قراءات نقدية

قراءات نقدية

تشير أغلب الإحصاءات، المعتمدة رسميًّا من جهات حكوميّة عربيّة، ومن جهات معتمدة دوليّة، مثل منظمة اليونسكو، الى أن العالم العربي يقف دائماً في ذيل قائمة الأمم القارئة للكتب، فوفقًا الى تقرير صادر عن منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة في شباط 2023، ينشر العالم العربي 1650 كتابًا سنويًا، في وقت ينشر فيه الولايات المتحدة الامريكية 85 ألف كتاب سنويًا.

وتتفوق إصدارات الكتب في الدول الأوروبية بشكل محزن على ما يقابلها في العالم العربي، الذي إذ يصدر فيه كتابان سنويا، ففي الوقت نفسه يصدر في اوروبا 100 كتاب. والتقرير نفسه يشير الى أن الطفل العربي يقرأ 7 دقائق سنويًا، بينما الطفل الأميركي يقرأ 6 دقائق يوميًا.

 وبعد ...؟

تعاني الثقافة، بشكل عام، في البلدان العربيّة، من انحدار مريع، مع تهدم البنى التحتية الاجتماعية والسياسية، في العديد من الدول العربيّة، واختفاء أهم المؤسسات المدنية الفاعلة وتشوه تركيب المجتمعات، بزوال الطبقة المتوسطة، وظهور طبقة طفيليّة ساعدت على انقسام المجتمعات العربية طائفيًّا وإغراقها في طقوس غيبيّة، ويترافق كل ذلك مع التدهور في الحياة الاقتصادية، لأغلب البلدان العربية، وعيش العديد منها على عوائد النفط فقط، وتحولها الى بلدان استهلاكية وغير منتجة لاي بضاعة.

في الجانب الآخر، نجد أنفسنا، في العديد من البلدان العربية، نقف أمام حقيقة مريعة، هي تحول غالبية العاملين في حقول الثقافة الى موظفين في الدولة، وغياب وتغييب لدور المثقفين العضويين، فيوفر الفرصة لبروز جمهرة من المتثاقفين و(المثقفين نص ردن) أصحاب ثقافة الوجبات السريعة، ونجوم مواقع التواصل الاجتماعي، مع غياب أطر ثقافية فاعلة قادرة على خلق نهضة ثقافية، واستمرار معاناة المثقفين الحقيقيين مع تسيّد الأنظمة القمعيّة وأذرعها البوليسية من مليشيات وأجهزة أمنية قمعية، التي تفرض قيودًا لا عد لها حول أي نشاط ثقافي يتعارض مع منطلقاتها المذهبية والايديولوجية، يترافق هذا مع انتشار الأميّة، وتدهور أوضاع التعليم، بل وانحداره في بعض من البلدان العربية، هكذا تحولت القنوات الفضائية، المتكاثرة مثل الفطر، الى المصدر الأهم للمواطن العربي، منها يتلقى المعلومات والأفكار، عبر ما تقدمه وتسمح به الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها الرقابيّة، من برامج ومسلسلات تمثيليّة وأغان، تنشر الأفكار الظلاميّة والسطحيّة. هكذا أصبحت مصادر المعرفة بالنسبة للمواطن العربي محدودة، وصار يتلقى باستمرار جرعات من التفاهة عبر ما تقدمه له الفضائيات من مسلسلات تلفزيونية تسهم في تشكيل، وعيه وتربية ذوقه وقيمه.

في شهر رمضان المنصرم، تورطت ـ بالمعنى الكامل للكلمة!  وتابعت على مضض مسلسل (أولاد بديعة) من إنتاج شركة بنتا لينس، تأليف علي وجيه ويامن الحجلي وإخراج رشا شربتجي، وشارك في أداء أدواره نخبة من نجوم الدراما السورية. كنت أنشد بعض المتعة والمعرفة، فوجدت نفسي أخوض في مستنقع حكاية مفككة تجمّل القبح والجريمة والأفعال الشائنة وتحاول تقديمها خلف غطاء أسماء نخبة العاملين والنجوم من ممثلين وفنيين. ماذا أراد المسلسل أن يقول وأية رسالة؟ أي حكاية قدم؟.

غابت روح المنطق من كل الحكاية التي قدمها المسلسل، وسادت روح الثأر والانتقام التي سكنت قلوب أغلب الشخصيات، وجعلتهم يرتكبون سلسلة من الجرائم التي يقدمها المسلسل كأفعال مبررة وربما بطوليّة، ولأجل مط المسلسل الى ثلاثين حلقة، تم حشوه بكذا حكاية جانبيّة، رهلت أكثر من حكاية الأخوة الأعداء المتخاصمين حول الإرث والوجاهة والنسب.

يردد كبار السن، بأن (الكذب المصفط أفضل من الصدق المخربط)، ولكننا خلال ثلاثين حلقة، لم نجد لا كذبا مصفطا ولا خربطة صادقة.

طبّل منتجو العمل كثيرا، لاجل التسويق، في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، لما سموه بجرأة العمل، ولم أجد فيه كمشاهد أية أفكار جريئة تستحق التوقف عندها، ولا مشاهد فنيّة جريئة تستحق الإشادة، لم يكن هناك من (جرأة) سوى مشاهد كباريه عادية ترتدي فيه الراقصة سكر (الممثلة سلافة معمار) شورت رياضة تحت ملابس الرقص، فأين الجرأة؟.

لقد جمّل المسلسل بشكل فج الجرائم القبيحة والأعمال المشينة، التي ارتكبها أغلب شخصيات المسلسل، بل وتركهم من دون عقاب، وكما يبدو، ولأجل انتاج موسم ثانٍ، حاول ان يحول (أولاد بديعة) الى وطنيين بتعاونهم مع الأجهزة الأمنية وذلك بغدرهم بأحد شركائهم في الجرائم.

من المؤسف أن إمكانيات فنيّة وطاقات تمثيليّة، تهدر لإنتاج مسلسل بقصة مفبركة، إذ لا تخلو حلقة واحدة من حلقاته الثلاثين من أحداث مفتعلة وغير منطقيّة، وحيث تتطور الاحداث بشكل ملفق، مثل محاولة قتل أبو الهول (الممثل محمد حداقي) فإذ ينجو من المحاولة الاولى، بعد مشهد ساذج وذلك بفك عجلات سيارته التي سقطت في الوادي وتحولت الى خردة، ويتبين عدم موته!! ولأجل الخلاص من ابتزازه واسكاته تقرر الراقصة سكر وأخوها ياسين (الممثل يامن الحجلي) قتله على الطريق العام، السريع، بتفجير سيارته بعد رميها بالقنابل اليدويّة! وكأنَّ راكبي وسائقي السيارات المارة على الطريق السريع العام، في بلد عربي، مثل سوريا، مكفوفي البصر!!، فلم يلاحظوا تفجير السيارة ليتصل أحدهم بالسلطات المعنية، وتركوا أخوة بديعة بسهولة يأخذون جثة غريمهم لدفنها وتغييبها، وفق رغبة كاتب ومخرج العمل.

 الميزة الوحيدة لهذا المسلسل، أنه لا يمكنك توقع سير الاحداث وتطور الشخصيات، إنه يذكر بالمسلسلات الامريكية التي تنتج لذات الأهداف، تسطيح وعي المشاهد، وتسمى مسلسلات (ربات البيوت) حيث تكتب قصصها حسب رغبة المشاهدين والمتابعين، فتختفي منها شخصيات وتعشق وتتطلق وتتزوج شخصيات حسب طلبات ورغبات المشاهدين، وكأني بمسلسل (أولاد بديعة) تكتب حكايته خلال انتاج العمل، فالشخصيات تظهر وتختفي من دون مبررات مقنعة، تهبط وترتفع، تحب وتكره، تؤمن وتكفر، تعادي وتصالح، من دون منطق ومن دون مبررات كافية.

وستكون قمة السخرية والهزء بعقول الناس إذا تم انتاج موسم ثانٍ من هذا المسلسل، الذي يمجّد القبح ويجمّل الجريمة والشر وقدم للاسرة العربية، بحضور الكبار والأطفال، في الشهر الطهور، جرعة عالية من العنف، و... يا عزيزي القارئ، ليختر المواطن العربي ديكتاتوره المفضل ويرفع صورته في بيته، ولا تسأل لماذا يتم الاعجاب به من قبل آخرين كثيرين!، فهناك من يعمل على تجميل القبح والشر وتبرير التفاهة.

***

يوسف أبو الفوز 

(الى آخر الملكات) قصيدة للشاعر العراقي علاء سعود الدليمي. القصيدة مُفعَمةٌ بالمجازات والاستعارات البليغة، حيث يدور الشاعر مًلتفّاً على عشقه وإحساسه تجاه المحبوبة بعيداً عن غرائز الحبّ  بالتعلٌّق الحسيّ والتهيُّج العاطفي، والتعبير عن كلِّ ذلك بذكر المحاسن والانشداد الرغبوي والإثارة الحسيّة، من خلال تصوير الحالة الوجدانية عند الشاعر. لكننا نجده يتجه صوب الوجد الصوفيّ في الحبِّ الإلهي الذي يرفع العاشق الموجود الى منازل عليا من الوَلَهِ والذوبان في ذات المعشوق بوحدة اندماجية عاطفية روحية مقدسة، فيها رفعة للمعشوق وسموّ خارج إغراءات اللذات والرغائب التي تدنّسُ التعلّق الوجداني والتعالق الروحي، وحتى مخاطبة المعشوق حسيّا رغائبياً هو تعبير عن الامتزاج الروحي البريء، وهو ما يعبَّر عنه بالحلم، بمعنى ليس حقيقةً واقعية بل طيفاً من الأحلام، لشدّة التعلّق والوله والتشوّق للقاء المحبوب. وبما أنّ شاعرنا يعتبر الحبيبة آخر الملكات مجازاً، وذلك لبيان عمق وتجذُّر العاطفة الجيّاشة تجاه الحبيب. وعليه نجد الشاعر يعبر عن كلِّ ذلك ببيان مكانة المحبوب في روحه وقلبه، لدرجة أنها تأتي طيفاً في أحلامه بثياب البراءة والعفاف الطفوليين. حيث يصوّر لنا حلماً طفولياً ،وهما يغتسلان معاً (مع الحبيب) في النهر (الماء) وبثوب البراءة؛ للتطهّر من الخطايا - إنْ كانت لهما خطايا - كما في طقوس المندائيين، فقد جعل الله من الماء كلَّ شيء حيّ، كما ورد في القرآن الكريم. فالماء (النهر) ترميز للنظافة والتطهُّر والبراءة والحياة والنقاء، وهو ما يقوله في خاتمة القصيدة:

لـلسباحةِ في النهرِ

نغطسُ معًا برفقةِ ثيابِ البراءة

استعار الشاعر النهر اشارة الى الماء وجريانه (نقائه)؛ لأنّ الجريان يجرّ معه الشوائب العالقة، وينظّف الجسد، وكأنه هنا يشير الى التطهّر من الأدران العالقة بالنفس، لتصفو من الخطايا. كما أنه يرمي بذلك الى العفاف في العشق. فالعشق حلم إنسانيٌّ للسموّ بالنفس نحو مدارج العلا والوفاء والتقديس، فالحبُّ عاطفة مقدّسة مُطهّرة للنفس تجمعُ اثنين على سرير الحياة المشتركة، فقد خلق الله المرأة من ضلع لآدم، فهي عضو مكمّل له، وجزء منه لا ينفصل عنه. والشاعر يصف لنا مدى تعلّقه بالمحبوب لدرجة الذوبان معاً، كما يبيّن مدى وفائه في عاطفته، لأنّ الوفاء صفة المُطهَّرين من شوائب النفس الأمّارة بالسوء وبالإحساس والشهوات الآنية العابرة الزائلة. الوفاء هو غاية العشق للعاشق الصافي النيّة، المولّهِ حدَّ الذوبان والتوحّد بذات الحبيب:

خذي حرفي... قصيدتي

محبرتي بل خذي قلبي

لن يخفقَ لسواكِ

هذا العشقُ عشقٌ صوفيٌّ، يملأ أحلام العاشق، حيث تتعرّى مشاعره، فيكفر بأعراف القبيلة التي تقف حجر عثرة في طريقه السليم نحو الحبيبة، فهو طاهر النفس والوجدان نقيُّ السريرة، عفيف المشاعر الجيّاشة البريئة؛ لذا فالكشف عنها يأتي في طيات الأحلام كشفاً صوفيّاً عمّا يضطرب في قلبه وفي نفسه الموجودة:

في باحةِ الحلمِ

تتعرّى المشاعرُ

تكفرُ بعرفِ القبيلةِ

فالقبلةُ

ثورةُ إبتهالاتٍ صوفية

في الذوبان الروحيّ

عنوان النصّ الأدبي هو عتبة الدخول في عالمه - كما يقولون - لالتقاط مكامنه الخفيّة خلف الكلمات والصور والمجازات والاستعارات التي يعمل الشاعر على استخدامها للوصول الى غاياته في البوح عن التجربة الروحية التي عاناها، فيُلقي مرساها على شواطئ الكلمات، لتخلق نصّاً يوصل زورقه الى المتلقي كي يعتليه ويقوده قراءةً صوب ميناء مضمون القصيدة وصورها وبلاغتها، فيتجوّل بمنظار قراءته في زواياها كي يرى، فيلتقط الأحجار اللغوية الكريمة، واللوحات الفنية المرسومة بالحروف، والملوّنة بأصباغ البلاغة ببديعها وبيانها. وفي النظر الى عنوان القصيدة (الى آخر الملكات) نكتشف أنّ الشاعر علاء سعود الدليمي يقدّم لنا عتبةً ومدخلاً من ثلاث كلمات، لكنّها توصلنا الى مضمون النصّ ومكامن بوحه، إنّه يأخذ بأيدينا الى عالم الحبّ. فالتي يصوغ القصيدة من أجلها هي ملكة قلبه وروحه الموغلة في تلافيفهما، الى درجة الذوبان والغياب، لذا يعتبرها الملكة الأخيرة توريةً عن وفائه وإخلاصه وعميق عشقه، فلا ملكة عنده بعدها. نفتح بهذا العنوان بوابة النصّ لنلج في عالمه الواسع: مشاعر، وعواطف، وأحاسيس، وحلم، وعشق، وذوبان، وغياب، ونهر، واغتسال بثوب البراءة في النهر، وهي الصورة الأخيرة للنصّ وخاتمة القول الفصل (بيت القصيد). إنه بريء النفس، طاهر المشاعر، نقيّ السريرة، نفسه أمّارة بالصدق والبراءة والوفاء والعفاف والعذرية. فلماذا إذن أعراف القبيلة تقف جداراً عازلاً بينه وبين من يعشق بوله وهيام؟ إنها النهاية المختومة بختم العشق الصافي.

لقد ألبس الشاعر حبّه الشديد رداء الصوفية، وذلك كي يسمو به الى مراتب العشق الكبرى السامية، والى رقيّ وعمق مشاعره الصادقة والمتأجّجة، والباحثة عن كوّة تخرج منها الى الفضاء والهواء النقيّ الخالي منْ ذرات أتربة الأرض بما فيها من عوالق السوء.

***

عبد الستار نورعلي

...................................

نصُّ القصيدة: (إلى آخر الملكات)

لا غفوةَ لعاشقٍ

يمتطي صهوةَ حلمه

ينفثُ أشواقهُ قبلًا

على صدورِ الكلماتِ.

في باحةِ الحلمِ

تتعرى المشاعرُ

تكفرُ بعرفِ القبيلةِ

فالقبلةُ

ثورةُ إبتهالاتٍ صوفية

في الذوبان الروحيّ

في قطراتِ ثغرٍ عسلية.

يا آخر الملكات

خذي حرفي... قصيدتي

محبرتي بل خذي قلبي

لن يخفقَ لسواكِ

أعدكِ بالخنصر والبنصر

كما الأطفالُ.

كما القصبُ

يراقصُ ظلَّ الماءِ

تصيرهُ الأحزانُ نايًا

تأنسُ بهِ نفوسٌ أوهنها الغيابُ.

أما للطفولةِ من عودةٍ

لحلمةِ حياةٍ

أدمنها طفلٌ

يرتشفها أو يهلكُ

لـلسباحةِ في النهرِ

نغطسُ معًا برفقةِ ثيابِ البراءة.

***

علاء سعود الدليمي

أبو جعفر، حسّان الحديثي، صاحبُ هذه المقامات التي يسميها رحلات أدبية، أو (أدب رحلات)، لا يقصد بها الوصول إلى مدينة بعينها، مدينة قد تشبه مدينة )أين) الخيالية التي قضّى صديقنا ابنُ كركوك سركون بولص عمرَه القصير في البحث عنها دون أن يصل إليها. لأن ابنَ حديثة الذي يحمل في هاتفه وحقيبته خارطة الكرة الأرضية، يدور بها وحولها منذ عقود، كما تدور نواعير الفرات في مدينته الصغيرة، يريد أن يرتوي برؤية مدن العالم التي يذهب إليها للزيارة والتجارة، وبحثا عن السرّ المكنون في هذه المدينة أو تلك، دون أن يغادرها أو يغادر بعضها كللاً أو مللاً، ولا سأماً أو  ضجراً، وإنما اتباعا لما كان يراه شاعر لبنان بشارة الخوري، الذي يقول:

يشربُ  الكأس ذو الِحجا و ُيبِقّي

 ِلغـٍد في قرار ِة الكأس شيّا

وأنا أسمي ما يكتبه الحديثي (مقامات)، وليس رحلات، لأن هناك صلة قربى أراها تشدُّ الرحلات إلى صورة المقامات القديمة لغةً ومصطلحا يجمع بين الإقامة والمقام، ولا تختلف إلا في اختلاف مقتضيات العصر والزمان.

ولست أدري لماذا يأتي إلى الذاكرة راويةُ أبي القاسم الحريري البصري الحارثُ بن همّام كلما قرأت مقامة أو رحلة من رحلات أبي جعفر الحديثي، المنسوب عندي إلى عالم الحداثة في المغامرة والسفر والتعامل مع تجارة الحاسوب وملحقاته، وليس إلى حديثة الأنبار وحدها؛ أهو ما يجمع بين هذه المقامات العصرية وتلك التي أنشأها الحريري في بصرة القرن الهجري الخامس من متعة القص والحكي وتحقيق الغاية البيانية والبلاغية، وما تنطوي عليه كلتاهما من جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب والمشاهد ونوادرها؟! أم هو اسم الحارث بن همام، الذي نسب الحريري رواية هذه المقامات إليه، والذي يقول عنه ابنُ خلكان في وفيات الأعيان: إن الحريري قصد بهذا الاسم نفسَهُ، ونظر في ذلك إلى قول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): «كلكم حارث وكلكم همام» فالحارث: الكاسب، والهمام كثير الاهتمام بأموره، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام. وليس مثل أبي جعفر حسّان الحديثي حارثٌ وهمام، جمع في حياته بين الحسنين، ونجح في المهمتين، مهمة القلم والتجارة، اللتين لا يربطهما ربما شيء بما اختص به بطلُ الحريري أبو زيد السروجي من حرفة الكدية والشطارة، مع أن بطل المقامة الهمام هذا، الذي يحاول بكل طريقة كسب حياته بطريف الكلام، للفت الاهتمام، هو غير الراوية الحارث بن همام، ومن يقف وراءه، واضعُ المقامات أبو القاسم الحريري نفسه، الذي يحدثنا مترجمو حياته أنه كان من ذوي الغنى والمال، ولا علاقة له بالحاجة وذلّ السؤال.

ولو أتيح لنا أن نقلب الأدوار التاريخية ونجعل الحديثي حسان يعيش في بصرة القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، الذي عاش فيه الحريري، لما وجد إذا أراد ممارسة الكتابة أو الرواية التي لا تخلو من متعة وغواية سبيلا إلى غير أبي زيد السروجي أو ما يشبهه ليجري الحوار معه، ويجعل مدار الحكاية حوله؛

ويمكننا كذلك أن نتخيل ما يفعله الحريري إذا وجد نفسه في بصرة القرن الخامس عشر الهجري - الحادي والعشرين الميلادي، فهو الآخر لا يكون حينئذٍ بعيدا عن صاحبنا الحديثي الذي تحولت راحلته في سيرها الهيذبى أو الخيزلى الصعب فيما يسميه (طريق القمر) إلى طائرة أو بساط ريح قادر على أن يحمله خلال يوم أو بعض يوم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وبالعكس.

ومن يقرأ مقالة االحديثي أو مقامته البصرية الأولى بين مقالات الكتاب ومقاماته، ويرى إلى الحوار الذي يجري بينه وبين صائد السمك البصري الذي كان يرمي سنارته إلى مياه شط العرب ليطعم السمك الساهر في مياه تلك الضفة لا ليصيده، ويعبر عن ذاته الجريحة بعد فراق زوجته بالغناء الحزين، ثم يقرأ مقامة الحريري (الحرامية)، ويرى إلى ما فيها من حوار بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي الذي كان شحاذا أريبا أديبًا ألقى خطبة بليغة في مسجد بني حرام، فيتبعه راوية الحريري الحارث الهمام ليعرف جلية أمره ويقف على سره، كما وقف الحديثي على سر ذاك الفتى البصري، سينتفي ربما عنده الزمن ويدرك، كما أدركتُ، صلة القربي هذه في البناء العام للنصين، وغرابة اللقاء في محتواهما، والعبرة التي يمكن الخروج بها من مثل هذه الصلة بين الأدباء الرحالة الغرباء.

وكم يمتعني أن أقرأ مثل هذا الكلام يقدم له أبو جعفر الحديثي وهو يروي قصته مع ذلك الشاب البصري، ناسيا أني أقرأ لصديق من الأصدقاء أعرفه من هذا العصر، وليس للحريري أبي القاسم في ذلك العصر يرويه، وهو يقدم للقاء راويه في مقاماته مع بطله أبي زيد السروجي:

"كنت أقيم في فندق شيراتون المطّل على شط العرب وقد كانت إحدى أمتع الاوقات عندي هو التمشي ليلاً بمحاذاة الماء في المسافة الواقعة بين تمثال السيّاب شمالا ومطعم شط العرب جنوبا. وفي ليلة من الليالي المقمرة وقد تأخر الوقت وأفلتت عيني النعاس فخرجت من الفندق وقد خلا رصيف الشط من الناس إّلا من اثنين؛ السيّاب حارس المعاني وفتى أسمر اللون هاديء القسمات لم يتجاوز عمره العقدين والنصف يجلس وحيدا مع سنارته المنغمسة في الماء ويرسل صوته الشجي بطور ريفي حزين مترنماً حد البكاء ببعض أبيات عروة بن الورد.."

وأقرأ بعد ذلك أو قبله مقدمة الحريري في مقامته الحرامية الثامنة والأربعين بين مقاماته:

"روى الحارث بن همام عن أبي زيد السّروجيّ قال: ما زلت مذ رحلت عنسي، وارتحلت عن عرسي وغرسي، أحنّ إلى عيان البصرة، حنين المظلوم إلى النّصرة، لما أجمع عليه أرباب الدّراية، وأصحاب الرّواية؛ من خصائص معالمها، وعلمائها، ومآثر مشاهدها وشهدائها، وأسأل الله أن يوطئني ثراها، لأفوز بمراها، وأن يمطيني قراها، لأفتري قراها. فلمّا أحلّنيها الحظّ، وسرح لي فيها اللّحظ، رأيت بها ما يملأ العين قرّة، ويسلي عن الأوطان كلّ غريب، فغلّست في بعض الأيام، حين نصل خضاب الظّلام، وهتف أبو المنذر بالنّوّام لأخطو في خططها، وأقضي الوطر من توسّطها، فأدّاني الاختراق في مسالكها، والانصلات في سككها، إلى محلّة موسومة بالاحترام، منسوبة إلى بني حرام، ذات مساجد مشهودة، وحياض مورودة، ومبان وثيقة، ومغان أنيقة، وخصائص أثيرة، ومزايا كثيرة."

لأرى أن ما يهم الاطلاع عليه في النصين أكثر من غيره، ليس الموضوعَ المنسوب إلى كل راوية من راويتيهما، بل هو الطريقة والأسلوب، والروح المستكشفة والباحثة عن المطلوب.

وهو دائما غامضٌ غيرُ ظاهر، ولا ينبغي أن ننخدع فيه بالمظاهر.

ومدينة حديثة التي خرج منها حسان الحديثي، وهو لا يحمل في رأسه غير الطموح بالذهاب بعيدا عنها والعودة إليها، ولا يحمل في خرجه البدوي غير حفنة من قصائد شعرية علّمها إياها، أخوه الكبير، وزرع في نفسه من خلالها حب الشعر وعشق الأدب والتراث العربي منذ أيام الصبا الباكرة، يسوح في أروقة ماضيه ولغته كما يسوح في شوارع مدن العالم وأسواقها الغريبة، تظل بعيدة نائية، قد يجيب إذا سئل عنها وعن أهله فيها بما يشبه ما أجاب به أبو تمام حينما سئل مرة عن مدينته وأهله:

في الشام أهلي وبغدادُ الهوى

وأنا   في الرقتين وفي الفسطاط إخواني

*

وما أظنُّ النوى ترضى بما  فعلت

حتى تبلّغني  أقصى  خراسان

وخرسان البعيدة هذه التي لا ترضى النوى بما فعلت بالشاعر الكبير حتى وصول راحلته إليها، مدينة واقعة في أقصى الشمال الإيراني. وكأنما هي في نأيها وصعوبة الوصول إليها آنئذٍ الرمزُ القديم لمدينة (أين) الخيالية، أو شنجن الصينية التي لابدّ من التفكير بالضياع لدى التفكير في الذهاب إليها، كما يقول الحديثي، الذي يمزج في رحلاته القريبة والبعيدة، كما قلنا، بين الزيارة والتجارة. فهي مدينة مفقودة مع وجودها على الخريطة ما دامت غير قادرة على الإمساك بزائرها، ليقيم أو يعيش فيها أكثر مما يتطلبه الظرف والحاجة. مع أن البحث عنها يبقى هو الهاجس الخفي عنده، مثلما كان لسلفه ابنِ كركوك، ولكل الرحالة القدماء والمعاصرين، الذين ما فتئوا يرددون قولة ابن زريق البغدادي في غربته الغريبة:

ما آبَ من سفر إلا وأزعجه

رأيٌ إلى سفر بالعزم يُزْمِعُهُ

نعم، فهو مثل هؤلاء، لا يكاد يعود إلى مدينته ومستقره اللندني الأليف هذه الأيام وهذه السنوات إلا وأزعجه الحنين إلى  مدنه الأخرى الموزعة على الخارطة في قارات العالم الخمس، بدءًا من مدينة القلب و(أم العراق) بغداد، التي يكتب في خاتمة رحلاته هذه الكلمات عنها:

"أعرف مدنَ الخيال كما أعرف مدن الواقع، غير أن بغداد هي المدينة التي تجمع الخيال بالواقع وسرُّها يكمن في كثرة المتكسرين على أعتابها، من العشاق حباً ومن الأوغاد عدوانا ً".

وانتهاءً بكل المدن التي زارها وسيزورها للسياحة والعمل، أو مجرد الفرجة والغزل.

وما يعشقه الحديثي في العادة ليس عماراتِ المدن وأحجارَها الإسمنتية الشاهقة، ولا مظاهر الحداثة فيها، لأنه من ذلك النوع من البشر الباحثين عن عراقة المدن وماضيها، لأننا والمدن، كما يقول "من أصل واحد كلانا من ماء عذب وطين لزب"!

وهو يجد نفسه "مسحوراً بحارات دمشق وأزقة بغداد وأحياء القاهرة وحجارة روما وبقايا أثينا، ولا أطيل المقام في سنغافورة وهونك كونك فالتأريخ مكتوب على حيطان المدن ورائحتُه مغموسة بتراب مماشيها وغبار أزقتها القديمة، ومدينة بلا نهٍر جارٍ وطين محروق وحجارة منحوتة، مدينة جامدةٌ وهياكل صامتة ومبان خرساء غريبة عنا نحن البشر".

وقبل أن يخرج المؤلف من بغداد ونخرج معه منها ومن العراق إلى مدن أخرى، لابد من التوقف معه عند بصرة السيّاب "مدينة النخل والمجاز" في الجنوب، وموصل أبي تمام أم الربيعين في الشمال. فهما عنده الطرفان للجسم الواحد، الذي تتوسطه مدينة القلب بغداد، يتردد بينهما ذهابا وإيابا كما يتردد النبض الخارج من شرايين القلب وأوردته.

وبعض الأوصاف التي يضفيها على مدينة مثل البصرة وهو يدخلها لا تختلف عن تلك التي اعتدنا أن نقرأها لدى الرحالة القدماء من الذين دخلوا المدينة قبله بقرون مثل ابن بطوطة..!

ولنقارن بين ما يقوله الحديثي عن المدينة هنا:

"هذه هي البصرة، ِسفرها ليس كالسفار، ولا شأنها كشأن باقي المدن والمصار، فهي ربيع دائم وكنز عائم، محفوفة بالخيرات من كل جانب فأرضها عطاء وأعلامها علماء، وأهلها وأن جارت عليهم الدهور والأزمنة، أهلُ جوٍد وكرٍم وسماحٍة وسخاء."

وما يقوله ابن بطوطة، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي في القرن الرابع عشر الميلادي عن المدينة نفسها:

"ومدينة البصرة إحدى أمهات العراق الشهيرة الذكر في الآفاق الفسيحة الأرجاء المونقة الأفناء، ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة، توفر قسمها من النضارة والخصب... وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق وإيناس للغريب وقيام بحقه، فلا يستوحش فيما بينهم غريب."

لنرى كيف أننا في مثل هذين النصين لا نحتاج إلى إجراء مناقلة زمنية نضع أحدهما مكان الآخر، لأنهما موحدان أو متشابهان فيما يقولان، كما لو كان كاتباهما واحدا لا اثنين.

والأمر ليس عائدا إلى نظر الأول الحديث إلى الثاني القديم، وإنما هي وحدة المشاعر والأحاسيس البشرية المدركة عند النظر إلى الموضوع الخاص بالمدينة العريقة وطبيعتها الجغرافية والزراعية، وتاريخها الثقافي والديني والعلمي المعروف لصاحبي النصين كليهما.

ولا يختلف الأمر في الموصل (مدينة الأنبياء) التي يقول لنا الحديثي في أول جملة تخطها يراعته عنها لدى دخوله إليها:

"غبْ عنها ما تشاء من الزمان ستجدها هي نفسها بتلك اللفة وتلقاها بكرمها الذي يلفت النتباه وقد حف أهلوها ضيوفها بكل سماحٍة يتسابقون فيسبقون أنفسهم لخدمة هذا ولراحة ذاك وكأنهم خلية نحل، ستجدها هي ذاتها بجسورها التي تربط ال ُحسنين واللثغتين، بدجلتها الذي يحكي لك حكايات التاريخ والعصور".

ومن مدنه العراقية الثلاث هذه، التي يحجُّ إليها ويستوفي فروضَ العودة إليها وتجديد العهد معها المرّةَ بعد المرة، ينطلق صاحبُنا إلى مدنه الأخرى الواقعة على الطريق إلى القمر.

هذه المدن الموزعة على الخريطة بين آسيا، وأفريقيا وأوروبا وأمريكا، لا يكاد يستثني واحدة منها مهما بعدت ونأت دون أن يعقد العزم للذهاب إليها والوقوف على جلية الأمر فيها، ويسجل ملاحظاته عنها، إذا كان فيها من أسباب الجمال والإلفة ما يدعو النظر إليها للمعاينة والتثبت منها، مثل باريس مدينة النور، التي في كل ركن من أركانها "شعر وأدب وفي كل زاوية عاشق تعب ووراء كل عمود حبل حكاية يتأرجح بين حاضر الخير وماضي الشر بين واقع الترافة وغيب القهر".

وبراغ التي تشبه "اللحن الرقيق لقصيدة لم تُكتب بعدُ، وهي الخاطرةُ التي ما تزال تراود الخيال، واللوحةُ التي تحتاج الى الجرأة قبل الفرشاة والرسام".

وفلورنسا الإيطالية التي لا يملُّ المؤلفُ الرحالة من التجوال بين قصورها وكنائسها ومتاحفها ويرقب مندهشا أعمال فنانيها ويرى أن من الغريب "أن يضع الرسام حسابات رياضية دقيقة نحاول أن نفهمها الآن بصعوبة بالغة ونحن في عصر اختزلنا فيه علوم الفيزياء والرياضيات".

والمدهش أيضا أن "تضم تلك الرسوم والتصاميم فلسفة مخبوءة يعبر بها الفنان عن إنكاره او حبه او إيمانه أو رفضه لأشياء موجودة في لوحة أو منحوتة نتوهم حين نقف أمامها من ِمنا الجامد، ثم لننقلب حاسري الفكرة مكشوفي العيّ، كليلي العقل أمام عظمة الخلود وفلسفة الوجود".

ولا ننسى المدينة الإسبانية الجميلة أليكانتي التي لو كان للمدن وجوه، كما يقول، لأشرق وجه هذه المدينة لطفاً وجمالًا، ولو خلق الله للمدائن شفاهاً وألسنةً لتبسمت أليكانتي بوجوه الناس بل ولقالت شعراً عذباً يناسب روعتها وجمالها ويليق بحسنها وكمالها..!

وذلك لا يمنع من أن يرى في مدن أخرى مثل هونك كونك وتايبيه ما لا يسره ولا يرضيه، فالأولى المليئة بفنادقها الفاخرة وسياراتها الفارهة ومطاعمها الأنيقة ومراكز التسوق التي تضج بالحركة والضوء، تبقى عنده مدينة بائسة، "جعل منها الكونكريت أرضاً خالية من روح التاريخ مقطوعة النسب مع الماضي".

أما الثانية ف "جوّها رطب يكتم النفس وسماؤها معتمة تقبض الروح، وشعبها جامد وهواؤها فاسد وصباحها كئيب وليلها مريب والغريب فيها محضُ شقي غريب".

وهو في إدمانه على زيارة هذه المدن وتفحص قسمات وجوهها ووضع مبانيها وشوارعها وساكنيها والذين يتعامل معهم فيها، صار يرى أن "المدن كالنساء باختلاف السكنى والاطمئنان هذه تسكنك وتطمئن اليك، وأنت تسكن وتطمئن لتلك".. كما هو حاله مثلا مع زحلة اللبنانية التي سكنته، ولا أريد أن أختم كلامي عن الكتاب دون أن أضع هنا شيئا مما قاله فيها .

فهو، بحس الشاعر والأديب والرجل الأريب الذي يعشق الجمال مرتبطا بالتعبير عنه بالكلمات، لا يستطيع أن يرى وادي الجمال في بلدة مثلها دون أن يستذكر أحمد شوقي، وما قاله فيها:

شيّعتُ أحلامي بقلبٍ بــــــا ِك

ولممتُ من دربِ الملاحِ شباكي

*

ورجعتُ أدراج الشباب ووردِه

أمشي مكانهما  على  الاشواكِ

وهو يقول لنا إنه منذُ أن قرأ هذه الأبيات، ولثلاثة عقود مضت، وهو يتخيل زحلة ويرسم

لها صورا في عقله وقلبه، ويشعر أن أحمد شوقي قد أصابته نفثة من سحرها حين كتب لها هذه القصيدة الخالدة، "لكنه سحرٌ من نوع آخر يخترقُ حدود الزما ِن والمكان".

وربما جاز لنا القول بعد الفراغ من قراءة الكتاب إنه هو الآخر نوع من السحر الحلال، تعلق صورُه بالأفئدة والأسماع، ويلون بسحر أدبه المعدي كلّ الصفحات التي كتبت بها الرحلات بيد فنان صناع، اخترق حدود المألوف في إنشاء الكلمات، ورسم تلك اللوحات.

***

الدكتور ضياء خضير

تشير الطائفية في الأدب الإنجليزي إلى تمثيل واستكشاف الانقسامات الدينية أو السياسية أو الثقافية داخل الأعمال الأدبية. لقد كان هذا الموضوع سائدا خلال فترات مختلفة من الأدب الإنجليزي، حيث اعتمد العديد من المؤلفين على تجاربهم ووجهات نظرهم الخاصة لمعالجة القضايا المتعلقة بالطائفية. في هذا المقال، سوف نتعمق في السياق التاريخي للطائفية في الأدب الإنجليزي، وندرس الشخصيات الرئيسية التي ساهمت في هذا المجال، ونحلل تأثير الطائفية على الأعمال الأدبية، ونناقش التطورات المستقبلية المحتملة في هذا المجال.

السياق التاريخي:

للطائفية في الأدب الإنجليزي جذور عميقة في الصراعات الدينية والسياسية التي شكلت تاريخ إنجلترا. أدى الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر إلى انقسامات بين الكاثوليك والبروتستانت، وهو ما انعكس في الأعمال الأدبية في ذلك الوقت. على سبيل المثال، تستكشف مسرحية ويليام شكسبير "روميو وجولييت" العواقب المأساوية للعنف الطائفي بين عائلتين متحاربتين.

خلال الحرب الأهلية الإنجليزية في القرن السابع عشر، تفاقمت التوترات الطائفية، مما أدى إلى موجة من الكتابات السياسية والدينية التي عكست المجتمع المنقسم في ذلك الوقت. تعد قصيدة جون ميلتون الملحمية "الفردوس المفقود" مثالا رئيسيا على العمل الذي يتصارع مع عواقب الخلاف الديني وسقوط البشرية.

الشخصيات الأدبية الرئيسية:

أحد الشخصيات الرئيسية في استكشاف الطائفية في الأدب الإنجليزي هو جوناثان سويفت، وهو كاتب أيرلندي معروف بأعماله الساخرة. في روايته "رحلات جاليفر"، ينتقد سويفت الانقسامات الدينية والسياسية والثقافية في عصره من خلال عدسة مغامرة خيالية. ولا يزال ذكاؤه الحاد وملاحظاته الثاقبة يتردد صداها لدى القراء اليوم.

ومن الشخصيات المؤثرة الأخرى جورج أورويل، الذي تستكشف روايته "مزرعة الحيوانات" بشكل مجازي صعود الشمولية ومخاطر الطائفية داخل الحركات السياسية. من خلال قصة حيوانات المزرعة التي تطيح بمضطهديها من البشر، يسلط أورويل الضوء على الفساد والصراع على السلطة الذي يمكن أن ينشأ داخل المجموعات ذات الدافع الأيديولوجي.

أثر الطائفية في الأدب الإنجليزي:

كان لاستكشاف الطائفية في الأدب الإنجليزي تأثيرا عميقا على طريقة تفاعل القراء مع الاختلافات الثقافية والسياسية والدينية. ومن خلال تسليط الضوء على عواقب العنف الطائفي والتمييز والتعصب، شجع الكتاب القراء على التفكير في معتقداتهم وقيمهم. هذا الحوار لديه القدرة على تعزيز التعاطف والتفاهم، وفي نهاية المطاف، التغيير الاجتماعي.

ومن الأمثلة على تأثير الطائفية في الأدب الإنجليزي رواية سلمان رشدي "الآيات الشيطانية"، التي أثارت الجدل والنقاش حول حرية التعبير، والتسامح الديني، وديناميكيات السلطة بين الأديان المختلفة. لا يزال استكشاف الرواية للتوترات بين الإسلام والغرب موضوعا للمناقشة والتحليل.

التطورات المستقبلية:

للمضي قدما، من المحتمل أن تستمر الطائفية في كونها موضوعا بارزا في الأدب الإنجليزي حيث يتصارع الكتاب مع تعقيدات عالم معولم. وسوف توفر قضايا مثل الهجرة والعولمة والتطرف الديني أرضا خصبة للاستكشاف والتأمل. ومن خلال الاعتماد على أصوات ووجهات نظر متنوعة، ستتاح للكتاب الفرصة لتحدي الصور النمطية، وتفكيك الأحكام المسبقة، وتعزيز الاحترام والتفاهم المتبادلين.

في الختام، كانت الطائفية في الأدب الإنجليزي موضوعا غنيا ومتعدد الأوجه ألهم الكتاب للتعمق في تعقيدات الانقسامات الدينية والسياسية والثقافية. من خلال دراسة السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية والتأثير والتطورات المستقبلية المحتملة المتعلقة بالطائفية في الأدب، يمكننا الحصول على تقدير أعمق لدور الأدب في تشكيل فهمنا للعالم من حولنا. ومن خلال التفكير المدروس والمشاركة مع وجهات نظر متنوعة، يمكن للكتاب والقراء على حد سواء المساهمة في مجتمع أكثر تسامحا و شمولا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

..........................

المراجع:

- Shakespeare, William. (1597). Romeo and Juliet.

- Milton, John. (1667). Paradise Lost.

- Swift, Jonathan. (1726). Gulliver's Travels.

- Orwell, George. (1945). Animal Farm.

- Rushdie, Salman. (1988). The Satanic Verses.

 

وعملية طوفان الأقصى

بالأمس ذهبت لإحدى بناتي المتزوجات وهي" رضوه"، لآصلها في عيد الفطر، فأصرت وأنا معها أن نشاهد سويا أحدث نسخة جديدة من الأفلام الأمريكية التي صدرت خلال هذا العام، وكان هذا الفيلم بعنوان "النحال The Beekeepe ؛ وهو فيلم حركة وإثارة أمريكي قادم من إخراج ديفيد آير، وتأليف كيرت ويمر.. الفيلم من بطولة الممثل البريطاني جيسون ستاثام، وإيمي رافر لامبمان، وجوش هاتشرسون، وبوبي نادري، وميني درايفر، وفيليسيا رشاد، وجيريمي آيرونز. ومن المقرر أن يتم إصداره في دور العرض بواسطة أستوديوهات أمازون في 12 يناير 2024.

وحسب ما عرفته بعد مشاهدتي للفيلم أنه قد أثار حالة من الجدل الواسع بين محبي السينما الأمريكية، تسبب فيها بمجرد طرحه في دور العرض السينمائي خلال الشهور الماضية، وهو الأمر الذي دفع عشاق السينما الأمريكية للسؤال عن قصة وأبطال الفيلم الذي نال إعجاب الكثيرين.

واللافت في الفيلم -الذي أخرجه ديفيد آير- هو ذلك التشبيه الجديد من نوعه لدولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية بخلية النحل، والتي يتم فيها بشكل سري تماما اختيار شخص واحد يتوجب عليه تطهير الخلية من أي تهديد داخلي تتعرض له الدولة حتى لو كان هذا التهديد هو رئيس الدولة نفسه.

  وهذا الفيلم حسب ما شاهدته وأرجو أن يتحملني القارئ في سرد تفاصيله من أنه كان يحكي عن منظمة سرية اسمها "الناحلين"، أو " مربي النحل"، والعاملين في تلك المنظمة على أعلى درجة من الكفاءة القتالية، إذ ينظر لأي منهم وكأنه يمثل جيش بأكمله، ويوجد شخص من تلك المنظمة، وهو بطل الفيلم، ويدعى " السيد كلاي"، وهو متقاعد في منطقة ريفية، حيث استأجر مكانا من سيدة مسنة، وهذه السيدة رئيسة جمعية خيرية، والمكان، وهذا المكان الذي يسكن فيه " كلاي" خصصه كمنحل، وهذه السيدة تعامله معاملة محترمة، وكأنها أمه، وقد دعته ذات يوم ليتناول معها  وجبة العشاء، فوافق كلاي .

  بعد ذلك رأينا تلك المرأة المسنة، وأثناء فتحها للكمبيوتر الخاص بها، جاءتها رسالة تحذيرية، والرسالة أخبرتها أن هادر الكمبيوتر الخاص بها، به مشاكل وأنه يوجد في متن تلك الرسالة رقم تليفون فيجب أن تتواصل من خلال هذا الرقم لحل مشاكل الهارد، فاتصلت به على الفور، خلال الفيلم اتضح أن هؤلاء الأشخاص الذين اتصلت بهم السيدة، تبين أنهم يمثلون شبكة عنكبوتية، حيث رد عليهم رئيسهم بنفسه، وتلك معها أمام صف الاحتيال وذلك كي يتعلموا منه طريقة النصب الصحيحة .

 حسب أحداث الفيلم رأينا السيدة تقول خلال تلك المكالمة بأنها قد أتتها رسالة تحذيرية بأن الهارد به مشكلة، فيرد عليها : "نعم، توجد مشكلة فعلا، ولهذا أٌرسل لكِ "تطبيق"، ثم تضغطين على كلمة "تحميل"، وبعد ذلك سوف تُحل مشكلة الهارد " . وبالفعل نفذت السيدة تعليماته بسذاجة ؛ سيما وأنه ليس لديها دراية عن عمليات النصب التي تتم من خلال الانترنت، فوثقت في كلامه، وفتحت التطبيق، فعرفت المنظمة أسرار حسابها البنكي، وهنا قال لها :" طالما أنك قد استخدمتي التطبيق الخاص بنا، فسأرسل لك خمسمائة دولار مكافأة، وفعلا أرسل لها المبلغ، ولكن بدلا من أن يرسل لها خمسمائة دولار، أرسل خمسين ألفا دولار، فأخبرها أنه أخطأ في التحويل فبدلا من تحويل خمسمائة دولار أرسل خمسين ألفا، وهنا قال لها : "من فضلك رجعي المبلغ، وإلا سأتضرر. فردت عليه : أنا لا يرضيني ذلك " .

وبالفعل أرجعت له الخمسين ألفا، ولكنها، كانت مضطرة بأن تكب الرقم السري لحسابها البنكي، وعقب الإرسال، فوجئت السيدة أن الكمبيوتر أنطفأ فجأة، وهنا تم سحب كل أموالها من السيرفر، وكان من ضمنهم حساب لجمعية خيرية كانت مسؤولة عنها وكان يوجد به حوالي أثنين مليون دولار، وعندما تم سحب المبلغ، عاد الكمبيوتر واشتغل مرة أخرى، ففوجئت أن كل الأرصدة الخاصة بها على السيرفر أضحت مشفرة، فانهارت السيدة وأخذت تبكي بحرقة، وعلى الجانب الآخر، رأينا الشخص الذي ابتزها قام بعمل حفلة مع فريق العمل الخاص به ليخبرهم بنجاح العملية الابتزازية على أحسن وجه لكونهم نصبوا عليها.

 من ناحية أخرى رأينا " كلاي" الذي عزمته السيدة على العشاء، ذهب ليعد برطمان من عسل النحل ليأخذه في عزومة العشاء، وعندما ذهب إلى بيتها، وجد أن مصباح بيتها منطفأ، وهنا يستغرب جدا، وهنا حاول أن يدخل بيتها كي يطمئن عليها، ولكن يفاجأ أن أبنتها " باركر" تأتي من خلفه للقبض عليه،واتضح من خلال مجريات الفيلم أن السيدة انتحرت عقب عملية الابتزاز الذي حدث لها، ثم اتضح أن "باركر"  تعمل في البوليس، بعد أن اعتقد أن كلاي قام بقتل أمها، حيث سألته : من أنت ؟، ولماذا جئت إلى هنا؟، وأخبرها بالحقيقة، ولكن لم تصدقه، والشرطة قبضت عليها، إلى أن تنتهي من تحرياتها، وترفع البصمات.

وبالفعل أكتشف "باركر" بعد تشريح الطب الشرعي لجثة أمها، أنها انتحرت، وأن كلاي ليس علاقة بقتلها، وأفرجوا عنه، وبعد ذلك قامت أينتها بفتح كمبيوتر أمها واكتشفت أن أمها قد وقعت أسيرة نصب عالية، ثم ذهبت أبنتها لكلاي لكي تعتذر له، وعزمته على فنجان شاي، وخلال ذلك أفهمته ما الذي حدث مع أمها ، وهنا غضب كلاي غضبا شديدا لما حدث، وأقسم لها أن ينتقم ممن فعل ذلك ؟ ؛ (سيما وأنها كانت تعامله مثل أمه كما قال كلاي في ثنايا حوادث الفيلم).

 وعقب عزومة الشاي ذهب كلاي إلى خلية النحل الخاصة به، وأخرج منها جهاز تواصل كان معه، فتواصل مع واحدة من معارفة في طاقم خلية النحالين، فطلب منها معرفة هوية الخلية التي قد أٌبتزت السيدة المنتحرة، وفي خلال أربع وعشرين ساعة أخبرته بمكانهم، وعلى الفور، أخذ جركنين بنزين، ولكن أمن الشركة، حاول أن يوقفه، ولكن كلاي ضربهم بكل بساطة علي طريقة أرنولد شوارزنيجر، وبعد ذلك دخل في حجرة الاستقبال فوجد فتاة،حيث قال لها : معي جركنين بنزين، وساحرق الشركة فورا، فلو سمحتي أخبري كل الموجودين بالمبني مغادرة المبني!، ثم صعد إلى الدور الذي يتواجد فيه صف النصابين الذين نصبوا على السيدة المنتحرة، وطلب من كل واحد منهم إغلاق سماعة التليفون، فرفض، ولكن كلاي شده من أنفه، وقال له : ألم أقل لك أغلق السماعة؟، ثم قام كلاي واحتك بشخص آخر وأخذ يبرحه ضربا بسماعة التليفون على رأسه إلى أن مات، وهنا طلب كلاي من الحاضرين المذعورين، أن يكرروا وراءه ما سيقوله :" أنا لن أسرق من شخص ضعيف ولا أحد محروم مرة أخري "، وطلب منهم أن يكرروا ذلك مرارا وتكرارا على مسامعه .

 وعقب ذلك قلم كلاي بصب جركنين البنزين على أجهزة الكمبيوتر التي أمامهم، ولكن حاولوا أن يمنعوه، ومعهم " جارنت" قائد عملية الابتزاز، ولكنهم لم يستطيعوا مقاومته، وهنا هرب " جارنت" بعد أن قطع أصابعه ليحتفظ بها،ثم تركه كلاي ليستكمل تفجير المبني، وتم ذلك بنجاح، وتستمر أحداث الفيلم، فنجد جارنت بعد أن هرب وجدناه يتصل برئيسه واسمه " هاتشر" يحكي لنا تفاصيل ما حدث له مع كلاي، ثم يسأل هاتشر : لماذا فعل ذلك ؟ .. فيقول له : لا أعرف السبب؟، وهنا يسأل " هاتشر " مسؤول الأمن الخاص به، والذي كان حسب أحداث الفيلم رئيس المخابرات الأمريكية المتقاعد لماذا فعل كلاي ذلك ؟، فأجابه بعد أن سأل عن هوية كلاي، فقال له : لا أستطيع أن أخدمك في ذلك ؟، وأعلم أن كلاي طالما وضع في حسبانه أن ينتقم منك فسيفعل!... لم يعبأ " هاتشر" بكلامه، وطلب من " جارنت" حسب أحداث الفيلم أن يؤجر له أحد قريب من خلية النحالين المرتزقة للتخلص من كلاي.

  على الجانب الآخر حسب أحداث الفيلم تذهب أبنة السيدة المنتحرة التي تعمل في البوليس إلى مكان الشركة المحروقة، لتعلم من زملائها في العمل أن أصحاب تلك الشركة لهم علاقة بالأفراد الذين نصبوا على أمها، وأن الذي قام بحرق الشركة لم يترك أي دليل، لأن الكاميرات اٌحترقت مع المبنى .

وتستمر أحداث الفيلم فنجد " جارنت" يأخذ معه مجموعة من المرتزقة ووصلوا إلى مكان كلاي، وذلك بعد أن تتبعوه، وهم في طريقهم إليه، فتحوا النار عليه ومروا مكان المنحل الذي يعيش فيه، انتقاما منهم، ولكنه أخذ يتتبعهم بعد ذلك، ودخل معهم المكان الذي كانوا فيه، وهم لا يدرون بذلك أن كلاي يقودهم لكمين، وهنا نجد حسب أحداث الفيلم ؛ حيث يصرخ جارنت، وهو ينادي على كلاي ويقول له "أظهر أيها الوغد "، ولكن كلاي لم يعبأ به، وأخذ يقتل كل واحد من مجموعة المرتزقة الذين معه بطرق مبتكرة، حتى أنه لم يتبقى سوي جارنت.

 والغريب أن كلاي لم يقتله ـ ولكن قام بتقطيع أصبعين من أصابع يده، ثم تركه وشأنه، فما كان على جارنت سوي الهرب، وهنا رأينا حسب أحداث الفيلم أن جارنت وهو على الجسر أتصل برئيسه "هاتشر"، وأثناء وهو يتكلم معه في التليفونـ يظهر كلاي، واتضح أن كلاي تركه كي يصل إلى معرفة رئيسه، ثم قام كلاي وربط جارنت بحبل ، ثم ربط هذا الحبل بسيارته بعد أعطاها غيار لتسير وحدها بدون سائق، فنجد العربة وهي تسير بدون سائق قد تجاوزت الجسر ومعها جارنت، وهنا رأينا هاتشر (رئيسه) يسمع صراخ جارنت من التليفون، ثم رأينا بعد ذلك كلاي يمسك بالتليفون ويكلم هاتشر ويقول له :" سوف أجبئ إليك أيها الأحمق وأفتك بك فتكاً لا تأخذني به رحمة بك" .

  ثم رجع هاتشر عقب المكالمة وتكلم مع رئيس الأمن الخاص به، وهنا رأينا هذا الرئيس في مشهد ينظر في كمبيوتر وهو بتابع بعض المعلومات عن كلاي، فأدرك أن كلاي أحد المنتمين إلى منظمة الناحلين والذين إذا كُلف أحدهم بعمل انتقامي من شخص ما، فلابد من أن يصفيه ويقتله، ومن ثم لا يستطيع أحد أن يواجهه مهما بلغت قوته، ثم طلب هاتشر من رئيس الأمن ألا يقف متكوف الأيدي.

 ثم تستمر الأحداث حيث نجد هاتشر يستنجد بأمه، والتي تحتل منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حسب أحداث الفيلم، وهنا تحاول أمة أن تستأجر أحد المرتزقة الذين يعملون في نفس منظمة النحالين والذي كان كلاي واحد منهم، وتستمر أحداث الفيلم فنجد كلاي كان في بنزيمة يفول سيارته، ثم تدور مشاجرة قوية بينه وبين تلك المرتزقة، حيث انتهت بقتل كلاي لهم جميعا على طريقة السينما الأمريكية من الكر والفر. 

ثم نجد  كلاي يقوم بتقطيع أصابع جارنت،  ثم يقوم بربطه بسيارة مفخخه كي يموت في مشهد مروع، وفي اليوم التالي تذهب باركر ( ابنة المنتحرة) إلى البنزيمة، وتدرك أن كلاي وراء هذا الضرب والحرق الذي حدث في البنزيمة، والغريب أن باركر تحاول أن تقبض عليه مع العلم أنه يفعل كل هذا انتقاما لثأر أمها، وعلى الجانب الآخر تستمر الأحداث فنجد رئيس الأمن يستعين بمرتزقة آخرين وعلى مستوى أعلى مما سبق للتخلص من كلاي، ولكن أيضا تفشل العملية مرة أخرى بعد كر وفر، إلى أن بقي مشهد رائع من كلاي وهو يضرب رئيسهم بضراوة كي يخبره بمكان هاتشر وأعلمه أنه ابن رئيسة أمريكا، ومن الصعب الوصول إليه، وتستمر الأحداث في الفيلم إلى أن يصل إليه في أحد المنتجعات ويقتله أمام أمه في مشهد دراماتيكي، ويهرب بعد ذلك من خلال بدلة غوص وينتهي الفيلم.

والشيء المثير في الفيلم هو كيف استطاع كلاي القضاء على عشرات المقاتلين من الحرس الرئاسي والمرتزقة ورجال عصابة المسلحين في أوضاع قتال فردية رغم وجودهم معا، كان يشبك مع الواحد منهم، فيما يشاهد الآخرون حتى ينتهي من زميلهم، ثم يأتي دور التالي ليقضي عليه، وهكذا ليتخذ الفيلم شكل لعبة فيديو بدلا من شكل فيلم سينمائي يحتاج إلى بعض المنطق في أحداثه، ليصل الأمر أحيانا إلى درجة السخافة، وهو الأمر الذي جعل البطل النحال يخرج في الفيلم على القوانين المعلنة والسرية التي تقف في طريق تحقيقه العدالة، وبدلا من محاكمة السيدة التي احتلت منصب الرئاسة الأميركية وابنها المجرم وتابعيه قتلهم جميعا باستثناء السيدة التي اعترفت بالحقيقة وقررت دفع الثمن.

وبصرف النظر في كون الفيلم يسلط الضوء على ظاهرة عمليات الاحتيال الإلكترونية، من خلال قصة "آدم كلاي" الذي يلعب دوره جيسون ستاثام، والذي يتقاعد من عمله كعميل سابق في منظمة سرية تعرف باسم "بيي كيبرز" أو "النحالين"، والتي تم إنشاؤها لحفظ النظام داخل البلد، ويتفرغ لعيش حياة هادئة وتربية النحل.

والمثير جدا جدا أنه عقب مشاهدتي للفيلم الذي أثارني، رجعت إلى منزلي، فرأيت في منامي وأنا أحلم بكلاي، وكأنه قد خرج منه أكثر من سبعين رجلا، وهم يعبرون السور الحدودي لتنفيذ حادث طوفان الأقصى الذي حدث في السابع من أكتوبر الماضي، وأخذت أتساءل: ماذا لو كانت الرؤيا أو الحلم الذي رأيته صحيحا؟، وأن الذين قاموا بعملية طوفان الأقصى من المرتزقة الأمريكان، فهل كان سيحدث ما حدث من تصفية أكثر من 34 ألف فلسطيني في مؤامرة لن يشهد التاريخ بمثلها!! ... أترك الإجابة لإشعار آخر وأٌلقي ذلك في عباءة القارئ !! .. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

 

معين بسيسو الذي تسطّر حياته ملحمة فلسطينيّة تقدّم النموذج المُلزم الاقتداء به في تلاحم المبدع مع شعبه وقضيته تلاحما كاملا.

فمنذ صرخته الأولى عندما خرج إلى الحياة في العاشر من تشرين الأوّل عام 1927 التي نبّه بها إلى وجوده، بدأت ترتسم أمامه الطريق النضالية الصعبة الطويلة التي تنتظره. فوطنه فلسطين كان مرهونا في يد المستعمر الإنكليزي الذي يعمل بجدّ لتقديمه هديّه رخيصة لزعماء الحركة الصهيونية كي يقيموا فيه الوطن القومي. وأبناء شعبه تتلاعب بهم الأهواء والانقسامات. ويشقى السواد الأكبر من الشعب من الفقر والعوز وصعوبة تحصيل ما يضمن لقمة العيش.

فيكبر ابن حيّ الشجاعية وسط هذا الواقع المرير غاضبا صاخبا واضعا أمامه هدفا كبيرا لتغيير الواقع وتأمين المستقبل الأفضل لأهله أبناء شعبه.

ترك مدينة غزة ليدرس في القاهرة، وفي مصر تعرّف على المناضلين وانحاز إلى جانب القضايا الوطنية والجماهير المستضعفة، وتابع أخبار التحوّلات الكبيرة التي تجتاح العالم والأفكارَ الاشتراكية التي بدأت تنتشر وتجتذب عقول الشباب وتمنيهم بعالم آخر. فانضمّ إلى صفوف الحزب الشيوعي وكان نشيطا وترقّى في المراتب حتى تمّ انتخابُه أمينا عاما للحزب.

هذه النشاطات المتعدّدة أدّت إلى اعتقاله وإدخاله السجون في مصر لسنوات عديدة. لكنها سنوات صقلته كرجل قويّ يتحدّى كلّ الصعاب، ويتمسّك بأفكاره واختياراته وانحيازه إلى جانب الجماهير.

فالشاعر كما يراه بسيسو يُشبه مُتسلّق الجبال الذي يصعد ثمّ يسقط ويعاود الصعود حتى يصل إلى القمّة التي بعدها لن يكون هناك من راحة أو استقرار، وكأنّ قدره أن يبقى في حالة صعود مستمر.

معين بسيسو عاش النكبة وما تمخّضت عنه، وعانى كغيره رحلة التّيه الفلسطيني، وظلّت غزّة في دمه حيثما حلّ.

وكان لكلّ هذه التجارب والتحوّلات والمعاناة التي عاشها وشعبه أثرها على تفجير مَكامن الإبداع عند معين بسيسو فتدفّق الشعر الثوري الملتزم الذي قرأناه في مجموعته الشعريّة التي صدرت عام 1952 باسم "المعركة" وبرزت في قصائده ملامحُ التجديد والنُّضج والالتزام بآمال وآلام شعبه.

أنا إنْ سقطتُ فخُذْ مكاني يا رفيقي في الكفاحْ

واحملْ سلاحي لا يخفكَ دمي يسيلُ من السلاح

وهتف أيضا:

* فإذا سقطنا يا رفيقي في جحيم المعركة

فانظر تجد علما يُرفرفُ فوق نار المعركة

ما زال يحمله رفاقك يا رفيق المعركة.

 وكما يصفه الشاعر إيهاب بسيسو: معين شكّل حالة ثوريّة وشعريّة مميّزة. وقد قاد المظاهرات في غزة في منتصف الخمسينات لإسقاط مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء بعيدا عن الوطن.

وصرخ معلنا: "كتبوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحو مشروع سيناء بالدم".

ورغم الملاحقات والمطاردات التي عاشها لمواقفه السياسية واعتناقه للأفكار الشيوعيّة إلّا أنّه سارع لينضم إلى المناضلين في المقاومة المصرية والتصدّي لجنود العدوان الثلاثي على السويس في مصر عام 1956 وهو يُعلنها عاليا:

قد أقبلوا فلا مساومة

المجد للمقاومة.

كما وأصدر معين كتابه الوثائقي "دفاتر فلسطينيّة" الذي كتبه خلال فترة اعتقاله في السّجون المصرية، ووصف فيه ما يتعرّض له المعتقلون الفلسطينيون.

ملاحقة معين بسيسو من قبل أجهزة السلطات المصرية جعلته يعيش حياة القلق والمطاردة ومن ثم الارتحال ما بين العواصم المختلفة: القاهرة بيروت دمشق موسكو ليستقرّ عام 1970 في بيروت وبقي هناك حتى الحصار الأخير.

 وفي هذه السنوات تولّى الكثير من المهمّات النضالية في إطار المقاومة الفلسطينية. وانتخب عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني وعضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين. ورئس تحرير مجلة "اللوتس" وعمل في مجلة "فلسطين الثورة" ونال جائزة "اللوتس".

وظلّ معين في حماسه وتدفّق شاعريّته وسرعة التّوثّبِ واتّخاذ القرار الصحيح الذي تفرضُه عليه الأحداث. ففي عام 1982 كان يشارك في مؤتمر أدبي في طشقند. وعندما سمع ببدء العدوان الإسرائيلي على الثورة الفلسطينية والحركة الوطنيّة اللبنانيّة ولبنان، ترك المؤتمر وعاد سريعا إلى بيروت ليكون مع المقاتلين.

ولدي محمّد: في ظلي الدامي تمدّد

أو فوق ركبة أمك العطشى تمدّد

وإذا عطشتَ وجُعتَ فاصعَدْ

وتألّم معين وهو يشهد ويعيش الصمتَ العربي التّام أمام العدوان على لبنان واحتلال بيروت وموت الآلاف من الفلسطينيين، وآلمه أكثر صمتُ المثقفين والمبدعين العرب.

الصمتُ موت

قُلها ومتْ

فالقولُ ليس ما يقوله السلطانُ والأمير

وليس تلك الضحكةُ التي يبيعُها المُهرّجُ الكبيرُ للمهرّج الصّغير

فأنتَ إنْ نطقتَ مُتّ

وأنتَ إن سكتَّ متّ. قُلْها ومُتْ

وفي قصيدته الملحميّة "القصيدة" صرخ عاليا في وجه كل العرب:

هذا العشاءُ هو الأخيرُ

على موائدكم

فمنذُ الآنَ سوفَ أكونُ وجهي

لم تكنْ عذراءَ نخلتُكمْ

ولا عَذراءَ مَريَمُكُمْ

فلا بيضا صنائعُكُمْ

ولا خُضراً مَرابعُكُمْ

ولا سودا مواقِعُكُمْ

ولا حُمرا مواضيكُمْ

ألا تَبّتْ أياديكُم

وداعا يا ليالي الكَرنفالْ

إضافة إلى إبداعات معين في الشعر فقد كتب المسرحية، وأصدر العديد من المسرحيات التي عرضت معظمها على المسارح. كما كتب الأعمال النثريّة العديدة. ولكنّه ظلّ البارز والمتألّق في الشّعر الثوريّ النّضالي.

وقد آمن معين بسيسو كما يقول الكاتب محمود شقير بأهميّة الالتزام في الأدب، وبضرورة أن يكون الأدب مُلهما للجماهير ومعبّرا عن همومها وتطلّعاتها. ومن هنا جاءت فرادتُه وصدقُ انتمائه في زمن القَمع والاستبداد."

ويصفه محمود درويش بقوله:

معين بسيسو شاعر مليء بالمظاهرة والشوارع، مزدحم بهتاف مُتدفّق، يؤمن حتى التديّن بأنّ القصيدة قوّة حركة، قوّة حزب، قوّة قادرة على التّغيير الفوري.

ويقول الكاتب خيري منصور: "من الشائع نقديّا عن شعر معين بسيسو أنّه مباشر وسياسي بامتياز. كما أنه مؤدلج وهذا أيضا سبب لعزوف النّقد عن نصوصه في ثقافة ساد فيها كسل ذهني وصلت فيه النّميمة مكان النّقد".

ويُدافع الروائي رشاد أبو شاور عن مباشرة قصيدة معين بقوله "قد يُقال بأنّ هذا الشعر فيه مباشرة، وتحريض آنيّ، والحقّ أنّ تلك المباشرة حمَلتها مواهب أصيلة ذكيّة، عرَفت كيف تغوص في عُمق الحدَث، وتستخرج منه قيما إنسانيّة جوهريّة لا تموت مع الزمن.". فمعين بسيسو شاعر معركة واشتباك يحيا ويتألّق في الميدان، بين الناس في أتون المعركة".

يقول الناقد محيي الدين صبحي في دراسة له حول شعر معين: إنه يتبع أخشن طرق الأداء، ويركب أوعر أساليب التعبير، شاعريّتُه ينقصُها الصّقل، ولكن نقصان الصّقل ميّزة فنيّة متّسقة تسِمُ أعمالَه كلّها بسمة الخشونة وإفراط في المباشرة، والانحراف بالصورة عن إطاره الإنساني إلى شيء من التّوغّل الوحشيّ، كلّ هذه لمقصد سياسي.

يقول معين رأيَه في الشعر:

لجهنّم يا الكلمة ذات القرط وذات الخلخال

بالشاعر وربابته، بالموّال

وسيرة فرسان بني "عبس وهلال"

لجهنّم يا أوزان بحور الشعر العَلنيّة

ووقوفا في الصّف

صفّا واحد.. بالخوذة والسونكي.

ويقول معين:

علّمتني الزنزانة السّفرَ لمسافات بعيدة، وعلّمتني أيضا الكتابة لمسافات بعيدة، فالسّجين دائما يُسافر بيده في الماء، ويُحاول الكتابة بصوته".

الشعر عند معين بسيسو حالة حبّ عنيفة، يقوم فيها الشاعر بعمليّة بَعث جديدة للغة حتى تستطيع حمْلَ العالم، والدّفاع عن ذلك العالم أمام الذين يريدون سرقته".

كان معين بسيسو قد شارك محمود درويش في كتابة قصيدة "رسالة إلى جندي إسرائيلي" التي استقبلها البعض بالنقد اللاذع والرفض واعتبرها عز الدين المناصرة قصيدة ضعيفة كذلك لم تعجب رشاد أبو شاور وغيره.

ثنائيّة الموت / البعث راسخة في شعر معين بسيسو وكثيرا ما يعود إلى الميثولوجيا المسيحية "المسيح والصّلب".

يقول محمود درويش "كان معين يطرد فكرةَ الموت كما يطرد ذبابة، وكان يُمازحنا ويهدّدنا جميعا بالرّثاء، كان يكره الرثاء ويمقت المشهد الفلسطيني اليومي في طابور الموت".

وكأنّ معين رغم تظاهره برفضه للموت وعدم اكتراثه به أو الخوف منه، كان في لا وعيه يخاف أنْ يموتَ غريبا عن وطنه، بعيدا عن أصدقائه فكتب:

 أخاف أن أموتَ تحت عَلَم غريب

أخاف أن أموت تحت عَلَم أرفض

كلّ خيط فيه

يا إلهي الكبير، يا وطني.

*

على الغريب أن يموتَ فوق أرضه

عليه أن يموت في بداية الطريق

في نهاية الطريق

وليس في منتصف الطريق.     

وتكرّر خوفُه ممّا قد يحدث له بهمسِه في أذن بسّام أبو شرف الذي كان يسير إلى جانبه أثناء مشاركتهما في موكب جنازة بلقيس زوجة الشاعر نزار قباني نحو مَثواها الأخير في مقابر الشهداء في بيروت: لقد وجدَتْ أرضا تحتضُنها وأصدقاء يودّعونَها نحو مَثواها، هل سنجدُ أرضا تحتضننا وأصدقاء يودّعوننا؟

يروي محمود درويش كيف أنّ معين كاد يقتله مرتين: الأولى، عندما استلّ مسدّسَه ليحسمَ نقاشا مع قارئ خبيث قال له إنّ المحاصَرين في تل الزعتر محتاجون إلى الماء أكثر من حاجتهم للشعر. فمرّت الرصاصة فوق كتفي. المرة الثانية: حين وضع على باب غرفته في لندن شارة "رجاء عدَم الازعاج" لم يُزعجه أحد.. ليموت على مَهل، فنبّهني إلى أننا قد ننجو من القذائف لنقعَ في غدر القلب. لنموت بطريقة أزعجت خالدَ بن الوليد. ومنذ وضعَ تلك الاشارة نزعْتُها عن أبواب غُرَفي في كلّ الفنادق. أريدُ مَن يزعجني وأنا أموت. ثم ناداني كثيرا إلى أن انقضّ قلبي عليّ.

تألّم محمود درويش من رَفْض السّلطات الإسرائيلية السّماح بدَفْن جثمان معين بسيسو في غزّة، ومن تلكؤ السلطات المصرية مدّة أربعة أيام لتسمح بدفنه في مقبرة الأربعينات في القاهرة. وذهب به الخيال لحالته وكيف سيتعاملُ الآخرون معه، فكتب في رسالة أرسلها إلى سميح القاسم من باريس يوم (19.5.1986) يختتمها بهذه الكلمات الحارقة:

"قريبا؟ ست عشرةَ سنة! ست عشرةَ سنةً كافية لتَقْبَلَ بنيلوب وُدّ خطّابها وتلعن بحرَ إيجة. ستّ عشرة سنة كافية لأنْ تتحوّل الحشرات الصغيرة على جراح أيوب إلى طائرات نفّاثة. ستّ عشرة سنة تكفي لأصرخ: بدّي أعود. بدّي أعود. كافية لأتلاشى في الأغنية حتى النّصر أو القبر.

ولكن، أين قبري يا صديقي؟ أين قبري يا أخي؟ أينَ قبري؟"

ولكنّ محمود درويش يرتاح في قبره بين أبناء شعبه الذين حوّلوا قبره إلى مَزار يؤمّونه كلّما زاروا رام الله.

* ونُنهي بهذه القصة الجميلة التي يرويها محمود درويش ما حدث له ولمعين عندما تقدّمت منهما فتاة جميلة تحمل الورد على رصيف محطة القطار في تالين استونيا لتأخذَهما إلى الفندق. يقول محمود: بعد قليل اتّصل بي معين ليقول:

- نحن في وَرْطة وعلينا أنْ نغادرَ الفندق فورا، فتلك الفتاة استقبلتنا باعتبارنا راقصَيْن من كوبا! قلتُ له: لن نخرجَ إلى ثلج يبلغ ارتفاعُه مترين حتى لو كلّفنا ذلك أنْ نرقص. فلنرقص إذن. ما الفارق: راقصان من كوبا أو شاعران من فلسطين.

***

د. نبيه القاسم

لقد كان تصوير الحياة الجنسية والشهوانية موضوعا ثابتا في الأدب الإنجليزي، خاصة في نوع الرواية. لقد تطور استكشاف الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية على مر القرون، مما يعكس المواقف المجتمعية، والأعراف الثقافية، والتصورات المتغيرة للجنس. يهدف هذا المقال إلى الخوض في السياق التاريخي للإيروتيكية في الروايات الإنجليزية، ومناقشة الشخصيات الرئيسية في هذا النوع، وتحليل تأثير الإيروتيكية في الروايات الإنجليزية، وتحديد الأفراد المؤثرين الذين ساهموا بشكل كبير في هذا المجال.

تاريخيا، يمكن إرجاع تصوير الموضوعات المثيرة في الروايات الإنجليزية إلى القرن الثامن عشر، حيث قام مؤلفون مثل دانييل ديفو وصموئيل ريتشاردسون بدمج عناصر الشهوانية والرغبة في أعمالهم. أدى ظهور الرواية القوطية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر إلى زيادة حدود الإثارة الجنسية في الأدب، حيث استكشف كتاب مثل آن رادكليف وماثيو لويس موضوعات العاطفة والرغبة والجنس. و مع بزوغ فجر العصر الفيكتوري، أصبح تصوير الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية أكثر تقييدا وتنظيما بسبب القواعد الأخلاقية والاجتماعية السائدة في ذلك الوقت.

إن أحد الشخصيات الرئيسية في تطور الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية هو دي إتش لورانس، الذي تحدت أعماله مثل "عشيق السيدة تشاترلي" و"نساء عاشقات" المحرمات المجتمعية وقوانين الرقابة من خلال تصويرها الصريح للجنس. مهد استكشاف لورانس الجريء للإثارة الجنسية الطريق أمام كتاب المستقبل للتعمق أكثر في موضوعات الشهوانية والرغبة في أعمالهم.

هناك شخصية أخرى مؤثرة في عالم الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية هي أنيس نين، التي تجاوزت مذكراتها ورواياتها مثل "دلتا الزهرة" و"الطيور الصغيرة" حدود الأدب المثير من خلال تصويرها الصريح للتجارب والتخيلات الجنسية. كان لاستكشاف نين للجنس الأنثوي والرغبة تأثيرا دائما على هذا النوع، حيث ألهم أجيالا من الكتاب لاستكشاف موضوعات الشهوانية والحميمية في أعمالهم.

يمتد تأثير الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية إلى ما هو أبعد من مجرد قيمة الإثارة أو الصدمة. إن تصوير الحياة الجنسية والرغبة في الأدب هو بمثابة انعكاس للتجارب والعواطف والعلاقات الإنسانية. من خلال الخوض في موضوعات الشهوانية والحميمية، يمكن للكتاب استكشاف تعقيدات التفاعلات البشرية، والرغبات، ونقاط الضعف بطريقة عميقة وبصيرة.

ومع ذلك، فإن تصوير الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية واجه أيضا انتقادات وجدلا. حيث يجادل البعض بأن التصوير الصريح للجنس يمكن أن يكون غير مبرر أو مسيئا أو غير مناسب، بينما يعتقد البعض الآخر أن مثل هذه المواضيع ضرورية لتمثيل النطاق الكامل للتجارب الإنسانية. يستمر الجدل حول الإثارة الجنسية في الأدب في التطور، حيث يتصارع الكتاب والقراء على حد سواء مع مسائل الرقابة والأخلاق والحرية الفنية.

في الختام، فإن استكشاف الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية له تاريخ غني ومعقد، مع شخصيات رئيسية مثل دي إتش لورانس وأناييس نين الذين يشكلون هذا النوع من الأدب من خلال أعمالهم الجريئة والاستفزازية. يمتد تأثير الإثارة الجنسية في الأدب إلى ما هو أبعد من مجرد الدغدغة، حيث يعمل بمثابة انعكاس لرغبات الإنسان وعواطفه وعلاقاته. في حين أن تصوير الحياة الجنسية في الروايات يمكن أن يكون مثيرا للجدل، فإن استكشاف موضوعات الشهوانية والرغبة يستمر في أسر القراء والكتاب على حد سواء، مما يدفع حدود التعبير الأدبي. من المرجح أن يستمر مستقبل الإثارة الجنسية في الروايات الإنجليزية في التطور، مما يعكس المواقف المتغيرة تجاه الجنس والجنس والهوية في المجتمع.

مع الحب

***

محمد عبد الكريم يوسف

 

في رواية دي إتش لورانس المثيرة للجدل، عشيق الليدي تشاترلي، يلعب موضوع القيم دورا مركزيا في تشكيل الشخصيات وعلاقاتهم. يستكشف لورانس الصدام بين القيم المجتمعية التقليدية والرغبات الشخصية، ويقدم نقدا للقيود التي تفرضها الطبقة والجنس والأخلاق. تتبع الرواية بطلة الرواية، السيدة كونستانس تشاترلي، وهي تتنقل في انجذابها إلى حارس الطرائد، أوليفر ميلورز، وتتصارع مع توقعات ومعايير حياتها من الطبقة العليا. من خلال شخصيتي السيدة تشاترلي وميلورز، يدرس لورانس التفاعل المعقد بين القيم الفردية والتوقعات المجتمعية. إن كفاح الليدي تشاترلي للتوفيق بين شوقها إلى الإنجاز والعاطفة مع قيود وضعها الاجتماعي يسلط الضوء على الصراع الداخلي الذي ينشأ عندما تتعارض القيم الشخصية مع الأعراف الخارجية. وبينما تتكشف أحداث الرواية، يتعمق لورانس في تعقيدات العلاقات الإنسانية والطرق التي تشكل بها القيم تصوراتنا عن أنفسنا والآخرين. تعد عشيق السيدة تشاترلي في نهاية المطاف بمثابة استكشاف مؤثر للصراع الدائم بين الإلتزام والأصالة، مما يتحدى القراء للنظر في الطبيعة الحقيقية لقيمهم ورغباتهم.

النقاط الرئيسية

1. يعكس تصوير القيم التقليدية مقابل القيم الحديثة في رواية عاشق الليدي تشاترلي استكشاف دي إتش لورانس للأعراف المجتمعية والرغبات الفردية.

2. إن طبيعة الصراع الداخلي لكونستانس تشاترلي بين التوقعات المجتمعية والإشباع الشخصي يسلط الضوء على أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على  الرغم من الضغوط الخارجية.

3. يستخدم لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز لتوضيح أهمية الاتصال والثقة والأصالة  في دعم القيم في مواجهة الشدائد.

4. تتحدى الرواية المفاهيم التقليدية للأخلاق والإخلاص، مما يدفع القراء إلى التشكيك في صحة البنيات المجتمعية وتبني فهم أكثر شخصية ودقة  للقيم.

5. من خلال نقده للتصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين، يشجع لورنس القراء على إعادة تقييم قيمهم الخاصة والنظر في تأثير التأثيرات المجتمعية على المعتقدات والخيارات الشخصية.

التفاصيل:

1. يعكس تصوير القيم التقليدية مقابل القيم الحديثة في رواية عشيق الليدي تشاترلي استكشاف دي إتش لورانس للأعراف المجتمعية والرغبات الفردية.

عشيق الليدي تشاترلي هي رواية تتعمق في التفاعل المعقد بين القيم التقليدية والقيم الحديثة، وتسلط الضوء على التوتر بين الأعراف المجتمعية والرغبات الفردية. يعرض دي إتش لورانس ببراعة الصدام بين العالم القديم والعالم الجديد، ويدعو القراء إلى التشكيك في صحة العادات الراسخة في مواجهة الأوقات المتغيرة. طوال الرواية، يقدم لورانس تناقضا صارخا بين القيم التقليدية التي تدعمها شخصيات مثل السير كليفورد والقيم الحديثة التي تجسدها الليدي تشاترلي وميلورز. يمثل السير كليفورد، وهو نموذج للحرس القديم، الطبقة الأرستقراطية التي تقدر التقاليد واللياقة والرواقية فوق كل شيء آخر. إن التزامه بالتوقعات المجتمعية والقواعد الأخلاقية الصارمة يجعله في النهاية باردا وبعيدا ومنفصلا عن العالم من حوله. من ناحية أخرى، تقف الليدي تشاترلي وميلورز كتجسيدين للحداثة، حيث ترفضان قيود التقاليد وتحتضنان رغباتهما وعواطفهما. إن استيقاظ الليدي تشاترلي لاحتياجاتها ورغباتها الخاصة يتحدى المعايير الأبوية التي أملت سلوكها منذ فترة طويلة، مما دفعها إلى البحث عن الإنجاز خارج حدود زواجها. وعلى نحو مماثل، فإن ميلورز، حارس الطرائد الذي يتجنب توقعات المجتمع لصالح وجود أكثر بدائية وأصالة، يجسد رفض القيم التقليدية لصالح الاستقلال الشخصي. إن استكشاف لورانس للمشهد المتغير للقيم في عشيق السيدة تشاترلي هو بمثابة تعليق قوي على الطبيعة المتطورة للمجتمع والصراع الأبدي بين المطابقة والفردية. من خلال التوفيق بين الالتزام الصارم بالتقاليد والسعي الجامح لتحقيق الإنجاز الشخصي، يجبر لورانس القراء على مواجهة معتقداتهم الخاصة حول ما يعنيه أن يكون الشخص صادقا مع نفسه في عالم يتطلب غالبا الامتثال. بهذه الطريقة، تصبح عشيق الليدي تشاتيرلي أكثر من مجرد قصة حب؛ يصبح انعكاسا للتوتر الخالد بين التقاليد والتقدم والواجب والرغبة. إن تصوير لورنس الدقيق لهذه القيم المتضاربة يدعو القراء إلى النظر في الطرق التي تشكل بها المعايير المجتمعية حياتنا وأهمية البقاء صادقا مع الذات في مواجهة التوقعات المجتمعية. من خلال الرواية، يتحدانا لورانس للتشكيك في القيم التي تحكم حياتنا والبحث عن حقيقتنا، حتى لو كان ذلك يعني تحدي التقاليد.

2. إن طبيعة الصراع الداخلي لكونستانس تشاترلي بين التوقعات المجتمعية و الاشباع الشخصي يسلط الضوء على أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على الرغم من الضغوط الخارجية.

في رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاترلي"، تواجه شخصية كونستانس تشاترلي صراعا داخليا عميقا بين التوقعات المجتمعية والإشباع الشخصي. كعضو في الطبقة العليا، من المتوقع أن تلتزم كونستانس بمعايير سلوكية معينة وأن تلتزم بتوقعات طبقتها الاجتماعية. ومع ذلك، تجد نفسها غير راضية بشكل متزايد عن حياتها ومنفصلة عن زوجها السير كليفورد تشاترلي. يسلط الصراع الداخلي الذي تعيشه كونستانس الضوء على أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على الرغم من الضغوط الخارجية. طوال الرواية، تتصارع كونستانس مع الرغبات المتضاربة للتوافق مع الأعراف المجتمعية واتباع رغباتها الخاصة. إنها ممزقة بين واجبها كزوجة وشوقها إلى حياة أكثر إشباعا وعاطفة. على الرغم من التوقعات المعلقة عليها، اختارت كونستانس في النهاية أن تتبع قلبها وتواصل العلاقة مع حارس الطرائد، ميلورز. ومن خلال اتخاذ هذا الاختيار، يوضح كونستانس أهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد ورغباته، حتى في مواجهة الضغوط الخارجية. من خلال اختيار الإنجاز الشخصي على التوقعات المجتمعية، تجد كونستانس في النهاية السعادة والوفاء في علاقتها مع ميلورز. وهذا بمثابة تذكير قوي بأن البقاء صادقا مع نفسه أمر بالغ الأهمية، حتى عندما يواجه ضغطا مجتمعيا للامتثال. في الختام، فإن الصراع الداخلي لكونستانس تشاترلي في عاشق الليدي تشاترلي هو بمثابة توضيح مؤثر لأهمية البقاء صادقا مع قيم الفرد على الرغم من الضغوط الخارجية. من خلال اتباع رغباتها الخاصة واختيار الإنجاز الشخصي على التوقعات المجتمعية، تجد كونستانس في النهاية إحساسًا بالهدف والسعادة. وهذا بمثابة تذكير قوي للقراء بأهمية البقاء صادقا مع الذات، حتى في مواجهة الشدائد.

3. يستخدم لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز لتوضيح أهمية الاتصال والثقة والأصالة في دعم القيم في مواجهة الشدائد.

في رواية دي إتش لورانس عشيق السيدة تشاترلي، تعد العلاقة بين كونستانس وميلورز بمثابة توضيح قوي لأهمية الاتصال والثقة والأصالة في دعم القيم وسط الظروف الصعبة. بينما تتصارع كونستانس مع رغباتها في العلاقة الحميمة الجسدية والعاطفية، تجد العزاء والوفاء في علاقتها مع ميلورز، حارس الطرائد الذي يجسد إحساسا بالأصالة الخام والصدق المفقود في زواجها من السير كليفورد. يصور لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز على أنها علاقة مبنية على أساس الثقة والاحترام المتبادل والاتصال الحقيقي. على عكس تفاعلاتها السطحية والمنفصلة مع السير كليفورد، تنجذب كونستانس إلى أصالة ميلورز وشفافيته. من خلال محادثاتهما الحميمة ولقاءاتهما العاطفية، يشكل كونستانس وميلورز رابطة عاطفية عميقة تتجاوز الأعراف والتوقعات المجتمعية، مما يسمح لهما بالعثور على العزاء والوفاء في حضور بعضهما البعض. في مواجهة الشدائد والحكم المجتمعي، يظل كونستانس وميلورز ملتزمين بقيمهما ومعتقداتهما، ويرفضان التنازل عن ارتباطهما وأصالتهما من أجل المطابقة. على الرغم من العقبات التي يواجهونها، بما في ذلك الاختلافات الطبقية والازدراء العام، فإنهم يختارون إعطاء الأولوية لسلامتهم العاطفية وسعادتهم على المصادقة الخارجية. من خلال ثقتهم التي لا تتزعزع في بعضهم البعض وقدرتهم على البقاء صادقين مع أنفسهم، يُظهر كونستانس وميلورز المرونة والقوة التي يمكن العثور عليها في الحفاظ على الروابط والعلاقات الحقيقية. بشكل عام، يستخدم لورانس العلاقة بين كونستانس وميلورز لتسليط الضوء على أهمية الاتصال والثقة والأصالة في دعم القيم في مواجهة الشدائد. من خلال تصوير الرابطة بينهما كمصدر للقوة والوفاء، يؤكد لورانس على القوة التحويلية للاتصالات الحقيقية والشجاعة المطلوبة للبقاء صادقا مع نفسه في خضم الضغوط المجتمعية. من خلال كونستانس وميلورز، يدعو لورانس القراء إلى التفكير في أهمية الأصالة والثقة في الحفاظ على قيم الفرد ونزاهته، حتى في مواجهة التحديات والعقبات.

4. تتحدى الرواية المفاهيم التقليدية للأخلاق والإخلاص، مما يدفع القراء إلى التشكيك في صحة البنيات المجتمعية وتبني فهم أكثر شخصية ودقة للقيم.

في رواية "عشيق السيدة تشاترلي" للكاتب دي إتش لورانس، تتحدى الرواية المفاهيم التقليدية للأخلاق والإخلاص، مما يدفع القراء إلى التشكيك في صحة البنيات المجتمعية واحتضان فهم أكثر شخصية ودقة للقيم. تبدأ بطلة الرواية، الليدي كونستانس تشاترلي، في رحلة لاكتشاف الذات والتحرر مما يجبرها على مواجهة التوقعات الصارمة التي يفرضها عليها المجتمع. من خلال علاقتها مع حارس الطرائد، أوليفر ميلورز، تجد الليدي تشاترلي نفسها تتساءل عن مؤسسة الزواج والقيود التي تفرضها على السعادة الشخصية. يتحدى لورنس القراء لإعادة النظر في القيم التقليدية للإخلاص والأخلاق، ويحثهم على النظر في تعقيدات العلاقات الإنسانية وأهمية الإشباع العاطفي. تتحدى الرواية فكرة أن الأعراف المجتمعية يجب أن تملي علاقات الفرد ورغباته الشخصية. من خلال استكشاف الطبيعة المحرمة لعلاقة السيدة تشاترلي وميلورز، يدفع لورانس القراء إلى التشكيك في القواعد التعسفية التي تحكم الحب والحميمية. وبدلا من الالتزام الأعمى بالبنيات المجتمعية، تشجع الرواية القراء على تبني فهم أكثر فردية وأصالة للقيم. بهذه الطريقة، يعد "عشيق السيدة تشاترلي" بمثابة تعليق قوي على حدود الأخلاق التقليدية وضرورة التشكيك في الأعراف الاجتماعية. من خلال تحدي القراء للتفكير بشكل نقدي حول صحة البنيات المجتمعية، يدفعهم لورانس إلى النظر في أهمية الأصالة والوكالة الشخصية في تشكيل قيمهم ومعتقداتهم. من خلال رحلة الليدي تشاترلي، يتم تذكير القراء بالحاجة إلى صياغة طريقهم الخاص والعيش وفقا لبوصلتهم الأخلاقية الداخلية.

5. من خلال نقده للتصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين، يشجع لورنس القراء على إعادة تقييم قيمهم الخاصة والنظر في تأثير التأثيرات المجتمعية على المعتقدات والخيارات الشخصية.

في روايته "عشيق السيدة تشاترلي"، يتعمق دي إتش لورانس في العديد من القضايا المجتمعية، مثل التصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين، لتحفيز القراء على التفكير في قيمهم ومعتقداتهم. من خلال نقده لهذه المواضيع، يتحدى لورانس القراء لإعادة النظر في تأثير التأثيرات المجتمعية على الخيارات الشخصية ووجهات النظر. إن تصوير لورانس للتصنيع كقوة تجرد الأفراد من إنسانيتهم وتنفرهم من الطبيعة ومن بعضهم البعض يدعو إلى التشكيك في قيم التقدم والكفاءة التي غالبا ما يعطيها المجتمع الحديث الأولوية. إن مكننة منجم الفحم في الرواية لا تمثل التدهور المادي للمناظر الطبيعية فحسب، بل ترمز أيضا إلى فقدان الاتصال البشري والحميمية في عالم سريع التغير. يحث لورانس القراء على التساؤل عما إذا كان السعي وراء الثروة المادية والتقدم التكنولوجي يأتي على حساب إنسانيتنا وعلاقاتنا. علاوة على ذلك، فإن استكشاف لورانس للاختلافات الطبقية يسلط الضوء على ديناميكيات السلطة المعقدة التي تلعبها في المجتمع ويجبر القراء على مواجهة تحيزاتهم وافتراضاتهم حول الوضع الاجتماعي. تتحدى علاقة الحب المحرمة بين الليدي تشاترلي وحارس صيدها ميلورز المفاهيم التقليدية للحدود الطبقية وتكشف الطبيعة التعسفية للتسلسلات الهرمية المجتمعية. يحث لورنس القراء على التفكير فيما إذا كانت الفروق الصارمة بين الطبقات الاجتماعية تعكس حقا قيمة الأفراد وكرامتهم أم أنها تعمل فقط على دعم الأنظمة القمعية للامتياز والقهر. أخيرًا، يتساءل نقد لورانس لأدوار الجنسين عن التوقعات المحدودة والمحدودة الموضوعة على الرجال والنساء في المجتمع. من خلال شخصية السيدة تشاترلي، التي تتحدى المعايير الجنسانية التقليدية من خلال البحث عن الإنجاز والعاطفة خارج زواجها، يدعو لورانس القراء إلى التشكيك في الأدوار التقييدية المفروضة على الأفراد على أساس جنسهم. من خلال تصوير ميلورز كرجل حساس ومعبر عاطفيا على عكس السير كليفورد البارد و المنفصل، يتحدى لورانس الصور النمطية حول الذكورة والأنوثة ويشجع القراء على تبني فهم أكثر دقة و شمولا للطبيعة البشرية.

إن استكشاف لورانس للتصنيع، والاختلافات الطبقية، وأدوار الجنسين في "عشيق السيدة تشاترلي" بمثابة حافز قوي للقراء لإعادة تقييم قيمهم ومعتقداتهم في مواجهة الضغوط والتوقعات المجتمعية. من خلال التشكيك في تأثير التأثيرات الخارجية على الخيارات ووجهات النظر الشخصية، يدعو لورانس القراء إلى التأمل والنظر في الطرق التي يمكن أن تشكل بها المعايير المجتمعية أو تقيد بوصلتهم الأخلاقية. ومن خلال عملية التفكير والفحص الذاتي هذه، يمكن للقراء أن يبدأوا في صياغة طريق أكثر أصالة وذات معنى نحو تحقيق الشخصية والعدالة الاجتماعية.

وفي الختام، فإن رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاترلي" هي بمثابة استكشاف مثير للتفكير لأهمية القيم في تشكيل السعادة الشخصية والوفاء. من خلال شخصيات كونستانس وميلورز، يتعمق لورانس في تعقيدات الأعراف المجتمعية والرغبات الشخصية، مما يتحدى القراء في نهاية المطاف للتفكير في معتقداتهم و أولوياتهم. و من خلال دراسة موضوعات الحب والعاطفة والأصالة، يسلط لورانس الضوء على القوة التحويلية للبقاء صادقا مع نفسه، حتى في مواجهة التوقعات المجتمعية. بينما نبحر في حياتنا، يذكرنا "عشيقة السيدة تشاترلي" بأن نأخذ في الاعتبار القيم التي توجه أفعالنا و قراراتنا، وأن نبقى واعين لكيفية تشكيل تصوراتنا الخاصة عن السعادة والنجاح.

***

محمد عبد الكريم يوسف

..........................

المراجع

Lady Chatterley's Lover , D H Lawrance

 

تنماز الحركة الشعرية النسوية المعاصرة بوفرة وغزارة في الإنتاج، وتنوع في الأغراض والموضوعات وتفاوت في الجزالة واللفظ، وقد خلقت هذه الكثرة نوعا من التنافس بين جماعات نون النسوة، تنافس نجح في بعض زواياه في تحريك راسب الطين في عموم حركة الشعر النسوية التاريخية، فنشطها وأعطاها زخما حركيا نافعا، وتسبب بعض منها في تأجيج خصومات وخلق عداوات بينهن، ولاسيما منهن اللواتي لم ينجحن في تخطي الخط الأخضر؛ الذي لا تصبح المرأة شاعرة إلا إذا اجتازته بلا عون من أحد، فتلك النسوة بقين محتفظات بمستوى واحد يقبل النزول ويأبى الصعود، ولكنهن لم يعترفن بالهزيمة، ولاسيما بعد أن فتحت شبكة الانترنيت لهن أبوابها، وفسحت المجال لهن كلهن لينطلقن في كل الاتجاهات دونما رقيب، وينشرن نتاجهن دونما تقييم أو تقويم. وإن كان لشبكة الانترنيت من حسنة تذكر فهي السماح لهن للاطلاع على نتاج بعضهن ولكنها لم تعلم الكثير منهن على فضيلة أن على المرء أن يعرف مقدار نفسه، مثلما سمحت لنا الشبكة الاطلاع على مجمل النتاج النسوي ومتابعته من واقع حيادي لا انحراف فيه.

الشيء الذي أعجبني في ساحة المنافسة التي يخضن نزالاتهن فيها أن بعضهن تصدرن السباق بشعر غاية في الروعة والجمال، واختيار المفردات، ونسق الصياغة، وجزالة الفكرة، ونمط التوصيف وتعدد الأغراض، والعمل المثقف، وبعضهن قصرن عن اللحاق بالركب، فبقين يراوحن في مكان قصي اخترنه ملاذا، وكأنهن يرفضن تطوير أنفسهم، أو لا يملكن عوامل قدرة التطوير التي تدفع بهن للأمام ولو بضع خطوات.

وكانت الشاعرة الدكتورة وجيهة السطل واحدة من اللواتي أجدن وابدعن، وحققن تقدما لا يجارى، ولهذا أسبابه، فهو ربما كان بسبب تخصصها العلمي، فهي تحمل درجة الدكتوراه في علوم اللغة العربية من جامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٦، وربما بسبب النشأة والمعاناة التي تعرضت لها، فهي فلسطينية الأصل من يافا، نشأت وترعرع، ودرست وتعلمت في سورية، وتحمل الجنسية المصرية. فتنوع جغرافية النشأة والمؤثر المجتمعي يزود المرء عادة بدفقات من مواريث مختلفة لكل منها خصوصيته ومواطن جذبه.

غير هذا أعلل تقدمها ربما لأنها باحثة علمية نجحت في إصدار مجموعة مؤلفات تخصصية مثل: كتاب جسم الإنسان في معاجم المعاني. وكتاب مدخل إلى اللغة العربية - منهج ميسر؛ دروس في النحو والصرف مع تدريباتها وحلولها. وربما بسبب كونها محققة سبق وأن حققت كتاب الملمَّع للحسين بن علي النمري، وغير هذا وذات إصدارها في وقت مبكر ديوان حديث العشق. وربما اجتمعت كل هذه الخصال لتعطي شعرها دفقات الروعة والعذوبة والفصاحة والجمال.

وآخر شعر اطلعت عليه من نتاجها المعرفي قصيدة "ما لا يُحتوى ببيان"، التي كتبتها في نهاية شهر آذار من عام 2023، ثم قامت بتعديلها في العشرين من شهر تموز من العام نفسه.

ما لا يُحتوى ببيان قصيدة اقتبست الشاعرة فكرتها من كتاب السيرة النبوية لابن هشام، وهي تحكي مواقف ومقاطع من سيرة سيدنا النبي الأكرم ﷺ شعرا؛ ابتداء من اللحظة التي كفله فيها عمه أبو طالب:

الله كرّمه وفي القرآن

خصَّ اليتيمَ، بعطفه الربّاني

*

آوى اليتيمَ إلى حماهُ فأثمرت

سنواتُ عمرٍ فاحَ كالريحان

وبعيدا عن التسلسل الروائي يمكن للحصيف أن يشخص فرادة منهجها البنائي منذ صدر البيت الأول من القصيدة، فهي تتأرجح على الفكرة وتراهن على بساطة الكلمات لتوصل معنى متفردا في عليائه، نافرا مرة وطيعا مرة أخرى، وكأنها تريد الإشارة إلى أسس البساطة المدعومة بالقوة المؤمنة المثقفة التي سينشرها الوليد المقدس الجديد في الكون، لتحل بدلا عن التعقيد الذي أنهك إنسانية الإنسان في مجتمعات طبقية يتحكم فيها الاستبداد والأسياد برقاب الأغلبية المسحوقة.

لم تكن الدكتورة الشاعرة موفقة في اختيار بداية القصيدة فحسب، إذ سارت بعد تلك البداية الموفقة الواعدة مع نمو وتجلي هذا النور السامق والوعد الشارق خطوة خطوة، فوصفت طفولته واشتغاله في رعي الغنم في بادية بني سعد، وعرجت على فتوته واشتغاله مرة أخرى في رعي الغنم بأجياد في مكة:

كبُر اليتيمُ، وصارَ أجملَ يافعٍ

ولَذكرهُ نغمٌ معَ الخلّان

*

راعٍ يقدِّمُ للرعاةِ دروسَه

ولكلّ نبعٍ في الفصاحةِ داني

*

وقريشُ كانت بالقلوبِ تحوطُه

والأهلُ منه على المدى بأمان

فالرعي لا يتيح مددا للتأمل فحسب نتيجة الخلوة، بل ويتيح تعلم وممارسة القيادة، والقيادة فن وممارسة وتطبيق وتطوير، ومن ينجح في تدجين حيوان أبكم لابد وأن ينجح أكثر في محاولته بناء إنسان جديد من عدم الإنسانية البالية التي أنهكها الجور.

وفق المنهج التسلسلي ذاته انتقلت بعد تلك الشروح لتتحدث عن تجربة اشتغاله ﷺ بالتجارة، في إشارة إلى ذهابه مع عمه أبي طالب إلى الشام ولقائه بالراهب بحيرا الذي توسم فيه دلائل النبوة:

ثم ارتقى   لتجارةٍ معَ قومِه

وإلى الشآم مضى مع الرُّكبان

والتجارة هي الأخرى تجربة حياتية تنماز بكونها فن وخبرة وأسلوب تعامل ومقدرة على التمييز وانتقاء الأكثر نفعا وعدم الاستهانة حتى ببسيطات الأمور، وهي كلها عوامل تربوية ونشأوية كانت ممهدات تطورية أسهمت في بناء شخصية القائد المؤمل الموعود الذي تنتظره البشرية ليعيد لها ثقتها بإنسانيتها.

بعدها اقتبست قصة زواجه من الوجيهة القرشية أمنا الطيبة السيدة خديجة بنت خويلد، وهو زواج خارج سياقات المنطق مثلما وصفته الروايات التاريخية التي تحدثت عن فارق كبير في السن بينهما، مما دفع آخرين لنقي تلك الأخبار وإبطال تلك الروايات، وكلاهما لم ينتبه إلى أن هذا الزواج أصلا كان بأمر إلهي ولم يخضع لأي مقاييس، وفيه إشارة إلى رؤية الإسلام الذي ينتظر الولادة على يديه المباركتين، بالمرأة كعنصر بناء لا يقل دورها وتأثيرها عن الرجل وهي تزاحمه منزلة، فقالت:

سمعَتْ به ورأتهْ بنتُ خويلدٍ

عشقتْ أمانته، وحُسنَ تفاني

*

ولطيبِ سيرتِهِ أصاخت وارتوتْ

ممّا   رَوَوْا عنه من استحسان

بعد هذا الوصف التفصيلي، انتقلت الدكتورة وجيهة إلى مرحلة النأي عن الناس والخلوة بالروح والقلب لاستحضار حقيقة الوجود البهي الذي يشرق في أرجائه نور الله الباهر، انتقلت لتتحدث عن مرحلة الاعتكاف في غار حراء، فأبدعت في وصف دقائقها وأجزلت البوح:

هذا حِراءٌ سوف يسمعُ وحيَه

ليتيهَ   غارٌ   فوق   كلِّ مكان

*

ويظلّ   مُعتكِفًا    سنينَ   مفكّرًا

وعطورُ   ذاك الفكرِ في الوُجدان

ولأن النور أشرق في الغار، ومن الغار كانت البداية، انتقلت الشاعرة لتتحدث عن نزول الوحي الأول بكل ما تمثله تلك اللحظة التاريخية من وجل يخلع الألباب:

ناداه    جبريلٌ   وردّدَ آمرًا

(اِقرأ) محمّدُ!  يا لَرعبِ جَنانِ

*

لا!  لست ممن يقرؤونَ ولم تكن

خطَّتْ يمينيَ أحرفًا بمعاني

*

(اِقرأ) وباسم الله سوف تقولُها

ربِّ الجميعِ معلِّمِ   الإنسان

ولأن كتب السيرة كانت قد أشارت إلى أن النبي بعد أن حُمِّل الرسالة أصابه الرعب فنزل من حراء ولجأ إلى زوجته الأمينة يقص عليها ما حصل، وهو ما وصفته الشاعرة بقولها:

فمضى وخبَّأ خوفَه في حجرِها

فجَرَتْ إليه    ودثّرَتْ    بحنان

مع أن هناك من يرى أن التصديق بتلك الروايات يُعدُ من الأمور التي تخالف المنطق والعقل، إذ يستحيل أن يصاب من كان ينتظر الوحي بلهفة وشوق بكل ذلك الهلع، وهو الذي اعتزل الناس كلهم ولجأ إلى "حِراء" يتأمل ويتعبد وينتظر اللقاء.!

إجادتها وجميل نظمها واستيعابها للروايات التاريخية خلق عندها نوعا من السمو العرفاني شعرت معه بنوع من التقصير، يشعر به كل من يتطوع لمدح رسول الله، فالنبي كيان إلهي يختلف عن كل الكيانات، نعم هو القائل: " إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" ولكن ولادات نساء كل الدنيا لا ترقى لأن تكون في مصاف تلك الولادة العظمى التي أنار لها الكون، ولذا قالت وكأنها تطلب السماح، فهي لم تطلب أكثر من رشفة كوثرٍ من كفه الكريم، وطمأنينة عظمى بأن الشفاعة تشمل الطيبين:

مهما تبارَى المادحون بمدحِه

فهو المُفدَّى والعظيمُ الشان

*

وبذكره تصفو النفوسُ وترتقي

فالنورُ في الأرواحِ والأبدان

*

يا مؤمنًا صلّى عليه   مُسلِّمًا

وتلا الشهادةَ عند كلّ أذانِ

*

ستنالُ رشفة كوثرٍ من كفّهِ

وتفوزُ بعد شفاعةٍ بجِنان

ولتعليل هذا القصور المتخيل، قالت وكأنها تعتذر عن قصورها في بلوغ المعنى:

يا سيِّدي يامَنْ بذكرِك أحتمي

وألوذُ مرتجيًا رضا الرحمن

*

يا أيها المبعوث فينا رحمةً

ألهمتني فعزفْتُ ما أشجاني

*

فالحرفُ في قلبي يضيء جوارحي

وهواك في روحي يصونُ كياني

وإيغالا في الاعتذار سعت الشاعرة وراء تبيان سبب كتابتها لهذه القصيدة، فقالت:

قد قلتُ ما أمْلتْ عليّ مشاعري

وسكبتُه فيضًا بلا كتمان

*

ورسمتُه مثلَ الضياء قصيدةً

في مدح أحمدَ سيد الأكوان

وفي التفاتة نادرا ما تحدث الفقهاء عنها، ولاسيما بعد أن شذت بعض الفرق واعتبرت مرتكبها مشركا، وأقصد بها موضوعة "التوسل بالنبي"، إذا اختلف الفقهاء بين من قال: إن التوسل جائز إجماعا، ولم ينكره أحد لا من السلف ولا من الخلف، ومن ذهب إلى أن التوسل لا يجوز إطلاقا، ونهوا عنه، وقالوا: لا يسأل بمخلوق، رغم هذا النشاط التضادي بدا وكأن الشاعرة أرادت التمرد على الثقافة الاقصائية الخالية من الروح وجهرت بعالي الصوت متوسلة برسول الله، فقالت:

ربّاه قد أكرمتَنا بمحمّدٍ

برسالة الإسلامِ والإيمان

*

أسبِغْ إلهي مِنْ نعيمِك راحة

وامنح عبادك نعمة الغفران

*

واقبل عبادًا تائبين لربهم

وأعتق رقابهم من النيران

*

وارحمْ إلهي في الثرى شهداءَنا

وانصرْ بحقِّ نبيٍنا العدنان

وفق هذه الصياغة بدت القصيدة في بعض جوانبها تقريرية تعليمية أكثر منها وجدانية، وفي جوانب أخرى مغرقة بالوجدانية والروحانية، فجمعت بين نقيضين بشكل محبب مع اعتناء في البناء والإخراج، أما موضوعها المحبب فقد جعلها مقربة للنفوس وأعطاها مقبولية أدبية واجتماعية، فبدت وكأنها أنشودة ينشدها أطفال في غسق ربيعي.

***

الدكتور صالح الطائي

أعتقد أنّ الكتابة ليست سهلة في بعض نصوصها، إنّها نصوص اجتهدت لتكون قطعة مميّزة في قصة مميّزة ناضجة من حيث البناء السردي الفني المتناغم عن شخصيات عاش معها الكاتب ومؤثرة فيه عن أفراد مجتمع في ذهن الكاتب التي كوّنها واختلقها إبداعيًا واقعيًا بامتياز. تنحني بها أمام ذاكرة الراوي عندما تقرأ النصوص كأنّها صف مرصوص لا يختلف بنيانه في الكثافة المخصصة للسرد.

خارج الصالة تبدأ الحكاية، يصف الراوي القرية التي جمعتهم بين الأزقة الضيقة التي يسكنان بها مع وهب حيث، دخول الكاتب في دهاليز الاسترجاع " الفلاش باك" بين وصف الحياة الطبيعية التي يعيشها المجتمع في ذلك الزمان، قبل الدخول في هندسة السرد والمجاديف التي استخدمها الكاتب في الإبحار تحمل معها بوصلة شمالية محددة بين البداية والنهاية، لكن قبل الوصول، دوّن بخياله الواسع النصوص الأدبية المتعاركة بين وقوف واستشهاد لهذه العبقرية التي نسجت هذه الخيوط الذهبية في البيئة التي كانت مسرحًا لأحداث القصة.3693 رواية مائل بخط الرقعة

وهب حمل هذه القصة بأكملها مع صديق عمره، وهو الراوي، جمعت تارة بضمير الغائب وتارة بضمير المتكلم بين وصف مبدئي، يقصد عبد الوهاب الذي طالما ينادى باسم "عبد" بين الساباط والشوارع الضيقة وبين الاسم الأصلي "عبدالوهاب" الذي يتوجس منه إحسانًا عندما يراد منه خدمة مجانية. في بداية حياته كان يعمل حارس مقبرة، وبين قراءتي للأدب منذ عقود إلّا أنّي لم أجد وصفًا جميلًا يحمل نصه الموجة العالية حين يصف الكاتب وهب "فعين مفتوحة على اتساعها دائمًا ولا شيء يجعلها ترفّ، والعين اليسرى تهجع تحت لحاف جفنه المتغضّن فهو لا يحتاجها عادة" يجعلك الكاتب تفيض بأنه أعور "أي ذهب بصره، هكذا يأسرك النص بقوة عباراته وجمال المعنى وحسن الصياغة في فنّ البلاغة.

لقد استخدم الكاتب العدسة من الزاوية الواسعة التي تضبط المشاهد ذات الطول البؤري الذي تستطيع أن تحصل على المشهد كما في الخيال المرسوم خارج نطاق المونتاج الذي نعرفه عندما أنتج هذا المشهد الذي يقول: "وقبلها قبل أن تنحني السكة ثم تستقيم ملتويةً بجدران قرض في طينها الزمن وبانت نتوءات أحجارها الكلسية البيضاء يكاد يمسكها الطين وترفد نهرها جداول السمك الفرعية، وفتات الكلس يصبغ التراب أسفل الجدران بالأبيض ليخفف من اللون الرمادي لتراب السكة".

أناقة الكاتب كانت في النسيج المخيط بإحكام بعيدًا عن الإسهاب الممل في سرد الأحداث، مما جعله في انتقاء الألفاظ المعبّرة عن معانيها في الذاتية الواضحة عن فكر صاحبه وهب وخواطره النفسية.

يذهب الكاتب أكثر في المتعة الأدبية المتجسّدة بنقل الأحاسيس والمشاعر في زمن الطفولة التي عاشها بين الأزقة للأطفال الذين يلاحقون قطةً شقية والغبار المنبعث من تلك المناورة التي تنظر صاحبها وهب وبين التداخل الوقتي المختلط بين الصالة التي يعمل بها وهب بعد حارس المقبرة بوصفهم الغربان السود الذين يمتصون أعوادًا من القصب في الديوانية "القدو"، وتلك كانت إحدى مهامه في صغره.

لقد استرجع المؤلف الذكريات مع الملاية وصرامة عصاها التي وفرت مخرجات معرفية كما يقول الكاتب، وهنا يسترسل الكاتب في الأثر النفسي الذي وقع عليهم في وفاة الصديق العزيز أحمد وهو في التاسعة من عمره بسبب أمراض تلك الحقبة. واصل وهب حرفته مع (أم رزاق) في الطب الشعبي الذي ينسب إلى ابن سينا، لكنه يكتشف الجانب السري لـ (أم وهب) وهو عالم الجنّ والأرواح الشريرة الجالبة للمشكلات والأمراض، لكنه تأثر بهذه الأرواح والأسطرة التي خدعت بها الناس في الحي، مما جعله لا ينظر إلى المرآة لفترة من الزمن اعتقادًا بأنّ روحها تحوم حول البيت وتجول في غرفته محاولة التلبس في صورته.

لقد نسج الكاتب كاظم خليفة المجموعة القصصية معتمدًا فيها على ذكاء القارئ حتى يدفعه إلى النتيجة التي يهدف إليها من وجهة نظر أدبية التي مثلت الكاتب، ليدوّن كلمات وتأملات عن الحياة وشعورها، لكنّها تمثل شعور كاتبها استوحاها من الثقافة الشعبية التي أحاطته يوم كان طفلًا وشابًا، مكونًا مشهدًا آخر من جمال القصة التي تستحقّ أن تكون في الصفوف الأولى للقصص العالمية التي تستدعي الانتباه لهذا الكاتب مع السرد النصي الأخير واصفًا جدته واحتفائها بأوراق السدر بعد تجفيفها وسحقها وخلطها بالماء، إذ تعتقد الجدة أنّ شجرة السدر مباركة وأمان من الشياطين معتقدة بأنّ الأرواح الطيبة تغفو فوق أغصانها، تمتمات قليلة تنجده من المراد.

مع الوداع شعر الراوي أنّ وهب قيمة إنسانية ما زالت راسخة في الحالة الروحية. اقترنت هذه القصة مع ست وعشرين قصة ذهبية في العنوان السريالي الذي أضاء للمؤلف "مائل بخط الرقعة". إنّها حزمة الكاتب التي تجلّت بعناوين مختلفة، سهلة القراءة، ممتعة، لا تستلزم الكثير من الجهد والتركيز وإنّما يكفي تتبع الأحداث لمعرفة نهاية كلّ قصة، وسوف يكتشف القارئ أجمل النصوص المبتكرة في عالم الأدب.

***

فؤاد الجشي

 

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

أنتج ثلاثة شعراء رواد من سلوفينيا في النصف الثاني من القرن الماضي البواكير الأولى للهايكو باللغة السلوفينية، وهم (فلاديمير جاجيك ومارت أوجين وإيزتوك جيستر). أما أول ترجمة للهايكو الكلاسيكي الياباني إلى السلوفينية فكان على يد الشاعر (مارت أوجين) الذي ترجم عدة إضمامات من هذا الشعر وفقا ل (ألنكا زورمان) التي نشرت مقالها القيم بعنوان (مشهد الهايكو السلوفيني) في العدد (12) من مجلة (شمروك) المعنية بالهايكو في ايرلندا وبقية بلدان العالم، وكان العدد المذكور مخصصا للهايكو السلوفيني. وهي شاعرة هايكو معروفة عالميا. ولدت عام 1947. كتبت الهايكو منذ عام 1999. صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان (فراشة على الكتف). نشرت قصائدها في مختلف الصحف والمجلات والدوريات المحلية والأجنبية. منحت عدة جوائز. رئيسة نادي الهايكو في سلوفينيا. وقد شهد عام 1996 ولادة أول مجلة مختصة بالهايكو السلوفيني تحت اسم (بريجاتيلج – الصديق – تومو باللغة اليابانية) على شاكلة مجلة (أزامي) الصادرة في (أوساكا)، وقد صدرت منها حتى عام 1998 سبعة أعداد، وتضمنت (747) قصيدة هايكو و(29) مقالة وغيرها. وفي عام 1997 أسس أول نادي للهايكو في سلوفينيا، وقد إنتسب اليه بالتدريج بين (30 – 40) شاعر هايكو سلوفيني. ومن كتب الهايكو القيمة الصادرة بالسلوفينية كتاب (بركة الصمت: مختارات من الهايكو السلوفيني) الذي حرره الشاعر والكاتب وصانع الأفلام المعروف (ديميتار أناكييف) المولود في عام 1960 وصاحب (11) مجموعة هايكو. وهو مؤسس مشارك لجمعية الهايكو العالمية وحائز على ميدالية (فرانز كافكا) التي تمنح للأفراد والمؤسسات لإبداعهم الفني أو لمساهمتهم في الفن على نطاق العالم، وجائزة متحف هايكو للأدب في اليابان وجائزة الاستحقاق السنوية لجمعية الهايكو الامريكية والجائزة الوطنية السلوفينية لأفضل فيلم وثائقي وغيرها. وهكذا ازداد انتشار الهايكو في سلوفينيا قراءة وكتابة، وبدأت قصائد الهايكو السلوفينية تظهر في الصحف والمجلات والمواقع الأوروبية والعالمية مع اشتراك الشعراء في المسابقات الشعرية داخل وخارج البلاد. والان يدرس الهايكو في المدارس والجامعات وتقام له دورات وورش عمل في مختلف المدن السلوفينية للترويج له وللوقوف على قواعده وأسسه.علما انعقد في (تولمين – سلوفينيا) المؤتمر العالمي الأول لجمعية الهايكو العالمية في 8 أيلول 2000 بمشاركة (60) شخصا، للوقوف على شعر الهايكو وتبادل التجارب الشعرية في هذا المجال.

1 – آدم سوليجوج

خراب بلون أبيض

في جناح المستشفى –

برد الشتاء

*

دار مهجورة

تسكنها شجرة تين

أخيرا

*

بريق الثلج –

ثعلب يبتسم متربصا

في نهاية مسارات الأرانب

2 – تاتيانا جامليك

بعيد تساقط الثلوج

تسود السكينة في الصباح

و ظلال أجنحة الغربان

3 – سبيلا لوفيتشيك

على الطرف الآخر أيضا...

تجفف الاطيار أجنحتها

فوق قوس قزح

4 – بولونا أوبلاك

الغربان

طالما كان العالم

صورة ظلية

*

غير مرئي

و لاذع أيضا

نبات القراص

*

تنساب من خلال

ضوء الشمس الخافت،

تغريدة الشحرور

*

رذاذ مطر بارد

الكلب الذي أراد الخروج

يعود أدراجه

5 – أنيكا بيديتش

قوس قزح يتشكل –

تزحف البزاقة على إمتداد القناة

بإزاء الأوراق الرطبة

6 – يانيز مردافشتيش

همود النهر

تغفو البجعة

على ذروة الغمامة البيضاء

7 – سيلفا ميزريت

وعاء متروك

معبأ بماء المطر –

صورة قوس قزح

*

فتاة كسيحة

في المرجوحة

صرختها الطويلة الحادة

*

أوراق شجر متساقطة...

تزداد السماء إتساعا يوما بعد يوم

من تحت هذه الأشجار

*

لم يزل

الطائر العابر

يرى نفسه في البركة

8 – ألنكا زورمان

بحثا عن الديدان المتوهجة -

الصبي المتطفل

يستخدم شعلة

*

في الصباح البارد

ثمة حافلة تغطيها

ملصقات مارلين مونرو*

*

العناز في الزريبة

الغيوم تسيرها الرياح

بإزاء خط الأفق**

*

لحس البوظة

تضيف اليها الريح

الطعم المالح

*

صباح ضبابي

تشرق الشمس

عندما أشتري أزهار دوار الشمس

*

الغسيل الجاف -

المنشفة التي على شكل سمكة

ما برحت رطبة

*

مساء قائظ

أنفاسه

النسمة الوحيدة

*

دعسوقة***

على بلوزتي الحمراء

لا تكاد ترى

*

فرملة الحافلة

اقترب أكثر

من شخص غريب

*

شارع مبلل

خطوات محترسة

فوق النوافذ المضاءة

*

بعيد الاختصام

يملأ صوت المطر

الفراغ الذي يفصلنا

*

قبيل العاصفة

طفل وشبكة صيد الفراش

إصطياد الرياح

*

مياه مد ضحلة

بحيرة

فقط في روايتي

*

تساقط أوراق الشجر

أعد الطيور التي لم تهاجر

بعد

*

ورقة شجر في المقبرة

همسات الريح، لا غير

أغنية حزينة

*

ورقة شجر في المقبرة

همسات الريح، لا غير

أغنية حزينة

9 – رودي روبيتش

على سطح مهترىء

تغطيه الطحالب الندية،

ثمة غراب صامت

*

أنظر مليا إلى هذا العصفور الخائف

و هو يخرج طائرا

من بئر لم يعد فيها ماء

*

يبني الطائر المغرد

عشه الدافىء

في خوذة عتيقة

10 – ماريجان ماكو

أزهار شجرة المشمش

و ندف الثلج...

توقف النحل عن الزيارة

11 – جوز فولريتش

جز العشب –

أبو الحناء فوق غصن الشجرة

ينتظر أن أنهي عملي

12 – ايفانكا كونستانتينو

الحجر الصحي

رنين الهاتف

عوضا عن جرس الباب

13 - ديميتار أناكييف

مراسيم تأبين –

ريح الربيع

مغطاة بعلم

14 – بويان فورشيك

شجرة صنوبر وحيدة

تلامس تخوم المدينة

فعلا

15 – زفونكا بيزجاك

شمس لاهبة

مظلة مهملة

وحيدا جدا على السلالم

16 - سامو كروتز

محطة القطار –

يشاهد ضوء الفجر

بين كومة الامتعة

*

يحدق

و لم يحدق إلى السماء

لاجئ حرب

*

أبواب منزل أمي

مفتوحة على مصراعيها –

أريج الورد

*

ربع قمر

أول وآخر كلمة

نطقت بها

*

سماء خالية من القمر

النجوم الساطعة

في تهليل أمي

*

تعمل أمي بدوام كامل

راعية صغار

البط

17 – ديميتري سكرك

يتوهج كل القرع الموجود في الحقل

تحت ضوء القمر

ثمة قرع واحد في الماء

***

....................................

مارلين مونرو: ممثلة ومغنية أمريكية (1926 – 1962). *

** خط الأفق: أو الأفق الهندسي، خط وهمي يفصل السماء عن الارض، أي تلتقي فيه السماء مع السطح الظاهر للأرض.

* الدعسوقة: حشرة صغيرة، لها لون أحمر مرجاني أو برتقالي مع وجود نقاط سوداء.

- مترجمة عن الإنكليزية: -

1 – Haiku from Ireland and the rest of the world. Shamrock Haiku Journal. Issue No. 12. https: // shamrockhaiku. webs. com

2 – Haiku – Alenka Zorman – Slovenian haijin – tempslibres. https: // www. tempslibres. org

3 – Haiku Competitions 2022. www. gimvic. org

4 – World Haiku Series 2022 (3) Haiku by Alenka Zorma. https: // akitahaiku. com

5 – Meeting Report on the World Haiku Conference in Tolmin. https: // www. worldhaiku. net

6 – The Essence of Haiku. https: // poetrysociety. org. nz

7 – dimitar anakiev I Balkan haiku – Basho’s Road – Outlaw Poetry. https: // bashosroad. outlawpoetry. com

8 – Haiku Dialogue – Literary Devices – repetition / parallelism. https: // thehaikufoundation. org

9 – Haiku Dialogue – Simply a Place to Dwell (1). https: // thehaikufoundation. org

10 – Haiku Dialogue – Simply Precipitation (1). https: // thehaikufoundation. org

11 – Haiku Dialogue – Under The March Moon – Half Moon (1). httos: // thehaikufoundation. org

12 – Haiku Dialogue – Under The March Moon – New Moon (1). https: // thehaikufoundation. org

13 – Haiku Dialogue – Avian Adventures – Favorite Moments in Birding. https: // thehaikufoundation. org

14 – the results pf the 3rd haiku contest on theme Gourds – Tri rijeke. https: // tri – rijeke. hr

15 – European Kukai. Rssing. com. https: // kukai2. rssing. com

[email protected]

أثارت رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاتيرلي" الجدل والنقاش منذ نشرها في عام 1928. وفي قلب هذه الرواية استكشاف الأخلاق والأعراف المجتمعية، لا سيما في سياق الحب والرغبة والعلاقات. إن تصوير لورانس للعلاقة بين السيدة كونستانس تشاترلي وحارس الطرائد في المزرعة، أوليفر ميلورز، يتحدى الأفكار التقليدية للأخلاق ويتحدى القراء للتشكيك في معتقداتهم حول ما هو صواب وما هو خطأ. طوال الرواية، يثير لورانس أسئلة مثيرة للتفكير حول طبيعة الأخلاق والقيود التي يفرضها المجتمع على الأفراد. إن صراع الليدي تشاتيرلي مع التوقعات المجتمعية وحبها المتزايد لميلورز يدفع القراء إلى التفكير في الجوهر الحقيقي للأخلاق وما إذا كان ينبغي أن تمليها قوى خارجية أو ضمير الفرد. إن استكشاف لورانس لهذه المواضيع في "عشيق السيدة تشاتيرلي" يدعو القراء إلى التفكير في تعقيدات العلاقات الإنسانية والطرق التي يؤثر بها المجتمع على فهمنا للصواب والخطأ.

الأفكار الرئيسية

1. إن استكشاف التوقعات المجتمعية والقيم الأخلاقية في رواية عاشق السيدة تشاتيرلي يدفع القراء إلى التشكيك في جمود المعايير التقليدية.

وصحة قمع رغبات الفرد من أجل الامتثال. 2. يتحدى دي إتش لورانس الأخلاق التقليدية في عصره من خلال تصوير بطل الرواية، كونستانس تشاتيرلي، كامرأة تجرأت على تحدي الأعراف المجتمعية واتباع قلبها في السعي لتحقيق الإنجاز

الشخصي والسعادة.

3. من خلال شخصيات كونستانس وميلورز وكليفورد، يتعمق لورانس في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية.

4. تثير الرواية أسئلة مثيرة للتفكير حول طبيعة الأخلاق، وأهمية النزاهة الشخصية، وأهمية تنمية الروابط الإنسانية الحقيقية المبنية على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم.

5. من خلال تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات والمعضلات الأخلاقية، يشجع لورانس القراء على التفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم، مما يدفع إلى فحص أعمق للبوصلة الأخلاقية التي توجه أفعالهم وقراراتهم في الحياة.

التفاصيل

1. إن استكشاف التوقعات المجتمعية والقيم الأخلاقية في رواية عشيق السيدة تشاتيرلي يدفع القراء إلى التشكيك في جمود المعايير التقليدية وصحة قمع رغبات الفرد من أجل الامتثال.

في رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاتيرلي"، يلعب استكشاف التوقعات المجتمعية والقيم الأخلاقية دورًا مركزيًا في تشكيل قرارات وأفعال الشخصيات. من خلال العلاقات المعقدة والصراعات الداخلية للأبطال، يتحدى لورانس جمود المعايير التقليدية ويدعو القراء إلى التشكيك في صحة قمع رغبات الفرد من أجل الامتثال. تتصارع شخصية كونستانس تشاترلي، على وجه الخصوص، مع التوقعات المجتمعية المفروضة عليها كامرأة في عصرها. وباعتبارها عضوًا في الطبقة العليا، يُتوقع منها الالتزام بقواعد سلوك معينة والوفاء بواجباتها كزوجة وأم. ومع ذلك، تجد كونستانس نفسها غير محققة ومختنقة بسبب قيود حياتها المميزة ولكن المقيدة. إن انجذابها المتزايد إلى حارس الطرائد، أوليفر ميلورز، يجبرها على مواجهة المحرمات الثقافية المحيطة بالطبقة والجنس، مما يؤدي بها في النهاية إلى تحدي الأعراف التي تملي سلوكها. وبالمثل، فإن ميلورز نفسه هو شخصية تتحدى التوقعات المجتمعية وتشكك في القيم الأخلاقية المفروضة عليه. باعتباره رجلًا من الطبقة العاملة، تنظر إليه الطبقة الأرستقراطية على أنه أقل شأنًا وفظًا، ومع ذلك فهو يجسد إحساسًا بالأصالة والحيوية يتناقض بشكل حاد مع سطحية أقران كونستانس من الطبقة العليا. من خلال علاقته مع كونستانس، يتحدى ميلورز هي والقارئ لإعادة تقييم مفاهيمهم المسبقة عن الطبقة والأخلاق والأعراف المجتمعية. في عشيق السيدة تشاتيرلي، يستكشف دي إتش لورانس ببراعة التوتر بين الرغبات الفردية والتوقعات المجتمعية، مما يدفع القراء إلى النظر في عواقب قمع الذات الحقيقية من أجل التوافق مع الضغوط الخارجية. من خلال تسليط الضوء على تعقيدات العلاقات الإنسانية والفروق الدقيقة في الأخلاق، يدعونا لورانس إلى التشكيك في صحة المعايير التقليدية واحتضان الحرية التي تأتي من اتباع حقائقنا الداخلية.

تجرأت بطلة الرواية، كونستانس تشاترلي، كامرأة تجرأت على تحدي الأعراف المجتمعية واتبعت قلبها في السعي لتحقيق الإنجاز الشخصي والسعادة.

في رواية "عشيق السيدة تشاتيرلي"، يقدم دي إتش لورانس لقرائه بطلة الرواية، كونستانس تشاتيرلي، التي تجرؤ على تحدي الأخلاق التقليدية في عصرها. في ظل مجتمع جامد وحكمي، تبرز كونستانس كامرأة ترفض التوافق مع التوقعات المجتمعية وتختار بدلاً من ذلك أن تتبع قلبها سعياً لتحقيق الإنجاز الشخصي والسعادة. يصور لورانس كونستانس على أنها امرأة تجد نفسها في زواج بلا حب مع زوج مشلول من الخصر إلى الأسفل. تشعر كونستانس بالعزلة والحصار في بيئة خانقة، وتبدأ بالتوق إلى شيء أكثر في حياتها. عندما تلتقي بحارس الطرائد، أوليفر ميلورز، تنجذب إلى رجولته الخام وطبيعته غير الاعتذارية. على الرغم من الاختلافات في أوضاعهما الاجتماعية، تبدأ كونستانس في علاقة عاطفية مع ميلورز، متحدية معايير مجتمعها والمخاطرة بكل شيء من أجل فرصة الحب الحقيقي والوفاء. من خلال شخصية كونستانس، يتحدى لورانس الأخلاق في عصره من خلال التشكيك في صحة المعايير المجتمعية التي تمنع الأفراد من تحقيق رغباتهم الخاصة وإيجاد السعادة بشروطهم الخاصة. إن رحلة كونستانس نحو اكتشاف الذات وتحقيق الذات هي بمثابة بيان قوي ضد قيود المجتمع، مما يشجع القراء على التشكيك في المعايير الأخلاقية الراسخة التي قد تمنعهم من العيش بشكل أصيل وإيجاد السعادة. من خلال تصوير كونستانس كامرأة تجرؤ على تحدي التوقعات المجتمعية وتتبع قلبها، يدعو لورانس قراءه إلى النظر في أهمية الاستقلال الفردي والسعي لتحقيق الإنجاز الشخصي في مواجهة الضغوط المجتمعية. إن شجاعة كونستانس التي لا تتزعزع وتصميمها على أن تعيش حياتها وفقًا لشروطها الخاصة هي بمثابة شهادة على فكرة أن السعادة الحقيقية لا يمكن تحقيقها إلا عندما يكون المرء صادقًا مع نفسه ويتبع قلبه، بغض النظر عن أحكام الآخرين وتحيزاتهم. في الختام، يتحدى دي إتش لورانس الأخلاق التقليدية في عصره من خلال شخصية كونستانس تشاتيرلي، وهي امرأة تجرأت على تحدي الأعراف المجتمعية واتبعت قلبها في السعي لتحقيق الإنجاز الشخصي والسعادة. من خلال رحلة كونستانس نحو اكتشاف الذات وتحقيق الذات، يشجع لورانس قرائه على التشكيك في قيود المجتمع واحتضان حرية العيش بشكل أصيل والسعي وراء سعادتهم.

3. من خلال شخصيات كونستانس وميلورز وكليفورد، يتعمق لورانس في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية.

في رواية دي إتش لورانس، عشيق الليدي تشاتيرلي، تجسد شخصيات كونستانس وميلورز وكليفورد نسيجًا غنيًا من المعضلات الأخلاقية، والصراعات الشخصية، والتوقعات المجتمعية. من خلال تفاعلاتهم ورحلاتهم الفردية، يتعمق لورانس في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية. تجد كونستانس، السيدة الفخرية، نفسها ممزقة بين مسؤولياتها كزوجة لكليفورد المعاق وتوقها إلى الإشباع العاطفي والجسدي. بينما تشرع في علاقة عاطفية مع ميلورز، حارس الطرائد في المزرعة، تتصارع كونستانس مع الأعراف المجتمعية التي تملي دورها كامرأة والتوقعات التي يضعها عليها زوجها والمجتمع ككل. يرسم لورانس صورة دقيقة لكونستانس، ويسلط الضوء على اضطرابها الداخلي وهي تتنقل بين المتطلبات المتضاربة للواجب والرغبة. من ناحية أخرى، يمثل ميلورز تناقضًا صارخًا مع كونستانس وكليفورد. كرجل من الطبقة العاملة منفصل عن زوجته، يجسد ميلورز إحساسا بالحرية والأصالة التي يجدها كونستانس مغرية. إن رفضه للأعراف المجتمعية والتزامه بالعيش وفقا لشروطه الخاصة هو بمثابة إحباط لوجود كونستانس المقيد. من خلال ميلورز، يستكشف لورانس فكرة الفاعلية الشخصية والسعي للتعبير عن الذات في مواجهة القيود المجتمعية. يقف كليفورد، زوج كونستانس، في تناقض صارخ مع كل من كونستانس وميلورز. بعد إصابته بالشلل من الخصر إلى الأسفل بعد الحرب العالمية الأولى، يكافح كليفورد لتأكيد رجولته والحفاظ على سلطته على زوجته. تكشف مرارته وشعوره بالاستحقاق عن حدود التوقعات المجتمعية والطرق التي يمكن من خلالها خنق النمو الشخصي والتواصل الحقيقي. من خلال كليفورد، يؤكد لورانس على أهمية الأصالة والقوة الشخصية في مواجهة الشدائد. في عاشق السيدة تشاتيرلي، يتنقل لورانس ببراعة في تعقيدات المسؤولية الأخلاقية، والحرية الشخصية، والسعي وراء التعبير الحقيقي عن الذات من خلال الرحلات المتشابكة لكونستانس وميلورز وكليفورد. من خلال استكشاف تعقيدات العلاقات الإنسانية، والتوقعات المجتمعية، والنضال من أجل تحقيق الذات، يدعو لورانس القراء إلى التفكير في طبيعة الأخلاق والطرق التي يتنقل بها الأفراد في تحديات العيش بشكل أصيل في عالم مليء بالقيود.

4. تثير الرواية أسئلة مثيرة للتفكير حول طبيعة الأخلاق، وأهمية النزاهة الشخصية، وأهمية تنمية الروابط الإنسانية الحقيقية المبنية على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم.

في رواية دي إتش لورانس "عشيق السيدة تشاتيرلي"، يعد استكشاف الأخلاق موضوعا رئيسيا يثير أسئلة مثيرة للتفكير حول جوهر القيم الإنسانية، والنزاهة الشخصية، وجودة العلاقات الإنسانية. من خلال الشخصيات وعلاقاتها المعقدة، يتعمق لورانس في تعقيدات المعضلات الأخلاقية، والتوقعات المجتمعية، والسعي وراء السعادة الحقيقية. في قلب الرواية تكمن العلاقة بين السيدة كونستانس تشاترلي وحارس الطرائد زوجها أوليفر ميلورز. تتحدى هذه العلاقة غير المشروعة المفاهيم التقليدية للأخلاق وتثير تساؤلات حول طبيعة الحب والرغبة والسلامة الشخصية. بينما تعبر الليدي تشاتيرلي عن مشاعرها تجاه ميلورز، فإنها تواجه القيود المجتمعية التي تملي عليها أفعالها وقراراتها، مما يجبرها على إعادة تقييم إحساسها بالأخلاق والأصالة. من خلال شخصيات السيدة تشاتيرلي وميلورز، يؤكد لورانس على أهمية تنمية الروابط الإنسانية الحقيقية القائمة على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم. وتتجاوز علاقتهما الأعراف والتقاليد المجتمعية، وتسلط الضوء على القوة التحويلية للحب والتواصل في تشكيل البوصلة الأخلاقية للفرد. من خلال احتضان رغباتهم وعواطفهم الحقيقية، تسعى الليدي تشاتيرلي وميلورز إلى العيش بشكل أصيل ومتوافق مع قيمهم الأعمق، بغض النظر عن أحكام وانتقادات الآخرين. في الرواية، يتحدى لورانس القراء للتفكير في طبيعة الأخلاق وأهمية النزاهة الشخصية في التعامل مع تعقيدات العلاقات الإنسانية. وهو يدعونا إلى التشكيك في التوقعات والأعراف المجتمعية، ويحثنا على إعطاء الأولوية للصلات الإنسانية الحقيقية القائمة على الاحترام المتبادل والتعاطف والتفاهم. في نهاية المطاف، تعد رواية "عشيق السيدة تشاتيرلي" بمثابة تذكير مؤثر بأهمية احتضان ذواتنا الحقيقية، وتنمية العلاقات الهادفة، والعيش بشكل أصيل في عالم يتطلب غالبا الامتثال والتضحية.

5. من خلال تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات والمعضلات الأخلاقية، يشجع لورانس القراء على التفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم، مما يدفع إلى فحص أعمق للبوصلة الأخلاقية التي توجه أفعالهم وقراراتهم في الحياة.

في عشيق السيدة تشاتيرلي، يتعمق دي إتش لورانس بمهارة في الصراعات الداخلية والمعضلات الأخلاقية التي تواجهها الشخصيات، مما يمهد الطريق للقراء للتفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم. من خلال التصوير المعقد للديناميكيات المعقدة بين كونستانس وكليفورد وميلورز، يدفعنا لورانس إلى التشكيك في بوصلتنا الأخلاقية والتفكير في المبادئ التي توجه أفعالنا وقراراتنا في الحياة. رحلة كونستانس، على وجه الخصوص، تجبر القراء على مواجهة التوقعات المجتمعية الصارمة والقواعد الأخلاقية التي غالبا ما تملي حياتنا. بينما تتنقل خلال زواجها من كليفورد المشلول وعلاقتها المزدهرة مع حارس الطرائد ميلورز، تتصارع كونستانس مع مشاعر الواجب والرغبة والتحرر في النهاية. يرسم لورانس صورة مؤثرة لصراع كونستانس الداخلي، ويدعو القراء إلى النظر في الطرق التي يمكن أن تتصادم بها الأعراف المجتمعية والتطلعات الشخصية، ويتحدىنا للتفكير في الخيارات التي نتخذها سعياً لتحقيق السعادة الشخصية والإشباع الشخصي. وبالمثل، فإن شخصية كليفورد بمثابة تناقض صارخ مع ميلورز، حيث تجسد قيود الأخلاق التقليدية والضغوط المجتمعية. إن إحباطاته ومرارته تجاه قيوده الجسدية واستقلال كونستانس المتزايد تجبر القراء على دراسة عواقب إعطاء الأولوية للتوقعات المجتمعية على القيم والرغبات الشخصية. من خلال قوس شخصية كليفورد، يحثنا لورانس على تقييم الطرق التي نتنقل بها في التوازن الدقيق بين التوقعات الخارجية والقناعات الداخلية، مما يدفعنا إلى التشكيك في التضحيات التي نقوم بها من أجل التوافق مع الأعراف المجتمعية. يعتبر ميلورز، بأصالته التي لا تخجل وازدراءه للاتفاقيات المجتمعية، بمثابة منارة للوضوح الأخلاقي في عالم يخيم عليه النفاق والقمع. إن التزامه الذي لا يتزعزع بالحياة بشكل أصيل يتحدى القراء لمواجهة معضلاتهم الأخلاقية الخاصة والنظر في الجوهر الحقيقي للأخلاق - ليس كمجموعة من القواعد الصارمة، ولكن كانعكاس لرغباتنا وقيمنا العميقة. بينما يشهد القراء كفاح ميلورز للتوفيق بين حبه لكونستانس وإحساسه بالواجب والأخلاق، فإننا نشجعنا على فحص الطرق التي نتنقل بها عبر تعقيدات العلاقات والنزاهة الشخصية. في جوهر الأمر، فإن استكشاف لورانس للأخلاق في رواية عاشق الليدي تشاتيرلي يتجاوز مجرد تصوير صراعات الشخصيات ومعضلاتها - فهو بمثابة مرآة يمكن للقراء من خلالها التفكير في معتقداتهم وقيمهم وسلوكياتهم. من خلال إثارة فحص أعمق للبوصلة الأخلاقية التي توجه أفعالنا وقراراتنا في الحياة، يتحدانا لورانس لتنمية فهم أعمق لأنفسنا والخيارات التي نتخذها في السعي لتحقيق السعادة والوفاء.

في الختام، تستكشف رواية دي إتش لورانس "عاشقة السيدة تشاترلي" الطبيعة المعقدة والمتغيرة باستمرار للأخلاق في المجتمع. من خلال تطوير شخصية كونستانس وميلورز، يتحدى لورانس المفاهيم التقليدية للصواب والخطأ، ويقدم بدلاً من ذلك صورة دقيقة للعلاقات الإنسانية والرغبات. في النهاية، تشير الرواية إلى أن الأخلاق الحقيقية لا تكمن في التوافق مع التوقعات المجتمعية، بل في اتباع إحساس الفرد بما هو صواب وعادل. كقراء، نحن مجبرون على مواجهة معتقداتنا وقيمنا، والنظر في الطرق التي نتعامل بها مع المعضلات الأخلاقية التي تنشأ في حياتنا. تُعد عشيق الليدي تشاتيرلي بمثابة تذكير قوي بأن الأخلاق ليست دائما أبيض وأسود، بل هي تجربة شخصية وذاتية عميقة تتطلب الاستبطان واكتشاف الذات.

***

محمد عبد الكريم يوسف

.............................

المراجع

Lady Chatterley's Lover, DHLawrance

 

في بناءٍ هندسيّ – فكريّ، تسوحُ بنا رواية (بين بغداد وظلّي)، لأصنّفها ضمن الروايات السايكولوجية،لما فيها من تشظٍّ لا (ازدواجية) شخصية بل تناسل وتفريخ لشخصيات في شخصية واحدة، وارتباطات في شبكية معقدة من الروابط والعلاقات.

بين جذبٍ وطردٍ عاطفي، بين جنون وعقل، تنتصبُ نظريات (سيجموند فرويد) فلا تقوى على الوقوف والصمود أمام العاهات النفسية والظواهر الجمعية المشوشة حيناً والملغّزة داخل الرواية. في الرواية يكون لكل شخصية ظلال لا ظل واحد، تتشظى الذات البشرية بحكم الحروب وما أفرزته من قحط وفقر ولصوصية و(حواسم)، و(عشوائيات)، ورموز جديدة تطول وتتقزم ظلالها بين فترة وأخرى، لم يكن (الظّل) عند الشخصية صورة واضحة الملامح بل تكاد أن تكون زئبقية، فتكون طفلا أو كهلا...

الازدواجيات المتعددة في الرواية تبدأ:

الصورة الأولى للظل: من ذات الكاتبة، فمن تتبعي لكتاباتها، فللمرة الأولى تكون ظلاّ للذكورة (لرجل)، وتحمل نَفَساً طويلاً في لعب هذا الدور وتحس وتتحرك وتتنقل الألفاظ والعبارات بصيغ رجولية بعيداً عن خطابها الأنثوي الذي يتحرك في رواياتها السابقة وتكون هي منْ تحمل وتبني الحبكة وتصاعد الحدث .

الصورة الثانية: الظلال الأخرى التي تتصارع تارةً، وتضع الهدنة ما بينها تارةً أخرى في صورة البطل (الصحفي) حيث ينشطر الى ( قاسم/مناضل/ مناضل صالح/ المفقود)، بل أن ظلّهُ يتغير من صيغة الى أخرى وبأشكال كأنه أواني مستطرقة.

تقرأ الرواية للوهلة الأولى سهلةً، تستطيع أن تركبَ موجتَها، وتفكَّ مفاتيحَ شفراتها، لبساطة العبارة والانتقاء للمفردة الواضحة المفهومة للمتلقي، لكن بعد حين تصطدم بصورٍ تجعلك تعيد النظر والتقدير في المفاهيم وأسس بناء الرواية. هي ليست مقالاً صحفياً، للبطل (الصحفي)، وليست انعكاس لكتابة تقريرية تُعرضُ كأنها شريطا سينمائيا أو تلفازياً لصورة وطن.

حالات السرقة والنهب، والاختلاس، والأفعال المشينة للحصول على الكراسي، وشراء الذمم والأصوات، ونهب الثروات، والتدمير المتعمد للبناء الأخلاقي فالبنى التحتية، هل هي منْ سبّبت أمراضنا وعللنا، وهذا التشظي، أم أن التشظي هو الذي سبّب هذا الخراب؟؟

الصورة الثالثة للظل: الازدواجيات المتعددة، جاءت نتيجة لأزمات وحروب طاحنة، أدّت الى انهيار الذات، وتعدّد الصور في الواقع والخيال مما تؤدي الى فقدان وانعدام الاستقرار والخوف والقلق. وفي الصورة الثالثة نجد سبب انشطارها وغثيانها صورة الفقد، وهي صورة (الشاب الروسي سيفاكس). واضطرابه النفسي وانعزاله عن العالم وعن أهله( أمه).

الصورة الرابعة للظل: التشظي لظلال الموسيقى بين (العود) وآلة ( البالا لايكا) و(الغيتار) و(الساكسفون). عزفٌ على مقام (الصبا) تنشطر الأوتار فالنغمات لتولد بصيغٍ مختلفة في قنوات موسيقية هي الأخرى أصابتها أمراض نفسية، لأنها تخرج من النّفس، وهذه النّفس تُدخل في الآلة هذا الانشطار والخوف والقلق .

الصورة الخامسة: ظلال العائلة، العائلة التي كانت تُبنى بنظامٍ سليمٍ، وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمعات، كيف بناها (قاسم/ مناضل) من أناس مشردين (العجوز –مسعود، الأطفال- جواهر وهمام، الشابة- جميلة). ظلالٌ غير متناسقة وتحل كل ذات منها تاريخ من الألم والعاهة المستديمة في الفقد بكل أشكاله.

الصورة السادسة: ظلال الفن التشكيلي والنحت: امتدت في ثنايا الرواية صور توصف المقتنيات والنّصب في ساحات ومتاحف (بغداد) و(موسكو) و(باريس)، ظلالها تاريخ وقصة كبيرة فالمنحوت له ظلال، والفنانون (النحّاتون) لهم ظلالهم فيما تركوا من أثر وفكرة، في بغداد كان ( جواد سليم / محمد غني حكمت/ خالد الرّحال)، وظلال أعمالهم(نصب الشهيد/ الجندي المجهول/ نصب الحرية/ الفانوس السحري..)، وظلال الفنانين الروس (أندريه روبيلوف/ألكسندر ايفانوف/ فاسيلي سوريكوف).

الصورة السابعة: ظلال المكان: لبغداد ظلالها التي تلاحقها أيضا، فتكون فقيرةً تارةً، في أحياء شعبية، ومناطق لا تصمد بوجه الأمطار ولا تحمي ناسها من جمر الصيف، وظلال في قصور فارهة خدماتها (VIP) . بين صور قبحٍ وجمال، ونقاءٍ وزيف، .. بين عقول ونفوس تتوق لوطنٍ معافى، وعقول خاوية لا تعرف إلا الهدم طريقاً لبقائها. ذئاب تستحوذ على المدينة، تنهش كل شيء.

الصورة الثامنة: ظلال الملابس: للملابس حكايات في الرواية، ولكل ملبس حوار وظلال تلقي بفكرتها على الآخر، فالآخر أصبح آخرين , الملابس والعطور عند رجال الصدفة هل تخفي تشوّهاتهم الأخلاقية؟ -ص12، الظل يلبسُ (البيجامة)-ص 17، والظل في شراء ملابس لشخصين بنفس المقاس –ص42،

وصورٌ أخرى لظلالٍ تتشابك وتتحاور في ظلال الصفحات وبين السطور، لكنك حين تقرأها لا تتوه بل هي إشارتٌ تُدلّكَ على الطريق الذي يوصلك الى الدلالة .

الرواية عمودها الظلال، والمكان، وفقراتها الصحافة ودورها في كشف الحقيقة، وبناء مجتمعٍ جديد واعٍ لقضيته وبقضيته.

الخاتمة: رسالة الرواية، أننا نعيش زمن الظلال التي تحرّكنا، علاقات شبكية كأشباح، لكن هذا (الصحفي) ملتزم بقضيته، وتضعه الكاتبة هو بريق الأمل والمنقذ للآتي من الزمن، بقلمه وفكره، ونقله للوقائع، وأن يقف مع المظلومين، الصحافة سلاحٌ ماضٍ بوجه المتسلطين الذين أمسكوا به لتمرير أكاذيبهم وللتدليس وإخافة الناس وإضعافهم. تضعنا الروائية في مصحتها لغرض العلاج النفسي، لأن في كلّ متلقي ظلال عليه أن يستجمع ذاته ويوّحد قراره وخطابه ليرى الوطن صورةً أجمل.رواية تفتح نوافذ لمستقبلٍ آتٍ تُنبيء به الكاتبة بأن القادم أفضل.

***

د. وليد جاسم الزبيدي

في مسرحية ويليام شكسبير "أنتوني وكليوباترا"، تلعب السياسة دورا مركزيا في تشكيل مصائر الشخصيات الفخرية والإمبراطورية الرومانية الأوسع. تقع أحداث المسرحية على خلفية العالم القديم، وتتعمق في ديناميكيات القوة المعقدة والتحالفات والصراعات التي تحدد المشهد السياسي في ذلك الوقت. بينما يناور أنطوني وكليوباترا وأوكتافيوس قيصر من أجل السيطرة والنفوذ، فإن أفعالهم لا تؤثر فقط على علاقاتهم وطموحاتهم الشخصية، بل لها أيضا عواقب بعيدة المدى على استقرار الإمبراطورية الرومانية ومستقبلها. المواضيع السياسية التي تم استكشافها في "أنتوني وكليوباترا" غنية ومتعددة الأوجه، وتقدم رؤى حول تعقيدات القيادة والولاء والخيانة. قرارات واستراتيجيات الشخصيات مدفوعة بمزيج من الرغبات الشخصية والحسابات الإستراتيجية وثقل التقاليد والتوقعات. بينما يبحر أنتوني وكليوباترا في مياه السلطة الغادرة، يجب عليهما مواجهة شبح الخيانة الدائم وتغير الولاءات، مما يسلط الضوء على الطبيعة الهشة للتحالفات السياسية والطبيعة القاسية للطموح في عالم حيث السلطة في حالة تغير مستمر. من خلال تفاعلاتهم وخياراتهم، يدرس شكسبير ببراعة عواقب المكائد السياسية والخسائر التي تلحقها بكل من الأفراد والإمبراطوريات.

الأفكار الرئيسية

1. يتميز المشهد السياسي المعقد في عهد أنطوني وكليوباترا بتحول التحالفات والصراع على السلطة بين الحكام الرومانيين الثلاثة، أوكتافيوس قيصر، وماركوس أنتوني، وليبيدوس.

2. تتشابك الطموحات السياسية والعلاقات الشخصية للشخصيات الرئيسية، وخاصة أنتوني وكليوباترا، مع الصراع الجيوسياسي الأوسع بين روما ومصر.

3. يسلط تصوير شكسبير للسلطة السياسية في المسرحية الضوء على موضوعات الولاء والخيانة وعواقب تحقيق رغبات الفرد السياسية على حساب العلاقات الشخصية.

4. إن النظامين السياسيين المتناقضين في روما ومصر، مع قيم الواجب والمتعة الخاصة بكل منهما، يشكلان بمثابة خلفية لدراسة التوترات بين البراغماتية السياسية والرغبات الفردية.

5. في نهاية المطاف، يمكن النظر إلى سقوط أنطونيو وكليوباترا باعتباره قصة تحذيرية حول مخاطر إعطاء الأولوية للإشباع الشخصي على المسؤولية السياسية، والعواقب المترتبة على الاستسلام لإغراءات السلطة والطموح.

1. يتميز المشهد السياسي المعقد في عهد أنطوني وكليوباترا بتحول التحالفات والصراع على السلطة بين الحكام الرومانيين الثلاثة، أوكتافيوس قيصر، وماركوس أنتوني، وليبيدوس.

في مسرحية ويليام شكسبير "أنتوني وكليوباترا"، يندفع الجمهور إلى عالم من المؤامرات السياسية المعقدة والصراع على السلطة. في قلب المسرحية تكمن العلاقات المعقدة بين الثلاثي الروماني - أوكتافيوس قيصر، وماركوس أنتوني، وليبيدوس. هؤلاء الرجال الثلاثة، الذين اتحدوا ذات يوم في اتفاق لحكم روما معًا، يجدون أنفسهم الآن على خلاف بينما يبحرون في مياه السياسة والطموح الغادرة. يمثل أوكتافيوس قيصر، القائد الذكي والمحسوب، تجسيدا لقوة روما الإمبراطورية. إن تصميمه الذي لا يتزعزع على تعزيز سيطرته على الإمبراطورية الرومانية هو الذي يقود الكثير من الصراع في المسرحية. في المقابل، يجد ماركوس أنتوني، الذي كان في السابق جنرالا عظيما ورفيقا موثوقا لقيصر، نفسه ممزقا بين ولائه لروما وشغفه بكليوباترا، ملكة مصر الغريبة. تعكس صراعات أنتوني الداخلية الصراعات الخارجية التي تهدد بتمزيق الثلاثي. تم تصوير ليبيدوس، العضو الثالث في الثلاثي، على أنه زعيم ضعيف وغير فعال، ويمكن التلاعب به بسهولة من قبل نظرائه الأكثر قوة. إن وجوده بمثابة تذكير بالطبيعة الهشة للتحالفات السياسية وميزان القوى المتغير باستمرار في روما. طوال المسرحية، يتم تشكيل التحالفات وكسرها، ويتم اختبار الولاءات، وتكثر الخيانات حيث تتنافس كل شخصية على السيطرة والنفوذ. تتميز الديناميكية بين الثلاثي بعدم الثقة والخداع، حيث يخططون ويتآمرون للتغلب على بعضهم البعض في سعيهم إلى التفوق. في نهاية المطاف، يعد المشهد السياسي المعقد في "أنتوني وكليوباترا" بمثابة خلفية لموضوعات أكبر مثل الحب والولاء والطبيعة المدمرة للطموح. وبينما تتنقل الشخصيات في مياه السلطة والسياسة المضطربة، يضطرون إلى مواجهة عواقب أفعالهم والتضحيات التي يجب عليهم تقديمها في السعي لتحقيق أهدافهم. في هذا العالم الذي يتسم بالتحالفات المتغيرة والصراعات على السلطة، لا أحد في مأمن من مكائد السياسة القاسية.

2. تتشابك الطموحات السياسية والعلاقات الشخصية للشخصيات الرئيسية، وخاصة أنتوني وكليوباترا، مع الصراع الجيوسياسي الأوسع بين روما ومصر.

في مسرحية ويليام شكسبير "أنطوني وكليوباترا"، تتشابك الطموحات السياسية والعلاقات الشخصية للشخصيات الرئيسية، وخاصة أنطوني وكليوباترا، بشكل معقد مع الصراع الجيوسياسي الأوسع بين روما ومصر. إن علاقة الحب بين أنتوني، أحد حكام روما الثلاثة، وكليوباترا، ملكة مصر، بمثابة حافز للصراع على السلطة بين الحضارتين القديمتين. إن تورط أنطوني مع كليوباترا لا يضع ضغطا على تحالفاته السياسية مع روما فحسب، بل يسلط الضوء أيضًا على الصراع بين واجبه تجاه الإمبراطورية ورغباته الشخصية. كعضو في الثلاثي إلى جانب أوكتافيوس قيصر وليبيدوس، فإن أنتوني ممزق بين ولائه لروما وحبه لكليوباترا. علاقته بالملكة المصرية تتحدى سلطة روما وتهدد استقرار الإمبراطورية، مما يؤدي في النهاية إلى مواجهة بين قوات أوكتافيوس قيصر وقوات أنتوني وكليوباترا. وبالمثل، تُستخدم علاقة كليوباترا الشخصية بأنطوني كأداة لتعزيز طموحاتها السياسية. من خلال تحالفها مع أنطوني، تسعى كليوباترا إلى تأمين منصبها كحاكمة لمصر وحماية مملكتها من الغزو الروماني. إن حبها العاطفي لأنطوني ليس فقط مصدرًا للوفاء العاطفي، ولكنه أيضًا خطوة استراتيجية لاكتساب القوة والنفوذ في المشهد السياسي المتقلب للعالم القديم. إن تشابك العلاقات الشخصية والطموحات السياسية في "أنتوني وكليوباترا" هو بمثابة نموذج مصغر للصراع الجيوسياسي الأوسع بين روما ومصر. تصبح علاقة الحب بين أنطوني وكليوباترا رمزا للصراع بين الشرق والغرب، فضلاً عن انعكاس لتعقيدات ديناميكيات السلطة والولاءات الشخصية في العالم القديم. من خلال العلاقة بين أنتوني وكليوباترا، يستكشف شكسبير تعقيدات السياسة والقوة والعاطفة، ويسلط الضوء على الطرق التي يمكن من خلالها للرغبات الشخصية أن تشكل مسار التاريخ وتؤثر على مصائر الأمم.

3. يسلط تصوير شكسبير للسلطة السياسية في المسرحية الضوء على موضوعات الولاء والخيانة وعواقب تحقيق رغبات الفرد السياسية على حساب العلاقات الشخصية.

في مسرحية شكسبير أنتوني وكليوباترا، كان تصوير السلطة السياسية بمثابة موضوع رئيسي يتعمق في تعقيدات الولاء والخيانة وعواقب إعطاء الأولوية للطموحات السياسية على العلاقات الشخصية. من خلال شخصيات أنطوني وكليوباترا وأوكتافيوس قيصر، يوضح شكسبير ببراعة الديناميكيات المضطربة والمعضلات الأخلاقية التي تنشأ عندما يواجه الأفراد المطالب المتضاربة للسياسة والولاءات الشخصية. يواجه أنتوني، حاكم روما الثلاثي، التحدي المتمثل في الموازنة بين واجباته تجاه الدولة وحبه العميق لكليوباترا، ملكة مصر. يتم اختبار ولائه لروما باستمرار حيث يجد نفسه ممزقا بين مسؤولياته السياسية ورغبته في أن يكون مع كليوباترا. في سعيه لتحقيق السعادة الشخصية، يضحي أنتوني بتحالفاته ويخون قيصر في النهاية، مما يؤدي إلى سقوطه. إن تصوير شكسبير لصراع أنطونيو بين الولاء للدولة والولاء لحبيبته يؤكد على الطبيعة المعقدة للسلطة السياسية وتأثيرها على العلاقات الشخصية. وبالمثل، تم تصوير كليوباترا على أنها حاكمة قوية وماكرة ترغب في التلاعب بالآخرين للحفاظ على قبضتها على السلطة. علاقتها مع أنتوني محفوفة بالخيانة والخداع لأنها تتلاعب به لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بها. على الرغم من حبها لأنطوني، أدت تصرفات كليوباترا في النهاية إلى وفاته، مما يسلط الضوء على عواقب إعطاء الأولوية للرغبات السياسية على العلاقات الشخصية. إن تصوير شكسبير لكليوباترا بمثابة حكاية تحذيرية من مخاطر السعي إلى السلطة السياسية على حساب الثقة والولاء. ومن ناحية أخرى، يمثل أوكتافيوس قيصر وجهة نظر متناقضة للسلطة السياسية، فهو يعطي الأولوية لطموحاته السياسية قبل كل شيء. إن نهج قيصر القاسي والمدروس في السياسة يسلط الضوء على عواقب وضع السلطة والهيمنة على العلاقات الشخصية. تُظهر خيانته لأنطوني وكليوباترا الطبيعة المدمرة للطموح السياسي والتأثير الذي يمكن أن يحدثه على العلاقات. بشكل عام، يسلط تصوير شكسبير للسلطة السياسية في مسرحية أنتوني وكليوباترا الضوء على موضوعات الولاء والخيانة وعواقب إعطاء الأولوية للرغبات السياسية على العلاقات الشخصية. إن صراعات الشخصيات مع الولاءات المتضاربة والمعضلات الأخلاقية بمثابة تذكير مؤثر بالتعقيدات والتعقيدات الأخلاقية التي تصاحب السعي إلى السلطة السياسية. من خلال شخصيات أنطوني وكليوباترا وأوكتافيوس قيصر، يقدم شكسبير استكشافا مثيرا للتفكير للتوترات المستمرة بين السلطة السياسية والعلاقات الشخصية.

4. إن النظامين السياسيين المتناقضين في روما ومصر، مع قيم الواجب والمتعة الخاصة بكل منهما، يشكلان بمثابة خلفية لدراسة التوترات بين البراغماتية السياسية والرغبات الفردية.

في مسرحية شكسبير أنتوني وكليوباترا، تلعب الأنظمة السياسية المتناقضة في روما ومصر دورا حاسما في تشكيل تصرفات الشخصيات وعلاقاتها. إن روما، باعتبارها مثالاً للواجب والنظام، تقدر البراغماتية السياسية والولاء والمسؤولية قبل كل شيء. ومن ناحية أخرى، تجسد مصر عالما من البذخ والمتعة والانغماس، حيث يسود السعي وراء الرغبات الفردية. ويظهر التوتر بين هذين النظامين السياسيين واضحا في شخصيتي أنطوني وكليوباترا. أنتوني، كجنرال روماني، ممزق بين إحساسه بالواجب تجاه روما وحبه الساحق لكليوباترا. ويسلط صراعه الضوء على الصراع بين البراغماتية السياسية والرغبات الشخصية، حيث يضطر إلى الاختيار بين مسؤولياته كقائد ورغبته في أن يكون مع كليوباترا. ومن ناحية أخرى، تمثل كليوباترا قيم مصر، حيث يتم إعطاء الأولوية للمتعة والرفاهية قبل كل شيء. إنها رمز للشهوانية والعاطفة، وغالبا ما تتعارض رغباتها الفردية مع توقعات دورها كملكة. إن عدم قدرة كليوباترا على التوافق مع المعايير الصارمة للمجتمع الروماني يزيد من تعقيد الديناميكيات السياسية في المسرحية، حيث غالبا ما يُنظر إلى تصرفاتها على أنها تهديد لاستقرار الإمبراطورية الرومانية. من خلال تجاور روما ومصر، يستكشف شكسبير التفاعل المعقد بين البراغماتية السياسية والرغبات الفردية. تعمل التوترات بين الواجب والمتعة، والولاء والعاطفة، والنظام والفوضى، كخلفية للعلاقات المعقدة وصراعات السلطة التي تتكشف في المسرحية. في نهاية المطاف، يؤكد النظامان السياسيان المتناقضان في روما ومصر على الموضوعات العالمية المتمثلة في الطموح والولاء والحب والخيانة، ويسلطان الضوء على الصراع الأبدي بين الرغبات الشخصية والحقائق السياسية.

5. في نهاية المطاف، يمكن النظر إلى سقوط أنطونيو وكليوباترا باعتباره قصة تحذيرية حول مخاطر إعطاء الأولوية للإشباع الشخصي على المسؤولية السياسية، والعواقب المترتبة على الاستسلام لإغراءات السلطة والطموح.

في مسرحية "أنطوني وكليوباترا" نشهد السقوط المأساوي لحاكمين قويين يستسلمان لرغباتهما الشخصية ويهملان مسؤولياتهما السياسية. أنتوني، وهو جنرال روماني محترم، ينشغل بحبه لكليوباترا، ويسمح لشغفه أن يحجب حكمه. من ناحية أخرى، تعطي كليوباترا الأولوية لمتعتها ورفاهيتها على رفاهية مملكتها، مما يؤدي إلى اضطرابات سياسية وكارثة في نهاية المطاف. ويخدم سقوطهم كقصة تحذيرية حول مخاطر وضع الإشباع الشخصي فوق المسؤولية السياسية. إن قرار أنطوني بالتخلي عن واجباته كقائد ليكون مع كليوباترا لا يضعف موقفه فحسب، بل يقوض أيضا استقرار الإمبراطورية الرومانية. وبالمثل، فإن تثبيت كليوباترا على رغباتها الخاصة يعميها عن احتياجات شعبها، مما يؤدي إلى صراع داخلي وتهديدات خارجية تؤدي في النهاية إلى سقوطها. علاوة على ذلك، تصور المسرحية عواقب الاستسلام لإغراءات السلطة والطموح. كل من أنتوني وكليوباترا مدفوعان بالتعطش للسيطرة والهيبة، مما يؤدي في النهاية إلى اتخاذ قرارات متهورة تؤدي إلى زوالهما. إن جوعهم الذي لا يشبع إلى السلطة يعميهم عن حقائق أوضاعهم، ويجعلهم يتجاهلون التحالفات والولاءات التي كان ينبغي عليهم رعايتها من أجل الحفاظ على مواقعهم في السلطة. وفي النهاية، فإن المصير المأساوي لأنطوني وكليوباترا بمثابة تذكير واقعي بمخاطر الغطرسة والأنانية في الساحة السياسية. ويسلط سقوطهم الضوء على أهمية الموازنة بين الرغبات الشخصية والمسؤوليات السياسية، وضرورة الانتباه إلى العواقب المترتبة على تصرفات المرء على نطاق أوسع. في نهاية المطاف، يعد "أنتوني وكليوباترا" بمثابة حكاية تحذيرية حول مخاطر إعطاء الأولوية للإشباع الشخصي على الواجب السياسي، والثمن الباهظ الذي يدفعه الأفراد عندما يستسلمون لإغراءات السلطة والطموح.

في الختام، فإن تصوير شكسبير للسياسة في أنتوني وكليوباترا بمثابة استكشاف مقنع لديناميات السلطة، والولاء، وتعقيد العلاقات الإنسانية. من خلال تصوير التفاعل المعقد بين الرغبات الشخصية والطموحات السياسية، يدعونا شكسبير إلى التفكير في عواقب الطموح غير المنضبط وتوازن القوى داخل الهياكل السياسية. من خلال المواضيع الخالدة والتوصيفات الدقيقة، يظل كتاب أنتوني وكليوباترا بمثابة فحص خالد ومثير للتفكير للتأثير الدائم للسياسة على الحياة الشخصية والعالم ككل.

***

محمد عبد الكريم يوسف

......................

المرجع

Anthony and Cleopatra, William Shakespeare

شروحات أساتذتي الكرام أثناء دراستي الجامعية

إن مضامين قصائد ديوان (زنابق السنين) للشاعر د. بهجت عباس الشعرية العمودية، قد انزاحت الى تناول قضايا مهمة في الشأن السياسي والديني للحقب السوداء المتعاقبة على تاريخ العراق السياسي، التي مرت على العراق، ودفعته الى حافة العواصف الهوجاء، التي تميزت في انحراف البوصلة خلال أكثر من ستة عقود عجاف، تجرع كأس الحنظل في المخاطر الجسيمة، التي لعبت في مصير الوطن والانسان الى حافة الانزلاق والتصادم العنيف بين الفرق السياسية. القصائد الشعرية برعت في صياغة القصيدة العمودية على وقع أنغامها وبحورها الشعرية في إيقاعات موسيقية مختلفة الترنم والترتيل، في لغة شعرية سلسة ورشيقة وواضحة، بحيث تتحرك بوهج الفعل المتجسد من أتون هذه الحقب السوداء، التي مرغت الوطن في المستنقع العكر، عقود عجاف، وتجرع مرارة معاناتها المتشظية، في معالم البطش والاستبداد والطغيان في اتجاهات مختلفة، ولم ينقطع نزيف الدموي منذ آنذاك ولحد واقعنا الحاضر. القصائد الشعرية تمتلك الرؤية الفكرية الناضجة في الإحساس الذاتي الصادق، وتمتلك وضوح الرؤية، هذا الوضوح أتاح فتح معالم القصائد في الاتساع والاشعاع، من افرازات هذه الحقب السوداء، في مراحلها العاصفة على ايقاعات تراجيدية مأساوية، ولم تغب السخرية والاستهجان والألم والحزن والغضب والاحتجاج، من هذا النزيف الدموي. الذي لم ينقطع نزيفه من جسد العراق، من الظلم والحرمان والإرهاب ومآتم الموتى بالمجان، في الانحراف البوصلة السياسية والدينية من السيء الى الاسوأ، في الانزلاق السياسي، وتمزيق الهوية الوطنية والاجتماعية في هذه المراحل العجاف. وقصائد الديوان الشعري ( زنابق السنين) تشكل وثيقة بيانية صارخة للأحداث الملتهبة التي مرت على تاريخ الوطن. منذ ان سرقوا أجهضوا ثورة الشعب في ارتكاب سفك الدماء والمجازر ومشانق الموت في الشوارع والساحات، في اغتيال عهد الجمهوري الوليد، الذي جاء ليضع العراق على سكة السلامة في الازدهار والتطور. وعبر الشاعر عن فرحته بهذا الحدث الكبير في تاريخ العراق بقصيدة (ثورة الشعب). وترنمت على ايقاع صدى الشعبي الواسع الذي فرح في انطلاقة الثورة.

 يا ثورةَ الشعبِ، صُبِّي وابلَ الغضبِ

وحطِّمي كلَّ فـكـرٍ شـاردٍ جدِبِ

*

وقوِّضي كلَّ ما يَبـنونَ مـن عُرُشٍ

فقد أبَـوْا أنْ يسـيرَ الركبُ بالأرَبِ

*

وحطِّمـي كلَّ بـاغٍ من خسـاستـه

أنْ يقذفَ الشعبَ بالأهـوال والكُرَبِ

 لكن مسيرة الثورة انتكست وخابت الاحلام والامال، واجهضت انطلاقة الثورة في مهدها. وضاعت فرحة الشعب، فقد عصفت بها عاصفة هوجاء اقتلعتها من الجذور. من المغامرين المأجورين. الذين عملوا في الظاهر والخفاء على اغتيال الثورة وغرقها بالدماء. من احد المتهورين الذين حط على رأسه طير السعد، ليمتطي الموجة صولجان الحكم والنفوذ، وما شخصية (حمدي) هي رمزية لكل طاغٍ ومستبد يضع نفسه الاله الاعظم والشعب عبيد تابع له، يؤدي فروض الطاعة والمهانة والذل، بالتلويح بالقبضة الحديدية في البطش والتنكيل لكل من يخرج من طاعته.

وربَّ عبدٍ كان يُدعى حمدي

 حطَّ على رأسه طيرُ السعدِ

*

فراح يبدي العنفَ والتحـدّي

وينظر الناسَ بعـين الحقدِ

*

واختار في الدنيا طريقَ الكيدِ

 يُـعلّل النفسَ بأغلى صـيْدِ

*

فلَطَمتـْه كفّ دهـرٍ وغْـدِ  

فصار قرداً من قرود الهنـدِ

*

صـيَّره الزمان حَيْـزبونـا

يبـتدع الفنـونَ والشجونا

*

وينهـش البائسَ والمسـكينا

ويحسَـبُ العبادَ مارقيـنا

*

والناسَ، إنْ لمْ تُصغ،ِ خاسرينا

لا يفـهم اليسارَ واليميـنا

*

لا يُـدرك الظاهرَ والمكـنونا

وإنَّ في الغيب له شؤونـا

 صناعة الدكتاتور وخلقه هي من ارادة الشعب وصنعه بنفسه لنفسه. في بادئ الأمر كان للتسلية والملهاة وانتهى بالتراجيديا المأساوية، حين صنعوا دمية التنين، وصلوا ودعوا الرب ان يبث الروح في دمية التنين، وحين استجاب الرب الى دعواتهم وصلواتهم في بث الروح في التنين، وتحركت روحه واستقام له الحال والمقام، وبعد ذلك جرعهم المر وجعلهم يتلوعون بنار جهنم. فدعوا الله في صلواتهم أن يسلب الروح من هذا التنين الوحش، فلم يستجب لهم، وأخذ التنين يرقص فرحاً ويقهقه زهواً على غبائهم وسذاجتهم.

صنـعـوا مـن الطِّـين تـنّـيـناً للهوهمْ.

صلَّـوْا ودَعـَوْا ربَّـهم أنْ يبعثَ فيه الروحَ، فـفعـل.

فلما دبَّـت الحياةُ فـيه، انـقـضَّ عليهم فهـربوا.

ولما دخـل بـيوتَهـم، هـجروها ونـاموا في العَـراء.

أخذوا يصلّـونَ ويـدعون الربَّ أنْ يسلبَ الروحَ منه، فأبى!

أخذ التِّـنّـينُ يـُقَـهْـقِـه وهـم يُـوَلـوِلـون!

لقد أصبحت نعمة النفط نقمة ودمار ولهيب تحرق الشعوب وتدميرها، أن تكتوي بالنيران، بدلاً أن تكون نعمة رخاء ورفاه وسعادة. حدث العكس، فقد أصبح النفط نقمة ومعاناة، فقد فتح بابواباً عريضة لحيتان الفساد وحاشيتهم في النهب واللصوصية في وضح النهار، ويحرمون الشعوب من خيراته. أصبحت موارد المالية الضخمة مرتعاً لتنافس والنفوذ على الغنائم الحصص بين أصحاب الجاه والنفوذ. فقد اصبح الذهب الأسود مصدر الشقاء والبؤس وعدم الامان والاستقرار، وأصبح مصدر للحروب والنعرات والفتن.

 يـا نفط بـلْ يا لهبُ أأنتَ حقّــاً ذهبُ؟

أشـقيتـَنا أحرقـتـَنا جعـلـتـَنا نـنـتـحـب ُ

*

أغـريتَ كلَّ طـامعٍ بنهبِ ما لا يُنهَبُ

وكـلَّ سـفـّاح ٍ أثـيـم ٍ دمَـــنــا يسـتـعــــذب ُ

*

دعـوتَـهمْ لأرضـنا لبّـَوْا فكان الشَّجَـب ُ

قد خلقـوا أبـشـعَ وحــش ٍ شـهدتـه الحِـقَـبُ

*

ونَصَّـبوا حاشـيـة ً ذئـابُ غـاب ٍ تـثـب ُ

وخـلفـه أزلامـُـــه لا خـُلُــق ٌ، لا أدبُ

وتضمن الديوان الشعري بعض الرباعيات المتفرقة، التي تملك صياغة شعرية وتعبيرية مبهرة في الصورة والدلالة تجسد الواقع في كل مجرياتها المنحرفة عن جادة الصواب، بأن هذه الدنيا من صنع البشر، حينما يعلو الجهل والأوهام والخرافة، الى المراتب العليا، والوعي الثقافي والفكري الى المراتب السفلى، ماذا تكون نتيجة أفعال الدنيا والحياة ؟.

 هذه الدّنيـا صنعــناهـا بأيـديــنـا كـئيـبـة

ورفعنـا الجَّهـلَ والأوهامَ أعلاماً رهيـبة

*

وتركـنـا العقـلَ يستـهدي بآراءٍ مُـريـبـــة

فزرعنا الموتَ والأحقادَ في أرض خصيبة

وكذلك تضمن الديوان الشعري على بعض الخماسيات ذات الاشطر الخمسة، بارعة الصياغة والتعبير في دلالتها البليغة عن حقيقة الواقع للطبقة السياسية الحاكمة للعهد الجديد، التي تملك السلطة والنفوذ والمال الوفير.

 يلعب اللصّ ُبقوتِ الشَّعب والرأسُ عِـمامـة

وجـهـُه ينضح حـقـداً وخداعـاً ولآمـة

فَمـُه يلهـجُ بالحمـد فقـد نـال مـرامَـه

أهوَ الدّيـن الذي أرخـى على العقـل غمامة؟

أم هُـوَ الشَّيطانُ قد سلَّـمَ للشَّيـخ زمامَـه؟

***

 جمعة عبدالله

 

فالقُطَّبِيّاتُ فالذَّنُوبُ

        أَقْفَر منْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ

بنيت المعلقة على (مجزوء البسيط) (مستفعلن فاعلن مستفعلن) باستخدام كل الزحافات لكل تفعيلة منها، الا ان العروضيين حسبوها على (مخلع البسيط) (مستفعلن فاعلن فعولن) الذي لم يسمح – حسب افتراض الخليل – الا بدحول الزحاف على (مستفعلن الاول) ولزحافين فقط هما (الخبن والطي). فلم يسمح بدخول (الخبل). وجعل الخليل التفعيلة الثالثة (مستفعلن) مقطوعة مخبونة وجوبا فتحولت الى (فعولن). أما الشاعر فاستخدم كل الزحافات الداخلة على (مستفعلن) الاولى (الخبن والطي والخبل)، واستخدم الخبن مع التفعيلة الثانية (فاعلن) واستعمل مع مستفعلن الثانية (القطع وحده، والقطع مع الخبن).

موسيقيا، القصيدة موزونه ورائعة الموسيقى. وهذا أول رأي يقرأ القصيدة قراءة صحيحة ذوقيا وعروضيا، فكل السابقين رأوها مضطربة مكسورة قال الخاديان (يجفو عنها السّمع وتضطرب في الذوق) وقال ابن رشيق (ومنه قبيح مردود لا تقبل النفس عليه، كقبح الخلق واختلاف الأعضاء في الناس وسوء التركيب، مثله قصيدة عبيد المشهورة: (أقفر من أهله ملحوب) فإنها كادت تكون كلاماً غير موزون بعلة ولا غيرها، حتى قال بعض الناس: إنها خطبة ارتجلها فاتزن له أكثرها. وقال أبو العلاء المعري (وزنها مختلف وليست موافقة لمذهب الخليل في العروض) ، وقال الأخفش الأوسط (وفي الشعر الرّمل، وهو عند العرب عيبٌ. وهو ممّا تسمّي العرب. وهو كلّ شعر مهزول ليس بمؤلّف البناء. ولا يحدّون في ذلك شيئاً. وهو نحو قول عبيد: (أقفرَ من أهلهِ ملحوبُ فالقطّبيّاتُ فالذَّنوبَ). وقال ابن سنان الخفاجي (ومن المناسبة أيضاً: التناسب في المقدار وهذا في الشعر محفوظ بالوزن فلا يمكن اختلاف الأبيات في الطول والقصر فإن زاحف بعض الأبيات أو جعل الشعر كله مزاحفاً حتى مال إلى الانكسار وخرج من باب الشعر في الذوق كان قبيحاً ناقص الطلاوة، كقصيدة عبيد بن الأبرص: (أقفر من أهله ملحوب). وقال ابن سلام الجمحي: (وعبيد بن الأبرص، قديم، عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله: (أقفر من أهله ملحُوبُ فالقُطَبِيَّاتُ فالذنوبُ) ولا أدري ما بعد ذلك).

وهذه الاراء الصادرة عن كبار رجال العلم والادب كلها خاطئة لانها تابعت الخليل ووقعت تحت تأثير عروضه، ولم تستشعر الموسيقى الصحيحة التي لم يخرج الشاعر فيها عن (مجزوء البسيط) ومن ثم لم يعطوا لانفسهم وهم واقعون تحت تأثير الانقياد والسير الاعمى وراء الخليل فرصة تذوق موسيقاها والحكم عليه شخصيا.

القصيدة حسب رواية الجمهرة تتألف من (49) بيتأ، جاء (12) بيتا منها متفقا مع عروض (مخلع البسيط) الذي حدده الخليل بنفاعيل (مستفعلن فاعلن فعولن)، و(12) بيتا خارج عروض الخليل ولكنه ضمن (مجزوء البسيط) (مستفعلن فاعلن مستفعلن). وجاء (25) بيتا يخلط بين العروضين.

فمن الابيات الى وافقت عروض الخليل:

للماءِ مِن تَحتِهِ سُكوبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

أو جَدْوَلٌ في ظِلالِ نَخلٍ

مستفعلن فاعلن فعولن

*

أنّى؟ وقَد راعَك المَشيبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

تَصبُو وأنّى لكَ التّصابي؟

مستفعلن فاعلن فعولن

*

وغائِبُ المَوْتِ لا يَؤُوبُ

متفعلن فاعلن فعولن

وكلّ ذي غَيْبَةٍ يَؤُوبُ،

متفعلن فاعلن فعولن

*

أو غانمٌ مِثْلُ مَنْ يَخيِبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

أَعَاقِرٌ مِثْلُ ذاتِ رِحْمٍ؟

متفعلن فاعلن فعولن

*

وسَائِلُ اللَّهِ لا يَخيبُ

متفعلن فاعلن فعولن

مَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ يَحْرِمُوه

مستفعلن فاعلن فعولن

ومن الابيات الى خالفت عروض الخليل ولكنها وافقت عروض مجزوء البسيط باستخدام كل زحافات تفاعيله قوله:

وكلّ ذي أملٍ مَكذُوبُ

متفعلن فعلن مستفعل

فكلّ ذي نِعْمَةٍ مَخْلُوسٌ

متفعلن فاعلن مستفعل

*

وكلّ ذي سَلَبٍ مَسْلُوبُ

متفعلن فعلن مستفعل

وكلّ ذي إبِلٍ مَوْرُوثٌ،

متفعلن فعلن مستفعل

*

والقَوْلُ في بَعْضِهِ تَلغيبُ

مستفعلن فاعلن مستفعل

باللَّهِ يُدْرَكُ كلُّ خَيْرٍ،

مستفعلن فعلن فعولن

*

ـ دَّهْرُ، ولا يَنْفَعُ التَّلِبيْبُ

مستعلن فاعلن مستفعل

لا يَعظُ النّاسُ من لا يعظُ الـ

مستعلن فاعلن مستعلن

*

طُولُ الحَياةِ لَهُ تَعْذِيبُ

مستفعلن فعلن مستفعل

والمَرْءُ ما عاشَ في تكذيبٍ

مستفعلن فاعلن مستفعل

*

ومن الابيات التي جمعت العروضين:

فالقُطَّبِيّاتُ فالذَّنُوبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

أَقْفَر منْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ

مستعلن فاعلن مستفعل

*

فَذاتُ فِرْقَينْ فالقَليبُ

متفعلن فاعلن فعولن

فَرَاكِسٌ فَثُعَيْلِباتٌ

متفعلن فعلن فعولن

*

والشّيبُ شَينٌ لمن يَشيبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

إمّا قَتيلٌ وإمّا هَالِكٌ،

مستفعلن فاعلن مستفعلن

*

كأنّ شَانَيْهِما شَعيبُ

متعلن فاعلن فعولن

عَيْنَاكَ دَمْعُهُما سَرُوبُ

مستعلن فعلن فعولن

*

مِن هَضَبَةٍ دونَها لُهُوبُ

مستفعلن فاعلن فعولن

واهِيَةٌ أو مَعينٌ مُمعِنٌ

مستعلن فاعلن مستفعلن

ولهذا تكون معلقة عبيد بن الابرص سليمة موسيقيا وعروضيا، وعلى المثقفين وطلاب العلم أن يقرؤوها قراءة حرة هذه المرة بعيدة عن تأثير القراءة الخاطئة المخطّئة لتعود القصيدة الى مكانها ومستواها اللائق يسن المعلقات.

***

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

تعد الحواس الخمس من أهم الأدوات التي تمكننا من إدراك ما حولنا؛ فهي العتبة الأولى نحو العالم الخارجي، بتلك الحواس يقيم شاعر الهايكو شراكة فاعلة بين عالمه الداخلي ومحيطه البيئي؛ فتحدث اللحظة الجمالية. ينقل الهايكو، كونه مشهدا حسيا في الأساس، تجربة الشاعر الإنسانية المعاشة من خلال شغف الحواس الخمس: البصر، السمع، اللمس، التذوق، والشم. تسهم الحاسة البصرية بالنصيب الأكبر والأهم في إدراك العالم، يليها السمع، مع ذلك لا غنى عن الحواس الأخرى لفهم العالم بشكل تام. يقوم الهايجن بدور المراقب عبر حواسه لينقل تجربته المشتركة دون أن يبوح بمشاعره التي أثارتها تلك التجربة. يؤكد هذه الحالة مقولة جوزيف كونراد: "إن فن الكتابة يجعلك تسمع وتشعر، وقبل كل شيء ترى"، التي تشير إلى أهمية الوعي، الناتج عن الإدراك المفاجئ للحقائق الكامنة في الوجود، في نشوء شرارة العملية الإبداعية.

ما يميز كاتب الهايكو عن غيره من كُتَّاب الأنماط الشعرية الأخرى قدرته الاستثنائية في استخدام حواسه لتشكيل صورة أو صورتين متجاورتين تنقلان جوهر التجربة الإنسانية بكلمات غاية في الإيجاز، وأحيانا عبقريته في تجاوز هذه التجربة عبر إحداث صدى جمالي أو وميض أو إحساس مفعم بالدهشة.

أمامنا خمسة نصوص لتلميذ باشو، كيكاكو، استطاعت، عبر الحواس الخمسن، تحقيق جمالية الاستنارة (حالة الوعي بالعالم):

(1)

غروب الشمس

فراشة ترفرف

وسط المدينة

(2)

طائر الدخلة

يتشقلب

أغنية العالم الجديد

(3)

متعرضا للطعن

في حلم يبدو واقعا

مسارات البراغيث

(كيكاكو)

(4)

جنبا إلى جنب

مع عربة تجميع السماد

أزهار الكرز الجبلية

(5)

عند بوابة العشب

ألتهم فلفل الماء -

يراعة!

The Haiku Foundation[1]

يعرض النص الأول لوحة حسية واضحة المعالم، تعتمد بشكل أساسي على الحاسة البصرية. تمكننا الألوان المتنوعة في اللوحة رؤية غروب الشمس.، كما يمدنا كيغو الفراشة بألوانها الفاتنة بصورة الموسم. يحدث تآلف حاستي الصوت والحاسة البصرية من خلال رفرفة الفراشة، فيشكل لوحة شعرية نابضة وزاخرة بالألوان والحياة.

في النص الثاني هناك مشهد مفعم بالحيوية والحركة ( شقلبة طائر الدخلة )، يلفت انتباه الرائي، لكن غاية النص في الأساس هي التركيز على أغنية الطائر التي استرعت الحاسة السمعية لدي كيكاكو.

في النص الثالث يصلنا إحساس الشاعر، من خلال حاسة اللمس، (الحكة الناتجة عن قرصة البراغيث)، حيث كان عالم الحشرات جزءا عاديا من الحياة اليومية في اليابان آنذاك. نجح الشاعر في تجسيد معاناته مع تلك الحشرات، لا سيما أن هاجس الخوف والإحساس بالمعاناة تسللا إلى الشاعر في حلمه، فأصبح الألم في الحلم لا يقل حدة عن الواقع.

في نص (4) يوظف الشاعر حاسة الشم من خلال الجمع بين رائحتي روث البهائم وأزهار الكرز البرية، في محاولة منه لنقل صورة واقعية تتشكل من عالمين مختلفين (الجمال والقبح)، وهي ذات الطريقة التي انتهجها معلم الهايكو في كثير من أعماله الخالدة. بالطبع هناك حواس أخرى فاعلة بالنص كحاسة البصر، لكن الحاسة السمعية، على الآكد، هي المهيمنة على جو النص.

في النص الأخير تبدو حاسة التذوق جلية، حيث يتناول كيكاكو عشبة لاذعة وحارة للغاية تسمى "فلفل الماء". ينتقل إحساس الشاعر إلى القارئ، وقد يصل حد القشعريرة، لكن كلمة "ألتهم" قد تخفف هذه الحدة، فهي تشي بتقبل الشاعر لطعم هذه النبتة اللاذعة.

أخذ باشو موسيقى أشعاره المبكرة من كلمات وإيقاعات الـ"كوتا"، وهي أغان شعبية كانت سائدة في عصره. أدى التركيز على الشكل الموسيقي بشكل كبير إلى افتقار هذه الأشعار إلى العمق والإبداع الفني، لكن خفتت تلك الخاصية في الكثير من الأعمال اللاحقة مع تعميق وتطوير جمالية الكارومي. ذات مرة قال باشو لتلاميذه: "القصيدة الجيدة في نظري هي التي يبدو فيها شكل النص واتصال جزئيه خفيفين كنهر ضحل يتدفق فوق قاعه الرملي". هكذا أدرك باشو أن الموسيقى الخفيفة والخفية يمكنها أن تحقق جودة الشعر وعمق التجربة بدلا من الإيقاعات الصاخبة. في نص البركة الشهير يجمع باشو بين عدة حواس في صورة شعرية متآلفة المشاهد تتميز بالانسياب الموسيقي:

بركة قديمة

ضفدع يقفز . . .

صوت الماء

يعرض النص ثلاثة أنواع من المشاهد تتفاوت فيما بينها ما بين الثبات والحركة والصوت: (1) سكون صورة البركة، (2) حركة الضفدع في قفزته الديناميكية، (3) صوت تدفق المياه الضحلة في البركة. هكذا تتشكل الصورة السمعية عبر الصوت الناتج عن قفزات الضفدع في الماء وحركة تيارات الماء الصافية وتموجاتها الهادئة. يعكس إيقاع الصور في النص إحساسا بأهمية اللحظة التي نعيشها، ومدى تناغمنا مع أبسط الأشياء التي تقدمها لنا الحياة.

تلك التقنية التي استخدمها باشو يطلق عليها "تحول الحواس"، وهي بمثابة انتقال مفاجئ يؤدي إلى إبهار القارئ، وإحداث صدى في ذهنه. انتقل الشاعر من المرئي في المشهد الأول ( البركة القديمة وصورة الضفدع وهو يقفز فيها)، ولم يستمر المشهد في تصوير التفاصيل المرئية، لكنه فاجأنا بانتقاله إلى السمعي "صوت الماء"، وعن طريق تقنية التجاور "التوريوازة" الناجحة، استطاع باشو ربط عناصر القصيدة ليقدم نصا غاية في التماسك والإدهاش.

يقول الشاعر السوري ماهر حرامي في النص التالي:

شفتاها ترتجفانِ

إذ تدنو من أصابعي:

قطةٌ مبلّلة.

اعتمد الهايجن على حاستي السمع والبصر لخلق مجموعة متنوعة من الحالات المزاجية والمشاعر والعواطف. أسهمت حاسة البصر، وهي أكثر الحواس شيوعا في الهايكو، في تكوين المشهد وتصور موقع الحدث، بالإضافة إلى خلق حالة من الوعي والاستنارة لحظة الالتقاطة الجمالية. تنشا موسيقى الحركة من ارتجافة شفتي القطة المبللة وهي تدنو من أصابع الشاعر، كما تسهم حاسة البصر، بغض النظر عن أي من الحاستين أسبق في رسم المشهد. تثير هاتان الحاستان مشاعر الألفة والشفقة تجاه الكائن، وتعكسان حالة التماهي بين الذات الشاعرة وتفاصيل هذا العالم الذي يحرك حواسنا.

هناك نص آخر للشاعر العراقي سرهد هوزايا:

شجيرة خضراء

الزهرة الملتصقة بها،

من شجرة تظللها

انتقلت إلينا مشاهد النص عبر حاسة البصر بشكل أساسي، فألوان الشجيرة الخضراء والزهرة، مع حركة ظل الشجرة الكبيرة، تشكل صور الطبيعة المتناغمة التي تعكس حالة الهدوء الداخلي لدي الهايكست لحظة التقاط المشهد الجمالي. يلفت انتباه الرائي (الهايجن) التصاق زهرة الشجرة الكبيرة بالشجيرة في مشهد حان، يضفى نوعا من البهاء والجمال الآسر. يخبرنا هذا المشهد المفتون بالتفاصيل الكونية اللافتة أن العالم الطبيعي من حولنا لا يمتلك فتنة الإدهاش فحسب، بل ايضا تتبدى من خلال جزئياته لحظات الخلود والكمال الروحي. ترمز تلك الشجرة التي يمتد فيئُها وتتناثر أزهارها إلى العطاء الأبدي للطبيعة.

تلك النصوص المختارة من منتدى هايكو مصر اكتسبت جماليتها من تقنية تحول الحواس:

رفيف

بين الثابت والمتحرك

تترنح اليعاسيب

(لخداري عيسى)

*

حفيف

فقط قفزة الجندب

في سماء اللزورد

(عبدالله هدى)

*

رائحة التفاح

أشعر بأنبوب النرجيلة

بين أصابعي

(إدريس العميري)

*

موسم القطف

دوران الرحى

بأهازيج أمازيغية

(فتيحة بنزكري)

*

شائكة،

تتخطى حدود الحديقة

رائحة الجوري

(كبرياء إبراهيم)

*

لا شيء في الزرقة

سواها

رائحة البارود

(سامية بنعسو)

*

بحيرة جافة

على رائحة المطر

تعود الطيور

(محمد شداد شداد)

*

المطر الغزير ..

يجترح من الحديقة

رائحة النعناع !!

(زيا يوخنا)

***

حسن التهامي

...................

[1] https://thehaikufoundation.org/new-to-haiku-imagery-in-haiku-with-joshua-gage/

 

يبدأ فعل القول بأكثر من نصّ من نصوص تحريك اللغة؛ كفعل قولي استعمالي؛ وفعل قولي آني، وفعل قولي متقدّم على أفعال النصّ الحركية والانتقالية؛ ومن هنا تكون الذات قد بحثت عن مستقرّها الدلالي كذات قولية حقيقية، تنتمي إلى النصّ المخالف وذلك عندما تكون اللغة قد اختلفت عن السائد، وهي اللغة الشعرية بحدّ ذاتها، وذلك من خلال التعدّد الفعلي للفعل القولي ذي الاتجاهات المتعدّدة؛ فالفعل يعني لنا مجموعة من الظواهر التي تشتغل على اتجاهات خاصة، وهي التي تكوّن العلاقات النصّية مع عناصر النصّ الشعري، وهذا ما نلاحظه في العديد من النصوص المكتوبة، ولكن لو تقصّينا الأمر أكثر فسوف نكون في منطقة النصّ المقروء أوّلا، وهو النصّ الذهني قبيل الكتابة، وهو المستهل للعلامات والوحدات اللغوية؛ حيث يمدّنا النصّ بفعل الكتابة الذي تبحث الذات عنه مع فعل قولها المناسب.

موضوع فعل القول وعلاقته بالمفاهيم الداخلية والخارجية، هو الذي يشكّل للنصّ محور التحدّث القولي للذات الحاملة للغة الشعرية؛ فيأخذ الفعل شكل التأسيس، كأن تكون مفاهيم اجتماعية، أو تاريخية، أو نفسية، أو فنّية؛ فجميع هذه العناصر ذات علاقة مع فعل القول النصّي، ولكن الذي يهمّنا هو المفاهيم النصّية التي انطلقت منها الشاعرة السورية هلال شربا؛ وبموجبها تحرّكت أفعال الذات بمفهوم اللغة المحمولة التي انعكست على النصّ الشعري، باعتبار أنّ النص المستقبل الوحيد للغة. وأي نصّ ندخله، يعني إعادة المفاهيم الحياتية المحيطة بالباث الأوّل، حيث أنّ المقاصد تشكّل البؤرة الأولى في النصّ، وتلحقها المفاهيم الكتابية التي تكون خلاصة المقروء في الذهنية.

لا يمكننا الاتكاء على معاني رابطة ومعاني نهائية، وكذلك لا يمكننا أن نذهب إلى التبعثر الاستعاري في منظور الخطاب الشعري، دائما المعاني متوازية، ولكنّها لا تنتهي بنقطة معيّنة حتى إذا كانت تلك نهاية النصّ، فالتأكيد الذي يجري هو إطلاق المعاني في الوجود الزمني المفتوح. وعند المقارنة نعتمد عناصر التشبيه، وهي جزء من الاستعارات الوظيفية في الخطاب الشعري (إنّ العامل في تأثير الاستعارة هو المسافة بين المشبّه والمشبّه به أو كما يقول سايس "sayce": زاوية الخيال. وإذا كانت المسافة بين المشبه والمشبه به قريبة نحو: "وردة تشبه أخرى"، فإنّ الاستعارة تكون مناسبة، ولكن دون أي صفة تعبيرية. – الاستعارة في النقد العربي الحديث – ص 11 – الدكتور يوسف أبو العدوس).

أحب شحيح الدمع في عينيك

فهو مشكاة ضوئي..

..

على ضفة من جسدي

كتبت عنوانكَ

ورسمت خارطة للدرب

اشتعلت بهواجس شتّى

..

من قصيدة: عندما تبحث عيناي

ضمن القول الواحد، قوّلت الشاعرة السورية هلال شربا المشهد الإشاري الذي اعتمدته؛ فالفضاء الذي أمامها يتّسع للمنظور البصري، الذي تحرّك من قبل المنظور الذاتي، لذلك عندما استقبلت الإرسال، في الوقت نفسه عملت على حياكته، وهنا أتكلم عن اللحظة الذاتية التي ظهرت ضمن اللحظة الزمنية؛ حيث أن القول يظهر: كمبدأ يتمّ ترجيعه إلى المخاطِب.. أو يتمّ ترجيعه إلى المنظور النصّي، الذي ينوب عن المنظور المباشر، أي تحويل فعل المباشرة إلى قول زمني حسب استحقاق المخاطِب.. فكتابة العنوان، وحضور الجسد، فيكوّن ذلك تعدّداً صامتاً، وهو النصّ بعينه عندما يقفز فعل القول في دواخله لتحريكه. أمّا المتكلم فله العودة بكل تأكيد حسب الشاعرية والثقل الشعري الذي ينوب عن الكلام، ويكون عادة القول الآني أو المستقبلي؛ حيث يندمج الماضي بينهما..

أحبّ شحيح الدمع في عينيك + فهو مشكاة ضوئي..

على ضفة من جسدي + كتبت عنوانكَ + ورسمت خارطة للدرب + اشتعلت بهواجس شتّى

نميل إلى المتعلقات التي طرحتها الشاعرة السورية هلال شربا، والمتعلّق هنا، تعلّق مقامي إخباري، حسب فعل القول الذي قادنا إليه ونحن نقرأ ما تشير إليه من خلال الجمل التواصلية. وقد أكدت بحوث (علم المعاني، وحسب ما جاء به الباحث المغربي د. رشيد بلحبيب) على المقامات وحول التأخير والتقديم في الجمل؛ وبما أنّ الجملة التي تسندنا جملة شعرية، فهذا يعني أنّ للمعنى الأثر والفعّالية وكيفية الدخول إليها من خلال المقامات والمتعلّقات.

أحبّ شحيح الدمع في عينيك = جملة فعلية مسندة إلى فعل القول، فإخبار الشخص الآخر المغيّب، تعني أنّ هناك حواراً جرى بين الشخص الآخر والباث، ولكن ليس كأيّ حوار نعتمده، فالموقع المعتمد، موقع إشاري؛ فقد أشارت الشاعرة إلى نوع الخبر المندمج مع الدمع، وعندما نشير إلى الدمع، نشير إلى مصدرها أيضاً، وإلا فالاختلاف اللغوي يكون قد سيطر بشكل فعّال على الكلمات وأبعد التجانس اللغوي؛ فالشاعرة هلال شربا أخرجت الداخل الذاتي وتمتّعت بالكلمات بكلّ أريحية وهي تطلق وترسم أجزاء الربط بين جملة وأخرى:

أحبّ شحيح الدمع في عينيك + فهو مشكاة ضوئي..

على ضفة من جسدي + كتبت عنوانكَ + ورسمت خارطة للدرب + اشتعلت بهواجس شتّى

نسعى إلى التفكيك، ونتّصل بالعالم، العالم الذي يحيط بالشاعرة، وهو ضمن عدّة عوالم تعوم حول الذات الحقيقية؛ ولكن نتوقّف أمام عالم واحد، وهو الخبر الضمني حول ضفة الجسد الذي انتقل من الداخل الذاتي إلى الخارج الذاتي، وكأن فعل الإشارة هو الذي ظهر لتكوين الدلالات التي اعتمدتها الشاعرة. ومن خلال الجملة وما تحمله من معنى دلالي دلّت إلى أنّ المطالع التي اعتمدتها هي لوحدات لغوية. ولكن في حالة الفعل الكتابي يختلف المنظور عن الفعل الكلامي، فقد اعتمدت على تأويل الجملة؛ ووظفت الشاعرة بعض المفردات والتي لها مركزيتها في الجمل الشعرية ومنها: الجسد، العنوان، خارطة والهواجس، وما يشغلها هي الكتابة على شكل رسالة، وهنا تعتمد حالة التشبيه التي أشرت إليها أعلاه أيضاً.

أتشبّث بحبال السراب

تقذفني كرة ثلج

تذوب في

وهج الحمّى

الحمّى التي تعالت

من حولنا:

تزدحم الطرقات

الأيائل التي مازلنا نودّعها

هجرة الأولاد

وفتنة القياسات التي

مازالت قيد التنفيذ...

.....

من قصيدة: عندما تبحث عيناي

نعتمد على فعل القول الذاتي من خلال المقطع الذي رسمته الشاعرة هلال شربا، فنلاحظ أن أصغر بنية دلالية هي الحركة، وقد بدأت بالفعل (أتشبّث)، وأكبر بنية دلالية هي اللفظ، ولكن عندما نكون مع فعل القول الذاتي، فإنّ الذي يخرج أمامنا يطابق المعنى اللاحقيقي، وتتكوّن إشارات استندت عليها الشاعرة، وهي توحي إلى التقديرات؛ حيث استطاعت أن تكون ذات مساحة ملائمة من الانزياح في جملها، معتمدة على نظرية الاستعارة، والتي تعد إحدى النظريات المهمّة؛ ومثل هذه الجمل تعدّ من الجمل التنشيطية للنصّ الشعري الحديث، وهي تقودنا إلى الصور الشعرية.

أتشبّث بحبال السراب +   تقذفني كرة ثلج + تذوب في + وهج الحمّى + الحمّى التي تعالت + من حولنا: + تزدحم الطرقات + الأيائل التي مازلنا نودّعها + هجرة الأولاد + وفتنة القياسات التي + مازالت قيد التنفيذ...

طرحت الشاعرة هلال شربا المعنى الوجودي في المنظور الاستعاري في كلّ جملة شعرية تواجهنا؛ وذلك من خلال الصلات الدلالية التي عمّقت المعاني من جهة، والبدائل لبعض المفردات المختلفة من جهة أخرى، فقد جاءت مثلاً جملة: أتشبّث بحبال السراب، فالسراب لا حبال له، ولكن الصلة الدلالية عمّقت المعنى وكذلك اختيار بعض الكلمات التي ابتعدت عن المباشرة، وأيضاً جملة: تقذفني كرة ثلج، فقد جعلت من كرة الثلج حياة أخرى قد تمتطيها عندما قذفتها أو كانت متدحرجة عندما واجهتها وأبعدتها من خلال الدحرجة. الكرة الثلجية لا تشبه السراب، فقد كان المطلع النصّي كافتتاح، بينما التواصل اللغوي بدأ من الجملة الثانية، وجميعها تؤدي رسالة عن الألم السوري الآني وهجرة الأولاد من البلاد التي انجبتهم.

تعتريني شهقاتُ الموت

في اللحظة لحظاتٍ

حتى يغادرَني ثقلُ الهواءِ الذي

لن يفهمَ رسالة وجودي...

اضطراباً لأنسام محنّطة

في كبد الفضاء

...

من قصيدة: رائحة اللحظة

فلسفة الأنا أقوى من الـ (هو)، أي أنّ للمنظور الآني نشاطاً لغوياً أقوى من الغائب وكذلك من الماضي، فتحضر هذه الأفعال من خلال المنشّط الحاضر لفلسفة الأنا، وما نلاحظه بالفعل الذاتي الحركي هو الذي نشّط الفعل اللغوي في النصّ الشعري الحديث؛ ومن هنا ينتظم الخط التواصلي بين الفعل الذاتي الحركي، والفعل النصّي والذي يصبح موضوعاً تعيينيا بلغة تعيينية في النصّ المكتوب.

عندما نذكر القول الدال الذي يشير إلى الكلمات كمنبّهات متواصلة إلى المتلقي، نشير في الوقت نفسه إلى الجملة بأجزائها، ولا نستطيع أن نتخلى عن أجزاء الجملة والتي نعني بها جملة شعرية انتهت بنا إلى حد التواصل كمركبات لمفردات وذلك لكي نتوصّل إلى الجنس التام.

تعتريني شهقاتُ الموت + في اللحظة لحظاتٍ + حتى يغادرَني ثقلُ الهواءِ الذي + لن يفهمَ رسالة وجودي... + اضطراباً لأنسام محنّطة + في كبد الفضاء

بين القصدية الآنية، والقصدية الأخرى، يكمن الدال عندما أطلقوا على الدلالة بين الشيء والشيء الآخر، فقد كان الشيء هو الدال والآخر هو المدلول، لذلك لو تقصّينا النصّ الماثل أمامنا، فسنى أنّ هناك الشيء، وهناك الشيء الآخر، أي أنّ الشهقة تعدّ من الأشياء، والآخر هو الذي يتبيّن من خلال التفصيل النصّي، هو الموت، ومن هنا نؤكّد بأنّ الشاعرة هلال شربا أرادت أن تبلّغ عن شهقات الموت، وهي الخطوات التي تؤدّي إلى الموت؛ لذلك ظهرت الخطوط الرئيسية الدلالية للمعنى اللغوي من خلال الاختلاف أوّلا ومن ثمّ دلالة اللفظ ثانياً.

أنا شيفرةٌ لم تجدْ بعدُ من يفكُّ رموزِها

لم يأتِ أوانُ فهمِ هذا الوجيب

والقمرُ آيلٌ للسقوط

مضيتُ كعشتار

عندما أصبح الوجودُ حديقة

وأنا أسقيها

بماءٍ الأقحوان

...

من قصيدة: رائحة اللحظة

هناك ثلاث باقات من المعاني، فهي تبدأ من النصّ، وتنتهي به، ونستطيع أن نضيف لها مفهوم (التمثيل) والذي يمثل المعنى الأحادي، باعتبار العنونة حالة مستقلة؛ وسوف أدمج ما تبقى من النصّ كمعنى اعتمد اللامألوف وما قدمته الشاعرة السورية هلال شربا في رحلتها النصّية:

الباقة الأولى:

الأنا المتمثلة بالوعي الذاتي؛ كما جاء في جملة: أنا شيفرةٌ لم تجدْ بعدُ من يفكُّ رموزِها

والتي تمثلت كمطلع للوحدة الدلالية، وهي بداية المعنى الذي أقصده، حيث تنسب شخصيتها للشيفرة التي لا يمكن فكّها، لنقل ليس بهذه السهولة تفكّ الشيفرات والتي تعتمد الرمزية النصّية، ولكن في الوقت نفسه اعتمدت الشاعرة التوضيح الدلالي في دلالاتها للمعاني المعتمدة.

ما أجملَ وفاءَ الغيوم

عندما تصرّ على أنّها ستغسل الأرض

والأرضُ تصرّ على الزغاريد

عندما تستقبلُ لحظاتِ الشمس

وهي تظهر من خلف الغيوم

كلحظاتِ طائر تراءت لعينيه

حفلاتُ الجنون!

....

من قصيدة: رائحة اللحظة

إنّ البناء القصدي الذي يؤدي إلى التأمّل، يقودنا إلى التفاؤل أيضاً، وهذا ما قصدته الشاعرة وهي تقودنا إلى القمر، وإلى عشتار، وكذلك إلى الفرحة (الحديقة)؛ هذه المفردات التي اعتمدت البناء، ماهي إلا امتداد للفعل الذاتي من خلال الوعي كنشاط للذات الحقيقية.

الباقة الثانية:

إنّ أي قيمة للمعنى، هي قيمة دلالية، والتغيير الذي يحدث بين المعاني، تغييرات في الأفعال الحركية والانتقالية، ومن هنا من الممكن أيضاً أن يكون اتصال النصّ، اتصالاً دلالياً.

إنّ ما طرحته الشاعرة هلال شربا من مسمّيات مختلفة أدّت إلى وظائف فعلية، وهي متواجدة في المنظور الخارجي، لذلك فالنصّ لم يكن حبيس معانيه: ما أجملَ وفاءَ الغيوم + عندما تصرّ على أنّها ستغسل الأرض... والأرضُ تصرّ على الزغاريد + عندما تستقبلُ لحظاتِ الشمس... نلاحظ الربط بين باقة وأخرى، بين جملتين متواصلتين مع جملتين آخريتين.

الباقة الثالثة:

المعنى كمطلب نصّي، أي نصّ يواجهنا جلّ ما يعانيه هو طرح المعاني ومدى التنسيق بين الجمل التواصلية، فالعلاقة التي نبحث عنها، علاقة النصّ بالعالم الخارجي، وذلك باعتبار أن النصّ يمتلك حالته الفنّية مع حالة المعنى وما يحوي من علاقات والتي تكون على المحكّ إمّا ببيئة الباب، أو بالناس الذي حوله وما يهدف النصّ إليه.

عندما تبحث عيناي

أحب شحيح الدمع في عينيك

فهو مشكاة ضوئي..

..

على ضفة من جسدي

كتبت عنوانكَ

ورسمت خارطة للدرب

اشتعلت بهواجس شتّى

..

أتشبث بحبال السراب

تقذفني كرة ثلج

تذوب في

وهج الحمّى

الحمّى التي تعالت

من حولنا:

تزدحم الطرقات

الأيائل التي مازلنا نودّعها

هجرة الأولاد

وفتنة القياسات التي

مازالت قيد التنفيذ...

..

عند العتبة

أعدّ أصابعي الخمسة

وأقبض على سبابتي

خوفا عليها من التلف

أقبض على منفاي

واجعل الأصفاد كالرمل ذائبة

**

رائحة اللحظة

تعتريني شهقاتُ الموت

في اللحظة لحظاتٍ

حتى يغادرَني ثقلُ الهواءِ الذي

لن يفهمَ رسالة وجودي...

اضطراباً لأنسام محنّطة

في كبد الفضا

أنا شيفرةٌ لم تجدْ بعدُ من يفكُّ رموزِها

لم يأتِ أوانُ فهمِ هذا الوجيب

والقمرُ آيلٌ للسقوط

مضيتُ كعشتار

عندما أصبح الوجودُ حديقة

وأنا أسقيها

بماءٍ الإقحوان

هذا المدارُ فارغٌ إلا منّي

هناك بضعُ كويكباتٍ رامت مرافقةَ

الوجعِ النابضِ بي

ما أجملَ وفاءَ الغيوم

عندما تصرّ على أنّها ستغسل الأرض

والأرضُ تصرّ على الزغاريد

عندما تستقبلُ لحظاتِ الشمس

وهي تظهر من خلف الغيوم

كلحظاتِ طائر تراءت لعينيه

حفلاتُ الجنون!

***

 

فضاءات الداخل الشخوصي تؤول إلى معادلات نفسانية مركزة

توطئة: تحيل جملة استهلالات بنية الوحدات السردية في مكونات قصة (إدانة غير معلنة) للقاص والروائي احمد خلف، نحو مرتكزات مكينة من أدوات (المساق التمويهي) الذي يشكل في منظور السرد، ذلك التحول بالمستوى الأدائي - إرتباطا - وحيثيات جملة شواغل خاصة من حيز وظائف (العلامة - زاوية الرؤية - مضاعفة الأختزال )،امتدادا نحو جملة محققات وظيفية، من شأنها أولا واخيرا، التركيز على مستويات معينة من الإحالة في مداري (الحكاية - الخطاب) وصولا الى تفاصيل أكثر إضمارا للمعنى من الظاهر في حدود شاشة المقروء في الابعاد النصية.

مكونات المادة الحكائية في مساق البؤرة المركزة

قلنا بادئ ذي بدء، من إن عتبات النص الوحداتية، تحيل موجهاتها على جملة من الوحدات الأدائية المتمحورة في جهات الإشارات وتواصل الارتباطات الضمنية الى حالة كيفية من فرادة العلاقة بين اطراف ثلاثية المنحى في منظور مستهدفها التلفظي (السارد العليم= شخصية الزوج= محورا مشاركا) ولو أردنا توخي الدقة في المعاينة المنظورية، لوجدنا أن هناك حالة عقدوية في نسيج مادة الحكاية، يمكن أن يكون مبعثها نزعة (سلطة الزوج) أو ذلك الوازع الذي يتغيا تحققا في متعلقات علاقة زوجية تحكمها دوافع (الظنون الغيرية - اضداد خارجية - خفايا سلوكية) وقد تكون هذه العوامل هي أكثر تعلقا في حالة طرفية فريدة، يكون مرادها الفعل للزوج ذاته أمام تشعبات حالات الزوجة الغوائية، لذا فإن المراد الدلالي في حالاتي (الزوج - الزوجة) لا تظهرها القابلية الموضوعية في الحكي، إلا على انها علاقة مراوغة وذكية من قبل القاص احمد خلف، فهو يضعنا أمام خيارات ظنية تتراوح ما بين الطرفين، ما يجعل القارئ لها يتصور لوهلة ما بأن المدان هو الزوجة كحالة طرفية، ولوهلة أخرى يثقلنا الإحساس بأن الزوج هو بؤرة الغواية الظنية في الحكاية كلها. ولكن مساحة النص لا تمنحنا فرصة الفوز بالدليل الأكيد في مصادر وموارد المسبب الرئيسي في هذه اللعبة المحكية التي لا تكشفها مجرد المعاينة الإسقاطية لها حتى نعلم في مراحل النص الأولى بأن ذلك المشبوه والمشتبه به يتوزع بين علاقة كيانين في مستوى خاص من مأزومية الحدوث والأسباب المؤدية إلى ذلك السلوك بين كلا الطرفين: فمن ياترى المظنون به سوءا هنا الزوجة حقا أم أن الامر يتعلق بمستوى ظنية من هستيريا الزوج نفسه!. لعل القاص احمد خلف وضع القارئ أمام خيارات العرض والإيهام بالصلات وغواية السلوك، وهذا ما بدا واضحا لنا منذ عتبات النص الأولى،إذ هناك حالات من (التمويه - اللف - الدوران) محققا بذلك القاص لنصه بواعثا تحفيزية في عملية الاستدراج التوقعي ولا توقعي معا، لذا بقيا محوري (الزوج - الزوجة) في شبكة القيود الانتقائية الملمحة في صعيد موجهات خاصية احتمالية متناسلة في مفاوز التشاكل الشكوكي والظنوني عبر لعبة استدراجية بالسرد والوصف والتمظهر القصدي المعلن ولا معلن، مما جعل فعل التلقي للنص متحولا تارة الى موضعية مثخنة بالأداء التمويهي، وتارة أخرى تكليفا في مسار البحث عن مواضع أسباب حدوث الافعال من جهات وعوامل أكثر تمحورا في الداخل الشخوصي، ولكن مع ذلك تبقى حدود المرسل إليه من زاوية الرؤية للسارد المشارك وهو الزوج، علما بأن هناك وظائف ووسائط راح يقدمها السارد العليم وصوته وتحولاته المدمجة في الوعي السردي منظورا (أمسك بكتفها الرقيقة وسحبها إليه برفق، كف جسدها عن الحركة، نظرت إليه نظرتها المعتادة، المعاتبة المرتبكة / النص القصصي) تستدعينا علاقات هذه هذه الدوال الأدائية المتمحورة الى مستوى مكين من المقاصد المستترة، ما يجعلها من ثراء المرصود الوصفي - اختيارا، موفقا، كان قد اسقطه احمد خلف في حدود مقابلات بؤرة المشار إليه بـ(الإدانة) تحديدا، لذا قوبلت خطية مسانيد دوال (أمسك - سحبها - إليه برفق - كف جسدها الرشيق - عن الحركة) تحت موجهات هذه الافعال الأدائية المختزلة، نكتشف غائية التقطيع الزمني والأحوالي، وكيفية كونهما يشكلان مع بعضهما البعض علاقة حدية تغمرها إيحاءات ومقاصد المواجهة الفعلية المضمرة بتحولات عدم التوكيد المحوري، أقصد ماهية المشار إليه من فعل (الإدانة) في ذاتها وجودا دلاليا أكثر تعمقا في محفوفات التأويل، لذا تزامنا مع عدة تساؤلاتنا عن خيوط ونقاط مكونات النص، نكتشف بأن هناك وحدات أخذت لذاتها مواطن (الانزياح - المنافرة الدلالية - القيد الظني) وصولا الى مرحلة وقائعية تتعلق في حضورها بالعلامات والمرموزات المتواطئة تلفظا وملفوظا.

1 - إشكالية المرمز وهواجس الحبكة التقاطعية:

لعل من دوافع احتساباتنا القرائية للمقروء، أبقاء ذلك الحيز الكموني من استقلالية علائق الحكاية وخطابها المتشعب في موارده الإفادية،إذ نعاين بأن مراحل النص تتقصد دليلا مفتقدا في حدود معاينة إمكانية ممكنة من الصوغ للمحاور،لذا فإننا إزاء قصة قصيرة لها من العلائق والمتعلقات ما تتجاوز بها إمكانية الاوضاع النمطية من البناء والتشييد التقليدي للقص، وبإشارة ما أو عدة ظروف للنص، نجد أنفسنا في مواجهة (تعدد محاور المحبوك) ليس تعدد الحبكات؟ ذلك لأن النص القصصي بدوره لا يتعدى في مكوناته البنائية الحدود المرسومة إليه في مدار وضع حبكوي مخصوص، وقد تكون مجالات الحبكة متفرعة بالنمو العقدوي، ولكننا إزاء مهام علائق قصة (إدانة غير معلنة) نعاين وجود مستويات تصاعدية في حالات المحبوك الذي هو بدوره الحافز النوعي في نمو وتشعب منطقة الحبكة وشواغلها واطوارها السببية. إذن نحن في مواجهة ممكنة مع (إشكالية المرمز) الذي هو عبارة عن جملة تأهيل الأدوار والهيئات بطرائق إحالية متتالية من جهة ما في التحقيق والنوع والوحدة المتعدية قصدا،مادام عدة بناء القص جاءت متاحة في مواطن ظنية واشتباهية واحتمالية من احوال القصد الآنوي المحسوس في وسائل الخطاب السردي اللامعلن.

2 - دلالة الاقدام العارية.. هوامش نسبية مركزة في الموصوف الدال تعاضدا:

تتأتى الانتقالات السردية في مواضع الوحدات اللاحقة، كطبيعة مخصوصة بتحليل أدق دقائق النص، إذ ظل جانب من علاقات النص ضمن مرحلة سردية أتخذت لذاتها ما يسعنا تسميته ب (إحالات:هوامش نسبية الوضع - الموصوفات الدالة تعاضدا) تبعا الى كون صور التقابل بدت ما بين (زوجة =زوج= اختلاف زاوية الرؤية للسارد) بمعنى ما اختلاف حالات علاقة متقاطعة، ذلك لأنهما تحت سقف زمن (توحدي - تقاطعي) وهذا الأمر ما جعل من محتوى الزمن في المواجهة الفعلية المضمرة تتم بتحولات طرفية خاصة، كحال أوليات السلوك العرضي في بداية النص، ايضا هناك أوليات مكانية تتمثل في حدود مساحة (فضاء المنزل) أو لربما في رؤية أكثر تعمقا في فضاءات داخلية ومغلقة من كلا الطرفين في التشكيل والتنوع الشعوري والحسي بين فضاءات ومواقع تحرك الافعال والموصوفات، مما يجعل منهما حالات أكثر اندغاما ووعي في مكونات (الزوج = فضاء داخلي/ الزوجة = فضاء خارجي) إعتمادا على جملة مرسوم الأحداث في مسار النص، ومدى نوعية الفضاءات في مرسلات الاحوال والمنظور السرديين، فعلى سبيل المثال، نقرأ ما جاءت به هذه الوحدات من الحكي، لنستدل من خلالها مدى جدوى ما نرمي إليه من تأويل وتحليل ومقاربة: (هبطت عيناها الى أرض الغرفة الصلبة، وتطلعت الى قدميه العارين وهي تستمع إليه: - أقول، إذا لم يعجبك هذا، فلن اعود إليه مرة أخرى؟. بصوت مخذول:كلا، لا يهم لكنه غير لائق، انه يضايقني بعض الشيء؟ لن افعلها ابدا/ أصبحا وجها لوجه، وعادت تمظر إليه، تعلم انه يكذب وسيفعلها مرات أخرى/ النص القصصي) مما يجب الالتفات إليه عبر هذه المقطعات الحوارية٠المونولوجية، أن هناك إيحاءات ومرمزات مخصوصة، قد لا تتعلق في مجال سطرا أو سطرين، ذلك لانها محملة بأبعاد حسية وحدة الانطباع، وحدود مختلفة من إجراءات التحقيق المرمز في الجانب المؤول من استباقات واسترجاعات الدلائل الوسائطية، اي بمعنى ما يمكننا القول: هل معنى - قدميه العارين- تشكلان مسألة تتعلق في حدود استرجاعية خاصة في مكون (الإخصاء) أو (غياب الاخصاب) مثالا، وهو ذات الامر الذي يخص مدى خصوبة الزوجة كحالة انجابية ممكنة التوليد والانبعاث طلبا للخصب الذكوري المفقود لديه ( أرض الغرفة؟) بخاصة وان هناك ماراح يعزز كون شخصية الزوج لا تتنامى ومستوى الماصدقية في شكلها الوثوقي من قبل جهة الزوجة تحديدا، ذلك بافتراض ما كانت تقصده الزوجة عبر لسان السارد (تعلم انه يكذب؟) وبهذا المعنى وغيره، تحضرنا علامات خاصة تعكس ما جاءت به تفصيلات التحولات العلائقية من جملة أوجه وظائف تدفعنا الى حصيلة ما من دلالات المسكوت عنه والحدوث الضمني منها في مواضعات أكثر حساسية عبر تلميحاتها وإقراراتها الحرجة.

التراتيبية الزمنية: مأزومية الحدوث المصدق في الشرود الذهني

في كل تمفصل من تمفصلات حكاية وخطاب التص، ثمة مأزومية خاصة، اي هناك مساحات لا يمكن فك شيفراتها بأقل السطور المؤولة والتحليلية لذا صرنا نعلم حجم الثغرات في مجمل الحياة النفسية الشخوصية بعد مراحل متقدمة من الحكي والسرد والوصف والمسرود إليه، لذا استغرقت مجموع الوحدات الى البعد الكيفي، ما يمكننا تقديره من ناحية تحليلية،كالزوجة وهي تظهر وكأنها تعاني من حياة زوجية اشبعها عدم الاخصاب الذكوري كل استعداداتها على المضي في ديمومة حياة زوجية موفقة، فيما يظهر الزوج وهو محمل بأعباء من الهموم من جراء حقيقة الزوجة المغوية، وهذا الامر ماجعل إحساسنا يتضاعف في حياة شرودية ذهنية لكلا الزوجين، والزوج تحديدا عند حالات ونوبات شعوره من ضجيج أقدام الاطفال في الغرفة المجاورة للغرفة الخاصة بالزوج والزوجة:فلا أدري هل كانت هذه محض ايهامات بخيانة الزوجة لعدم خصوبة الزوج التلقيحية وما يتبعها من اضطرابات الزوجة المكررة بوصفها عدة مشاعر مهملة من البرود والاهمال للزوج وخروجها من المنزل علامة على محاولة تحررها وخيانتها مثالا؟ أم أن الصورة تعكس كون الزوج غاطسا في اعماق حالات هستيرية من جراء كون الزوجة صارت تبحث عن البدائل المتاحة لفقدانها للأمان الأسري في حياتها مع ايهامات الزوج المرضية؟ ولو افترضنا كون الزوجة صارت تمتهن للدعارة و الفعل الديوثي في حساب محتملات الزوج فما وجه الاتفاق على كون الزوج يمثل حالة تطهرية مثالاً ولماذا لا يحدث العكس ربما؟. إذن هو يفترض هوسا في ذاته، لترتبط الاحوال والمنظور لديه الى حقائق لا تفارقها إيحاءات المحتمل من الصواب والظنية والوساوس: ( كان يختفي عن أنظار ضيوفها، وهو يصغي الى صوت الأطفال في الغرفة المجاورة، لقد اصبحوا ثلاثة أطفال، وليس بينهم طفل واحد يعود له... كان الجدار لا يزال يدفع بحرارته الصيفية الى كتفيه، وهو في وقفته تلك يشعر أنه منعزل ومهمل تماما، وهو يسمع حركات النسوة خارج الغرفة، يغادران البيت الواحدة بعد الأخرى، لم يعد ثمة احد سواهما، هي وهو داخل البيت فقط. / النص القصصي) ها هنا تبدو ثمة علاقة متغايرة ومتتابعة ومتباينة، فهي تعبر عن محض تصورات تارة، والحقيقة المعادلة تارة أخرى، فالزوجة مدنسة في ذروة علاقة صنعها الوهم للرجل نفسه، أو لربما هي مباعث الفرد في أشد حالاته القهرية عندما تبلغ به مساحة الفائض عن الحاجة في كل أوجه طاقاتها المعنوية والنفسية:ولكن هل معنى ذلك ان بعض التفصيلات في مركبات النص من أساس محفز الوهم الشخوصي المتمثل بالزوج نفسه؟. أقول طبعا لهذا النوع من المفترض، ذلك لكون لسان حال السارد كان حاكيا تفصيليا عن حيثيات وعي وقرار موجه الشخصية - الزوج-، لذا فهو غدا يقيم وحدات سرده المحكي إنطلاقا من عين اللحظة الزمنية والأحوالية التي يعتاشها، فهو مثلا كان يتخيل ويتوهم حدوث (زيارة سرية تحدث بعيدا عنه؟!) أو (تبدأ عادة بالتلصص، حتى تتم وهو لا يعلم بها لأنه يشعر بحدوثها فقط، كان يحدس ذلك ؟!) فالوحدات هنا وهناك، قادمة من مؤشرات غير دلائلية واقعا، بل هي محض مشاعر يصقلها الوهم والمساق الظني بعدم حسن سيرة الزوجة، لذا فإن جميع الخيوط في النص كانت ترجح ناحية كون الزوجة تمارس فعل الديوثة أو أنها عاهرة مزاجية متشهية غالبا، عبر محفزات وتصورات الزوج للافعال والشواهد التي كان يحدسها في هستيريا الخواطر: (وخيل إليه حين تصمت ولا تتفوه بشيء، إنما تفكر بأمر الضيوف، ربما بسبب ذلك أخذت النسوة ينقطعن عن زيارتها. / النص القصصي). وعلى هذا النحو نفسه، نعاين فقرات توسطية في مطروح السرد والحكي، جعلت تمنحنا الاعتقاد ذاته في كون هذا الزوج هو من ينتمي الى عوالم واهمة تتقمصها مشاهدات واكبت منظور الواهم الغاطس في أقصى درجات وهمه القهري، فتنبو عنه الخواطر بنوها عن أجواء خيانة الزوجة له باقصى درجات المتاجرة في لحمها الرخيص: (- ماذا فعلت هذا اليوم؟ عادت تشهق، وهي تحتار بوضع نظرتها في اي مكان يأويها: لاشيء، لم افعل اي شيء.. من المؤكد، أن صوتها هو الذي يفضح كذبها/ النص القصصي).

1 - الخطاب القصصي وفضاء الايهام بالواقعة المحتملة:

ان الحديث الإسقاطي عن شواهد قصة (إدانة غير معلنة) لربما تجعلنا نتعامل وحيثيات زمن المحكي بطريقة لا تكلفنا الكثير من الصفحات في الكتابة والتفكير فيها بمقدار زمن نصف ساعة على أقل تقدير منا، ولكن لو فكرنا بجدية النص الإبداعي وعبر مدار زمن قراءته وتعمق في جل مكوناته البنائية والاسلوبية والتشكيلية، لوجدنا أنفسنا في أشد حالات الافراط في التفكير والإنطلاق في جنوحات الرؤية المتتالية عير حسية النظر في الواصلات والترابطات بين حدود (الحكاية - الخطاب). فالزمن في صيرورة حالات موضوعة النص، هي من المتتاليات المترابطة واللامترابطة في حسابات الموقف الأستثنائي من قيمة النص موضع بحثنا، أقول مجددا أن زمن الافعال في قصة (إدانة غير معلنة) يتجاوز معالم المصادفات والمقاصد الخطية، دخولا في تراكيب حسية وأنفعالية وإيقاعية من حياة الشخصية في الخطاب الفضائي الخاص بدواخل الذوات الهاجسة. فقد لاحظنا ما كان عليه حال الزوج من تمفصلات هلامية هوسية سائلة المفعول في منحنيات مجرى تصوراته الواهمة، فهو داخل إحاسيسه وزمنه المفجوع بالحدوس القاهرة، فلا يجوز لنا الجزم في كل حالاته يقينا، أو على كونها من محققات الرد الفعلي المباشر الناتج عن حقيقة قد حدثت في أي من الأزمنة، خصوصا وأن القصة وأحداثها ناتجة عن حدود الشكل المحكي الأكثر إيغالا في رقعة (المبئر في تبئيره - دواخل المبأر - الرؤية من زاوية داخلية، جوانية) اي بمعنى ما أن الفاعل الذاتي الذي غدا ممارسا لفعله هو ذاته (المتكلم عن - منظور داخلي - الداخل الراوي- السارد بذاتية الشخصية الحكائية) وعلى هذا القبيل، يجوز لنا معرفة (الصوت الاوحد -شخصية المتكلم - صيغة الحال الظرفي) وسنتبين من هنا كيفية أن يكون مدى صحة عنونة النص بـ (إدانة غير معلنة) ذلك عندما تتوافر كل الاسباب والشرائط الموجبة في تضافر النص وبنياته، كتفاعلات تذهب لصالح المتضاد في مكونات الفرد الشخوصي و عامليات النص وأدواره - امتدادا في بيان الشواهد الواضحة كقيمة مقصدية كامنة في مضمرات النص، لنقرأ مثل هذه الوحدات وما جاء بها من تخريجات مقنعة وأكثر استيعابا للمدلول وتحولاته الكيفية المعادلة: (بين الساعة السادسة والساعة السابعة من مساء، نهضت واقفة وسط الغرفة الكبيرة، المطلة على الشارع الصغير، حيث يفصل مابين السوق والشارع العام.. نظر الى قامتها الرشيقة مع انزلاقة ثوبها الناعم المتهدل فوق سيقانها الممتلئة وعجيزتها المستديرة وكتفيها التاعمين، تلك النظرة المتوهجة في لحظة خاصة، تطرق باب وجدانها فجأة، وبدون سابق انذار أو تخطيط، لحظة تأتي مشحونة بالقرار، مسرعة لا تتعثر في سيرها ولا تتردد في تصميمها بأن تفعل شيئا: سأذهب الى السوق -هكذا فجأة تذكرته؟ سأشتري بعض الحاجيات../ النص القصصي).

- تعليق القراءة:

في الحقيقة أننا إزاء حوادث محكية لقصة قصيرة ممعنة في فواعل صوغها السردي والمحكي والوصفي والإيقوني، لذا فهي تزيغ بالثوابت الاولى من التوقع، لتعكس لنا حالات دقيقة تلفت الانتباه في خرقها لثنايا محطات انتظار القارئ، لتعكس مدى قدرتها على تمويه الطاقة السردية للفاعل الذاتي بموجهات، لايكون لها القارئ منتظرا ولا متوقعا. أقول أن القاص والروائي القدير أحمد خلف، اشاع بيننا الشك في كون شخصية الزوج واهمة فقط أو ربما هي كذلك، عبر جل مراحل النص الاولى والتوسطية وما قبل الاخيرة، ولكن دهاء القاص راح يحفز في خلايا السرد توقفات وقائعية مقرونة بتداخل صوتي (السارد العليم - المحور المشارك) حتى تكشف لنا متتاليات وحلقات التواتر الذروي، تلك السيرورة السرانية التي لا تعلن عن رأس الإدانة ومرجحاتها الوثوقية لمن تتجه إليه سببا ودليلا. النص يخبرنا عن ذلك الشاب الذي انقادت إليه الزوجة في وسط زحمة السوق، ولكن هل ذلك هو الزمن المقطوع الذي راح يخفي حقيقة المدان فعلا؟ لذا ظلت صراعات الشخصية تداري شكوكها وذاتها في الداخل الفضائي الشخوصي الفاعل، راحت تطرق نوازعه تلك الابواب الباحثة عن أدلة الاشياء الأكثر تحقيقا لليقين: (تلك هي الغرفة المنعزلة عن بقية الغرف الأخرى -أن ما يعوزنا هو الأطفال ياسام- انني أعرف الى أين أذهب ومن سيكون معي./ التص القصصي) من خلال هذه المحاور وحوافزها المزدحمة بيقين خيانة الزوجة، انطلقت دلالات التواصل المميت بالزوجة، ملوحا لنا القاص الكبير احمد خلف عن خاتمة مشحونة باللعب الحاذق بالتمويه ونوازع تقابلات خيارية غامضة في محققات وظائف نهاية قصصية تخاتل فينا مقصودية المعنى وتسرق منا أدلة حقيقة الوقائع وواصلاتها السببية الكفيلة في جعل النص إدانة غير معلنة.

***

حيدر عبد الرضا

قراءة نقدية في مجموعة (الأشجار تحلّق عميقاً) للشاعر سعد ياسين يوسف

الأشجارُ لا تحجبُ ظلَّها حتى عن الحطّاب

"هيتوباديشا"

***

نداءُ الوحش A Monster Calls عنوان الفيلم الذي تضحي فيه الشجرةُ الساردَ العليم بعد أن تغدو وحشاً في كابوس الطفل ذي الاثني عشر ربيعاً، يحكي هذا الوحشُ للطفل حكاياتٍ، هي، بالتحديد، أربعُ حكاياتٍ، يأمرُ الوحشُ، في نهاية المطاف، الطفلَ بأن يُفصح عن سرّه، وبعد سماعِ الوحش لسرّ الطفل، يهوّن عليه مصيبَتَهُ بفقد أمّه، ويخبره بأنه لا يتمنّى مغادرةَ أمّهِ الحياة، راجياً الطفلُ، في الآن ذاته، انتهاءَ عذابه، بعد أن اكتشف أن أمَّهُ كان لديها الحكاياتُ ذاتُها مع الشجرة/ الوحش.

أرى، الآن، أن الشجرةَ الوحشَ هي ليست (الغولَ المحبَّ للبشر) الذي عنون به أوكتابيو باث Octavio Paz كتابَهُ El ogro filantrópica والذي يظهر فيه الحاكم مرتدياً ثوبَ الحمل الوديع، بيد أنّهُ في الحقيقة ذئب غادر.

يصحبنا العنوان الأشجارُ تحلّق عميقاً** إلى التحقيب بعيداً حيث البدء لنتأمّل الشجرة التي رافقت الشاعر سعد ياسين يوسف مرافقةَ الضوء للمشكاة، معلناً عن هويتها، وتعلن الشجرة عن هوية الشاعر في النص وفي الانتماء، وأنا لا أريد أن أقدّم نتيجة الآن بقدر ما أريد أن أطرح سؤالاً على نفسي كوني أسعى للإنصات عمّا تخفّى من دبيب حبٍّ، وتنامى من لهف وجد، في قراءة الشعر التي تقودنا إليها أحلامُ اليقظة هدفاً سامياً للروح.

لقد رافقت الشجرةُ الإنسانَ منذ النطفة الأولى، فكانت ظلّاً له، ثم روحاً ومعنى حياة، هي شجرة المعرفة، والتي لولاها لما كنّا، ولا كانت قصائد الشعراء التي ترافقنا إليها، لم يعرف آدم ولم تعرف شقيقةُ روحهِ حواءُ السرّ فيهما، لقد كانت عيونهما صامتة، وهي تشهد دهشة الفردوس جمالاً، لقد منحتهما الشجرةُ المعرفةَ، فانكشف السّرُّ، ليدق قلباهما متسارعين، ما هذا؟ إنّهُ الجسد يا أبتانا، والذي لولا الشجرةُ لما عرفتُماه، وما كنّا هنا عابثين بفجر حرارة طفولتنا الأولى، لم نغادر الفردوس إذن، بعد اندلق السّرُّ بين أيدي أبوينا، فجلبت الدهشةُ الفردوس إلينا، نازلاً فينا عميقاً، فصارت الشجرة الدال الذي به نحلّق عميقاً، لكن أيّ عمق، هل هو عمق الذات، أم عمق الانتماء؟ أظنُهُ العمقَ الذي يحقّب بنا عالياً، إلى سماء الدهشة وغربتها السعيدة، مثل زمننا الممتد من شجرة طوبى إلى شجرة طُور سَيناء، (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) الرعد: 29، (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) المؤمنون: 20، ونحن نبحث عن قبسٍ نوقد به نارَ إدراكنا لتراب الأرض التي بذر فيها الشاعر سعد ياسين يوسف حبّاتِ أشجارهِ الشعريةَ لتنمو بين أيدينا دلالات، لعلّ الروحَ ترتكن إليها شعوراً بالسكينة التي تمنحها إيقاعاتُ الكلام، نتنسمه باحثين في عطر أور، عنوان القصيدة الأولى، عن هويتنا نحن العراقيين:3639 الاشجار سعد ياسين يوسف

من طينة الفراتِ

قُدَّ قلبُهُ، قارورةً من أور...

هذا الذي هفا للضفةِ الأخرى

بصدره المسكونِ بالنورِ

أجنحةً ما صدَّها

انهمارُ نيرانِكَ

التي أضحى بها مسلةً،

زقورةً...

نجدنا، الآن، في التربة التي غرس فيها أشجاره الأولى، غرسها العراق أو الشاعر سِيّان، ولا أخالها إلا شجرة الحروف التي خبّأها ابن عربي في جلباب أشجارِ الله، لينثرها العراقيون الأوائلُ كلماتٍ مسماريةً في ألواح الطين، يلملم الشاعر فيها خيالَنا المبعثرَ مرسوماً بضوء الدّم وعياً بمأساة الوطن:

كم من الدّم يلزمُ هذه الأرضَ

لتغسلَ عتمةَ الحزنِ

عن وجهها،

ظلامَ ألفِ عامٍ

وعام...؟؟؟!!!

هي ضريبة الانتماء الممهور بمبسم عبّاد الشمس لشمسه، وهو يظلّ محلّقاً برأسه عالياً خلفها حتى تأفل، ثم ينطوي على ذاته، منتظراً صبحَهُ القادمَ ليلاحقَ محبوبته بعين عَشِقَت السماءَ، لكننا بأشجار سعد ياسين يوسف نحلّق عميقاً، ممسوسين بوجع الأرض واحتراقاتها، أليس في العمق تكمن الرّوح، هذه صلواتنا التي كتبها لنا الربّ المتعالي، في كلّ سجود على الأرض نرتقي صوب سدرة المنتهى، شجرة النهاية التي لم يصلها إلا نبينا المحبوب، ومن تعدّاها بلغ العدم (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) النجم: 13-16، ألم يكن إبراهيم عليه السلام شجرةَ أور التي تناسل منها الأنبياء، بعد أن أصبح إبراهيم عليه السلام شجرةً وارفةَ الظِّلال مثمرةً، فهو النبي والخليل والإمام، فمحمدنا عليه السلام ابن هذه الأرض، من عطر أور، وإن كان في البدء نوراً، (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) آل عمران: 34، فهو الذي بلغ سدرة المنتهى، فعُمقنا عروج لفردوسنا المنشودِ فيها، وإن عُمّدت محجاته بالدّم:

ألا تكفي ابتسامات الدمِ

في صدورهم

حينَ تعرّوا للرصاصِ

الباحثِ عن وطنٍ فيهم

في رحلتهم الأزليةِ

للبحث عن وطن...؟؟؟!!!

في رحلة المتاه تتدافع أحلامُنا متأثرة بالحدث الكوني حتى لو كان خفقةَ جناح فراشة أو حبةَ رملٍ على الشاطئ حرّكتها يدُ طفلٍ ترسم براءتُهُ القمرَ مُمتَزَجةً بخيال عاشق أو عاشقة يختلسان النظر إليه، فتغدو ألواحُ الطين ضوءاً من ألواح حُلم، عنوان القصيدة الثانية، تعرج بنا صوب سماء نائية وإن كانت تحلّق عميقاً، لكن هل نقبض على أحلامنا بعيوننا المغمضة خوفاً وانبهاراً:

ممسكونَ بالمجرةِ

منذ أن توسّد القرنفلُ

ألواحَ البدء راسماً سُلالةَ الضوء،

ملامحَ الغبطةِ الغامضةِ في الطينِ

وهو يراقصُ نيرانَ البشارةِ

قبل انبثاقِ زهرةِ الشمسِ

وكلّما اقتربنا

من الإمساكِ بحلمنا الضائع

فرَّ هارباً...

لا أظنُّنا نملك قدرةَ الإمساك بحلمنا ما دامت عيونُنا مفتوحةً على آفاق وجودنا، وهي تبحث عن نافذة للإفلات من حوادث القهر التي تطوقُنا مثلَ سوار، فضوءُ المجرات البعيدة لا يُدرك إلّا بعيون مغمضة، إغماضةُ العين تعني مشاهدة الأعماق وإعمال التفكّر فيها، حيث هناك تستقر أحلامُنا، تقودنا إليها الغبطةُ المودعةُ في الطين، هذا هو البدء والابتداء، ضوءُ التاريخ وعَتمتُهُ متوهّجاً بزهرة الشمس ومتوّجاً بها قبل انبثاقها، يا للقدر كلما اقتربنا كان الابتعاد، فخسرنا أحلامنا، خسرناها هاربةً، معلنةً عن عدم اكتساب الهُوية معناها، حيث لا تكتمل صورةُ الإنسان في مراياه المتكسّرة، هكذا يكتب إيقاعُ القصيدةِ ذاتَ الإنسان وهي لا تحرز اكتمالَها.

نركضُ خلفه بيدين مفتوحتينِ

وعينين مغمضتينِ

وما أن نُمسكَ أطرافَهُ

حتى يتمزّقَ

كقميصِ نبي دكّتهُ شمسُ الأمنياتِ..!!!

فإذا كانت زهرةُ الشمس تنتظر حريتَها التي تبتدئ وأولَ خيطِ ضوءٍ لمعشوقتها الشمس، فإن الذات الكاتبة تتجسّدن فينا في الأزمنة كلّها، يرتبط حاضرنا بالماضي، ليس في رحلة نكوص، بل في الكشف عن غدر الزمان والإنسان وسرهما كما فُعل بالنبي يوسف عليه السلام، أنموذجاً بدئياً استعاض الشاعرُ عنه بالقميص وبالفعل (دك) الذي يدل على استواء الأرض وطمر البئر، وهو قميص الكذبة الثانية التي أطاحت بحياة نبي، وما قَدِرَتْ مادام الربُّ الشاهدَ والحارسَ، وهذا هو حالُ الأرضِ وأشجارِها المحلّقةِ عميقاً، تحلّق عميقاً لترى مسيرة أحلامها في جفنٍ مرتجف، أو غيمةٍ تحملها الريحُ غيثاً يندّي ترابَ الأرض منحدراً فيها.

أو رايةِ وطنٍ بلَّلتها

دموعُ اليماماتِ

الّتي طافتْ حولَها

فلم ترَ سوى حبلِ الصَّيادِ

وهو يرتفعُ صوبَ رَقَبَتِها

تاركةً لرفيفِ جناحيها

أنْ يرسمَ شكلَ الحُلمِ

في الهواءِ...!!!

تنحني الزهرةُ..

كمسمارٍ أعيتهُ المطارقُ،

يتطايرُ شرراً من صراخٍ

لتشتعلَ المجرَّةُ بين أيدينا

تضيءُ ظلاماً آخرَ

تحتَ ذريعةِ الحُلمِ الّذي

ما أَجَدْنا رسمَهُ....

ونحنُ نلقي برؤوسِنا على

ألواحِ طينِ طقوسِنا

السَّاحرةِ...

يَنْشَدِهُ الشاعرُ بلغة التراب الذي يبله الماءُ فيغدو لوحاً، لا يغادر صمتَهُ إلّا بعود استُل من قلب شجرة به يرسم الإنسان تشوفاتِهِ ورؤاه، أليس الماءُ حليبَ السماءِ ترسله لأختها الأرض صدرَ أمٍّ ترتوي منه أحلامُنا، هكذا يبتعد الشاعر سعد ياسين يوسف عن الصور الساكنة في ابتناء دوال القصيدة المتحركة نحو أعماق الروح والأرض في آن، فالحلم شجرةٌ أيضاً بها يكتمل الإنسان، وهو يؤدي طقسَه الساحرَ، لكن أنّى له الاكتمال...

عنوانات قصائد ديوان الأشجارُ تحلّقُ عميقاً هي هُوية الشاعرِ الشعريّةُ والإنسانيّةُ بها نحقّب عميقاً، فنعيد معاينة الإدراك وترتيبه، فإذا كانت شجرةُ المعرفة قد كشفت للإنسان سرَّ لذةِ الجسد وغوايته، فإن شجرة اليقطين قد غطّت هذا السرَّ لرعايته، (وَأَنۢبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍۢ) الصافات 146، لأن الإنسان قد اكتشف حرارة السرِّ فيه، من هنا أعدّ قصائد الشاعر سعد ياسين يوسف الباب الذي نلج منه إلى عالمه الممتلئ شعراً وفكراً، مقدماً (أنا) بين يديّ مقطعاً من شجرةُ العودِ، القصيدة السادسة، سبيلاً لقراءة قادمة.

حينَ ارتقيتِ

سُلّمَ شجرتي

شددنا معاً وترَ الغصنِ السَّادسِ

فتبسّمَ "زريابُ"

إذ أزلْتِ سقفَ المسافةِ

لتهبطَ عليَّ الملائكةُ

وأنا في محرابِ التَّوهُّج

أنتظرُ نجمَكِ المتلألئَ

يُمطِرُني بفراشاتِ الضَّوء.

***

د. محمد عبد الرضا شياع

كاتب وأكاديمي من العراق – أمريكا

.................................

* سعد ياسين يوسف: (الأشجارُ تحلّقُ عميقاً)، دار أمل الجديدة، دمشق، الطبعة الأولى، 2021.

 

تقديم أول: أقامت دائرة السينما والمسرح بالتعاون مع نقابة الفنانين العراقيين احتفالا بمناسبة يوم المسرح العالمي، تحت عنوان أيام مسرحية عراقية للفترة من 25 ولغاية 28 / 3 /2024 في مسرح الرشيد، تم تكريم العديد من الفنانين والاحتفاء بجهودهم في دعم وتحصين المشهد المسرحي العراقي، قدمت ثلاث عروض مسرحية مميزة هي (عرض مسرحية عزرائيل - عرض مسرحية حياة سعيده - عرض مسرحية لعنه بيضاء) وجميعها عروض تستحق الوقوف عندها، وتأمل ما تفردت به من خصائص، تستوجب تناولها بالدرس والتحليل.

تقديم ثان:

أول عرض أخرجه د.محمد حسين حبيب عام ١٩٨٦ - مسرحية (أهمس في أذني السليمة) شاهدته في منتدى المسرح، وشاهدت يوم الخميس ٢٨/ ٣/ ٢٠٢٤ الساعة التاسعة مساء على مسرح الرشيد - بغداد عرض مسرحية (لعنة بيضاء) من إخراجه وتأليف أحمد عباس، عن قصة للكاتب (الإيطالي ايتاليو كالفينو) بعنوان (شاة سوداء)، بين العرضين ثمان وثلاثون سنة قدم خلالها ثمان وعشرون عرضا مسرحيا، لقد تمرس د.محمد حسين حبيب في العمل المسرحي والدرس الأكاديمي بصفته استاذاً في كلية الفنون الجميلة - جامعة بابل.3627 لعنة بيضاء

عرض مسرحية (لعنة بيضاء)

عنوان العرض (لعنة بيضاء) الشفرة الاولى في العرض، ولا يمكن كشف مداها وعمقها ما لم يكتمل العرض، انها ليست لعنة فردية، هي لعنة أصابت المجتمع الذي يعمل على تبييضها، رغم أنه يدرك ان سلوكه مضاد للقيم النبيلة والاخلاق الحميدة، ويبدو أن النجاة من اللعنة ليس سهلا، يقرر المؤلف لا نجاة من اللعنة بدلالة أن الشخصية الوحيدة المتمسكة بالفضيلة يتم التخلص منها.

انطوى نص المؤلف (احمد عباس) على فكرة مركزية واحدة، لم يغادرها إلى طرح أفكار ثانوية، في حين تعددت الأحداث التي لا رابط بينها سوى أنها تصب في ذات الفكرة، تبلورت فكرة المسرحية بالمقولة التالية :

(حتى إن عمّ الفساد وشاعت السرقة وخربت شرائح اجتماعية كثيرة لابد من وجود شخصية ترفض ان تكون جزء من نظام الرذيلة وتنأى عن المشاركة فيه)

اتضح فساد الجميع من خلال ثلاث مشاهد قدمت باللهجة والروح المحلية:

مشهد السرقة: بدأ مع الموسيقى بحركة معبرة بوضوح واستبعد لغة الكلام، تذهب الشخصيات تحمل سلة مهملات إلى بيت الجار لتفرغ سلته مما فيها، وفي الوقت نفسه هناك شخصية ثانية تفرغ سلة الذي أفرغ سلة جاره في سلتها، وتوجد شخصية ثالثة تفرغ سلة اخرى جار آخر وهكذا تبدو عملية السرقة متوالية، انها حالة طبيعية في هذا المجتمع، ومن لا يسرق هو استثناء من قاعدة السرقة التي عمت المجتمع.

مشهد السوق: رجل يبيع الخضار الفاسد، يأتي رجل ليشتري مع علمه ان هذا الخضار فاسد، يدفع مبلغ الشراء بعملة مزيفة، يقبلها البائع مع علمه بانها مزيفة لأنه سيدفعها إلى آخر يعلم أنها مزيفة، وهكذا تدور عمليات البيع والشراء.

مشهد العيادة : الطبيب والأستاذ الجامعي المريض، الطبيب يبالغ بفحوصات المريض من حيث عددها وأسعارها الباهظة وكلف العلاج والدواء، يبحث الأستاذ الجامعي/المريض في كيفية توفير المبلغ اللازم، لا يجد سوى الاحتيال على طلاب الجامعة وابتزازهم سبيلا لتوفير مبلغ علاجه.3629 لعنة بيضاء

كل مشهد من المشاهد الثلاثة مستقل بحكايته وشخصيّاته، ولا يرتبط بالمشهد الآخر عضويا كجزء من الحدث، بل يرتبط بصفته أحد محاور الفكرة، المشاهد الثلاثة قالت بصيغة مباشرة المتداول في بعض الأوساط الإعلامية وتطبيقات التواصل والحوار السياسي، وما يتداوله الشارع بنقمة وازدراء، وقد عمل المؤلف (احمد عباس) على تكييف المتداول على وفق عناصر الدراما غير التقليدية، بدأ خط البنية هرمية للأحداث يتضح وصولا الى الصراع صاعد وثم إلى الذروة حالما اتضحت اطراف الصراع، وكانت الغلبة محسومة من البداية لطرف الفساد، وقد استسلم (الرجل الأمين) بسهولة لقوة المجموعة المهيمنة بقيادة المختار وزمرة السراق، ولم يفعل شيئاً يوازي قوة الطغاة سوى تعلقه - اي الرجل الأمين - بكتبه حتى النهاية والارتقاء على الجسر،عسى ان تنظف الكتب المياه القذرة الجارية تحت الجسر، أسقطوه من الجسر فاشتعلت النيران، انها صورة شعرية كتبها المؤلف وعمل المخرج على تنفيذها حين جعل النيران تشتعل على السايك الخلفي وملأ الفضاء المسرحي بركام البيوت والحواجز وبسطات الباعة، وبعدها جاء المايسترو ليعزف موسيقى النهاية.

جاء الإخراج لنقل القول المباشر وتقديمه بمعالجة درامية ورؤية جمالية، والضرورة الجمالية تستلزم بناء أنساق مشفرة يتفرد بها، من خلال إنشاء لغةٍ تواصلية بين العرض ومتلقيه، تكفل جعل المتلقي شغوفا بما تقدمه الشخصيات، منتظرا للآتي من الأحداث.

بدأت مسرحية لعنة بيضاء بقائد (مايسترو) فرقة موسيقية منسجمة وانتهى العرض بالمايسترو نفسه ولكنه يقود وسط خراب وركام هياكل البيوت التي سكنها الفاسدون والمفسدون، ولم يظهر بينهم سوى (رجل امين) واحد قتلوه او اجبروه على الموت، ولم يشفع لظاهرة اللا أمل التي تمت بها المعالجة الاخراجية سوى أمرين :

الأول: أن الراقصين الذين استهلّوا العرض وختموه بحركاتهم الإيقاعيّة هم شباب يرسمون صورة تدعو للتفاؤل وإن كانوا جزء من منظومة القيم المتدهورة بصورة ما.

الثآني: أن مخرج العرض وضع وشاح الرجل الأمين على كتفيه في نهاية العرض وتقدم لتحية الجمهور بدلالة قصدية واضحة تعني أنه وفريق العمل تصدوا إلى ظاهرة الفساد والمفسدين من خلال العرض وسيستمرون بهذا.

من جماليات العرض وجود امتدادات على السايك الخلفي (الشاشة) لما يجري على الخشبة، إذ عرض عمليات سرقة لا متناهية، مشهد السرقة (الجميع يسرق من الجميع ) ومشهد السوق (الجميع يغش الجميع) ومشهد العيادة (الجميع يبتز الجميع)3630 لعنة بيضاء

قدم المخرج معالجة للساكن الجديد في أحد هياكل البيوت، عبرمنحه صورة المصلح/المثقف، وسماه المؤلف (الرجل الأمين) الذي لا يقبل أن يَسرق ولا يتقبل أن يُسرق، كل ما يريده هو أن يعيش في مجتمع من الأسوياء، بمعنى أن يتمتع الأفراد بالأخلاق الحميدة التي فطر الإنسان عليها، وان تسود القيم وتلفظ الانحرافات بعيدا، ومن خلاله اتضحت مفارقة العرض لأنه (وحده) مَثّلَ الطرف الثاني في الصراع، أما الطرف الأول فهو المجتمع الغارق بالرذيلة بدرجات متفاوتة وبأعمارهم المتباينة، مع الإشارة إلى أنه مجتمع ذكوري بامتياز فلا وجود للمرأة في هذا العرض.

دفع المخرجُ الممثلون إلى ابتكار بنية شخصياتهم وإظهارها بترجيعات واقعية عبر إنشاء ملامح مأخوذة من شخصيات متواجدة في المجتمع، الممثل (علي حسن علوان) جسد شخصية (رجل النظام) الذي لا يقبل أن يتواجد رجل لا يسرق في مجتمعه، فهو ينادي بالنظام ويعمل على تطبيق اللا نظام، اما (علي عدنان التويجري) الذي جسد شخصية بائع البضاعة الفاسدة بصوته العالي وملامحه غير المستقرة، انه البائع الصلف الفظ، وهو نموذج يتواجد عادة في الأسواق، وقدم (فقدان طاهر) شخصية الطبيب الجشع الذي يبتز المرضى بالمبالغة بسبل العلاج بالتواطؤ مع ضعاف النفوس من ذوي المهن الطبية الأخرى، وانعكس ذلك على الأداء المبالغ به بالصوت والانفعالات وعدم الاستقرار الحركي، وظهرت شخصية الأستاذ الجامعي هزيلة وبلا قرار صائب، جسدها الممثل (علاء القره غولي) فبعد تفكير توصلت الشخصية إلى أن الوسيلة الوحيدة لدفع تكاليف علاجها هي ابتزاز طلبة الدراسات العليا، وهكذا الحال مع شخصية (المختار) المسندة للممثل (مخلد الجبوري) تجسدت بلمسة العباءة العربية وصفة القيادة الجوفاء.

الديكور بمفهومه التقليدي يعني عمارة ثابتة -غالبا- وصناعة مشهدية يوحي ببيئة الأحداث بالإفصاح عن الزمان والمكان، ويساعد على تعرف المستوى الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه الشخصيات وتنمو فيه الأحداث، في عرض (لعنة بيضاء) استخدمت مفردات ديكورية شكلت مناظر العرض المتعددة، وهي: هياكل بشكل متوازي مستطيلات وكراسي مصنوعة من خامة واحدة وبلون واحد بأحجام مختلفة، هذه المفردات شكلت البيوت، والحواجز بين الناس، وبسطات السوق، وأدوات لمهاجمة العدو (الرجل الأمين) وتتركب فوق بعضها لتكون ركام نهاية العرض.

كان تصميم الأزياء نفسه للجميع الشخصيات (بدلة سوداء وقميص ابيض وفيونكه حمراء) عدا شخصية الرجل الأمين فهو يرتدي بنطلون وقميص اسود ويضع على كتفه قماش ابيض يلفه على رقبته، وشخصية المختار الذي تميز بوضع العباءة العربية على كتفيه

للإضاءة في هذا العرض دور جمالي فضلا عن مهمتها الأساسية في صنع الجو النفسي العام وتيسير الرؤية، فكان مصمم الاضاءة علي المطيري منسقا للمنظر ومضيئا لما خفي من بواطن الشخصيات والأحداث بفاعلية الضوء والظل واشعال الحرائق اظهار فعل السرقة الممتد إلى ما لا نهاية.

ثلاث خصائص في هذا العرض:

1. حفل العرض بالتنوع: أداء تمثيلي (صوت وحركة وانفعال) وحركات جماعية تعبيرية إيقاعية (كوريوغراف Choreograhg)، وشغل حركي صامت.

2. المعتاد في رؤى المؤلفين تقديم الجماعة الخيرة قبالة طغيان فرد مع بعض الأعوان لتحصل المواجهة بين طرفي الصراع، وغالبا ما تنتهي بالقضاء على الفرد وأعوانه، كما في مسرحية مكبث وغيرها، قدم مؤلف مسرحية (لعنة بيضاء) رؤية -ربما- فريدة من نوعها، بأن جعل الجماعة باغية طاغية سادرة بعالم بلا قيم، وجعل الفرد المثقف يتعرض إلى هذا البغي والطغيان لا لشيء إلا لانه لم يشترك مع الجماعة ومنصرف إلى قراءة  الكتب، وفي هذا تغريب واضح للواقع الاجتماعي الذي يتمسك بالأخلاقيات السامية والشواذ فيه قلة، وان بدت الكثرة عليهم فهي بسبب مسارات النشاز التي يسلكونها

3. تناول العرض موضوعة موغلة بالمحلية: رصد العرضُ مشكلة/ ظاهرةً واقعية وعالجها بأسلوب غير واقعي يدركه المتلقي بوضوح،  وهذا امر غير يسير.

يقال ان الفنان يرى ما لا يراه الآخرون، قدم عرض (لعنة بيضاء) ما يراه الآخرون ويسكتون عنه، لقد كسر الصمت الدرامي بتقديم المشكلات الواضحة بأسلوب متفرد، لقد تصدى المؤلف (احمد عباس) وجميع فريق العمل من فنانين وفنيين بقيادة المخرج (محمد حسين حبيب) لإيضاح الواضحات - وهذا من أشكل المشكلات - بأسلوب جمالي امسك بالمتلقي حتى النهاية.

***

د. حبيب ظاهر حبيب

 

لحميد الحريزي

توطئة: ان ثيمة ثقافة قدسية الوطن وحب الأنسان ونسغهِ الصاعد أستدامة الحرية والخبز من أهم الأساليب التي وظفها حميد الحريزي في مجموعته الشعرية " مشاهدات مجنون في عصر العولمة " يكشف أسرار ذاتهُ وأرهاصاتها السايكولوجية وتكاد تكون الثيمة الرئيسة في ديوانهٍ والتي شكلت البنية الهندسية المعمارية الرصينة للقصيدة ومن خلال هذه الأثارات الأيحائية الوطنية يتجه مؤشر بوصلتهٍ بأتجاه صناعة (الأدراك والوعي) عند الجماهير المسحوقة، لعمري هنا بيت القصيد في توفر (الوعي) عند الشعب المغلوب على أمره يعتبر (كود) الثورة حسب نبوءات الفيلسوف الألماني ماركس، أجزم إنها الوريث الشرعي لرقي القصيدة العراقية والعربية لقد أثارت طوفاناً تسونامياً جارفا من الكمْ الثري من الأسئلة حول طروحاته الفلسفية الترميزية ومحتوياتها الغرائبية والعجائبية والتشاؤمية لموضوع الساعة (حب الأرض وعشق الوطن والتأمل الواعد في أستراتيجية هيكلته أيقونة مبهرة بين الأوطان .

الموضوع: أحببتُ أن أقتحم قلاع ديوان حميد الحريزي هذه المرة بأسلوب نقديٍ مغايربمجسر سايكولوجي للكاتب وسوسيولوجي للنصية السردية للقصائد، يقتضي أخذ الحذر والحيطة والتركيزلأني أمام جبلين خطرين الأول فوبيا سيمياء العنوان المثير للجدل (مجنون وعولمة) والثاني التعامل مع كاتب متمرس وروائي قل نظيره وشاعرمتمكن يلعب بجميع أوراق فنون الشعر وصحفي أعلامي وجندي شجاع باسل وصبور في مهنة المتاعب وشخصية كاريزمية مهيبة ثابت الخطوة يمشي ملكا، خلال قراءة الفصل الأول من المجموعة الشعرية ترى نفسك أسيرا في جو ظلامي مرعب يقودك مجنون عبر مفازة (يباب) قاحلة تتصادم مع مطباتها ومتاهاتها وكأنك تجريبي مطوع لتجربة العالم الروسي (بافلوف) في تجربة المتاهات، حقاً وجدتُ في مجمل قصائده الشعرية إنها غرائبية الطرح أقتحامية وبكل جرأة يوجز حياتنا بجملة كبيرة من التناقضات صراع بين الجلاد والضحية وبين السارق والمسروق وبين المترف والجائع وبين الرابح والمنحوس والمتغطرس والذليل وجلها تتراكم وتزدحم في بودقة الصراع الطبقي للعم ماركس، وبهذه الآرهاصات المتضاربة قررت أقتحام أسوار الشاعر الكبير "حميد الحريزي"، وأحببت ُالنصية السردية للمجموعة وجدتها بوح سردي حكاواتي لأجيال مترعة بالدراما والتراجيدية المأساوية، يقول الكاتب حميد الحريزي عن نفسهٍ في نجوى حالم يبحث عن وطن حر وخبزٍ نظيف، وثمة فضول يثيرلدي سؤالا: أتعلم لماذا أنتحر همنغواي؟! وهو في صراع مرير مع المجهول وخيبات ذلك اليوم المنحوس لقد ميَز بين كائنين من البشركائن شرير وكائن أيجابي مصلح، فالأول وغد ووقح وأكثر قوة وتأثير وجاه وسلطة فهو سيد الموقف في دولة التفاهة والرثاثة حائز على الأغلبية المطلقة في مؤسسات ا لنهب في الدولة العميقة أو دولة (اللادولة) كما سماها الكاتب الراحل فالح عبدالجبار، والثاني كائن أيجابي لا مكان له في الأعراب عدا (لا) النافية، ووشم على الجبين وبتر الآذان . لذا أخاطب زميلي وأستاذي الشاعر الكبير حميد الحريزي (ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ فالقوم في سرغير القوم في العلن!).

الآغراض الشعرية في مجموعة الحريزي

- في أمراض عصر العولمة صخب الحياة، أنتشار الأنتاج الرقمي الأفتراضي، العزلة عن الواقع الأجتماعي، تفكيك الأواصر الأسرية، تكليس الذات البشرية والعاطفية الوجدانية، وأختار الوطن (العزلة) لمئة عام منذ ترقيم التأسيس المنحوس 1921 وأستنساخ المواطن (الطوعي) كما يسميه الفيلسوف الكندي آلان دونوفي كتابه دولة التفاهة إن ذلك المواطن الذي يمارس المخدرات والمسكنات المتمثلة بتوطين الغيبيات اللاهوتية وانتظار المنقذ!؟ وتقول القصيدة:

في قاعات الدرس

يعلمنا فن الخطابة أخرس

ومتسوُلْ أعمى

وشيخ الحي

يعلمنا فنون المنكر والرجس!

كأننا أمام عولمة جديدة ؟!

- ترميز زمكنة الواقع بأرختة سايكولوجية وسوسيولوجية المجتمع العراقي في عهد الحكومة السابقة لخمس وثلاثين سنة عجاف لا يعصرُ فيها ولا يطحن عدا طحن تدمير الروح العراقية والتي يسميها مُنظْرْ البعث الكاتب والمؤرخ " حسن العلوي " بجمهورية الخوف، عند تفحص سايكولوجية المجنون بطل المجموعة الشعرية في فصل الرقم المنحوس لعصر العولمة والذي يصرح بتشاؤمية شديدة من اللاوعي الباطني إن وحدهُ هو(العاقل) وغيرهُ في عصر العولمة هم المجانين، وعند الفلترة (الفرويدية) لهذا التصريح الخطير، يقول: إن التشاؤم قمة الوعي وأقصى درجات الرفض، ولفتت نظري قصيدة أخرى في مضمون التورية والترميزالمقصود في أدوات (النصب) هو الأحتيال وأدوات الجر هو قيادة الشعوب المقهورة كالخرفان، وقال فيها الحريزي:

الرقم المنحوس     

العالم مشغول بسر عولمتنا

تمثلنا (الدي) فهي الرأس

أل (مقراطية) ذيل

يجرح عزتنا لا نقبلهُ

نحن علمنا الناس سر الحرف

وسر (النهب) وسر (الكرف)    

فليتوجه كل العالم صوب قبلتنا

والعالم مشغول بسر عولمتنا

وقصيدة قطعان

قطعان مدينتنا

تعاف البرسيم

وتلتهم أوراق ورد الجوري

حمير مدينتنا

تُدرسْ ساستنا علم المنطق

وأدوات النصب والجرْ

- ينحو كاتبنا أحيانا كثيرة إلى الضغط على الحرف والنفخ فيه ليتحول إلى تمثيل الجملة بل الصورة الشعرية بفنتازية خيالية وربما مأساوية، بأعتقادي أنها عادية تجد سداها ولحمتها عند الكبار من الشعراء، قال فيها المتنبي:

يوماً رأيتُ الذئب يحلبُ نملةً – ويشربُ منها رائباً وحليبا، وقالت العرب: أعذب الشعر أكذبهُ؟!!!

غجرية ثملى

تنشد لحن (الهجع)

من فوق مئذنة الحي

المزينة بالدولارات النفطية

-في تقديس حب الحياة والحرية والديمقراطية مرادفة لفروض صلاة "أنتصر للحرية وحب الوطن" المجموعة الشعرية دعوة للحياة بشكلٍ مغاير، وثمة أحساس ما بين السطور أنها دعوة من الشاعر الحريزي لحبٍ عذري وصوفي خالي من الماديات والخاضعة للتجربة، أممية المحتوى أنسانية الهوى ويتماهى هذا الحب المقدس مع نهرٍ بلا ضفاف من الأنسنة والفضيلة، وهي دعوة تأمل باللجوء إلى العقل بتقديس الوطن والتراب، لا كما أنسان اليوم في عصر العولمة الرقمية المعصرنة حيث يطحن بأزيز آلات العسكرتارية وماكنات أمبراطوريات تجار الحروب العبثية ربما بعجلة غيلان النفط والدولاروالدم، وتجير الطبقة الوسطى إلى عالم اليأس والقنوط ومصادرة حرياته وسحق روحهِ بتقديس (السلطان) بشعاره أنا ربكم الأعلى المفرو ض قسراً، المجنون في هذه المشاهدة يستعمل ألفاظاً مستهجنة تحت عباءة جنونهِ من ناحية وبما يليق بحكام عصره من جهة ثانية، يقول الشاعر فيها:

من بركاتنا

جعلناكم خصياناً

لاتحزن

نساءكم سيطؤها سيدنا السلطان

أعفاكم من الشقاء

لاظلم بعد اليوم

للكل الحق ب(---) السلطان ؟؟؟

تتزين صدورهن

بقلائد مرصعة بكرات من براز السلطان

نساء لا تنجب إلا بأمر من (---) السلطان

- تزخر المجموعة الشعرية لنظرية التضادات والمتقاطعات فكرياً وعقائديا وسلوكيا من خير وشر وحرب وسلم وعقل وقلب وحب وكراهية والمحلل والمحرم والمؤمن والملحد والمجنون والعاقل والرحمن والشيطان والحقيقة والزيف والحرية والعبودية، وتلك علامات تكاملية جمالية في ديوانه الجديد المجموعة الشعرية في "مشاهدات مجنون في عصر العولمة"

عاش الأمير

كلنا حمير

أسجد للمنصور والمعتصم

والمؤيد بالله

فهو الأول والآخر

- من سيمياء ديوان الحريزي ترى شيئاً من الغرائبية ملفتا للنظرتحمل دلالات ملتهبة وهامة بل منبعثات محرقة تقتحم ممنوع الممنوع ليقدم مدونة غريبة مفاجئة لم ينتهي الجدال فيها تأريخيا بعد، حسب أعتقادي الأدبي: إنهُ نجح في تقديم ملحمة شعرية في التناص والأسلوب والقصد، يتكون النص من 13مشهدا تراجيديا بنكهة الهزيمة والقهر والأحباط، وسمى المشهد الأخير بالمشهد المنحوس، يقول:

أنا صوت (القواد) وربان

المقود

أنا السيد الأعلى

أنا الأله الأعمى

أنا راعي القطيع الأسمى

أنا الأ ول أنا الآخر

أنا الوحيد الأوحد

أنا المعبود وأنا العابد

-ومن مشاهدة أخرى للمجنون معارضته للسلطان الوالي والذي يحكم العباد بموجب نظرية الحق الآلهي وترميزها يقصد أصحاب القرار السياسي في العراق العظيم بأستعمال التهمة الجاهزة (التجاوز على التفوبض الآلهي) والحكم بالحد الشرعي بالموت كما جرى قديما للحلاج بتهمة الزندقة، وحديثا قريبا في العهد الصدامي كانت خشبة الموت جاهزة لتهمة شتم رمز العراق الأوحد يقول فيها الشاعر:

ممنوع

ممنوع كل شيء

ممارسة الموت

في الشارع مقبول

أما الفرح محظور

حتى خلف الباب المقفلة

-أخيراً: إن الشاعر " حميد الحريزي " يقدم بعض الرؤى الباعثة على التأمل والتفكير منها حب تراب الوطن والتمسك بالحرية والحب والجمال والسلام على الوطن للوصول إلى المدينة الفاضلة (اليوتوبيا)، والتمسك بمدرسة الحياة والحرية، وصفحات من حكومات الصعاليك والدولة العميقة واللادولة، ومع الأسف الشديد في زمننا زمن منصة التواصل البغيض نجحت في ترميز التافهين حيث صار بأمكان أية جميلة بلهاء ووسيم فارغ من ذوي عاهات قطع الأرحام ونكران الجميل أن يفرضوا أنفسهم عبرعدة منصات هلامية غير منتجة وهو زمن ألصعاليك فكلما تعمق الأنسان بالأسفاف والأبتذال والهبوط كلما أزداد جماهيرية وشهرة، تنشرجيناتها الشريرة والمدجنة عبر المنصات الهابطة وما أكثرها تعمل على تفريخ اليأس والقنوط والأستسلام التام لنظام التفاهة حكومات الصعاليك حيث أستنساخ (المواطن الطوعي) وهات يا عجب!! حين تنتشر فايروسات الدعاوي الكيدية والمخبر السري بتشغيل ديناميكية المقاصل وخشبات الأعدام وكانت ضحاياها الآلاف من الأبرياء، أحدهم منذ ثلاثين عاما أعدم صوت الجنوب الفنان صباح السهل في 1993ضحية بشاعة النظام الشمولي السابق أثر دعوة كيدية من زوجته الثانية، حيث كانت له آخر أغنية شجية مؤثرة (بلايا وداع) كلمات شاعرالفراتين عريان سيد خلف ولحن الكبير جواد أموري: مثل الماي من ينشف بلايا وداع –تدريني هرش أوجرت بيه الكاع – يا رخص البشر من ينشرى وينباع!!!؟

***

عبد الجبار نوري: كاتب عراقي مغترب

في نيسان 2024

.....................

هوامش

- مصير العولمة بين التشكيك والمواجهة – عثمان محمد عثمان

- الأخوة الأعداء – ديستوفيسكي

- دولة التفاهة – آلان دونو

البشير عبيد، شاعر وكاتب مهتم بقضايا التنمية والتنوير الفكري والمواطنة.. ناشط في الحركة الحقوقية والمشهد الثقافي التونسي..

طاقة ابداعية متأججة قصيدته نثرية حديثة يضخ بها من وهج ذاكرته مازجا اياها برؤية تفعيل ديناميكي مستمر كعجلة في طريق ومع انه شاعر حداثوي الا انه يرفدها بالموسيقى احيانا وبالايقاع الخارجي اضافة لايقاع بصمته داخليا قاموسه اللغوي والشعري يجعلها مزيجا فريدا بين لغة رصينة راقية وبين لغة سلسة محكية في نصوص لا تخلو من دسامة الحكمة التي توشح نصوص الشعراء المتميزين اضافة الى مغزاها الرسالي.

الشاعر البشير عبيد عروبي الانتماء والنشأة تقدمي التوجه ففي كل نصوصه التي قرأتها اجد بصمة الهوية واضحة تحمل مشعلا للشباب (الجيل)، والجميل انه يرسم لوحات امل في استدعاء ذاكرة اقل تشويشا باشارته للاقاليم البعيدة كنوع من التدليل على ان مشكاة الاوطان من هناك تضيء حيث القيم الصافية السامية وهذا تأصيل واضح الوجهة والتوجه لاجل ضخها في ساحة المدنية وجعلها ذات قيمة فعالة منغمسة في جعل الماضي والحاضر ككفي فعل لاجل بناء مستقبل مأمول..

 مأمول منهما تحريك الرواكد لاجل اعلاء الامل وجعله واقعا يتحقق، وتلك هي الروح الفاعلة عند كل مفصل من مفاصل النهوض

ولعل الاشارة الى مقولات ابن خلدون اكثر تدليلا على دعم هذه القراءة الخاطفة، فابن خلدون يولي اهتماما كبيرا ب(محيط) دائرة الصراع او الفعل اكثر من (المركز) من حيث (التشخيص والابتداء) وان كان المركز هو الغاية الاخيرة (باعتبارة موئل الادارات المنظمة للارادات)

اهالي الاقاليم يقول عنهم (ابن خلدون) انهم تكفيهم الاحتياجات الاساسية الملحة فقط وانهم اكثر جدية ونشاطا وبأساً وصبرا وهمة وفضولا ووضوحا وحتى اخطائهم يمكن تداركها بطرق ابسط من اخطاء اهل العواصم  الذين يركنون للراحة والملذات والكماليات اكثر فتهمد بذلك هممهم ويكون تغييرهم وحملهم على العطاء والجد وتحمّل المسؤولية اصعب وهنا ابن خلدون يربط ذلك بقوة الدول وضعفها ومحاولات الاصلاح والصلاح الاجتماعي والثقافي والسياسي

وذلك ما وجدته بصمة  في نصوص الشاعر  البشير

الذي يرسل اشارات عن البديل بذكره العبور، الهجرة، المنافي وغير ذلك كحمية وقاية او نظام علاج عن وعي تنويري تثويري جماعي السمة لا يفتر مبتعدا في كتاباته عن ذكر مناقبه(هو) ذاتا مبتعدة عن النرجسية واستعراض المغانم الفردية التي يتبجح بها أخر في واجهات المحافل والتجمعات،، الاحظ ذلك من خلال قراءتي شاعرنا البشير شعرا وطروح كتابة وافكارا وحضورا كثيفا في المواقع والمجلات والصحف وليس عن معايشة او مجايلة ولكنه استقراء من خلال متابعة الاثر ولا يفوتني القول ان من الفضيلة ان نحتفي بمبدعينا بحياتهم قبل ان تخط عكاز الوهن طريقها لصوامع العزلة التي تجعل المبدع رهين اكثر من محبسين ملصقة به تجاعيد نسيان وتناسٍ مخلفة رماد رأس كان يتدفق عطاء وحيوية..

***

حفريات في جسد المدى

البشير عبيد / تونس

قبل هطول مطر يناير

كانوا يمدحون الظلال

اخذتهم خطاهم إلى مدن الثلج

و الرماد

ليس في دفاترهم حكايا الرحيل المباغت

للملكوت

اصواتهم تجاوزت الشرفات

قبل مجيء الغروب ٫ يأتي الغرباء

ذاهلين تراهم عيون العسس

حالمين بالافق والتلال البعيدة

كانها منارة امراء الحرب قبل ضياع

الفريسة

هنا وصايا الولد العنيد تكتبها سواعد

فتيان الرصيف

لم نر في وجوه العابرين

دهشة الأجداد حين غابت عنهم حكايا

الولد الأسير

كثير من نبيذ الشرق على طاولة الذكرى

قليل من بياض الروح حذو النهر المتاخم

للحنين

*

قيل لاولاد الروابي انهم جاؤوا من ضفاف

المدى

ليس لهم في المدينة ذاكرة وأحفاد

لا يخافون من الأنواء

لا يهابون الضجيج الطالع من افواه

السفهاء

لا مكان لهم في مشهد الغيم المتناثر

في الزوايا

ربما خذلتهم الأجساد

و تبعثرت ألأوراق

بامكان القوافل الآتية من بعيد

أن تحفر في دهاليز الزمان

للمدى ذاكرة وانوار

للصدى إنفتاح المسافات على بهاء

الصياح

للريح الآتية من جنوب الأقاليم

ولد جسور وصبايا ذاهلات

هنا حبري وغضبي وذاكرتي ودعاء الأمهات

إحداهن إسمها آمنة

كانت تقول لي فجر كل يوم:

أكتب يا ولدي

و لا تلتفت إلى الوراء

حبرك محلق في سماء الينابيع

أكتب أيها الآتي من الزمن البعيد

 ولا تخف من سفهاء المرحلة

في البدء كانت الكلمة ونوارة الروح

*

ربما نسي الأحفاد ذاكرة الأجداد

و صار المكان القصي ملاذا للعابرين

هنا قريباً من الصدى ينام الفتى

بلا حقيبة باذخة

ولا مدد يأتي من الأنصار

لا خوف في الجسد النحيل

لا افق تراه العيون

لا أمل في القادمين من الأنفاق

كانهم جاؤوا من زمن بعيد

يحملون على الأكتاف بهاء اللغة

المشتهاة

هنا حبري ودمع الرجل الشريد

لم نكن وحدنا في لهيب العاصفة

كانت معنا الرياح اللواقح

ذاكرة الأيام

إنفتاح الكلام على ورقات الحنين

إخضرار الشجر الحزين

قبل هبوب العاصفة

رحيل الخطى إلى الملكوت

*

للجسد الغارق في المتاهة

آهات وصيحات الآتين من الأقاصي

قبل مرور الشاحنات تباغتني امراة

النور بالسؤال اليتيم:

كيف صار المشهد قريباً من الغيم

و البلاد صارت سرابا....؟!

ستبقى أصوات الرعاة ملاذا للعابرين

هنا سرب من حمام الشرق

يعبر الأقاليم

على الأجنحة ذاكرة الفيافي

و إرتمام الجسد في النهر المتاخم

للرخام القديم

28 فيفري / فبراير 2023

**

وحدهم يعبرون الجسر

البشير عبيد

يرحلون بإتجاه الغيم الآتي

من ذاكرة القرى الهاربة من التيه

يحملون حقيبة تلو أخرى ذاهلين

من جدار عتيق تداعى

و احلام فتية تبعثرت في الروابي

لم تكن الشفاه جاهزة للهمسات

في الخامس من تشرين تاخذنا الخطى

 إلى ينابيع الظلال

و الشيخ الضرير يباغتهم بالحكمة الباذخة:

باقون هنا كالشجر السامق في الجنوب

لاحفادنا بهاء الفكرة وكبرياء المعنى

العشاق لا تهمهم حرب هنا وعاصفة هناك

تلتقي الأجساد والأرواح  في الضفة الأخرى

من ذاكرة النور

إنتصف الليل ولم يأت المدد

لا خوف لي من الأفق البعيد

الأحداق

الكوابيس

عشق الفتى للورقات المكتوبة بحبر

الانحياز

ذهاب العسكر الى حروب عبثية

خروج الشبيبة من حدود بلاد غابت عنها

اقواس الحقيقة

*

يرحلون إلى زمن تداعت فيه المرايا

و صارت نوافذ الضوء ملاذا

للعابرين

ربما نسيت أو تناست امراة النور

كيف تحكي لاولاد الزقاق العتيق

ملحمة الأجداد قبل هطول المطر الغزير

و انسحاب الغزاة الشقر من لهيب

المعركة

يرحلون إلى مدن غابت عنها الينابيع

لم يكونوا فرسانا للكلام

أو عشاقا لانفلات الحبر في مدح النور الطالع

من قبو قديم

 *

فرادى يعبرون الجسر قبل مرور العاصفة

لم ينسوا ذاكرة القرى

حقيبة الشيخ الضرير

موسيقى الجاز

ثمار الحديقة المنسية

وصايا الأم للطفل الشريد

حكايا الصبايا في ليلة ماطرة

إنتصف الليل ولم يكتمل العناق الطويل

طلع النهار ولم يأت المدد

ربما صار الجسد الهزيل مزارا

لمن ناموا في العراء

هنا ذاكرة المرايا وانفتاح الأقاليم

على الشجر الحزين والينابيع

*

لعبور الجسر مباهج

و لاخضرار الروح طقوس وهواجس

فتيان القرى المنسية، كانوا وراء التلال

يحملون حقيبة تلو أخرى

لا شيء على الأكتاف

سوى حنين الأجساد للزقاق القديم

ذاكرة الأيام

هروب الفتية من صقيع الضواحي

كانهم جاؤوا من زمن بعيد

و ارتماء الجسد في اليم العتيق

كان لزاما على الفتيان ان يعبروا الجسر

فرادى

هناك حذو العربات القديمة

تتعالى الأصوات

ترتبك الأصابع

تكتب الأنامل النشيد المشاكس

هنا قرب الشيخ الضرير٫تمر القوافل

معلنة ذهاب الكلام الذهبي إلى ضفة الرؤيا

إنتصف الليل ولم يكتمل العناق الطويل

صارت الأجساد كفاكهة الشتاء

و امطار زمن المماليك

سريعا تاتي العواصف

قبل عبور أولاد القرى الجسر المتاخم

للانين

و متاهة المشهد

لا خوف للفتية من ضباع الشوارع

لا خوف للبلاد من ضباب مباغت......

***

ا. ثامر جاسم

اديب وناقد عراقي مقيم في تركيا

تونس - 2022/11/23

.......................

* الصورة للاستاذ البشير عبيد

عن رواية الكاتب الحائز على جائزة نوبل والتي نُشرت بعد وفاته، حتى أغسطس.

بقلم: جونوت دياز

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

توفي غابرييل غارسيا ماركيز، ساحر أراكاتاكا، وأحد أفضل الكتاب على هذا الكوكب، في عام 2014. من الصعب أن نتخيل ذلك عندما ننظر إلى الوراء، لكنه لم يكن يبدو دائمًا متجهًا إلى السماء؛ ولد فقيرًا ونشأ على يد أجداده، وكان صحفيًا مخلصًا لكنه مكافح، وصمتت روايته الأولى، "عاصفة الأوراق"، سبع سنوات قبل أن يجد ناشرًا. كتاب مبكر آخر، ساعة الشر، جاء وذهب دون ضجة. وبعد ذلك، في عام 1967، في ذروة الثقافة المضادة، نشر مائة عام من العزلة، وهو إنجاز هائل أكسبه استحسان النقاد، وقراء عالميين، وفي النهاية حصل على جائزة نوبل.

كان لجابو، كما يعرفه معجبوه، تأثير لم يحققه سوى عدد قليل من الفنانين في أي قرن، وفي أي نوع موسيقي. لم يقم أحد بتصوير عجز واقعية العالم الأول عن التعامل مع واقع العالم الثالث (أو شبح الاستعمار) بشكل أفضل من جارسيا ماركيز. لم يكن هناك أحد أفضل منا في وضع استراتيجية حول الكيفية التي يمكن بها لأولئك الذين ينحدرون من ما يسمى بشكل ملطف بالجنوب العالمي أن يلتقطوا حقائقنا المستحيلة، أو يتدخلوا بشكل هادف في الصراع الإمبراطوري بين الحقيقي والواقعي.

لقد غيّر غارسيا ماركيز الفن إلى الأبد. وربما كان ما فعله لكتاب أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي أقل ضخامة بعض الشيء: فقد فتح بابًا فنيًا لم تتمكن أي قوة على هذا الكوكب من إغلاقه. أنا لست الوحيد الذي يعتقد أنني لم أستطع أن أصبح الكاتب الذي أنا عليه بدون الأشباح التي أثارها.

لا يزال غارسيا ماركيز يقدم لنا رؤى تنبؤية، ولكن ربما ليس على وجه التحديد بالطريقة التي توقعها أو تمناها.

قبل أن يوقفه الخرف عن الكتابة تمامًا، كان غارسيا ماركيز يعمل بشكل متقطع على عمل روائي نهائي لم يكمله أبدًا بما يرضيه. بعد خمس مسودات، قال غارسيا ماركيز المريض لأبنائه: «هذا الكتاب لا يصلح. يجب تدميره."

ولم يتحدث بصوت عال. كما يعرف بالتأكيد أي شخص حاول تعقب المسودات المبكرة لأعماله، كان لدى غارسيا ماركيز عادة قاسية تتمثل في تدمير مسوداته - ولم يتردد أبدًا في ممارسة حق الكاتب المطلق في تحديد أي من أعماله يستحق تسليط الضوء عليه وما لا يستحق ذلك. ربما تلك طريقته في السيطرة على أسطورته الأدبية.

لا بد أنك سمعت الآن الدراما: تجاهل أبناء جارسيا ماركيز رغبات والدهم ونشروا بعد وفاته العمل الذي كان من المفترض أن يتم تدميره باعتباره رواية "ضائعة" - والتي نشرت مجلة نيويوركر مقتطفًا منها في عام 1999.

تدور أحداث رواية "حتى أغسطس" حول آنا ماجدالينا باخ، التي تزور كل عام الجزيرة الكاريبية حيث أصرت والدتها على دفنها، وذلك من أجل تنظيف القبر وإيصال أخبار عالمها إلى والدتها:

كانت تكرر هذه الرحلة في 16 أغسطس من كل عام في نفس الوقت، مع نفس التاكسي ونفس بائع الزهور، تحت الشمس الحارقة لتلك المقبرة الفقيرة، لتضع باقة من زهور الزنبق الطازجة على قبر والدتها. بعد ذلك، لم يعد لديها ما تفعله حتى الساعة التاسعة صباحًا، حتى تغادر العبارة الأولى إلى البر الرئيسي.

كانت تبلغ من العمر ستة وأربعين عاماً في بداية الرواية، و"في زواج موفق من رجل أحبته وأحبها وتزوجته قبل أن تنهي دراستها في الآداب، ولا تزال عذراء وبدون أي علاقات سابقة،آنا ماجدالينا باخ هي نموذج المرأة الجادة. إنها من الطبقة العليا، ومثقفة، وقارئة للروايات، ومحبّة للموسيقى، وراقصة ممتازة. وتصادف أيضًا أنها امرأة جميلة ذات "عيون توباز" وجلد "بلون وملمس دبس السكر" - وهي تعرف ذلك. وبعبارة أخرى، فهي تشبه ماكوندو ماريا سو.

أثناء الزيارة إلى المقبرة التي تفتتح «الرواية»، تنام آنا، لأسباب توصف بشكل ضبابي في أحسن الأحوال، مع شخص غريب، وهو أمر لم تفعله من قبل. إنه "غرينغو من أصل إسباني" "كشف عن نفسه على أنه عاشق رائع رفعها على مهل إلى نقطة الغليان". في صباح اليوم التالي تكتشف أن حبيبها قد رحل، لكنه ترك لها ورقة بقيمة عشرين دولارًا، مما يغضبها ويعذبها.

في العام التالي، تعود آنا إلى الجزيرة، وتنظف القبر، وتتحدث لفترة وجيزة مع والدتها المتوفاة (التي لم تعرف أبدًا أسباب دفنها في هذه الجزيرة بالذات)، وتترك باقة أخرى من زهور الزنبق، ثم بدلاً من قراءة الرواية المروعة ( The Day of the Triffids) كما كانت تنوى ، تعثرت فى ليلة أخرى .

إذا كنت تقرأه بسخاء شديد أو كنت من أتباع جارسيا ماركيز، فلن يزعجك (حتى أغسطس). الكتاب قصير وهناك لمحات من حين لآخر عن العبقرية التي ساعدت في إعادة كتابة الأدب العالمي ("لقد أخضعته للأسلوب المميت المتمثل في عدم أخذه على محمل الجد") وبالنسبة للبعض فإن المتعة البسيطة المتمثلة في صوت جارسيا ماركيز، مهما كانت خافتة، قد تكون كافية.

أنا شخصيا وجدت الكتاب مرهقا - على وجه التحديد بسبب خفته. ليس هناك الكثير هناك. الحكمة، الشك، التعقيد، الدفء البشري، السحر - كل ذلك غير متوفر. الناس أيضا. تقول آنا عن عشاقها المتنوعين: "لقد عرفته كما لو كانت تعرفه دائمًا" و"عرفته حينها كما لو كانت تعيش معه دائمًا" لو كان القارئ سيئ الحظ إلى هذا الحد. تم وصف شخصيات الكتاب ولكن لم يتم الانخراط فيها بعمق ولم يتم تقريبها أبدًا. آنا تعاني أكثر من غيرها من هذا الأسلوب البسيط. نعلم أنها تقرأ، ونعلم أنها ترقص، ونعلم أنها تحب زوجها، ونعرف أشياء كثيرة، لكنها كلها معلومات، تبقى في الرأس، لا يدخل أي منها إلى القلب أو الخيال، ولا شيء منها يصبح حقيقيًا أو صحيحا.

آنا ماجدالينا باخ، في النهاية، ليست تعويذة، بل مكوناتها، تنتظر تعويذة لن تأتي أبدًا.

ثم هناك الكتابة، التي يعطي بعضها انطباعًا بأنها من تأليف الذكاء الاصطناعي، ولكنه ذكاء اصطناعي يفتقر إلى المحفزات. "في أول دفعة شعرت أنها تموت من الألم والصدمة الفظيعة، كما لو كانت عجلا ممزقا. لقد تُركت لاهثة، غارقة في العرق البارد، لكنها ناشدت غرائزها البدائية ألا تشعر بالنقص أو تدع نفسها تشعر بأنها أقل منه، وأطلقوا أنفسهم في متعة لا يمكن تصورها للقوة الغاشمة، خاضعة للحنان." (الأصل الإسباني، لا يذك العجل، لكنه لا يزال ليس أفضل بكثير.)

بالنسبة لكتاب يستحضر الكثير من الرقص والموسيقى، فمن المدهش مدى قلة وجودهما على الصفحة.

ليس من المستغرب أن يكون (حتى أغسطس)  كتابًا مسكونًا. مسكون بوفاة غارسيا ماركيز. بعد أن طاردته كلمات غارسيا ماركيز، يجب تدميره. كما يطارده قرار أبنائه بنشر الكتاب ضد رغبة والدهم.   كتاب مسكون بإجبار غارسيا ماركيز على الرقص مرة أخرى رغماً عنه. لن يهتم معظم القراء بالأشباح أو الرقص أو غير ذلك، وهذا أمر متوقع. إن هوسنا بقصص الأشباح هو اللحية التي تخفي مدى قلة اهتمامنا برغبات الموتى. سينتهز المشجعون فرصة الرقص للمرة الأخيرة مع المايسترو. في أراكاتاكا ينتظرون وصول سياح غابو مثلما كان جدي الريفى ينتظر هطول المطر.

ولكن إذا كان غارسيا ماركيز قد علمنا أي شيء، فهو أن ننتبه إلى الأشباح - سواء كان خوسيه أركاديو الثاني، أو برودينسيو أغيلار، أو ميلكياديس، أو العمال الثلاثة آلاف الذين ماتوا في مزارع الموز، أو حتى غارسيا ماركيز نفسه.

كتب سلمان رشدي، أحد أشد تلامذة غارسيا ماركيز، في كتابه «آيات شيطانية»: «ما هو الشبح؟ العمل غير المكتمل، هو هذا."

إذا كانت مسألة (حتى أغسطس)  تعلمنا أي شيء، فهو أنه سواء كنا غابرييل غارسيا ماركيز أو فولانو دي تال*، فإننا جميعًا عمل غير مكتمل. وهذا يعني أن رأس المال النيوليبرالي لن ينتهي عندنا أبدًا؛ لا شيء سيمنعه من انتزاع العمل منا – لا الحياة ولا الموت.

حتى في كتاب قابل للنسيان مثل هذا، لا يزال جارسيا ماركيز يقدم لنا رؤى تنبؤية، ولكن ربما ليس بالضبط بالطريقة التي توقعها أو رغب فيها.

***

.......................

* فولانو دي تال كانت فرقة روك لاتينية من أمريكا الشمالية، تشكلت في عام 1995 في ميامي، فلوريدا.

* المؤلف : جونوت دياز/ Junot Díaz: جونوت دياز هو مؤلف كتاب "يغرق"، "هذه هي الطريقة التي تفقدها"، و"الحياة العجيبة القصيرة لأوسكار واو"، الذي فاز بجائزة بوليتزر للرواية لعام 2008.

* رابط المقال على  مراجعة بوسطن / Boston Review : بتاريخ 21 مارس 2024

https://www.bostonreview.net/articles/the-ghost-of-gabriel-garcia-marquez/

بقلم: مايكل أ. جونزاليس*

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

مسترشدًا بالأرواح، في صباح أحد أيام شهر أكتوبر الملبد بالغيوم، التقطت نسخة من Right On! من القسم غير المقروء في رف كتبي. مجموعة كتابية للسود حرّرها برادفورد تشامبرز وريبيكا مون في عام 1970، وكانت هدية حديثة من صديق كان يعرف جيدًا ضعفي تجاه مختارات الخيال الأمريكية الأفريقية، وخاصة القصص القصيرة. أبرزت Right On أهمية المعتادين من الكتاب المحترمين بما في ذلك ريتشارد رايت، وآن بيتري، وويليام ملفين كيلي، ومارجريت ووكر. لكن بعد فتح الكتاب على صفحة عشوائية، عثرت على ديان أوليفر، كاتبة لم أقرأها أو أسمع عنها من قبل، وعثرت على قصتها المفجعة "الجيران".

جلست لقراءة قصة أوليفر، التي نُشرت في الأصل عام 1966، وأعجبت بالقوة السردية التي أظهرتها؛ علمت لاحقًا أنها كانت لا تزال في أوائل العشرينات من عمرها عندما نُشرت القصة، لكن صوتها كان ناضجًا بالفعل. في مسيرة مهنية قصيرة تألفت  بست قصص منشورة، كتبت أوليفر عن العرق وأهوال العنصرية التي ارتكبت على العائلات في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. لا شك أن السود عرفوا رعب العنصرية منذ الأيام التي أجبروا فيها على المجىءإلى هذا البلد مقيدين بالسلاسل، وقبل فترة طويلة من ظهور أفلام جوردان بيل الغريبة "Get Out" و"Us".

قصة "الجيران" كُتيت بشكل جميل عن أسرة سوداء تتعامل مع ضغوط طفل العائلة، تومي ميتشل، الذي يندمج في مدرسة ابتدائية بيضاء بالكامل. إنها قصة مأخوذة مباشرة من الفيلم الوثائقي PBS "عيون على الجائزة"، حيث تنقسم العائلة بين النضال من أجل حقوقها والحفاظ على تومي الصغير في مأمن من الغوغاء الغاضبين المستعدين للبصق أو الركل أو قتل الطفل.

إن نثر أوليفر الطبيعي مرعب مثل نثر شيرلي جاكسون في قصتها الهجائية الفاضحة عن بلدة صغيرة وطقوسها السنوية في "اليانصيب". في حين أن قصة جاكسون كانت خيالية (ولا تزال تزعج العديد من القراء)، فإن عنصرية جيم كرو المصورة في قصص أوليفر كانت حقيقية. أسلوبها مليء بالأفكار المعقدة التي يتم سردها بطريقة بسيطة، ولكنها ليست بسيطة مثل "الخيال الاحتجاجي". عندما كانت طالبة في ورشة عمل الكتاب في آيوا عام 1965، كانت أهدافها الكتابية أدبية وليست دعائية. لقد عانى الأشخاص الذين كتبت عنهم من مئات السنين من الصدمات الواقعية، بما في ذلك العبودية، والإعدام خارج نطاق القانون، والضرب، والمضايقات، وعدم اليقين المستمر.3606 Diane Oliver

نُشرت قصة "الجيران" لأول مرة في عام 1966 في مجلة Sewanee Review، وهي مجلة أدبية ما تزال موجودة حتى اليوم، ويتم سرد القصة من وجهة نظر أخت تومي الكبرى، إيلي، التي تعمل خادمة في الجانب الآخر من المدينة، وتبدأ الأحداث  في اليوم السابق لدمج تومي في المدرسة. لإثارة والتوتر الذي تشعر به إيلي عندما تبدأ رحلتها بالحافلة إلى المنزل هو ما يحرك القصة. وكتبت أوليفر: "على الأقل النظر إلى الركاب منعها من التفكير في الغد".

"الجيران" مكثفة دون أن تكون ميلودرامية.تقول الكاتبة جيك آن جونز المؤلفة المشاركة لكتاب "أحيانًا تصبح فتيات المزارع ثوريات"( قصة الناشطة الراحلة في مجال الحقوق المدنية فلورنس إل تيت ): " كان أسلوبها] أوليفر[  في الكتابة بسيطًا، لكنها بنثرها أتاحت لنا نافذة لمراقبة هذه العائلة وحياتها المعقدة". الخوف والرعب بارزان، ولكن كذلك العائلة المحبة التي ستواجه إهانة أخرى.كل شيء فى "الجيران" يبدو حقيقيًا. هذه ليست حقوقًا مدنية مثل العروض السينمائية؛ هؤلاء أناس حقيقيون يتصرفون بطريقة حقيقية."

علي حين تُسرد القصة ببراعة، هناك شعور بسيط  بالواقعية الاجتماعية مثل مقال عن الأشخاص العاديين الذين يقفون وراء الحركة. عندما أغلقت الكتاب، شعرت بالحيرة بشأن سبب عدم شهرة ديان أوليفر بشكل لائق. من دون شك، إذا كانت قصة "الجيران" الرائعة تشير إلى أي شيء، فإن صوتها الأدبي كان ينبغي أن يكون ملهمًا للكتاب الطموحين مثل: زورا نيل هيرستون أو جيمس بالدوين.

قبل عقد من نشر كتاب "الجيران" القوي، كانت أوليفر نشأت في منطقة جيم كرو الجنوبية عندما صدرت قضية براون ضد مجلس التعليم في عام 1954. وكان والدها، ويليام روبرت أوليفر، مدرسًا ومدير مدرسة في موطنه شارلوت، شمال البلاد. كارولينا، بينما كانت والدتها، بلانش ران أوليفر، تدرس الموسيقى في منزلهم الجميل في شارع واشنطن، وهو شارع في الضواحي تصطف على جانبيه الأشجار. على الرغم من أن أوليفر كان عمرها 10 سنوات فقط عندما قضت المحكمة العليا بأن الفصل العنصري في المدارس العامة ينتهك الدستور، إلا أن دور والديها كمعلمين كان سيشكل وجهات نظرها، وربما تكون قد استندت في كتابها "الجيران" إلى أي عدد من الأشخاص من عائلتها فى  مسقط رأسها .

بدأت طريقها لتصبح كاتبة في مكتبتها المحلية. "عندما كانت طفلة، كان أوليفر تقرأ بنهم، بتشجيع من جدتها،" وفقًا لموقع eNotes.com. "عندما كانت في المدرسة الإعدادية وقرأت جميع المجلدات الموجودة في المكتبة الفرعية المنفصلة، قررت أن تصبح كاتبة حتى يكون هناك دائمًا شيء يقرأه الأطفال مثلها. وبعد سنوات قليلة كان كتابها المفضلون هم جيمس بالدوين ورالف إليسون وإرنست همنغواي وجيمس أجي.

بالنظر إلى صور منزل أوليفر القديم، أستطيع أن أتخيلها في غرفة النوم الخلفية، تجلس على مكتب وتكتشف عوالم وأشخاصًا جددًا في صفحات كتبها. عندما نظرت من النافذة، ربما فكرت في باريس الرائعة في عهد همنجواي أو في شوارع هارلم البرية في عهد جيمس بالدوين، واعتقدت أنها أيضًا ستسير يومًا ما في تلك الجادات.

التحقت أوليفر بمدرسة ويست شارلوت الثانوية، وتخرجت عام 1960 وقبلت في كلية البنات بجامعة نورث كارولينا - الآن جامعة نورث كارولينا في جرينسبورو. تفوقت أوليفر في المدرسة المدمجة حديثًا، حيث سرعان ما أصبحت رئيسة تحرير صحيفة المدرسة The Carolinian.

تخرجت في عام 1964 وفازت بالدخول إلى برنامج Mademoiselle Guest Editor تقديرا لها بفضل مقالتها "The Corner" التي تدور حول معركة الحقوق المدنية لدمج المتاجر القريبة من مدرستها. عقدت المجلة النسائية تلك المسابقة السنوية من عام 1939 إلى عام 1980، وكان من بين المشاركين جوان ديديون وسيلفيا بلاث، اللتان أدرجتا التجربة في الجرس الزجاجى. نشرت أوليفر قصتها القصيرة الأولى، "مفتاح المدينة"، بعد عام في المجلة الأدبية عام 1965 / Red Clay Reader II جنبًا إلى جنب مع هنري روث وكلارنس ميجور. توضح قصتها تفاصيل الإثارة والمحن التي عاشتها عائلة جنوبية في طريقها إلى شيكاجو.

أصدرت الشاعرة والمعلمة تشارلين سوانسي مجلة Red Clay Reader كمتنفس للكتاب والفنانين "المتجذرين في التربة الجنوبية"، كما وصفتها مجلة Our State في عام 2014. ومثل أوليفر، كان سوانزي في الأصل من شارلوت بولاية نورث كارولينا. أسست المجلة بعد وقت قصير من طردها من كلية كوينز لكونها "مبدعة وشجاعة للغاية"، على حد تعبيرها. لا أعرف كيف تواصلت أوليفر مع سوانسي، التي كانت تكبرها بعقد من الزمان، ولكن لا بد أن نشر قصة "مفتاح المدينة" ساعد الكاتبة الناشئة عندما تقدمت بطلب لحضور ورشة عمل الكتاب الشهيرة في آيوا.

كتب معلمها السابق بيتر تايلور، الذي وصفته صحيفة نيويورك تايمز ذات مرة بأنه "... أفضل ممارس أمريكي للقصة القصيرة في القرن الماضي"، خطاب توصية لها . و كتب مؤلف سيرة تايلور الذاتية، هيوبرت ماك ألكسندر: "لقد تمنى بشدة أن تذهب [أوليفر] إلى ولاية أيوا حتى لا تنشغل بالمشاجرات الموضعية التي تهيمن تمامًا على الدوائر التي قد تنتقل إليها في مكان آخر". وفقًا لماك ألكساندر، كان  يقصد بذلك  مسيرات الحقوق المدنية، والاعتصامات، والمظاهرات، ولكن كما يمكننا أن نقرأ في قصصأوليفر ، كانت قد تأثرت بالفعل.

كان هناك عدد قليل من الكاتبات السود (كريستين هانتر، ولورين هانزبيري، وجيه جيه فيليبس، وروزا جاي) يحققن خطوات واسعة في منتصف الستينيات. لكن مشاركة أوليفر في ورشة عمل آيوا، ونشر قصة "الجيران" لاحقًا في قصص الجوائز، 1967: جوائز أو هنري، كانت نادرة. خلال تلك الفترة، خلال تلك الفترة، كان الكاتب الطالب الأسود الوحيد الآخر في ورشة العمل هو جون إدجار وايدمان، الذي حقق نجاحًا أدبيًا مثيرًا للإعجاب.

وذكرت سوزان ماكونيل، كاتبة القصة القصيرة المشهورة، في مقابلة هاتفية أجريت معها مؤخرا: "لم يكن هناك الكثير من السود أو النساء في ولاية أيوا في ذلك الوقت". على الرغم من أن الاثنتين لم تكونا صديقتين مقربتين، إلا أنهما كانتا تتواجدان في نفس الدائرة من الكتاب والأكاديميين الناشئين. قالت ماكونيل، التذي شاركت في تأليف كتاب "الشفقة على القارئ: في الكتابة بأناقة" مع كيرت فونيجوت: "كانت ديان شابة جميلة ولطيفة وترتدي ملابس أنيقة .  كانت رصينة للغاية، ولم تكن جامحة على الإطلاق." وتابعت ماكونيل: "قصة" الجيران "أبهرتني". "لقد كنت جزءًا من الحركة وقد شاركت في مسيرة في سلمى [في عام 1965]، لكنني لم أفكر أبدًا في الاندماج من منظور عائلة تحاول حماية طفلها. لقد جعلتني أتوقف وأفكر"

بينما كانت أوليفر منسجمة بشكل جيد مع زملائها الطلاب، أشارت ماكونيل إلى أن "ديان بدت دائمًا حذرة للغاية ومتحفظة، ولكن أعتقد أنه بالنظر إلى البيئة المحيطة بها، كان عليها أن تكون على هذا النحو". لا بد أنه كان من الصعب جدًا أن تكون الشخص الأسود الوحيد (أو واحدًا من القلائل) في دائرة النخبة الأدبية في ورشة عمل الكتاب في آيوا، لتشعر وكأنك تخضع باستمرار للتدقيق أو التحدث عنك أو التفكير فيك بشكل سلبي."

تناولت أوليفر مشاعر "أن تكون التجربة" ومحاولة التأقلم مع الطلاب البيض في قصتها "الخزانة في الطابق العلوي". نُشرت  القصة جنبًا إلى جنب مع أعمال إرنست جاينز وأندريه دوبوس وجيسي هيل فورد في كتاب الكتابة الجنوبية في الستينيات: الخيال (1966) وحرره جون ويليام كورينجتون وميلر ويليامز، وتبدأ القصة مع أول يوم لبطلة القصة في الكلية. . أول طالبة سوداء في مدرستها.

على الرغم من أن والديها الغافلين لم يلاحظا "تلك الوجوه البيضاء المضغوطة على زجاج النوافذ"، إلا أن وينيفريد تمشي على قشر البيض. غالبًا ما تسمع فتيات يتحدثن عنها ("أنت تعلمين أن الأشخاص الملونين ليسوا مثلنا") وتشاهدهن يتطفلن على أغراضها.

وبدلاً من التشكيك في دوافعهن، تنسحب وينيفريد من الواقع، مجازيًا وحرفيًا، بنفس الطريقة التي تختفي بها شخصيات رايت أو إليسون من المجتمع. إن قصة "الخزانة في الطابق العلوي" سريالية بطريقة كافكاوية، ولكنها مرتبطة بـ "الجيران" الأكثر طبيعية من خلال تيمة الدمج.

في العام الذي سبق ظهور "الجيران"، بدأت أوليفر علاقة مهنية مع مجلة Negro Digest، وهي مجلة أدبية وسياسية رائدة مملوكة لشركة جونسون للنشر التابعة لشركة Ebony and Jet. نشرت صحيفة دايجست "الخدمة الصحية" (نوفمبر 1965) و"ازدحام المرور" (يوليو 1966)، وهي قصص عن ليبي فريدريك، وهي امرأة جنوبية فخورة ولكنها مضطربة ولديها الكثير من الأطفال وزوج غائب وليس لديها ما يكفي من المال.

وتعد قصة "الخدمة الصحية"  تعليق لاذع على المعاملة اللاإنسانية التي ألحقها المجتمع الطبي بالفقراء السود على مدى عقود. يقول أحد المرضى في غرفة الانتظار مع ليبي: "أحياناً أتساءل لماذا لم يمت المزيد منا". "كان من الممكن أن تنفجر الزائدة الدودية بداخلي ولن يحدث ذلك أي فرق بالنسبة لهم."

في قصة "ازدحام المرور"، تعود ليبي في حكاية حلوة ومرّة تُظهر عملها كخادمة لدى السيدة نيلسون المزعجة، وهي امرأة بيضاء لا تدفع ما يكفي ولكنها تحب طرح أسئلة حميمة كما لو كان لها الحق في الحصول على إجابات.

قال المؤلف جيك آن جونز:

- كان الفقر ثقيلاً للغاية في تلك القصص، وبدا وكأنه شخصية أخرى . "كان الأمر مؤلماً للغاية، وكنت أشعر به في عظامي.

ومع ذلك، كان هناك شعور بالانتماء للمجتمع في معظم قصص أوليفر القصيرة. نرى ذلك في بداية "الخدمة الصحية" عندما تتوقف ليبي في محطة إيسو مع طفلتها الصغيرة لأخذ قسط من الراحة ويواسيها صديقها القديم مات، وهو أيضًا أفضل صديق سابق لزوجها المنفصل عنها. يقول مات قبل أن يشتري كوكا كولا للأطفال.:

- إذا كنت بحاجة إلى أي شيء الآن، فأخبريني..."

في 21 مايو 1966، قبل شهر من تخرجها بدرجة الماجستير في الفنون الجميلة من ورشة عمل الكتاب في آيوا وقبل شهرين من عيد ميلادها الثالث والعشرين، قُتلت أوليفر في حادث دراجة نارية. كانت على ظهر دراجة طالب آخر عندما خرجا من الزقاق واصطدما بسيارة فولكس فاجن. ونجا الطالب الآخر من إصابة خطيرة بينما  توفيت أوليفر بعد دقائق قليلة من وصولها إلى المستشفى.

قالت سوزان ماكونيل، التي كتبت عن "الكاتبة الخيالية الجميلة والحذرة... الموهوبة" في مقال مؤثر نُشر في الكتيب التذكاري للذكرى الخمسين لورشة العمل، "يبدو الأمر مثل الأوقات القديمة، 1986": "لقد كانت خسارة فظيعة". . تمت تسمية المقال الذي يحمل عنوان "قرية بلاك جاسلايت" على اسم مجمع سكني للطلاب.

نشرت كل من Jet و Negro Digest نعيًا. وقالت جيت إن الكاتبة الشابة قبلت منصبًا تحريريًا لتبدأ بعد التخرج. وصف نيغرو دايجست وفاة أوليفر بأنها "ذروة سابقة لأوانها لمهنة قصيرة ولكنها ملحوظة، حيث كان من دواعي سرورنا نشر بعض أعمال الكاتبة الناشئة. ... إلى جانب كتاباتها، شاركت الآنسة أوليفر في العديد من أنشطة الحرم الجامعي بما في ذلك مظاهرات الحقوق المدنية والاحتجاجات في فيتنام. أمضت صيفها الأخير كمساعدة للمعلم في عملية Head Start. … لقد حزنا لوفاتها، لكننا اخترنا أن نتذكر دفء ابتسامتها”.

في مارس 1967، نشرت مجلة نيغرو دايجست آخر قصة قصيرة لأوليفر، بعنوان "جلاب النعناع لا يتم تقديمه هنا"، وهي قصة قوطية مثيرة للقلق حول زوجين أسودين يعيشان في أعماق الغابة مع ابنهما رابيت، الذي لا يستطيع الكلام. إنهم يسكنون في جنة خاصة حتى يأتي الأشخاص البيض الذين يتطفلون حولهم، "ينظرون بعيون جليدية، ويجمدون كل شيء، ويحاولون جعل كل شخص في العالم مثلهم".

منحت ورشة عمل الكتاب في آيوا درجة أوليفر بعد وفاتها. وأعيد طبع "الجيران" في قصص الجوائز، 1967: جوائز أو هنري بعد وفاة أوليفر.

في الثقافة الشعبية، هناك أحيانًا رومانسية غريبة مرتبطة بالموت في سن مبكرة. لكن الحقيقة هي أنه لا يوجد موت يمر دون حزن. لقد أحزن فقدان ديان أوليفر الكثيرين - والديها وأصدقائها، وبعد سنوات، الغرباء الذين اكتشفوا أعمالها بالصدفة في غلاف ورقي متهالك.

***

.....................

* قبل فترة طويلة من ظهور أفلام جوردان بيل "Get Out" و"Us"، كتبت كاتبة شابة في الستينيات تدعى ديان أوليفر ست قصص قصيرة عن أهوال العنصرية في مجتمعات السود في ضواحي أمريكا. ولكن لم يكتشف الناقد الثقافي وكاتب المقالات مايكل أ. جونزاليس كتاباتها إلا في أكتوبر الماضي.

المؤلف: مايكل أ. جونزاليس/ Michael A. Gonzales: ناقد ثقافي، وكاتب قصة قصيرة، وكاتب مقالات من هارلم، وقد كتب لـ

The Village Voice، Wax Poetics، The Wire UK، Soulhead.com، Longreads، Pitchfork.

بدأت إعادة اكتشاف جونزاليس للمؤلفين الأمريكيين من أصل أفريقي الغامضين والمستخفين بعمود كتابه "القائمة السوداء"، ويمتد إلى مراجعة باريس؛ التمسك بالرجل: الثورة والثقافة المضادة في الخيال الشعبي، من 1950 إلى 1980، حرره إيان ماكنتاير وأندرو نيت؛ ومجلة الخيال والخيال العلمي. أحدث قصته القصيرة "أرواح" نشرتها دار Taint Taint Taint.

 

في السادس من آذار/مارس الجاري ذكرى يوم ميلاد غابرييل غارسيا ماركيز صدرت في روسيا روايته الجديدة، التي لم تنشر خلال حياته «نلتقي في أغسطس» وستنشر خلال الأيام القليلة المقبلة مترجمة إلى أربعين لغة في شتى أنحاء العالم، بالإضافة إلى الأصل الإسباني.

وهذا أمر نادر الحدوث. في هذه الرواية القصيرة التي تقع في 122صفحة، يعود الكاتب الكولومبي إلى أسلوب أعماله الأولى، ويتطرق أيضا إلى موضوع جديد في عمله الإبداعي.

شرع ماركيز بكتابة «نلتقي في أغسطس» في مارس 1999، وأصبح من المعروف لاحقا أنه كان يعمل على رواية جديدة، حتى إنه قرأ جزءا منها في منتدى أدبي في مدريد، ولم تكن حالته الصحية جيدة في ذلك الوقت، فقد كان مصابا بالسرطان، لكن ذهنه كان صافيا تماما.

بحلول عام 2004، كان ماركيز قد كتب خمسة احتمالات سردية مختلفة لـ«نلتقي في أغسطس» ثم توقف عن العمل قائلا: «ينبغي أحيانا ترك المسودة لبعض الوقت». في عام 2010، عرض المخطوطة على كريستوبال بيرا، وهو محرر عمل معه سابقا على إعداد كتاب مذكراته «عشت لأروي».

قبل أن يصاب بفقدان الذاكرة، «لم تعد ذاكرته تسمح له بجمع كل القطع وكل التصحيحات في نسخة واحدة، بطريقة أو بأخرى، ولكن في أثناء مراجعة المسودة، كان بإمكانه قضاء بعض الوقت في فعل ما يحبه: اختيار صفة في مكان ما، وتغيير تفصيلة صغيرة في مكان آخر».

في عام 2012، تفاقم مرضه ولم يعد يتعرف على أفراد عائلته، باستثناء زوجته مرسيدس بارشا. بعد وفاة ماركيز، تبين أن المخطوطة، التي تحتوي على الاحتمالات الخمسة للنص تقع في 769 صفحة ضمن أرشيفه المحفوظ في جامعة تكساس في أوستن.3602 الطبعة الروسية

الطبعة الروسية

واعترف غونزالو غارسيا بارشا الابن الأصغر للكاتب، للصحافيين بأن والده كان يعتقد أن رواية «نلتقي في أغسطس» لا قيمة لها: «لقد أخبرني بشكل مباشر أنه يجب تدمير الرواية». وذكر رودريغو غارسيا أكبر ولديه، أنه بحلول ذلك الوقت لم يعد بإمكان والده متابعة الحبكة، وفقد القدرة على إصدار حكم حول الكتاب.

كتب ابنا المؤلف مقدمة للرواية الجديدة يقولان فيها: «بشكل عام، لم ندمر النص، لكننا أجلنا نشره، على أمل أن يخبرنا الوقت بما يجب القيام به». وعندما قرآ النص من جديد بعد عشر سنوات من وفاة والدهما، وجدا فيه العديد من المزايا الجذابة.

نعم: «إنها ليست مصقولة مثل رواياته الكبيرة. هناك أشياء تتعثر فيها، وهناك تناقضات طفيفة، ولكن لا يوجد ما يمنع القارئ من الاستمتاع بالسمات المفضلة لنثر غابو: الخيال الجامح، واللغة الشعرية، والسردية الأخّاذة، والمعرفة العميقة بمكامن النفس البشرية، والالتصاق الحميم بالتجارب المعيشة، لاسيما في الحب الذي شكل بمعنى ما المحور الأساس والمحرك الأول لكل أعماله».

يقول كريستوبال بيرا، الذي عهد إليه بإعداد الكتاب للطباعة: «لقد عملت كمرمم للوحة فنية لفنان عظيم». وهذا كلام غير دقيق لأن دور المحرر لم يكن ترميم الأجزاء المتضررة بفعل الزمن، بل عمد إلى معالجة الهفوات مثل، تصحيح عمر البطلة أو التناقض في رسم بعض الشخصيات في عدة مواضع، وسد الثغرات بين أجزاء الرواية، وما إلى ذلك.

ردود فعل متباينة

أثار قرار الأخوين الوريثين بنشر المخطوطة بدلا من حرقها كما أوصى والدهما، ردود فعل متباينة في العالم. قال غونزالو: «بالطبع كنا قلقين من أن يظن الآخرون أن دافعنا هو الجشع فقط». ولقد حدث ذلك فعلا، حيث يرى العديد من النقاد أن الكسب المادي كان وراء قرار الأخوين، نشر مخطوطة رواية غير مكتملة. وقد اعترف غونزالو بأنه كان من الصعب مخالفة إرادة والده، لكنه أصر على أن هناك «الكثير من الأمثلة في تاريخ الأدب لأشخاص طلبوا حرق مخطوطاتهم، ثم تبين أنها عناصر مهمة في الأدب. بالنسبة لي شخصيا، أشعر بالارتياح لأن هذه هي آخر قطعة كتبها غابو. أشعر بأن أعماله الكاملة لن تكتمل إذا لم يتم نشرها. ولا توجد روايات أخرى مختبئة بين أوراقه».

من المؤكد أن نشر رواية «نلتقي في أغسطس» هو الموضوع الأكثر نقاشا في كولومبيا في هذه الأيام، حيث يعد ماركيز بطلا قوميا (حتى إن صورته مطبوعة على الأوراق النقدية المحلية). اشتكى الكاتب والصحافي الكولومبي خوان موسكيرا في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» قائلا: «إنهم لا يعرضون عليك هذه الرواية كمخطوطة، أو عمل غير مكتمل ـ بل كرواية غارسيا ماركيز الأخيرة، ولكنني لا أصدق ذلك. أعتقد أن هذه لحظة عظيمة لعلامة غارسيا ماركيز التجارية». ومن ناحية أخرى، قال الروائي الكولومبي هيكتور أباد فاسيولينس: «كنت أخشى أن يكون هذا كله عملا من أعمال الانتهازية التجارية، لكن تبين لي العكس تماما. كل الصفات التي جعلت أفضل كتب غارسيا ماركيز رائعة موجودة هنا».3601 الطبعة الاسبانية

الطبعة الاسبانية

وقال الروائي الأيرلندي كولوم ماكان: «يا لها من فرحة أن تعتقد بأنه لا تزال هناك أشياء يجب اكتشافها في العالم. كنت سأمشي مسافة 500 ميل للحصول على كتاب جديد لماركيز. إنه مثل اكتشاف الجليد في نهاية رحلة طويلة. ماركيز محبوب وضروري في الوقت نفسه، وهو مزيج نادر في عالم الأدب. أتذكر تجربتي الأولى مع ماركيز عندما قرأت قصته القصيرة «أجمل رجل غريق في العالم». وفجأة أصبح كل شيء جديدا تماما. في كل مرة تقرأ فيها أي كتاب لماركيز، سيكون هناك شيء جديد، حتى لو كنت قد قرأته أربع أو خمس مرات. إن اكتشاف الجديد أمر نادر.

النساء في روايات ماركيز

النساء شخصيات ثانوية مهمة في روايات ماركيز، بدءا من «مئة عام من العزلة» وفي جميع رواياته اللاحقة، لكن لم تكن المرأة الشخصية الرئيسية في أي منها. بطلة «نلتقي في أغسطس» امرأة في منتصف العمر، قررت استكشاف حياتها الجنسية وحريتها، وأدى ذلك إلى صراعات، لكنها استمرت في السير على هذا الطريق، رغم أنها من الناحية النظرية امرأة سعيدة، وليس لديها أسباب موضوعية لذلك. ولهذا وصف ابن الكاتب رودريغو هذه الرواية بأنها نسوية، وهذا قد يكون باعثا على إعادة التفكير في مؤلفات ماركيز بأكملها، خاصة دور المرأة فيها، ولهذا السبب فإن «نلتقي في أغسطس» هي في غاية الأهمية. تتكشف حبكة الرواية على مدار عدة سنوات في جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي، حيث يتناقض فقر أكواخ السكان المحليين مع فخامة الفنادق الساحلية وخضرة الطبيعة الاستوائية. تستأجر امرأة سمراء جميلة ونحيلة غرفة في فندق متهالك في الجزيرة، يطل على البحيرة الزرقاء. خلال النهار تزور قبر والدتها على قمة التل، وتعود في الليل لتقضي وقتا ممتعا في بار الفندق على أنغام السالسا والبوليرو. وهي متزوجة وتعيش بسعادة منذ فترة طويلة، ولكنها تتعرف ذات مساء إلى رجل ساحر في منتصف العمر، وتقضي الليل معه. هذه التجربة الجديدة تهزها حتى النخاع. كانت سعيدة في البداية بمغامرتها. تستيقظ في الصباح وهي تتخيل أنها استمتعت بليلة من السعادة دون مسؤوليات أو عواقب، ثم تكتشف أن شريكها قد ذهب وترك لها ورقة من فئة 20 دولار أمريكي مدسوسة في كتابها جوار سريرها. وكان ذلك صدمة لها، لأنها ظنت أنها قد أصبحت حرة، في حين ظن الرجل أنها من بنات الهوى. وبعد ذلك كل عام في 16 أغسطس، تستقل العبّارة إلى الجزيرة لقضاء ليلة ساخنة مع حبيب عشوائي.

وبالعودة إلى المدينة، فإن الأمور لا تسير على ما يرام، في البداية، كان زواجها مثاليا، فقد كان زوجها وسيما، وبارعا في كل شيء بدءا من تنس الطاولة إلى الحيل السحرية وحتى الشطرنج على مستوى أستاذ كبير. لقد مارس الزوجان الجنس بشكل متكرر ولطيف. وكان أطفالهما موهوبين وواثقين من أنفسهم (على الرغم من قلقهما بشأن تصميم ابنتهما على أن تصبح راهبة) لكن مغامراتها السرية في الجزيرة دمر زواجهما. فهي تدرك: إذا كان بإمكانها أن تكون غير مخلصة، فربما يمكن ذلك لزوجها أيضا، بحلول نهاية القصة، يصبح الزوج مجرد «ضيف عرضي في سريرها.

من أجواء «نلتقي في أغسطس»

كان اسمها آنا ماجدالينا باخ، وكان عمرها ستة وأربعين عاما، أمضت سبعة وعشرين منها في زواج راسخ مع الرجل الذي أحبته، والذي أحبها وكان خطيبها الأول ـ تزوجته وهي عذراء قبل أن تتخرج في كلية تاريخ الفن. كانت والدتها معلمة تحظى باحترام كبير في مدرسة مونتيسوري الابتدائية، وعلى الرغم من إنجازاتها العديدة، رفضت أي ترقية حتى أنفاسها الأخيرة. ورثت آنا ماجدالينا منها عينيها الذهبيتين المبهرتين، الاقتضاب الفعال والذكاء للسيطرة على تقلبات شخصيتها. لم يكن هناك سوى موسيقيين في عائلتها. كان والدها يدرّس البيانو ومديرا للمعهد الموسيقي المحلي لمدة أربعين عاما. وخلفه في هذا المنصب زوجها، قائد الأوركسترا الذي جاء أيضا من سلالة موسيقية. أصبح ابنها أول عازف تشيلو في الأوركسترا السيمفونية الوطنية وهو في الثانية والعشرين من عمره، وقد أشاد به مستيسلاف ليوبولدوفيتش روستروبوفيتش نفسه في حفل موسيقي خاص. وكانت الابنة، التي كانت في الثامنة عشرة من عمرها، تتمتع بقدرة تكاد تكون عبقرية في تعلم العزف على أي آلة موسيقية عن طريق السماع، لكنها كانت تقدر هذه الموهبة في حد ذاتها كذريعة لعدم قضاء الليل في المنزل. كانت تربطها علاقة غرامية مع عازف بوق ممتاز في موسيقى الجاز، لكنها كانت ذاهبة، خلافا لرغبة والديها، لتأخذ نذورا رهبانية حافية القدمين في النظام الكرملي. كانت والدة آنا ماجدالينا قد أعربت عن رغبتها في أن تدفن في الجزيرة قبل وفاتها بثلاث سنوات. أرادت آنا ماجدالينا الذهاب إلى الجنازة، لكن الجميع اعتبروا ذلك أمرا غير معقول، وشعرت هي نفسها بأنها لا تستطيع تحمل مثل هذا الحزن. أخذها والدها إلى الجزيرة في الذكرى الأولى لوفاة والدتها لوضع لوح من الرخام الأبيض على القبر. كانت خائفة من الرحلة على متن زورق بمحرك خارجي: أبحرا لمدة أربع ساعات تقريبا، وخلال هذا الوقت لم يهدأ البحر ولو لثانية واحدة. كانت مفتونة بالشواطئ المليئة بالرمال الذهبية الدقيقة على حافة الغابة الكثيفة العذراء، وصخب الطيور، ورحلة مالك الحزين الشبحية فوق المياه النائية للبحيرة. شعرت بالحزن بسبب فقر القرية، حيث اضطرا أن يقضيا الليل في الهواء الطلق، في ارجوحتين معلقتين بين شجرتين من جوز الهند، على الرغم من أنها كانت القرية الأصلية لشاعر شهير، فضلا عن كونها موطن سيناتور ساخر كاد أن يصبح رئيسا للبلاد. لقد أذهلها عدد الصيادين السود الذين فقدوا أيديهم بسبب تفجير فاشل لعصي الديناميت. لكن الأهم من ذلك أنها فهمت وصية والدتها عندما رأت روعة العالم من أعلى تلة المقبرة. لقد كان المكان المنعزل الوحيد في العالم الذي لم تشعر فيه بالوحدة. عندها قررت آنا ماجدالينا أن تتركها حيث كانت، وتحضر باقة من زهور الزنبق إلى القبر كل عام. إن شهر أغسطس هو شهر الحرارة والأمطار الغزيرة، لكنها اعتبرت ذلك شرطا أساسيا لحج التوبة، والذي كان عليها أن تؤديه دون أي تراخ وبمفردها حتما.

***

جودت هوشيار

 

صورة الأم في الرواية

ننطلق من هذه القراءة لروايتي: "امرأة" ل"آني إرنو Annie Ernaux "، و"الحضارة أمي" ل"إدريس الشرايبي" من مفهوم التأويل التقابلي ل"محمد بازي"، وغاية القول " في هذا المستوى من التقابل التأويلي، هو أن النصوص ترحل إلى بعضها البعض عبر اشتغال التأويل، ورحلتاه هاته إغناء لقراءتها" [ التأويلية العربية، ص: 304] حيث يستدعي هذا المفهوم حوار النصوص ومساجلتها لبعضها البعض، واستحضار للأنساق المشكلة للنص، ووضع "تجربة واحدة في صور مختلفة" ( نفسه، ص: 305).

رواية "امرأة" رواية قصيرة، تأبى المؤلفة تجنيسها ضمن الرواية بقولها " هي ليست بسيرة، ولا برواية، ولكنها تقع ضمن الأدب، والتاريخ، وعلم الاجتماع". يندرج هذا الرأي في إطار مكتسبات النظرية الأدبية الحديثة التي تستعلي على مفهوم التجنيس، لكن من جانب آخر يمكن للقارئ أن يصنف العمل مادام ملكيته انتقلت إليه ولم تعد بيد المؤلف، وبين حرية المؤلف، ورحابة فكر القارئ يتموقع النقد والتأويل.

تسبر الرواية أغوار نفس امرأة فقدت أمها التي خبل عقلها، بعد سنوات قضتها في دار المسنين، تصف الساردة  بلغة بسيطة؛ الأيام الأخيرة لأمها قبل الوفاة،  هذا الجزء من بنية الحكاية يتسم بالواقعية، وبمشاعر قوية تتقبل الموت، حيث تقوم بتشيــيع أمها إلى مثواها الأخير باطمئنان ورضى. إن هذه الواقعية عبر عنها العنوان بلفظ "امرأة" وليس "الأم". هل هي واقعية ؟ أم هي صورة لعلاقة الجفاء بين الأم وابنتها؟ أم هو تجسيد لواقع   أسري في المجتمع الغربي؟  أم يمكن اعتبار لفظ "امرأة" لفظا عاما يشمل النساء بمن فيهم "الساردة الحقيقية"؟،  هي أسئلة تتبنى مشروعيتها من نظرية القراءة التي تفرضها الأعمال الأدبية، لكن ما يهمنا هو كيف ستنتقل هذه المشاعر من وضع القوة إلى الضعف، وتأنيب الضمير الذي يبدو في الأسلوب التبريري التي تعتمده الساردة من حين لآخر عبر تقنية الاستذكار، والاسترجاع وهي تستعرض قسوة أمها، وحياتها الخاصة. لكن هذا التبرير لم يشفع  لها؛ حيث تحضر الأم بطيفها وصورتها الذهنية الخيالية، وتعم أرجاء البيت. الحكاية في مجملها تعبر عن وضعية  اجتماعية يرسخها المجتمع الغربي، و يدرك عواقبها مستقبلا، لذلك تساءلنا منذ البداية كيف يصبح الموت حياةً؛ حياة مقلقة؟ 

أما كيف يصير الأحياءُ أمواتا فقد عبرت عنه رواية "الحضارة أمي" لإدريس الشرايبي، ترجمها عن الفرنسية "سعيد بلمبخوت" 2014، هذه الرواية التي اختبأت وراء مفهوم التخييل الذاتي السيري، يكشف لنا السارد عبر مرحلتين: مرحلة  الطفولة من حياته برفقة والدته وأخيه، بحيث تتوجه بؤرة السرد نحو الأم البدوية، التي لا تحسن القراءة والكتابة، وتغفل الكثير من أشكال الحضارة التي أصبحت تظهر في البيت كالكهرباء والمذياع، والهاتف، حيث تعبر بعقل بريء وساذج عن استغرابها من طريقة اشتغال هذه الآلات. الزوج البرجوازي يحرص على توفير حياة مريحة وباذخة، دون أن يهتم  بكيان زوجته، تركيزه منصب على تجارته فقط. التقط الابن السارد هذا الوضع المختل  فأراد تحقيق توازن أسري عاطفي، فبدأ في تعليم أمه، وإدماجها في عالم الاختراعات، بأسلوب يجمع بين المرح والطرافة، وألقى عليها محبة غامرة لعلها تعوضها جفاء الأب. أما المرحلة الثانية فهي الغاية التي تطمح إليها الرواية، ورسالتها؛ فالأم البدوية ستصبح متعلمة، وشخصية بارزة، حققت ذاتها، وتسافر بين البلدان مدافعة عن حقوق المرأة، وفي نوع من التعاطف مع الأب، أو لنقل محاولة تحسين وتجميل صورة الرجل العربي، يكشف لنا السارد عن ندم الأب، وتثمينه لمواقف الإبن مع أمه.

الرواية بلا شك طرح مُضمر لأفكار النسوية خصوصاً وأن الكاتب ترعرع في فرنسا، وهو نقد موجه لهيمنة الرجل التاريخية والاجتماعية. والأجمل في هذا الطرح هو استعارة "الأم" بحمولتها الدلالية والتاريخية والاجتماعية والنفسية لهذه الحكاية الطريفة. أما رواية "امرأة" فعرَّت عن مفهوم الأمومة، وأظهرت قسوة المجتمع الغربي الذي انطلقت منه أفكار النسوية التحررية التي ناضلت بقوة من أجل مناهضة التمييز بين الجنسين، ونقض أركان الهيمنة الذكورية. في نهاية الرواية تذكر بألم وحسرة" آني إرنو-" الفائزة بجائزة "رينودو" عن عملها هذا سنة 1984، وجائزة "نوبل للآداب" سنة 2022- بموت أمها فتقول: إنها ماتت قبل "سيمون دي بوفوار" بثمانية أيام، وبموتها فقدت آخر رابط بيني وبين العالم الذي جئت منه". "سيمون دي بوفوار" الفيلسوفة الوجودية التي تقول:" لا نولد نساء بل نصير كذلك". لقد فشلت النسوية الغربية في الحفاظ على الخيط الروحي بين الأبناء والآباء، إلا ما ندر من الحالات التي نعدها من الاستثناءات، في حين رسخت الهوية الإسلامية، والذاكرة العربية مفهوم الأم في رواية "ادريس الشرايبي".

***

د. عبد الـمُجيب رحمون

قراءة في نص الشاعر اليمني "حميد البهال": (في جنازة الحب)

النص// في جنازة الحب

حلمت....

بأنني أسير على الرصيف وحدي

على كتفي نعشي

كل حاجياتي، أمنياتي

وأنا أجهش باكيا ،

يشتد بي العويل

*

السحب سوداء قد حُملت ثقيلة

مررها قَدَري من خلالي الى ارض موت أسود

*

سألت عابراً للطريق

أَصادفت جنازة عابرة

محمولة من هنا؟

قال: بلى....

أنها لرجل مات قبل يومه، يقال

قد قتله حبه

*

فوجدتني ، في بيت عزاء ،

كأنه بيتي القديم

أستقبل المعزين

أمد ذراعي وأشير بأصابعي

مساحات خاوية

بقلب أسودت ندوبه

*

.. ما كان له أن يكون قلبي

لولا امرأة أظلت طريقها إليه

هي بثوب حداد

مصنوع من

خيوط مدامع الليالي المظلمة

تلك الأيام

التي قضتها مع وطواط بشرى

أخذ على عاتقه الانتقام من كل ذي شرف مضيء

*

بعدما لطخته بعارها الرغبات الآثمة

وجعلت منه مصاصا للدماء المهدورة

سفكت في مذابح الكرامة

***

القراءة//

السرد التعبيري سرد حكائي يحمل خصائص النثر، يمتاز بتقنيات شعرية من مجازات، ورموز، وإيحاءات، ودلالات، وانزياحات، وظفها السارد كمعادل موضوعي للسرد، وبقدر ما يحمله النص السردي من لغة ومعاني وصور وتراكيب ذات دلالة إيحائية، فاللغة التعبيرية (لغة تتحدث عن المشاعر والعواطف والحالات الذهنية عن طريق تكثيف اللغة وانزياحاتها)، فهي تحمل جمال السرد والتعبير والصورة والإختزال والتكثيف، وهذا يستدعي وجود قارئ لديه المقدرة حتى يتمكن من فك شيفرات النص ومعرفة دلالاته التي يوحي بها.

الشعراء لهم اهتمامهم الراسخ بالاحلام، فتراهم يتكئون عليها، لان فضاء الاحلام فضاءً واسعاً، ويشكل لهم مهرباً من مواجهة واقع موضوعي قاسي، جعلهم يهربون نحو عالم ذات ابعاد مألوفة. فهم يصيغون شعرهم بلغة الحلم، حتى يبقى عالقاً في ذاكرتهم، لان الحلم بالنسبة لهم عمل فني، يتجاوز التفكير الواعي، حاله كحال الشعر، فهو الوجه الانفعالي الذي يعبر عن الحالة النفسية العاطفية التي تنتاب الشاعر، الذي يترك الأثر الانفعالي المباشر لدى المتلقي.

فكان نص الشاعر "حميد البهال" منفتح على تقنيات سردية واضحة، تتسم بكثافة دلالية، وصورة شعرية تعبيرية، مصحوب بزخم لغوي إيحائي شعري ذات نزعة درامية.

اعتمد الشاعر "حميد البهال" في نصه (في جنازة الحب) على تقنيات السرد، والسير به نحو الاتجاه الدرامي في تجسيد الحلم، من خلال استثمار طاقة السرد التصويرية في تشكيل النص، والانفتاح على افاق جمالية فيه، ليقدم نصه بطريقة درامية، من خلال مزج السرد التعبيري والتصوير الشعري، المليء بالرؤى العميقة، والإيحاءات الشعرية والكثافة الدلالية التي تضفي عليه أبعاداً شعرية عميقة.

ولو أردنا ان نخضع حلم الشاعر "حميد البهال" الى قواعد التحليل النفسي الفرويدية في تفسير الأحلام. وفق ما ذكرها "سيجموند فرويد" في كتابه (تفسير الأحلام)، الذي عُد مذهباً في معرفة واكتشاف الأحلام المكنونة داخل النفس الإنسانية. الحلم حسب "فرويد" حالة من الهذيان، وخليط من الأحاسيس والرؤى، القابعة في أعماق النفس البشرية. الذي يرى في الحلم (استجابة نفسية لعامل فسيولوجي ليس إلا) وهناك من يراه (تعبيراً عن اضطرابات سيكولوجية).

يمثل العنوان (في جنازة الحب) عتبة هامة لدخول فضاء النص وعالمه، وهو بهذه الکيفية يصبح دالة سيميائية مرتبطة بالنص، فيبدو عنوان النص بمثابة (علامات لسانية، تصدر وتعين، وتشير إلى المحتوى العام للنص)، "شعيب حليفي، النص الموازي للروايه، استراتيجية العنوان، ص84".

شكل (الحلم) المحور الاساسي في النص الشعري بمجمله، فهو العاطفة الذاتية المعبرة عن روح الشاعر وفكره، ومن خلاله تتضح رؤية الشاعر الشعرية، التي هي نوع من التأمل الفلسفي أو الصوفي. أما لغة النص يمكن أن نضعها في مستويين، بين الحلم والهذيان، فهي رحلة خيال مميزة، تكثر فيها تراكيب المنهج الفلسفي الوجودي وتساؤلاته الذي يحملنا الى معنى مفتوح التأويل، معنى لا يشبه شيئاً سوى تفسير الأحلام، فيحتم علينا التأمل في النص واستحضار دلالاته الرمزية، ومحدداته الشعرية التي قد تخضع الى عملية (التحليل النفسي)، فثمة إشارات وعلامات يلتقطها القارئ، كمفاتيح لأبواب مغلقة في النص، ينبغي أن نقرأ دلالاتها الرمزية وليس دلالاتها الصورية.

عند تناول هذا النص ليس (كل حلم قابل للتفسير) كما يرى "فرويد"، بل ينبغي أن يكون تحليل للحلم وفك تشفير رموزه وتحليل عناصره أولاً، وليس تفسيراً له.

النص الذي امامنا لا يخلو من صعوبة الفهم بسبب ما يحيط به من تعقيدات فلسفية، قد تكون فيه الأحلام أداة أساسية في فهم وإضاءة للذات، وكاشفة عن مشاكل نفسية ومخاوف ورغبات مكبوتة تظهر بأشكال رمزية.

فلا أريد في هذه القراءة ان أكون مفسراً لأحلام الشاعر، بقدر ما أبحث في رموز حلمه وتأويلاته، لأن الشاعر يدور في فلك الصورة الخيالية للنص، فهو بين عالمين (الواقع/الحلم).

يُختزل نص الشاعر "حميد البهال" (في جنازة الحب) في صور وتراكيب مجازية، ذات وصف شكلي محسوس يبين براعة الشاعر السردية في الوصف كأنك ترى ما يصفه وما تحسه، فهو يعيش واقعاً عنيفاً، يتم التعبير عنه في (الحلم) الذي شكل الهيكل التأسيسي للنص، و (لازمة شعرية) مستدامة في متن النص.

فالشاعر "حميد البهال" شاعر مستيقظ الوعي، يخترقه سيل جارف من المعاناة النفسية والوجدانية. يكاد أن يكون النص، بكائية لإنسان فقد معنى وجوده، وصورة مأساوية للحب.

الحب شعور عاطفي شامل، له مستويات مختلفة ومتباينة، لا يخضع للعقل ولا يلتزم بالمنطق، وطالما كان محور اهتمام الشعراء والكتاب والعلماء والفلاسفة، وجميع هؤلاء يتفقون على هذا الوصف، فهو (قيمة وجودية كبرى)، كما قال عنه "سارتر". يمثل مشاعر إنسانية معقدة ومتعددة، فلا يمكن أن نؤطره في إطار عقلي أو عاطفي، فالحب (جواب على مشكلة الوجود الإنساني)، "إيريك فروم". والعاطفة في النص لا تنفصل عن العاطفة العامة والمنسجمة مع وحدة الانتماء الإنساني، بمعناه العام.

جاءت سردية الحلم في نص الشاعر "حميد البهال" على شكل مستويات ومنحى أنسيابياً داخل النص، بحيث يتنقل القارئ من مستوى الى اخر حتى يبلغ الحلم ذروته، فقد اعتمد الشاعر الأسلوب التصويري من أجل تجاوز التشابه المألوف في كتابة النص لأنه في لحظة حلم فكان إسلوب المقاطع المتسلسلة منسجم فنياً مع حالة الحلم.

قد يكون الحلم معبر عن إشارة إلى مرحلة صعبة يمر بها الشاعر. وفهم هذا الحلم بطرق مختلفة وحسب سياق ظروف الشاعر ومشاعره وتجاربه الشخصية والعوامل المحيطة به، قد تكون له تفسيرات متعددة، طبقاً للرؤية الوجودية الشائعة بين الذين يعانون من الحزن، والقلق، لان الأحلام امتداد لحياة اليقظة، ومعبرة عن وجود الإنسان في عالمه واوهامه، ‏هذه الاوهام هي (التي تجعل الحياة أمراً يمكن إحتماله، لذلك يكره الناس الحقائق لأنها تبدد الأوهام وتضعهم أمام مرارة الواقع)، كما يقول "كولن ولسون".

أتى النص كتلة واحدة، فيه سرد، ووحدة موضوع، وايحاءات كثيرة، وأعطى مساحة واسعة لاستيعاب الحدث الدرامي. كذلك اعتمد الشاعر إسلوب الوصف في تشكيل بنية النص، الذي يعد من اهم الركائز السردية، للتعبير عن الرؤية الدرامية في النص بدلالاتها المتنوعة.

***

بقلم/ حسين عجيل الساعدي

كان البروفيسور أشرف إبريق قد شدّ انتباهي واهتمامي بكتابه الأول "نوتات الكيميائي" (مكتبة كل شيء حيفا2020)، بجمال لغته وسلاسة مفرداته وجُمَله التي صاغها بأناقة الصّانع الفنّان وبسعة ثقافته الأدبية.

وجاء إصدارُه الثاني "للحديث نظير"(مكتبة كل شيء2024 حيفا) وحدّدَ الأهدافَ التي أراد تحقيقها منه بقوله: "أنْ أقوم بتشجيع الناس كي تخرج من الأماكن التي تتواجد فيها، وتكتب، وترينا عالمَها. أحبّ أنْ أرى عالمَ الأطباء من خلال عيونهم، المُزارع، الطبّاخ، الفيزيائي وسائق التاكسي، كلهم لديهم ما يقصّونه علينا، خسارة أنْ يحرمونا من كل هذه العوالم الجميلة. يجب علينا ألّا نخاف من أنْ نتشابك بين مختلف مَجالات المهن والإبداع. لا توجد هنالك مجتمعات ليست مبدعة، الكل يستطيع أنْ يكون في الطليعة، يجب علينا أنْ نخلق هذه البيئة لأنفسنا لنستطيع أنْ نستمر. وأنا فعلا أرى بوادر لتحرّكات علمية وثقافية وإبداعية على كافّة المَجالات، وهذا واحد من أهداف الكتاب، بأنْ أكون جزءًا من هذا الحِراك. نحن بحاجة لأنْ نقرعَ البيوت والمنصّات، القرى والمدن العربية، وأنْ نصنع هالة حول الثقافة من أجل التّحفيز والإبداع عند كل شخص في مجاله، سواء على صعيد أدبي أو علمي. وواجب علينا أنْ نحبَّ إبداع بعضنا، ونشجّع بعضنا، هذا شيء جدا مهم." ("ورشة الحوار الصحافي" التي نظّمها موقع "عرب 48" بالتّعاون مع جمعية الثقافة العربية)

واستهلّ "للحديث نظير" باقتباس من كتاب "الإمتاع والمُؤانسة" لأبي حيّان التوحيدي "إنّ في المُحادثة تلقيحا للعقول، وترويحا للقلب، وتسريحا للهمّ، وتنقيحا للأدب" وكأنّه بهذا الاقتباس أراد، من حيث لا يقصدُ، أنْ يُحدّد لنا هويّة مؤلّفه الجديد والمَنْحى الذي اختاره والحدود التي ألزم نفسَه بها. غير منتبه للتَّعْريف المُتسرّع الذي قدّم به نصّه الجديد على أنّه رواية.

ثم يهدي كتابه لوالدته الغالية ولوالده الحبيب المرحوم "اللذَين شكّلا لي ولأخوتي الثلاثة وأخواتي الستّ مصدرَ طاقة لا ينتهي، استمدّت منهما أجسادُنا ونفوسُنا ذرّاتها وجُزَيْئاتها، الصّحة والقوّة والنّور والمَحبّة "(ص7).

ومن السّطور الأولى لبداية السّرد نجد الراوي يعود بذاكرته إلى ذلك اليوم الذي استقلّ فيه سيارة أجرة للوصول إلى المشفى ليزور والدَه الذي تدهورت صحّتُه وأنهكه المرض، ويستعيد حالة القلق والخوف من أنْ تكون أيام والده الباقية في الحياة قليلة. ولاحظ عندما اقترب منه أنه ليس على ما يُرام فجسمُه كان يرتجف. فسارع واستدعى الطبيب الذي جاء وفحصه، ثم شرح له أنّ والده "يُعاني من مرض نادر، يؤدّي إلى تآكل الخلايا العَصبيّة، وأنّ وضعه يزداد سوءا يوما بعد يوم، وإذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى وفاته خلال فترة قصيرة" (ص14) ونصحه بالحديث معه قَدْر المستطاع لتقوية جهازه العصبيّ، ويُعزّز الحالة العامّة للجسم.

وكانت كلمات الطبيب الحافز لتلك الجلسات المُتتالية والطويلة التي قضاها الراوي مع والده. وقد استبق هذه الجلسات بتعريفنا على والده أنه "كان أستاذا جامعيّا في موضوع الكيمياء الحيويّة، ودرس خصائص البروتينات في سياق أمراض مختلفة كالسرطان والباركنسون. كذلك أبدى اهتماما كبيرا في تاريخ العلوم الكيميائيّة والطبيّة، والاكتشافات التي غيّرت مجرى التاريخ، وأثّرت وما زالت تؤثّر على حياتنا في شتّى جوانبها. وكان يؤمن بأنّ المثقف الحقيقي يجب أنْ يكون ذا معرفة علميّة، ومعرفة الخلفيّة التي تكمن وراء الاكتشافات العظيمة التي جعلت حياتنا أفضل، حتى لو كانت معرفة متواضعة، وإنّ ثقافة الفرد السياسيّة والاقتصاديّة والفلسفيّة والتاريخيّة وغيرها من المواضيع الإنسانيّة وما شابهها، تبقى ناقصة، ما لم تكمّلها المعرفة العلميّة" (ص16)

وهكذا أخذ الراوي يُهيئ نفسَه، ويستحضر شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" وإشغالها للملك شهريار وصَرْفها له عن التفكير بالقَتل بقصصها الجميلة التي كانت تقصُّها عليه. واجتهد بانتقاء المواضيع التي سيُثيرها مع والده باختياره العلمية منها والقريبة من الكيمياء مَجال تخصّص وبَحْث والده.

وكانت الجلسة الأولى بسؤاله لوالده حول تركيبة الأشياء وصفاتها وتشابهها واختلافاتها وعن أهم مكوّنات هذا الكون؟ (ص18)

وحدث الذي لم يكن مُتوقَعا، فقد "اتّسعت عينا والده، وازداد بريقها، شدّ جسدَه وحرّك رأسَه وأخذ نفسا عميقا وبدا وكأنّ السؤال قد أثاره" (ص19) وشرع في جوابه وشَرْحه وتحليله، وكأنّ المرضَ زال عنه، والألمَ فارقه، وذكرَ كبارَ العلماء والمفكرين والمُخترعين.

وتوالت الأسئلة وطُرحَت المواضيع المختلفة والوالد في قمّة تألقه واندفاعه وتناوله لمختلف القضايا العلمية المُعَقّدة والاختراعات الكبيرة التي غيّرت حياة الناس.

وظلّت هذه الجلساتُ تتوالى إلى أنْ كانت الأخيرة عندما "سمع تنهيدةَ والده وشعوره بالضّيق وازدياد تنفّسه ثم اختفائه فجأة والظلام يحيط بالمكان ولا يرى شيئا، يبحث عن والده ولا يجدُه. فقد فارق الحياة.

هذا النصّ الجميل

هو استمرار لنصوصه الجميلة التي قدّمها في كتابه السابق "نوتات الكيميائي"، لكنّه يختلف عنه بأنّه كتبه وهو على يقين ممّا يكتب، وبقصد مُسبَق، وهدف نبيل يبغي نَقْل ما عنده من معرفة وعلم لقارئه ليزوّده بكلّ ما يُمكّنه من مواجهة الغرائب والمجاهيل والمتغيّرات التي قد يُصادفُها في مسيرة حياته مُبتدئا بالسّؤال الأول الذي يطرحه الإنسان عند مواجهته الأولى للكون الذي يجد نفسَه فيه مُستَغْربا من تركيبة الأشياء وصفاتها وتشابهها واختلافاتها، مُعترفا بعدَم إدراكه ما وراء كلّ ذلك:

- ما هي أهمّ مُكوّنات هذا الكون؟

وهكذا من خلال الحوار الممتدّ على العديد من الجلسات بين الراوي ووالده العالم في علم الكيمياء تتفتّح الكُوّات والنّوافذ والأبواب لينكشفَ لنا هذا العالم الغريب الذي نوجدُ فيه فنتآلف معه، ونحسّ بأنّنا جزء منه فنتصالح معه، ونُصبح من مُكوّناته وعناصره المُتجانسة.

كان بإمكان الكاتب أنْ يُقدّمَ هذه المعلومات والمَعارف في كتاب علميّ يكون مساعدا لطلاب فرع الكيمياء في المرحلة الثانوية، ومفيدا لكل قارئ له، ولكنه اختار هذا الأسلوب الحواري مُطعِّما إيّاه بالاقتباسات من القصص والطُرَف والشعر والسّيَر الذاتيّة للعديد من العلماء والنوابغ الذين اشتهروا بما قدّموه من إنجازات واختراعات كان لها، ولا يزال، أثرها على حياة البشرية، وحتى استعان بالآيات القرآنية ممّا يُحبّبه للقارئ ويُسَهّل عليه فَهْمَ المادة وقبولها. أضف إلى ذلك أنّه كان يطرح بعض الآراء والمواقف في العديد من المواضيع مثل المرأة ومَكانتها مُتّخذا من أمّه المثال الأسمى، والحرّيات الاجتماعية، والمَظالم الطبقيّة والسلطويّة، ويُطعِّمها بمواقفَ عاطفية وإشارات لافتة، وإنْ كانت سريعة عابرة غير مُكَرّرة كما رأينا في اهتمامه بالممرّضة التي انجذب إليها. كما اهتمّ بالمريض الذي كان في الغرفة مع والده وابنه الذي اعتنى به، والحديث مع الأطباء.

ويظلّ نصّا جميلا

وأقربَ إلى النصّ العلميّ الذي يُقدّم المعلومات ويشرحها ويُحلّلها ويُبسّطها ويُبيّن أهميتَها وتأثيرَها مُعَرِّفا بأسماء العلماء الذين يعود لهم الفضل في الاختراعات والاكتشافات التي عرّفتنا على هذا الكون وموجوداته. ولكنّه يظلُّ بعيدا عن النصّ الأدبي والروائي بشكل خاص، رغم تَعريف الكاتب له برواية، فالكاتب نفسه من حيث قصد أو لم يقصد أشار إلى النموذج الذي اتّبعه وقلّده في نصّه هذا وهو أسلوب ونَهج أبي حيّان التّوحيدي في كتابه "الامتاع والمؤانسة" الذي اعتمد فيه الحوار مع الوزير الذي كان يُقدّم له اقتراحَه في الموضوع الذي يُريدُه أنْ يتكلّم فيه، وأبو حيان يستجيب ويتوسّع في كلامه مُضمّنا الكثير من الشعر والقصص والأمثال والمعلومات والأفكار وطرح قضايا مختلفة تهمّ الوزير وتُفيد الناس.

ووجود بعض العناصر التي تكون في الرواية مثل "السّرد والحوار والشخصيّات" لا تُعطي للنصّ صفة الرواية، ففي كلّ نص قد نجد هذه العناصر أو بعضها. وحتى يكون العمل الروائي ناجحا ومتكاملا يجب أنْ تتآلف فيه الأفكار مع الخيال ليتعالى هذا النص الروائي على النص السّردي العاديّ. والنصّ الروائي كما يقول الروائي واسيني الأعرج "هو إعادة صياغة لعالم ماديّ مُتحوّل إلى سلسلة من الافتراضات التي لا وجود لها عمَلياً في الواقع الموضوعي، إلا داخل النص."(القدس العربي 5.3.2024).

ومن كَوْن الرواية جنسا إبداعيا يُمكن أنْ تحتوي معظم الأنواع الأدبية أخذتنا الصفحات الأولى من النصّ مُتقبّلين تعريفَ الكاتب لنصّه بالرواية حتى ابتدأت الجلسات بين الراوي ووالده وانقطاعهما الكلّي عمّا يحيط بهما، وحتى عن الزمان والمكان فتقطّعت أواصرُ العلاقة بين النصّ والفن الروائي، وانحصر في كونه مادّة علمية تعليميّة تُقَدّم الكثيرَ من المعلومات لكل راغب في المعرفة، وخاصّة لطلاب موضوع الكيمياء. وحتى لو تجاهلنا هذا التحوّل في مجرى الأحداث وخروج النص عن مساره الروائي، وبقينا راضين عن تعريف الكاتب لنصّه بالرواية لواجهتنا الكثير من المُعوّقات التي تحول دون ذلك. وكان على الكاتب، حتى لا يُفقِدَ نصَّه صفتَه الروائيّة، أنْ يُخرجَه من جموده باندماج الشخصيّات بالعالم التّخييلي الذي كان عليه استحضاره.

وتجدر الإشارة أنّ الكثير من الروايات التي طرَحَت مواضيعَ علميّة أو تاريخيّة أو دينيّة وفلسفيّة، وكانت هذه المواضيع محور الرواية وبؤرتها، استطاع الكاتب الروائي انهاء جمودها وتحجّرها بانغماس الشخصيّات فيها بالعالم التّخييلي الذي خلقَه الروائي، وأنْ يُقدّم عملا روائيّا متميّزا. ومن الروايات الرائعة التي قرأتها وشاهدتها في فيلم سينمائي "ذهب مع الريح" لمرغريت ميتشل عن الحرب الأهلية في أميركا و "الحرب والسلام" لتولستوي عن غزو نابليون بونابرت لروسيا، و "الطاعون" لألبير كامو وأخيرا رواية "لا تزال أليس still Alice" للكاتبة الأميركية ليزا جينوفا وترجمة أفنان سعد الدين التي دارت حول إصابة البطلة بمرض ألزهايمر. وغيرها الكثير.

المكان والزمان والشخصيّات

الحالة الصّحيّة الصّعبة للوالد فرضت عليه نوعا من الحَجْر القَسْري في غرفة داخل المشفى حيث لا يستطيع تَرْك سريره، وهذا استدعى ملازمة الابن الراوي لوالده طوال الأيام التي قضاها في المَشفى، فأخذت حركة الزمن الأفقية تضغط بثقلها مع محدوديّة المكان وضيقه على تصرّف الشخصيات فيبدو وكأنّ كلّ شيء تَعطّلَ وتحدّد في ما يدور بين الابن الراوي الذي يطرح الأسئلة والوالد المريض الذي يُجيب عليها بحماس ورغبة وإسهاب دون الالتفات لحالته الصحيّة الصّعبة التي لا تتحمّل هذا الجهدَ الكبير.

هذه الجلسات الطويلة والمُرهقة بما تُقدّم من معلومات، وتُحدّد حركة الشخصيّات المُتواجدة كانت السبب الرئيسي وراء الجمود والتحجّر الذي سيطر على الشخصيّات وأوقفَ الزمن وجمّد المكان وعَطّل الأحداث، حيث كان الرّاوي والوالد مُنهمكين في طرْح مختلف المعلومات العلمية الدّقيقة غير مُلتفتين لمَن بقربهما ومدى الضّيق أو الازعاج الذي قد يُسبّبانه للآخرين. بينما المريض الثاني وابنه في الغرفة مُضطرين على متابعة ما يجري أمامهما، يستمعان بصمت، وضيق وغضب مكتوم. وأيضا المُمرضة التي كان من الممكن أنْ تكون نقطة انطلاق في خلق قصّة حبّ أو توافق واستلطاف مع الراوي ممّا قد يدفع بالأحداث والشخصيّات وحتى اللغة للحركة والحيويّة والتّنامي.

وقد تكون رغبة الراوي في نَقْل كلّ المعلومات التي يعرفها في علم الكيمياء للقارئ ولكلّ الناس هي التي كانت توجِّهُه، فألبَس والدَه قناعَ العالم الكيميائي بينما اكتفى هو بدور الوسيط الذي يطرح الأسئلة لتتدفّق المعلومات كلّها بأجوبة الوالد على الأسئلة، فجاء النّص على شكل حوارات بين الراوي الذي يطرح السؤال ووالده الذي يعطي الجواب. فلا خيال ولا قصص جانبيّة ولا شخصيّات أخرى تُخرج النص من محدوديّته العلمية فانسحب الجميع من المشهد: المريض وابنه والطبيب والممرّضة، وتوقف الزمن، وانحصر المكان وضاق، ولم يبق غير الراوي ووالده في حوارهما الطويل إلى أن بدأ صوت الوالد المريض المُتعَب في التّراجع والخُفوت حتى كان الصّمت الثقيل الطويل.

النهاية والمُلحَق

كانت النهاية متوقعة بموت الوالد، حيث كان الطبيب قد أخبر الابن الراوي بحالة والده الخطيرة، وأنّه قد يُفارق الحياة خلال أيام. فهو يُعاني من مرض نادر، يؤدّي إلى تآكل الخلايا العصبيّة. ورغم حالته الصعبة أرهقته الأجوبة الطويلة التي نطق بها جوابا على أسئلة ابنه الراوي، والتي لا شكّ ساهمت في تَسْريع موته.

وقد أراد الكاتب أنْ يُفاجئ القارئ في الصفحات الأخيرة المُلحَقَة بأنّ كلّ ما رواه كان تسجيلا لجلسة تجريبية قام بها صديقُه وزميله العالِم في علم الدّماغ من أيام الدراسة في الولايات المتحدة، الذي زاره في بيته وشارك في تشييع جثمان والده واستمع لرثائه له وتأثر جدا، ومن ثمّ دعاه لزيارته في بيته في مدينة جنيف في  سويسرا، وهناك أخبره باكتشافه جهاز يقوم بحَثِّ الدّماغ ليمنحنا شعورا مُطوّلا نعيش في أعقابه لحظات كنّا نتمنّاها، وأقنعه بدخول التجربة ليستحضر والدَه، ويقضي معه فترة سعيدة يتمنّاها ولو في المُخيّلة . وهكذا كان.

أخيرا

كل التحيات للصديق الكاتب البروفيسور أشرف إبريق على نصّه الجميل والمميّز الذي سيكون له الأثر الكبير على كل مَن يقرأه، ومساعدا لطلاب فرع الكيمياء في المرحلة الثانوية وكل طالب معرفة علمية جاد.

***

د. نبيه القاسم - الرامة فلسطين

إنَّ من الملاحظ أن بعض الملامح المسرحية في التاريخ العربي الإسلامي لم تولد في أماكن مغلقة، بل هي وجدت منذ البداية في الأماكن المفتوحة، وبما أن المرحلة الإسلامية التي كانت تحكم البلاد العربية وغير العربية لم تعط للمجال المسرحي استقراره وتطوره الملحوظ، فكانت أغلب هذه الممارسات تقام في الساحات العامة،أو الأسواق، أو أمام البيوت وغيرها من الأماكن المفتوحة التي تعرض فيها هذه الممارسات المسرحية.

وبغض النظر عن المجادلة في قضية هل أن العرب كان لديهم مسرح؟، أو ممارسات وملامح مسرحية؟، فأننا سنركز في هذا الفصل الخاص بالمجال الإسلامي والعربي عن كل ما يدلل على التجربة المسرحية القريبة من مسرح الشارع، والتي تعدّ من المرجعيات المهمة لنشوء هذا الفن في الساحة العربية، والمقصود هنا هو الظاهرة الفنية التي كانت تقام في الساحات والأسواق والطرق العامة، دون أن تتخذ لها أماكن وقاعات محددة كما هو معمول في المسرح التقليدي الغربي.

أنَّ من أهم المتقابلات الفنية ذات الملمح الديني بين المسيحية والإسلام هو الطقوس الدينية ذات النشاط الفني المسرحي الذي أقيم في الساحات العامة والطرقات على الرغم من الإختلاف بين الوعي بالظاهرة الفنية المسرحية في المسيحية عن غيرها في الإسلام. ومن ثم فإن الطقس المسيحي عمل على الأستفادة من المسرح بوعي كونه قد حارب هذه الظاهرة في البدء ومن ثم عمل على توظيفها في بعض المقاطع المسرحية في داخل الكنيسة،ثم وسّع هذا النشاط ليقدم حلقات طقسية درامية لموضوعات من الكتاب المقدس خارج الكنسية، وقد أصبحت هذه الظاهرة مكملة لتاريخ العروض المسرحية التي تنتمي لمفهوم مسرح الشارع. أما في الإسلام فقد نشأت هذه الظاهرة الطقسية ذات الملامح درامية من خلال بعد شعبي بحت دون التزام المؤسسات الدينية لها في بادئ الأمر، وبعدها أصبحت جزءاً مهماً من مراسيم تقدم في أيامنا هذه في عدد من البلدان العربية والإسلامية، ومن ثم توجد عدة أراء في ماهية الظاهرة الخاصة بالطقس الإسلامي المعروف بالتعازي المرتبطة بواقعة كربلاء ونشأتها في المنطقة العربية الإسلامية. في هذا السياق يرى  "أدونيس:(ليس الحسين أول من قتل في تاريخنا بهذا الشكل المأساوي. إنَّ قتل الإنسان – كما يقتل أي حيوان – ظاهرة مألوفة، عادية في تاريخنا كله، قديماً وحديثاً، لكن لقتل الحسين خصوصية تتمثل في صيرورته ذكرى، أي في تحوله الى احتفال، وهو احتفال – محاكاة تمثيلية قولاً وعملاً، وألفاظاً وحركات، للحدث الفاجع " (1). إذن، فإن صيرورة هذه الذكرى هي التي جعلت من هذه الواقعة وهذه الشخصية الإسلامية الكبيرة تتحول ذكراها إلى احتفال عند محبيها،،أي لولا هذا الاحتفال لما أستمرت هذه الذكرى، على الرغم من اختلاف هذا الرأي مع الرأي الديني الذي يعدّه من الشخصيات الدينية المهمة لما له من قرابة من الرسول محمد (ص)، وكونه من الرموز الإنسانية والإسلامية المهمة التي ميزت الفترة الأولى من الإسلام. ومن ثم فإن هذا الاحتفال الذي أنطلق في بداياته الأولى في المناطق التي تكثر فيها الشيعة في المناطق الإسلامية وخاصة في الشرق الإسلامي. كما يرى المنظر لهذه التعازي الباحث (أندريه فيرث) في نشأتها بإن التعزية نشأت " كشكل مسرحي احتفالي، من امتزاج نوعين من الطقوس الدينية والشعبية، التي تصاحب إحياء ذكرى استشهاد الحسين في العاشر من المحرم عام (61ه، 680م):

1. أما النوع الأول، فهو المواكب ومسيرات الندب والرثاء، التي كانت تجوب شوارع المدن والعواصم الشيعية، والتي بدأت منذ القرن السابع الميلادي.

2. وأما النوع الثاني من الاحتفالات، فقد بدأ في القرن السادس عشر ويتمثل في رواية سيرة الحسين وأهله في محافل شعبية، ويجلس فيها الراوي على منصة عالية، ليقرأ على السامعين أجزاء من كتاب روضة الشهداء.

وفي منتصف القرن الثامن عشر، أمتزج هذان النوعان من الأحتفالات الدينية، وظهرت التعزية كشكل مسرحي" (2). في رأي (فيرث) ؛أن هذين النوعين اللذين شكلا الصورة الدرامية للتعازي بشكلها الفني المسرحي يبين فيهما ملامح فنية ترتبط بمسرح الشارع، وهي:

1. الأمكنة التي تقام فيها هذه التعزية هي أمكنة مفتوحة وغير مغلقة.

2. الاحتفال هو احتفال ارتجالي تشترك فيه أعداد كبيرة من المشاركين، وأعداد أخرى من الجمهور،

3. العفوية في المشاركة من القائمين على هذه المظاهر الاحتفالية، وكذلك من الجمهور في تكوين الصورة الطقسية الدرامية للتعزية.

وفي هذا المجال يرى الباحث الدكتور (محمد سيف) أن التعزية تعبر " في جوهرها عن فكرة المسرح الجوال الذي يمكن إقامته في أي مكان لاحتوائه على اكسسوارات بسيطة يمكن نقلها والترحال بها في أي أتجاه في احتفال شكله ومضمونه قريب كل القرب من مسرح الشارع " (3). واعتقد أن القرب بين التعازي ومسرح الشارع حسب الرأي السابق، يقصد به مسرح الشارع بصيغته الحالية، أو كما يقدم في أيامنا.

في الشرق الإسلامي والعربي تتميز التعازي في كونها تمتلك ملامح مسرح الشارع من حيث الأمكنة المفتوحة والارتجال المرافق للفعل الدرامي المرافق لهذه الظاهرة، كما أن هذه الظاهرة الدرامية تمتلك من العناصر الأخرى القريبة من عناصر العرض المسرحي من إكسسوارات وأزياء تعبر عن الفترة التي وقعت بها واقعة كربلاء للمجسدين وغيرها من العناصر التي يمكن أن تستخدم بشكل مطابق في أي عرض لمسرح الشارع، مع أعتبار أن هذه التعازي تقدم الى يومنا هذا بشكل واسع وبأعداد كبيرة من المشاركين، وتقدم في أكثر من مكان في المدينة الواحدة، مع استمرار المظاهر الأخرى التي أشار لها (فيرث)، أي تصبح ظاهرة التعزي تضم ثلاثة أنواع قريبة من مسرح الشارع تدخل فيها المظاهر الدرامية في الأماكن المفتوحة، وهي:-

1. (التعازي) أو ما يطلق عليها في المصطلح الشعبي (تشابيه)، وهي تقوم على تمثيل قصة مقتل الحسين (ع) كاملة من صباح العاشر من محرم حتى لحظة مقتله وشهادته هو أهل بيته وأصحابه.

2. المواكب ومسيرات الندب والرثاء، وهي التي تقام من الأول من شهر محرم لغاية العاشر من الشهر نفسه.

3. الراوي الذي يروي قصة الحسين (ع) واستشهاده، وهذا الراوي، أو ما يسمى بالمصطلح الشعبي (القارئ) الذي يستمر بسرد قصص مسير الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه لغاية استشهادهم جميعاً، ويرويها لمدة عشرة أيام، ولكل يوم قصة عن حدث في الواقعة، بعض هذه المظاهر السردية تكون في الساحات العامة والأسواق، وبعضها الآخر تتم في البيوت، أو المراكز الدينية، وما يهمنا المظاهر التي تقام في الأماكن المفتوحة.

أما في مصر والمغرب العربي فإن المظاهر الدرامية التي تمثل مسرح الشارع، أو ما يقارب هذه الظاهرة الفنية فهي عديدة ومتنوعة. في مصر يتناول الدكتور علي الراعي في كتابه (المسرح في الوطن العربي) ما يرويه الرحالّة الذين زاروا مصر وقدموا شهادات عن المجال المسرحي فيها، واقتبسنا بشكل غير مباشر أهم هذه المرويات عن بعض الرحالّة وما يخص موضوع المظاهر الدرامية التي تتطابق مع مسرح الشارع في مصر في الفقرة التي أطلق عليها (علي الراعي) بالمسرح الشعبي البشري، إذ ينقل الراعي وصف الرحالّة (كارستين نيبور) في زياراته لمصر في عام (1761 م) عروض الشوارع المقدمة في مصر بأكثر من نوع،  وهي:

1. الغوازي أو ما يسمى بفن الغوازي هذا الفن المصاحب للموسيقى والغناء وكان يقدم أمام منازل الرحالّة الغربيين، أي في الشوارع المقابلة للبيوت.

2. عرض الشارع الذي يقدمه الحاوي أمام جمهور من المصريين في الساحات العامة وهم يعتمدون على تقديم أعمال تخدع أعين المتفرجين، وهم يستهدفون منها كسب المال الذي يعطى لهم طواعية من قبل الجمهور.

3. عروض لبعض اللاعبين الذين يقدمون عروض يعتمدون بها على القردة وطريقة تقديم هذه العروض من خلال ارتداء القرد للملابس وهي عادة ما تكون ملابس غربية للسخرية من الغربيين في بلاد المسلمين.

4. ينقل (نيبور) صورة درامية أخرى عن ممثل فرد يقدم نفسه للناس في شوارع القاهرة سائل الناس العطاء، بعد أن يسرد لهم قصة أسر النصارى في مالطة مع أستخدام سلسلة من الحديد يجسد بها صور من هذه القصة.

5. ينقل (نيبور) صورة خامسة عن مشاهدات عروض الشوارع عن مجموعة من الممثلين من مسلمين ومسيحيين ويهود وهم يقدمون بعض المسرحيات باللغة العربية تقدم في العراء – في فناء المنازل ويصبح آنذاك مسرحهم - وهي مشاهد كوميدية ومنها:عن قصة إمرأة تستدرج المسافرين لتسرق نقودهم وتطردهم، وكان يؤدي هذا الدور النسائي رجل من الممثلين. (4)

وفي حوالي 1815 يروي رحالة آخر وهو (لين) عن مشاهداته لمجموعة من المؤدين يطلقون عليهم أسم (المحبظين)،إذ يقول (لين) في هذا المجال: إنَّ هؤلاء المحبظين يقدّمون عروضهم في حفلات الزواج والختان في بيوت العظماء، كما أنهم يجذبون اليهم حلقات من المتفرجين حين يلعبون في الأماكن العامة، وأضاف أنهم يعتمدون على النكات والحركات الخارجة، وأن الممثلين كلهم من الذكور، ما بين رجال وصبيان، يقدمون الأدوار جميعاً الرجالية منها والنسائية " (5).

وفي الانتقال إلى شكل آخر من الدراما التي تقدم في الأماكن المفتوحة، فكان للعربة التي يقودها الفنان في الطرقات والساحات العامة وما يقدم من خلال الصندوق الذي تحمله العربة من حكايات وقصص عن أماكن مختلفة يجتمع حولها من يريد أن يشاهدها ،إذ يرى عبد الكريم برشيد في هذا النوع من المظاهر الدرامية التي تعتمد على المشاهدة التي من الممكن أن يصاحبها التعليق من الفنان الذي يقود العربة، أو يحمله على ظهره، إذ يرى برشيد في هذه الممارسة أن صندوق الدنيا قريب "من خيال الظل، عرف المجتمع العربي صندوق الدنيا أو صندوق العجب، وفي هذا الصندوق يقول المخرج المسرحي خالد الطريفي: والكون يدور والحياة تسير كأننا أمام صندوق عجب، وصندوق العجب، هو صندوق الفناء ندخل ونخرج منه بالتعاقب " (6). إنَّ هذه الظاهرة الفنية التي تحمل في طياتها الفعل الدرامي من خلال مجموعة الصور التي تختزل الدنيا هي ليست ظاهرة مسرح الشارع، لكن فيها ما هو قريب لهذه الظاهرة الدرامية من حيث أن حدوثها واشتغال الأحداث فيها تتم من خلال صندوق الفرجة الذي يتجول فيه الفنان خارج البيوتات والأماكن المغلقة، فمسرح العلبة هو المكان الذي يحوي بداخله المتفرج والعرض،أما هذه العلبة الصغيرة فالمتفرج يكون خارجها ويرتبط بعلاقة معها من خلال الأماكن المحددة في داخل الصندوق لمشاهدة صور من العالم " تختبئ كل العوالم الممكنة، والتي هي عوالم تَسَعُ كل الناس وتَسَعُ كل الأحداث، وتسع كل الأشياء، وتختزل كل الدنيا، وتسع الحياة، وذلك في رسومات فقط، رسومات ورقية مقصوصة وملونة بألوان الوجود وبألوان الطبيعة وبألوان الحياة "(7)، هذه العوالم والصور والألوان كلها تروي أحداثاً عن مواقع قد تكون حقيقة بالأسم لكنها مصوّرة بشكل مصوّر من قبل الفنان الذي رتبها وأعدّها في هذا الصندوق.

وفي غرب الوطن العربي، أي في دول المغرب العربي تنوعت الظاهرة الدرامية التي تحوي صوراً من مسرح الشارع، المسرح الذي يقدم في الساحات العامة والأسواق فيها، فمن المواسم إلى الحلقات إلى البساط إلى بعض من مظاهر سلطان الطلبة، وغيرها من الاحتفالات التي ركزت عليها الاحتفالية في اشتغالها الدرامي، كلها تشير إلى أن عروض الشارع كانت وما تزال موجودة وتستمر بعض ملامحها إلى اليوم في هذه المنطقة من العالم. في مجال الموسم في المغرب يرى برشيد بإن "الموسم،كما يعرف في المغرب، هو احتفال شعبي اجتماعي، ديني، اقتصادي، إبداعي، ويقابله في مصر المولد. وهذا الموسم –المولد، هو بالأساس فضاء احتفالي بأمتياز، وهو لحظة للتلاقي الإنساني، وهو أحتفاء بالحياة، وبالزواج، وبالولادة، وهو درجة حيوية يلتقي عندها الطبيعي والثقافي، ويتحاور فيها عطاء الأرض وعطاء الإنسان، وتجسد مسرحية (عرس الأطلس) هذا الموسم الأطلسي، وتجعله مسرحاً مفتوحاً على مستويين ؛ أفقياً ورأسياً وبهذا يلتقي – الديني والدنيوي " (8). وهذا المزج بينهما هو ما يقوم عليه هذا الاحتفال، على عكس ما يقام في الشرق الإسلامي في التعزية الذي يرتبط بما هو ديني بحت، بينما في الغرب العربي يرتبط الاحتفال لديهم بما هو ديني ودنيوي يجعل من الظاهرة الدرامية التي تقام في الأماكن المفتوحة تمزج بين الفرح والإبتسامة بسبب المناسبات التي تقام بها هذه المظاهر الاحتفالية ذات الصبغة الدرامية، وبين المجال الديني المرافق لهذه المراسيم الاحتفالية بجانبها المفرح، وليس في جانب الحزن. ويقدم في مراكش العديد من صور الاحتفال في الفضاءات العامة ذات الارتباطات الدينية، ويرى (د. علي الراعي) في من يزور " سوق جامع الفناء بمراكش يجد هذه الصورة التي نتخيلها حقيقة واقعة. يجد مسرح الحلقة في أشكال متعددة، ويجد مسرح الممثل الفرد الذي يقوم وحدة بجميع الأدوار، ويجد تمثيلاً عادياً يتعدد فيه المؤدي، ويشبه من قريب تمثيل المحبظين،كما يجد ألعاباً مختلفة للحواة والمشعوذين يشركون فيها الجمهور،ورقصاً شعبياً مخلوطاً بالأداء التمثيلي الفكاهي " (9). إنَّ ما يقام في داخل سوق جامع الفناء يشير إلى طبيعة العمل الدرامي في هذا المجال، إذ تتميز أعمال السوق ببعدها الدرامي المنتمي لمسرح الشارع، فبين مسرح الحلقة، والممثل المنفرد الذي يشبه في طريقة تقديمه أداء المحبظين في مصر، مع ما يقدم من أعمال مختلفة بين أعمال الحاوي والمشعوذ المصاحب للأداء الفكاهي الذي يجلب المشاهدين من مرتادي السوق، وكل هذه الأعمال ذات البعد الدرامي فيها صور من مسرح الشارع تقدم في الأماكن العامة المفتوحة.

إنَّ ما يميز التقديم الدرامي في أسواق المغرب العربي تعددية الأشكال المقدمة، وهذه التعددية تتطابق من حيث التنوع مع ما يقدم في مصر، لكنها تختلف عن الشرق العربي الذي ينقل أغلب الكتّاب عن ظاهرة واحدة فقط تقدم في الفضاءات المفتوحة وهي التعزية. إنَّ هذه التعددية الدرامية في المغرب العربي أتت وكما يرى الدكتور (علي الراعي) من تعدد فنون الحكاية والإيماءة والألعاب وغيرها مما ساعدت على التنوع في المجال الفني الدرامي، ويرى الراعي أن " في المغرب توجد ثلاثة أشكال تقدم في الشارع وهي: (مسرح الحلقة) و(مسرح البساط) و كرنفال (سلطان الطلبة): وفي هذا المجال يرى الدكتور حسن المنيعي في (مسرح الحلقة) الذي يهمنا في هذا المجال، والذي يضم فنون الحكاية والإيماءة والألعاب البهلوانية والتهريجية، ويقدم هذا التمثيل في الأسواق والساحات العامة، وهذه الحلقة تتكون من متابعين حول الفنانين من الممثلين والموسيقيين والبهلوانيين الذين يقدمون عروضاً يشركون في بعضها الجمهور الملتف حولهم في بعض فقرات العرض المقدم (10). إنَّ عرض مسرح الحلقة هو العرض الأبلغ في مضمونه لمسرح الشارع، كون أن هذه الممارسة الدرامية تقع في بيئة خاصة بالطبيعة التي يحكي عنها اليوم مسرح الشارع من حيث العلاقة بين الجمهور والممثل، والفضاء غير المغلق، والمشاركة مع الحضور في رسم ملامح الحكاية ، أي أن "الحلقة هي تجمع دائري في أحدى الساحات العمومية، يقف وسطه (الراوي) والمساعد، اللذان يقصان بالتناوب قصص البطولات، والأساطير، والحكايات الخرافية، بطريقة تمثيلية صرفة، تجمع بين التشخيص والمباشرة والايماءة. ويوجد حتى الآن سوق كامل لهذا النوع من الاحتفال بمدينة مراكش " (11). إذن هذه العروض التي تستمر لغاية الآن هي من المحفزات الحقيقية في داخل المجتمع في مراكش، كونها تعد من الركائز المهمة في الثقافة في هذا البلد، الذي لم يتجاوزها الناس ويجعلها من التراث، بل هي حية في فعلها ونشاطها التوعوي والفني والثقافي.وهذه الاحتفالات في المغرب العربي عامة هي من جعلت (عبد الكريم برشيد) يتساءل عن مسرح الحلقة وغيرها من الصور الدرامية التي تقع خارج إطار المسرح الغربي التقليدي، التي يرى بأنها أقرب ما تكون للمسرح عن غيره من الفنون الأخرى التي يلتقي فيها " اللعب والجد، وتلتقي الحياة والفن، ويمكن للباحث أن يتساءل إن من تعود على الاحتفال، داخل السوق الأسبوعي، أو في الموسم السنوي، هل يمكن أن يكون غريباً عن روح وجوهر المسرح ؟ "  (12) ، ومن هذا التساؤل يبدأ عبد الكريم برشيد وغيره من العاملين في البحث عن أشتغالات جدية توجد مسرح بديل للمسرح الغربي، هذا المسرح البديل لا يتخلى عن كل هذه المظاهر العربية والإسلامية في تاريخ المغرب العربي التي يمكن توظيفها في ما سمي بالمسرح الاحتفالي، هذا المسرح الذي هو بالضد من أشكال المسرح الغربي الذي يعد دخيلاً على الثقافة العربية بصورة عامة والمغاربية بصورة خاصة، ويقول عبد الكريم برشيد " لقد غاب عن رواد الحركة المسرحية أن المسرح ليس بناية، وليس أسواراً وخشبة، وليس ستارات وكراسي من خشب، أنه موعد بين جمع من الناس، ثم يقول: المسرح حفل واحتفال، وهكذا عرفناه من قبل، إنه مهرجان يلتقي فيه الناس بالناس، إنه عيد جماعي، لذلك أرتبط بالساحات والأسواق والمواسم " (13)، والارتباط بالساحات والأسواق والمواسم والفضاءات المفتوحة هو عينه مسرح الشارع الذي يبحث عن هذه الفضاءات وعن الارتجال وعن الذهاب إلى الجمهور، والبحث في موضوعات تغادر سَلب الجمهور إرادته، وتغادر سلب الجمهور بيئته الحقيقية في المشاهدة، فمسرح الشارع يبحث عن البيئة الحقيقية للجمهور، وليس عن البيئة المصطنعة التي بحث فيها من يشتغل في المسرح من أمثال المسرح الملحمي وغيره عن كسر الإيهام والإندماج والبحث عن علاقة جديدة مع المتفرج،لهذا السبب بحث المسرح الاحتفالي في بناء علاقة جديدة مع الجمهور قائمة على ركن أساسي وهو البدء في البحث عن الجمهور على وفق العلاقة التي أوجدتها المظاهر الدرامية في التراث العربي والإسلامي،قام المشتغلون في المسرح الاحتفالي بالبحث في هذه المظاهر التراثية على أعتبار أن في المغرب العربي " كانت الساحات العمومية والأسواق الكبرى مسارح للرواة المداحين الذين يجمعون حولهم حلقات جماهيرية ملتهبة لسماع نوادر جحا وملاحم عنترة وسيف بن ذي يزن..الخ، وكان الرواة والمدحون يستخدمون جميع الحيل الفنية من أثارة وتشويق لشد المشاهدين اليها وإحداث انسجام تام بين المؤدي وجمهوره، وقد جاء استلهام ذلك في بناء النظرية الفنية والجمالية للمسرح الاحتفالي الذي (لا يحاكي ولا يحكي، أنه يحيي حدثاً – حفلاً ويقيم لقاء تظاهرة – هنا والآن -  هذا اللقاء / الاحتفال هو جزء منا نحن المحتفلين، أنه نحن وهو لا يمكن أن يكون الا كما نريده ونحياه " (14). وهذه الرؤية في التفكير وفي تحديد مهمة المسرح هي بالبحث عن روح التلاقي بين المسرح وجمهوره، وليس بين هذه الظاهرة وأفكار غريبة عنها.

إنَّ الاحتفالية قد ارتكزت على ركائز مهمة استلهمتها من التراث الفني تتلاقى مع الركائز الجمالية في مسرح الشارع، فالاحتفالية ركزت على الذاتية النابعة من اللقاء ذاته بين المسرح والجمهور، لذا " فالمسرح الاحتفالي لا يحيل على الماضي كما هو شأن الدرامية، ولا يحيل على الآخر الغائب البعيد – كالمسرح الملحمي – وإنما يحيل على ذاته، فهو وحده المرجع والمصدر، لأنه لقائنا نحن – الآن – هنا، فالاحتفال المسرحي إذن لا يحيى زمناً كان ثم مضى، كما أنه لا يحكي عن زمن كان أو يكون، ولكنه يخلق زمناً جديداً" (15). هذا الزمن الجديد قائم على العلاقة الحية الرابطة بين العرض وتلقيه، أي أن المسرح يحي هذا العرض في فضاء التلقي الآني من خلال اختراق هذا الفضاء وإقامة الصلة معه بشكل مباشر ودون أي واسطة يبحث عنها كما هو الحال في المسارح الغربية. وهذه أول المرتكزات الفنية التي تلتقي فيها الاحتفالية مع مسرح الشارع.

أما المرتكز الثاني الذي يلتقي فيه المسرح الاحتفالي مع مسرح الشارع هو الفضاء المفتوح من خلال الساحات العامة والأسواق، وهذا ما وجده المخرج (الطيب الصديقي) الذي بحث في مجال تأسيس فكرة العرض المسرحي الاحتفالي،إذ يختار " الأماكن المفتوحة والساحات العامة والشوارع لتقديم عروضه، رافضاً معمار المسرح التقليدي، لأنه يخنق فن التمثيل، ولا يمكن من خلاله تحقيق نظام المشاركة العقلية والوجدانية بين المحتفلين" (16). من ثم فأن المعمار المسرحي التقليدي من حيث الأبنية الخاصة بالعرض المسرحي تحد من قيمة ومشروعية التلقي من خلال تحديد هذه الفضاء بالمعمار الذي من الممكن أن يؤثر بطبيعة التلقي من جهة، ويحد من العدد كون أن العدد في المسارح التقليدية محدود، على العكس من الأماكن المفتوحة التي من الممكن أن يكون فيها العدد أكبر مما هو في مسرح العلبة، ومن جهة ثالثة جعل الفضاء المفتوح حرية أكثر من حيث المتابعة للعرض المقدم أو رفضه دون عوائق تؤثر على المتلقين الأخرين.

أما المرتكز الثالث الذي يشتغل عليه المسرح الاحتفالي، هو الارتجال وهو من المرتكزات الثابتة في مسرح الشارع، والارتجال في المسرح الاحتفالي يعمل عليه المشتغل في هذا المسرح كون أن صانعه لا يستند " إلى نص مكتوب أو دور جاهز ولا يقبل التغيير. بل إنَّ الفرجة تعتمد بالأساس على التأقلم مع متطلبات اللحظة وطبيعة المتلقي. ولهذا، فهي تبقى قابلة للحذف أو الإضافة، حسب تغير الظروف وحيثيات التواصل، وعليه فالارتجال هو الصيغة المفضلة لدى صانع الفرجة، لأنها تتيح له إمكانية هائلة للتعبير وتبتعد عن التصلب والجمود الفني " (17). هذه هي طبيعة الارتجال في ما وجده الباحثون عن حقيقة الفرجة وتلقيها، وطبيعة الأداء المقدم من قبل المؤدي في المظاهر الدرامية المختلفة في التراث العربي والإسلامي.

يعد الارتجال في الاحتفالية من الأسس التي يقوم عليها الاحتفال ذاته بين المؤدي والجمهور في كون أنه يتيح " قيام حوار مكشوف بين صانع الفرجة ومتلقيها الذي يبتعد عن الموقف السلبي، ويتحقق هذا الحوار خاصة في لحظات تتوقف فيها الفرجة ليخاطب صانعها الناس مباشرة " (18)، من أجل تحفيز هذا الفضاء المتداخل بين المؤدي والجمهور المتلقي لخطاباته القائمة على مبدأ العفوية والمشاركة الجامعة للموضوع المقدم في الاحتفالية.

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

.......................

الهوامش

1. عبد الكريم برشيد: الصدمة المزدوجة، المسرح والحداثة، الشارقة:إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2014، ص149.

2. بيتر يروك، تيري إيجلتون، سو. إلين وآخرون: التفسير والتفكيك والأيديولوجية ودراسات أخرى، أختيار وتقديم: نهاد صليحة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص 268،ص269.

3. د. محمد سيف: المسرح والأفكار والتطبيقات التي تعارض التقاليد، بغداد: من إصدارات مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي، 2012، ص239.

4. ينظر: د. علي الراعي: المسرح في الوطن العربي، الكويت: سلسلة عالم المعرفة يصدرها المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، 1999، ص50، ص52.

5. المصدر نفسه، ص53.

6. عبد الكريم برشيد: المصدر نفسه،ص140.

7. المصدر نفسه،ص140.

8. المصدر نفسه، ص152.

9. د. علي الراعي: المصدر السابق، ص 57.

10. ينظر: المصدر نفسه،  ص 58.

11. محمد أديب السلاوي: الاحتفالية والبديل الممكن، بغداد: منشورات دائرة الشؤون الثقافية والنشر، 1983، ص52.

12. عبد الكريم برشيد: المصدر السابق، ص153.

13. د. سعيد الناجي: البهلوان الأخير، أي مسرح لعالم اليوم ؟، الشارقة: إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة،2011، ص 107.

14. د يحيى البشتاوي: توظيف التراث في المسرح العربي، الشارقة: إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2011، ص 203.

15. المصدر نفسه، ص 203.

16. د يحيى البشتاوي: المصدر نفسه، ص211.

17. سعيد الناجي: التجريب في المسرح، الشارقة: إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2009، ص123.

18. سعيد الناجي: التجريب في المسرح، المصدر السابق، ص123.

 

رواية "نزيف المسافات" للقاصّ العراقي صالح البياتي، المقيم في استراليا، والصادرة عام 2021 عن دار الورشة للطباعة والنشر/ بغداد/ شارع المتنبي.

تتناول الرواية فتراتٍ من تاريخ العراق في النصف الثاني من القرن العشرين: العهد الملكي، ثورة 14 تموز 1958، انقلاب 8 شباط 1963، انقلاب 17 – 30 تموز 1968 يوم تسلّم حزب البعث السلطة، وما أعقبتها من أحداث حتى الحرب العراقية الإيرانية 1980 وما بعدها، كما مرّت الرواية على الثورة الكردية ومعاركها في العراق واستشهاد والد البطل غير البيولوجي، العسكري المشارك في القتال ضد الحركة الكردية، والذي يكتشف الشخصية الرئيسة مؤخراً وهو في أواسط عمره أنه ليس أباه الحقيقي، بل زوج خالته التي ربته، وهو لا يعرف أيضاً أنها ليست والدته الحقيقية .

ركّز الروائي على تلك الحرب (العراقية الإيرانية) وما صاحبها من أحداث سياسية ثقيلة الوطأ شديدة العنف، راح في أتونها مئات الآلاف من الشباب العراقي المتفتح للحياة والبناء والمستقبل، إضافة الى ما رافقها من معارك ونكبات ونوائح ونوائب داخلية اجتماعية. ومن بين تلك الحوادث والتداعيات حملة التهجير الكبرى التي تعرّض لها الكرد الفيليون؛ بسبب ما سمي بتبعيتهم الإيرانية. وهو من مخلّفات صدور قانون الجنسية العراقية عام 1924 حيث قُسّم العراقيون الى تبعية عثمانية، وتبعية ايرانية. وهو ما جرّ معه تمييزاً عرقياً طائفياً سياسياً اجتماعياً ضد الفئة الثانية، من خلال التهميش والتمييز في الحياة العامة، وفي الوظائف العليا والدنيا.3647 صالح البياتي

يسرد القاصّ صالح البياتي، من خلال شخصيات عاشت في محافظة ميسان (العمارة)، تأثيرَ تلك الفترات، وأحداثها التاريخية على حياتها الاجتماعية ومصائرها، باعتبارها نموذجاً للكثير من مثيلاتها، ومن خلالها سجّل ووثّق روائياً ما عاشه العراق والعراقيون في تلك الحِقَب، والظروف والمتغيرات التي امتازت بها، وما عانته وناءت تحت حِمله في ظلّ تلك الأنظمة المتعاقبة، التي اختلفت جذرياً في توجهاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكلُّ نظام جاء في أعقاب آخر عن طريق انقلاب دمويّ، راح ضحيته الكثير من رجالات السلطة ومن مناصريهم من العامة، ومن الأبرياء غير المناصرين. ففي انقلاب 8 شباط مثلاً قُتل واعتُقلَ وعُذّب آلافٌ مؤلفة من الشباب العراقي المنتمي للتيار اليساري، ومن غير المنتمين، لكنْ بالشُبهة تعرضوا الى ما لاقوه من قتل واعتقال وتعذيب وتشريد. وكيف تفاعل الناس مع تلك الأنظمة، وعاشوا، وتحمّلوا، وعانوا، كلٌّ حسب طبقته الاجتماعية، وموقفه السياسي الأيديولوجي. وكذلك يعرضُ لنا حركة الناس المتضادة في مواقفها، ومعاناتها، بين مؤيد ومعارض، وانتهازيٍّ، ومصلحي. وكذا علاقات هذه الطبقات فيما بينها، سلباً وإيجاباً، محبةً وتعاضداً، أو كراهيةً ومحاربةً وإيذاءً. وكلُّ ذلك وبطل الرواية/الراوي (نوح المدعو "إجباري" قبل تغيير اسمه) يروي للمتلقي موقفه الشخصيّ منها كلّها، منْ خلال السرد أو الحوارات الكثيرة - الطويلة بعضها - والتي ترد على لسانه وألسنة الشخصيات، لغرض عرض مواقف العراقيين السياسية المختلفة. فمثلاً في مروره على ثورة الرابع عشر من تموز 1958 نقرأ إنتقاده الشديد واستنكاره واشمئزازه لما صاحبها من أحداث دموية راح ضحيتها أعضاء العائلة المالكة، وبعض من كبار رجالات الحكم قبل الثورة، حين سُحل بعضهم في العاصمة بغداد بشكل وحشي مشمئزٍّ، تقشعرّ له الأبدان، حيث وصفَ أول يوم منها، وما شاهده من سحل وتمثيل، وموقفه المعارض الشديد لما تلاها من أحداث بشعة مروعة، بعد أن جاء الى بغداد مع صديقه الشيوعي سعيد من العمارة (ميسان) لعملٍ فوقعت الثورة في اليوم التالي لمجيئهما، إذ يروي (ص 117 – 118):

"لن أنسى ابداً ذلك اليوم الذي كان نقطة تحول سياسي للعراق، ولكن بالنسبة لي غاص في تلافيف العقل الباطن، يبدأ دائما بهذا السؤال المحيّر: لماذا تنقلب صفحات التاريخ في مثل هذه الأحداث، بأيدي ملطخة بالدم، لماذا تكون العقوبة قاسية، عنيفة الى درجة الجريمة.. كان الاضطراب يعمّ شوارع المدينة"

ثمّ يقول:

"كتبت في دفتر مذكراتي أخاطب نفسي: نوح.. كم مرة في عمرك، سترى فيه جثة عارية، بلا رأس ولا أطراف، لرجل ذي نسب رفيع، ومقام عال، مسحول بحبل، في يوم مقدود من غضب، بين أناس مُسخوا وحوشا.. سيطالهم الموت يوماً، وبصورة أبشع."

ويروي لنا بطل الرواية (ص121- 122) ما رأى من حادث قتل انسان بريء مرّ صدفة بقصر الشيخة فتنة (زوجة الشيخ محمد العريبي):

"رأيت فلاحاً يتطاير الشرر من عينيه، يستظل واقفاً بسور القصر، ويتربص برجل قادم، وعندما اقترب الرجل، أنقضّ عليه فجأة، ودوت طلقتان في الهواء، خرّ على إثرها صريعاً، على حافة الرصيف، اختلج جسده المنتفض برهة ثم خمدت أنفاسه الأخيرة"

وفي صفحات أخرى نقرأ موقفه الآخر من الثورة وحلمه بالحرية، وخيبة أمله بما شاهده وعاشه في اليومين الأولين للثورة (ص 122):

"عدت للبيت مختنقاً بهواء الثورة، الذي فسد للتو، وتلوّث بسموم الكراهية والحقد والانتقام، تمنيته هواء نظيفاً، يعبق بنسائم الحرية"

لقد استلهم الروائيّ شخصياته وسِيَرها من نماذج واقعية، عايشها وعرفها، وعايشناها نحن أيضاً وعرفناها عن قرب، وعن تفاعل وعلاقات شخصية بينها، فهي تعيش في منطقة وبيئة واحدة، مما يدفعنا الى أنْ نرى بأنّ في بطل الرواية شيئاً من سيرة الكاتب الذاتية، وما عاشه وعاناه في تلك الحقب. وعليه يمكن لنا فنيّاً أنْ نضع الرواية في خانة (الواقعية التاريخية النقدية)، إذ تعرض لنا فترة من تاريخ العراق في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو ما تحتاج الرواية العراقية أنْ تتعرض له؛ لما لها من أهمية في تعريف الأجيال القادمة على ما جرى في العراق في تلك الفترات، وما قامت به الأنظمة المتعاقبة وما جرى خلال حكمها، والأثر البالغ والتدميري والتمزيقي اجتماعياً، ناهيك عن الجانب السياسي والاقتصادي، والثقافي والحضاري. كما أنها مزج فنّي سردي (روائي) بين السيرة والتاريخ، والأحداث، والاضطرابات، والمتغيرات الدراماتيكية التراجيدية التي عاشها العراق وشعبه، فأوصلته الى ما هو عليه.

لقد اشتغل الأديب صالح البياتي بحرص وتفصيل دقيق ومتابعة تاريخية وميدانية شخصية على تسجيل، وبيان الأثر العظيم والخطير، والعميق لهذا التاريخ ووقائعه على الناس بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم جماعاتٍ وأفراداً. فالحكاية التي بين أيدينا، وقصص شخصياتها المتعددة المشارب والمختلفة الطبقات والاتجاهات، وعلى ضوء مجهر قراءتنا هي واقعٌ عاشه الروائي وسط بيئة مضطربة، وبلد مرّت به أحداث جسام صنعت تاريخه المتلاطم الأمواج، وبحر الصدامات الكارثية، التي جاءت بقادة، وحروب داخلية وخارجية، ألقتْ بظلالها السُود، ونتائجها التراجيدية المأساوية المدمِّرة، على عاتق الشعب الذي لم تكن له ناقة ولا جمل في كلِّ ما جرى. فما هي إلا صراعاتٌ بين أطماع، واستراتيجيات ومصالح خارجية، وصراع داخلي على الكرسي بين قوىً متضاربة متصارعة، لا يهمها إلا السلطة والمناصب، والوجاهة والإمارة ولو على الحجارة، وما يجلبه ذلك من منافع وامتيازات، ونفخة كذّابة زائلة، لعيون جائعة متعطشة للسلطة، ونفوس جاهلة متخلفة.  لقد اشتغل الكاتب عليها منْ خلال سيرة بطل الرواية وسِيَر الشخصيات الأخرى – كما ذكرنا - ، والأثر البالغ العظيم لتلك الأحداث والوقائع التي ضربت البلاد طولاً وعرضاً، شمالاً وجنوباً،  ومنْ أقصاه الى أقصاه. هذه السيرة والسيَر الأخرى نماذج ضمن الكثير الكثير منَ الذين وقعوا ضحايا بريئة، كالمرأة الجنوبية الطيبة المضحية الأرملة (الدهلة) نموذجاً، والتي قُتلت على يد ضابط الأمن، وهي إحدى شخصيات الرواية.

ومن الذين اختاروا طريق المعارضة والمواجهة بإرادتهم (الشيوعي سعيد مثالاً) حيث تحمّلوا متوقعين، بسبب انتمائهم واختيارهم المواجهة عن قناعة، تحمّلوا ما تعرّضوا له من ملاحقة واضطهاد، وسجن وقتل وتعذيب، حيث (راحوا بالرِجلين) كما يقول شعبنا.

هذه النماذج من الشخصيات الواقعية (البريئة والمُواجِهَة عن سبق إصرار) هي وجبة الرواية الفنية، ومضمونها، والهدف الذي يروم الوصول اليه الكاتب، والذي دفعه الى صياغتها، بالتعب المرّ اللذيذ، والجهد الاستثنائي، والاشتغال على شدّ القارئ وإثارة فضوله وربطه بالأحداث للوصول الى نهايتها المرجوة التي كانت الدافع والرغبة لكتابة الرواية؛ فقد أراد أنْ يضعها أمام عيون ووعي المتلقين، وخاصة المتلقي الذي لم يعشْ أحداث تلك الحِقَب، أو كان صغيراً لا يدرك ما يجري حوله، إضافة الى خوف الأهل من الكلام خشية انزلاق أطفالهم خارج البيت في ذكر ما يجري خلف جدران منازلهم من أحاديث سياسية وأسماء قادة، وبحديث معارض سلبي أو شتيمة، وبذلك تقع العائلة كلها في مهلكة، إن لم تكن مثرمة بشرية، كما حصل للبعض في حقبة السلطة الدكتاتورية الدموية السابقة للغزو في عام 2003.

وكذلك يهدف الكاتب الى أرخنة تلك الفترات التاريخية المهمة والخطيرة للأجيال القادمة روائياً؛ لما للرواية من تأثير أكبر من التوثيق السياسي والمنهج التاريخي المدرسي. وكذلك مثالاً للشعوب التي لم تعشْ ما عاشه العراقيون يومياً تحت ظلال ما كان يجري مما ذكرنا وما سردته الرواية، فوقعوا أسرى التضليل والعمى الإعلامي التزويري، أو الانحياز الأعمى أو المصلحة الشخصية. وكذلك كي لا تقع هذه الحوادث والكوارث في غياهب النسيان التاريخي عن ذاكرة الأجيال القادمة، أو في مطابخ التزوير المُضلِّل والمتعمَّد.

***

بقلم: عبد الستار نورعلي

آذار 2024

تقديم عام: يُعَدّ موضوع حضور المرأة في الشعر مسألةً متعاوِدةً ومع ذلك تظلّ متجدِّدةً وغيرَ متكرِّرةٍ تناولها نقاد وباحثون كُثُرٌ منذ القديم.. سلّطوا الضوء على الأبعاد الوجدانية والوجودية والاجتماعية والنفسية والقيمة لصورة المرأة ومنزلتها في القصيد العربي منذ عصر المعلّقات حتى عصر قصيدة النثر.. خاصة وقد اتسم هذا الحضور المحوريّ للمرأة في مدوّنتنا بالثراء والتنوع إلى حدٍّ يصعب ان نجد شاعرا تخلو نصوصه من ذكر المرأة متغزلا بها واصفا لمفاتنها في سكونها وفي حركتها وفي حلاوة حديثها.. او متودّدا إليها او معاتبا إياها او شاكيا جبروت هجرها او مشتاقا توّاقا إلى وصلها... كلّ ذلك مثّل مادّة دسمة للباحثين في هذا الموضوع إلى أن نقف عند شعراء القضايا والمواقف في العصر الحديث.. أولئك الذين استقطبتهم الإيديولوجيات والمدارس الأدبية المنضوية تحتها ومنها بالذات الواقعية الاشتراكية التي نهضت عليها عدة تجارب أدبية هامة في بلادنا العربية وفي تونس.. وأيضا أولئك الذين هزتهم سلسلة الهزائم والخيبات الذاتية والموضوعية في واقعنا المازوم بين الحصار الاستعماري المباشر وغير المباشر وبين منظومات الحكم الاستبدادي وما ألحقتْ به الفئاتِ الاجتماعيةَ الهشّةَ من تفقير وتهميش .. في ظل هذه الملابسات والمتناقضات تغيّر وعي المرأة ووضعها في المجتمع الشرقي فتغيرت النظرة اإليها تبعا لذلك خاصة مِن قِبَلِ المثقفين والأدباء.. فمنذ القباني والبياتي والسّيّاب لم تبق المرأة في الشعر العربي مصدرا للمتعة والسعادة إن تدانت وبحسنها تبدّت ومصدرا للكبَد والشقاء إن تناءت وبهجرها تصدّت.. إنما تعامل معها شعراء عصر الحداثة ادبيا برؤيا منسجمة مع وضعها الإنساني الجديد بمختلف ملابساته الحضارية والنفسية.. بل إنّ مِن الشّعراء تجاوزوا المواضيع الغزلية في استحضار المرأة في تجاربهم الشعرية.. وهنا تكمن جدّة التوظيف والتّطريف في التعاطي مع هذه المسألة التي يعتبر البحث فيها من خلال كتابات المجددين شيّقا بقدر ما هو عسير خاصة منهم الذين انتهجوا الالتزام في كتاباتهم بمواقفهم الثورية وبرؤاهم التحرّرية المتمرّدة ابدا على السائد.. ويعد الشاعر التونسي أحمد اللغماني (1952- 1976) سليل جماعة الطليعة (أو مَن كانوا يصنفون أنفسهم بجماعة "غير العمودي والحر") من أبرز الشعراء الذين اعتنقوا الالتزام نهجا في الكتابة كان فيه شديد الانحياز الي مشاكل الكادحين والمضطهدين ومشاغلهم وخاصّة إلى القضايا الوطنية والقومية إلى درجة أنّنا سجّلنا في شعره حضورا مُقِلّا وباهِتًا للمرأة خلافا لأكثر شعراء جيله بمن جماعة الطليعة.. وكانّنا بمشغل المرأة عنده لا يمثّل أولوية مقارنة بغالبية الشعراء.. فرغم قلّة القصائد التي نجد فيها المرإة مقوّما شعريا جليّ المعالم فإنّ لها في مدوّنة هذا الشاعر الملتزم تجلّيين أساسيين: - المرأة أبجديّة كتابة - المرأة موضوع كتابة

فكيف صاغ اللغماني جوهر المرأة في شعره وبأيّة رؤيا تمثْلها ؟؟

- المرأة أبجدية كتابة:

عرفنا في شعر العصر العباسي وبشكل خاص في أشعار الاندلسيين توظيفات طريفة لأجزاء من جسد المرأة في وصف الطبيعة سواء عبر التشبيه او الاستعارة او المجاز فكانت المرأة في هذا النوع من القصائد مرجعية للصورة الشعرية على درجة عالية من الطرافة والجودة الأدبية وقد يقفز إلينا من الذاكرة في هذا السياق قول ابن زيدون: في قصيدة الزهراء:

و للنسيم اعتلال في أصائله

كأنه رقّ لي فاعتلّ اِشفاقا

*

و الرّوض عن مائه الفضّيّ مبتسِم

كما شققت عن اللبّات أطواقا

ثمّ تبلور هذا التوظيف المعجم الانثوي والغزلي مع الرومنسيين مع جبران والشابي حين يغازلان الحياة المثلى مغازلة الحبيبة في صوفية رامزة مغرقة في التجريد.. إلا شعراء الالتزام ومنهم مختار اللغماني خرجوا عن هذه الدائرة وحوافّها إلى حدّ كبير فجعلوا من المعجم الانثوي وملامح المرأة والذوبان في عشقها لغة رمزية وأساليب بلاغية عبّرت بشكل جمالي مراوغ بالدلالة عن عشقم للوطن وعن شوقهم إلي الثورة والحرية من أجل تغيير الواقع وبناء مستقبل أفضل للإنسان والأوطان.. وهاهو شاعرنا اللغماني في أوج غضبه تجاه أشكال العمالة والتبعية وفقدان السيادة الوطنية يستخدم معجما أنثويا جريئا لا صلة لمقاصده بالمرأة وفتنتها بالمرّة يقول في قصيدة: "الموت مساء أمام رفات مهرة الريح ":

يا مدينة سلّمت مفاتيحها للمشترين

و فتحت فخذيها لبائعها

يا مومسا حزينة مصابة بالشذوذ

و بكلّ أمراض النساء

يا أمّا قاسية ولدتني ذات صباح..

(هذه القصيدة فيها إحالات كثيرة على قصيدة المومس العمياء لبدر شاكر السياب: وكأنّ عارية الصدور / أوصال جنديّ قتيل / كلّلوها بالزهور / وكأنّها درب إلى الشهوات تزحمه الثغور / حتى تهدّم أو يكاد / سوى بقايا مِن صخور..)

هذا وتلتبس الأنثى الأبجدية بواقعية الأوضاع في هوامش العاصمة التونسية يتوسّل بها الشاعر في تجسيد تذمره من انتشار مظاهر البؤس وما تنكشف عنه المدينة من حيف وفوارق اجتماعية .. يقول في قصيدة:" حبيبتي والأمل "

على الطريق الممتدّة بين المنزه والجبل الأحمر

تترعرع حبيبتي. تكبر وتكبر

تقتات من جوع الفقراء في الجبل

تشرب من خمر جباههم

و تعيش مثلهم على الأمل..

و من أكثر توظيفات المعجم الانثوي والضمير الأنثوي حدّة في التلويح بالثورة المشوقة في قصيدته الملحمية " حفريات في جسد عربي" في المقطع الحادي عشر منها:

آه يا معشوقة هذا الزمن المرّ.. خذي بيدي مازلت صغيرا

أحبو في دربك لكن يملأني الإيمان

زادي جوعي للافراح وحبي للأطفال ولقبي إنسان

آه يا منقذة النفط من السرّاق ومنقذة الصحراء

آه يا منقذة الفقراء

أشهد أنّك آتية ذات ربيع أو ذات شتاء

أشهد أنّك آتية ذات صباح أو ذات مساء

و سيكنس نورك وجه الأرض الشرقية

و تكونين لنا.. مِنّا والجنسية عربية..

و كثيرا ما تراءت القيم النضالية والوطنية عند شاعرنا في صورة امرأة معشوقة بعيدة المنال او امّا مفقودة... وكثيرا ما تجلت القصيدة والكتابة كما يراها اللغماني ويعتنقها من خلال الحبيبة الأبجدية..

فهذه ليلى التي تغنّى بها وبعشقها كثير من الشعراء العرب عبر التاريخ منذ جميل بن معمر تختزل موروثا شعريا كاملا نهل الشاعر من كنوزه ورفض البقاء رهين أسواره في ثلاثية مترافقة متفارقة: "الحب والموت " و"الحب والحياة " و" ليلى والليل وأتعاب أخري" عبّر الشاعر خلالها عن جدلية الثابت والمتحوّل في نظرته الي الموروث الشعري وطريقته الخاصة في التعامل معه حفظا لبقاء القصيدة على قيد الحياة .. يقول في قصيدة الحب والحياة:

حبك يا ليلي حلمي

عندما أحلم أني أحيا

و ألحّ على أن أحيا

حبك بعْثُ الروح في روحي

و إحساس يمنحني حريتي في ان أفرح

حبك ملح على جرح

لمّا أجرَح ألحّ على أن أحيا

و ألحّ على ان لا أِقتل..

فأنا ومعي عيناك اتحدى الليل الأليل..

فإذا بليلي في رؤيا الشاعر صالحة لكل زمان ومكان.. دوما باعثة لتجربة غير التي كانت..

و في قصيدة "حب الكلمة" نجد مناجاة كاملة بمقومات غزلية غاية في التأثير العاطفي موضوع الغزل فيها ليس المرأة إنما الكلمة:

عانقيني.. عانقيني

و اطفئي او أشعلي فيّ حنيني

إذ انا لم أستطع خلقك فأتي ....

لا تكوني في هواي ملزمة

لا ولا ملتزمة

و اخلقيني يا حياتي الكلمة..

و ها هي معشوقة أخرى تدبج لها بلغة الغزل وبتقنية المخاتلة اللغوية ترنيمة تمجيد:

زرقاء.. زرقاء

تحملينني بحرا

تتسكعين في بصري سماء..

في الحُجرة كنتِ

و كنتُ أنا

و الحجرة في البيت

و بيتي في حي الفقراء....

زرقاء... زرقاء

ألبسها وأدخل خصب موت الأحياء

فأقرا في كتاب الإخصاب

أليف... باء

إقرأ باسم الجاكيت الزرقاء

إقرأ باسم.. لا..

و مثل هذه المخاتلات اللغوية اعتمدها الشاعر في صياغة كثير من قصائدة خاصّة منها تلك التي قامت علي السخرية..

فكان بهذا الاستثمار للمرجعيات الغزلية مسايرا ومغايرا في ذات الآن بما يجعلها مكوّنا فنّيّا من مكوّنات القصيدة تتداخل مع سائر بُنى اللغة التركيبة والأسلوبية فيها .. وذاك كان أيضا شأنه في التعامل مع:

- المرأة كمضمون كتابة:

لم ينزّل اللغماني المرأة في مضامين شعره مصدرا للفتنة والجمال وموضعا للحبّ والأشواق فقط.. إنّما حضرت برؤيا متأثّرة بمبادئ المثقف الإنسان والمناضل الملتزم وبروح ابن الجنوب الحسّاسة والشّفافة .. فمن البداهات الأدبية ان نجده وإن في عدد قليل من القصائد كغيره من الشعراء يكتب عن الحبيبة والحبّ ويدمج تبعا لعصره الأدبيّ وخياراته هذا الموضوع مع موضوعات أخرى متشابكة أخرجت صورة المرأة بالمواصفات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تجعلنا ندرك انّ الشاعر أراد لها ان تكون المفاعل الكيميائي المنشئ لأسرار الحياة وجوديا واجتماعيا..

فهذه لطيفة تلك السمراء بمواصفات ابنة الجنوب التونسي يشدو الشاعر بتأثير حبها الحلم في أكثر من قصيدة منها "طيفها" حيث يقول:

لطيفة..

و وجدتك يا قلبي المضني الحزين

قد زدت شوقا وحنين

رحماك يا طيفها

زرني قليلا كل ليلة.....

و امنحني خضر القبل

و لا تكن على عجل..

ثمّ في قصيدة "قلبي سيغامر":

عيناك يا لطيفة

يطاردان قلبي

بنظرة مخيفة

في الليل والنهار

أرى بها البحار..

و في قصيدة "بكاء" نجده يخاطب لطيفة قائلا:

يا معاتبتي لِحبي / من قريب أو بعيد

ما عرفتِ سرّ قلبي / مخنوقة من لهيبي

قد كواه حبّ وجه / أسمر كالعندليب

في الصباح بي اشتياق / وبكاء بالمغيب

فلطيفة احاطها الشاعر بجملة من المعاني الوجدانية برومنسية حالمة دون وصف جسدي تشفّ عن انتصار الشاعر لذاك الحبّ اللّامادي الخالد الذي لا يقف عند سطحية المتعة الجسدية المؤقتة.. وفلسفة الشاعر في الحب هذه تتجلّى أكثر وضوحا في قصائد أخرى نابضة بالعاطفة العميقة في بعدها الثابت حتى بعد الموت وبالحبِّ القائم على التّعلّقِ الروحيّ سعيا إلى الارتقاء بالإحساس بدلا عن الالتقاء بالحسّ.. منها قصيدة "إلى روحها" التي تشيد بقيمة الوفاء حبّا حتى بعد الموت وقد ورد فيها قوله :

لم أفقد منك شيئا كي أبكيك

و ما كان جسدك عزيزا كي أرثيه

وجهك مازال يُطِلّ عليّ في ليلي

بسمته عريضة كالأمل

عيناه تزرعان نورا حولي...

و أنا لا أطلب أكثر

فإن تكوني صعدت فوق

فما الذي تغير

في قلبي زاد الشوق وصار حبي أكبر..

كما نجد هذا النوع من الحب في قصيدة " رسالة حب واقعيةٌ" مبعثا للارتقاء بالوعي أيضا يرى من خلاله حقيقة الأشياء والظواهر والوجود وحقيقة الواقع المختلّ حيث يقول:

صديقتي العزيزة

تحية وبعد

فإنني أحبّك

لا تطلبي التفسير

لا تكثري التفكير

فالحب شيء عادي

و إن يكن يُجهل في بلادي

كالأكل هو كالشرب

يعرفه الصغير كالكبير

يعرفه الغني كالفقير

لأنه لا يعرف التفريق والتعصّب..

و من خلال هذه الرؤيا تبرز صورة المرأة الملاذ التي يلتجئ الشاعر إاليها محتميا بدفء حبّها من مأساته الذاتية والموضوعي.. حبيبة لا يستعرض الشاعر ملامحها الجسدية بقدر ما يتمثلها إحساسا وكيانا وجوهرا وأحيانا أمًّا يُلقي إليها بوزر همومه حين تلفه ظلمات الواقع الذاتي والموضوعي ومثل ذلك ما ورد خاصة في "قصيدة عشق إلى هاني جوهرية" صديق الشاعر وشهيد النضال السينمائي الفلسطيني (1936 -1976) التي يتقاطع فيها التّنويه بإنسانية العشق الذاتي مع قدسية العشق الوطني والقومي.. فإذا بعشق الحبيبة لا يكاد ينفصل عن عشق أرض الوطن والشعب والانسانية ككل وإذا الشعراء هم أصدق العشاق والمناضلين إذ يقول:

و كذا الفنان العاشق

يرسم إذ يصعد جبل العشق

بخطواته أحلى الأطيار

و أحلى الأشجار

و أحلى الأشعار.....

لكن الفنان العاشق

طفل يكبر في العشق

كما يكبر في العش العصفور

نتعلم منك الآن

نتعلم أن الفنان العاشق إنسان..

و في قصائد أخرى نجد الشاعر يصرّح بغضبه على المرأة فيشكو خيبة أمله في حبيبة جفت اوجحدت ويعبر عن نقمته عليها التي لا تقلّ عن نقمته على حيف المجتمع وظلاله.. فتتجلي المرأة في هذا المستوى قضية إجتماعية.. ومن ذلك قصيدة "الحب والفقر" التي ورد فيها:

فقيرا كنت كما ترين

و جئتك أطلب الغنى

سعيت إليك على عيوني

فقطْعتِ جفوني

رفستِني على الارض

و رجمتِني من السماء

و علّمتني ان الحب

ليس حقّا للفقراء..

و مع ذلك تبقى المرأة بكل ابعادها جوهر المعنى وقيمة الوجود تَبِين في صورتها نظرة الشاعر إلى ذاته وإلى علاقتها بما حولها وهذا قد نجده خاصّة في قصيدة" ثلاث ركعات لعينين راحلتين":

عيناك عميقتان عمق البحر

أردت أن أعبّ منهما

فابتلعني البحر........

وبدت حقيقتان سوداوان كالويل

بيديهما الأمر

شقيقتان في السواد: الحزن والليل

يستعصراني عصر

ليقطرا من قلبي.. دمعات الشعر..

فكانت المرأة بذلك مضمون كتابة متنوع الأبعاد  متعدد المستويات يعكس بدوره وجها من وجوه الالتزام في الكتابة. التزاما في الحبّ وفي تلك النظرة الانسانية الراقية للمرأة التي اسّس لها في الفكر قاسم أمين وشبلي الشّميل والطاهر الحداد وتبناها في الأدب الشابي والسياب و نزار قباني مِمّن لم يخل شعر اللغماني من أصداء تأثيرهم..

- خاتمة:

هكذا حضرت المرأة في شعر المختار اللغماني صورة ومرجعية لغوية برموز وعلامات وجوهرا قيميا بأبعاد ودلالات حمّلها رسالة المثقّف العضوى والمناضل التقدّميّ في نظرة إالي الواقع و الوجود مترعة بكثير من الانسانية.. ممتطيا إياها أداة أدبية ووجهة نظر فكرية في التعبير عن نظرته الي الشعر والكتابة: من خلا عصره الأدبي ومن خلال ذاته.. ألم يكتب في قصيدة "هواية"

أحب الخيال لأن الجمال يشده الواقع المؤلم

و أهوى السخافات والعفوات لأنسى الشقاء عند ما أحلم

و دنياي غم وحزن وهم

فكيف أعاني ولا أسأم..

كما جاء له قوله في قصيدة " عباراتي شعبية" قوله:

عباراتي شعبية

تحارب العملاء

و لها سوابق عدلية

تجوع كالفلاحين

تعطش كالعمال

تحسّ كالثوريين

لكنها تبقى مثلهم حية...

***

بقلم: الأديبة كوثر بلعابي

 

توطئة: قسّمنا ورقتنا النقدية هذه إلى محورين: واحد متعلق بمفهوم المنقبة المرتبطة بالكرامة في سياق إشكالي يخلّص المفهوم من احتمال الجدل الفكري العقيم، ويوضّحه عبر التظهير له داخل مساقات رواية "خط الزناتي" ... والمحور الثاني متعلق بمفهوم الخط داخل الرواية باعتباره مفهوما صورياً محمّلا بصبغة ثقافية شعبية ندرِجها داخل مفهوم عالِمٍ هو الكتابة باعتبارها أكثر شساعة، وقادرة على إخراج مقولة الخط من الوجود البصري إلى الوجود اللغوي، وتحويل مجرى التخريج الدلالي من الدائرة الشعبية إلى الدائرة العالمة، في توجّه منهجي يقوم على التأويل المشروط والمستند إلى قرائن نصية من داخل المتن الروائي.

ونحن نقرأ رواية "التحول" للكاتب الفرنسي "فرانز كافكا" يطالعنا بطلها "غريغور سامسا" وقد تحوّل إلى حشرة الصرصار. في وضعٍ سردي خاص هو أن البطل المتحوّل أو الممسوخ، يمتلك حقيقة وجوده فقط داخل النص، أي داخل الرواية. بمعنى أن حقيقته تزول عند الانتهاء من فعل القراءة وإغلاق دفّتي الكتاب. فحياة هذه الشخصية أو القوة الفاعلة مرهونة بأسوار النص، ولا حقيقة له خارجها.

في حين أننا في قراءة رواية "خط الزناتي" لمؤلفها المغربي المبدع "شعيب حليفي"1 نجد أن شخوصها أو قواها الفاعلة سواء ما تعلق بالإنسان أو الحيوان أو الأشياء، نجدها تمتلك بعدها الكياني المرتبط بوجودها المحدد والمعروف والثابت والتاريخي. وما يعضد هذا التخريج الأولي شهادةُ المؤلّف في قوله (الأحداث بكل تفاصيلها.. حقائق وقعت بالفعل. ويشهد المؤلف أنه نقل كل ما جرى بأقصى ما يمكن من الأمانة والمسؤولية، وحينما أطلع كائنات هذه الرواية على ما كتبه.. أذهلهم لمعانُ التطابق، فقرروا الخروج من الواقع، بشكل جماعي، والهروب إلى الرواية لمواصلة العيش فيها)2.

و تفسير ذلك أن إمكان نفي الحقيقة عن أبطال رواية "خط الزناتي" هو نفيٌ وإلغاءٌ وإبطالٌ لِمناقِبها أو لكراماتِها. وعلى الأقل فيما يتعلّق بشخصية موسى الزناتي، المبَأّر منقبياً في سياق كل الرواية. وبالتالي فنحن أمام رواية تقع على الحافة بين ما هو تاريخي3 وما هو أدبي وما هو مقدّس. إنها نص لغوي سردي بثلاث صبغات:

- الصبغة الأدبية

- الصبغة العقدية والدينية

- الصبغة التاريخية المؤرّخة للسير الاجتماعية

هكذا تجاوزت رواية" خط الزناتي" شرط الباحث الفرنسي "تودرورف" الذي يرى أن (مشكلة الشخصية هي قبل كل شيء مشكلة لسانية والشخصية لا وجود لها خارج الكلمات، إنها كائنات من ورق)4، والذي يقف عند حدود الداخل لضمان حقيقة الشخوص، وعلى الأقل فيما يتعلق بشخصية موسى الزناتي الذي ينتصب أمامنا في الرواية بسيرته المنقبية العامرة والقوية والجديرة بالانوجاد البؤري داخل وخارج النص، بحيث ونحن نغلق دفّتي رواية خط الزناتي، لا تنغلق سيرة موسى بقدر ما تبقى مستمرة وفارضة إدهاشها عبر حقيقتها التاريخية المستمرة في صيرورتين: فنية تخييلية وواقعية اجتماعية. 3563 شعيب حليفي

أولا: محور المناقب

تطرح رواية "خط الزناتي" كثيرا من المسائل والقضايا، نختار منها في هذه العجالة مسألة الكرامات. وهي التي أثارتْ جدلاً كبيرا في تاريخ الفكر الإسلامي نتجاوزه لاعتبارٍ منهجي يحاصرنا داخل الاشتغال النقدي الروائي الذي لن يخرج بطائلٍ من الجدل الفكري والإشكالي حول الموضوع. إن مفهوم الكرامات ارتبط في أدبياته بمبدأيْن هما: مبدأ النبوة ومبدأ القدرة الإلهية. وقد اخترنا تسمية المناقب عوض الكرامات تجنباً لأدنى انزلاق عقدي يدخلنا في حيص بيصِ المجادلة التي نتجنب احتدامها في سياقنا القاضي بالبحث عن إركامٍ خاص بالمناقب لدي شخصة موسى الزناتي في رواية "خط الزناتي".

ومن جهة ثانية، فإن تسمة المناقب تُجنّبنا السقوط في مبدأ المعجزة التي انتهت بنهاية الرسل والرسالات، والتي ارتبطت بالإنبياء داخل وظائف متعددة نذكر منها إتمام المعاني وتثبيت القلوب. وهي الوظائف التي لا يمكن ضبطها في سياق المناقب الحاصلة لبعض الناس خارج تصنيف الأنبياء، مما يزيد في حذرنا من الاستعمال، لأن تراكم المناقب عند هؤلاء إذا زاد من شرعيتهم ومصداقيتهم فإنه يزيد أيضا من خوفهم وحذرهم من مطباتِ "الاستدراج الخفيّ".

- في المفهوم:

جاء في لسان العرب عن مادة نقب: النقب هو الثقب في أيّ شيء، والمنقب هو الطريق، والمنقبة هي الطريق الضيق بين دارين لا يستطاع سلوكه، والنقيبة هي الطبيعة، وقيل هي الخليقة، وفي فلان مناقب جميلة أي أخلاق5.

و نخلص من ذلك إلى المناقب في معناها المعجمي هي اسم جامع لكل ما حسن من أقوال وأفعال وخصال في ترادف مع المآثر والفضائل والمفاخر.

و في الاصطلاح فالمناقب مفهوم يمثل مجموعة من السياقات والوقائع والأحداث المرتبطة بسيرة شخص عُرف بصدق الطوية وصلاح السلوك... وقد سجل شارل بيلا (أن كلمة مناقب تطورت مـن الدلالـة علـى الفضائل والأعمال المحمودة التي يمكن أن تتجسد في سيرة شخص من الأشخاص إلى الدلالة على الخوارق والكرامات التي تنسب إلى الأولياء وذلك بحكم ازدهار التصوف والاهتمام بالمظاهر العجيبة)6.

- رصد المناقب:

في تمثيلية لا في حصر. فالسياق لا يسمح بجرد كلي لهذه المناقب على طول الرواية وسنكتفي بأبرزها في توجّه منهجي يختزل دون أن يسئ إلى التجانس بين مدخلات البحث ومخرجاته:

1 – منقبة استلهام الشرعية:

و يتعلق الأمر بتناص ديني واضح ومفعم بالدلالة . نقرأ في الرواية في سياق حديث موسى الزناتي عن الطفل الذي كانه ما يلي (قام. نظر إليهم ثم عاد ينظر إلى المربع الذي رسمه فوق التراب)7.

عن ابن مسعود قال:(خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططاً صِغارا إلى هذا الذي من جانبه... فقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطاً به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ منه أملُه، وهذه الخطط الصِّغار الأعراضُ فإن أخطأه هذا نهشه هذا)8. إن هذا التجانس بين المشهدين: البشري والنبوي هو تجانس دلالي يبحث فيه السارد عن مصداقية الفعل المنقبي، وفيه يتجلى التراب لا مساحةً مسطّحة لتوضيح الرؤية المنقبية من جهة موسى بطل الرواية، ولتوضيح الرؤية النبوية في المنهج الحياتي من جهة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقدر ما التراب قدرٌ سيميائي غائريستوعب صيرورة الإنسان في شقّين: شقّ الوجود وشقّ الرواية.

إن التعاطي لمثل هذه الطقوسية في محراب هذا العلم هو تعاطٍ متجذر وعريقٌ يمتد إلى النبي إدريس عليه السلام.بما يفيد أن المناقب ليست غريبة عن هذه السلالة الزناتية التي أُلْهِمت في صباها قبل أن تتجذر فيها في شبابها وفي كهولتها، مانحةً إياها لقب المشيخة.

2 – منقبة الرؤية المختلفة:

و يتعلق الأمر بتصور موسى الزناتي للذات وللماحول وللعلاقة بينهما من منظور مختلف يؤسسه شرطان: شرط الصمت كمقولة مركزية تتكلم فيها الذات بالإشارة بدل العبارة. ثم شرط الكلام باعتباره خلاصات قناعية للذات المتكلمة وهي تتفاعل في صيرورتها الوجودية مع ذاتها ومع محيطها وتاريخها منتجة مجموعة من المقولات هي أقرب إلى الحكمة والفلسفة منها إلى الخطاب اليومي. ومن خصائص هذه الرؤية نذكر:

- تكسير البداهات:

قال السارد في حديث بين موسى الزناتي وعيسى السمايري (النجوم الحقيقية في حياتنا ليست تلك التي تطوف في السماء بلا إحرام، وإنما هي الكائنات التي نحيا معها)9. المتكلم هنا يُسند الضوء للكائن البشري كما يُسند له صفة العلوية والسمو، داخل شرط وجودي واحد هو أن يمتلك المعني بالأمر قدرا عاليا من الصفاء الذي أعتبره في سياق الرواية مقولة مركزية في سيرة المناقب. وهو الصفاء الذي قاد موسى الزناتي إلى اختيار طريقة جدّه الشيخ الزناتي، وهو الصفاء ذاته الذي يكسّر به البطل الروائي مرايا نفسه المركبة من الشك.10

- تأويل الزمن:

يتكرر في الرواية حرص موسى الزناتي على أن الزمن يومٌ واحد في كثيرٍ من محطات الرواية السردية والوصفية. فموسى يرى الزمن من منظور مختلف يُشاكس علم الفيزياء. وعندما يحس السارد بالعجز في متابعة دقّة العلم يُقحم الذات في انبثاقها الكشفي لتفسّر الظاهرة الزمنية في كثيرٍ من الانزياح العرفاني. قال: (كان الزمن كتلة هلامية بلا شكل، فنحتَ شكلاً ربطه بالشمس والنجوم وباقي الكواكب والأجرام والأحجار، ثم سعى باحثا عن نقطة نهاية ونسي نفسه، ورمانا فيه فتعوَّدْنا)11.

هذا الطرح ماكرٌ، يمكر بالقارئ في لطف ويستدرجه للبحث عن المفهوم خارج التأويل الذاتي الزناتي الذي تبنيه الرؤية الكشفية أكثر مما تبنيه الرؤية العلمية. ورُبّ باحث عن المفاهيم في هذه الرواية أو في غيرها من روايات المبدع شعيب حليفي لن يجد ضالّته لأن منظور المؤلّف يرفض أن يُختزل العمل الروائي التخييلي في خانة الوثيقة العلمية أو التاريخية.

3 – منقبة التفسير:

قال السارد على لسان موسى الزناتي: (النقطة هي الخروج من العدم إلى الوجود، هي الأم الولود في نقط متتالية تتفرق وتجتمع وتتحول من اللاشكل إلى الشكل والهيئة، تتفرد وتتماثل مع الهيئات العليا في نظامها وبيوتها ومعانيها)12.

هكذا فكّر موسى وهكذا تكلم موسى. والنقطة هنا لا تُؤخذ في معناها الشكلي المورفولوجي المرتبط بمقولة الخط أو الكتابة في توجّههما البصري العَلامِي، فهذا حاضر باعتباره آلة من آلات الرسم على الرمل أو الضرب على التراب. وإنما هي حاضرة في هذا المقطع باعتبارها بداية للكون يقدم السارد من خلاله تصوره للوجود والعدم. فالأصل كان نقطة، وفي البدء كانت النقطة... ثم تناسلت في انزياح لامتناهٍ رفده السارد بمقولة الأم الولود دلالة على الإخصاب المستمر.

و النقطة في تناسلها لا تكتفي بوجودها الفيزيائي المفرد بل تتحول في صيروة وسيرورة كونية شاملة على مستوى التحول والمسار. وفيها تتماثل الهيئات الفلكية العليا في نظامها وترسل إشعاعاتها السديمية. من هنا نفهم الحضور المؤنسن للحيوانات والأشياء والحشرات والأحجار في الرواية. كما نفهم قدرتها على التفكير والكلام وعلى صناعة القرار.

الحيوانات في الرواية تفسيرٌ ذكيّ لهذا التماهي المتخيّل بينها وبين الهيئات الفلكية العليا. ومن منّا يقدر على إنكار هذا التخريج ضد مبدع الخيال الذي يجرنا إلى حلبته المخيالية والتي لا يسعنا فيها إلا أن نحاوره بأدواته لا بأدواتنا العاقلة. ومن هنا أيضا نفهم قدرة سوسو على المحاورة وأشياء أخرى ونفهم أيضا تقييم القنفد للحياة والجمال ونفهم كذلك اكتئاب البغل وسيرةَ الڭرطيط وغيره... هي إذن هيولى فلكية انتسختْ في بُؤر جسدانية قريبة من الحس البشري القارئ للرواية وهو الحس الذي لا يقدر في اغلبه على التجريد، فتنفعه الرواية بهذا التقريب وعبر هذا التقريب.

4 – منقبة الحكمة:

الرواية طافحة بمحطات الحكمة التي تُنسج على ألسنة الشخوص والقوى الفاعلة إنسها وحيوانها وأشياؤها... والسارد في هذه المنقبة يرسل الكلام الحكيم مشروطاً بسياقاتها المولّدة لضرورة الحكمة لا في قصدية تلوي أعناق المتن من باب الزخرفة لتأثيت الفضاءات المحكية بجلال الحكمة. السياق العام المرتبط بسيَر الكائنات الزناتية فرض حضور الحكمة بتلقائية وظيفية تنساب في اطّراد مُحكم ودلالي.

نذكر من هذه المحطات بعضاً منها ونستحضرغيضاً من فيض ، تمثيلاً لا حصرا:

- النهار أصمّ والليل أعمى

- ماذا لو نسي الليل نفسه ونام

- الزمن مأوى الأسرار الهاربة

- الزمن يتغدّى من أعمارنا

- النظر إلى الوراء يضعف قوة القلب

- الصمت من الرجال قوة ومن النساء شك

- الحقيقة عدوٌّ لنا جميعا

و الأساس في استحضار الحكمة هو التسطير على أن التجربة أو الخبرة المُراكمة لحصاد هذا النوع من الكلام، غير واردٍ في سياق الرواية، لأن الموصوف أساساً بالحكمة والممارس لها هو موسى الزناتي، وبالنظر إلى عمر الشباب فيه تنتفي فكرة تركيم الخبرة والتجربة كأساس لبناء المنظومة الحكيمة في شخصه. يبقى أن التفسير الأولى هو أن المعني بالأمر موهوب هبةً ربّانية تسعفه في الكلام وفي السلوك وفي تقدير الأمور وفي استثمار الحدس واستعمال الحس... هكذا رأينا الحكمة في هذه القوة الفاعلة في الرواية بما هي حكمة يجريها الله على لسانها ويسمها بميسم الأصالة القوة واليقينية.

5 – منقبة التوحيد:

و لا نقصد بذلك مقولة التوحيد في بعدها العقدي أو العقيدي المرتبط بتنزيه الله عن الشريك. ونقصد بذلك منقبة قدرة الكائن الزناتي على التوحيد بين المتناقضات في تصورٍ يتميز بالانزياح الفكري عن الشبه والتكرار.

في حوار بين موسى الزناتي وعيسى السمايري:

قال عيسى: الشر فينا أعمق تجذرا واستثنائية. وهو مرآة الخير.

ردّ موسى: الشرّ بما تنعته، خطأ في التوصيف. الأصحّ القول..هو اختبار المواجهة مع الشر، وليس بالضرورة أن يكون شرّاً وإن كان من جنسه13.

يتماهى هذا التصور مع رؤية الشاعر القديم (أبو العلاء المعري) للمتناقضات التي وضعها كلها في سلّة واحدة هي الشبه والمثل. فقد جعل المعري النوح في مقام الترنم، والباكي في مرتبة الشادي، والبشير في درجة النعيّ... ورأى لاجدوى بناء الكون على قياس هذا الثنائيات. والأمر نفسه يكاد يتكرر مع رؤية موسى الزناتي مع إضاء زناتية تختلف عن المعري وتطبع الطرح الروائي بالأصالة، ويتعلق الأمر بإيمان موسى الزناتي بوحدة المتناقضات مع وضعها في خيار التدافع. قال (الأصحّ القول.. اختبار مواجهة الشر) في غير توحيد كلي وفي غير إقصاء كليّ أيضا.

6 – منقبة الحدس:

يسأل الراعي الحيْمر صديقه موسى الزناتي قائلا: هل فعلا تعلم الغيب آسّي موسى كما يقولون؟ ردّ موسى: ... الغيب يعلمه الله وحده. أنا أحدس فقط بما أرى وأحس14.

هذا البعد الحدسي المرتبط بالهبة اللدنية، سيجد مصداقيته في واقعة روائية داخل المتن الحكائي في الصفحات 95 و96 و97. وملخصّها أن الحاج المدني صديق والد موسى الزناتي ألمح برغبة ابنيْهِ في السفر إلى إسباينا مع بعض الرفقاء... أدرك موسى بحدسه أن هذا الإقدام على الرحلة لا ينبئ بخير. لم يسرّها في قلبه بل أخبر الحاج المدني بما يراوده، فانقبض قلب الحاج... فاتفقا على ادّعاء مرض والدة الابنيْن الراغبين في السفر ثم أحجما عن ذلك... بعد ذلك بيوم واحد جاء خبر حادثة سير أودت بحياة الرفقاء.

و فكرة الحدس عند موسى الزناتي لا تأتي من فراغ ولا تؤسس ذاتها على الخارق العائم في الغلو والمغالاة... إنها مبنية داخل تصور يُقرّب مفهوم الحدس عبر وسائط الإدراك الممكنة والمتأتية. فموسى يربط حدسه بالرؤية والإحساس، يستثمرهما داخل الصفاء النوعي الذي يمتلكه عبر مجاهدة نفسية تتخذ عدة آليات لتجليتها، منها النزول إلى قاع البئر والجلوس هناك ساعات مطوّلة للتأمل خارج التفكير، برأسٍ مفرغة من كل شيء.

7 – كبرى المناقب:

سألتْ سوسوموسى الزناتي: لماذا أنت وحدك تريد تغيير الناموس؟ ردّ موسى: أنا الناموس... أريد تغيير نفسي15.

و نقرأ هذا المقطع داخل التراث القائل:

تحسب أنك جرمٌ صغير \\ وفيك انطوى العالم الأكبر16.

ذاك أن تغيير الناموس الأعظم يبدأ بتغيير الناموس الأصغر، الذاتي المرتبط بحقيقة وجود موسى الزناتي لا باعتباره شخصا عاديا يعيش في منظومة مجتمعية تمارس وجودها داخل الشبه، ولكن باعتباره استثناءً حاملا لبعض الرسالة الربانية القاضية بتوريط الكائن المرصود داخل لعبة النقاء والصفاء. إن همسة موسى بإسناد مقولة الناموس إلى ذاته فيها من المعاناة أكثر مما فيها من الأنا الفرحة بمنزلتها المصطفاة. فالناموس ليس اختياراً بقدر ما هو إنزال سماوي فيه من القهر ما فيه. ولعل تجربة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تفيدنا في ذلك وهو المرصود دون أن يعلم، لهذا القرار الإلهي الذي عبّر عنه ورقة بن نوفل وهو يخبر خديجة رضي الله عنها بما رآه في النبي...

(فَرَجَعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَانْطَلَقَتْ به إلى ورَقَةَ بنِ نَوْفَلٍ، وكانَ رَجُلًا تَنَصَّرَ، يَقْرَأُ الإنْجِيلَ بالعَرَبِيَّةِ، فَقالَ ورَقَةُ: مَاذَا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ، فَقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي أَنْزَلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، وإنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.)17.

السارد موسى الزناتي يعرف حجم ذاته ولا يتجاوزها إلى خطل الاستدراج الخفي الذي يلقي بالمريدين في أتون المغالاة والغلو والشطحات الصوفية التي لا مخرج منها. لهذا استدرك على كلامه دون تردد وهو يصحح لسوسو أنه ناموس ذاتيّ وقراره في التغيير لا يتجاوز هذه الذات الصغرى. وتأتي التأويلات بعدها لربط الذات بالكون في تصوّر معتدل ومشروع لا يلوي للنصوص أعناقا.

ثانيا: محور الخط والكتابة:

- في اللغة يكون الخط هو الطريقة المستطيلة في الشيء، والجمع خطوط، وقد جمعه العجّاج على أخطاط فقال: وشمن في الغبار كالأخطاط. والخط هو الطريق. يقال: الزم ذلك الخط ولا تظلم... قال أبو صخر الهذلي:

صدود القلاص الأُدْمِ في ليلة الدّجى \\ عنِ الخطّ لمْ يسرُب لها الخطّ سارِبُ 18.

- و في الاصطلاح، يقترن الخط اقترانا شديدا بمفهوم الكتابة في المعنى وفي الاستعمال، حتى بدا المفهومان وكأنهما شيء واحد لما بينهما أصلا من علاقة معنوية، خاصة وقوية، تستند إلى كون أحدهما من معاني الآخر في العرف اللغوي الذي نصّت عليه المعاجم كلها، مع وجود بعض التباين الدلالي بينهما، بين عمومية الكتابة كتمثيل لغوي وبين خصوصية الخط كتمثيل بصري.

الخط ظاهرة إنسانية اجتماعية عامة استخدمها الإنسان منذ أقدم العصور لتسجيل خواطره رغبة منه في تذكرها أو إيصالها إلى غيره عبر الزمان والمكان، فأفادته في مختلف شؤونه الاجتماعية حتى أصبحت تُعدّ أهم أسباب التقدم الحضاري.

و الخط مرّ بأطوار منها الصوري ثم الرمزي ثم المقطعي ثم الصوتي وأخيرا الهجائي الصرف حيث تمّ استبدال الصور الرامزة بالحروف.

- أما الخط الزناتي فهو علم الرمل، وهو علم صحيح وشريف وقديم جدا يعزوه الكثيرون إلى نبي الله ادريس عليه السلام. وأساسه هو علم النقطة الممثلة في الاسطقسات الأربعة: النار والهواء والماء والتراب. وهو علم يتمّ بطريقة سحرية من خلال الضرب على الرمل أو التراب لاستقراء الغيب. وارتبط هذا العلم باسم (الزناتي) الذي طوّره ووضع له أسساً وقواعد ضمّنها كتابه الشهير(كتاب الفصل في أصول علم الرمل).

- فعل الكتابة في الرواية:

رصدتُ حضور فعل الكتابة في رواية خط الزناتي، فوجدتها ملفتة للنظر ومستفزة للوقوف والقراءة والاستقراء. وهي تتجاوز الحضور المورفولوجي إلى تشكيل نسغ الرواية تشكيلاً مركزيا لا يمكن أن نتجاوزه. والكتابة\ الخط أو الخط\ الكتابة مقولة تفرض على القارئ استجلاءها في قيمها وأبعادها ودلالاتها.

و قد وردت علامات الخط والكتابة داخل متن الرواية بصيغ مباشرة وبأخرى غير مباشرة.

1- ورقة الزمن:

يحاول السارد أن يعكس لنا مفاهيمه الخاصة داخل قوالب الاستعارات المجنّحة والانزياحات الأكثر تجنيحا، لتأكيد المقولات في بعديها الواقعي والتخييلي. نذكر من ذلك عرضه لمفهوم الزمن عبر الكتابة المتوسلة بعلامة " الورق"... قال السارد (الزمن أشبه بأسطوانة من ورقتين بالأبيض والأسود، يراهما موسى الزناتي في حجم الكف الواحدة)19. وفكرة الورقتين تفيد فيما تفيد النسخ والنقل والتحبير وغيرها من متعلقات هذا الصفيح العذري المنتظر لفعل اجتراح البياض. لكن العلامة الفارقة هنا هي تحويل المفهوم من الورق الطباعي إلى ورق الأسطونة، وفيها يتجلى عمق الزمن في مشترك الدوران وأشياء أخرى. فمن أشدّ خصائص الأسطوانة: الدورانُ والحكي. والزمن في عمق الاستعارة وآخر المطاف يدور ويحكي هذه الكائنات. إلا أن المفارقة الموسوية الزناتية هي تأطير هذا الامتداد الزمني القاهر داخل الكف الواحدة في تصوّر يبدع فكرة إمكان امتلاك الزمن بدل امتلاكنا.

2 – طقوس الكتابة:

ترصد الرواية عبر مخيالها السردي طقوس الزناتية الموسومة بالعلم اللدني المشروط بحضور مجموعة من الممارسات يؤطرها فعل الكتابة والمحو، من قبيل بركة اليد وتمرير الراحة بتؤدة بالغة وإغماض العينين والخشوع والتركيز ورفع السبابة وخاصة اليمنى الموصولة بالاستجابة وكذا العناية بعمليتي الكتابة والمحو واستعمال اللعاب أو الريق فيما يسمّى بالنفث الموسوم بالبركة... خارج هذه الطقوسية لا يكون الأمر إلا شعوذة في فراغٍ ظاهر ولعبة تحايلية أظهر. (يمرّر على تلك المساحة راحته بحذر شديد، ثم يرفع سبّابته اليمنى بعد أن يبللها بطرف لسانه وهو مغمض العينين. بلا ارتباك، يشرع في خط خطوط ونقط بعناية وخشوع)20.

3 – سيميائية التراب:

الجميل في رواية خط الزناتي اهتمامها بالتفاصيل التي تبدو لناظرٍ أنها متجاوزة. فيما الأمر شديد الحساسية لأن التفاصيل تستبطن العمق أكثر من الأساسيات أحيانا. من أمثلة ذلك في الرواية عناية السارد بمقولة التراب أو الرمل باعتبارهما علامة مركزية في العلم الزناتي الذي لا تقوم له قائمة خارج مساحة التراب وخارج تأويل التراب. ولِمَ التركيز على التراب رغم علمنا بسرعة زوال ما يُرسم على سطحه بفعل أول ريح وأول هبة نسيم؟ التراب في الرواية أولا وفي علم الرمل ثانيا لا يؤخذ في حقيقته المتشيئة، بل يُستثمر في معناه أو في فائض معناه إن شئنا التعبير. التراب هنا يوظف باعتباره أصلا لا مساحة، وباعتباره تاريخا لا حضورا متشيئاً، وباعتباره رمزا للوجود وبداية الوجود لا ركحا لممارسة طقس الكتابة أو الخط. والتراب في الرواية مرتبط بالغيب ويجسد في حضوره عبر الممارسة الطقسيةِ فكرة الغياب. الشيء الذي يسلمنا إلى القول إن تأويل التراب لا يتم خارج النفس واستيهاماتها وهي التي تقرؤه حضورا وغيابا وآنيا وانتظارا... إن مما يؤكد قوة هذه العلامة الترابية أو الرملية هو تفضيل الرسم عليه لا بالقلم أو العود وإنما بالأصبع بدلالة الانسجام بين الأصل والفرع وبدلالة العود الأبدي على اعتبار أن المجاز المرسل هنا يتدخل لتفسير الدلالة، فالأصبع جزءٌ يُطلق في التعبير الروائي للدلالة على الكل وهو الإنسان. النتيجة هي أن الرسم يتم بالإنسان على الإنسان.(شاع بين الناس أن الشيخ الزناتي يراود الغيوب ويفتش في ثناياها الحارقة فوق الورق والجلد والتراب والرمل بأصبعه لذي كان معقوفا يختلف عن باقي أصابعه الأخرى، يخطّ ما يشتبك داخل نفسه التي هي أشبه بثقب دودي، يكتب أرقاما وحروفا ويحسب حسابا ثم يقرأ النتيجة)21.

4 – من الطقس إلى الوجود:

تهتم الرواية في مسرودها المتنوع بالانتقال من الطقس في محدوديته إلى الوجود في شساعته. بمعنى أن السارد يضمّن حكيه لبعض محطات العمر معاني أكبر من الحكي والتأريخ للحظة هاربة في الزمن. ومثال ذلك خروج السرد من منطقة سوس إلى منظقة الوجود. من بدايات التعلم إلى ملامسة نهايات الكينونة. قال السارد: (حينما أنهيتُ دراستي في التعليم العتيق بسوس، كنت قد دنوتُ من أسرار الحروف والخطوط، وستستكمل المصادفات ربط مصيري بالأقدار الرابضة في خزائن الزمن لما اشتغلتُ وفهمتُ من أكون وكيف أكون.)22

إن كينونة البطل لم تجد معناها إلا بعد معانقتها للحروف والخطوط، من ثمّة أمكنها الخروج من الوجود الفيزيائي إلى الوجود الممكن والاحتمالي القابع في خزائن الزمن. كما اتضحت له الرؤية بمعنى الكينونة سواء على مستوى الماهية (من أكون) أو على مستوى الاختيار (كيف أكون)

5 – في التفاصيل يرقد التأويل:

قال السارد (شغفتُ بتدوين التفاصيل التي تهم اليوم الواحد، لأنها تفيدني في تحبيك الكلام الموارب الذي يسير بحذر واثق على حافات المعلوم. أهوى التفاصيل التي تتيه في شقوق الزمن)23 .

6 – اختزال:

قال السارد (رغبتُ في تسجيل ما يجري، لأن يوما واحدا يكفي)24 ومصداق ذلك أن الرواية تغطي أحداث يوم واحد بنهاره وليلته فقط، فيما السرد ينساب خارج هذا الحيز حتى إنه ينقل القارئ إلى القرن الثاني عشر الميلادي حيث جذور موسى الزناتي.

7 – واقعية الرواية:

في حديث بين دويدو وموسى الزناتي ترقد الواقعية. لأن دويدو في سؤاله الغرّ والساذج يضفي على الرواية بعدها الواقعي حتى لا تنجرّ بالقارئ في استيهامات تخييلية متسيبة... (عاد إلى الحقل، دون أن يتوقف دويدو عن استعطاف موسى بأن يضرب الرمل ويجمع الأشكال والهيئات والأزمنة ليرفع الحجاب والطلاسم عن الخزائن التي دفنها العبد عاشور الضرواي قبل مقتله)25... فالشخصية الروائية دويدو جزء مهم من صيرورة الحكاية، فهو وغيره من الشخوص يمارسون دورا أساسيا في الحفاظ على توازن العمل الروائي وهو يربط في تمثل ذهني شعبي العلمَ الزناتي بالقدرة على استخراج الكنوز.

8 – انسجام:

و يتعلق الأمر بانسجام الممارسة الطقوسية مع التصور في هذا العلم الزناتي. قال السارد (جاء على لسان الشيخ الزناتي: الخط الزناتي هو منطق الخروج من ظلمة الكهف إلى وضوح الضمير السابح. ضرب الرمل، شكل الطريق، والطريق مجرد أربع نقط: نار وهواء وماء وتراب) 26 .

9 – نفسٌ صوفي:

يتجاوز العلم الزناتي الممارسة الطقوسية الشعبية المرتبطة بالبحث عن الطالع واستقراء الغيب وتفسير المنامات واستخراج الكنوز وغيرها ... إلى التعبير عن رؤية خاصة للعالم عبر بوابات الكشف والتجاوز. قال السارد (ترك الشيخ الزناتي عاشور وسبح يبحث في الحرف والكلمة وأن النقطة بدون أخرى هي عجمةٌ وتأتأة. والحرف جسد، والعدد روح الجسد وأن كل البحثالذي يجريه هو خطّ من نقطة واحدة، وأن الغاية هي رؤية العالم في نظرة واحدة ورؤية الزمان في هيئاته وأحواله في لحظة واحدة)27... وهنا نكتشف عمق الرؤية الزناتية للوجود، إنها رؤية متقدمة تروم الوصول إلى لحظة الإشراق.

خاتمة مفتوحة:

كان هذا فيضاً من غيضٍ في درس الرواية (خط الزناتي) منعني من التوغل فيها عاملٌ أساسي هو حضور كثير من المداخل لقراءتها حضوراً دوّخني، فتمثلتُ في هذا التراكمِ المسكوكةَ الفرنسية القائلة "la présence des biens nuit " فما كان منّي إلا أن أستهدف بعض هذا التراكم القوي والمفعم، واخترتُ وتحمّلتُ في اختياري كل المسؤولية...

***

بقلم: نورالدين حنيف

.......................

إحالات:

1 - شعيب حليفي، خط الزناتي، رواية، منشورات السرديات، الطبعة الأولى، 2023

2 - رواية خط الزناتي، ص6

6 - التاريخي في سياق الرواية لا يتعلق بمفهوم التاريخ المسجِّل للماضي البشري عبر التوثيق، وإنما المقصودُ سيرة القوى الفاعلة الاجتماعية.

4 - تيزفيطان تودوروف، مفاهيم سردية، ترجمة: عبد الرحمان مزيان، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط،1 ،2005، ص 7

5 – ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عامر أحمد حيدر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2003، الجزء الأول، ص 768

6 - Pellat(Charles)E.I(n.e)TomeVI- Mamàkib- p333.

7 – رواية خط الزناتي، ص 53

8 – الحديث رواه البخاري

9 – رواية خط الزناتي، ص 14

10 – أنظر صفحة 22 من الرواية

11 – رواية خط الزناتي، ص 21و22

12 – رواية خط الزناتي، ص 29

13 – رواية خط الزناتي، ص 66

14 – رواية خط الزناتي، ص 46

15 – رواية خط الزناتي، ص 54

16 – هذا البيت يُنسب إلى على بن أبي طالب

17 – الحديث أخرجه البخاري

18 – ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، الجزء الخامس، ص 102

19 – رواية خط الزناتي، ص 8

20 – رواية خط الزناتي، ص 9

21 – رواية خط الزناتي، ص 23

22 – رواية خط الزناتي، ص 24

23 – رواية خط الزناتي، ص 25

24 – رواية خط الزناتي، ص 25

25 – رواية خط الزناتي، ص 41

26– رواية خط الزناتي، ص 51

27 – رواية خط الزناتي، ص 54

 

عرّف الأديب والعالم اللغوي المصري شوقي ضيف فنّ التوقيعات على أنها "ا عبارات موجزة بليغة تعوّد ملوك الفرس ووزراءهم أن يوقعوا بها على ما يقدم إليهم من تظلمات الأفراد في الرعية وشكاواهم، وحاكاهم خلفاء بني عباس ووزراؤهم في هذا الصنيع، وكانت تشيع في الناس ويكتبها الكتاب ويتحفظونها وظلامته، وقد سموا الشكاوى والظلامات بالقصص لما يحكي من قصة الشاكي وظلامته، وسموها بالرقاع تشبيها لها برقاع الثياب. " *

وهي من الفنون السرديّة المنسيّة في الأدب العربي المعاصر. فقد ازدهر فنّ التوقيعات في العصر العباسي الأول. شأنه في ذلك شأن فن المقامة، الذي عرف شيوعا وازدهارا في العصر العباسي الذهبي، على يد بديع الزمان الهمذاني، والذي كان – بحق – فنّا سرديّا راقيّا، احتوى على فنيّات القصة القرآنيّة، وفنيّات القصة القصيرة الغربيّة (جي. دي.موباسان، وتشيخوف، إدغار آلان بو). دون أن ننسى الذهبيّات السرديّة أبي عُثْمان عمَرُو بن بَحر المعروف بالجاحظ في مصنّفه الفريد " البخلاء ".

كان العرب قبيل الإسلام (العصر الجاهلي)، يعيشون في نظامهم القبلي والعشائري، وكان الشعر هو ديوانهم الأول، بلا منازع. أمّا النثر فقد حظّه كحظ الشعر في حياة الإنسان الجاهلي. ولم يتجاوز فنون الخطابة والوصيّة والأمثال والحكم، وهو أقصى ما كانوا يحتاجونه في إدارة حياتهم اليوميّة.

وعندما نزل الوحي على رسول الله، سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسمع عرب الجاهليّة، الذين أسلموا أو الذين لم يسلموا، آيات القرآن الكريم، بُهتوا من عظمة أسلوبه، وإعجاز ألفاظه ومعانيه. فانفتحت عقولهم على بحر من الإيجاز والغنى اللفظي والعمق الدلالي والفكري، وازدادت لغة العرب العاربة والمستعربة قوّة وعمقا وشيوعا.

وقد اندرج فنّ التوقيعات ضمن فنّ التراسل. وهو فنّ عريق في الأدب العربي، وهو ضربان: رسائل ديوانيّة، تتناول شؤون حكم الرعيّة وسياستها، ورسائل إخوانيّة متبادلة بين الأدباء والشعراء والمؤرخين وعموم كتاب السرد، حول المسائل الذاتيّة والفكريّة والعاطفيّة والفقهيّة وغيرها ممّا يشغل الفكر الإنساني. حتى قيل: بدأت الكتابة بعبد الحميد الكاتب وانتهت بابن العميد. ولكن الحقيقة أنّ فن التراسل بين الأدباء والشعراء والساسة لم يتوقف وإنّما ضعف أسلوبه ولفظه وقلّ شأنه بين الأدباء أنفسهم، ولم يعد يشغل الكتاب والمبدعين لا النقاد المعاصرين...

جاء في إحدى التوقيعات، ما يلي: (كثر شاكوك، وقلّ شاكروك، فإمّا اعتدلت، وإمّا اعتزلت).

وهي كما يبدو توقيعة موجّهة إلى حاكم أو وزير أو خليفة أو الوالي، لوحظ انحرافه عن سياسة العدل في رعيّته. ومتضمّنة النصيحة والموعظة الحسنة والحكمة بأسلوب ليّن وهادئ ورزين، بعيدا عن أسلوب التهديد والوعيد..

في هذه التوقيعة، يظهر لنا سحر اللغة العربيّة وأسلوبها الموجز. وجمال بيانها وبديعها. فقليل لفظها يغني عن كثيره، ومعانيها واضحة القصد. فهي تحرّك العقل قبل القلب، والفكر قبل العاطفة. كما تبرز للقارئ عبقريّة كاتبها، الذي أبدع في الإيجاز غير المخلّ بالمعنى والهدف، وصبّ فيه بحرا من المعاني والأفكار والعواطف، واختصر زمن الكتابة والقراءة، وجنّب المرسل إليه، مغبّة المجاز والتأويل.

إنّ الأدب العربي زاخر بكنوز من الفنون الأدبيّة في جميع أصناف السرد والشعر. فلم نكن في حاجة إلى استبدال المقامة بالقصة الغربيّة. والقول أنّ العرب لم يعرفوا فنّ القصّة إلا بعد اتّصالهم بالغرب، وتأثرهم بآدابه. هو ترّهة فجّة وادّعاء باطل، أملاه علينا منطق المغلوب يتبع الغالب، كما قال ابن خلدون. إنّ العرب عرفوا فن القصّة قبل الغرب بقرون، ومن هنا وجب علينا، الاعتراف بالخطأ، دون خجل، وتصويبه..

وبالعودة إلى فنّ التوقيعات، الذي ازدهر في العصر العباسي، سأورد نماذج من تلك التوقيعات:

وقّع الخليفة أبو العباس السفاح على كتاب عددٍ من أفراد بطانته الذين اشتكوا حبس أرزاقهم "من صبر في الشدة شارك في النعمة ".

وقّع الخليفة أبو جعفر المنصور لواليه في مصر عندما شكى له نقص مياه نهر النيل "طهر عسكرك من الفساد، يعطك النيل القياد".

وقّع الخليفة هارون الرشيد في حادثة البرامكة "أنبتته الطاعة، وحصدته المعصية".

ووقع إلى والي خراسان "داوِ جرحك لا يتسع".

وهي توقيعات، اتّسمت بعديد من الخصائص الفنيّة، اهمها:

تعددت سمات التوقيعات وخصائصها، ويمكن اختصارها بالعناصرالتالية:

تتميّز التوقيعات من حيث الأساليب بمتانة التركيب والصياغة الدقيقة، والجمع بين الخبر والإنشاء والإيجاز. أما معانيها، فهي قويّة الدلالة، مباشرة. نافذة التأثير.، متضمّنة بعض الاقتباسات المأخوذة من القرآن الكريم، أو الأحاديث النبوية الشريفة، بالإضافة إلى الأمثال، والحكم، وأبيات من الشعر.

إنّ فنّ التوقيعات يدل على ذكاء مؤلّفه، وعلى قدرته في توظيف الصور البلاغيّة، كالاستعارات والتشبيهات والكنايات والمجازات المرسلة. وهي (التوقيعات)، وإن كانت موجزة اللفظ، لكنّها غزيرة المعاني، قويّة التأثير في النفس، جامعة بين إصابة الهدف أو الغرض، وقلّة المؤونة اللفظيّة. إنّها مثال دال على عبقريّة الذائقة الإبداعيّة العربيّة، وعلى عشق العرب للإيجاز اللفظي والمجاز اللغوي. وقد قالت العرب قديما " خير الكلام ما قلّ ودلّ ". كما ذمّ العرب الرجل المهذار، وأعابوا على الرجل، إذا كثر كلامه في غير فائدة. وأطلقوا على من قلّ لفظه وأنزله موضعه، صفة الحكيم.

إنّنا في حاجة ماسة إلى إعادة قراءة تراثنا العربي والإسلامي الأصيل، من جديد، قراءة علميّة متأنيّة، هادفة، خاليّة من الانتقاء المذهبي والميل العاطفي، عقليّة، ذكيّة، وخالية من ترّهات الاستشراق الغربي. وأن نتلافى دراسات المستشرقين الشرقيين والغربيين وقراءاتهم، إلا النادر منها.

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

........................

هامش:

* رفيع أحمد، " قراءة في فن التوقيعات العربية وإيجازه. قراءة أنموذجية للعصور المختلفة "، مجلة أقلام الهند، بتصرّف.

 

الأنوية الفاعلة ودلالاتها في انعكاسات المرايا المتكسرة في مجموعة (النهر أنت يا حبيبي وأنا الأفعوان..)

منذ العتبة الأولى والتي هي عنوان لاحدى قصائد الشاعرة أمان السيد تجد نفسك أمام صورتين تجعلك في دوامة التساؤل وانت تفكر وتقول ما الذي يجمع بين النهر والافعوان الذي هو ذكر الأفعى وتنسبه لنفسها وهي الأنثى ... في إطار السياق النصي لهذه العتبة، تظهر طبيعة التعالق القائمة بينها وبين نصوص مجموعتها من جانب ومدى التعالق والترابط العضوي القائم بينها وبين مصير شعبها المجهول من جانب آخر  بحيث أصبح العنوان في هذه التجربة يشكل نواة بنية دلالية تدل على مضمون نصوصها . فعتبتها هي التي سترشد القارئ وتدلّه على ممارسات فعاليات النص الشعري والذي هو  بحد ذاته الداّل الكاشف، في توضيح دلالات النص، واستكشاف في معانيه، ومن ثم، فالعنوان هو المفتاح الضروري لسبر أغوار النص، والتعمق في شعابه التائهة، والسفر في دهاليزه الممتدة .3554 النهر انت يا حبيي امان السيد

تقول النهر أنت ياحبيبي ومن ثم تعود لتقول في قصيدتها (النهر أنت يا حبيبي وأنا الأفعوان):

ذلك النهر هو حبيبي تتريّى فروعُه،

وصدرُه، وعنقـُه بالشهوات والحكمة،

هو أنا

حين يكشف عن شَبقه الأزرق،

وجنون جسده الضاجّ بالغوايات

فقط كي ينعش الضباب،

هو أنا.

حين أستدعي العالم المثالي إلى بساتيني

لا أجد مكانا لي

إلا في أحلام البائسين.

من هنا يتبين مدى التصاق أناها بالآخر  وكأنهما وجهان لصورة واحدة لذا تقمطت أناها الأنا الكلية لتتحول نصوصها من الغنائية الأنوية الى النص المفتوح وتتمرد حتى على الشعرية لتقدم لنا نصاً يتقمط الحكاية والتساؤل وهو قادراً على التأويل الى حيث يصب نهرها ويتوقف أفعوانها عن الجريان . نصاً يجرف معه ما يتلقاه من صور مبعثرة صنعتها مخيلتها النشطة وتعكسها لها مراياها المهشمة وكما نهرها الهادر والمارّ بالنّفايات والطحالب والأوبئة يجرفها بالبراكين (كما تقول) هكذا هي نصوصها تفجر ما في دواخلنا كي تتمرد حتى على ذواتنا فتتكسر قيودها لتنطلق نحو فضاءً جميلاً ملؤه المحبة فتقول في نفس قصيدتها .

هل على خطو وقع العسكر:

حبلت القرى والمدن بعشق التمرد والحرية؟!

هل على وقع خطو العسكر:

رموش العيون صارت أحذية وأجسادا

ملقاة على المزابل،

وفي حُمّى الفراغات؟!

من العنوان نستكشف العلاقة بين أنا وأنت ومن خلال مرآتها المتكسرة والمتعددة السمات والصفات رسمت لنا مجموعة صور تجسد لنا انعكاسات أناها فيما يخص الوطن والبحث عن الذات الجريحة كما في قصيدتها (ومن الأبيض تندلع الحياة):

في مكان ما

قفز أطفال فوق الطفولة،

في سورية.

أيها الوطن:

كيف يداك تستطيعان

أن تغسلا وجهك كل صباح

وأبناؤك صاروا أوراق حَور في المسافات؟

فجاءت صورها الشعرية المبعثرة بكل ما فيها من رموز أنعكست فيها صورة الأنا في ذاتها لترى فيها الآخر الذي أصبح صوتا داخليا يجسد مدى معاناتها الى حد فقدت بريقها بسبب التهشم  فحملتها بدلالة القسوة وجعلتها صامتة.

تكشف الشاعرة في تكرار صورها في النص الواحد انشغالها بالعلاقة الجدلية بين الأنا (الأفعوان) والآخر (النهر) عبر بوح يكاد يكون متقطعا في إصغائها الى نداءات أناها، فحملت نصها معالجة نصوص عديدة تكاد تتقابل في خطوطها الصور، وتتفرع في وحدات نصية، تمثل معادلة التقابل والتضاد والتماثل والافتراق، اي ان بنية النص لدى الشاعرة أمان السيد يقوم على استنبات قطبين متنافرين وتشكل مستوياتهما الدلالية واقعاً مؤلماً ينفتح على صورة كلية هي الوطن وكما في قصيدتها (ويبحثون عن الخرافة):

وجدوا القمر مصلوبا

هناك في زواياه الأربع

الذئب يعوي

وفوق البحر تتكدس الجماجم

البحر يودع الجماجم

يكسوها بالخزف..

يحدق الأطفال بلا وجل

 في الجماجم يحدّقون

جماجم الأطفال ينبت فيها الجمان..

مراياها المتهشمة تعكس لنا مجموعة صور  هي بحد ذاتها أوجه للصورة الواحدة (القمر  مصلوبا ، الذئب يعوي ، البحر والجماجم ، الأطفال ، الجمان ، ...) إنها صورة شعبها وهو يغامر ويمتطي البحار الى حيث المجهول . فمن خلال أنويتها الفاعلة ومراياها المتهشمة تكشف لنا في نصوصها عن ما خزنته ذاكرتها الشعرية من تلك الصور التي يفوح منها الألم والأنكسار والحزن وهي تتأرجح في أعماق بؤرتها الشعرية والتي تحاول دوما التحرر من قيودها لتخرج وتعبر عن إرهاصات ذاتها الشاعرة في أقسى حالات الشعور والوجدان الشخصي وهي تنظر وتتحسر كي ترى صورة الحب لتكون الصورة المغايرة لما تراه الان من صور مآسي الحرب . وكما في  قصيدتها (لو أن هذا الحرف يسقط):

حبّ، حرب

حرفُ الراء سكين،

خنجر،

شهقة مِقصلة.

لو أن هذا الحرف يسقط

لعادت الشرفاتُ تسكب الياسمين.

ولكن كيف لهذا الحرف أن يسقط ويتحول الى حب إن كانت الآشباح تلاحقها من كل صوب ليتقاسمان ما بقي من ظل وطنها:

يناديكَ شبح

تُصبحان اثنين بينكما ظلّ امرأة تتقاسمانِه.

الغُرف كأسرار الجريمة،

ووحدكَ المتكاثرُ،

الطازجُ كأعشاب الخريف.

القلق الذي ينتابها من انعكاسات مراياها المتهشمة لمشاهد صور الأغتراب والأندثار للوجود تتكشف في نصوصها من خلال تقمط نهرها وأفعوانها لماهية الأحساس الوجودي الذي تسعى لتوظيف فعالياته داخل حركة نصوصها وعلى كافة المستويات الدلالية والجمالية .

من خلال الغوص في نصوص مجموعتها هذه تراءت لي تدفق صورها الشعرية على شكل الامواج التي تعلوا عل ظهر نهرها في عنفوانه الشتائي أو تموجات حركة أفعوانها وهي تتسارع لتلتقي أناها بالآخر مُشَكلة لنا عنصراً مهماً من عناصر توليد الشعرية وتكثيف الأيحاء والشعور عبر دفق إيقاعي ينسجم والبعد النفسي والوجداني للذات الشاعرة مما يدفعها دوما أن تتقيئ صورها لما في داخلها من إحساسات نصوص تحمل ما في باطنها من شحنات انفعالية لتكون ترجماناً أميناً عما تحسه، وتتأمله، وتشعر به، تجاه مدينتها اللاذقية والتي هي صورة مصغرها لوطنها ، ومن هذا المنطلق، فإن للكلمة، أو الجملة الشعرية ناموسها الخاص وكما تقول في قصيدتها (اللاذقيّــــــة):

المدينة الآن ترتع بالدخان.

 نسوة شفافـــات في تلك المدينة المحاصرة بالدخان

كالكريستـالِ شفافـات،

يشبهن المراكب الشراعية، في النهر يسبحن

ويسرن عاريات يتفرسن في حزن.

إن تجربتها السردية  منحتها بداهة الحركة الشعرية وصيرورتها، إذ أن نموذج النص المفتوح فرض مآثره على امتداد صورها الشعرية ففرز لنا سياقاً جمالياً متكاملاً

استلهمت الاديبة أمان السيد معطيات كلا منهما في الصورة والمشهد واللقطات

السردية، فنجم عنها مزيج تشعيري مدهش في النماذج النثرية .

فقصائدها تقمطت الغنائية الكلية مما جعلت أناها تتقمط الأنا الكلية لتتجه نحو محاكات الاخر بصورة مباشرة بعيداً عن التوظيفات المعقدة لتقدم الى القارئ صورا جميلة سهلة الهضم تدغدغ مشاعرنا .. نصوص مفتوحة تسير الى حيث يسير النهر والافعوان تلبس المكان والزمان الذي تعانقه وكما في قصيدتها (سنجري حديثا مطولا):

أعرف أنّ كلينا

يدعو الآخر إلى التأمل.

أعطني ذكورا

أعطني قدمين

أُعطكَ بحرًا من السخرية والجنون.

وفي مكان آخر تقول:

سنجري حديثا مطولا

أعطني موجا،

أعطك الأراجيح

أعطني الغضب،

ألقنك دروسا في الحب والرحمة.

أعطني اليقظة،

أعطك عينين أوسعَ من شطآنك.

أعطني الحكمة،

أمنحك جسدا أشهى

من شعابك المـرجانية.

حاولت من خلال نصوصها النفاذ إلى ما هو باطني وجوهري في الوجود والحياة؛ لذا وظفت إمكانياتها الشعرية والسردية لاقتحام الحدث ومناوشته بقوة من خلال تعريته ، ومن أجل ذلك اسنخدمت التعدد في صورها والتجاوز في مدلولاتها مما دفع نصها أن يتقمط الصيرورة وهو في طريقه للبحث عن إمكانات إيقاعاتها كي تنسجم مع الموقف الوجداني الذي تعيشه كما تقول في قصيدتها (من الذي يقرع نافذتي):

في هذا الليل البعيد:

ندف، أم مطر يقرع نافذتي

لا فرق،

الاثنان معا صديقان

يؤنسان غربتي

نصوصها تجمع الخيال والحقيقة في إطار يتحدى القواعد الثابتة من اجل تقديم تشكيلة من المشاهد تعبر عن معاناتها وحلمها . تحاول في نصوصها الكشف عن الجوانب الغامضة للحواس مما يراه في الاخر من خلال تصويرها للجوانب اللاواعية والأحلام والرغبات المكبوتة في دواخلنا نحن الذين أجبرنا على ترك أوطاننا والركوب جدائل موجات البحر والتي صارت سمة مميزة في حياتنا،.كما تقول في قصيدتها (نزيف الغابـــــــات):

هنا حيث الغابات أكثر كثافة من سواد الليل

هنا حيث المنفيون

يكثرون من المجيء أعدادا هائلة.

من علّم الحروب في هذا العصر

أنّ هذي الغابات قد كانت منافي

من قبل للمسجونين وللمنبوذين

وأنّ المدن المفتوحة

يفرح بها المنتصرون

وترقص قلوبهم

في نزيف أصحابها

وفي الختام أقول:

لقد أبدعت الشاعرة أمان السيد في تقديم نصوص جميلة عابرة للقارات مثل الصواريخ كونها أفعال حدسية تعكس نظرتها إلى العالم وهي تقف على مرتفَع وإلى جوارها مشاهد لبعض الفارين وهم يعانون من وجع مبرّح في أناهم المهشمة وهم يصرخون كلٌّ منهم في الآخر. لقد أبدعت في مزج مكونات الواقع المتنافرة في نصوصها، وهكذا لا يعود الفردوس والجحيم مكانين منفصلين في نصها الواحد بل المكان الواحد ذاته وكما الحال في الانا والاخر وحيث يمعن الأفعوان والنهر كلٌّ في عيني الآخر بينما تحترق مدنها أو تغرق السفن التي تحمل ابناء شعبها الفارين في عرض البحر. أليس هذا هو العالم الذي نعيش فيه؟ ننهض في الصباح والطيور تشدو والشمس تشرق لكي نشاهد في التلفاز مدنا تزول عن بكر أبيها بسبب تعطشنا للكرسي والمال .

ولا بد لي أن أتساءل:

هل كان النهر صورة مصغرة في تدوين رحلة العذاب والألم لشعبها وهم يرحلون حتى دون وداع الأمهات وبلا توقف قاصدين أرجاء المعمورة عساهم أن يسقوا الأراضي المزروعة في تلك البلدان في حين كان أفعوانها متقمطا الحكومات وحراس الحدود الذين يعملون جاهدين للدغ شعبها المتشرد كي يتوقف عن العطاء؟ تساؤل مشروع يسأله القارئ .

***

نزار حنا الديراني

 

نص سردي غير تقليدي عتبته الاولى، وصف لسارد عليم لليوم الأخير لصحفي عراقي احيل على التقاعد من مؤسسة حكومية، الاسم (سعيد) ذو دلالة رمزية متناقضة مع طبيعة هذه الشخصية الناقمة على الوضع الحالي والسابق، التي تعيش في دوامة الحزن والعزلة، بعد هذه النهاية المبكرة جدا لرحلة بطل رواية احمد خلف (في الطريق اليك) والصادرة سنة 2023  تبدء رحلة اخرى اكثر تعقيدا وتشعبا، اجتهد الكاتب في تأثيث سينوغرافيا عنصر المكان المركزي للنص، والذي تمثل بغرفة صغيرة في بيت البطل احتوت على مكتبته ودفاتر مذكراته، في هذه البؤرة المكانية الصغيرة  يتوقف الزمن الاَني وينطلق النص نحو مديات اوسع خارج حدود المكان والزمان، باستخدام ما يعرف اصطلاحا (الكرونوتوب الباختيني) اي تعالق مكان النص مع امكنة اوسع اثناء السرد. من خلال حركة البطل داخل غرفته والانعكاسات النفسية السلبية عليه نتيجة الحوارات المقتضبة التي كانت تدور بينه وبين زوجته المريضة، انطلق النص عبر تقنيات الاسترجاع والقفز والاستذكار، الى الماضي في محاولة سيزيفية غير مجدية، لتقبل الواقع الصعب الذي يعيشه، او ربما تكون عملية تبريرية لتتعايش مع ازمته والتشبث بواقعه الحالي، عَبر استحضار الماضي القريب، كقول جورج اوريل (من يتكلم بالماضي يمسك بالحاضر) . فقد اجاد احمد خلف في رسم معالم شخصية هذا البطل الذي منحه وعيا قائما استطاع من خلاله فهم الحياة بطريقة اكثر نضجا، عبر متوالية (الحياة والسرد) اي توظيف السرد لخدمة قضايا انسانية وثقافية. هذا الوعي الاستثنائي الذي تمتع به البطل جعله قادرا على تشخيص السلبيات والمشاكل التي تعصف بمحيطه الاجتماعي، وامتلاكه رؤية واضحة عما حصل وما يحصل. فقد وضع احمد خلف الجزء الاكبر من تجربته الانسانية والادبية في هذا النص، فكان نصا خارجا عن المألوف زج فيه الكثير من المعلومات التاريخية والثقافية واستخدم تقنيات (الاسترجاع، الاستذكار، القفز، الاستباق، الميتاسرد، التضمين، الترميز) جعل من بطله سعيد شماعة علق عليها بعض من آرائه وتصوراته السياسية والاجتماعية، وربما وضع جزءا منه في شخصية سعيد.. هذه الخلطة السردية المتقنة خلقت نوع من التوازن في الشخصيات القصصية داخل النص، واحدثت تناغما بين الصورة والحدث والكلمة تكررت في مفاصل عديدة منه، كما في عملية التناص الرائعة هذه التي تحمل ابعاد انسانية ونفسية كبيرة، السارد العليم يخبرنا بهذا الحدث المفصلي في حياة بطله سعيد، حين طلبت زوجته المريضة منه، ان ينام في سرير اَخر،  لأنها لم  تعد تتحمل رائحة جسده، في هذه  اللحظة المؤثرة تقع عين البطل على قصاصة دون فيها تاريخ اعدام صديقة الشاعر ادم من قبل النظام السابق، لهروبه من الخدمة العسكرية اِبان الحرب العراقية الايرانية (قالت له انها لم تعد تحتمل انفاسه ورائحة جسده حين يتقلب في منامه، كان مقترحها هي ان يستقل كل واحد منهما عن الاَخر وأن يكون له سرير نومه الشخصي.... تلك اللحظة سقطت نظرته على قصاصة ورق التقطها، قلبها بأصابعه واندهش من محتواها، فقد سجل تاريخ اعدام اَدم رميا بالرصاص). عملية الربط بين هاتين الحادثتين اوجدت نصا ذا قيمة انتاجية تركيبية تواصلية، واعطت صورا اخرى لمفهوم الهزيمة والانكسار.3533 احمد خلف

كان التضمين سمة ميزت رواية (في الطريق اليك) فقد استغل الكاتب مكتبة البطل ليفتح نوافذ عدة على الماضي عبر استحضار قصص وحكايات عضدت قصدية النص وجعلته اكثر اثراءً وتأثيرا في المتلقي، فقد تأرجح الزمن وانتقل بين الماضي والحاضر، وتنوعت محاور النص بين (الخيانة ، الرغبة، الطموح، الدكتاتورية، والثورية) فنراه ينتقل من قصة الملكة زبرجد وخيانتها لزوجها الملك مع احد العبيد، وموتها بشكل غامض،  الى قصة رسام الكاريكاتير ابراهيم زايد ومال اليه مصيره حين مات منتحرا في بيروت.. اضافة الى استخدام الكاتب لما يمكن تعريفه اصطلاحا (التضمين المركب) تضمين داخل تضمين ، فقد زج قصة الشاعر العربي امرؤ القيس داخل قصة الملك والملكة زبرجد (يعلم تماما ما من ملك او سلطان الا وله من الخصوم المتربصين به ينتظرون ان تصدر منه اي زلة تنزل من مقامه وتواردت الى ذهنه عشرات القصص التي دفع عدد من الملوك حياتهم ثمنا لخصومهم ساعة غفلة . تذكر حياة الملك الضليل الذي جعلته الخمرة يدفع حياته ثمنا لها ولتعلقه بها ، كيف اطلق صيحته المضحكة اذ قال : اليوم خمر وغدا امر). بعد هذا التشظي المتقن للنص عبر الازمنة والامكنة والبيئات المختلفة والبعيدة عن زمان ومكان وبيئة النص المركزي.. يتوقف السرد فجأة، وتبدأ عتبة سردية جديدة، حادثة افتراضية اَنية (طرق على الباب) عملية ترقب وخوف من قبل سعيد، بعدها ينطلق النص الى مديات اكثر تعقيدا عَبر سؤال مثير (ترى من قال ان مؤلفي القصص يقلدون الله في خلقه للبشر وهم يصنعون لنا شخوصا على الورق  ؟) كانت الاجابة على هذا السؤال الجدلي باستحضار حياة بعض الكتاب العالميين الذين انتهت حياتهم بالانتحار (بعض الاشخاص كأنهم من لحم ودم، وبحكم ولعه المعروف في مطالعة القصص والحكايات الكثيرة، التي قراها من قبل، تذكر موت عدد من مؤلفيها الذين قضوا نحبهم كما تذكر العشرات منهم الذين ماتوا ولم يعلم بهم احد ....).

عنوان الرواية (في الطريق اليك) شكل بمفرده لغزا وعتبة سردية بحاجة الى التوقف عندها، لماذا اختار  احمد خلف هكذا عنوان لنصه الغني بالقصص والحكايات والآراء السياسية والفلسفية والاطروحات الفكرية والمفارقات الحياتية، العنوان كان عبارة عن جملة اعتراضية وفي نفس الوقت افتراضية تأتي من المجهول صوب مسامع بطله سعيد (دائما يسمع موسيقى تباغته حين غرة، يصغي الى نغمات عطوفة تنداح بعيدا في الفلا، يسمع صوتا متناغما رخيا يقول له هامسا: في الطريق اليك، ها انا في الطريق اليك لا تتعجل في اصدار الحكم علي . كان الصوت الناعم المنبعث من المجهول يرغمه على السؤال: من هو في الطريق الي انا المنسي الذي يحاول ان يذكر الاخرين بنفسه انه حي يرزق).. ربما كان استخدام الضمير (هو) بدلا من (هي) اشارة غيرت دلالة المعنى الذي سيذهب اليه القارئ لفك رمزية العنوان.

باستثناء البطل سعيد، كانت شخصيات الرواية الاخرى متباينة في تركيبها النفسي والثقافي، استعان بها الكاتب لبناء هرمية نصه، حيث تحركت داخل اطار حكائي توزع بين الماضي والحاضر، استطاع القارئ من معرفة حياة البطل وميوله واحلامه ومواقفه، من خلال مسيرته معها وطبيعة العلائق التي ربطته بهذه الشخصيات، فقد كانت محطات مهمة في حياته، لم تسطيع ذاكرته تجاوزها او القفز عليها. في رواية (في الطريق اليك) استعان احمد خلف بأسلوب حداثي من خلال ترك نصه مفتوح على نهايات متعددة، واضافة ملحق خارج نصه الروائي، لإشراك القارئ في وضع نهايات لمجموعة الحكايات التي تضمنتها روايته، وعلى الرغم من ان هذا الاسلوب ليس بغريب على الكاتب، فقد عمد على ترك بعض نهايات رواياته مفتوحة عائمة، لاِستفزاز القارئ ومداعبة مخيلته في محاولة لإيجاد نهايات منطقية لها، غير انه في هذا النص افرد ملحق خاصا ناقش فيه بعض النهايات المحتملة وطالب القارئ ان يكون شريكا فعالا في اختيار هذه النهايات.

***

احمد عواد الخزاعي

 

لقد كانت مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي موضوعًا متكررًا عبر التاريخ، حيث استخدم المؤلفون والشعراء مواهبهم الإبداعية لتسليط الضوء على النضالات التي يواجهها الأفراد والأمم في ظل الأنظمة القمعية. منذ الحضارات القديمة وحتى العصر الحديث، كان مفهوم المقاومة ضد الاحتلال مصدر إلهام لعدد لا يحصى من الأعمال الأدبية، حيث سلط الضوء على صمود وشجاعة أولئك الذين يرفضون الصمت.

السياق التاريخي:

يمكن إرجاع موضوع مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي إلى النصوص القديمة مثل الإلياذة والإنيادة، التي تصور نضال الأفراد والأمم ضد الغزاة الأجانب. وفي التاريخ الحديث، سلطت أعمال مؤلفين مثل ألكسندر سولجينتسين، الذي وثق الحياة في معسكرات العمل السوفيتية في أعمال مثل "يوم واحد في حياة إيفان دينيسوفيتش"، حيث يلقي فيه الضوء على الحقائق القاسية التي يواجهها أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال.

خلال أوقات الحرب والصراع، كان الأدب بمثابة أداة قوية للمقاومة، حيث يستخدم المؤلفون كلماتهم لتحدي الأنظمة القمعية وإلهام الآخرين لاتخاذ موقف ضد الظلم. على سبيل المثال، أنتجت الهولوكوست ثروة من الأدبيات القوية التي توثق تجارب أولئك الذين قاوموا الاحتلال النازي، مثل "ليلة" لإيلي فيزل و"مذكرات فتاة صغيرة" لآن فرانك.

الشخصيات الرئيسية التي قاومت الاحتلال:

إن أحد أكثر الشخصيات تأثيرا في مجال مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي هو الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي تحدى عمله المبدع "الاستشراق" التصورات الغربية للشرق الأوسط ودعا إلى فهم أكثر دقة للمنطقة. ألهمت كتابات سعيد عن النضال الفلسطيني من أجل الحرية وإقامة الدولة أجيالا من الكتاب والناشطين للتحدث علنا ضد الاحتلال والظلم.

ثمة شخصية رئيسية أخرى في مجال مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي هي الشاعرة والكاتبة الجنوب أفريقية نادين جورديمر، التي يستكشف عملها "شعب يوليو" ديناميكيات القوة والمقاومة في سياق الفصل العنصري. تجسد كتابات جورديمر تعقيدات العيش في ظل الاحتلال والطرق التي يتنقل بها الأفراد في علاقات القوة والسيطرة.

التأثير:

إن تأثير مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي بعيد المدى، حيث تعمل أعمال مثل "1984" لجورج أورويل و"عالم جديد شجاع" لألدوس هكسلي بمثابة حكايات تحذيرية ضد الشمولية والمراقبة الحكومية. لقد ألهمت هذه الروايات الديستوبية عددا لا يحصى من الأفراد للتشكيك في السلطة والنضال من أجل حقوقهم في مواجهة القمع.

ويلعب أدب المقاومة أيضا دورا حاسما في الحفاظ على أصوات وتجارب أولئك الذين تم تهميشهم وإسكاتهم بسبب الاحتلال. أعمال مثل "وزارة السعادة القصوى" لأرونداتي روي و"نصف شمس صفراء" لتشيماماندا نجوزي أديتشي تلتقط الحقائق المعيشية للأفراد الذين يعيشون تحت الاحتلال وتكون بمثابة شهادة على مرونتهم وإنسانيتهم.

الأفراد المؤثرون:

بالإضافة إلى إدوارد سعيد ونادين جورديمر، هناك عدد من الشخصيات المؤثرة الأخرى التي قدمت مساهمات كبيرة في مجال مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي. على سبيل المثال، يشتهر الشاعر الفلسطيني محمود درويش بقصائده القوية التي تجسد الشوق إلى الحرية والعدالة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والمنفى.

وتشمل الشخصيات المؤثرة الأخرى الكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي، الذي تستكشف روايته "الأشياء تتداعى" تأثير الاستعمار على المجتمعات الأفريقية التقليدية، والمؤلف الفيتنامي نجوين هوي ثيب، الذي تصور قصصه كفاح الأفراد الذين يعيشون تحت الاحتلال الأجنبي خلال حرب فيتنام. لقد استخدم هؤلاء الكتاب، والعديد من أمثالهم، إبداعاتهم ومواهبهم لتسليط الضوء على مظالم الاحتلال وإلهام الآخرين للمقاومة.

توقعات عالمية  - ووجهات نظر:

هناك مجموعة متنوعة من وجهات النظر حول موضوع مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي، حيث يرى بعض النقاد أن الأدب لديه القدرة على تحدي الأنظمة القمعية وإلهام التغيير، بينما يعتقد البعض الآخر أن تأثير المقاومة الأدبية محدود في مواجهة جيوسياسية أكبر. القوات. وبغض النظر عن وجهة نظر المرء، فمن الواضح أن الأدب لعب دورا حاسما في توثيق نضالات الأفراد والأمم تحت الاحتلال والحفاظ على أصوات أولئك الذين تم إسكاتهم.

الجوانب الإيجابية:

ومن الجوانب الإيجابية لمقاومة الاحتلال في الأدب العالمي قدرتها على توفير منصة للأصوات المهمشة وتسليط الضوء على تجارب من يعيشون في ظل أنظمة قمعية. من خلال سرد قصص الأفراد الذين يقاومون الاحتلال، يمكن للأدب أن يلهم الآخرين لاتخاذ الإجراءات اللازمة والمطالبة بالعدالة لأنفسهم ومجتمعاتهم.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للأدب أن يكون بمثابة شكل من أشكال المقاومة في حد ذاته، حيث يستخدم الكتاب مواهبهم الإبداعية لتحدي الروايات السائدة وتقديم وجهات نظر بديلة حول قضايا الاحتلال والقمع. ومن خلال إنشاء أعمال تتحدى الوضع الراهن، يمكن للمؤلفين المساعدة في تشكيل الخطاب العام وتشجيع التفكير النقدي حول تأثير الاحتلال على الأفراد والمجتمعات.

الجوانب السلبية:

وعلى الرغم من جوانبه الإيجابية الكثيرة، إلا أن هناك جوانب سلبية أيضًا لموضوع مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي. يرى بعض النقاد أن الأدب لا يمكن أن يذهب أبعد من ذلك في إحداث التغيير، وأن العمل السياسي الحقيقي ضروري لتحقيق مقاومة ذات معنى ضد الاحتلال. ويعتقد آخرون أن الأدب يمكن أن يستغله من هم في السلطة لتبرير الاحتلال والقمع، بدلا من تحديه.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن في بعض الأحيان استخدام موضوع مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي لإضفاء طابع جوهري وغريب على تجارب أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال، مما يقلل من الصراعات السياسية المعقدة إلى روايات مبسطة عن البطولة والضحية. من المهم للكتاب والقراء على حد سواء أن يتعاملوا بشكل نقدي مع تصوير المقاومة في الأدب وأن يأخذوا بعين الاعتبار الآثار الأوسع لهذه الروايات.

التطورات المستقبلية:

وبالنظر إلى المستقبل، من المرجح أن يستمر موضوع مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي في التطور استجابة للمشهد السياسي المتغير والأحداث العالمية. ومع ظهور أشكال جديدة من الاحتلال والقمع، سيستمر الكتاب في إيجاد طرق مبتكرة لتوثيق ومقاومة هذه المظالم، باستخدام كلماتهم لإلهام التغيير وتحدي الروايات السائدة.

إن أحد التطورات المستقبلية المحتملة المتعلقة بمقاومة الاحتلال في الأدب العالمي هو ظهور أصوات ووجهات نظر جديدة من المناطق التي تم تهميشها تقليديًا في المشهد الأدبي العالمي. وبينما يروي كتاب من خلفيات متنوعة قصصهم عن المقاومة والصمود، سيصبح مجال الأدب أكثر شمولا وتمثيلا للعديد من التجارب والنضالات التي يواجهها الأفراد الذين يعيشون تحت الاحتلال.

في الختام، فإن مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي هي موضوع معقد ومتعدد الأوجه ألهم عددا لا يحصى من الأفراد للتحدث علنًا ضد الظلم والقمع. من النصوص القديمة لهوميروس إلى روايات أرونداتي روي الحديثة، كان الأدب بمثابة أداة قوية للمقاومة، حيث قام بتوثيق نضالات الأفراد والأمم تحت الاحتلال وإلهام الآخرين لاتخاذ موقف ضد الظلم. من خلال الاعتراف بالسياق التاريخي، والشخصيات الرئيسية، والتأثير، والأفراد المؤثرين، ووجهات النظر المختلفة، والنظر في الجوانب الإيجابية والسلبية، يمكننا أن نقدر أهمية مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي وإمكاناتها للتطورات المستقبلية في الكفاح المستمر من أجل العدالة والتحرير.

***

محمد عبد الكريم يوسف

.........................

المراجع:

Aleksandr Solzhenitsyn "One Day in the Life of Ivan Denisovich"

Elie Wiesel's "Night"

Anne Frank's "The Diary of a Young Girl"

Edward Said, "Orientalism"

Nadine Gordimer, "July's People"

George Orwell', "1984"

Aldous Huxley, "Brave New World"

Arundhati Roy, "The Ministry of Utmost Happiness"

Chimamanda Ngozi Adichie, "Half of a Yellow Sun"

Chinua Achebe, "Things Fall Apart"

 

دراسة ترتكز على مقاربات حول شخصية المسيح في ضوء فلسفات دينية وتاريخية مختلفة.

عن دار اروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة مطبوع جديد للدكتور شادي سعد ويحمل العنوان نغحات المسيح الالهية - اليقظة الروحية والصفاء الذهني واكتشاف اسرار مملكة السماء الابدية.

ويتضمن الكتاب خمسين فصلا بعناوين مختلفة حاول خلالها المؤلف د. سعد أن يغوص في تلابيب مفهوم المسيح من خلال دراسة ثيولوجية تعتمد على المقاربات والمقارنات وبعض الاساليب الاجرائية التي وظف خلالها اراء اتباع العقيدة المسيحية من القساوسة وغيرهم لاستجلاء معنى المسيح وتجنب الباحث تطويع بحثه لمضمار الاراء الدينية النابعة من تعاليم الشرائع الدينية واحكامها فيما يتعلق برؤيتها الشرعية لشخصية المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي ننظر له بوصفه رسول الله ونبيه وهو من اولي العزم حيث ركز على ما هو مشاع عن شخصية المسيح بوصفه ايقونة التسامح والسلام ونافذة روحية لملكوت السماء وقد عمد الكاتب عبر فصوله الخمسين الى تناول وجهات نظر لعقائد دينية غير سماوية كالهندوسية والبوذية محاولا ربط فلسفاتها او ما ترتكز عليه من شخصية محورية بشخصية تناظر شخصية المسيح. ومن خلال لغة الباحث و مضيه في اثبات عناصر الربط بين الشرائع الدينية والاديان برزت تجليات رغبته في اظهار تشابه تلك العقائد الدينية مستشهدا ببعض الامثلة والشخصيات التي تمثل ايقونات دينية لدى الجماعات المؤمنة بها. ولاشك أن شخصية المسيح عيسى بن مريم عليه السلام تحظى بمكانة رفيعة لدى المسلمين وبقية اتباع الشرائع الدينية الكتابية من خلال النصوص الدينية الواردة في القرآن او الكتب الدينية الاخرى.ولكن ما يثير التساؤل في هذه الدراسة أن خطوة الولوج في مقاربات لمفاهيم دينية ضمن فضاء متشعب العقائد والتوجهات والشرائع يعد امرا صعبا ومعقد وذلك لان المرء لا يمكنه تحقيق قناعة راسخة حول شخصية او ظاهرة او حدث تاريخي لدى جميع اتباع الديانات والمعتقدات ولاسيما لدى معتنقي العقائد الدينية غير السماوية لان الطيف الاكبر لا يؤمن بما جاء في الرسالات السماوية. فكيف يمكن ربط مفاهيم لديهم او مقاربتها مع مضامين تلك العقائد السماوية ؟ وبغض النظر عن رغبة المؤلف في اثبات زعمه بأن كافة أبناء المجتمع الانساني يؤمنون بإله واحد ولكن السؤال الاهم كيف يعبر هؤلاء عن فكرة عبادة هذا الاله. وفق اي منهاج او شريعة وهل ثمة تقبل من تلك المجتمعات الانسانية لبعضها البعض؟ واعتقد أن هذه الدراسة المعمقة والتي تناولت كل ما يتعلق بالمسيح ورسالته ومقاربات اخرى مع اديان الى جانب تناوله مفاهيم كالملكوت.الخلاص. التأمل. اليقين. الوجود. وغيرها من تفاصيل دقيقة شكلت مادة لفصول الكتاب ومضمونا لمتنه. ويمكن القول أن السواد الاعظم من اتباع الشرائع والديانات عرفوا المسيح والمسيحية من خلال نصوص كتبهم المقدسة وتأتي هذه الدراسة بوصفها خطوة لكشف التقاب عن فكرة تشابه وجود شخصية المسيح في العقائد الدينية الاخرى واعتقد أن ثمة إقحام لهذه الفكرة. لان كل عقيدة تستند الى مفاهيم وقواعد. وقد لا يعترف اتباع عقائد معينة بفكرة المسيح ورسالته ورسائل انيياء اخرين ولكن ماورد في هذا الكتاب ثمة محاولة لاقناع الناس بأن ما يعتقدونه له اساس واحد. وهي رسالة غير مباشرة من الباحث د. سعد للمجتمع الانساني مفادها انكم جميعا تعبدون الها واحدا وتتنوع مفاهيمكم حيال الممارسات  الدينية .3520 نفحات المسيح

نفحات المسيح الالهية

وحري بنا القول أن الباحث د. سعد تجنب اخضاع طرحه الفكري حيال شخصية المسيح لمنهج فقهي او وجهة نظر شرعية دينية كي لا يصطدم بما هو وارد حيال المسيح في النصوص الدينية وفضل تناوله من وجهة النظر الفلسفية والتاريخية لذلك تنتمي هذه الدراسات الى خانة الدراسات الثيولوجية المعنية بالمعتقد والله والانسان الى جانب اهتمامها بالفلسفات المرتبطة بها دون التركيز على الاحكام الدينية الشرعية لكل ديانة حيال مفاهيم المسيح ورسالته وغيرها من الطروحات. وتجدر الاشارة أن الباحث د. شادي سعد الذي عبر عن شغفه خلال الاحتفاء بصدور الكتاب عبر في البحث بين ثنايا المفاهيم الدينية وتاريخها وقوانينها واثرها في المجتمع البشري ضمن سياقها الزمني الذي ظهرت خلاله لاسيما انه يتبنى فكرة مفادها أن ثمة قاسم مشترك لدى جميع البشر الا وهي فكرة الاله الواحد. وبإعتقادي أن الفكرة جذابة ولكنها تصطدم بقناعات متباينة وجدل متشعب وآراء مختلفة. يذكر انه سبق للمؤلف الباحث د.شادي سعد قد اصدر كتابين ضمن ذات السلسلة من الدراسات المعنية بالمعتقد والله والانسان. والاديان والثقافات الخاصة بالمجتمعات. وما يحسب للدكتور سعد هو توقه النييل في تقليص الهوة بين بني البشر ومحاولة ربطهم بخيوط روحية قائمة على التسامح والسلام والمحبة.

***

استبرق عزاوي - ديترويت

 

قصيدة 'أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى' تنبض بعمق المشاعر الإنسانية، معبرةً عن رحلة الشاعر الداخلية وكفاحه مع الاغتراب والبحث عن الذات. في طياتها، تكشف القصيدة عن تجارب شخصية مليئة بالأحاسيس المعقدة التي تلامس جوهر الوجود الإنساني، معكسةً تساؤلات الشاعر حول الهوية والانتماء. الشاعر، في هذه القصيدة، لا يعيش الغربة في معناها المادي فحسب، بل يخوض غمار الاغتراب الوجودي، متأملاً ومتجولاً بين الأمكنة والأفكار بحثاً عن معنى أعمق للحياة ومكانته فيها. حتى وسط الزحام، يشعر بوحدة مؤثرة تدفعه للتفكير بعمق حول ماهية الذات والهوية الشخصية. يستخدم الشعر كأداة لاستكشاف أغوار نفسه، محاولاً فهم وتفسير أسئلته الوجودية من خلال قوة الكلمات والإيقاعات. وبهذه الرحلة، يتقاسم الشاعر معنا شعوره بالاغتراب، ليس فقط كمنفى جغرافي، بل كحالة ذاتية تتجسد في تجربته الشخصية. القصيدة تطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول الوجود، الحب، الموت والفقد، داعية القارئ للتأمل في هذه المواضيع الجوهرية. استخدام الرموز والصور البيانية يضفي على النص غنى وتعقيداً، مانحاً القارئ فرصة لاستكشاف وتأويل العديد من الطبقات المعنوية. النهود في القصيدة تعدو أكثر من مجرد رمز للحياة والخصوبة؛ إنها تمثل الشوق للعيش والأمان. وبالمثل، ترمز الكتب إلى البحث عن المعرفة والحقيقة، معبرةً عن رغبة الشاعر في تعميق فهمه للعالم من حوله. في جوهرها، تعد هذه القصيدة دعوة للقراء للانخراط في رحلة تأملية حول معنى الحياة والوجود الإنساني، مشاركةً إياهم في استكشاف الأسئلة التي تراود النفس البشرية وتمس جوهرها.

في قلب قصيدة 'أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى'، تنبض شوارع الحياة بكل تقلباتها وتعرجاتها، راسمة خارطة لرحلة الشاعر الشخصية في محاولة لفهم ذاته والعالم من حوله. هذه الشوارع ليست مجرد ممرات مادية، بل هي مسارات روحية تقود الشاعر في استكشافه الدائم لمعنى الوجود وهدفه في هذه الحياة. عبر الأبيات، ينسج الشاعر حكاية استكشافه للذات والعالم، مستخدمًا الرموز البليغة من نهود تمثل الحياة والكتب التي تعبر عن البحث عن المعرفة، إلى الشوارع التي تجسد رحلته المعقدة والمليئة بالتحديات. هذه الرموز تعكس صراع الشاعر الداخلي بين رغبته في الاستقرار وشغفه بالتجوال والاكتشاف، مقدمةً للقارئ تجربة غنية تثري الروح وتحرك العقل. في قلب القصيدة، يبرز الاحتجاج والتمرد كموضوعات رئيسية، حيث يعكسان التزام الشاعر بالتعبير عن رفضه للوضع الاجتماعي والسياسي الحالي. يتضح هذا الالتزام في دفاعه عن الطبقات المهمشة وتضامنه مع قضاياهم، مستنكرًا الفوارق الطبقية الصارخة التي تشق المجتمع. الشاعر لا يكتفي بمجرد عرض اعتراضاته، بل يدعو إلى الوعي والتفكير النقدي حول العدالة والمساواة، موجهًا انتقاداته للأنظمة التي تعزز الفجوات وتدعم الاستغلال. من خلال قصيدته، يرسم الشاعر مسارًا للتغيير، مؤكدًا على دور الشعر كوسيلة للتعبير عن الرفض والمقاومة، ومشددًا على أهمية النضال من أجل مستقبل أفضل. في النهاية، تتجاوز القصيدة مجرد كونها عملاً أدبيًا لتصبح منبرًا للشاعر يعبر فيه عن رؤيته وأحلامه لعالم يسوده العدل والإنصاف، مقدمةً لنا جميعًا تأملات عميقة حول الإنسانية وتحدياتها.

في هذه القصيدة، تتجلى مشاعر التضامن العميق مع المستضعفين، حيث يستخدم الشاعر رمزية "قذف الجوارب إلى السماء" ليعبر عن ارتباطه الروحي، والعاطفي بآلام، وآمال الفقراء، والمهمشين. هذه الخطوة تكشف عن نزعة إنسانية راسخة في قلب الشاعر، مظهرةً رغبته في الوقوف إلى جانب من هم أقل حظًا، ومشاركتهم في معاناتهم وتطلعاتهم. الرمزية هنا ليست مجرد تعبير فني، بل هي دعوة لكسر الحواجز بين الطبقات والتواصل الحقيقي مع الأرواح التي تعاني في صمت. من خلال هذا الفعل، ينتقد الشاعر الفجوات الاقتصادية والاجتماعية الصارخة، مؤكدًا على دور الفن والشعر كأدوات للتغيير والتأثير الاجتماعي والسياسي. الشاعر يضع التضامن في قلب القصيدة، مشددًا على أهمية إعطاء صوت للفقراء والمهمشين، ومستخدمًا الفن كجسر يربط بين مختلف أطياف المجتمع، ويحفز الجميع على العمل معًا من أجل العدالة والمساواة. في جوهر هذه القصيدة، يبرز الصراع ضد الاستغلال كموضوع رئيسي، حيث يقدم الشاعر تجربته الشخصية وتأملاته في مواجهة القمع والعدوان. يستخدم الكلمات كأداة لرسم صورة حية لمعاناة الأفراد تحت وطأة الأنظمة المستبدة، معربًا عن أهمية الوقوف معًا في وجه الاستغلال والدفاع عن حقوق الإنسان. ينير الشاعر مسارًا نحو التغيير الإيجابي، مظهرًا كيف يمكن للمقاومة والتضامن أن تحدث فرقًا حقيقيًا وتقود نحو مستقبل يعمه العدل والإنصاف. هذا النص يعيد تأكيد القوة العظيمة للشعر في التعبير عن النضال والأمل والتأثير في الواقع الاجتماعي والسياسي، مقدمًا للقراء رؤية شعرية تجمع بين الجمال والالتزام بالقيم الإنسانية.

في هذه القصيدة، نرى كيف تتحول الكلمات إلى صدى يدعو إلى العمل والتفكير، محولةً الشعر إلى منبر حي يلهم الناس للنظر إلى العالم من حولهم بعين نقدية وبقلب حالم بالتغيير. يستعمل الشاعر لغته الشعرية بمهارة ليس فقط ليمتع الأذن، بل ليحرك الضمير ويحفز العقل على التفكير في الواقع الذي نعيشه، مشددًا على ضرورة البحث عن العدالة والمساواة. يدعو النص كل قارئ لأن يكون عينًا مفتوحة على العالم، قلبًا يحس بمعاناة الآخرين، وعقلًا يسعى لفهم الأسباب الجذرية للظلم والقهر. الشاعر يحثنا على عدم الرضوخ للظلم وعلى التساؤل والبحث عن طرق لإحداث تغيير حقيقي ينهض بالمجتمع والإنسان. يشجع النص على التمرد ضد القبول السلبي للظلم والاستبداد، داعيًا إلى الكشف عن الحقائق ومقاومة الأفكار المضللة التي تبرر الظلم. يحفز الشاعر القراء على المشاركة الفعالة في الحركات الاجتماعية والسياسية التي تعمل على تحسين الواقع والدفاع عن حقوق الإنسان. على الرغم من كل التحديات، تظل القصيدة مفعمة بالأمل، مؤكدةً أنه يمكننا بناء مستقبل أفضل إذا تحدنا الصعاب معًا وتعاونا لتحقيق العدالة والمساواة. تصبح القصيدة بهذا أداة تحفيزية قوية تدعو إلى الفكر النقدي والعمل الجماعي نحو التغيير، مؤكدة على دور الشعر كوسيلة للتعبير عن المعارضة وبث الأمل في قلوب الناس. هذه القصيدة تعكس كيف يمكن للأدب أن يكون محركًا للتغيير، ملهمًا للناس للتأمل في قضاياهم والعمل من أجل مستقبل يعمه الفهم والإنصاف. تبرز الأهمية العظيمة للشعر في بناء جسور التواصل بين الأفراد والمجتمعات، مقدمة لنا فرصة للتأمل في أنفسنا والعالم من حولنا. في هذه القصيدة، نلمس كيف يتجلى الشعر كمرآة للروح، حيث يستعمل الشاعر فنه لاستكشاف ذاته ومشاركة رحلته الروحية والإنسانية بحساسية وعمق. هذه الرحلة الإبداعية تمنح الشاعر القوة لنقل تجاربه الشخصية ومشاعره الداخلية - من الألم والحزن إلى الفرح واليأس - إلى تعبيرات فنية تتحدث إلى كل من العقل والقلب. يُتاح للقارئ، من خلال هذه الأعمال، فرصة الغوص في تجليات الشعر التي تضيء جوانب من النفس البشرية، مظهرة كيف يمكن للفن أن يكون ملاذًا وترياقًا في أوقات الشدة. عندما نقرأ القصيدة في ضوء خلفيتها التاريخية والثقافية، يصبح تقديرنا لها أكثر غنى وعمقًا. النص، متأثرًا بالسياق الذي يعيش فيه الشاعر، يكتسب أبعادًا جديدة من الفهم، حيث تسهم الأحداث التاريخية والتحولات الثقافية في تشكيل مضمونه وغايته. القارئ، عبر استكشاف هذا السياق، يمكنه فهم الدوافع وراء القصيدة بشكل أكثر وضوحًا وإدراك كيف تعكس الأعمال الشعرية العالم الذي يحيط بالشاعر. هذا التفاعل بين الشخصي والعام في الشعر يُبرز قدرته الفريدة على التواصل والتعبير، محولًا القصيدة إلى مساحة حيث يمكن للفرد والمجتمع التقاء والتفاعل. تقدم القصيدة بذلك إحساسًا أعمق بالوجود الإنساني وتدعو إلى التفكير في معنى الحياة وجوهرها. في النهاية، تصبح القصيدة تجربة شعرية شاملة تعكس غنى الشاعر الفكري والعاطفي، مقدمةً للقارئ فرصة لاستكشاف أعماق الحياة والهوية والإبداع بأسلوب يثري الروح ويحفز العقل.

***

زكية خيرهم

باطن المعنى يؤول الى استبدالية ظاهر المعنى.. الفصل الخامس/ المحور (2)

توطئة: لعلنا تحدثنا في محاور سابقة، عن مجالات عديدة في منتج ومنظومة الشاعر العراقي الكبير حسين عبد اللطيف، وفي مستوى بدا من خلاله البحث النظري والتطبيقي، مجالا في ممارسة في الكيفيات التعليلية والتأويلية، خلوصا منا الى إستدراك سبيل الاهتداء الى ذلك الممكن القصدي الكامن في بواطن فحوى شعرية عوالم ورؤية وصورية وحالات الخطاب الشعري في مواطن قصيدة الشاعر. ولعلنا سوف نضيف من محورنا البحثوي هذا علامات جديدة وجادة، تزيد من ثريا قصيدة هذا الشاعر الفذ، إضافات فاعلة في مجال الفضاءات والمراكز والعلاقات والتراتيبية الاكثر تدرجا في ماهية القول الشعري الذي هو في حدود المعنى والتمعن لدى قصيدة عبداللطيف، إذ يشكل بذاته ذلك المزيج والتلاقح من الرؤية والتأمل والتمسك بتعالقات ذلك المعنى المتسربل في تجليات انظمة مخصوصة وخاصة من حيز متعلقات من الوسائل والوسائط الاكثر عضوية في متن النص (الصورة- الإحالة- العلامة - المرآة) توطيدا جاذبا مع حجم جملة مستويات القصيدة، كفكرة مرسلة في حيثيات الأحوال الاكثر تصعيدا للمحايثة ولبلوغ معرفية الاجزاء التي سوف تكون اكثر تمريرا لحسية الاستجابات لدلالات عدمية موقعة بحسن التصور والأداء، لذلك المعنى في فهم الاشياء وحالاتها عبر الضمير المستتر للحس المرآوي وهويته المسنونة كخاصية، معتمدا في فهمها ما يبدو مرشحا ومعلقا في مجال متحكمات الذات الشعرية ومرادات شكوكها القاهرة على صعيد الخروج من المعنى الظاهر، بالدخول بما يخالفه في الجوهر والحرفية والمسكوتية.

- تقاطعات التعيين المقطعي: أستثنائية الواصلة الربطية

ان الغريب في أمر تجربة حسين عبد اللطيف، كونها علاقات وروابط لأشكال وتلوينات متعددة في الهدف الدلالي كمحورية خاصة في المركز والهامش، اي أن قصيدة الشاعر تقدم لنا في شكلها التلفظي، جملة مكثفة من الحالات التعيينية في الإنشاء والتصور، منها ما تعوزه الوصلات الدلالية والتلفظية أحيانا، ومنها ما بدا كأنه إشارات وعلامات وشيفرات، تستدعي لمن يقرؤها البحث عن واصلات تمد واسطات الجمل بما يناسب القول والحال: فهل معنى ذلك إننا نواجه غياب حقيقة الروابط مثالا ؟ فهي عند المعنى المتني في سياق الدوال، لا تعد بالوظائف الكاملة في خطاب النص؟ ولكننا عندما نتأملها في حدود قصوى من جهة العلاقة الصوغية لعلنا نصادف دوالا مقرونة بوسائط الموضوعة الخاصة من باطن وخصوصية الشاعر، لذا ترانا نصطدم بما يخفيه المحفوف من باطن الدلالة، إنعكاسا بأداة التلفظ التي تتيح لذاتها مسرحة سياقية بالمخصوص والمراد من وراء التلفظ.

1- تفارقية المواضع وفرضية المرسلات القولية:

يتطلب أمر تأويل القصيدة، منا حالات أكثر اندغاما ووعي توطين وظائف ووسائط وخلفيات مؤولة لذلك المحسوس القرائي الذي هو النص في مستووية (الظاهر- الباطن) اي إننا ونحن نسعى لفهم قابليات النصوص الظاهرة، علينا التحلي بذائقة قرائية ما، أما إذا إردنا تأويل باطن النص فعلينا فهم مسميات الأشياء، دون استثناء ما ينافيها من جهة القبول والرفض، سوى الاقتناع بأن للمسمى الوطيد، هنالك مخالفات مرورية له أكثر قبولا منه إذا شئنا الدخول في المعنى التفارقي. ببساطة أن الاشياء المشار إليها في موجهات الدلالات، غالبا ما لا تعكس سوى ما يخالفها في السنن والحدوث الاقراري، فمثلا لو قصد الشاعر معنى ما، لا يمكننا قبوله كما هو عليه حاله، ولا من جهة ما الشاعر يعني حرفيا في ممسرحات دواله، سوى التوافد على المسميات في حدود قرائن مرسومة بشرائط العلامة أو الإحالة أو الترويع في المتشابهة والمخالف في جملة التلفظ، ومعنى هذا فالقارئ النخبوي لايذهب للقصيدة كي يعاين حالات تثير الشبق عنده ولا من ناحية كونها ممارسة لتزجية الوقت ابدا، فكلنا نتناول خطاب القصيدة وكل طموحنا الكتابة عنها بطريقة تبتعد عن ذاتية التشغيل الحسي، اقترابا من ناحية أخرى من اجزاء متعبة من المعنى الأكثر شرودا. فإذا كانت حياة الإشارات في النص الشعري، حالة حيوية في أستيعاب أداء الروابط، فمن الخليق بهذه الإشارات البلوغ بالمعنى في حدود علاقة تصورية مغرقة في الافاق النوعية من المقاصد المستترة. أن القصيدة حقيقة تأويلية تستند في مداليلها وحواملها في مساحة مخصوصة تشغلها حالات لاجتراح في التقاط ما يفوق مواضع الملموس والمعروف والمرئي، فلا يمكننا وضعها اي -القصيدة- في أقرب حافظة للنفايات، لو أكتشفنا مدى ما صنعته بنا من سخافة ومهزلة وتيه في التقزز. قلنا أن حيوية القصيدة الشعرية تكمن في أواصر مؤشراتها وإشاراتها وموحياتها وعلاماتها وتفارقاتها الفنية، فلا يمكننا أن نعد مشروع قصيدة ذاتية مفرطة في إيعازاتها الانفعالية، مكسبا شعريا ما تم حصوله من مغامرة قولية في رسم الخواطر وشرود بها. أقول تتمحور بعض من تجارب الشاعر العراقي الكبير حسين عبد اللطيف تفاعلاوتصالحا، مع مستويات القصيدة المتمظهره بأجدى قابلية التثوير الشعري في الوظيفة والموضوعة والأداء، لذا فإننا نعلم بأن للشاعر في نصه مساحة خارجية في التموين والمقترح الخارجي حالا، وبالموضوعة اطروحة لسبيلا، ولو تعاملنا في حدود الداخل وفقا لعلاقته التفاعلية بالوسائل والفواعل ، لوجدنا مقادير ثقل النصوص في مأخذ وصولاتها الداخلية، ذلك لأن الداخل هو مبعث علاقات التلفظ وجنوحها الافاقي. وقد نحسب لأنفسنا أن بعض قصائد مجموعة (وحيدا على الساحل تركتني المراكب)هي المكمن الصوري في معتمدات الداخل القادمة من إحاسيس لا تشي المفردات على حمل دلالاتها الخاصية، ذلك لأنها مقرورة بوسائط لا يحيط بلفظها ومبلغها سوى الشاعر نفسه، ...انها قصائد تتجاوز مواطن التلفظ بكيفياتها التبليغية، لتتعدى مراسم نزعة الموضوعة وحدودها التقريرية أوالوصفية، انها معرفة شعرية لا تتمسك بجغرافيا التسمية والعنونة النمطية، بل انها صرخة تلوينية جعلت تشحذ لذاتها محنة كيفية التلفظ عن مواطن من الاصطدام في طريق التقاطع الأحوالي. نطالع ما جاءت به جوامح قصيدة (أزرق منتصف الليل) إذ كونها القصيدة التي آثرت لدوالها أن ترتفع عن مستوى مسميات الأشياء، دخولا لها في الاعمق من رسومها اللحظية المستفزة، اي انها تأخذ صفاتها التلفظية من مكامن لوعتها العدمية، لتتحرك نحو غمار دهشة الاستنطاقي في حدود المعنى التشذيري للأشياء:

العتمة

تبحث عن النجوم

والغصون

تبحث عن الوردة

أما الحب

فينتظر الرفقة.

منتصف الليل أزرق./ص357

ترتفع درجات المقابلة الشعرية في بناء علاقة حسية، جعلت تحرض المقاصد تثويرا للمعنى في حدود ترسيمة تعنى ببؤرة التشكيل وغواية التقابل المتمخض عن الرغبة، وما تنطوي عليها بذلك المعطى الاولي من فعالية الفقدان. ولا وجود لأي مشكلة في تراتب النسق الموضعي في ديمومة النوع التلفظي، سوى ان استيعاب جملة (منتصف الليل أزرق) قد حلت في حدود وقفة تعطيلية غريبة، بخاصة وان افعال القصيدة قد أعلنت نهايتها:فما معنى هذا الوضع الإضافي في قيمة النقطة التوزيعية التي وقعت فيها هذه الجملة انفرادا؟ فهل هي ذلك النوع من إعادة التصور بتصديرات المركز الدال؟ أم انها حالة مقحمة للمدى الختتامي من النص؟ . لعل قدوم هذه الجملة من ناحية احوالية وكعنونة للنص، لا تؤشر بذاتها لأي حالة استحالية في روابط وجودها العضوي، سوى المزيد من عملية الارتكان في كينونة جملة تحقيق قوامها التقاطع اللفظي والدلالي إزاء باقي جمل القصيدة تحقيقا. أما من ناحية كونها تشغل لذاتها كمحددا زمنيا، فلا وجود في مجالها إلا التعاقد على وحدة إقترانية ظرفية تلاقيا. أقول أن بالإمكان التدليل على ان بروز الجملة في مركز العنونة وفي ختام النص تتم بطريقة قطعية في مساحة البياض أو الاستفهام، ولكن الجملة حلت في مستوى حالة نادرة من خاصية النوع الدلالي المجتزء، وربما تكون هذه الجملة هي من الاسلوب التبوبي في الاستعداد التحفيزي للدلالة المضمرة، ذلك عندما تكون الأشياء ذاتها وبذاتها تشكل حالة الموحى إليه، اي انها ربما تشغل لذاتها مسرحة سياقية في صعيد المداخلة مع جهة الاخر: (العتمة: استعارة-صفة/ تبحث عن نجوم = قصدية التبليغ في المراد إليها من احوال) وعلى هذا تتبين فحوى عواملية جملة (أزرق منتصف الليل) كونها اعتمادا على خاصية ضرورة التلميح والمجاورة، ولكن ضمن مفهوم معطل في الإطار كخصوصية دلالية لها محمولها وغرضها وقصدها المنيع. وتبعا لهذا النحو وجدنا كيفية حصول (تفارقية المواضع، والاوضاع القولية؟) إذ انها تبدأ في تحقيق وشائجية الارتباط في أوجه من مسلمات الخطابية التقابلية بين سياق الجمل، ثم بالتالي تظهر عدم توافقيتها مع غاية الاوضاع القولية وعناصرها الدالة كمتمحورات البنى التقابلية للنص والنصوص إجمالا.

2- بنية العلامة أم ملمحات علاقات المكبوت الدلالي؟:

ان للقصيدة في مجموعة (وحيدا على الساحل تركتني المراكب) جوها كثيرة من التأويل والمعنى المتقلب..اشكالا متعددة، فهي كحاضنة تجمع مختلف ألوان وروائح ونكهات أساليب تجارب الشاعر المنجزة إجمالا، ولكنها لا تعد بمثابة الانموذج الشعري في كل تجاربه الفريدة والمستقرة في النوعية والتركيز جماليا ودلاليا، لتكون هي اللحظة الساقطة من حالات توافقية شديدة التجريب في تجارب اخرى للشاعر نفسه، وليس كل نصوص الشاعر هي جيدة في جل وظائفها ومتحولاتها الدلالية التي نتوقعها بالصورة القصوى. وتبعا لما قلنا سلفا في مباحث سابقة، اي توقفاتنا مع تجارب الشاعر وعلى صعيد مجوعته موضع بحثنا، إذ توافينا منها هالات شائقة من الإحالات والممكنات والادوات الأكثر رؤية في وظائف الرمز والعلامة والاستعارة المسكوكة والسنن، فالبعض من القصائد في هذه المجموعة تعاملات مستفيدة من حدود وخلفية (العلامة- الموضوعة المركبة- الإطر) تماثلا مع كيفيات وتمظهرات ذات العلاقة (الذات- معادلة لموضوعة) بلوغا مأهولا في نطاق حساسية مجردة في الإستجابة الإجرائية في وازعات التمثيل والتجسيد للوظيفة السيموطيقيا.نقرأ هنا قصيدة (الغرور) لنكتشف أن مهام العنونة الايقونية تعاكس محتوى ما جاءت به المقاطع الشعرية:

أثناء ما كنت أسير

عثرت في طريقي

على جناح

ألقت به الريح

بين الحجارة والأوراق الذابلة./ص363

أتذكر جيدا في هذا الصدد، ما تحدث عنه بول ريكور في كتابه القيم (إشكالية ثنائية المعنى) الذي اراد منه في إحدى فصوله، ذلك القول بأن هناك فوارق بين (السميسوطيقا) والتأويلية (الهرمينوطيقا) فراى أنه في الوقت الذي تبقى فيه الأولى منغلقة ضمن علامات، وما يحدث بينها من تبادل للدلالات، بما في ذلك إمكانية حصول التغير المتبادل بين الدلائل، فإن الهرمينوطيقا تبقى ضمن نسق خاص من تفتح العلامات، ولعل القارئ اللبيب يفهم من على هذا النحو ما جاءت به (ثنائية المعنى) على حد تعبير اطروحة ريكور. فالقصيدة تتوحد من خلالها سمات إمكانية في حصول العلامة.بخاصة في قول الشاعر (على جناح.. ألقت الريح) فالمحمول هنا (جناح) كوسيلة دوالية لها من السنن ما يطول كل الجمل التلفظية الإنشائية، لذا مادام مستهل النص يبدأ ب (أثناء ماكنت أسير) فالوازع الإحالي هنا يعود الى أداة المشار إليه بدءا، وليس الى أختزالية دال (الجناح) ولعله هو من الإضافة السياقية، وليس من صيغة المخصوص دليلا، أو هو لربما ايضا الارتياد في التلفظ -إستكمالا- لماهية الموصوف اللغوي في الموضع المشار إليه انموذجا. ولكن ليس ممكنا ان يكون بعد جملة (عثرت في طريقي) مجرد وسيلة في متباينات الوصول التشبيهي او المشبه به، بخاصة وأن الجملة اللاحقة على ورود دال (الجناح) قد جاءت محملة بالتدليل على ان أداة (الجناح) كعلامة مقابلة ل (الغرور) وهذا الافتراض هو من السعة والوضوح على ورود جملة (بين الحجارة والأوراق الذابلة) إذ راحت تعكس لنا هذه الجملة مستوى وحجم العلامة الدالة، على وجود مقامية معنى تفاعلي اخر يحمل وجوها تتوزع وتتعدد في مرجحات طاقتها السيميائية، وتتعادل في مواضع إنتاجها، وليحيل وظائفها الى جملة معادلات موازية لصورة وعلامة الانا العاملية (قلت: هذا صلف الغرور) إذا ان حصولية العلامة تتمظهر لنا محملة بالدلالات الإحالية بطريقة تأبى ان تكون طريقا ملموسا وسهلا، يعاكس علاقتي ( ظاهر المعنى- استبدالية المعنى)خصوصا وإن تحقق العلامات في رحاب الوقائع ليس دائما صياغة شرطية في الإشتراك اللفظي المتاح في محمول المتون النصية، بقدر ما يكون الهوية المتتالية من انحراف ثوابت الأوضاع الى هيئات أوضاعية تكتسي وتكتسب غاياتها من المفعول المفرط للاشياء والذوات كمكونات تأشيرية في مجال وقوعها.

- تعليق القراءة:

لعلنا لا نطمح من وراء دراسة مبحثنا المحوري هذا، سوى بالاقرار بأن ظواهر المعنى بإمكانها من أن تتحول الى ملازمات عديدة من أوجه تعدد الاشكال والانساق والمتون والهوامش، وهذا الامر لايحدث من ناحية قراءة إسقاطية ما، بل تحدث من خلال رؤئ ومعايير قيمية في مواطن تأويلات النصوص الى حصيلة مشروعات في مستوى الثمين من التلقي... أن المقاربة التحليلية في مواجهة الاحتمالات الممكنة والاخرى المنفية في وقائع النصوص، لا تتحقق دون حدوث واقع من إجرائية (المؤول الممكن) وبهذا المؤول نكتشف خفايا وإمكانيات مخبوءة عن أذهان هموم التلقي العابر. لهذا وذاك أقمنا مبررات الاسباب في حصيلة استيعاب جملة محتملات التدليل، امتدادا نحو استبدال مجالات الإنتاج في مستويات المعنى الشعري الممتد الى سلطة معرفية تحكمها الموحيات ومسافة المقاصد المشيدة في خلق متاريس ومستودعات ذوقية من تعدد المعنى في ظواهر المقروء المؤول للمعنى الظاهر والباطن دلاليا.

***

حيدر عبد الرضا – ناقد عراقي

 

في المثقف اليوم