثارت عواطف القارئ الصّغير وانفعالاته، وحرّكت العمليّات الذّهنيّة لديه؛ كالإدراك والتّخيّل والتّفكير.

الرّاوي:

يشكل الرّاوي جزءا من بنيّة النّص، فهو من يتولّى عملية الحكي أو القصّ، يعرّف بالحكاية وينقلها إلى القارئ، ويأخذ مهمّة السّرد والوصف والتّقديم والنّقل، والتّعبير عن أفكار الشّخوص ومشاعرهم وأحاسيسهم، وبذلك يعيد إنتاج الحكاية. في رواية جبينة والشّاطر حسن كان الرّاوي العليم يمسك بكلّ خيوط السّرد، كان على دراية بالشّخوص ومكنوناتها، ظواهرها وبواطنها، سلوكها وأفعالها وأقوالها، وحالاتها وما ستؤول إليه مصائرها، عبّر عن مشاعرها وأحاسيسها، تجوّل معها، وعرّف بالأحداث والمجريات والأمكنة، سرد أدقّ الأمور والتّفاصيل، وجال ودار في ذهن أبطال الرّواية وأفكارها.

المكان:

حضر المكان بأنماط متعدّدة، المكان الواقعيّ، المكان المتخيّل، المكان المغلق والمفتوح، وقد ساهمت جميعها في تشكيل فضاء النّصّ وكشفت عن طبيعة الأحداث، وفرضت الأساليب السّرديّة واللّغويّة، مع ذلك، احتلّت الأماكن الواقعيّة الحيّز الأكبر في النّصّ، فأضفت بذاك طابعها الحيّ، أمّا الأماكن الخياليّة فقد ظهرت كأماكن حقيقيّة، وذلك لإيهام القارئ بالواقعيّة. كشفت هذه الرّؤية عن قدرة الكاتب الّتصويريّة في نقل الأحداث والتّفاصيل والأمكنة، خاصّة وأنّ الأحداث دارت في مدينة القدس التي وُصِفَت أهميّتها الدّينيّة والمعنويّة.

هذا وقد رسم الكاتب بقيّة الأماكن، من خلال تجاربه وذاكرته وملاحظاته ومشاهداته، عمل على صياغتها فنيّا لتناسب الأحداث والوقائع، والشّخوص بحركتها وتفاعلاتها، ولا ننسى ثقافة الكاتب وأثرها العميق في تشكيل تلك الأمكنة ورسم أبعادها وأنماطها، لتتحوّل بذلك إلى رموز بدلالات جديدة مثيرة للفعل، يمكن إدراكها من خلال العلاقات الجماليّة والرّوابط التي كوّنت نسيج العمل وعناصره.

وبعد.. هو عمل أدبيّ مغاير، يحمل سمات الأدب المعاصر، ويرتدي ثوب الحكاية الشّعبيّة، والأديب السّلحوت له دوافعه في استدعاء التّراث في نصوصه الأدبيّة، ربّما لقناعاته أنّ التّراث مصدر إلهام يجب استحضاره في متون الأعمال الأدبيّة، أو لأنّه التفت إلى تراث أمّتنا الثّريّ بما يحمله من قيَم وتجارب إنسانيّة ومعتقدات وطقوس وملامح للهويّة، فاستلهم منه شخوصه وموضوعاته، منبها بذلك إلى أهميته وخصوبته.

نجده يحيك أعماله بإضافة الأمثال الشعبيّة المحفوظة في ذاكرة المكان الوجدانيّة والثّقافيّة، كما نلمس حرصه على استخدام بعض المفردات من اللّهجة المحلّيّة أحيانا، أو قد يوظّف بعض المرويات التراثيّة أحيانا أخرى. هو نموذج حيّ لاستثمار التراث والمحافظة عليه، وزرعه في نفوس أبنائنا من خلال الأدب والفنّ.

أبارك للأديب جميل السّلحوت هذا العطاء، وأتمنى له المزيد من التّألّق والإبداع.

***

صباح بشير

اختط الأديب الأردني الراحل مؤنس الرزاز مسارًا آخر غير رواية السيرة الذاتية في سرد أحداث رواية "اعترافات كاتم صوت" رغم أنها جاءت عن أحداث حقيقية كانت ضمن تداعيات القضية المعروفة بقضية قاعة الخلد عام 1979، واحدة من أهم القضايا السياسية في تاريخ العراق الحديث، البلد العربي الذي استقر فيه المفكر القومي منيف الرزاز، الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي، آخر درجة حزبية تقلدها قبل إصدار قرار الإقامة الجبرية بحقه وعائلته إثر معارضته إصدار أحكام سريعة، عبر محكمة صورية، على 55 من قيادات الحزب والدولة...

مفارقات ومعلومات كثيرة صارت في متناول الكثير من من متابعي الشأن العراقي في كل مكان بعد سقوط النظام الديكتاتوري عام 2003، بالإضافة الى مؤلفات وسيرة حياة المناضل العروبي، كان يمكن أن تكون مادة دسمة لرواية طويلة، وقد تكون متعددة الأجزاء، تسرد الكثير عن مرحلة مهمة في تاريخ العديد من البلدان العربية، إلا أن الروائي مؤنس الرزاز اختار أن يكتب عن عمق المأساة التي انتهت إليها رحلة "التجربة المرة"* من منظور مختلف تمامًا، عبر صفحات رواية قصيرة نسبيًا، شأن روايات الأديب الأردني الأخرى، خاصة وأنه لم يكن مع أسرته خلال سنوات المحنة التي انتهت إلى وفاة الوالد، فاستعاض عن ذلك برؤية مغايرة تمامًا اتخذت من الكوميديا السوداء وسيلة لالتقاط تفاصيل حياة أسرة رجل مسؤول وجد نفسه فجأة معزولًا عن الحياة بعد أن كان من ضمن القيادات العليا للبلاد، دون ذكر اسم البلد، وكأنه يشير بذلك إلى أن مثل تلك الأحداث يمكن أن تتضمنها الكواليس السياسية للكثير من البلاد التي اعتادت التغيرات السياسية المفاجئة، عبر انقلاب عسكري أو إسقاط النخبة السياسية واستبدالها بأخرى تناسب المرحلة القادمة للقيادة العليا للبلاد، والتي يتم اختزالها عادة بشخص الديكتاتور، تم التطرق إليه في النص عبر إشارات تكاد تكون خفية عن إدراك القارئ غير المتفاعل مع سياق الأحداث وثنايا السرد، ومفارقات المواقف التي رصدت مناحي مختلفة من حياتنا، بكل ما ألفت من ازدواجية وما فرضته علينا الأنظمة الشمولية من عزلة عن أحلام كثيرة ترفعها الشعارات السلطوية كما لو كنا جميعًا ضمن إقامة جبرية عامة، وغير معلنة، تفرض علينا الصمت المطبَق والمتخوف من نزعة الجهر بأي اعتراف سرعان ما يمكن اغتياله من قبَل كاتم صوت، لا تدركه الأبصار، معد لاغتيال الألسنة من قبل أن تتفوه بكلمة، بل من قبل أن تصدر إيماءة أو تعبير وجه مستاء، لذا لا بد من التكيف مع واقع الحال، الذي لا يجب الانشغال بكيفية تغييره كي لا يتم اقتناص الأفكار الشاردة أيضًا.

الإقامة الجبرية سجن لأمدٍ غير محدود داخل سجن أكبر، على امتداد وطن بأسره، اعتاد مواطنوه/ نزلاؤه تربص مصائد الترصد بكل خطوة يخطونها، متوجسين من مجرد النظر نحو بيت رجل السلطة المعزول، وعيون الحراس تكاد تخترقهم كي تعرف بواطن ما قد يهفو إلى تفكيرهم، لكن حتى أولئك الحراس يتحيرون في صيغة التعامل مع المسؤول السابق والذي كان في مكانة مرموقة تفرض سطوتها على الجميع.

أجواء مخابراتية كان يمكن أن تُشعر القارئ بالسآمة منذ الصفحات الأولى للرواية، لولا طبيعة الشخصيات الساعية إلى اقتناص السعادة البسيطة التي قد يهبها دخول عامل النظافة فلا تدعه العائلة يغادر بسرعة حمل أكياس الزبالة، بل تحاول إغراءه بالبقاء أطول فترة مؤانسة وجه غريب ممكنة، عبر تقديم المأكولات والمشروبات وبعض الثياب التي لم يعد من ضرورة لها لديهم، ففي وحشة السجن تتساوى أهمية الجميع، كما تصير الكثير من الاعتبارات المتعارف عليها بلا معنى، ويصير كل التاريخ النضالي معلقًا بعدة جمل تتناقلها الأفواه وإن كانت بلا معنى، أو مجرد نكتة عابرة لا قدرة لها على الإضحاك طويلًا كي لا تستدعي شيئًا من الريبة بما قد تنطوي عليه من مقاصد.

شخصيات أخرى تناولتها الرواية ضمن أحداث تفرقت بها الأمكنة لكنها تظل تمضي في سرد الأحداث ضمن بودقة واحدة، وبنفس الوتيرة، ووفق ذات أسلوب السخرية المتفجرة بالصرخات الخفية عن الأسماع، مثل رجل الأمن الذي لا يجد مكانًا في أرجاء المدينة كي يختلي بزوجته بعيدًا عن كاميرات المراقبة، وهو على معرفة تامة بأنه غير مستثنى من تلك المراقبة، بل ربما على العكس، إذ أن وظيفته الحساسه تضعه تحت المجهر السلطوي أكثر من سواه في دولة الفرد الواحد، لا النظام الواحد حتى، فلا يجد في النهاية غير الجرائد الملأى بأخبار الإنجازات والانتصارات كي تحتمي بها شهوته وزوجته من العيون المترصدة في كل مكان، ليجسد الموقف ازدواجية السلطة الحاكمة ما بين المواطن والمسؤول من زاوية مختلفة ترسم خطًا محوريًا آخر ضمن سرد لا تفوته فرصة درامية دون استغلالها.

أجواء بوليسية من الخوف والترقب عايشها جيلي منذ الصغر، رصدت أبعادها الرواية ضمن دلالات رمزية معبرة استطاعت أن ترسِخ لها خصوصية في ذهن القارئ رغم رصدها ذات المنظومة الديكاتورية التي جسدها الكاتب الانجليزي جورج أورويل في رواية "1984" والتي أوجدت شاشة كبيرة للمراقبة في كل مكان، تحديًا للخصوصية التي تعد هاجس خطر لأي نظام استبدادي، كذلك عبر التوغل في أعماق الشخصيات المحتجَزة في رهبة جنون التقارير السرية والصادرة عن أقرب المقربين ليضمنوا بقاءهم ضمن المرضي عنهم، ولأطول فترة ممكنة، خاصة أولئك الرفاق الذين حتى لو تكلموا لا ينطقون سوى الصمت، فأي صوت يمكن أن يصدر عنهم لا بد أن يتم اغتياله كي تضاف أسماؤهم إلى قائمة من ضمن سلسلة قوائم لا تتوقف الآلة الديكتاتورية عن إصدارها عبر نشرات تبعث المزيد من الخوف وتفسح حيزًا أكبر للصمت.

رغم كل ما تم تناوله من إرهاصات الجنون، وكل الإحباط الذي تسلل إلى نبض القلوب، وما تشظى عنه من انكسار يعكس هاجس الريبة وبواعث الخوف في بلاد فقدت بوصلة الأمان، إلا أن الرواية تظل منتصرة لذلك الصمت المدوّي في الخفاء، يخاتل الأوامر الصارمة ويسخر من العيون المترصدة كل فعل أو رد فعل، تتوعد بالمزيد من القتل والاعتقال والتهميش والإقامات الجبرية، بينما تتوعد الشخصيات المطارَدة داخل وخارج أوطانها بالمزيد من الاعترافات العصية على الكتمان.

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

17 ـ 11 ـ 2023

.............................

* كتاب "التجربة المرة" من مؤلفات المفكر منيف الرزاز.

الاستحضار: أتساءل كما يتساءل بعض المثقفين والمسرحيين، كيف يمكن إعادة حَرارة الفعل الثقافي والإبداعي الذي تم افتقاده بناء على غياب الحضور الجماهيري في عدة أنشطة فنية وفكرية وإبداعية، وشبه انعدام المتابعة الجادة للشأن الثقافي والفني، مرفقا بشلل النقاش الساخن بين الفعاليات والمهتمين والمريدين، والعزوف الواضح والمكشوف لمشاهَدة العروض المسرحية، وبالتالي طبيعة الوضع، تفرض أن تعود بنا الذاكرة لتلك الأيام التي كان حضور القضية الفلسطينية في معمعان الركح المسرحي العَربي/ المغربي، حضورا متميزا من خلال حضور فصائل طلابية وأحزاب وإن اختلفت توجهاتها باعتبار أن القضية الفلسطينية أعيدت للمشهد السياسي/ الإجتماعي، بقوة الفعل لتختلط كل الأوراق التي رتبت بناء على عَودة واستحضار << لكع بن لكع >>؟ فهل ياترى ستستطيع بعض الفرق والجمعيات المسرحية، إعادة الروح لهاته المسرحية (1) ولماذا هذا العمل بالضبط، دونما غيره؟

 اعتقادا منا، إنّه يعبر عن راهنية اللحظة وإشكاليات المرحلة، للقضية الفلسطينية، ولكن هاته الإشكالية لازالت قائمة، وأمست راهنا بالكاد ! طبقا للتطورات الواقعة الآن في الضفة وغزة وجنوب لبنان لا فرق والإنزال الشعبي " عالميا " والمتعاطف مع القضية، باعتبار أن "فلسطين "جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعوية / الكونية، لكل كائن يتطلع إلى عالم حرّ. رغم الإنزال الزجري، الذي صرحت به جملة من الدول (الغربية /الأوروبية) في حق المتعاطفين أو المحتجين ! مما يعطي للعمل شرعية تحريك نبضه فوق الركح، وتكريما حقيقيا من خلال استحضار " للراحل" أميل حبيبي" الذي يعَد بدون مزايدات شعبوية أو إيديولوجية [عاشق لفلسطين] لأنه حقيقة لم يغادرها، متعايشا كأهله؛ كل أشكال الإضطهاد والعنف والتنكيل، الذي مارسه ويمارسه "المحتل الاسرائيلي" حتى توفي – رحمه الله- على أرضها سنة (1996). 

 وإن كان البعض يعْتبر العمل (لكع بن لكع) جنس روائي، وأخرون يعتبرونه مسرحية، انطلاقا من المؤلف الذي وسمها بأنها "حكاية مسرحية" حتى أن "علي محمد طه " (سوري) يشير أنها تجديد وتجريب: لأن ما يقدمه إميل حبيبي هو ثورة على الأسلوب التقليدي، ومثلما كان مجدداً في المتشائل، كان كذلك في حكايته لكع بن لكع (2) ولكن شخصيا أعتبرها مسرحية، بكل المقاييس. وذلك من خلال الطباق الوارد في هاته الجملة: [لا مسرح ولا من يتعَبون، بل جمهور من أهل الحارة، ونحن من أهلها يجتمعون لقضاء أمسية أسطورية مع صندوق العجب (ص9)] أما من زاوية المقاربة والتفعيل الدراماتورجي نجد مثلا: [ويضاء المسرح. فإذا ببدور على جلستها، وهي مكتفة لا تريم. ويقف وراءها المهرج وبينهما الصندوق. هذا في زاوية. وأما في الزاوية الأخرى...(ص116)] وكثير من الإرشادات المسرحية، واردة في النص. ولاسيما أنني شاهدتها فوق الركح هنا وهناك. في زمن الإيمان بالقضية وكل القضايا الإنسانية. وبالتالي لما لا نستحضر ذاك الزمن، انطلاقا من هذا العمل، ك{نموذج} الذي يعتبر مراهنة إبداعية/ إشراقية، لحظة الإشتغال عليه من لدن أية فرقة/ جمعية. وكذلك بمثابة استحضار نوعي ورمزي لقضايا الأمة العربية بصورة عامة، من هذا النص المنبثق من بيئة معايشة ومعاشة، ومن معمعان معركة البقاء والموت، كتعبير صادق عن الوضع العَربي البائس الذي جعَل من القلق الوجودي، إشكالية تتخبط فيها الذات العَربية ويستوطنها القلق في جميع جوانب حياتها، ولاسيما أن "القلق يصيب عالم اللامعنى الذي نحيا فيه " حسب تعبير "هايدغر" وذلك نتيجة الظروف المتقلبة والأحداث المتسارعة والحصارالممنهج والمعيق للحرية والانعتاق ! وبالتالي فالاستحضار سيدفعنا كما دفع "المهرج" لفتح الصناديق المغلقة، أمام الأطفال الذين هم الذراع المستقبلي، لتحقيق الولادة والتجدد في الصراع. ومن خلالها يمكن أن نتساءل سويا: فهل للكع اليد الطولي في هذا القلق العَربي؟

ذاك السؤال:

{لكع بن لكع} من هُو؟ ففي(ص6) من النص نقرأ كتصدير "لا تقوم الساعة حتى يليَ أمور الناس "لُكعْ بن لُكعْ". حديث شريف. ويتكرر كتناص في قول المهرج في (ص156).

فلاغرو أن الحديث المذكور رواه الترمذي في جامعه و أحمد في مسنده، بحيث "لُكعْ بن لُكعْ" هُو ذاك [الكائن/ الشخص] الذي سيدخل حياة البشر في مرحلة أخيرة من حياتهم. بمعنى أن لكع بن لكع هو الانسان [اللئيم بن اللئيم] حسبما ما ورد في التراث الإسلامي. بحيث الخبث و القذارة والشر متأصل في هذه {الشخصية}المطروحة كعنوان، والمنبثقة من الموروث الديني كتناص مع الحديث النبوي الشريف. وبالتالي "لُكعْ بن لُكعْ" طرحه المبدع " حبيبي" رمزا من الرموز المثقلة في النص، وإن كان البعْض يشير بأن هنالك تنافرا بين العنوان والمتن: (في إشارة دالة إلى الواقع الذي تدير “الحكاية المسرحية” حديثها عنه وحوله. لكن النص، رغم الاتكاء الواضح على الحديث الشريف، فلا يستطيع أن يقنع قارئه بالعلاقة العضوية بين معناه الضمني وعنوانه (3) ولكن النص في تقديري، بتشكلاته ومعْطياته وفي أسلوبه. يعَد تجربة متفردة في المزج والتمازج بين التراث الإسلامي والحكاية والتاريخ، بمعطياته السلبية والإيجابية، واللجوء إلى الرمز و الرموز، وبالتالي:

* فهل {لكع بن لكع} هُو برجيس الصليبي؟ أم حكمون اليهودي؟[(واتفق في تلك الأيام أن برجيس الصليبي، أحد ملوك الأورام، خرج مع أخيه في مئتي ألف رجل من بلاد كسروان لمحاربة، حكمون اليهودي(ص52)]

* هل هو الإخشيدي: [(أنهم شاهدوا كافور الإخشيدي، من بعيد لبعيد. فكفروا بالرؤساء ولم يعد هذا الشكل يضحكم (ص)59]

* هل هُو: [(السيَّاف: بيدي أن أركعك)- (الشاب: أقوم وأقف.)- (السيَّاف: سأوجعك،، اقتلع أظافرك) (ص88)]؟

* هل هو: [(قلب الأسد أم شارب الدم؟ [(أبو شارب: أشم رائحة شواء ولا أرى لحما) – (قلب الأسد: سأسليك ! سأسليك !)- (أبوشارب: ماذا تبيع، يا أخ؟) – (شارب الدم: أخ؟..أخ !)- (قلب الأسد: أبيع لحما مشويا).(ص 92)]

*هل هو الشيخ المطرْطر؟: [(فيزمجر الشيخ المطرطر.)- (آخر: بالروح، بالدم...!)- (الشيخ: أزعجتنا هذه الصبية الطبالة.(ص118)]

*هل يكون الدغفل؟: [(يكسر رقبتك، أنا ربكم كسرى، ألم يكفك أنني أقمت ظهرك، وأعدت أمجادك (ص143)]

لكن عبر حوار مفاجئ بين (بدور/ المهرج) باعتبارهما شخصيتين رئيستين. يوحي برمزية التناص[(بدور: لُكعْ بن لُكعْ يليَ أمور الناس)- (المهرج: لا تقوم الساعة حتى يليَ أمور الناس لُكعْ بن لُكعْ") - (بدور: نخلعه ونعُود؟ (ص156) وثانيا ف" لُكعْ بن لُكعْ" هو بمثابة رمز للحاكم الطاغية؛ المتخلف؛ المستبد! و خصيصا [الحاكم الظالم] في فلسطين المحتلة. إذ بالإمكان إزالته من موقع المسؤولية انطلاقا من المقاومة كشرط أساس تجاه < لكع بن لكع > من هنا فالمسرحية تحمل بعْدها التحريضي، بلغة لا تخلو من السخرية والرمزية وبالمكشوف كذلك: [(هل يستطيع السجان أن يضحك؟ إذا قالوا لكم أن الضحك بلا سبب من قلة الأدب، كونوا قليلي الأدب ! شر البلية ما يضحك. فهل هناك بلية أشر من هذه البلية؟ اضحكوا(ص60) مقابل هذا نستشف لمسات التشاؤم والحزن والقلق بادية على الكاتب من خلال تعبيره، تجاه السياسة الظالمة على جماهير الشعب الفلسطيني: [(كلنا في الهمّ شرق، كلنا في الصبر شرق. كلنا في الصبر حمار.(ص67)] وفي سياق هَذا يتم طرح سؤال عريض: (فيا خالقَ ويا خَلْق متى تشرق الشمس في هذا الشرق؟ (ص 112]

في سياق النص:

تأكيدا ومن خلال القراءة الأولية لمسرحية (لكع بن لكع) نستشعر أننا ننجر تجاه مسرحية طليعية/ ملحمية، وهي كذلك فعلا. رغم أن العنوان يحيلنا لخطاب تراثي إسلامي، وبالتالي فالنص أساسا يتلاءم وروح العصر، بحكم الوقائع التي لازالت قائمة بين الإسرائيليين /الفلسطينيين، وبتقاطعات مجريات النص. الذي يغري بمسرحته وتمسرحه؛ قبل نقاشه وتحليله. وذلك لنوعية الرؤيا وتجربة الطرح في الكتابة ذات حمولة مفعمة ومثقلة بالأمثال الشعبية والتقاليد و الأشعار و الأزجال وبشخصيات وأسماء أدبية وفكرية راسخة في السجل التاريخي وفي الذاكرة المدرسية وحتى الشعبية. لكن أرضية النص- الحكايات- هي ليست بالصيغة التقليدية للحكاية- مثل: [مسرور السياف جدا. مسرور جدا (ص85)] ولكن محتفظا بالجانب الترفيهي للحكاية الشعبية.: [(شهرزاد: بلغني، يا مهرج الزمان. الطويل اللسان، أن السندباد في رحلته الأخيرة (138)] إذ يتم تداخل الحكايات التاريخية والخرافية بحكايات التجارب و الإكراهات اليومية ! والمبدع " أميل حبيبي" يذكي تفعيل الحكاية بقوله: [هل هناك من مرآة تعكس أفكار الناس ومشاعرهم أصفى من الحكاية الشعبية (ص51)] فعبرها يسرد" الكاتب" همومه وأوجاعه وغربته في وطنه. وفي نفس المجرى يتسرب النص لتفجير الأحداث المأساوية التي يعيشها وعاشها الشعب الفلسطيني، بذكر عِدة أمكنة على لسان "المهرج" والتي ألحقتْ بها جملة من المجازر المرتكبة من لدن العَدو الغاشم إبان احتلاله لفلسطين: [هل جاءكم خبر كفر قاسم، ورقصة الموت في كفر قاسم؟(ص30)] / [هذا ما جرى لبني تغلب ولحيفا ولمروج بن عامر ولحارات الناصرة التي بقيت وبقي أهلها(ص52)] / [فلا نستطيع أن ندرج فيهم مقابر يافا (...) فإنهم أقاموا فوقها فندق هيلتون (ص54)]

 وتأسيسا على ذلك فالنص أساسا قام: بعرض مساوئ الاستعمار بصور رمزية عبر وقائع مستقاة من التاريخ في كثير من الأحيان من أجل نقد وفضح الاستعمار، لتوعية وتنوير الشعْب المتفرج داخل المسرح(4) وبأسلوب ساخر جدا وتهكمي، مرفق بتصوير دقيق للسياسة الغاشمة على الشعب الباقي فوق التراب الفلسطيني كما قال المهرج: لبدور [(بقينا حرصاً على البقية يا بدور(ص16)] وبذلك مستحضرا بوعي وذكاء الموروث الديني الذي يتداخل ويتقاطع في السرد الحكائي، بغية تطعيم النص وتقوية بنيته السردية والأسلوبية: [(أرى ماردا ينطلق من قمقم محطم. قمقم من قماقم سيدنا سليمان الحكيم، حطموه عليه ليحطموه.(على لسان الفتاة / ص28)] / [ سمعت هذا المهرج، يوما يردد كلمة علي بن أبي طالب إن- أفعالكم أنطقتنا-هل تورطنا؟(ص58)]- [بدور: كل حزب بما لديهم فرحون(آية قرآنية) المهرج: صدق الله العظيم(ص68)] / [الشاب: كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا(ص 88)]

وهكذا ينتهج العمل رؤيته الطليعية / المقاوماتي، لأن مسرحية " لكع بن لكع" تتأطر في المسرح السياسي أو مسرح المقاومة الذي: [(يحمل كثيرا من سمات المأساة أو التراجيديا، ولكن ليس بالمفهوم القديم كما جاء في المسرح الإغريقي أو الكلاسيكية الحديثة فالبطل لا يموت من أجل خطأ ما أو بسبب عقاب الآلهة له. بل نجد مفهوما مغايرا للبطولة، مفهوما مقترنا بالشجاعة والإقدام لتحرير الوطن (5) مما نقبض من خلال الحوار بين الشخصيتين الرئيسيتين(بدور/ المهرج): بأن[بدر] الحاضر= الغائب. ما هو إلا رمز للمقاومة الفلسطينية: [(بدور: بدر قتله نفاذ الصبر من هذا الأمر) - (المهَرج: بَدر بريء. بدر بَطل) ص67] وإن كان النص تقنيا يمارس الخروج من السرد للحوار، ومن الحوار للسرد، الهدف منه توليد حِوار بديل/ مفاجئ، خارج التعليق والوصف الذي يكمله الجمهور المشاهد لما يصدر من[صندوق العجب] ! ليتحول إلى سرد مرة أخرى، فهذا فالتداخل والتقلب، هدفه تحقيق عنصر التغريب، موازاة بالتداخل المكاني والزماني، في المسرحية. حتى لا يَعْرف المتلقي الاستقرار، ولا يطمئِنّ للمُسلّمات، بين طرَفيْ هاته العلاقة [سرد/ حوار] بحكم أنه انتهج أطروحة بريشت[الملحمية] الملائمة أساسا لطبيعة الوضع السياسي، الذي يعالجه إميل حبيبي في " لكع بن لكع": [(المهرج: مجرد تشخيص لإثارة مشاعركم، على الطريقة العصرية (ص 43)] لأن المسرح السياسي لا ينمو إلاّ في ظل المجتمعات المتعطشة للحرية والمطالبة بها دوماً: (رغم أننا تأخرنا في طرق المسرح السياسي، إلاّ أننا حينما ولجناه، فلقد ولجناه من أوسع أبوابه، واستطاع المسرح العربي في الفترة الأخيرة، أن يقدم تجربة مسرحية ثرية تستحق الدراسة على مدى سنوات قليلة (6) وبالتالي فهذا النوع من المسرح يجادل الواقع ولا يحاكيه باعتبارأن: (المسرح السياسي لا يهتم بالفرد ولا يحاول تصوير شخصية لأنه أساسا لا يحاول التعرض لمشكلة فردية بل مشكلة جماعية (7) وإن يبدو بأن أغلب الحوارات [ثنائية] ولماما [ثلاثية] - (ك) [الجارية = أبو شارب = أبو شاربين] (أو) [المهرج = بدور[(أو) [السندباد= الدغفل](أو) [المهرج= شهرزاد] (أو) [الجارية = قلب الاسد] (أو) [ست الحسن= المهرج] (أو) [المهرج = الفتى= الفتاة] فهي تعبر عن الجماعة (النحن (في) الأنا) بشكل ضمني ورمزي كذلك: [(الشاب: ولدت بلا اسم)- (السياف: اسمك الحركي؟)- (الشاب: شعْب) ص87] ومفردة (شَعْب/ تكررت عِدة مرات في النص، وأكثر إيحاء عن "الجماعة" وحضورها الفاعل و الذي يمثل الصمود والتحَدي، والوقوف في وجه المحتل وسياسته الغاشمة: [(الفتيات: احصدوهم... احصدوهم... احصدوا.. (ص33)]

صفوة القول:

 فمسرحية "لكع بن لكع" نص يغري بالإيحاءات والقراءة الذوقية، ولكن ستتمظهر جماليته وخطابه الإيديولوجي؛ لحظة التمسرح واشتغال مفرداته وشخوصه فوق الركح. حتى نقف على عمق الرمز/ الرموز المطروحة، ولقد عبر عليها: [(المهرج: رموز، يا بدور. مجرد رمز، تتعَدد الأسباب والموت واحد. حيرني أمري. فأي الرموز أختار؟ (ص81)] فطبعا أي الرموز يمكن أن نختار؟ وما قصد إميل حبيبي من " رمزية "المهرج" وشخصيته التي اعتبرتها " شهرزاد " طويل اللسان/ ونعتبره (نحن) الناطق الرسمي للوقائع والأحداث بكل تجلياتها.

هل اختير رمزا، لكشف سجلات الحرب والمعاناة بين الفلسطينيين / الإسرائيليين: [(إن الحرب لا تعود، يا أولادي، بل تأتي. الحرب تقْدم. الحَرب تجيء (ص58)]؟ أم لتعرية أعطاب الواقع العربي وسيطرة اليأس على نفوس البعض وما تعاني منه، جراء القضية الفلسطينية؟

هل رمزية المهرج تكمن في الرمز الفلسطيني الذي لم يهاجر أرضه مثل بدور: [(بقينا حرصاً على البقية يا بدور(ص16) أو بمثابة صوت المقاومة الصادقة و ضمير صحوة الفلسطيني الخالصة: ["المهرج": أناديكم، أناديكم، تعال يا بدر. تعالي يا بدور ! كأننا يا بدر، لا رحنا ولا جينا (14)] بداهة هنالك أسئلة كثيرة ومتعَددة الجوانب والأوجه؟ أسئلة ليست غامضة ولا معلقة بل مفتاحها بين خطاب " لكع بن لكع"

***

نجيب طلال

........................

الإستئناس:

1) مسرحية - لكع بن لكع: ثلاث جلسات أمام صندوق العجب: حكاية مسرحية - لأميل حبيبي- / دار الفارابي- بيروت /1980

2) الشيء الآخر وإشكالية التجنيس الأدبي: رواية أم مسرحية بقلم: جواد العقاد/ رئيس التحرير صحيفة اليمامة في 3/07/2021

3) إميل حبيبي وصورة الباقين بأرضهم بعد النكبة- لفخري صالح- مجلة بيت فلسطين في 22/10/2022

4) فلسطين في المسرح المصري لسامية حبيب / ص25 - مجلة مسرحنا – عدد 843 بتاريخ 23أكتوبر2023

5) نفسه

6) مقدمة في نظرية المسرح السياسي - لأحمد العشري- ص4 - الهيئة العامة للكتاب مصر/ 1989

7) المسرح السياسي لعبدالعزيز حمودة ص 19 - مكتبة الأنجلو المصرية /1971

كتابة موازية لما هو كائن من النقد

اختلفت موازين الحياة بشكل كامل، واختلفت معها العلوم والفنون، ومن تلك العلوم (علوم اللغة والمنطق وعلم الكلام)، وأختلفت قواعد الحديث، وتعددت اللهجات في الوطن الواحد، فما بالك وأقطار شتى أو العالم أجمع، وما كان يصلح بالأمس ليس بصالح اليوم، ففي الأسواق الشعرية القديمة (عكاظ، والمربد) وغيرها الكثير كان النقد آنياً يقدم شفاهاً، لكنه بحجم اللغة التي ينظم فيها الشعر، لغة فصيحة عربية أصيلة لا شائبة فيها، وهي لغة الجزيزة العربية وصحرائها القاحلة التي كان العرب أنذاك يرسلون أولادهم لتعلم الفصاحة في النطق هناك.

لذلك كانت علوم اللغة وفنونها توازي أو تجاري تصاريف اللغة نفسها، والفنون الأدبية بمستوياتها سواء في الشعر أو الخطابة أو النثر والملحمة كانت تتطلب مستويات متقاربة أو مماثلة لما عليه الشاعر أو الأديب، لذلك كانت لغة النقد عالية في مضامينها متشحة بثقل ما يستخدمه العرب من تعابير وتصاريف لغوية معبرة عن الصورة التي تحويها القصيدة أو الفنون الأخرى (كالملحمة).

فنرى مثلاً عند أمرؤ القيس في معلقته (ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي وما الاصباح منك بأمثل)، لغة بتكوينات صعبة قد تصل حد التعقيد في بعض الأحيان، (كساع ليس له قدمان)، (كجلمود حطه السيل من عل)، كلمات لها ثقلها ووقعها على السامع، لكنها كانت تتناسب والفترة التي راجت بها، أما عن أجيال اليوم بعد أن هجرت القراءة وضاعت المعاني، وتبدلت العربية بالعشرات من اللهجات المحلية التي غيبت معان المفردات، واستبدلتها بما يتناسب وعصرها التي هي فيه، كان لزاماً أن تتبدل قواعد النصوص النقدية وتذهب إلى التبسيط تزامناً مع واقع العصر المعاش والذي يتصف بسرعة وتيرة الحياة وتبدل كل التقاليد والقواعد الزمنية واللفظية (المكانية والزمانية) بعد ظهور الإنترنت وتقارب المسافات وأختلاط المفاهيم وتداخلها، فما كان يصلح للأمس ليس بالضرورة هو نافع أو صالح اليوم.

إن عملية التفاعل التي يخلقها النص النقدي مابين الناقد والشاعر هي تعبير عن تفاعل ذو اتجاهين من عالمين مختلفين ربما، تجمعهما التجربة، وتلعب موازين الخبرة والذائقة النقدية للشعر أو العمل الفني عموماً لدى الناقد لتفسير ما أراد الشاعر أو الفنان التعبير عنه من مضامين في عمله .

وهنا تكون النظرية (المفرغة)، نظرية تبسيط النص النقدي ضرورة فاعلة تتناسب ومجريات العصر، وانحسار تاثير القراءة وهفوت بريقها الذي كان في العقود السالفة من القرن الماضي، فالعصر الثقافي التكويني اليوم يختلف جذرياً عما كان في الأربعينات والخمسينات وما تلاها وصلاً إلى السبعينات، التي أنفرط العهد الثقافي عامة خلاله، واستبدلت المفاهيم الثقافية عموما بغيرها، وعليه لابد للنقد أن يتماشى والتغيرات المطروحة والمستوى الثقافي الذي عليه الشارع ومنه يتمخض القراء.

لابد من اخراج (النص النقدي) من سيطرة (السلطوية) على شكله بالمجمل، وترك الجمود فيما يستخدم من تعابير هي أصلاً ثقيلة على سمع المتلقي، واستبدالها بمسميات قابلة للتناغم ولغة العصر التي تتسم بالتغيير، كما هو العصر الذي نعيشه اليوم، والحال عامة لاثبات ولا نمط يسير على سكته وبقوالب ثابتة يمتلكها البعض، فيما لايفهمها الغالب من القراء.

فليس بالضرورة أن يكون المتلقي على شاكلة الثقافة التي عليها الناقد، ومن يتعامل بالأسلوب الثابت والقوالب الجاهزة، ومدارس النقد النمطية الكلاسيكية، ليس بالضرورة أن يكون القارئ منتمي لتلك المدارس ولابالضرورة أن يعتنق تلك المناهج السلطوية المتسلطة على فكر القراء لتفرض عليهم قالب واحد يتبع مدارس أسست منذ عصر النهضة وما بعدها، حتى وإن أطلق عليها مسمى (الحداثة)، أو قيل أن ما يأتي به النقاد اليوم من منهج هو التجديد الذي يتوافق وطبيعة العصر وقوالب النص النقدي وقواعده الحديثة، وهو كلام لايعتد به كون كل مايطلق عليه حداثة في النص النقدي سيكون بعد سنوات قصيرة في عداد الكلاسيكي، ذلك أن المنهج المتبع في تشكيل النص النقدي ناتج عن قواعد المدارس القديمة في النقد ومنها بل أبرزها (المدرسة الكلاسيكية).

وأذكر أني قد سبق لي وأن قرأت نصاً يتناول أراء الأستاذ (محمد بنيس، أودونيس) وأرائهم مما يعتد بها في مجالات النقد، تفيد بأن (صعوبات الفهم للمنتج النقدي وفق الطرق التي أرستها المدارس القديمة على اختلافها من قبل القارئ يعد تقصيراً في وظيفة النقد الذي نراه وفق التصورات التي خلفتها المدارس الكلاسيكية قصوراً في ايصال معاني النص إلى القارئ، وتلك الصعوبات قد تكون ناجمة عن توظيف المصطلحات النقدية التي ينفر منها القارئ اليوم في غير مجالها، كاستخدام ألفاظ وجمل غير مألوفة أو صعبة الفهم أو أن تكون ذات عمق فلسفي يحمل تصورات غريبة على فهم القارئ. وبالتوافق مع ما جاء به (محمد بنيس، أودونيس)، نرى أن تغير الحال واقع مفروض وليس طارئ، وهذا التغيير شامل لايجزء، ومنه أن تسري قواعد ذلك التغير على النقد بوصفه جنس من أجناس الأدب، إن تغيرت تلك الأجناس فلا يقف النقد محصوراً في زاوية القواعد النافذة وفق التصورات الدارجة في أسس النقد.

من هنا جاءت دعواتنا للنظرية المفرغة (تبسيط النص النقدي) ونعني بالمفرغة، أي التي لاتحتوي التعقيد في تفسير النص كما في النقد القديم أو الدارج. والدعوة تقوم على أساس تضمين الاستبدال في النص النقدي، فلا يكتب بمضامين خارجة عن مألوف ثقافة العصر الذي نعيش، ومنه تستنبط ثقافة القارئ عموماً. وحسبي أن القارئ يبحث عن ما هو سلس بسيط يتوافق والقراءة السريعة التي باتت تشكل سمة العصر الحالي.

إن أهمية النقد على الساحة الثقافية يتشكل منها حجر الأساس في بناء المشهد الثقافي نحو إنتاج رؤية أعم وأشمل، فالناقد يتناول النص بطريقة مغايرة لما عليه القارئ، وما لايدركه القارئ يفسره الناقد، لذلك فالناقد الحصيف هو الذي يعمل بتوافق الأسس وسرعة رتم الحياة وما يتطلبه استدراك القارئ للمعاني، وتوضيح الصورة التي يضمنها الشاعر أو الكاتب في ثنايا نتاجه الأدبي.

لكن قد يقول قائل أن هذا التحول في حالة النقد قد تفتح الباب لحوار يطول ولاينتهي إلى شيء، ولاينال القارئ منه إلا الضياع وسط ما يطرح من مفاهيم وتنظيرات في النقاش الدائر بين مؤيد ومعارض، وهذه ايضاً تدخل ضمن تفصيل دعوتنا لحل مثل هذا الاشكال، فنحن لاندعو لترك الجذور أو الأسس التي عليها النقد بقدر ما تتضمن دعوتنا التبسيط في طرح النص النقدي وفق أسس وعناصر بناء وتكوين النص، أي عدم الخروج على الأساسيات بل تجاوز ما يشكل صعوبة في الفهم عند القارئ، إلى التبسيط ثم التبسيط وبعدها التبسيط.

ولنذهب إلى مثل معين للتقريب، فبدلاً من استخدام مصطلح (التناص) الذي يتداوله النقاد كجزء من أساسيات صنعة الكتابة، ولتبيان حرفية الناقد في ما يكتب، نقول التشابه في النص أو التشابه في التناول الشعري أو السردي عموماً، (التشابه)، وهو المعنى الحرفي لمصطلح (التناص)، هناك من يذهب إلى تأويل المصطلحات، وطرح تفسيرات ومرادفات عديدة لها اعتراضاً على استبدال المصطلح، والطرح بصورة مبسطة، وهذا من حق أي ناقد أو اديب يتبنى المنهج الكلاسيكي أو الواقعي أو غيرها من مدارس الأدب ومذاهبه، إلا أن المحصلة لاتعدو أكثر من نقاش عقيم لايقدم للفكرة أي اضافات وسيبقى القارئ حائر بين من يعترض ومن يدافع، وتلك هي اللاجدوى بعينها.

سيداتي سادتي ...رتم الحياة تبدل شئنا أم ابينا، وهذا التبدل، وهذا التغيير سيطال كل شيء ومنه تلك الأشياء هو المنهج النقدي، فقد ذهبت تعاليم الكنيسة، وذهبت معها تنظيراتها التي تبين إنها من ابرز أسباب تخلف أوربا في تلك القرون وظهرت مراحل التنوير والانفتاح بعد الثورة الفرنسية، وثبتت أراء أرسطو، واخذ العالم الثائر بما جاء به روسو وفولتير بعد عصر الكنيسة.

اليوم نقول بعد الذي شهدناه من هول التغير الذي لفت صفحاته مشاهد العالم أجمع، ووصلت أن يطال هذا التغيير حتى القيم الإنسانية، فهل سيسلم النقد، هي دعوة للتمسك قبل التخلي، التمسك بالأسس والمحافظة عليها، وضرب التعقيد والتشدد والتمسك بصعوبات ما يكتف النصوص، إلى تبسيطها وجعلها في متناول الجميع فهماً وتفاعل.

***

سعد الدغمان

دراسة في اللغة والتخييل في رواية (العرّافة ذات المنقار الأسود) للروائي د. محمد إقبال حرب

مدخل: "السردية الروائية لا يمكنها أن تتحقق في الواقع إلا إذا اعتمدت على التخييل باعتباره استراتيجية إبداعية لجلب المتلقّي نحو عوالم متعدّدة وممكنة التحقق في الواقع...[i]

لكنّ هذه العملية التخييلية لا تتيح إمكانية القبول لدى المتلقي إلا بواسطة اللغة، فاللغة هي الأداة الوحيدة للكاتب في صنع عالمه التخييلي وبناء فضائه الروائي واقتحامه بالشخصيات التي تعطي للفضاء بعده الزماني والمكاني بأقوالها وأفعالها وحركاتها وانفعالاتها، وبناء الحدث وتنامي الصراع ... إلى ما هنالك من عناصر البنية الروائية.

منذ الصفحات الأولى من روايته حاول الكاتب أن يقنع المتلقي بوجود عالمٍ آخر هو عالم الدجاج باختيار أسلوبٍ سرديٍّ ولغةٍ خاصة، لا سيما في السرد والوصف؛ فهل وفّق إلى ذلك؟ وهل كانت لغته في كلّ عناصر الرواية: السرد والوصف والحو ار، لغةً مؤتلفةً متجانسةً مع عناصر التخييل؟

ومن جهةٍ أخرى هل كانت لغته، لا سيما في الحوارات، متوافقةً مع عالم الطيور ومتوافقةً مع صفات كلّ شخصيةٍ من شخصياته الرئيسية، ودورها الوظيفي والدلالي في أحداث الرواية؟

في هذه الورقة النقدية سنحاول التحرّي عن لغة الكاتب، ومقارنتها، للفحص عن مدى تآلف عناصرها في عالم التخييل في الرواية، وهل نجح الكاتب في استغلال عناصر الرواية المختلفة في طرح رؤيته الخاصة.

لكن قبل البدء، لا بدّ من بعض الحديث عن بنية رواية العرّافة ذات المنقار الأسود، إذ اختار الكاتب أن يبني روايته في عالم الطيور، الدجاج بالذات، وهذا أمرٌ مطروقٌ في السرد العربي والعالمي، حيث كان عالم الحيوان فضاءً لحكايات كليلة ودمنة، ليهرب كاتبها من مواجهة السلطة بآرائه وأفكاره الحقيقية، فحمّلها على لسان الحيوانات، ومع ذلك لم ينجُ من البطش.

أمّا ابن طفيل فقد اختار المزج بين عالم الحيوان والإنسان في قصته الفلسفية (حي بن يقظان)، وكان ذلك اختياراً ملزماً، كي يكشف رؤيته الفلسفية في مآل حي بن يقظان وحتمية إيمانه بخالق للكون والطبيعة، تتماشى مع فلسفته في الوجود، ورؤيته الإيمانية.

وكذلك جورج أورويل استند على مزرعة الحيوانات وصراعاتها في نقده للنظام القمعي، ووضع رؤيته المعارضة للنظام الستاليني.

فإن هذه الرواية حاولت إعادة رسم صورة الصراع البشري القائم على التمييز وأدواته السلطوية: الغيبية والنفسية والقمعية في مجتمعٍ متخيّل، ليسجّل الكاتب رؤيته المندِّدة بهذا الصراع ومن يقف خلفه، وليجعلَ المتلقي، في نهاية قراءته للرواية، يندد أيضاً، وينحاز إلى رؤية الكاتب، من خلال ردود الأفعال التي أدارها الكاتب بمهارة، وباختياره موضوعاً يكاد يجمع على مدى شرّه كلُّ البشر، وكل ذلك من خلال استغلاله طاقة اللعة في الحوارات والسرد والوصف.

أولاً: الفضاء الروائي

من حيث بنية الرواية الزمانية والمكانية، فإن التخييل لعب دوراً كبيراً في تأثيث الرواية وتمهيد البنية المكانية ببيئة خيالية تنتمي، في عناصرها الأساسية، إلى عالم الطيور، هو أقرب إلى عالم ميتافيزيقي من حيث إنه عالمٌ ليس له وجود، نجح الكاتب في بناء العالم المكاني للرواية وأعطى للخيال طاقته الكاملة في ملء الفضاء المكانيّ بالعناصر، سواء في الأبعاد الكبرى كالمكونات الجماعية للمجموعات الدجاجية في أماكنها (ممالكها) المختلفة وما ترمز إليه من دلالات: "اجتمعَت للدّيك الذهَبيّ مقاديرُ الحُكم فأقام مَزرَعة واحِدة تضُمُّ بِضعَة آلاف من بني دَجَاجة توارثَها أحفادُه حتى اليوم. لم يتخَلّف عن إقامَة الوَطن الجَديد إلا شراذم قَليلَة منبوذة أقامت عَشوائيات دَجَاجيّة... على مرّ العُصور، أَصبَحت المزرعةُ وَطنًا لأحفَاد سَيّدنا سَهم، والمزارِع الأصغر المحيطَة بها ما هي في الحَقيقَة إلا عَشوائيات تمثّل أطيافًا من العالم الدَجَاجي المنبوذ "[ii]

أو بالعناصر الدقيقة للأماكن الداخلية والتفاصيل التي تمنح المكان صورة واقعية، وتبثّ فيه الحياة، وإن كان أساسها الخيال:

"وَصَلَ الجَميع إلى مَزبَلة أنيقَة تحفُّها من الجوانِب مظاهرُ النِعمة ببساطَة الطبيعة التي أضفَت على الجوّ حُبورَ الاستقبال وراحة النَفس"[iii]

وفي الزمان لعب الكاتب بالخيال لعباً جميلاً، مستخدماً طاقة اللغة وتنوّعها في إضفاء حالةٍ من الصدق في بناء فضائه الروائي، يظهر ذلك في لغة السرد والوصف على وجه الخصوص، مثلاً:

"للمزارِع هنا وحدَة روح وتاريخ يتّخِذان وَقَفَات عِزّ أزليّة من عَهد سَيّدنا نقَّار، رمز وُجود الريشيّات، مرورًا بمُجدّد العهد الدّيك العبقَري الشهيد سَهم، إلى عصرنِا هذا، عَصر البَيض الكِلسي الحاضِر الذي شهِد استقَرار بني دَجَاجة في هضَبة آمَنة تتربَّع على سُلطتها المزرعة الذهَبيّة العَظيمة [iv]

أو استخدام جميل للتوقيت والتأريخ في فضائه الدجاجي المتخيّل:

"كما سَمِعتُ أنهم بعد عدة دروات تَفقيسيّة سيُعلِنوننا مُستَعمَرة لهم ويسلُبونَنا ثَرَواتنا"[v].

ابتدأ الكاتب أحداث الرواية بزمن له أهمية من حيث الدلالة والرؤية التي سيحمّلها الكاتب في روايته عبر الأحداث القادمة، يقول في الصفحة 15: على لسان الراوي العليم: "بعد معركةِ المَناقير الكُبرى، تفرّق من بَقي حيًّا من بني دَجَاجة شِيعًا وأفرادًا لسَنوات طِوَال حتى بدأ الدّيك الذهَبيّ بجمعُ الشّتات في أرض الوَطن التي نشأ عليها «سَهم » العَظيم[vi]"

والإشارة إلى أن زمن الأحداث يقوم على أنقاض الزمن البشري، منشئاً ما يشبه الحقب الجديد، فإذا كانت الأرض مرت بحقب سيطرت فيه الديناصورات وحقب للسرخسيات، وأحقاب جيولوجية متعاقبة كانت تتميز بسيطرة نوع من الحيوانات أو النباتات، فإن الكاتب أراد أن يخلق حقباَ جديداً يؤرخ بانقراض مملكة الإنسان وبناء ممالك الدجاج. هذا التأطير الزماني يفتح أمام الكاتب إمكانيتين دلاليتين: فمن ناحية يعطي لزمن الرواية بعداً مستقبلياً غير محدّد في حيزّه المستقبلي، ما يخفف لدى المتلقي من حدّة الفجوة التخييلية في الرواية كلها التي تجعل الهيمنة لجماعات الدجاج الضعيفة، وهذا التناحر والصراعات التي تحاكي صراعات البشر، إذ لا أحد يدري ماذا يحمل الزمن في امتداده المستقبلي البعيد.

ومن ناحية ثانية، يستفيد الكاتب في كثير من تفاصيل الرواية، وبعضها ذو أهمية، من ملامح البشر وبقايا عصرهم، محرّكاً للأحداث مثل مفهوم الشّوّاية التي تعطي دلالتين أيضاً، دلالةً واقعية هي المحرقة التي لا يخفى معناها وتاريخها ونتائجها على أحد، ودلالةً أخرى ميتافيزيقية استمدها من التراث الديني من مفهوم الجحيم والعذاب بالنار التي يخيف بها طغاة البشر شعوبهم المقهورة عبر أدواتهم الدينية، أو يجد فيها المستضعفون الأمل باعتباره مصدر غيبي للعدالة المفقودة.

بقي أن نشير إلى خطأ سردي بنيوي في الرواية، حيث أر ّخ الكاتب على لسان الراوي لأحداث الرواية أنها تقوم على أنقاض الحضارة البشرية، كما أسلفنا، وفي الصفحة 208 يقول الكاتب على لسان إحدى الشخصيات: "نحنُ نتعرّض باستمرار للهَلاك على يدِ البَشر..."[vii]

ثانياً: الشخصيات

وهي تحيلنا إلى الحوارية وتعدّد الأصوات:

"يؤكد باختين أن العمل الروائي يتشكل من مجموعة من أصوات وخطابات متعددة، وأنها تتحاور متأثرة بمختلف القوى الاجتماعية من طبقات ومصالح وغيرها...>[viii]

وباعتبار اللغة، حسب أدوارد سابير هي "طريقة إنسانية خالصة وغير غريزية لتوصيل الأفكار والانفعالات والرغبات بواسطة نسق من الرموز تت ولد توليداً إرادياً"[ix]، فهنا تصبح مهمة الكاتب أصعب كون المشاهد الحوارية تدور على لسان طير أعجم، لا يعرف عن مشاعرها ورغباتها، وكيف تعبّر عنها، لذلك لجأ الكاتب إلى لعبة تخييل جميلة، تضيّق الفجوة بين الخيال المحض، وهو لغة الدجاج، وبين اللغة التي لا بدّ من استخدامها، باعتبارها الوسيلة الوحيدة في عملية إرسال الخطاب، بإعطاء الشخصيات أسماء ذات دلالات تشير إلى المكانة في مجتمعها مثل (العرف الأكبر، الديك الذهبي، العرّافة، الآمر، الزعيم..)، أو ظيفية محدّدة، مستخدماً معجماً لغوياً غنياً وعارفاً بعالم الدجّاج، مثل: (ضجاج، صيّاح، ودّان، ريشة)، أو قطع المشاهد الحوارية بتدخّل الراوي العالم ليصف لنا حال إحدى الشخصيات وهي تتحدث، في محاولة لكشف مشاعرها، أو أفكارها... تلك الحالات الإنسانية الخالصة، وكذلك تحميل الشخصيات مشاعر وإرادة وأفكار الإنسان وأهدافه وتخطيطه، وكل ما يملك الإنسان من إرادة ومشاعر ورغبات مستخدماً تقنية الأنسنة أو التشخيص في عملية التخييل؛ وهنا نجد أن اللغة لعبت دوراً هاماً في السرد والوصف، حيث اعتمد، على الوصف كثيراً في جعل عملية التخييل تصبح واقعاً روائياً منسجماً مع شخصيات الرواية وبنيتها الزمانية والمكانية، مستخدماً عناصر الطبيعة وعالم الدجاج في وصف المكان والزمان والشخصيات، وكذلك في سرد الأحداث على لسان راوٍ عالم.

كان الكاتب موفقاً في لغة الوصف، وصف الشخصيات ووصف المكان والزمان، وحتى في اختيار الأسماء، فجاءت لغته متنوعة في مفرداتها، مرنة متحركة في تراكيبها، مناسبة للغرض وتحمل فيها درجة من الإقناع، لكن لغة الحوارات، وإن كانت متغيرة في مضامينها الفكرية ورؤاها المتنوعة حسب الشخصيات ودلالاتها ووظيفتها الروائية. إلا أن تراكيبها كانت متماثلة مع لغة السرد، لغة الراوي العالم، فلم نلمح تنوّعاً كبيراً من حيث درجة الوعي، والاهتمامات المختلفة، والأهداف... والحوار، كلام الشخصية، يختلف عن السرد أو الوصف كونه يحمل في ثنايا اللغة أفكار الشخصية وعوالمها وعالمها الروحي والسمات الفردية التي تميز كل فرد عن آخر في عملية الكلام.

ربما مردّ ذلك أن الوصف والسرد يكون دور الروائي فيهما دوراً أسلوبياً يعبر عن مهارته في التقاط التباينات الدقيقة واختيار الألفاظ التي تناسب تلك التباينات، حيث إن العناصر التخييلية في الوصف والسرد لها مرجعية واقعية، لها مثال في الذاكرة يمكن أن يوظفه المؤلف في عملية التخييل، وتحميله الدور الوظيفي والدلالي المناسب حسب مهارة الكاتب وقدراته الأسلوبية، بينما في لغة الحوار، في هذه الرواية بالذات، وكون أبطالها من عالم الطيور البكم العجماء، ليس لها مثال واقعي يستلهم منه ويبني عليه في عملية التخييل.

الموضوع والرؤية

الكتابة الروائية ليست مجرّد سردٍ مبني على خيال واسع، بلغة ناضجة مرنة، إنما هي استراتيجية يتبعها الكاتب ليسجل من خلالها موقفاً ورؤية وفلسفة في العالم المحيط به.

الأحداث في الرواية متخيلة؛ لكنها انعكاس – على مستوى اللغة فقط- للعالم البشري أفرغه الكاتب من دلالاته المباشرة الحقيقية والواقعية التاريخية، ليضعها في إطارٍ تخييلي له دلالاته الخاصة التي- وبسهولة- يدرك القارئ إحالات تلك الدلالات وإمكانية حدوثها في العالم البشري الواقعي، واقعيتها تكمن في إمكانية تحققها، وهذا هو الدور الأدبي للعملية التخييلية.

بما أن التيمة الأساسية التي قامت عليها الرواية هي تيمة التمييز بكل أشكاله، وما ينتج عنه من صراعات وحروب وإبادة وبطولة وخيانة... فإن صورة هذا التمييز تظهر جلياً في اختيار الأماكن ووصفها، بل وحتى أسماؤها ذات الدلالات المباشرة أحياناً.

الأحداث الرئيسية في الرواية التاريخية تأتي في الحوارات في غالبيتها، الأمر الذي يدفع بالمتلقي إلى الانحياز مع هذه الشخصية أو ضد تلك، وبالتالي إلى ما تمثله دلالياً في إسقاطها على الواقع التاريخي. وهنا لعبة الكاتب في الأيهام وطرح رؤاه وأفكاره ومعتقداته الشخصية بشكلٍ مختفٍ على ألسنة الطيور، نقرأ مثلاً:

الحَكيم: أنظُر إلى رِجال الدين من البَشَر الذين صوّروا الله عزّ وجلّ مخيفًا مُرعبًا يَنتظِر ابن آدم على هَفوة ليُدخِلُه النار ويُعذّبه مُستلذًا بصَيده، مع أن الله رحمن رحيم كتَب على نفسه الرَحمَة.. يَفعَلون ذلك ليُخيفوا الناس، فأضحى بنو البَشَر لا يَعبُدون الله لما هو أَهلٌ له، بل خوفًا منه"

الزَعيم: ماذا تنَتظِر من شَعبٍ جائِعٍ، خائِفٍ ما عاد يَعرِفُ صَديقه من عدوِّه؟ إنهم شَعبٌ مَشلولٌ مُنهَكُ القِوى فاقدُ الوعي الآن."

زغلول: أحجارُ الحَياة الكريمةِ قد تكونُ في أي من رُكامِ المتاهات، لذلك عليك التّنقيبِ والتمحيصِ وإجراءِ الاختبارات حتى تَعلَم المزيّف من الحقيقي، كي تفوزَ بالجَوهَرَة الأُم، فيشِعَّ قَلبُك بنورِ الحَقيقَة وتتفَتّحَ خزائنُ حِكمتِك قَرابينَ لعُرفِك المقَدَّس.

وعلى العموم، حفلت الرواية بالأفكار والرؤى المختلفة التي تظهر رؤية الكاتب وفلسفته في كثير من الأمور المهمة، ذات الأثر الكبير في المجتمع الحقيقي، الذي لم تكن الرواية وعالمها الدجاجي إلا إسقاطاً له، وترميزاً:

"يابني دَجَاجة لا يوجد علمٌ ضارّ، بل مخلوقات شرّيرة تُحيل العِلم إلى وَباء"

"قَضى القديس الأوّل شَهيدَ مؤامرة، وقَضى الثاني شَهيد خِيانَة، وكلتاهما - الشهادة والخِيانَة - كانت الأصل أجدادا لا يتذكّر التاريخ وُجودَه."

"أن أَفضَل وسيلة لتحطيم الشَعب الدَجَاجي الملوّن أو أي شعب آخر هو التوغّل في معتقَداته لاستثارة بؤر الكراهيّة بهدف زَرع اُصول الفتن والحِقد والكراهيّة في النُفوس والقُلوب من أجل إبقاء الولاء للسُلطان"

رواية العرافة هي إعادة استحضار تاريخ الصراع البشري؛ لكن ليس استعادة مرآوية، نسخ أو تسجيل، لكن المؤلف اختار القضية الأكثر تأثيراً في مسيرة التاريخ العالمي؛ ولا يخفى على القارئ أنى هذا الاختيار بحد ذاته يحمل رؤية الكاتب وتصوره الخاص.

الحوارات بين الشخصيات، لاسيما الحوارات التي تحمل حجاجاً أو جدالاً، هي حوارات بين الكاتب المتخفّي خلف شخصية ما من شخصيات الرواية، وبين شخص مفترض مخالف يضعه الكاتب أمامه في عملية التخييل، ويطرح الأسئلة المعارضة المحتملة، ويجيب عنها من خلال حوارات عميقة، أعطت للرواية بنيتها الفكرية التي تميل إلى الفلسفة، هي فلسفة الكاتب ورؤيته.

الرواية ليست رواية فلسفية ولا تاريخية ولا واقعية أو سريالية. هي رواية أفكار، تنبع وتتشعب من فكرة واحدة رئيسية هي فكرة الحروب والصراعات بين البشر، ليطرح، من خلال نتائجها الكارثية في الفضاء الروائي، فكرة السلم، ليدين أسباب الحرب، التفرقة بكل أشكالها بين المجتمعات وبين الافراد في المجتمع الواحد، فكرة السلطة وما تستلزمه من أدوات عنف وخطط هدامة مدمرة.

***

بقلم: منذر فالح الغزالي

.......................

[i] . محمد سيف الإسلام، قراءة في كتاب الرواية العربية ورهان التجديد للدكتور محمد برادة، موقع إسلام اون لاين

[ii] الرواية ص 15

[iii] الرواية ص46

[iv] الرواية ص 20

[v] الرواية ص 211

[vi] الرواية ص 15

[vii] الرواية ص 208

[viii] ويكيبيديا

[ix] محمد خرماش، جدلية اللغة والواقع في الخطاب الروائي- مقاربة نظرية/ موقع علامات، 13/8/2020

النص السردي يمتلك براعة التجديد والابتكار في الصياغة الفنية في تقنياتها الحديثة، تتجاوز التقليد والمألوف، إذ يملك خاصية الصراع بتصاعد الفعل الدرامي في سرد حكاية النص، وخاصة ان الاستاذ (شوقي كريم حسن) يمزج السرد بالدراما، ليشكل الثنائي في تقديم الحدث في البنية والأسلوب، هذه المنهجية برع بها بشكل فائق ومرموق، في الاتجاه الروائي أو القصصي الذي يسلكه، يصب في الاتجاه الواقعية الجديدة أو الواقعية الانتقادية، ويوظف معالم الكوميدية / التراجيدية (المضحك / المبكي) متدفقة من الخيال والواقع، على خلفية فكرية عميقة الدلالة والاشارة، في عمق الرموز الدالة في المعنى والمغزى، في تناول مفردات الواقع بحجمها الاجتماعي والسياسي الطاغي للحقب والمراحل التي مرت على العراق، وأخذت صبغتها الخاصة ومتميزة. نجد براعة التمرد والمشاكسة في الشخوص، في الشخصية الواحدة، التي تدور حولها الحدث أو الاحداث في النص السردي، وفي لغته المشوقة في غاية البساطة، حتى تشعل السخونة في الحدث الدرامي / السردي، في تنقلاتها وتحولاتها نحو الذروة. مما يخلق براعة في النص القص بتحويله الى مشاهد تصويرية في الصورة والوصف، يتناولها بكل شجاعة وجرأة في المكاشفة الصريحة، في عمق الإحساس والشعور، ليجعل القارئ يعيش احداث السرديات، هذا ما نجده في المجموعة القصصية (عربة ماركس المنسية) بشكلها الانتقادي الساخر، وفي روحية صبي متمرد ومشاكس. كأنه يريدان يصعد الجبل الى القمة ليمسك الوهم والحلم، وان لا يهادن ولا ينحني للعواصف مهما كانت شدتها، كما وعد وتعهد الى والده المرحوم كما جاء في الإهداء (الاهداء... الى كريم حسن شهاب.... الذي علمني أن مواجهة الظلم مهمة أنسانية، شريطة ألا تكون مرتبطة بمصالح شخصية ضيقة الأفق، وأوصاني، ذات غضب... (مجنون من تسيره أوهام محال الى تحقيقها) لذلك نتابع ونلاحق ذلك الصبي المجنون والمتمرد، كأنه في غابة الوحوش الكاسرة ليسرق منهم الحلم، او انه يحاول ان يمسك الريح براحة يديه، هذا الصبي الجنوبي القروي، عينيه متورمة بالاحمرار، وجسده النحيل، يحاول أن يطفر على مراحل طفولته جزافاً، لذلك يدخلنا في رحلة حياته العجيبة، مليئة بالجنون والتمرد (كان الصبي الذي كأنه يرفل لاهثاً ممسكاً بطرف الثوب المقلم بخطوط خضر مسطرية، يطبق أجفانه ويتأوه لاحساً جفاف شفتيه المالحتين، ثمة عالم آخر يشده إلى وجوده، عالم تأخذه الاحلام إليه لحظة تلفح حرارة الشمس باطن قدميه الراكضتين دوما) ص6. ولكن روحه مليئة بالتمرد والانتفاض، ولم يغادر أحلامه، وحتى لو هذه تغادره دون وداع، يظل صامداً في جسارته وتحدياته، رغم ان يزرع أحلامه في أرض قاحلة وجافة تعبث بها الاتربة (- لمَ أنت هذا بعد هذا الكد المضني؟ ولمَ غادرتك الاحلام دون وداع؟ ما الذي جنت سنواتك غير تراب مملوح وأرض قاحلة، وحدك أيها الغريب الضائع في متاهات مدن روحهِ. وحدك تبقى ووحدك تغادر).

× قصة: قوافل الشط

(لا غرابة في أني أقدم جنوني بين يدي صديقي المغدور فيصل غازي الثاني المبجل) ص12. تبقى الحقيقة الصادمة، أن مقتل الملك الشاب المغدور، فتحت صندوق (باندورا) بكل الشرور والعدوانية والمجازر لم تتوقف حتى يومنا هذا. حكاية السرد تتناول الواقع آنذاك بشكل أسلوب ساخر وانتقادي. نقتطف بعضها رغم أن الحياة لا تخلو من مشاكل وعثرات، ولكن كانت الحياة تحمل البساطة والتواضع بدون بهرجة فاقعة من الملك حتى أصغر مواطن بسيط. كانت الحياة تحمل نكهة خاصة في مذاقها الحلو والمتواضع، منها مسؤول النادي بأمر حكومي من مدير الناحية، كتب في لافتة عريضة في باب النادي مجموعة ممنوعات (كتب المسؤول عن النادي. ممنوع الغناء، وممنوع الرقص، وممنوع الحديث بالسياسة، ممنوع جداً الهتاف ضد الحكومة بعد منتصف الربع الثاني من ثمالات العرق المغشوش) ص12 مما حدى بزبائن النادي تركه والتوجه الى ضفاف الشط والبساتين، ولكن لتلطيف الجو في قائمة الممنوعات وتخفيفها، بما صرح به مفوض الشرطة بقوله (يحق للمواطن الغناء وتجاوز حدود الهذيان، بشرط أن تكون سورية حسين، وحلوة الطباع لميعة توفيق) ص13. ومدير المستوصف يحاول أن يتصالح مع المضمد المنفي، ان يسمح له بتناول القصائد الممنوعة ومنها واهمها قصيدة (أين حقي) وارسل إليه حارسه الشخصي مع نصف قنينة (عرق) عربون المحبة والتصالح.

قصة: عربة ماركس المنسية:

التحليق في عولم الوهم بعقلية صبي وقح، يشاكس حتى اوهامه بالتمرد عليها (- أنت لن تقوى العبور إلى ضفاف المعاني القصية، تحتاج إلى عدة وقبول. أنت لن تقوى على فعل سبر الاغوار هذا، كن مع الاقرب، واترك البعيد يجيء اليك..... حيرتك تنث مطراً مالحاً من الارتدادات التي تزيدك نفوراً) ص23. تتوغل مسرودة الحدث السردي بالمعنى الرمزي البليغ في المعنى والمغزى الدال. بأن رجل غريب الأطوار دخل الى القرية في ليلة ماطرة ليكسر مرايا الواقع ويقلبها على العقب بالضجيج والصخب (لا أحد يدري كيف ظهر الرجل كث اللحية في قريتنا، سمعتهم يقولون، أنه ما جاء ولم يراه احد يدخل مرابعنا.. لكنهم وجدوه ذات ليلة راعدة ماطرة) ص23. وانكشف سره بأن هذا الرجل كث الشعر واللحية جاء من بلاد الفرنجة (ليسكن ديارنا المفعمة بالصمت. بعد أن أعلن جهاراً (أن الدين افيون الشعوب) لاحقته السن الغوغاء، بعد أن امطرته بوابل من السباب، وامطار من الحجج مطالبة برميه في لجج البحر، وهذا ما قام

به كهنة المعابد، الذين تضررت مصالحهم قبل مصالح الفقراء والمساكين) ص24، وأصبح الصراع محتدما في منع زعزعة سلطة كهنة المعابد المطلقة، لذلك أن هذا الرجل كث اللحية يعزف في الفراغ في ارض لا ينبت فيها العشب، (- يا سيد نبؤتنا تقول، يدرككم الموت لو كنتم في بروج مشيدة.. عُد من حيث اتيت، ان استطعت عد) ص24.

× قصة أمنيات:

تطرح سؤالاً جوهرياً في مفهوم الحرب ومشعليها، دائما وقودها الشرائح المسحوقة والمظلومة يرجعون في توابيت الموت. ليتنعم أصحاب الجاه والنفوذ....... تتحدث عن ضحية رجع من الحرب مبتور الساق وينتهي به المطاف بالسجن، و يتندر عليه مسؤول السجن بالاستهزاء والسخرية (أعرج البين من أجل ماذا فقدت ساقك؟ وأضعت سنوات عمرك هباء منثوراً؟ كنت اتابعك بشغف وحب وتفاخر، وانت تركض مثل غزال شارد، مجتازاً الحاجز تلو الحاجز. يصفق لك الجمهور ويهلل بأسمك.... ما كان عليك أن تبقى منتظراً موتك) ص31.

× قصة: وقف منتهي الصلاحية

سلاح الطغاة الحيل والمكر بجانب السيف، وانتاج ثقافة التمجيد والتعظيم والتقديس، للضحك على ذقون الجهلة والاغبياء حكاية السرد في رمزيتها العميقة، تتحدث عن مجون وهوس وبذخ الباشا (مراد باشا) حول القصر الى مجون وخمر ونساء ومتعة، تقودها جاريته المحبوبة (درة الملك) التي تعرف كل اسرار القصر، ولكن بعد موت (مراد باشا) تحولت الى عاهرة مبتذلة ومنبوذة، وخشية من فضح أسرار القصر، دبروا أمر مقتلها، وبعد موتها، اصدار القصر فرماناً، ببناء مزاراً باعتبارها سيدة مقدسة، بما جاء فيه (تقديساً لسيدة العفة والبهاء والرفعة، مولاتنا درة الملك، قررنا بناء مزاراً يكون مكاناً آمناً، لتلاقي العشاق والمتيمين حباً، وعلى الجميع التهيؤ لدفع الضرائب والمستحقات، دون تأخير وتخاذل)ص59.

× قصة: مزار الغريب هتلر

دائماً وابداً الطغاة والأباطرة يركبون حصان بدعة الإنقاذ ودعاة التحرير، أعوانهم يرفعونهم على الأكتاف بالمجد والتعظيم والقدسية، ويبثون رياح الرعب والخوف في نفوس معارضيهم، ليذهب الى جهنم من يتطاول على الحضر الأعظم المقدس (قال الملأ، بعد ان تيقن ما سعت إليه أحلامه صار يقيناً

- لابد من مزار.. لمنقذنا الآتي من بلاد البرد، يدعونا لحفظ هيبة حضوره) ص82. فهذا ليس بغريب وعجيب ان تقام اضرحة مقدسة لهتلر وامثاله من الطغاة، ونتذكر الحقيقية المرة، ألم يطالب احد من النخبة الحاكمة الحالية، بإقامة تمثال من الذهب للغازي المحتل جورج بوش؟. ألم يقدم سيف الامام علي (ع) سيف ذو الفقار هدية الى وزير الدفاع الأمريكي القاتل؟

والقادم أتعس

***

جمعة عبدالله – كاتب وناقد ومترجم

 

في المثقف اليوم