قراءات نقدية

قراءات نقدية

يحتوى ديوان "وثالثهما الريح" على بعض خصائص الهايكو المتعارف عليها كالمشهدية الحسية والاختزال والموسمية والتنحي وغيرها من سمات الهايكو، بيد أن بعض النصوص أحيانا تجنح إلى الأنسنة واستخدام اللغة المجازية والخيال مما يجعلها قصائد سنريو. إن توفر تلك الخصائص في نصوص الهايجن لبنى منان ووجود بنية متماسكة نتيجة تجاور المشاهد المستقاة من عناصر الطبيعة في أغلب الأحيان وصياغة تلك النصوص بلغة بسيطة يعكس وعي الهايجن باشتراطات هذا الفن الجديد على الساحة الشعرية العربية. في ذات الآن هناك محاولات في بعض النصوص تحاول الهايكست من خلالها التفلت من تلك الاشتراطات لتبقي بذلك على روح الهايكو، وهذا التجريب، لا شك، هو مسعى كثير من المبدعين لوضع بصمة إبداعية خاصة ومختلفة، بعد فهم أسس واشتراطات هذا الفن الوافد الجديد.

1- الاختزال والبساطة:

تعد قصيدة الهايكو أقصر نص كتب في تاريخ الأدب العالمي، فهي نص لا يزيد أمده عن "النفس الواحد". في اليابانية كان يتكون الهايكو من سبعة عشر مقطعا صوتيا، وفي الإنجليزية أحيانا لا يزيد عن عشرة مقاطع، أما في العربية فأحيانا يختزل النص إلى ست كلمات. تحدث ما لا تفعله النصوص الطويلة، مؤخرا تخلى الكثير من شعراء اليابان عن هذا التقليد والذي اعتبره "كواهيجاشي هيكيجودو" Kawahigashi) Hekigodo1873-1937 (، أحد تلاميذ "ماسوكا شيكي"، الشاعر والناقد الحداثي، هذا التقليد " قيودا من صنع الإنسان" واضاف قائلا : "إن أي محاولة اعتباطية لصياغة قصيدة تحتوي على نمط (5-7-5) ستنال من نضارة الانطباع وتقتل حيوية اللغة". إن الغاية من كتابة هايكو بأقل عدد من الكلمات، خال من الحشو والصنعة، أن تقدم تجربة فنية تتسم بالبساطة والعمق وفي نفس الوقت تتماشى مع روح العصر المتشابك والمتسارع الأحداث . تؤكد هذا الرأي مقولة د. بشرى البستاني، الشاعرة والناقدة العراقية "فليس ثمة حيزٌ لفعلٍ غير شعري لشدة الإيجاز اللغوي واقتصاده، وذلك يوجب على الشاعر الاختيار الدقيق لكل مفردة، وكل حرف والانتباه لمحوري الاختيار والتأليف معا انتباها بالغ الدقة ليكون المشهد المكثف التقاطة سريعة مكتنزة بفتنة البساطة"، على هذا الأساس فإن كل لفظة زائدة في النص تعمل على إفساد عنصر البساطة الذي يعد جوهر الهايكو. تقول لبنى منان:

مآرب أخرى،

عصا الراعي كثيرا ما

تهش على الفراغ

يتسم النص هنا بالإيجاز والتكثيف الشديد، بحيث لا يتجاوز التسع كلمات. وقد يعتقد القارئ للوهلة الأولى أن الشاعرة اعتمدت على التناص من الآية الكريمة "قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى " سورة طه الآية18، لتشكيل لوحتها. وربما يبدو هذا صحيحا، لكن الشاعرة استطاعت أن تستفز ذهن القارئ بإحداث فجوة توتر ناتجة عن إقحام مكونات غير متجانسة للأشياء و حدوث اللامتوقع (الهش على الفراغ وليس أغنام الراعي). ولو أن الشاعرة اختزلت نصها أكثر بحذف عبارة " كثيرا ما " التي جعلت حدث النص مطلقا لا يعبر عن لحظة آنية، لزادت من بهاء النص ولأصبح أكثر عمقا:

نسمةٌ باردةٌ

يُغني الجندب

بكلِ قواه

"كوباياشي إيسا"

2- المشهدية الحسية:

لا تسم خاصيتا الاختزال والبساطة قصيدة الهايكو فقط؛ فغالبا ما تشتمل الومضة والتوقيعة وغيرهما من الأشكال القصيرة الأخرى على عدد قليل من الكلمات مع بساطة لغتها. وكثير من الكتاب الذين لم يتقنوا خصائص فن الهايكو يقعون في شرك الومضة حين تفتقد كتاباتهم إلى بعض العناصر المهمة غير خاصيتي الاختزال والبساطة، كالمشهدية الحسية التي تبتعد عن التجريد والصور الخيالية، والتي أيضا تعد الخيط الفاصل بين إبداع الهايكو وغيره من الأشكال المختزلة الأخرى.

في ديوان "ثالثهما الريح" تقتنص الهايجن لبنى منان جُلَّ مشاهد نصوصها من الطبيعة ومن تفاصيل البهاء الكوني الفاتن؛ لذا نجد الكلمات الموسمية تسهم بشكل أساسي في تشكيل جزئيات الصورة. هذا الملمح الكلاسيكي المتمثل في تناول الطبيعة وتفاصيلها - والذي بدأه شعراء الزن الأوائل - يعكس ليس فقط الافتتان بسحر الطبيعة لكن أيضا أهمية هذا العالم الطبيعي كعنصر وجودي لا غنى عنه في حياة الهايجن:

حوض جيرانيوم،

قليلا منك يا مطر

لأحيا

يتكون هذا النص الشفيف من مشهدين متجاورين (تريوازة متجانسة البنية)، مأخوذين من العالم الطبيعي. يحدث هذا التجاور المفارقة التي تعد أساسا مهما للعمل الإبداعي ومصدرا تنبثق من خلاله شرارة الدهشة. يتضح هذا جليا في نهاية السطر الثاني؛ فمن الطبيعي أن تستجدي الهايجن القليل من المطر لأصيص الجيرانيوم كي يرتوي ويزهر، فإذا بهذا المطر المرتقب يُحيي روح الشاعرة التي سئمت وجودها وعالمها المادي البائس. ولربما ارتواء هذه النبتة التي شرفت على الذبول هو سقيا الروح المتماهية مع العالم الطبيعي الذي لا وجود إلا به:

دوْريُّ النّافذة،

بِرَفِيفِه

يُعيدُ تشْكيل الهَباءِ.

"سامح درويش – المغرب"

3- الآنية:

يصور نص الهايكو مشهدا من الطبيعة أو من جزئيات المحيط البيئي في لحظة آنية عابرة، وهذه اللحظة، من الطبيعي، أن تكون مسبوقة بحدث ومتبوعة بآخر. لكن الهايجن وقت التقاط المشهد يقع تحت تأثير لحظة آنية متشظية، فينقلها بشكل عفوي كما هي. تلك اللقطة التي يتم اقتناصها تمثل عقدة خيط ممتد من عبق الماضي ومستشرفٍ لأحداث مستقبلية، لذا فهي حدث عابر يستوقف الهايجن ويسترعي انتباهه في لحظة محمومة بالتوهج والدهشة. تعكس هذه الالتقاطة ومدى تفجرها وتوهجها خبرة الهايجن وعمقَ تجربتِه الإبداعية. تقول الهايجن لبنى منان:

قاب زهرتين

فراشة بكامل خفتها

تحط الرحال

في هذا النص تصور الهايجن لحظة آنية عابرة؛ حيث تحط الفراشة رحالها بخفة ودعة قاب زهرتين، ربما تكرر هذا المشهد أكثر من مرة في عمر الفراشة التي تحلق هنا وهناك بين الأزهر، وحتما ستقوم الفراشة بنفس الحدث أو بفعل أشياء أخرى بين الزهور طالما أنها طليقة في هذا العالم الجمالي الفسيح، بيد أن الشاعرة لحظة وقعت عيناها على الفراشة كانت تلك الحشرة الفاتنة تحط بخفة على الزهرتين:

الفراشة تعطر

أجنحتها، بعطر

نبتة.

"ماتسو باشو"

4- التنحي:

في الهايكو الخالص، أي هايكو الطبيعة، والذي فيه يترك الهايجن الطبيعة تتحدث عن ذاتها دون إقحام الذات أوالتغني بالمشاعر الإنسانية بشكل مباشر. تذوب ذات الهايجن في مشاهد الكون الآسرة بغية الكشف عن الأسرار الدفينة للأشياء والوصول إلى كنهها، وهذا البحث الدائم في أسرار الكون بتفاصيله اللامتناهية والذوبان في بهائه محاولة للوصول إلى الكمال الروحي في لحظة تأملية من الصفاء الذهني. في "وثالثهما الريح" تقول لبنى منان:

وجه بحيرة،

عصفور الدوري

وحيد مرتين

ليس هناك ملمح للذات الإنسانية في النص، فقط مشهدان متجاوران مأخوذان من عنصر واحد وهو الطبيعة: "وجه البحيرة" في السطر الأول، ثم تتبعه الهايجن بحدث أيضا يقوم بفعله كائن طبيعي "عصفور الدوري" الذي يبدو وحيدا للمرة الثانية. مع ذلك، لا يمكن محو ذات الشاعر أو إبعادها عن مسرح الحدث؛ فلولا إحساس الهايكست بالوحدة والغربة، لما تعاطفت مع هذا الطائر الوحيد؛ إنها حالة التماهي والانصهار بين الذات الشاعرة والكائنات المحيطة بها:

متوسدا ورقة عريضة

من شجرة الموز،

يتشبث الضفدع.

"كيكاكو"

***

حسني التهامي - مصر

جماليات القبح في الرواية بأسفي (9)

في إطار الاهتمام بالرواية في أسفي، وعلى الرغم من قدم الرواية بهذه المدينة، وكثرة ما راكمه روائيوها إبداعا وتتويجا، إذ تم الوقوف في الحلقات السابقة على أزيد من أربعين نصا روائيا وعلى عدد الجوائز التي حصدها روائيو المدينة وطنيا جهويا وعربيا وعالميا... فإن الروائية النسائية بالمدينة لا زال حضورها دون المستوى المأمول؛ إذ تأخر ظهورها حتى منتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة مع إصدار ربيعة ريحان لروايتها الأولى "طريق الغرام" عن دار توبقال سنة 2013 ليبقى الإنتاج الروائي النسائي بالمدينة ضئيلا بالمقارنة مع ما كتبه الرجال، وانتظر القارئ وباء كورونا، وظروف الحجر الصحي التي فرضت على بعض الكتاب الكتابات التفرغ للكتابة ليتدفق الإبداع الروائي بالمدينة، فصدر في السنوات الأخيرة من المؤلفات الروائية أكثر من نصف ما أنتجه المدينة في تاريخها الطويل، إذ أصدر الكتاب ما بين 2019 و2023 أزيد من 20 رواية منها سبع روايات نسائية هي:

- روايتان لربيعة ريحان هما: رواية "الخالة أم هاني" سنة 2020، ورواية "بيتنا الكبير" عن دار العين للنشر، 2022.

- ثلاث روايات لأسماء غريب هي رواية" السيدة كركم" 2019، رواية "أنا النقطة" 2020 ورواية "وريثة السر" 2022

- رواية لمنى الهردي "بحيرة البجع أو رواية الموت جوعا " سنة 2022.

- يضاف إلى ذلك الرواية وموضوع دراستنا اليوم وهي رواية فاطمة المعيزي "ما تبقى من ذاكرة الرماد" الصادرة عن مؤسسة بيبلومانيا سنة 2022

لا بد في البداية من الإشارة إلى رواية "ما تبقى من ذاكرة الرماد" هي باكورة فاطمة المعيزي روائيا، بعد سلسلة من الدواوين الشعرية و ودواوين أخرى في الزجل منها "ظفاير لالة" و"عيوطي على خربوشة" و"طويت لما"...

و"ما تبقى في ذاكرة الرماد" مثل أي رواية أولى تنطلق من الذات عبر سارد يتقاطع مع الكاتب في سرد أحداث روائية تركز على المحلي في محاولة قول كل شي ومقاربة مواضيع متعددة عبر المزج بين التاريخي السِّيَري والروائي المتخيل، إضافة إلى اختيار عنوان مفتوح على دلالات متعددة... مما يجعلها رواية مشرعة الأبواب تقدم للدارس منافذ متعددة لولوجها عكس بعض الروايات التجريبية أو الرمزية التي يجد الدارس صعوبة في مقاربتها.

عتبات الرواية مغرية؛ ومن تلك العتبات العنوان "ما تبقى في ذاكرة الرماد" الذي تتناسل منه دلالات كثيرة، فقبل التساؤل عن معاني هذا التركيب الإضافي والانزياح البلاغي (ذاكرة الرماد) تحضر أمام الدارس نصوصا غائبة كثيرة تتناص مع هذا العنوان، فتتراءى أمامه مؤلفات سردية كثيرة تحمل نفس التركيب، منها رواية "ذاكرة الرماد" للسورية ابتسام التريسي التي – وإن خالفتها في المضمون، فإن بناءهما يكاد يكون متشابها من حيث اعتماد أسلوب المتكلم مع تناوب شخصيتين رئيسيتين على سرد الأحداث. إضافة إلى نهج خط زمني متتابع، والانتقال بالزمان والمكان حيث بوح الأبطال... والمجموعة القصصية "ذاكرة الرماد" للقاص المغربي إدريس حيدر. كما أسند بعض الروائيين كلمات أخرى للرماد غير الذاكرة فعنون نواف العامر روايته بــ "أيام الرماد"  واختارت المغربية خديجة مزراوي "سيرة الرماد" عنوانا لروايتها، وعنون أحمد إبراهيم الفقيه من ليبيا إحدى رواياته ب "حقول الرماد" وجعل أحمد صلاح سابق "وادي الرماد" عنوانا لروايته، وترجمتْ بدرية العبد الرحمان رواية "مدائن الرمان" من الأدب الإفريقي ومثل هذه العناوين كثيرة في الثقافة العربية والإنسانية، وهذه الكثرة تحتم طرح أسئلة عن ماهية الرماد؟ وعن السر في اختياره عنوانا لأعمال سردية منها رواية "ما تبقى في ذاكرة الرماد" 

وبالإضافة إلى ما يحيل عليه مفهوم الذاكرة، واستحالة الاتفاق حول دلالة موحدة له، وصعوبة التمييز فيه بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية مع تعدد الجماعات (أسرة ، حزب، وطن، دولة ، أمة...) وكيفية تمييز ذاكرة كل جماعة... فإن الصعوبة تزداد تعقيدا عند إضافة الرماد إلى الذاكرة، وتتعقد المأمورية أكثر عند البحث عما تبقى من ذاكرة ذلك الرماد... خاصة إذا علمنا أن الرماد نهاية ومصير كل محترق، وأنه سالب خصوصيات العناصر المميزة لكل عضو أو عنصر، فيوحدها في نتيجة واحدة لاغية للتنوع، ورافضة للاختلاف، لإن الرماد وحده يختزل العوالم والأشياء المحترقة، وبتذويب الفوارق في مادة غير قابل للاحتراق، عصية على اللمس والذوق تدرها الرياح، تتناثر في الهواء فتغدو مرادفة للعدم... والرماد غير الدخان وإن كان أصلهما واحد، ومبعثهما النار والاحتراق، إذ الدخان في الثقافة الكونية خانق مذموم يتعالى في طبقات الجو وهو وضيع، والرماد على الرغم من استعمالاته الإيجابية قد يستغل سمادا ومنظفا ومزيلا للروائح الكريهة ومبيدا... فإن تلك الاستعمالات لا تشفع له، ولا تنفي السلبية عن المنطقة والمواقف الرمادية...

وإذا كانت علاقة البشر بالرماد تعود إلى عهود اكتشاف النار، فإن الباحث في الإبداع وفي الأدب يكتشف أن للرماد أبعاد ودلالات تفوح منها روائح الحنين والفواجع: حنين السهر والطبخ والدفء... وفواجع الحرائق والاحتراق وفقد المحروق...

لكن مع "رماد الذاكرة" و"ذاكرة الرماد" في السرد تستسلم الأمكنة، ويتبخر الزمان وتتحلل الذات والجماعة أحداثا مروية وذكريات مسجونة في خيط حكاية مركونة بالمنطقة الرمادية: الليل والنهار فيها سيان. فتصير الرواية منطقة نثر الرماد فيهما غباره شاهدا على احتراق ذات رمادها عصي على التبديد، لا نعرف فيها من الحارق ومن المحروق/ المحترَق؟

أنعتبر السرد حرقا لكلمات دائمة الاشتعال، والعبارات رمادا وعلامات على حضور غير قابلة للاحتراق، كل يوم تزهر من جديد؟ أتكون الرواية برمتها احتراقا نسمع من خلالها أصوات من مروا ونشم رائحة عطورهم وطبخهم عبر حكاية ستروى على مدار الزمن؟ أم نعتبر الرواية رمادا، وما تبقى من ذاكرة رماد أبدي ازلي لأن من يكتب لا يموت؟ ومنه تظل الكتابة دليلا على ذات احترقت وعانت من أجل الكتابة، ولا رماد دون نار، حتى ولو كانت النار رمزية تعطي رمادا رمزيا ودليلا على أثر كاتبة مرت من هنا... والكتابة رماد ودليل باق بعد رحيلنا واحتراقنا النهائي...

إن الحديث عن "ما تبقى في ذاكرة الرماد" تعبير جمالي عن شيء قبيح... فهل تكون الكاتبة في الرواية كمن يرسم لوحة جميلة رائعة بتقنيات عالية وتناسق في الألوان والظلال لكن لموضوع قبيح مثل جثة تنخرها الديدان، فلا نملك إلا الإشادة ببراعة الرسام رغم الاشمئزاز من المحتوى.

إن الرواية فن يحاول محاكاة الواقع، وبما أنه فن فإن كل شيء فيه جميلا كان أو قبيحا يبقى رمزيا، ومنه فالقبح في الطبيعة وفي الواقع غير القبح في الفن، لأنه لا يكون مقصودا لذاته، ولم يكن القبح يوما موضوعا للفن، ولا موضوعا فلسفيا مثل الجمال، لذلك فإنه لا يوظف إلا من أجل إبراز الجمال، كما أن قبح التيمة أو الموضوع قد يزيد العمل جمالا، ذلك (أن العمل الفني يتمتع بقيمة جمالية منفصلة عن جمال الشيء أو قبحه) على حد تعبير عز الدين إسماعيل في كتابه الأسس الجمالية في النقد العربي (ص 50)، بل قد يرفع القبح في اللوحة أو الكتاب من جمالية العمل، وقد تكون صورة امرأة قبيحة جدا تحفة فنية رائعة، وتكون صورة امرأة جميلة لوحة قبيحة رذيئة لا تعجب أحدا...

إن الاهتمام بالموضوعات القبيحة والمنفّرة في الفنون الأدبية، قد يكون له دور في خلق ردّة فعل عكسيّة، قوامها الرفض والبحث عن واقع بديل، على هذا النهج سارت رواية "ما تبقى في ذاكرة الرماد" الصادرة عن مؤسسة بيبلومانيا للنشر والتوزيع القاهرة 2022، وهي رواية أولى تحاول فيها كاتبتها أن تقول كل شيء لذلك تنوعت موضوعاتها وتعددت تيماتها، فلامست السياسة والانتخابات، وقاربت الهجرة والتهجير ، وتناولت قضايا اجتماعية كثيرة محلية وكونية، كما تغلغلت في العلاقات الإنسانية، وتوغلت في النفس البشرية وما تعرفه من حب وخيانة ووفاء وصدق وأمانة... ورجعت للماضي وقاربت الحاضر واستشرفت المستقبل...

والرواية في كل ذلك تستنجد بالقبح كعنصر جمالي استيطيقي يخلق شعورا بالاستياء من خلال إمتاع القارئ بمشاهد قبيحة منذ أول سطر في الرواية: هكذا جات أول جملة (حارتنا ثقب أسود، يغريك باختراقه في عزّ الهلوسة التكنلوجية) (ص 8)، فكان الفضاء قبيحا مشحونا بدلالات سالبة تتوالد من وتركيب (ثقب أسود) لتبدا الرواية في تقديم الشخصيات التي تتحرك في الحي في صورة أكثر قبحا سواء في مظاهرها أو في أفعالها ومهنها وعلاقاتها (شباب فيه [ الحي] يمررون أفكارهم في فقاعات هوائية، ويستعرضون قواهم عبر تمارين رياضية... ونساء ينقلن المواعدة من وجه الوتساب البريء للوجهة المحاذية لحديقة... وفئة لا تغادر قنينة الكحول أو ماء الحياة ستراتهم الوسخة، ولا لفافات الحشيش التي تزكم جيوبهم البائسة من دراهم معدودة). (ص.8)

وتكون أول شخصية يصادفها القارئ تذكرها الرواية بالاسم والصفة من قاع المجتمع اختارت لها اسما ومهنة تعكس ذلك القبح (خلفي كانت تقف "أمي عْبُوشْ " بائعة االديطاي ) (ص. 9) ... وكذلك كان الشأن بالنسبة لثاني شخصية تظهر في سرد الأحداث شخصية البتول التي (لا تعرف شيئا عن أصلها، متخلى عنها وجت أمام الملجأ مع وثيقة (البتول بنت ربيعة ولدت بالمستشفى المركزي بالدار البيضاء 1990 (ص. 33) لتقدم هذه الشخصية أحسن صورة لتجليات القبح : اسمها البتول يدل على الطاهرة، مظهرها فاتن لكن واقع حالها بخلاف كل ذلك: ( "البتول " من أصول هي نفسها تجهلها، نشأتْ في ملجأ لتخرج لمعترك الحياة بجنين يسكن أحشاءها، والجارات َيتغامزن حین يروْنها قادمة بقدّها الفتّان، تفوقهن بهاءً وجمالا، والرجالُ يسيلُ لعابهم فيتلذذون بما لم تطله أيديهم ). (ص10)

ولم تقتصر الرواية على ذلك بل وجدنا السارد يتعمد تضييق الخناق على هذه الشخصيات فيرمي بها في القبح والدناءة، وما أن يفتح لها باب أمل حتى يغرقها في قبح جديد. فتكابد البتول في تربية طفل لقيط لا أحد يعرف والده (وهي القادمة من مجهول يقض بريق أملها ومضجع أحلامها، وطفل صغير يشد أطراف عمرها بكل قواه ليثقل كاهلها بمسؤوليات لا تعلم إلى متى قد تمتد؟) (ص.11) وما أن اشتغلت في التدليك حتى اكتشفت كيف ( يمكن أن يتحول التدليك لشيء آخر، يكفي أن يلمّح الزبون). الكل يطمع في جسدها وفي استغلالها في مجتمع تحكمه علاقات غريبة، تحتم على الشخص ترك محبوبته ليتزوج غريبة لا يربطه بها رابط. مثلما تجسد في تجربة الشاب شعيب الذي أحب البتول وأحبته، لكنه تزوج امرأة إسبانية في سن والدته اضطر للإنجاب منها صناعيا... ولما هربت البتول من أزمتها مع شعيب إلى صديقتها فاطمة أخذتها إلى السيدة نور لتغرقها في ظلامها ويتم استغلالها في سهرات مع الخليجيين (بمعية عشر فتيات في ملابس تكاد لا تستر شيئا من أجسادهن...) (ص.58) لتعيش تجربة فرضت عليها (الرقص والتدخین وتناول كاسات النبيذ التي اصطفَت على مائدة رخامية كبیرة، مع علب السجائر وكل أنواع المكسرات والفواكه) (ص.59)

جماليات القبح لم تقتصر على الشخصيات بل امتدت إلى الفضاء الروائي فغيرت قوانين المدينة، وخلقت علاقات اجتماعية مزيفة، المظاهر فيها خادعة والشخصيات تظهر عكس ما تبطن؛ فها هو الحاج رمز الورع والتقوى يأكل مال زوجته الصيدلية ويرميها مع ابنتيهما ليتزوج من مساعدتها وعينه على البتول، تخونه زوجته الثانية مع مشعوذ يتظاهر بمسوح الأتقياء (الشيطان أكثر نظافة من ثوب الورع الذي يسدله على نجاسة تصرفاته) (ص163) و تنجب منه بنتا عجزت في الحصول عليها من زوجها... لتقدم الرواية مجتمعا يتظاهر بالمحافظة والتديُّن، لكن تسوده الخيانة والمخدرات والمثلية حتى بين صفوف المربيات وكبيرات السن كما في تجربة لالة الطام ومديرة الملجأ التي أوكل إليها رعاية اليتامى (ص.29) مدينة الرجال فيها يعنفون النساء فاخت شعيب متزوجة برجل يعذبها ومتزوج عليها قسرا ويرغمها على عدم البوح بما تعانيه...

رواية "ما تبقى في ذاكرة الرماد" مثلها مثل معظم الروايات التي اتخذت من اسفي فضاء روائيا لأحداثها، تقدم المدينة مدينة معطوبة مدينة المخدرات بكل أنواعها يقول النادل لشعيب (- إلى خاصَّكْ ش حَاجَة عَيَّط لي، راه كلشي موجود ) (ص.140)... مدينة دعارة حيث (كثرة الشقق المفروشة والرياضات والفيلات المخصصة للدعارة) (ص.91)... مما رفع الكثيرات ممن يمتهن الدعارة من قاع المجتمع ليصبحن من عليّة القوم ووجهاء المجتمع... ومدينة يسودها الفساد الانتخابي والإداري يفرض فيها على الموظف المصادقة على رخص رفضتها لجنة مختصة، وإن تلكأ أو رفض يتم عزله وتجرديه من مهامه ( وعندما رفض ما يطلب منه بحجة أنَّه ينافي القانون، عُزل من منصبه وجُرّدَ من امتيازاته التي يستفيد منها كافة باقي رؤساء المصالح الأخرى،) (ص.160)... مدينة يسود فيها الدجل والشعوذة... المشعوذون فيها (يمارسون قذارتهم دون قيد أو شرط أو ضمير) (ص163) والكل مقتنع (انه صعب جدا أن تغير فئة من البشر يخلطون الحق بالباطل ويعتقدون اعتقادا راسخا أن ما يقومون به هو عين الصواب) (ص164)

إن الرواية وهي تقدم هذه الصورة السوداوية عن المدينة تتحكم فيها جماليات القبح، ويصبح القبح دليلا روائيا غير مقصود لذاته، وعلى القارئ البحث عن إحالاته وبدائله، مادام (التعبير الفني عن القبح يستدعي إدانته، وينبه ضمنيا إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحال، فكأن عرض القبح تأكيد مباشر للجميل، واحتجاج على ما في العالم من قبح) على حد تعبير فيساريون جيرجوريفتش بلنسكي. لذلك كان سارد أحداث الرواية يعلن عن امتعاضه من بعض السلوكات، ويتيح لشخصيات الرواية التعبير عن مواقفها؛ فنجد مريم وقد عرفت أنها ابنة الخطيئة (خطيئة أمها مع مشعوذ) تقر بأن المسؤولية مشتركة (تقول في نفسها إن مسؤولية ما قام به الوالد، نتيجة مشتركة مع من يلجؤون لمثله نتيجة التهور وعدم الوعي، والإيمان بالشعوذة والدجل والخرافات،) ص163

رواية "ما تبقى في ذاكرة الرماد" رواية حبلى بالقضايا فهي تلامس قضايا قضايا سياسية، ثقافية، اجتماعية، فلسفية، معرفية تقارب المقدس والمدنس ، الحياة والموت وقضايا محلية وطنية وإنسانية، وما فرضه وباء كورونا على العالم وكيف غير العلاقات والقيم والرؤية للعالم... لكن بطريقة فنية تبرز الجوانب القبيحة فينا عسى أن تولد للقارئ ردة فعل على ما يشهده الواقع، يقول وولتر ستيتش (عندما يدخل القبيح كعنصر استيطيقي في الفن، فمن المؤكد أنه يخلق شعورا بالاستياء لكن بمقدار ما يؤدي إلى شعور استيطيقي من حيث إنه عمل فني أصيل فإنه يؤدي إلى المتعة) وهذا ما نجحت فيه الرواية لأن تأثير القبيح والمؤلم أكثر من تأثير الجميل، فلا شيء يسمو بنا إلى العظمة -كما قال الرومانسي الفرنسي دي موسيه- مثل الألم، ولخير أن يضع الكاتب الملح على الجرح، ويكشف عورات المدينة واهلها، ويبين اختلالات الواقع في لوحة ماتعة، من أن تكون الرواية كارت بوستال فلوكلورية وبهرجة ممسوخة تطبل لكل شيء... لأن (مهمة القبيح حين يقبل في الفن، هي أن يساعد على تقوية أثر الجميل بإنتاج سلسلة من المتضادات التي تجعل الملائم أقوى أثرا) كما يقول بيندتو كروتشي . لكن هذا لا يعني ان الروية لم تقدم إلا القبح، فكثيرا ما عرضت مشاهد جميلة مشحونة بالنوستالجيا، والحنين إلى ما ميز المدينة عبر تاريخها من علاقات اجتماعية، وتقاليد في الباس والطبخ... لكننا آثرنا النبش في جماليات القبح، لأن (الشيء الجميل يمكن أن يتغير تأثيره في العمل الفني، والشيء القبيح من الممكن أن تتغير درجة تأثيره من القبح إلى جمال فني عن طريق الوصف والتعبير الناجح عن ذلك القبح) كما قال غوتهولد إفرايم ليسينغ وهذا ما نجحت فيه رواية "ما تبقى في ذاكرة الرماد" أكثر من نجاحها في إبراز الجمال والوجه المشرقة لمدينة اسفي

***

الكبير الداديسي - المغرب

تاريخ فلسطين عريق عراقة شعبه،غير أن الشتات هزّ وغيّر الكثير من شخصية هذا الشعب. لذا فإنه لا بد من العودة إلى الماضي لاستخراج مشكاة الواقع وطرحها أمام المناهج التاريخية على أمل إنعاش الذاكرة الجماعية بهدف استعادة الهوية الفلسطينية بعد صياغة الشخصية واستعادتها من جديد.

لجأ سميح مسعود مؤلف رواية الكرملي الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون/2021،  إلى الاستفادة من التاريخ الشفوي حيث يخبرنا بذلك منذ عتبة الإهداء التي جاء فيها" إلى جدتي عائشة أبو عودة سيف التي أوحت لي حكاياها أن أكتب هذه الرواية" فطالما شكل الأجداد ذاكرة خصبة تكتنز تاريخ الأرض وأحداثها. فكيف إن كانت الأرض فلسطين بكل قداستها وعراقتها. فلسطين التي تتشبث بها ذاكرة متوقدة بكل ما أوتيت من قوة ،تفرغ حمولتها في ذاكرة أكثر شبابا حتى لا تنطفئ ،في سلسلة متصلة ومتواصلة تكتمل دائرتها يوم العودة.

وقد قدم الكاتب عالما تخييليا حاكى التاريخ ونجح في إعادة بناء الأمكنة والأزمنة وأثثها بأبطال خدموا رؤيته ومنظوره لما حدث في فلسطين بشكل عام وحيفا بشكل خاص منذ بداية القرن أي مع نهايات الحكم العثماني العشرين وحتى النكبة وما بينهما من مخاضات للخلاص من العثمانيين ومن ثم الانتداب البريطاني الذي مكن الحركة الصهيونية من فلسطين إلى الخروج نحو المنافي والشتات.

 وها هو سميح مسعود يستعيد الأماكن ،يصفها بدقة بتاريخها المتجذر العميق ويثبت الهوية. ثم من خلال أبطاله يبني روايته. وبعض هؤلاء الأبطال أسماء لشخصيات واقعية مثل نجيب نصار مؤسس جريدة الكرمل وفيصل الذي فقد عرشه في سورية، وبعضهم أسماء لشخصيات متخيلة مثل رشيد الكرملي بطل الرواية الذي يمنحه مسعود جزءا من مفاتيح الأماكن وسرها في حيفا إلى جانب العم توفيق الذي نجده ص١٧٥ يقول"إني أعرف تاريخ حيفا كما أعرف خطوط كفي".

لقد استعاد سميح مسعود نسغ الحياة في حيفا من خلال الذاكرة فنجده يستهل روايته بالمكان الذي ارتبطت به دراسة بطله رشيد الكرملي وهو "الكتّاب" ففي ص٩ على لسان السارد "ويتميز هذا الكتاب بأنه قريب من كل الأحياء ،يقع على طرف زقاق ضيق في حي وادي الصليب أحد أهم أحياء حيفا التحتا" والمتأمل لهذا المقتطف يدرك دقة الوصف التي تعمدها الكاتب بهدف استعادة الأسماء الحقيقية للمكان وبالتالي استعادة هويتها وخصوصا بعد تغييرها من طرف دولة الاحتلال وإعطائها أسماء عبرية.

كما نجد أن الكاتب ركز في تعابيره وموضوعاته على المكانة الدينية والتاريخية والقومية وتجلياتها الرئيسية التي تمثل في مجملها ومفصلها الهوية العربية للشعب الفلسطيني. ولا بد للمتلقي لرواية الكرمل أن يلتقط التجليات الدينية التي برزت منذ الصفحات الأولى ففي ص٩ على لسان السارد يصف الكتّاب" إنها عبارة عن ساحة بيت كبير يتعلم فيها الصبيان القراءة والكتابة والجمع وحفظ القرآن"

وفي موقع آخر نجد الكاتب يصف رأي رشيد الكرملي بالتصوف حين زاره أحد الأعياد أصدقاء له من عكا لهم علاقة بالطريقة الشاذلية اليشرطية ص٢٢"وسأله أحدهم عن رأيه بالتصوف".

والمتتبع لرواية الكرملي سيجد العديد من التجليات الدينية، والحديث عن المضامين الدينية يمثل ركنا أساسيا في تشكيل الهوية وتعزيز الوجود الفلسطيني أمام المحتل.

ويركز سميح مسعود على مكون أساسي من مكونات الهوية وهو الأرض،هذه الأيقونة التي تكررت طيلة صفحات العمل فأضحت الدماء التي تغذي جسده. فعن علاقة رشيد بمدينته ص٣٣" لا شيء يقف حائلا بينه وبين حيفا،إنه على علاقة حميمة مع كل ذرة تراب من ترابها". وفي ص٥٤-٥٥ يتحدث السارد عن تخوفات نجيب نصار أثناء ندوة أقيمت في بيروت عن مجموعة من إقطاعيي لبنان وسوريا اشتروا مئات الآلاف من الدونمات في فلسطين وأحكموا سيطرتهم عليها. فعن نجيب على لسان السارد" رد عليها بمدلولات بائنة حول تخوفه من أن ينعطف أصحاب الأراضي الجدد انعطافا يحقق للصهاينة وجودهم في فلسطين ،وينشرون في قراها غصّة الفجيعة".

ومعظم تلك الأراضي كانت مرج ابن عامر ويعد المرج من أخصب الأراضي الفلسطينية التي اشترتها الحركة الصهيونية وشردت فلاحيها. وخسارة الأرض تعني خسارة الهوية لذلك نجد الثورات تتفجر من أجل التشبث بالأرض والحفاظ عليها من أجل الحفاظ على الهوية.

ومن التجليات التي تمثل الهوية الفلسطينية التجلي الفكري وقد مثلته جريدة الكرمل التي كان لها الحصة الكبرى في رواية الكرملي. وجريدة الكرمل أسسها الصحفي اللبناني نجيب نصار في حيفا عام ١٩٠٨ لتكون القنديل الذي تمتد أضواءه عبر سماء حيفا وفلسطين لتعبر الحدود إلى شرقي الأردن والقاهرة والعراق وغيرها. وقد استكتب نجيب نصار أسماء لامعة مثل عزت دروزة وأكرم زعيتر وغيرهم.

ومن الدوافع التي أدت إلى بزوغ جريدة الكرمل الحكم العثماني الذي كان يجبي الضرائب ويلحق الظلم بالعرب ومن ثم الاستعمار البريطاني وما أفرزه من استيطان صهيوني.

وقد عكست كما أوضح سميح مسعود من خلال الكرملي الأحداث الاجتماعية والاقتصادية والتصورات السياسية مستمدة ذلك من الواقع. وقامت بنشر الوعي الوطني ووضعت الشعب الفلسطيني أمام الصورة الحقيقية كما ذكرنا سابقا للحكم العثماني والاستعمار البريطاني والخطر الصهيوني. ومما جاء عن ذلك ص٧٣ على لسان العم توفيق بعدما حدثه رشيد الكرملي عن ندوة بيروت وكلمة نجيب التي قدمها" دور الصحافة أن تكشف الحقيقة للناس ،كتابها وحدهم من يستطيع وضع أجنحة لها تحملها الرياح إلى كل مكان".

ويظهر التجلي الثوري التنويري المقاوم في دور جريدة الكرمل من تنوير للشعب الفلسطيني والأمة العربية بما يحاك ضدها عندما نشرت مقال عن اتفاقية سايكس بيكو وحذرت من خلال توقعاتها مما سيحصل. ومما جاء في هذا الشأن ص١٤٤ عندما زار بوريس باخونين مكتب الجريدة وأخرج اتفاقية سايكس بيكو ووضعها أمام نجيب وقال" طلبت مني حكومة بلادي البلشفية الجديدة تسليمها لجريدة عربية واسعة الانتشار لنشرها وتعريف العرب على ما فيها" وبالفعل تمت كتابة المقالات عن الاتفاقية ونشرها والتحذير منها.

كما حذرت الجريدة من وعد بلفور والخطر الصهيوني ونوايا دولة الانتداب كما وجهت انتقادات إلى أعضاء اللجنة العربية العليا وحذرتهم من الخلافات والسعي خلف المناصب وتصديق نوايا البريطان.فاستنهضت الهمم من خلال هذا التنوير من أجل تدعيم أصول الهوية فارتفع الحس الثوري من أجل حماية الحق الفلسطيني بأرضه والمحافظة على هويته.

وعندما تفجرت ثورة ١٩٣٦ كان للجريدة الدور الفعال في التعبير عن أهداف الثورة والتعريف بالكفاح المسلح. ويتضح ذلك ص٢٠٨ على لسان السارد " واصل كتاب جريدة الكرمل تغطية كل مستجدات الثورة". كما عرج سميح مسعود على ما تعرضت له الجريدة من عراقيل من الأتراك بداية ثم من بريطانيا في محاولات لإغلاقها وإبعادها عن واجبها في أداء رسالتها التوعوية والنضالية ،لكنها استمرت رغم تلك العراقيل في محاولة منها للحفاظ على الهوية العربية لكنها أغلقت أبوابها في العام ١٩٤٢. ففي ص٢٢٥ ما جاء على لسان نجيب" والآن يؤسفني أن أخبركم أنني قررت أن أغلق الجريدة لأنني عاجز عن تغطية نفقاتها المالية".

كما تحدث الكاتب عن قضايا تاريخية وقومية تهم الأمة العربية والشعب الفلسطيني وهذه القضايا تمثل الارتباطات والحوادث والوقائع التي وقعت على ثرى فلسطين عبر الزمن. ومثال ذلك غزو نابليون لمدينة عكا وانهزامه أمام أسوارها. فعلى لسان الشيخ مناور ص٢٠٠" هذا هو السور المنيع الذي بصق أبطاله في وجه نابليون ومنعوه دخول عكا".

وقصة الظاهر العمر الزيداني التي جاءت في أكثر من موقع في الرواية نذكر منها ما جاء على لسان أم رشيد ص١١ في خضم حديثها عن تلك الشخصية التاريخية المهمة "الذي حول حيفا إلى قرية للصيادين في موقع تل السمك إلى مدينة يتمطى حولها سور عال لحمايتها".

كما اهتم الكاتب بالحديث عن المكانة المرموقة للأمة العربية التي تنتمي لها الهوية الفلسطينية وأن هذه الهوية تتشكل بارتباطها بالأمة العربية ويتجلى هذا عبر الحديث الذي دار على مائدة الطعام التي قدمت لفيصل حين استقبلته حيفا بعد فقدانه لعرشه في سوريا.ففي ص١٧٠ على لسان فيصل" إنه أكل دمشق نفسه. أجابه العم توفيق : طبعا لأننا من سوريا الجنوبية ،أكلنا هو أكل إخواننا الذين يقطنون جهاتها جميعا"

بقي أن نقول بأن سميح مسعود شاعر وكاتب ولد في حيفا عام ١٩٣٨ وهجر مع عائلته إلى برقة التي تنحدر منها عائلته.

عمل مستشارا اقتصاديا في ثلاث مؤسسات إقليمية عربية. انتخب عام ١٩٩٠ رئيسا للاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين فرع الكويت.عضو رابطة الكتاب الأردنيين والاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب. صدر له اثنان وأربعون كتابا منها اثنان وعشرون في مجال الشعر والأدب.

***

قراءة: بديعة النعيمي

لاشك في أن لكل نص شعري مثيراته النصية، ومحمولاته الإبداعية ومحفزاته النصية، لأن الشعرية – بالأساس- كتلة متحولات ومتغيرات ومحمولات جمالية تبثها القصيدة على مستوى الكلمة والكلمة، والجملة والجملة، ناهيك عن إيقاعها التآلفي الترابطي الذي يدلل على أن البنية النصية الشعرية بنية متكاملة إحساساً وفاعلية رؤيوية تحفيزية نصية ترتقي درجات من الاستثارة والتحفيز النصي.

وتختلف شعرية المحمولات الجمالية من شاعر إلى شاعر، ومن نص شعري إلى نص شعري آخر، تبعاً لفاعلية المحمولات الجمالية، ومؤثرات النسق الشعري، وهذا يعني أن فاعلية المحولات الجمالية متغيرة في حد ذاتها ومختلفة من نص إلى آخر، ومن رؤية نصية إلى أخرى تبعاً لمثيرات التوابع النصية التي ترتبط بالأثر الجمالي الذي تخلفه المحمولات النصية فيما بينها، وبما أن المحمولات الجمالية كتل متغيرات ومؤثرات مختلفة فيما بينها، فإن ما يثيرها على المستوى الجمالي تفاعل هذه المحولات فيما بينها لتحقق قيمة جمالية تملك مؤشرها الجمالي البليغ، وخصوصيتها الإبداعية الخلاقة.

والشاعر في محمولاته الجمالية يتقصى أقصى درجة الانزياحات الأسلوبية والدلالية في خلق الاستثارة الجمالية، " فالشاعر يستخدم الكلمات كنقطة انطلاق لموجات تعبيرية، وتراكيب دلالية متلاحقة، وهي تستقطب استراتيجيات بنائية متنوعة؛ هذه الاستراتيجيات محققة في الصور المجازية من استعارة، وتشبيه، ورموز، لها سلطة النسق وطاقاته المحققة في العلاقات الداخلية التي تفتح النص على آفق التأويل؛ وهو العمل الحركي للدلالة التي ترسم منحنيات معرفية مختلفة، تندرج في فك مغاليقها المرصودة القراءات المتتالية، ولما كان تعامل الشاعر مع الكلمات يميل إلى الرغبة في تجاوز المعاني المباشرة، ويستهدف الجهر بأسرارها فإنها تلهم بتحريض جامع على هندسة الخطاب في أنساق هي موئل القيم الجمالية للنص؛ وعليه، فالانزياح مقوم هام لتحديد جمالية النص الشعري من خلال تجاوزه العادات الكتابية والقوانين المعجمية، وبذلك يكون الانفلات من سلطة المألوف والمعتاد عليه، لتحقيق هدف جمالي على مستوى البناء والدلالة"(1).

وبتصورنا النقدي: إن الإبداع الشعري المميز ينطوي على محمولاته الجمالية المميزة التي تأتي غاية في الاستثارة والجمالية والإيحاء، ولا يمكن أن يخلو نص شعري إبداعي حقيقي من محمولاته البليغة التي تثير الحساسية الجمالية، ولهذا، تتعدد سبل الجمالية الشعرية بتعدد المحمولات الجمالية وإثارة متغيراتها الأسلوبية.

ومن يطلع على البنية التشكيلية العلائقية لقصائد العجمي يدرك أن المحمولات الجمالية تتأسس على كل ما يثير الشعرية من مظاهر استثارية خلاقة على مستوى الكلمات والجمل ومؤشرات الدلالة، ناهيك عن الوعي الجمالي في خلق اللغة الشعرية وإبراز ناتجها الجمالي،

ولعل أبرز المحمولات الجمالية التي تشكل مرتكز قصائده على المستوى الإبداعي الجمالي نجملها في المحمولات التالية:

أولاً- المحمول الجمالي الصوتي:

لاشك في أن للمحمول الجمالي الصوتي أثره البالغ في لغة الشعر، لأن الأصوات المتناغمة في بنية القصيدة تثير الرؤية الشعرية، وتحقق النغمات الشعرية المموسقة التي تربط الكلمات وأصواتها بإيقاع جمالي تحفيزي استثاري، يولد النغمات والانسجامات الصوتية المتناغمة، التي تحقق الاستثارة والجمال.

والسؤال المهم: ماهي مثيرات المحمول الجمالي في قصائد العجمي على المستوى الصوتي؟ وهل هي مثيرات صوتية تقفوية أم مثيرات تشكيلية تحققها القصيدة على المستوى الجمالي؟.

إن من يطلع على قصائد العجمي يدرك أن الشاعر يهندس أصوات قصائده هندسة لفظية، لاسيما على مستوى القوافي، إذ تأتي الأصوات الشعرية قمة في الاستثارة، والوعي، والتحفيز الجمالي، إذ إن التوليف الجمالي بين الكلمات، على مستوى الأصوات يدلل على بلاغة الرؤية الجمالية في تحفيز الأنساق الشعرية، وخلق مزاوجاتها الصوتية المؤثرة. يقول وهيب عجمي:

" مساؤكم مصابيحٌ وعشقُ

وبوحُ القلبِ في سمرِ الليالي

*

نهارٌ تحتَ جنحِ الليلِ يغفو

وسهرةُ نجمةٍ عند الهلالِ

*

ووقفة ُ جدةٍ قامتْ تصلي

على همساتِ أوراق الدوالي

*

وعصفورٌ هوى في قلب عشٍّ

تغازلهٌ نسيماتُ الظلال

*

نجومٌ فأقمارٌ وأنس

ودالية ٌ تسيرُ على الحبالِ

*

أسلي الليلَ والإصباحَ أصحو

وأنتم فرحتي وهدوء بالي"(2).

لابد من الإشارة بداية إلى أن شعرية المحمول الجمالي الصوتي تتأتى من فاعلية الأصوات المتجاورة والإيقاعات النغمية الصوتية المكتسبة من خلال فاعلية هذه العلاقة في السياق، كما في التآلف الصوتي القائم في الشطر الأول من خلال انسجام المد مع التنوين وإحداث الإيقاع الصوتي المموسق على مستوى الأصوات والكلمات والجمل (مساؤكم مصابيحٌ وعشقُ) فقد جاء التناغم الصوتي عبر تفاعل التنوين مع المد في قوله: (مصابيحٌ)، ثم تفاعل الضم مع المد في قوله (مساؤكم)، ثم خلق قيمة إيقاعية تجاورية أشعلت شعرية التجاور والمحمول الجمالي الصوتي النشط الذي أتبعه بقوله (وعشق)، وكأن الشطر الأول بانسياب محمولاته الصوتية قد خلق تقفية جمالية يمكن الوقوف عليها، ثم أتبع الشطر الأول بالشطر الثاني الذي اتبع نفس فاعلية المحمول بتناغم الضم مع الكسر، وهذا الانزلاق الصوتي من التنوين إلى الكسر جاء متناسباً جمالياً مع المد والضم في الشطر الأول ليعلن الشاعر إفضاء مشاعره وبثها بعمق للقارئ ليتحثث زفراته العاطفية المنكسرة المحمومة.

واللافت أن المحمول الجمالي الصوتي تتابع بهذه الهندسة النغمية المنظمة لإيقاعات القصيدة، وكأن التنوين بالضم قد أعطى الأبيات نغمات صوتية مضاعفة زادت الحركة الجمالية التجاورية قيمة في تحفيز القصيدة، لتسمو وترتقي جمالياً، كما في قوله:

نجومٌ فأقمارٌ وأنس

ودالية ٌ تسيرُ على الحبالِ

هنا، جاء المحمول الصوتي بالتنوين المتتابع مع المد ليمنح القصيدة هندسنها النغمية الخاصة التي تخلق المتعة والانسيابية والأنس الجمالي على مستوى الكلمات، لاسيما بتتابع العطف وتواليه ليعكس هذه الحركة الجمالية في الإيقاع ليتمتع بها القارئ، ويتلذذ بوقع التنوين والضم وتتابع المد كحالة شعورية هيجانية تثير العواطف الغزلية، وتحرك النسق الشعري بفاعلية إيحائية وأنغام منسجمة متآلفة تظهر في بنية الكلمات نفسها وعلاقتها بما حولها( نجومٌ فأقمارٌ وأنسُ) وهذا الوقوف على الضم في الشطر الأول أعاد التوازن إلى القصيدة ليكون هذا البيت إيقاعاً تابعاً جمالياً للبيت الاستهلالي، وكأنه يمثل دورة إيقاعية ثم عودة إلى النغم الأول، وبذلك يحرك الأنساق الشعرية صوتياً بإيقاعات متواشجة تزيد فاعلية البث الشعوري المنكسر والإحساس بالحنين للمحبوبة وذويها، أي إن الشاعر يحرك الإيقاعات الصوتية من نسق الكلمات ذاتها من جهة، ومن ترابطها مع بعضها بعضاً بعلاقات تفاعلية تجاورية منغمة من جهة ثانية، وهو بذلك يؤكد شعرية المحمول الجمالي الصوتي في تحريك الشعرية والإحساس الجمالي بالأبيات، من خلال علاقة المجاورة والروابط النسقية المنسجمة فيما بينها في خلق هذه الانسيابية الجمالية على مستوى الكلمات، وإبراز حيوية النسق الشعري الذي يتضمنها.

والملاحظ أن شعرية المحمول الجمالي الصوتي تتأتى من فاعلية الأصوات ونشاطها ضمن النسق الشعري، وبمقدار براعة الشاعر في استثارة محمولاته النسقية الصوتية تزداد الأصوات فيما بينها قيمة جمالية تحفيزية في خلق الاستثارة والجمالية في الأبيات، لتحقق تناغمها الآسر وتفاعلها الصوتي العجيب، كما في قوله:

" قصدتُ جُنينَة َ الأشعارِ صبحاً

لأقطفَ ما تيسرَ من نصيبي

*

فصرتُ أُداعبُ الأزهارَ عشقاً

وأعصرها بقافيتي وكوبي

*

وأصدحُ كالكنارِ على سطوري

غناءَ العشقِ في الزمنِ الغريبِ

*

وأسكبُ روحَ أشعاري بكأسٍ

أقدمها لمن أهوى بطيبِ

*

كرومُ الشعرِ في المحبوبِ تزهو

وكل الحسنِ في ثوبِ الحبيبِ

*

تسيرُ حبيبتي حرفاً فحرفاً

وبرقُ الحرفِ يلمعُ في الدروبِ"(3)

لابد من الإشارة بداية إلى أن بلاغة المحمول الجمالي الصوتي في قصائد العجمي تتمثل في هذه التناغمات والمجاذبات الصوتية المتآلفة ضمن قرائن التشكيل وعلائق المجاورة بين الأنساق لتكتسب الشعرية قيمتها واستعلائها النصي بفاعلية هذه القرائن والروابط بين الكلمات وانسجامها في خلق التآلفات الصوتية الموفقة والمجاذبات الصوتية البليغة، كما في هذا التفاعل العلائقي العجيب على مستوى بلاغة المحمولات الصوتية المتجانسة فيما بينها (صبحاً- عشقاً – حرفاً) ليخلق حركة انسجامية صوتية تفاعلية تعضد فاعلية الموازاة الصوتية بين الكلمات والأبيات الشعرية، وتحقق- في الآن نفسه- التجانس الرهيف بين الكلمات لاسيما بالفاعلية الصوتية الموقعة في بنية القوافي الشعرية: (نصيبي- كوبي- الغريب- بطيب- الحبيب- الدروب)، ناهيك عن الإيقاعات الصوتية المتجانسة التي تحققها الكلمات الفعلية بتواليها وحركتها الإيقاعية النشطة (أقطف – أداعب- أعصر- أصدح-أسكب- أقدم)، وكلها جاءت في صيغة المضارعة معتمدة ضمير المتكلم، وهذا أحدث استعلاء القيمة الجمالية المتآلفة في النسق الشعري، ليرتقي المحمول الجمالي الصوتي قيمة واستثارة جمالية في القصيدة.

وصفوة القول: إن لقصائد العجمي هندستها الصوتية على مستوى بلاغة محمولاتها الصوتية وانسجام الأصوات فيما بينها، سواء أكانت منبعثة من بنية الكلمات ذاتها أم من خلال المجاورة الصوتية التي تربط الكلمات فيما بينها، وهذا دليل أن الشعرية تمثل في قصائد العجمي شعرية تلاحمية تفاعلية على مستوى الأصوات والكلمات وانسجامها، فحتى للتنوين أثره الصوتي في خلق هندستها الصوتية المتوازنة التي تزيد شعرية الأبيات قيمة واستثارة جمالية.

وبتقديرنا: إن بلاغة المحمولات الجمالية الصوتية في قصائد العجمي ترتد إلى فاعلية الرؤيا الجمالية والهندسة الإيقاعية في تشكيل الكلمات والربط فيما بينها، لتبرز الإيقاعات الصوتية بقوة في كل نسق شعري في قصائد، فلا تجد نشوزاً أو انكساراً في الإيقاعات الصوتية في قصائده معلناً عن حركة تفاعلية انسجامية تربط الأنساق الشعرية بقوة، وتخلق مؤشرها الصوتي البليغ، وهذا ما يحسب لقصائد العجمي في حركتها وانسيابها الجمالي على مستوى محمولاتها الصوتية الجمالية بالانتقال من نسق صوتي إلى آخر، وكأن كل نقلة صوتية مهندسة ومحسوبة بدقة فلا تجري جذافاً وإنما عن وعي جمالي وحراك صوتي مموسق غاية في البلاغة والاستثارة والتأثير.

ثانياً- المحمول الجمالي الانزياحي

يعد الشعر الفن الجمالي الأبرز الذي يفتح باب المحمولات الجمالية الانزياحية في التشكيل، لأن متعة الشعر في اختراقه وكسره لكل ما هو تقليدي أو نمطي في التشكيل، ولهذا يبقى الشعر الفن الجمالي العصي عن التنميط والتقعيد، لأنه المتغير دوماً في أساليبه ورؤاه كما الحياة، ولابد حيال ذلك أن يحتفي الشعر بكل ما هو جديد وانبثاقي ومستقبلي في الحياة، ولا يمكن أن يسمو الشعر، ويرتقي إلا من جانب الإبداع والابتكار والتجدد الدائم في أساليبه ورؤاه ومنظوراته الإبداعية. ولهذا يقول أحمد محمد ويس:" إن الانزياح استنطاق غير عقلي للغة، يتملص من المعاني القربية التي تبوح بها المفردات. والشعر يمتلك بنية لغوية خاصة تعبر عن الأفكار والأشياء بطريقة غير مباشرة، لأنها تقول شيئاً وتعني شيئاً آخر"(4).

أي إن الشعر تملص من المعاني القريبة إلى المعاني البعيدة، وما يعنيه أبعد مما تدل عليه الكلمات، وبهذا المعنى قرن الويس الانزياح بالدلالة وربطه ربطاً ملاصقاً بالدلالات وتناسى القيمة الجمالية للانزياح في خلق الاستثارة واللذة الجمالية في الشعر، فثمة انزياحات شعرية مائة بالمائة لايمكن تناسي دورها وفاعليتها في اللغة الشعرية، من حيث البكارة والاستثارة والقيمة الشعرية أو الشاعرية التي تحققها القصيدة في بنيتها النصية.

والسؤال المهم الذي نطرحه على خارطة التداول النقدي:هل ثمة شعرية أو بلاغة خاصة في المحمولات الجمالية الانزياحية في قصائد العجمي؟

وهل محمولاته الانزياحية شعرية أو محققة للإثارة الشعرية في قصائده؟

وهل ثمة تخطيط جمالي وحنكة جمالية في استثارة الأنساق الشعرية في قصائد العجمي؟

إن من يطلع على قصائد العجمي يدرك أن المحمول الجمالي الانزياحي يحقق قيمة عظمى في أنساقها الشعرية، إذ إن الانزياح بؤري تكويني في استثارة المحمول الجمالي، لدرجة أن الأنساق التشكيلية الوصفية المنزاحة تدل على غنى الشعرية في قصائده، من حيث تلوين الدلالات والرؤى الشعرية لتحقق قيمة جمالية بؤرية في تشكيلها تنم عن خبرة جمالية وإحساس إبداعي خلاق.كما في قوله:

" شكوتُ للعشقِ كم عانيتُ في سهري

 والعشقُ يشكو ليالي الشوقِ للشاكي

*

رسمتُ وجهكِ شعراً عبر قافيتي

وما بلغتُ مع الإبداعِ مرماكِ

*

بسطركِ الحرفُ في أهدابهِ اشتعلتْ

روحُ البلاغة لما القلبُ ناداكِ

*

إن غبتِ عني فأنتِ النبضُ في رئتي

وفي غيابكِ كلُّ العيدِ ذكراك"(5).

لابد من الإشارة بداية إلى أن المحمول الجمالي الانزياحي- في قصائد العجمي- يتأتى من بلاغة الصور المنزاحة وقيمتها التصويرية الخلاقة بمعانيها ورؤاها، إذ يستشعر القارئ المتعة الجمالية في المحمولات التصويرية المباغتة التالية:[ والعشق يشكو ليالي الشوق للشاكي- بسطرك الحرف في أهدابه اشتعلت روح البلاغة]؛ فالقارئ يتحثث المحمول الجمالي الانزياحي في هذه الصور الرومانسية التي تدلل على عمق الاستثارة الشعرية وفاعلية الرؤية التشكيلية التي تحقق غايتها وقيمتها النصية.

ولو تأملنا فاعلية الصور ومحولاتها الجمالية في الأنساق الشعرية السابقة لتأكدت لنا حقيقة جوهرية، وهي أن الشاعر يعيش حالة من الإحساس والجمالية في بث حالته الغزلية بصور جمالية تحفيزية غاية في الاستثارة واللذة الجمالية، وكأن الشاعر يرسم الدلالات والصور الشعرية رسماً دقيقاً غاية في الاستثارة والتحفيز النصي. فالقارئ سرعان ما يدرك جمالية الأنساق الشعرية عبر محمولاتها التصويرية الرومانسية التي تخلق بلاغة محمولاتها الجمالية عبر الأنساق التصويرية المنزاحة التي ترفع قيمة الصور الشعرية، وتحقق غايتها الإبداعية النشطة جمالياً.

والملاحظ أن بلاغة المحمولات الجمالية المنزاحة في قصائد العجمي تتحقق من خلال فاعلية الأنساق الشعرية التي تبرز فيها الانزياحات الجمالية بوضوح وحياكة جمالية آسرة، كما في قوله:

" أنا لا أقولُ بأنكِ الفجر الذي

 خطفَ الفؤادَ لعالمِ الأسرارِ

*

لكنكِ العشقُ الذي أدمنتهُ   

فنقشتُ فيكِ سبائكَ الأشعار

*

ورسمتُ وجهك في الوجود قصيدة

 صبيانها وبناتها أفكاري

*

أحسستُ إني في سمائك كوكبٌ

ما بين نجمك والصباح ناري

*

ما كنتُ قبلك أعرفُ الحب الذي

اجتاحت به شمسُ الحنين مداري

*

كلا ولا انتعشَ الفؤاد بقبلةٍ

بصمت على ثغرِ الحلا آثاري"(6).

هنا، يباغتنا الشاعر بمحمولاته الجمالية المنزاحة التي تبدو فيها الصور قمة في التعبير عن إحساسه الغزلي الترسيمي الجمالي:[اجتاحت به شمس الحنين مداري]، فهذا الانزياح الجمالي التحفيزي أثار فاعلية المحمولات الجمالية لترتقي الرؤية الغزلية وتبرز شعرية النسق الانزياحي، وكأن وجه الجبيبة المشرق قد أجج مشاعره واجتاحت شمس الحنين آفاقه وعالمه لينتعش فؤاده بعشقها الذي أضاء ثغره بالابتسامات والأماني العذبة، وهكذا يؤكد الشاعر بلاغة محمولاته الجمالية المنزاحة التي تؤدي دلالات جديدة تستثير الرؤى الشعرية، وتحقق قيمتها الجمالية.

والملاحظ أن شعرية المحمولات الجمالية المنزاحة في قصائد العجمي تتمثل في بلاغة الانزياحات الخلاقة على مستوى الأنساق الشعرية لتبرز بدقة عالية، وفاعلية أسلوبية خلاقة بمتغيراتها الأسلوبية، كما في قوله من قصيدة (عانقيني) مايلي:

قومي إليَّ وعانقي مشتاقا

يسعى إليك متيماً توّاقا

*

من قلبهِ سكبَ الحروفَ لوردةٍ

فغدا القصيدُ كثغرها براقا

*

والكوكبان تألقا في صدرها

وتعادلا فتقاسما الترياقا

*

من قدها الممشوق كلُّ نخيلةٍ

أخذت مداها والجنى والساقا

*

وتمايل السعفُ الرصينُ كشعرها

يهوي على أعطافها رقراقا"(7).

إن القارئ هنا أمام محمولات جمالية منزاحة غاية في الاستثارة والتحفيز الجمالي، وكأن الشاعر يرسم الدلالات رسماً جمالياً خلاقاً من خلال بلاغة الصور واستعلاء قيمها التشكيلية لاسيما بهذه الصورة الجمالية التي ارتقت بفاعلية المحمولات الجمالية: [وتمايل السعفُ الرصينُ كشعرها  يهوي على أعطافها رقراقا]، فهذه الصورة المنزاحة استعلت بفاعلية المحمولات الجمالية التصويرية لتبرز القيمة الجمالية في الأنساق ككل، وكأنها قطعة واحدة، وهكذا، أثارنا العجمي بمحمولاته الجمالية المنزاحة على مستوى التشكيلات اللغوية والتصويرية المبتكرة التي تفيض بدلالاتها ورؤاها النصية، ليؤكد الشاعر عمق الدلالات التي تبثها القصيدة في ثناياها ورؤاها الشعرية.

وصفوة القول: إن شعرية المحمول الجمالي الانزياحي- في قصائد العجمي- تؤكد هندسته التشكيلية في استثارة الأنساق التشكيلية الجمالية التي تحقق غايتها الإبداعية، وفق مؤثرات تشكيلية تملك محفزها الجمالي ولغتها الآسرة، وهذا دليل أن غنى الشعرية في قصائد العجمي من غنى المحمولات الجمالية المنزاحة أو التشكيلية المراوغة بإثارة المجاذبات التشكيلية البليغة التي تترك أثرها في المتلقي من خلال بلاغة الصور أو التشكيلات الأسلوبية المفاجئة التي تخلق بلاغتها وانزياحها الصادم من خلال عمق الرؤيا وبلاغة المخيلة الشعرية.

ثالثاً- المحمول الجمالي التصويري:

لاشك في أن الشعر بالأساس فاعلية تصويرية، وهذه الفاعلية التصويرية تملك قيمتها التأثيرية من خلال بلاغة الرؤيا، والمخيلة الشعرية التي أنتجت الصور، وما بلاغة المحمولات الجمالية المرتبطة بالصورة إلا دليل مهارة الشاعر التخييلية في إنتالج الصور المؤثرة التي تحرك الشعرية من العمق، لأن الصورة في الشعر ليست سكونية أو وصفية محضة، إنها قد تعتمد لغة الوصف والسرد لكنها تنأى عن هذه اللغة بالإيحاءات العميقة والمعاني المفاجئة الصادمة، إذ الشعرية – دائماً وأبداً – انفتاح جمالي في الأفق الشعري لدى الشاعر، ولا يمكن للشعر أن يسمو درجات من الاستثارة واللذة الجمالية بعيداً عن المحمولات الجمالية القائمة في الصورة الانزياحية البليغة التي ترتقي بالمحمولات الجمالية وترقى بها، فالمحمولات الجمالية هي المؤثرات والمحفزات الجمالية المحركة للأنساق الشعرية لتسمو وترتقي بمسارات القصيدة على المستوى الإبداعي.

وبتصورنا: إن الوعي الجمالي في تشكيل قصائد العجمي- هو وراء غنى محمولاته الجمالية بالمؤثرات الخلاقة التي تبرز الأنساق الشعرية بجمالية ولذة تشكيلية، وهذا يعني أن الصورة ليست حالة شعورية أو قناة اتصال بين المبدع والمتلقي بقدر ما هي طاقة خلاقة تؤجج الشعرية من العمق، والشاعر المؤثر جمالياً هو الذي يشكل محمولاته الجمالية التصويرية المباغتة التي تثير الحساسية الجمالية، والمعنى الجمالي المتوهج، والرؤيا الجمالية الحساسة، لأن" الصورة هي التي تساعد على الدخول في عالم القصيدة، وليس معرفة غرضها، بل إضاءتها وكشف أسرارها اللغوية، وتفسير نظام بنائها، وإدراك العلاقات فيها"(8).

وبما أن الصورة الشعرية هي طاقة إبداعية بحد ذاتها فإن ما يغنيها محمولاتها الجمالية الخلاقة التي تبرز شعرية الرؤى والدلالات الإيحائية المكثفة التي تثيرها الصور الشعرية في القصيدة.

والتساؤل المهم على خارطة التداول النقدي:

ماهي مؤثرات الصورة الشعرية وتنامي محمولاتها الجمالية في قصائد العجمي؟

هل محمولاتها الجمالية في تشكيل الصورة ترتبط بفواعل الرؤيا ونواتجها الدلالية أم أنها تنفصل عنها في الكثير من مؤثراتها الجمالية في قصائد العجمي؟

وهل ثمة اغتراب جمالي في خلق الرؤيا الدهشة الصادمة التي تثير الموقف، وتحفز الرؤية النصية وهل ترتبط بالمحمولات الجمالية للصورة أم تنفصل عنها؟

لاشك في أن مؤثرات الصورة عبر فاعلية المحمولات الجمالية في قصائد العجمي تتبدى في تفاعل هذه المحمولات الجمالية مع الرؤيا ونواتجها الدلالية، فالصورة في قصائد العجمي ليست عبثية، وليست سكونية، وإنما حالة من التناغم الجمالي الخلاق بين الأنساق الشعرية، لتأتي الصورة في قصائد العجمي طاقة تخييلية وإبداعية خلاقة بمؤثراتها ومغرياتها النصية، والشاعر المبدع حقيقة يدرك القيم الجمالية الخلاقة التي تثيرها قصائد العجمي على مستوى الصورة ومؤثراتها النصية الخلاقة، كما في تناغم الصور التالية على مستوى محفزاتها ومثيراتها التصويرية التالية:

"لونُ عينيكِ انفراجاتُ الفصول

فيها أسرابُ أسرارٍ تجولْ

*

حارتِ الأقلامُ في تفسيرها  فارتمتْ

أسرى بدنياكِ العقول

*

وقلوبُ الناسِ لما خفقتْ

سارعتْ ترجو لعينيكِ الوصول

*

فالتقت فيكِ فطارت فرحة

بعدما انتاب مآقيها الذهول

*

فزهتْ فيكِ قناديل الربى

وارتوتْ عطراً أزاهير الحقول"(9).

هنا، يباغتنا العجمي بالمحمولات الجمالية التصويرية التي تخلق درجة من التكثيف، والشعرية والإيحاء، واللافت أن كل صورة تشكل في قيمتها فاعلية ارتقاء المحمول الجمالي، من حيث كثافة الدلالات والرؤى الجمالية التي تنطوي عليها كل صورة لتحقق فاعلية قصوى في الاستثارة والتأثير، كما في الأنساق الشعرية التالية:[لون عينيك انفراجات الفصول]، ثم يخلق إيقاعات جمالية في ربط الصورة السابقة بالصورة اللاحقة:[فيها أسرابُ أسرار تجول]؛ فالقارئ هنا يتحثث المعاني الجمالية الخلاقة التي تثيرها الصور بائتلافها وتناغمها وفاعليتها التشكيلية، كما في قوله:[فزهت فيك قناديل الربى/ وارتوت عطراً أزاهير الحقول]؛ولما كانت الصورة قيمة استعلائية عالية بمحمولها الجمالي فإن ما يحفزها التضافر والتآلف الإسنادي بين الأنساق لتسمو وترتقي بفاعلية إسنادية خلاقة بالدلالات والمعاني والرؤى الجمالية، لدرجة أن محبوبته تزهو بقناديل الربى، وترتوي من عطرها الروحاني أزاهير الحقول، وهكذا جاءت المحمولات الجمالية التصويرية قمة في التكثيف والإيحاء والشعرية، مما يدل على أن بلاغة الشعرية تتحقق من جمالية المحمولات التصويرية التي تثير الشعرية من العمق. وهذا دليل أن الشعرية –عند العجمي- شعرية ائتلافية تشكيلية تحققها على المستوى الإسنادي لتسمو درجات من الوعي والاستثارة والتأثير.

والملاحظ على المستوى الفني أو الجمالي تنوع المحمولات الجمالية في قصائد العجمي التي تدلل على بلاغة جمالية في خلق الاستثارة الجمالية في التشكيل الشعري، من خلال الحياكة الجمالية واستثارة الأنساق الشعرية الخلاقة بالدلالات الجديدة، كما في قوله:

"لأجلكِ أمتطي جسرَ المنايا

وإن وقعت على طرفيه حربُ

*

وما أثنى فؤادي عنكِ خطبٌ

فقلبُ العشقِ لايثنيهِ خطبُ

*

وإنكِ للمحبةِ كلّ عينٍ

وعينُ الحبِّ للإبداعِ ربُّ"(10).

لابد من الإشارة بداية إلى أن بلاغة المحمولات الجمالية التصويرية في قصائد العجمي تثير الحساسية الجمالية في تلقيها والتفاعل معها، وكأنها قيمة تشكيلية تبرز الدلالات، وتحقق أعلى قيمة في تمثيلها، لاسيما بالصورة الاستعارية (جسر المنايا/ وقلب العشق لايثنيه خطب)، فالقارئ يتحثث المعاني الجمالية، ويستثير الدلالات والرؤى الشعرية، وهكذا يحقق الشاعر استثارة جمالية في محمولاته التصويرية التي تأتي قمة في المباغتة والجمالية الفائقة، وهذا ما نلحظه في قوله:

" لا للكروم ولا لفيء ظلالها

ما لم تبح بثمارها أشجاري

*

لا للحياة بأصلها وفرعها

ما لم تفح بعطورها أزهاري

*

لا للربيع لزهره ووروده

ما لم تغرد للضيا أطياري

*

بالشعر لا أشدو ولا ببحوره

ما لم تهم  بحروفها أشعاري

*

للنهر لا أسعى ولا بجماله

ما لم تمجد أرضها انهاري"(11).

هنا، يباغتنا الشاعر بالهندسة التصويرية التي تعتمد التوازي نقطة استثارة جمالية في تفاعل المحمولات الجمالية التصويرية، وخلق استثارتها المباغتة، فالقارئ –هنا- يدرك اللعبة الجمالية التشكيلية التي تثيرها الأنساق الشعرية، لتحقق قيمة تشكيلية عالية، تبرز من خلال مؤشرات المحمولات التصويرية البليغة، كمافي قوله:[ مالم تهم بحروفها أشعاري/ مالم تغرد للضيا أطياري]؛ وهكذا، تأتي المحمولات التصويرية مباغتة فياستثارة الرؤى والدلالات وتحفيز المنظورات الجمالية في تشكيل القصيدة، ووفق هذا التصور، فإن ما يغني الشعرية الحركة الجمالية التشكيلية المفاجئة التي تبثها الأبيات الشعرية لتحقق قيمة جمالية تأثيرية في النسق الشعري.

وهذا دليل أن المحمولات الجمالية التصويرية في قصائد وهيب عجمي متنوعة في مساعيها ومؤثراتها الجمالية من حيث تحفيز الأنساق الشعرية واستثارة الرؤى الجمالية التي تدلل عليها بلاغة الصور الموحية بالعاطفة الرومانسية التي تتناغم مع المدلولات والرؤى الصوفية في تعميق فاعلية الصورة الوصفية والمشهدية والتشكيلية المراوغة. وتبعاً لهذا تختلف الدلالات الشعرية، وتسمو بمؤشرها الجمالي لتحقق قيمة تشكيلية عظمى في خلق الاستثارة الجمالية.

وصفوة القول: إن شعرية المحمولات التصويرية في قصائد وهيب عجمي تتأسس على محفزات الصور الشعرية وتنوع دلالاتها ورؤاها، ومؤثراتها التشكيلية التي تسمو وترتقي تبعاً لفاعلية الرؤى التشكيلية التي تثيرها الصور الشعرية في نسقها الشعري، وهذا دليل احتفاء قصائد العجمي بالصور المحملة بالقيم والدلالات الرومانسية الآسرة،  لدرجة ترتقي الصورة آفاقاً إيحائية غاية في الاستثارة والبلاغة والتأثير.

رابعاً المحمول الجمالي المشهدي

إن الشعر باحتفائه بالمشهدية قد فتح المجال واسعاً للشعرية أن تمد جذورها الإبداعية في مختلف المؤثرات الجمالية التي تفعِّل الحركة الجمالية في بنية القصيدة المعاصرة، وهذا يعني أن الحركة الجمالية التي تثيرها المحمولات الجمالية المشهدية في بنية القصيدة المعاصرة قد أكدت أن ثقافة الصورة من مغريات القصائد الحداثية في تنوع المؤثرات التصويرية، فنشأت قصائد اللوحة وقصائد المشاهد المتحركة، وقصائد الكاميرا المتحركة وقصائد المشاهد البانورامية السيمائية في تشكيل اللقطات، لتكون الشعرية الحداثية اليوم شعرية اختلافية في منظوراتها الإبداعية وطاقاتها الخلاقة، لاسيما على صعيد تنوع المحمولات الجمالية المشهدية بالتناوب بين المشاهد الصامتة والمشاهد المتحركة والرؤى الوصفية والرؤى البصرية التي ترصد سيرورة المشاهد الحسية بواقعية وإدراك بارز يتضح للعيان.

وبما أن الشعرية اليوم كتلة متغيرات واستثارات تشكيلية فإن ما يغريها هذا الحراك الأسلوبي الجمالي على صعيد الرؤى الشعرية لتبرز بجمالية وإحساس إبداعي حقيقي، إذ إن الصور المؤثرة مشهدياً هي الصور التي تتنوع دلالاتها ورؤاها لتحقق قيمة جمالية عليا في تشكيلها.

والسؤال الذي نطرحه على خارطة التداول النقدي:

ماهي مغريات المحمولات الجمالية على المستوى المشهدي في قصائد العجمي؟ وهل محمولاته الجمالية مشهدية حسية ملتقطة من الواقع الحياتي المعيش أم أن مشاهده الشعرية متخيلة أو مجردة؟

يخطئ من يظن أن المشاهد الشعرية في قصائد العجمي حسية مرئية مباشرة، وإنما هي طاقة تخييلية تتأسس على فضاء المتخيل الجمالي في فكر الشاعر، فالفكر الجمالي الإبداعي المميز الذي يتملكه وهيب عجمي وراء هذا الحراك الشعوري والتوهج الإبداعي في مشاهده الشعرية، كما في قوله:

"باحت عيوني بسرٍّ كنتُ أكتمهُ

ورحتُ شعرَ بريقِ الوجدِ أبتكرُ

*

أبوحُ حبًاً بم يدلي به كبدي

وما استطعتُ بعينِ العشقِ أستترُ

*

قصائدُ العشقِ ماكانت لتكتبني

إلا لأنكِ في أزهارها العطرُ

*

كنارُ حبكِ ما غنى بأمسيتي

إلا وحرفكِ في إنشادهِ الوترُ"(12).

لابد من الإشارة بداية إلى أن شعرية المحمولات الجمالية المشهدية في قصائد العجمي تتأسس على بلاغة المشاهد الشعرية ومتحولاتها النصية، إذ إن المشاهد تتفاعل فيما بينها لتحقق قيمة جمالية تثير اللقطات لتبرز الرؤية الشعرية بالإجمال والتفصيل، فالشاعر بداية يرسم المشهد الشعري بقوله:[ باحت عيوني بسر كنت أكتمه]، وهذا المشهد حرك الرؤية الشعرية لتبرز الدلالات بوضوح :[ كنارُ حبك ماغنى بأمسيتي إلا وحرفك في انشاده الوترُ]؛وكأن اللقطات والمشاهد الشعرية الرومانسية بمحولاتها الجمالية تفتح باب الوصف السردي المشهدي للتعبير عن مشاعر الشاعر وأحاسيسه المتوترة.

واللافت أن المشاهد الرومانسية التي تثيرها قصائد العجمي تتوقف على بلاغة الصور، ومؤثراتها التشكيلية لتأتي قمة في التكثيف والاستثارة الجمالية لاسيما ببلاغة المحمولات الجمالية المشهدية التي تعزز شعرية القصيدة وتسمو بها مشهدياَ، كما في قوله:

"تكحلي يا بحورَ الشعرِ وانطلقي

مع عاشقِ النجمة الحمراء في الأفقِ

*

لا الشمسُ مشرقةً ترقى لطلتها

لا البدرُ يشبهها في برجها الألقُ

*

ولا السماءُ وما تحوي مظلتها

ضاهتْ شموخاً به ديني ومعتنقي

*

حريتي هي بل سميتها رئتي

وليس لي غيرها في زحمةِ الأفق"(13)

هنا، يثيرنا العجمي بالمحمولات الجمالية المشهدية، ليحقق قيمة جمالية تحفيزية ترتقي من خلالها القصيدة درجات من الاستثارة، والفاعلية،  واللذة الجمالية، كما في المشاهد المتضافرة التالية:[ تكحلي با بحور الشعر وانطلقي/ مع عاشق النجمة الحمراء في الأفق/ لا الشمس مشرقة ترقى لطلتها/ لا البدر يشبهها في برجها الألق]؛ ولو تأمل القارئ سيرورة الصور والمشاهد الشعرية لتأكدت له حقيقة مهمة، وهي أن المحمولات الجمالية المشهدية متضافرة فيما بينها في بث مشاعره الغزلية المتأججة في الوصف، أي إن اعتماد العجمي الوصف في ابتعاث حركة المشاهد يجعل الحركة المشهدية أشبه بالمتواليات المشهدية أو مصفوفات من اللقطات والمشاعر المتأججة بين الصورة والصورة، واللقطة واللقطة الأخرى، مما يدلل على شعرية مشاهده ورؤاه الشعرية التي تحيط بالموقف والحدث والمشهد الشعري.

وصفوة القول:

إن شعرية المحمولات الجمالية المشهدية – في قصائد العجمي- تتأتى من بلاغة المشاهد الشعرية وحركة الدلالات التي تبثها قصائد العجمي، فلايجد القارئ زوغاناً مشهدياً يحطم شعرية المشاهد، بل إن المشاهد الشعرية متضافرة فيما بينها في تحقيق قيمة جمالية تأثيرية عالية، مما يدلل على شعرية بليغة في حركة المشاهد الرومانسية التي تثيرها قصائد العجمي في الكثير من موحياتها ومؤثراتها الغزلية المفتوحة؛ وهكذا يرقى العجمي دلالات من الاستثارة والجمالية في قصائده لتحقق قيمة جمالية مؤثرة لا يرتقيها إلا من تغور فن الشعرية والاستثارة الجمالية في الخلق النصي.

نتائج أخيرة:

1- إن شعرية المحمول الجمالي الصوتي في قصائد العجمي تتحدد من خلال الائتلافات والمتناغمات والمتجانسات الصوتية التي ترقى درجات من التكثيف والاستثارة الجمالية، أي ثمة حزم صوتية متضافرة تشي بطابع القصيدة الصوتي الانسيابي المموسق، ليأتي المحمول الجمالي الصوتي قيمة بنائية جمالية في تحريك الشعرية من العمق.

2- إن شعرية المحمول الجمالي الانزياحي في قصائد العجمي تشي بإيقاعاتها التشكيلية البليغة والانزياحات الخلاقة التي تولدها على مستوى علاقة الكلمة بالكلمة والجملة بالجملة، أي ثمة ارتباط علائقي جمالي على مستوى الروابط والبنى الدالة في القصيدة لتسمو وترتقي إبداعياً في النسق الشعري. وهذه الانزياحات نتيجة المحمولات الجمالية الخلاقة التي تثير الحساسية والرؤية الجمالية البليغة في مدها وجمالها واندماجها النصي.

3- إن بلاغة المحول الجمالي التصويري في قصائد العجمي ينم على جمالية تصويرية فائقة في قصائد الشاعر لاسيما في محمولاتها الجمالية التصويرية التي تكون فيها درجة الانزياح حادة أو بليغة بين المضاف والمضاف إليه، أو بين المسند والمسند إليه، لتأتي الصور قمة في الترسيم الرومانسي الجمالي والمعنى العميق.

4- إن شعرية المحمولات الجمالية المشهدية في قصائد العجمي تتأتى من بلاغة المشاهد الوصفية وعمقها في استثارة الرؤية الشعرية من الصميم، فالذي يغني الحركة الجمالية في قصائد العجمي حياكتها النصية، وبلاغة مشاهدها التصويرية المتحركة لتؤكد شعرية المشاهد الوصفية لديه، وقدرته على الجمع بين المشاهد بطريقة تشكيلية بليغة الرؤى والدلالات والمشاهد الشعرية.

***

د.عصام الشرتح – ناقد سوري

............................

الحواشي:

(1) حني، عبد اللطيف- شعرية الانزياح وبلاغة الإدهاش في الخطاب الشعري الشعبي الجزائري( ديوان محمد ابن مسايب التلمساني أنموذجاً) ص39.

(2) عجمي، وهيب، 2018-وردة العشق، دار البنان، ط1، ص74.

(3) المصدر نفسه، ص73.

(4) محمد ويس، أحمد، 1995- الانزياح بين النظريات الأسلوبية والنقد العربي القديم، إشراف عصام قصبجي، رسالة ماجستير، مخطوط جامعة حلب، ص132.

(5) عجمي، وهيب، 2018-وردة العشق، دار البنان، ط1، ص80-81.

(6) المصدر نفسه، ص95-97.

(7) المصدر نفسه، ص102.

(8) عبد اللطيف، محمد حماسة، 1991- منهج في التحليل النصي للقصيدة، مجلة فصول، القاهرة، مج15، ع2، ص19.

(9) عجمي، وهيب، 2018-وردة العشق، ص71-72.

(10) المصدر نفسه، ص69-70.

(11) المصدر نفسه، ص97-98.

(12) المصدر نفسه، ص108.

(13) المصدر نفسه، ص110.

للشعر طريق مختلف في فهم الوجود ومنحى آخر في ملامسة وتحسس الموجودات والتفاعل معها، وفق رؤية فنية تساير الحياة في حركة دؤوبة، مما لاشك فيه ان المرأة مكون رئيسي في هذا الوجود، يعد دور الامومة أهم الادوار في حياة المرأة ودورا اساسيا في قيام المجتمع والحضارات فضلا على الادوار الاخرى الزوجة التي تساند زوجها وتمسك بيده وتشدّ عليها في وقت المصاعب..

ومع حركة الحداثة في الشعر التي تنشد الجديد ومحاولة لتجاوز كل ما هو تقليدي التي تناولت صورة المرأة، نبلها وانسانيتها وعفتها وكرامتها والمرأة الاخت والحبيبة وصور أخرى ورؤى واجراءات حداثية، فهي المرأة الانثى،والمرأة الفاتنة، أو المرأة الجسد، والمرأة الغريزة، والمرأة الراغبة والمرأة الممتنعة ..

وأنا أقف عند مجموعة (قلبي وطن وجسدك غابة) للشاعر سعد جاسم في طبعتها الاولى الصادرة عن دار لوتس للنشر والتوزيع القاهرة،2023 .

نجد الشاعر مصورا المرأة الانثى بجمالها وجاذبيتها وانوثتها مالكا لها قلبا وروحا وجسدا، تثير المرأة الانثى فيه شعور القوة وشعور الجمال ومصدر الوحي وطاقته الشعرية فهي الوطن والارض الذي لا يغيب عن ذهنه مهما ابتعد عنه، حاضره في القلب فكما يشعر بالإحساس والامان والدفء كذلك المرأة هي وطن .

غلاف المجموعة بغلافها الذي زين بلوحة فنية للفنان ستار كاووش عتبة ومدخلاً موحياً ومفتاحاً إجرائياً في التعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي للولوج الى أغوار النص يتربع اعلا اللوحة العنونة الشعرية (قلبي وطن وجسدك غابة) كعتبة أولى التي تمتلئ بقيم النص مادام النص كما يوضح جيرار جينيت" مدخل له اهميته،يدفع القارئ الى حث الخطى والسير قدما نحو اكتشاف عوالم النص الشكلية المعنوية". فالعنوان هو النص المكثف،او نص قصير يختزل نصاً طويلاً1

جاءت المجموعة بإضمامة ثلاثة وعشرين عنوان: 

(قلبي وطن وجسدك غاب ) عنونة شعرية لافتة و بمثابة استهلال فني يحمل تصورات الحداثة حيث يعد من العناصر المهمة، لعل العنوان يعد اولى العتبات المفضي للنص ومن مناصاته المهمة وعلامة دالة تختزل عالما من الدلالات وهو مفتاح تأويلي يسعى الى ربط القارئ بنسيج النص الداخلي، عنوان استنبطه الشاعر من مضمون المجموعة مباشرة:

أما على مستوى النصوص فان اللغة،عند الشاعر سعد جاسم، ففيها من الجمال والصور الشعرية مليئة بالإنزياحات اللغوية ومن استعارة ومجاز واضداد وأنسنه للأشياء والامكنة ومفارقات لفظية تبهر المتلقي كما في بعض العنونة التي وردت في المجموعة: أغنية خضراء/ الإقامة في كتابك/ سرك في مراياه/ حالات غرائبية / عاشقان في طوفان/ امرأة تشبه القصيدة/ أنجز بعيدا/ قطط المواسم والطقوس / إشراقات عشقية / في مديح الأنوثة / ثنائية الفحل والأنثى/ حب في الأعالي/  حب بلا أقنعة/  قبلة موقوتة / أرسمك بالقهوة والقبلات/ أميرة الفصول وسيدتها القزحية/ امرأة الشهقة الأخيرة / أنوثة عطر/  غزالة الأبدية

قصائد المجموعة الشعرية تتنوع عتباتها العنوانية الا انها ذات مناخ شعري واحد يكاد يهيمن على تجربة قصائدها مناخ العشق للمرأة والوطن:

ان ما جاء به الشاعر نصوص حداثوية من حيث انها تتماشى مع روح العصر واعتماده في اشتغالاته تكثيف الجانب الدلالي لتحقيق الايقاع الداخلي من خلال جملة الانزياحات فضلا عن شعرية نصوصه تتجلى في العديد من قصائده:

أغنية خضراء

أنت الآن

تسكنيني قصيدةَ شغفِ

وقُبلةَ ولعٍ

وضحكةَ فرحٍ كوني

وأغنيةً فيروزيةً خضراء

دائما تترددُ أصداؤها

في صباحاتِ الله

(أنا لحبيبي...

وحبيبي إلي)

وتبقى تتصادي وتتلألأُ

في غاباتِ الوحشة

وفي حقول الخزامى

يرسم لنا الشاعر بلغة ابداعية نابعة من هواجس نفسية صورة المرأة الانثى وصور متعددة أمام المتلقي صورة لغوية تجديدية تعطي للقصيدة دلالاتها بعيدا عن السطحية المملة كما في قصيدته (الإقامة في كتابك)ص6

كمن يقيم في فردوس

أنا أقيم في كتابك

مشغولا بقراءةِ سيرتكِ

وتاريخ جسدك المليء

بالأساطير والوقائع والحكايات

والمكتنز بينابيع العطر والعسل

ومياه الخلقِ

والمكتظ بالرغبات

ونوتاتِ اللذّة

وقصائد الشغف

ياااااه كم هو شاسعٌ

وباذخٌ وممتلئ بالأسرار

أظهر الشاعر جماليته اللغوية في التصوير الشعري في التعبير عن العشق يتجلى ذلك في مقطع من قصيدته (عاشقان في طوفان) ص15:

أنا بارع في الحب

وأنت بارعة في الغواية

وأنا شاسعُ القلب

وأنت كثيرة ُ الاحلام

وكلانا عاشقان بسيطان

فتعالي كي نطير

بعيداً

فهذا العالم الجاحد

قد ضاق بنا

ولم يعد يستوعب أحلامنا

وبياض ارواحنا الرهيفة

اذ احسن الشاعر في اختيار المفردة كون الاختيار مبدأ من مبادئ المقاربة الاسلوبية وهو اختيار واع للكلمات يتجاوز حدود الكلمة المفردة الى التركيب او الجملة، يصوغ الكلمات المختارة ويركبها لتؤدي صورتها الادبية ووظيفتها الجمالية..

وعلى هذا النحو للشاعر سعد جاسم له طريقته في الكتابة واسلوبه في استخدام الادوات التعبيرية من اجل ايصال رسالته الى المتلقي.

***

طالب عمران المعموري

 

مقدمة: يحكى إنه في احدى الليالي من 1694 بينما كان معلم الهايكو الأول الشاعر الياباني ماتسوو باشو يلفظ أنفاسه الأخيرة وحيدا في ظلمة الليل وحلكة العزلة، وقد شارفت روحه على الوداع الأخير، وفي تحد  كبير لهذا الموقف الذي يدفع أغلب الناس إلى الانكفاء والاستسلام، أخذ ورقة شجرة كانت قد سقطت للتو، وكأنها في تما ه واضح مع موته، فكتب عليها:

مريض وقت ترحالي

وأحلامي تتجول طافية

 في الحقول الذابلة

وإذا كانت هذه اللحظة القصيرة جدا، والفارقة أيضا في حياة الشاعر، هي بداية شعر الهايكو، فهي بتعبير آخر موت تحققت معه الحياة. ومن ثم نستطيع القول إن هذا الشعر رغم بدايته تحت هذه اليافطة اليابانية المحدودة استطاع أن يتجاوز الحدود المسيجة والمانعة للثقافة في بعدها الإنساني، ليدخل جغرافيات العالم المترامية دون جواز سفر مدموغ.

ولم يكن له في هذه الهجرة الشرعية، بحثا عن آفاق أرحب، إلا زاد واحد ؛ إنه زاد الجمال مخلوطاً بطبيعة آسرة وحب دافق للحرف في تعبيره البسيط عن العواطف الانسانية.

وطبعا لن تكون الجغرافية العربية استثناء من هذا، فقد عانق الهايكو، كما سابقيه، جماليات الشعر العربي، ذاك الذي عرف عنه فرادته واختصاصه بالمطولات والقوافي.

فإلى أي حد استطاع الهايكو أن يجد لنفسه موطئ قدم في أرض عربية تعج بالشعر والنثر وتفتخر بتاريخ مجيد في الاحتفاء بهما خطابة ومقالة وتقريضا ونقدا؟

وهل وجد الوافد الجديد احتضانا من أهل العربية في ظل تنكر النقاد ل" الهايكو " إلى الحد الذي اعتبره البعض " فنا قصصيا بكلمات أقل " ؟

أولا - التعريف بالهايكو:

الهايكو بين "جينكجو" و"كيغو"

تعد قصائد الهايكو قصائد قصيرة تستخدم لغة حسية فتقدم للمتلقي نقلاً لإحساس الشاعر، أو صورة أثارت مخيلته فهيجتها ودفعته ليبدع تلقائيا.

وهناك من الباحثين من يعد الطبيعة أو المشاهدة الجمالية و التجربة المثيرة التي يعيشها الشاعر مصادر أساسية لإلهام شاعر الهايكو.

هذا النظام من كتابة الشعر ابتدعه مجموعة من شعراء اليابان، وتم تبني هذه الطريقة في الكتابة بكل لغات العالم إلى أن وصل إلى العربية. و تستخدم هذه القصائد في أصلها لنقل لحظة عابرة أو صورة مثيرة من الطبيعة: صورة ضفدع يقفز في بركة مائية، حبات برد تتساقط على أرضية، أو قطرات مطر تعانق وردة جميلة، ولعل هذا سر تفرد هذا النوع الشعري دون غيره.

لذلك ارتبط هؤلاء الشعراء بالطبيعة ارتباطا كبيراً، فكانوا يداومون على التجول فيها بحثاً عن الإلهام الشعري. وكانت هذه الجولات الاعتيادية عندهم تعرف باسم " جينكجو ".

وفي هذا يبدو التقاطع واضحا مع المذهب الرومانسي في الشعر والأدب الذي شغف أهله

بالطبيعة حيث عدها المبدعون منبعا سخيا لتحريك دواليب الابداع واشعال نار البوح الخامدة، بل بالغ بعضهم بأن ردها حلا للمصائب والمشاكل، وهو ما عابه عليهم البعض، وكأن في ذلك هروب من المجتمع المتحضر وتبعاته، ومعانقة البدائية في تجليها الواضح ارتباطاً بالطبيعة.

أحد شروط الهايكو الكلاسيكي هو أن يضم " كيغو " باليابانية أي كلمة تدل على موسم من المواسم المعروفة أو تحيل عليه. ويقوم شاعر الهايكو أو الهايكيست، عن طريق ألفاظ بسيطة بعيدة عن التأنق

، بوصف الحدث أو المنظر بعفوية مطلقة، ودون تدبر أو تفكير تماما كما يفعل الطفل الصغير.

ألم يقل الشاعر سامح درويش ذات يوم عن كتابة الهايكو " الهايكو أن تكتب كطفل لكن بخبرة شيخ "

يقول الشاعر جمال مصطفى:

الهلال الذي

يتلامع في غابة الخيزران

مجرد منجل

تنطلق الألفاظ بطريقة عفوية وفورية، فتعطي صورة تكون محسوسة. وفيه أيضا يأخذ الشاعر

المتمرس الأحاسيس والمشاعر والانطباعات المتدفقة داخله في حينها وفورها اللحظي، ليعرف كيف يصبها في قالب شعري هايكوي.

يقول بوسون وهو واحد من أعمدة الهايكو:

أصبع البناّء

المجروح

وزهور الأزاليا الحمراء 

يقول الشاعر سالم إلياس:

فراشة بيضاء

تئن

لهب شمعة

ثانيا: الهايكو العربي بين المحافظة والتجديد

الهايكو العربي عموما لم يلتزم بضوابط شكل قصيدة الهايكو اليابانية، بل أحياناً خرج أيضاً عن إطار التصوير الشعري الخالص،إلى الطرح الايديولوجي الذي يتنافى مع قواعد الهايكو الأصلية.

وهناك من يعد المؤسس الأصلي لقصيدة الهايكو العربي المعروفة كذلك باسم (التوقيعة الشعرية) الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة عام 1964 في قصيدته المعروفة باسم هايكو تانكا.

يقول فيها المناصرة

(هايكو):

… يا باب ديرنا السميك

الهاربون خلف صخرك السميك افتح لنا نافذة في الروح.

(تانكا):

أجاب شيخ يحمل الفانوس في يديه  يوزّع الشمعات

على نثار دمنا المسفوك وحين سلمّنا عليه

بكى... واصفرَّ لونه… ومات.

" إن الهايكو لحظة جمالية لا زمنية في قصيدة مصغرة موجزة ومكثفة تحفز المخيلة على البحث عن دلالاتها، وتعبر عن المألوف بشكل غير مألوف عبر التقاط مشهد حسي طبيعي او إنساني ينطلق عن حدس ورؤيا مفتوحة تتسع لمخاطبة الإنسان في كل مكان، من خلال ومضة تأملية صوفية هاربة من عالم مادي ثقيل محدود ضاق بأهله حتى تركهم باقتتال ومعاناة، بسبب هيمنة حضارة مادية استغلت الإنسان وداست على كرامة روحه وحرمته الأمن والسلام. مما جذب انتباه الشباب الواعي ولفت المبدعين إلى أهمية البحث عن السلام الداخلي المفقود، من خلال الاقتراب من الروح وجوس عوالمها عن توحش العصر وتغوّل احتكاراته وجشعه.بحثا عن صفاء فضاءاتها وسمو هدوئها وتجلياتها بعيدا عن اللامتناهي في التعامل مع رغبات النفس وشهوات الجسد وظلم القوي على الضعفاء" ¹

وتؤكد الدكتورة بشرى البستاني على أن الأهداف الجمالية الصرفة وحدها تحرك كتابة الهايكو، وأنه بعيد عن الايديولوجيا بمعناها الضيق. وهذا ما لا يحترمه العديد من كتاب الهايكو المعاصرين، ذلك أنه، وكما تقول فإنه أمام رحابة الجمال وشساعته، تندحر الايديولوجيا بضيقها ومحدوديتها. " ولما كان للفنون أهداف ومقاصد إنسانية تؤشّر توجهاتها، فإن أهداف الهايكو كانت جمالية رؤيوية، وليست أيديولوجية ضيقة، وأمام الجمال تندحر الأيديولوجيا وتنهار حدودها والقيود، ولهذا كانت حركته حرة في اتجاهات عدة ولعل في اختلافه عن شروط الشعرية المتعارف عليها عربيا وغربيا ما يفسر بعض ذلك أولا، وثانيا يكاد يجمع نقاد الهايكو – وأشك في ذلك – أنه يتسم بسهولة اشتراطاته البنيوية التي تتلخص في كون شروط كتابته لا تتسم بالعسر والتعقيد، بل تتكون بنيته من جملة شعرية تتوزع على ثلاثة أسطر ذات تشكيل موجز باقتصاده اللغوي وتحرره من ملحقات التزيين، لكنها ذات طاقة مكثفة قادرة على إطلاق دلالات عدة يتيحها تعدد القراءات وتباينها، وقد تقوم لغته على المقابلة والتوازي والمفارقات لدى مقاربتها نقديا، وعلى اكتنازها لحظة جمالية يشتبك فيها الساكن بالمتحرك وهما يلامسان فاعلية المادة وحيويتها من خلال ملامسة الوعي الإنساني لها، وقدرتها على البث الدلالي حال تشكيل العلامة، فالعلامة تتكون من عنصرين، مادي مقروء أو منطوق مسموع، ومكون ذهني يعمل بتنبيه من الدال على تشكيل العلامة"².

ومن جهة نظر سامح درويش، الذي يعد واحدا من أبرز الهايكيست العرب، وله ديوان هايكو أصدره سنة 2015 تحت عنوان " خنافس مضيئة "، فإن أهم خصوصيات الهايكو العربي تتمثل في وجود نفحة غنائية وجرعة من المجاز وحضور ذات الشاعر بشكل أقوى من باقي تجارب الهايكوعبر العالم، يضاف إلى ذلك الخروج على التوزيع الايقاعي المعروف في اليابان (5-7-5) نظراً لخصوصية اللغة العربية.

وفي حديثه عن الخصائص، يؤكد سامح درويش على البساطة والآنية لأنه لابد من الإبقاء على روح الهايكو ممثلة في ركيزتيه اليابانيتين، فيتحقق التجلي المرهف لذات الهايكست، وتخليه عن زخارف البديع، دون اهمال روح البلاغة المتجددة، أيضاً بما يحافظ على هوية الهايكو التعبيرية، ويبقيها معزولة عن أشكال شعرية متماثلة لكنها مختلفة، مثل الومضة والشذرة الشعريتان، بل حتى القصة القصيرة جداً التي يمكن أن تعطي انطباعاً أحياناً بأنها هايكو. لكن شتان بين هذه وذاك، فللهايكو مقوماته الفنية والجمالية التي تختلف كثيراً عن مقومات وجمالية القصة القصيرة.

وينوه الشاعر إلى أمر مهم وهو أن ثمة الكثير مما يكتب في مشهدنا الشعري العربي اليوم تحت مسمى الهايكو، لذا لابد من التمييز بين فئات ثلاث:

الأولى: تتمثل في أولئك الذين يحاولون كتابة الهايكو وفقا لقواعده واشتراطاته الجمالية المتعارف عليها، بل ويتوقون إلى التجريب داخل هذه القواعد والاشتراطات، وهم من يستطيعون مضاهاة شعراء الهايكو الحقيقين في الشعريات الأخرى، وهم أيضاً إما أتوا إلى الهايكو من تجربة وخبرة شعرية سابقة، أو جاءوا إليه من تجارب شعرية أخرى.

الفئة الثانية: هم من يعتقدون أن الهايكو هو تلك الأسطر الثلاثة، ومن بينهم شعراء لهم أسماؤهم، فتبتعد قصائدهم عن الهايكو، لتنتمي إلى أشكال شعرية قريبة من الهايكو من حيث التكثيف، مثل الشذرة والومضة والحكمة وغيرها من الأنواع الأدبية القصيرة.

ويسهم هؤلاء في خلط أوراق هذا النوع الشعري ويشكلون ذريعة لمن يرفضون وجود الهايكو ضمن رقعة الشعرية العربية.

أما الفئة الثالثة فهي تلك المحاولات التي تقوم بها فئات عريضة من الشباب على سبيل اكتشاف هذا اللون الشعري والاقتراب من عوامله وتقنياته. هنا يرى درويش أنه " في اقبال هذه الفئة على تجربة كتابة الهايكو أمراً إيجابيا، على اعتبار أن اللغة هي في النهاية ملك عام يتاح به التعبير للجميع، وأن كتابة وتذوق الهايكو قد يشكلان مدخلاً للاقتراب من الشعر عموماً " وبالتالي فإن ذلك يسهم في استعادة الشعر العربي جمهوره، بحال أو أخرى.

ومن شعراء الهايكيست في الجزائر أيضا نذكر الشاعر عاشور فني صاحب " ما بين غيابين نلتقي " و مجوعة " أعراس الماء " التي صدرت بلغتين: العربية والفرنسية سنة 2003. وتعتبر تجربته رائدة في هذا المجال.

يقول عنها للجزيرة نت: " كان ذلك هاجسي في كتابة القصيدة بعيداً عن الاطناب والوصف الخارجي، معتقدا أن هناك رسما سابقا للكتابة يتعين ازاحة الغبار عنه بالكلمات، على عكس ما هو شائع أن الكتابة رسم بالكلمات. لقد ساعدتني أسفاري عبر اللغات وعبر العالم وقراءاتي المستمرة للتقاليد الشعرية في الثقافات المختلفة بالاطلاع على تجربة القصيدة - النفس، ذلك هو روح الشعر " ³

يتابع " في كتابة الهايكو تختفي تقاليد البلاغة التقليدية من استعارة وكناية وتشبيه، الٱن الرهان هو الجمال الحي المباشر للبلاغة لا صورتها العربية ".

يقول فني في أحد الأبيات:

"إنني أحفر الأفق شوقاً لزرقتها العاليه

وأصوّب أوردتي ضد هذا الزمان، وأنزف كالساقيه".

وفي تعليق على منحاه الشعري يقول عبدالرزاق بوكبة:

"القصيدة عند عاشور فني ليست رقصا باللغة وعليها لتوسل صورة تثير التصفيق، بل هي حالة وجودية عميقة يخلقها التأمل وتخلقه في الوقت نفسه " ⁴

***

عبد الله علي شبلي كاتب وناقد من المغرب

..................

هوامش ومراجع معتمدة

1. د. بشرى البستاني " الهايكو العربي بين البنية والرؤى مثبت في موقع مجلة رسائل الشعر.

Poetry letters. Com/mag.

2. المرجع السابق

3. حوار مع الشاعر سامح درويش لفائدة الجزيرة نت. تحت عنوان " الهايكو أن تكتب كطفل، لكن بخبرة عجوز " بتاريخ 2دجنبر 2018 - حاوره عبدالمجيد أمياي وجدة.

4.مقال تحت عنوان " الشاعر الجزائري عاشور فني والتحليق باللغة " عبدالرزاق بوكبة على موقع. الجزيرة نت مثبت بتاريخ 5 أبريل 2014.

يسبح مجازا بلباس القمر الصوفي

نبدأ بمقاربة قصيدة الشاعر رياض الدليمي بتفنيد عنوانها الدّال بكلماته الثلاث على مكنونها، وهو "أسبح في العدم".

 أولا: مفردة السباحة تعني الإبتعاد، فالسبح في اللغة هو فعلُ مباعدة الشيء عن الشيء الآخر، فبدء البوح في أبيات الدليمي هو بدء السبح بعيدا من عاديات المكان الجغرافي المثقل بديموغرافيته، وبعيدا من التاريخ المعاصر المطعون بغوغائيته، وبعيدا أيضا من الفؤاد المكابِد الباحث عن لوحة جديدة تجمع بين الإنطباعية والطبيعية والتجريدية والتفكيكية، كما تجمع في البحث عينه، بين التراث والتراب، وبين الكون واللون، وبين أسطورة العَرَاقة وأكذوبة العرّافة.

ثانيا: حرف الجرّ "في"، يختلف بالمعنى عن حرف الجرّ "من"، فسباحته ليست من العدم، بل فيه أي بداخله، وهو خوض وجودي قد يقارب مفهومين: مفهوم الفناء، ومفهوم الخلاص.

ثالثا: مفردة العدم تندرح تحت القسم الثالث من أقسام العقل الثلاثة وهي:

1- الواجب العقلي.

2- المستحيل العقلي.

3- الممكن العقلي.

والممكن العقلي هو ما يُتصور في العقل وجوده طورا وعدمه طورا آخر، كسائر المخلوقات. وبذلك ينطلق الشاعر بهذه المفردة إلى رحلة العقل عبر مركبة الشعر نحو  محاولة سبر أغوار الموجود والمعدوم، وأيضا نحو اختبار مفاجأة الوجود بعد العدم في هذه الحياة، ومعاينة خبر إنعدام الوجود عن هذه الحياة.

 وبالدخول إلى عرين القصيدة، نجد إنّ الصورة المستعارة في أبيات الدليمي، تختصّ القمرَ، وتبتعد من النمطية التقليدية في توصيفه، أي تلك النمطية التي تستلّ منها أقلام الشعراء، بالعادة، أوصافها التصويرية، من دلالات الجمال والشوق والسهر والجوى. إنها تسبح وتبتعد وتمضي، لتتجه صوب أسرار الصوفية والدوران الإستكشافي الداخلي للنفس، في محاولة لإستكشاف مخابىء العقل ومكاشف القلب ومسائل الوجود.

 نختارمن أبيات قصيدته هذه:

"كيف سيسعفني القمر؟

هو فانٍ مثلي بلباسه الصّوفيّ

زاهد في الأعياد"

من هنا، فقد رمى الدليمي صورته الكيانية الإنسانية على "كاهل" القمر، وتلك بكل بديهية، رمية صورية مجازية غير تماثلية، قام بها الشاعر، كي يرى أمام عينيه وداخل كشّاف البدر الضيائي التماثلي التخايلي، غراسا لا تشبه وردة اللوم واليأس والأمل والذكرى، غراسا تنتمي إلى تربة ضوئية تعبيرية واحدة،  تشكل بمتناقضاتها، حال الرامي نفسه وخطابه ونجواه في القصيدة. وهاهو ينشد أيضًا:

"أضرب الدّف حتى لحظة المحاق

ينام المغني الفارسي

نعزف لحنا مسروقا

من أغاني فلاحي شيراز"

 ويقول أيضا:

"هربت من صراخ القصب

ورئة ألوان الهور"

 إنّ مفردات  ثقوب الناي، والدّف، والفارسي، والشيرازي، والهور، والفلاّح، والمخاض.  كلها تيّمات تحمل في قصيدة رياض الدليمي مفاتيح رمزية ووجودية متداخلة الإنتماء والإنعتاق، وذلك ضمن جوهر دلالي متشابك ومتفرّد معًا، بحيث يحتاج منّا هذا الجوهر، متابعة تفصيلية إلى كل مفتاح منها، كي نصل إلى الأبواب المنشود فتحها لرؤية ما وراءها، وما تكتنزه من إمارات الرويّ والترميز والمواربة والإيماء.

لا شكّ في أن الابعاد الوجودية والوجدانية والفنية والعاطفية والسياسية المتاحة في القصيدة، لا يمكن حصرها بمقالة، لكنّ ختام البوح، يبدأ عند الدليمي ولا يُخْتتم، فقد سأل الشمس إنْ نسيت ذاكرته، مُلمّحا إليها بخطاب المجاز أنها سوف تجد في أسرار النجوم شيفرة هذه الذاكرة. كما إنّ إفتتاح البوح لديه، إختُتِم بمخاطبته للأنا: " إنساني، يا أنت". 

***

 غادة علي كلش -  كاتبة لبنانية

مقالة نقدية للعرض المسرحي "جنون الحمائم" تأليف واخراج د.عواطف نعيم

أَوْلى النقادُ اهتاماً كبيراً بسيميائية العتبةِ الأُولى للمنجزِ المسرحي الإبداعي، نصاً، وعرضاً، يتصدرها العنوان بوصفه المفتاح المركزي لاكتناه خباياه الجمالية، وبُنيته القصدية، واتساق وانسجام مثاباته، والمرشد الأمين لوضع ملامح حراكٍ نقديٍ يُبْدِعُ نصاً آخرَ يوازي ما تم قراءته أو مشاهدته باتجاه الهَرم النقدي، وإعلان نتيجة المنازلة التأويلية المتناسلة بتأويلات تنتج ثوابتا وتصورات أخرى.

وعلى غير العادة!! وجدنا أن العتبة الأساسية للعرض المسرحي"جنون الحمائم" هي البروكرام الخاص بالعرض، وهذا ما اعتدنا ملاحظته لدى "د.عواطف نعيم" فكل ما تقدمه هو مجموعة عتبات تأخذ بِيدك حيث الذروة لتجتمع لديك التأويلات وعلى إثرها يُنتَج وعيك المتوالد من خلال هذا الوعي الذي شاهدته بطريقة الحثِّ والإستفزاز.

حيث وجدنا البروكرام ومن خلال إطلالة الوجوه الأربعة لمؤلفة ومخرجة العمل بصحبة أبطاله الثلاثة، وبتشكيل موضعي بصري مغاير كشف عن ولادة عسيرة بعد مخاض مضنٍ عاشته تلك الوجوه التي كانت تحمل وهجاً مضيئاً فارقاً أوحى لأسماعنا بصوت ملائكي كصيحة جبرئيل "نحن نمضي قدما باتجاه ما نؤمن به وبما نعتقده" نمضي قدماً باتجاه الشمس التي نحن أحد مخرجاتها المعنوية الفاعلة، نمضي لنظيء، ولا يعنينا ما يحاك خلفنا من هوس ظلامي، لأننا مصدر للضوء، فالضوء فينا أصالة، ونحن من يبدد الظلام بتحولات وانتقالات فكرية نؤججها لدى المتلقي بما نملك من وعي وجنون أسمه المسرح.. وهذا ما أعلنته صورة البروكرام صراحة رغم العتمة المتراكمة كقطع الليل خلف الشخصيات الأربعة التي تحاول أن تقضَّ مضجع النور، إلا أنّها أي العتمة السوداء ومن غير أن تَعِيَ، لجهل ذاتي وموضوعي ساعَدَت في توهج ذوات الأربعة إبداعياً كَمَنْ يريد أن يُطفئ جذوةً مشتعلةً بالنفخ عليها إلا أنّه ومن غير إرادة منه يضخ الوهج في مستويات ضيائها وانفعال حضورها البصري. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (8) الصف لينتهي البروكرام بعبارة نطقت بها دلالاتٌ مبثوثة ومعبأة في جوفِ العلامة (الصورة) بتحدٍ تحريضي على الجمال.... "نريد بهذه الاطلالة ان نلجم "سوء تفاهم" "ألبير كامو" المُتوقع في حياتنا التي نعيشها ونخرسه بل نُجفف مصادر تأويلاته بخلق لغات مشتركة مع الآخر".. سوء التفاهم العراقي الذي مصدره انقطاع التواصل مع الجمال، انقطاع حجِّ الأقدام المباركة إلى جنَّةِ الله في أرضه، خشبة مسرح الرشيد وبقية أخواتها في بغدادنا الحبيبة، إنّه التواصل الثقافي والفكري والاجتماعي الذي يخلقه المسرح الذي نحن أبطاله ورواده وفرسانه من خلال "جنون الحمائم".. جنون العراقي إذا أراد أنْ يكون.. إذا أراد أنْ يبدع.. إذا أراد أنْ يُبدد الظلام إلى غير رجعة.

وكذلك، صورة أخرى مُسْتَقاة من صورة البروكرام وجدناها ماثلة في أعماقنا الباتافيزيقية "مرحلة ما بعد الميتافيزيقيا" هذه الإطلالة الغير متوقعة لشخصيات "سوء تفاهم" الأصلية بعد غيبة طويلة محلياً، وعربياً منذ القرن الماضي أتَتْ وهي تفصل الضوءَ عن العتمةِ وكأنها قد أحدثت شَقّا في كفنها حيث الظلام، واللاشيء، واللاجدوى، وانطلقت باتجاه الضياء حيث خشبة المسرح والوجود والفاعلية والجدوى، لتُعْلِن العلامة السيميائية (ابتسامة الموناليزا) الفاترة للشخصيات الأربعة بكلمات شكر عظيمة طوقت بها عُنقَ الكاتبةَ والمخرجةِ العظيمةِ د. عواطف نعيم لِما قدمته من جهد كبير لإحياء هذا النص الممتلئ وبعث الحياة في أوصال هذه الشخصيات الجدلية الأربعة، ونفض غبار التجسيد عن النصِّ الذي يَرى فيه كامو أنّ مصيره هو أكثر ما يُقلق الكاتب في أن تموت نصوصه ما إنْ يُعلن نَعيه في الصحف، ونزيد عليه في شريط العناوين في القنوات الفضائية، وصفحات الفيسبوك.

في نهاية ما اكْتَنَزَه وعينا حول صورة البروكرام تأويلاً، ودرايةً، وانطباعاً، نجد أن د. عواطف نعيم أرادت إعلان عودة الحياة المختطفة على حين غرّة من بين الأيادي الطاهرة، وأنّنا لابد أن نعيشها وإنْ تراكمت مآسيها الماضية والحاضرة ومن خلال المسرح بالذات لأنه منطقتنا المناسبة، هذا المسرح الذي آمنت به الدكتورة وبقية كادرها بأنَّه خيرُ وسيلة للتواصل مع الناس واستدعائهم لقول كل ما هو معفو عنه، أو غير مصرح به بطريقة "إياك أعني واسمعي يا جارة" أي نعم بشيء من المواربة والمناورة من خلف حجب نصً أجنبي فرنسي بلغة ثورية، إلا أنّ هذا النهج هو نهج مهم وهو ما يناسب هذا المقام والظرف الذي نعيشه، فقد اعتاد الكبارُ عليه درامياً لاعتبارات إجتماعية وسياسية.. وليس المجال مناسباً في هذا المقال للخوض في غمار هذه الاعتبارات. مع ملاحظة أن جميع عتبات هذا العرض المسرحي هي انطلاقات تثير شهية الناقد ودهشته لتناولها بكم كبير من الاهتمام النقدي، التحليلي، التأويلي، التقييمي لما لها أي تلك العتبات من حيز مهم في أبجديات وجودنا الإنساني.3574 جنون الحمائم

حقيقة، تضمن العرض خطابات عديدة، أينما وضعت يدك فثمة خطاب يحيلك عند حياة منسية متلاشية عشتها وتعيشها وستعيشها وربما ما زِلتَ عاجزاً عن فك شفرات بعض من همساتها الماكثة في أعماق الذاكرة وهي تُثَوِّر لديكَ الحاضر بإيقاظ الماضي بإسقاطات ذكية باتجاه المستقبل كما في قول "آرثر دانتو" " من أولويات حراك الفنان التنويري، إعادة الإعتبار للأشياء المنسية والمتلاشية". وكأنَّ العرضَ يريد أن يقول مخاطباً المتلقي : لا تبتئس.. فثمة حلول ستجدها هنا.. تعال، اقترب، أدنو، ضع يدك في يدنا لنصنع مستقبلاً جميلاً ينطلق من بوابةِ المسرح بإعلانِ الحياة، وجعل ما مضى وتلاشى درساً بليغاً يتعظ الجميع من خلاله.

تناول العرضُ فترةً قاسيةً عاشها الوطن إبَّانَ الحربِ الأهلية التي أكلت أخضرَ يابسنا ويابسَ أخضرنا كالنار في الهشيم، فكان من نتائجها القتل على الهوية وهجرة الشباب والعوائل بطريقة إنفجارية خارج أسوار دائرة الموت الحتمي.. حتى ظنَّ البعض أن العراق أُخلي من أبناءه طلباً للسلامة، وديمومة البقاء، وحياة أكثر حرية لا قتل فيها.. لكن الحقيقة هي زيادة في تفشي اللاتواصل والانغلاق وتفسخ المجتمع وانحلاله وانعدام قوة نسيجه التي عُرف بها في فترات ماضية كثقافة عامرة بطيب العلاقات التواصلية مَيَّزَتْه عن بقية جيرانه على الأقل.

الحكاية

بتأريخ 18/7/2023 من يوم الثلاثاء الماضي قُدِّم علىٰ مسرح الرشيد العرض المسرحي المهم "جنون الحمائم".. بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح التابعة لوزارة الثقافة العراقية.. عن النص المسرحي (سوء تفاهم) للفرنسي الراحل "ألبير كامو" الحائز على جائزة نوبل.. إنتاج وتقديم المعهد الفرنسي في بغداد. وحسب علمي هو ثاني نص فرنسي تقدمه الكاتبة د. عواطف نعيم للجمهور من خلال تعريقه واعداده بعد "الصوت الإنساني" ) انتظارات مرّة) ل "جان كوكتو".

اتخذت "د. عواطف نعيم" طريقة درامية مُثلى في التعامل مع نص "البير كامو" بطريقة التحولات الجمالية الإبداعية لانتاج الدلالات من خلال علامات مجالها النفس البشرية وبواطنها (الأنا) بإحالات لها بيئتها لدى المتلقي انطلاقاً من عنوانه "سوء تفاهم" الذي كانت نتائجه لديها "جنون الحمائم" لتقدمه بلغة محلية بسيطة خالية من التعقيد، وبنية مرنة، لذا استطاعت وبذكاء من زج النص في المناخ المحلي ليغادر العالمية مع الإخلاص للفكرة الأم بتداخلات جمّة ونسق مخيال، أي إنتاج ذاتي وموضوعي للعلامات من خلال أسلوب المعالجة الواعية للنص وأحداثه بهواجس عراقية صرفة والتي أعطت للكاتبة عنصراً حيوياً في بثِّ خطاب وطني متنوع يتلائم والتجربة العراقية على المدى المنظور بطريقة المحو والإحلال، لا بتسطيح الأحداث وسذاجة طرحها، بل بتحويل النص من أفقه الساكن البديهي لدى المتلقي إلى أفق جديد متحرك، ومتصاعد بعديد رؤى وقيم ومفاهيم ضمَّ في آفاقه المتشظية النص الأصلي أولاً والواقع المعاش ثانياً، أي إنّ الكاتبة لم تستسلم للخط الأفقي للنص كحقيقة ماثلة في أذهان القرّاء أو ممن شاهده كفيلم سينمائي عربي، أو أجنبي، بل حولته إلى نصٍ أخر بروح عراقية ومع هذه الروح العراقية لم تستسلم أيضا لتسطيح الأحداث بمثاليات جبانة يفتقدها واقعنا، بل ذهبت بعيداً باتجاه العمق الاجتماعي والسياسي وإعادة الحياة لكثير من القضايا بطريقة فيزيكيميائية بتفجير أصابع ديناميت اليومي الرتيب واحدا تلو الآخر من خلال عود ثقاب نحسبه صغيرا وهو كبير بفعله وأثره.. تلك القضايا التي احتفظ بها التأريخ في صندوقه الأسود بشيء من الكتمان والسرية، على اعتبار أنّ كثيراً من حيثيات حياتنا البائسة، وسلوكياتنا الهجينة في الوقت الحاضر هي نتاج لهذه القضايا التي يحاول البعض طيّها لإخفاء بصمات جريمته بجعلها جريمة كاملة وهذا ما يؤكد غاية وهدف المسرح المشروع، في الجرأة والتصريح وكشف الحقائق.. نزولا عند رأي "برخت" وهو يقول "أنا أدعوا إلى مسرحِ يُثَوِّرُ الواقعَ لا أن ينقله كما هو" وفي قول آخر ل "ماركس" حيث قال "انحصر جهد الفلاسفة في تفسير العالَم والواجب هو تغييره" وهذا ما شرعت بأدلجته الكاتبة عواطف نعيم في تفاصيل جنون الحمائم كفلسفة راديكالية تغييرية مفاهيمية بمشاكسة الواقع لتغييره بطريقة إيقاظ الأسئلة وتثويرها داخل ذواتنا وخارجها بجعلنا اداةً ومستهدفاً لنفض غبار تلك الأسئلة.. وهو ما دَرَجَتْ عليه أيضا في كل تحولاتها النصية والإدائية قبلاً وبعداً لإيمانها العميق أنّ المسرح أداة فاعلة في إحداث زلزال ينسف كل قبحٍ من خلال إحلال الجمال بطريقة الهدم ثم البناء.

اعتادت د. عواطف نعيم في رسم منجزها التحريضي الجمالي إعداداً وتأليفاً وإخراجاً وحتى تمثيلاً بجمع شتات الماضي ملغوماً بجنون الحاضر وجنوحه الملتاث، مصوبة نيرانها الدرامية باستقراء مغاير على أبواب عقولنا لتفتحها على مصراعيها بالتوالي بانسيابية البايوميكانيك الهارموني المتقن هندسياً وهي تقول وفقا للعبة "المحيبس" الشعبية العراقية (طلك، طلك، طلك) مشرعة درفتي تلك الباب على أسئلة مهيمنة لا نجرؤ على إهمالها، بل الوقوف عندها ملياً وبذل الجهد المضاعف لوضع النقاط على الحروف وإيجاد الإجابات لها بصرخة مدوية (وجدتها) أو على الأقل مناقشتها على طاولة شفافة ومستديرة بشرطِ إدانةِ ذواتنا أولاً، لأنَّنا جزء حيوي من الألم الذي تعيشه أناة "د. عواطف نعيم" التي هي في حقيقة وجودها مرآة باصرة سامعة بإحساس عالٍ لصراخنا ووجعنا الجمعي في ظل ظروف وأجواء ساخنة صنعها تخاذلنا.. وهذه هي مهمة المثقف والفنان الكوني في اللدغ، والوخز، والاستفزاز، الذاتي والخارجي، ووضع النقاط على الحروف صراحة، وبشجاعة فائقة.

في لقاء صحفي ل "كامو " قال ما يؤكد تناسخ التجربة (الكاموية) وظروف الكتابة زمنيا ومكانيا وتواصلها مع تجربة المبدعة د. عواطف نعيم بما نصه ﴿من المُؤكَّدِ أنّ "سوء التفاهم" هي مسرحية قاتمة، كَتَبْتُها في بلدٍ مُحاصَرٍ مُحتلٍّ، بعيداً عن كل ما أحب، وباريس تهتز لوابل قنابل الحلفاء والنازيين معاً﴾ حيث يستبين هنا نزولاً عند قول كامو التواطؤ والمقاربة بين الظرف العام زمناً ومكاناً وروحاً وأجواءً ل "سوء تفاهم" مع "جنون الحمائم" وكأن كامو عند حدود المنجز المسرحي جملةً وتفصيلاً هو ذات عين د.عواطف نعيم في 2003 و2006 وحتى يومنا هذا من قتل، ورعب، واحتلال، وانحلالِ قيمٍ مجتمعيةٍ، وما إنْ تخرج يدك لم تكد تراها سوى وهي تقبض على رسالة تغوص في أعماق لهجتها رصاصةُ تهديد ووعيدٌ بالقتل، أي أن البعد العبثي الذي ثَوَّرَ وخلق نص "سوء تفاهم" مجايل وملازم واقعياً وزمنياً ومكانياً وفلسفياً وتخيلاً للبعد التنويري لنص "جنون الحمائم".

انطلقت د.عواطف نعيم وبشكل مغاير لنص البير كامو من ثيمة الموت بشكل درامي فاجع وصادم بأسلبة كاسرة للتوقع لدى المتلقي لتحقيق الدهشة التي هي الغاية الجمالية التي يتتبع أثرها كل مبدع صاحب رسالة.. حيث أطلّ الخادم علينا وهو يتجول قلقاً، خائفاً، حائراً لا يستدل طريقه، حاملاً جثة مجهولة أرْهَقَهُ ثُقل حمْلها مادياً وثُقل خطيئته الفادحة معنوياً، تلك الخطيئة التي قوست ظهره وأبطأت من خطواته.. عَلُقَتْ هنا صورة غاية في الروعة والجمال في كامِن شعورِ المتلقي فصّلها الميزانسين بتقنية هندسية رائعة بوجود الممثل "عزيز خيون" وسط الخشبة وخلفية سينوغرافية متقنة الدلالات بإحالات فكرية ناحية الغابة وانفلات القانون ومعنى الحياة الضبابي فيها عند جزئية الدخان المنبعث من الكالوس اليمين بلغة ظاهرة واضحة مفادها البقاء للأقوى والقتل من أجل البقاء وهي صورة واقعية بأننا كنا نعيش وسط غابة شائكة ملغومة بالحيرة والموت في كل تفاصيلها الافتراسية، حيث أوحت حركات الخادم جيئة وذهابا والتفافه حول ذاته وعظيم حَيْرَتِه رغم اتساع الخشبة واتساع مقاعد المتفرجين والفضاء العام للقاعة إلا أنه أجبر إحساسنا بأننا نعيش وسط أزمة كبيرة، أزمة مكان تصل القلوب فيها لدى الحناجر نحاول التخلص منه أي المكان بشتى الوسائل نحو مكان آخر أرحب يُخفي حصاد واقعنا المر وإنْ كانت هي مغامرة بحد ذاتها فجميع الأماكن كانت آنذاك في مرمى الزائد تفضي الى الخراب.. ليمارس "الخادم" هنا مرة أخرى سلطته الحكائية في إجبارنا على مجاورته السكنى وسط متر في متر والنافذة خُرْم إبْرَة لا يطلُّ منها سوى صراخٌ وعويلٌ واحتجاجٌ يعتمل صدره أي صدر الخادم وهو يبحث لتلك الجثة المعتلية عاتقه عن فجوة للنسيان في قلب الأرض بطريقة"ولا من شاف ولا من دري" ليَخفي ليس الجثة فقط بل يُخفي كذلك عُريَّ يديه من الطهر الذي يفتقده لتلوث أقاصيَ روحه، وعُري زمن يسير بالمقلوب أوحى بالعبثية في النفوس المطمئنة، ولكن هيهات فلكل شيء قدر معين يحدد محتواه ﴿إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَهُ بِقَدَرٍ﴾ /القمر – 49 فما عادت الأرض تسع كل هذه الجثث وكل هذا الخراب كل تلك الجراح الغائرة لذلك كان يقول هذا الخادم للأم وهي تبحث بين فجوات أسنانه عن خبر يؤكد مصير الجثة ولِمَ لَمْ ينجز عمله حتى الساعة.. خلص خاتون.. ماكو مساحة تحتضن جثة جديدة رحم الأرض اكتفى وأعلن تخمته لكثير ما قتلنا لعديد ضحايانا.. هنا تأكيد مفاهيمي جمالي انتهجته الدكتورة عواطف في تحويل الصورة ذات القيم الدراماتيكية المحدودة لأنتاج صورٍ أخرى أعمق وأكثر جدلاً موضعها الذات الإنسانية لمجموعة من الأزمات أفرزتها أحداث المسرحية الآخذة بالإستطالة بخطيها العمودي والأفقي وهذا ما نراه وفقاً لإستنطاق علاماتي دقيق.. هنا استطاع العرض كتأليف، وتمثيل، وإخراج وتقنيات بتجاوز كل ما هو مألوف ومتداول تراه العين المجردة صوب الإنزياح بعلامات مهمة تحاكي الذاكرة الملتاعة للمتفرج وبالتالي إنشاء وجود دلالي ساخن لإنتاج المعنى الذي نبحث عنه في أصل وجودنا وخاصة عند هذه اللحظة المصيرية التي عشنا قلقها مع "الخادم" وهو تائه قلق خائف محتار أين يواري ما اقترفت يداه وهو يقول "عبث، عبث، ميفيد، كُلشي عبث" وهذه هي وظيفة التجريب الذي سارت على دربه الحداثوي "د. عواطف نعيم" وهي تهشم كل ساكن صامت مُجْتَرِّ بتفكيك مثابات "سوء تفاهم" والغاء سلطته وإمكانية تجاوز كل ما هو موشوم بخط أحمر في البنية والشكل كتابو واقعي نخاف مساسه.. هنا يتفجر المعنى لدينا فور معالجة وعينا تلك الصورة في فيض ثقافي يعتمل ذواتنا.. ووفقاً لطبيعةِ التلقي نوعاً وظرفاً، ولأنه لا توجد علاقة موصدة بتمامها بين العلامة والمعنى، ولإعتبارها أي العلامة مصدراً لفضاءٍ واسعٍ كثيفٍ من ردود الأفعال والرؤى والانطباعات والتأويلات لدى المتلقي لذلك وجدنا أنّ الضحية هنا هي الإنسان النظير لنا في الخلق أو الدين أو النسب، إشارة إلى قابيل الذي عجز عن أنْ يواري جثة أخيه (ضحيته) هابيل.. إذْ أنّها إشارة عنيفة بعلامة أشد عنفاً لواقع عشناه يوم استسغنا منظر القتل لأبناء وطننا وأخوتنا وذوينا، وبأيدينا التي نزعم طهارتها كنا نخفي ضحايانا، بل نرميها خلف تل ترابي هو الفاصل بين المثالية المزعومة للمدينة في الجانب المرئي ومستوى خطيئتها الكافر في الجانب المقعي المظلم.. لهذا المشهد المتقن والمرسوم بريشة ساحر وبعناية فائقة اهتزت مقاعد المتفرجين سعادةً وهلعاً وفرحاً خوفاً وانفعالاً ذاكراتياً توزع بين مشاعر متناقضة استوطنت ذوات الجميع.. الأول عاش المأساة ومضغت لهاته جكليت الوجع الذي كان يوزع بقسمة عادلة بين الجميع لكنّه لم يقرأ نص سوء تفاهم.. والآخر قرأ سوء تفاهم ولكنه لم تَرْسِم خطوط المأساة على جلده خريطةً لجراح الوطن يستدل بها عن أي جراح هي جراحه وأيها لغيره بفعل يديه، والآخر لم يقرأ ولم يرى ولم يشهد تقلب روحه كحباتِ بُنًّ فوق صفيح ساخن، والآخر قرأ نص سوء تفاهم وعاش المأساة واكتوى بنارها وهُزم منكسراً يندب حظه العاثر، فقادته قدماه حيث مسرح الرشيد كي يتلمس الخطأ أين كان؟ وفي أي مرحلة هو؟ ومن المسؤول عنه؟ وما شكله أصلاً؟.. وهو ما نعنيه في ما ذهبت اليه د. عواطف نعيم بذكائها وحرفيتها في كسر شوكة التوقع لدى هذا المتلقي البديهي بافتعال أحداث مغايرة شكلاً ومضموناً ووظيفةً لها سمة واقعية حيث أنّ البير كامو استهل النص منطلقاً في ما يشبه الميلودراما متقنعاً بشيء من التسلية التشويقية متمهلا حتى انفجار حلول الأزمة تمهيداً للإنفجار الأكبر حيث كَشَفَ قلمُه حياةَ الإبن المترف بعد عودته من المنفى ورغبته في العودة الى حضن أمه وأخته وتعويضهما عن كل بؤس وألم مرا به وهذا ما يوصف في الدراما بالنسق الخطي المستقيم الذي له نتائجاً سعيدة في نهاية المطاف.. لكن الدكتورة عواطف ونتيجة لموروثات مأساوية عاشتها وعاشها البلد اتجهت بنا مباشرة الى عين المأساة لا وصفها، الى الدراما الذكية وكأنها تقول أننا في كل أزمنتنا التي عشناها نعيش الدراما والمأساة بأوج صورها وأصدق معانيها على خلفية اللاتواصل وسوء التفاهم بين البشر وغياب اللغة المشتركة في هذا التواصل، ولا قدرة لي على تزييف الواقع بمثالية نلجم ألسنتنا بها أو نقمع أسماعنا بعجينة وطين. هاتها !!!.. إنّها حياتي.. إنّه موتي.. أنا الجثث العديدة بلا معالم.. أنا السم الزعاف الذي تسرب في مفاصلها من بين فكرة الطمأنينة والكراهية.. أنا اليد الخاطئة التي حملتها حيث اللاشيء.. أنا مساحة المتر في متر التي احتضنت خطايا إنساننا النادم وهو يلعق دم ضحاياه مستمتعاً.. إنساننا الخاطئ والعاجز عن تبرير خطأه.3575 جنون الحمائم

الحكاية كما هي في مَتْن نص د. عواطف نعيم.. توجد عائلة منعزلة وكأنها تعيش في مكان ليس على الخارطة.. تمتلك فندقاً كما هو لدى البير كامو، ونُزلاً لدى عواطف نعيم، أطاحت بهما الحياة إثر ما مر بالبلد من دمار، أوحى لهما بأنّ طريق الخلاص يأتي من باب قتل النزلاء الذين يأتون لهذا النزل ساعة ينقطع بهم الطريق الى محل سكناهم ما بين محافظتين عراقيتين مهمتين هما بغداد والكوت وفي عرض سابق ما بين البصرة وبغداد.. هنا لابد من تأكيد المغايرة لدى جنون الحمائم مع سوء تفاهم حيث أنّ العائلة لدى ألبير كامو استحوذ عليها هاجس القتل والاستيلاء على أموال الضحايا من أجل تسديد الديون النقدية المترتبة بحق الفندق وبعدها المغادرة وترك المكان وعديد جثثه، أما العائلة لدى عواطف نعيم لم تكن كذلك بل كانت تبحث عن حقيقة مَثَّلَت بصدق واقعاً عشناه واكتوينا بلسع ناره انهم يبحثون عن هوية القتيل مع فكرة تسديد ديون من نوع آخر ديون معنوية لها مساس بتفاصيل حياة المواطن المثخن بالجراح وعلامة ذلك هو قول الأم صراحةً "طَلِّع هويته وشوف اسمه" لم يَرِد على لسانها أو لسان بقية أفراد العائلة أي ذكر للمال وكذك لم يكن القتل لديها أي العائلة المنعزلة لمجرد القتل أو لجنون وهوس تقليدي كما هو في الأفلام الامريكية بل قتل مبرمج ممنهج لأجل شيء محدد جايل أياماً عصيبة عشناها.. تلك الخصيصتين النوويتين اللاهبتين الهوية والإسم كم هو خطر ومؤلم ومستفز ومثير وقعهما الموسيقي في جوف ذاكرتنا، كانا سبباً وجيهاً لأن يرميك أحدهم بكلمة الله اكبر ومِن بعدِها يتحدرج رأسك عند أقدام الولي السفيه بِشَقّيه المعتم والظلامي.. ووفقاً لحجم العلامة وسيميائياتها وتعدد التأويلات نرى بما معناه.. ربما هذه العائلة زُرعت بقصدية عند هذا التقاطع بين الحياة والموت، بين هذه المدينة وتلك، بين الحقيقة والرغبة في طمسها بين ماضٍ جميل وحاضر قبيح، بين الأنا وضميرها. وفقا لهذه العلامة ورمزيتها نستدل ان هذه العائلة الغريبة المجنونة ظاهراً الذكية باطناً وظيفتها جمع أكبر عدد من الضحايا مقابل شيء ثمين تبحث عن استرداده لكن بأسماء وانتماءات حصرية انتقائية كانت فيما مضى تُعَدُّ من التوافه وربما تَوَزَّعَ هذا العمل الإجرامي بنظام المناوبة مجموعة تقتل أصحاب هوية وأسماء معينة باتجاه شرقي عند الصباح لارتباط الصباح بالإشراق ومجموعة أخرى تقتل أصحاب هوية وأسماء معينة باتجاه غربي عند المساء لما للمساء من تعاضد معنوي فلسفي مع الغروب وكل ذلك قد يُنبئ عن حقيقة دامغة أنّ تلك العائلة ناقمة على ما تعيشه وتعانيه ومفتاح خلاصها هي مهمام تقوم بفعلها لإحداث توازن ديموغرافي بين العرض والطلب وبين الشراء والبيع وبين ما لكَ وما يجبُ عليك وبين الوجود وعدمه، وربما هي ديون الماضي الملتاث مستحقة بذيل مؤخرة العائلة واجبة السداد وساعتها لا سداد الا بعدد ممتاز من الرؤوس المقروء عليها بعناية لفظ الجلالة (الله اكبر).. وليَ الحق أن أصور هنا ملابسات هذه الحالة سيسيولوجياً بذكر قصة حقيقية عشتها كان أحدهم ممن يقترب مما ذهبنا اليه بخصوص عائلة جنون الحمائم بمرجعيات واتجاه فكري ثقافي وعقائدي معين لمدينة ريفية في أقاصي الجنوب ارتكب جريمة قتل وسط مدينته وأهله وعشيرته فعُوقب بالجلاء من المدينة فسكن مدينة أخرى بثقافة وموروث واعتقاد ديني آخر ولما أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) النجم وأعلنت الحرب عن كشف مفاتن جسدها الرخيص للجميع سقط في يد هذا القاتل المدني صاحب الثأر العشائري فطارده سؤال وجودي مصيري ما هو فاعل للخلاص مما هو فيه ؟ هروبه العقائدي الظاهري وعودته للديار لا ترجمة له سوى قتله شر قتلة على يد أبناء ضحيته السابقة.. وبقاءه في المدينة التي تَرى فيه صيداً سهلاً لتصفياتها العقائدية سيترجم بالتأكيد لفصل رأسه عن كتفيه.. ما الحل اذا؟ لا حل سوى التغيير باتجاه الدين والعقيدة والثقافة وارتداء قناع آخر واعلان المصالحة مع هذه القوى الظلامية والتلذذ البورنوليزم لجسد الحرب الرخيص وهي تستخرج مفاتنها واحدة تلو الأخرى وهي تستحثه على قتل الآخر بل قتل نفسه إن لزم الأمر وأن يكون أداة قمعية لاستلال الأرواح من مخابئ خوفها وإشهار هوية جديدة للوجود الدموي بصرخة مدوية الله أكبر.

ولأننا نستظل بسماء تمطر أزماتٍ على مر العصور ونحن أحد أركان تلك الأزمات أرادت د. عواطف نعيم أنْ تقول أنّ الفن هو وليد هذه الأزمات وابنها الشرعي لذا كان خطاب العرض المسرحي في النهاية وعلى لسان الأم القاتلة وبنوع من التبرير لما آلت اليه أمور العائلة من وحشية وإجرام وكأنَّها تُواجه قضاةً في محكمة الوجود محاوِلةً دفع التهمة عنها بلعنها الحرب ومرجعياتها ونتائجها ومبرراتها حيث استطاعت د.عواطف نعيم بهذا الخطاب من زرع التعاطف وبث الشفقة واستدرار العطف الفرجوي لواقع مؤلم عاشته عائلة عراقية كانت ضحية في أصل وجودها لواقع مأساوي خلقه العالم الاستكباري يوم أُحْتُلَّت بغداد فهو خطاب ترجمَتْه الآية الكريمة ﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[ سورة النمل: 34] ونتيجة لنذالة الحرب وسوء آثارها تحولت الضحية إلى جلاد بفعل عامل التطور البايلوجي الذي أشار إليه دارون بعمليات التحول الجينية والصفات الوراثية.

هناك بعض التفصيلات المهمة التي عَلَتْ جسد العرض وكشفت هويته ومغزى خطابه ورؤاه فنياً وجمالياً وسيسيولوجياً وسياسياً والواجب النقدي مع التماسنا العذر عن الإطالة يلزمنا تسليط نور التفكيك باتجاه العتمة عند بعضِ زوايا تلك التفصيلات باجتزاء فكري حسب موضع وحراك الشخصيات الأربعة ضمن نسق العرض بطريقة المحاكمة الإنفرادية وسردها كتأريخ يختزن فكر عجوز يروي حكاياه لأحفاده وهم يجتمعون حول موقد نار يجسد رقص لهيبها وهسيس جمرها تلك الحكايا صوتاً وصورة.

مع أول حركة شهدها المنظر العام لفضاء الخشبة بخلفية سينوغرافية اتخذت شكل الغابة تولّدَ نظام الإحالات الصورية الذي أكد عزلة الخادم ومن معه، تلك العزلة الغارقة بشعور الإهمال في ظل غياب اللغة والتواصل مما أفضى الى الكبت والإخصاء الذي كان طريقاً للجريمة التي كانت أدواتها فردية من خلال الخادم وبقية العائلة إلا إنها واقعا جريمة ارتكبتها الجماعة في ظل عالم صامت لا تعنيه استغاثة أحدهم، لا تعنيه الأرقام المهولة لقتلى عملية ارهابية في صميم العالم، لا يعنيه شعب محاصر يموت اطفاله زرافات ووحدانا كل يوم لعدم توفر ابسط طعام عرفه التاريح وهو الحليب.. عالم فقد التواصل لا يعنيه فعل هذه العائلة الدموي مما افضى الى أن ترى في القتل عذوبة وانها تحسن صنعاً، وفي نفس الوقت ولعدم وجود الرادع لها أصبح اليأس حاكمها في النهاية بعدم القدرة على التراجع والعودة الى المربع الأول بالتواصل اللغوي المتفق عليه والعودة الى الماضي القريب حيث الفطرة الأولى فكل ذلك أصبح من الخيال حيث أن الجميع أصبح نهباً لرياح باتجاه واحد لا تراجع لها كنا نأملها رياحاً للتغيير بالإتجاه الايجابي لكنّها أتت بما لا تشتهي سفن النوايا الحسنة.

عند نقطة معينة كان فيها الخادم عائداً تواً من دفن أحد الضحايا تواجدت وبقوة فرضية عبثية الوجود التي تتسيد تفاصيل حياتنا على لسانه وهو يحاور الأم التي لم تنم حتى ساعة متأخرة من الجريمة والموت رغبة في أن يَعزفُ نغماً في مخيالها الدموي اعتادت عليه روحها المعذبة وهو يقول لها تم كل شيء حسب العادة.. وحسب رغبتك

- خلص؟

- إي خلص

لنكتشف هنا سذاجة الإنسان وهو يستسلم لحياة عبثية ما كان مفترض به أن يعيشها بجدية كبيرة كما هو حاصل في حدود جريمتهم وهو يخبر الأم كالعادة بخطواته الرتيبة في ظل دائرة لا فراغ منها ولا حاجز يصرخ بوجهه قائلاً قف!!! يمنعه ويمنعنا من مواصلة التجوال في ميادين تلك الحلقة المفرغة هذا التجوال الذي يكشف رتابة اليومي ونحن نرزح تحت وطأته.

-أشيل وأحط

-والمكان؟

-نفس المكان

لترد عليه بعبارة صفراء تصف ما هي عليه لكنّها ظاهراً تكافئ ما اقترفته يداه بكلمة ترفع من مستوى كفاءته في القتل والتغييب

- عفيه عليك وعلى قلبك الصخر

فيرد عليها بعبارة تلخص شيئا من واقع هذه العائلة المخصية عن صنع الجمال وهو غارق في صراعٍ وعاءَه إبريقَ شاي يغلي بعذابات مهولة مُوزّعٌ بين العاطفة والعقل، بين الأنا وضميرها.

- عفيه على زماني الحول الليّن صخر

مما يعني أنّ هناك عملية تحول جيني طرأت على حياة تلك العائلة وهي عملية متداخلة ضمن عمليات تحول كثيرة وعديدة استثمرتها د.عواطف نعيم لتعلن عن صخب الحياة الأصم وضجيج الواقع المَقْعِي إدباراً.. وهذا ما كشفه عنوان العرض الفلسفي "جنون الحمائم" والحمائم جمع حمامة كما هو معروف والشخصيات الأربعة في أصل وجودها حمامات وديعة والحمام كما هو متداول سيسيولوجي صديق تاريخي عميق للإنسان والألفة واللحظات البيضاء لكنها عندما تضام وتذل وتحرم من طعامها الذي هو حبات حنطة تعد على أصابع اليد تتحول لما يملكه الانسان من حيوانية قاتلة وكأنها استعاضت عن ما حرمت منه بشيء اشد وأقسى وهذا ما يذكرني بفيلم سينمائي امريكي ثمانيني بعنوان امبراطورية النحل حيث كان شاهداً على قسوة الإنسان اتجاه النمل بعبثه وجنونه ومن أشكال جنون الانسان هذا هو رميه المخلفات النووية والنفايات الكيميائية في عرض البحر ليصل ساحل أحد البحار برميل معبأ بهذه النفايات فيتناوله النمل بشراهة متحولاً الى نمل أسطوري بحجم مخيف ليقوم بقتل كل من على الجزيرة من بشر وخاصة من كان سيئاً في سلوكه اليومي.

الخادم في جنون الحمائم هو تتمة لشخصية الخادم في سوء تفاهم حيث كان صامتا أصمّاً أبكماً بشيء من القسوة تطور لدى عواطف نعيم بعد أن كان لعابة صبر خزّن كل ما مر أمامه من مأساة عاشها هو بمعية الآخرين بقسوة ورعب حتى حان موعد لقاءه عند معالجة عواطف نعيم بتوهج فلسفي ليتفجر غضباً بلسان بَيِّن وبتدخلات حاسمة أشد قسوة من خادم البير كامو لكنه مازال يحمل صوت طفولة مذبوحة على أعتاب مجتمع مختل عقلياً لذلك كنا نراه من خلال الأداء الممتع لعميد المسرح العربي عزيز خيون وهو يتقافز بفورات راقصة تلخص تاريخياً لهيستريا حمامات مذبوحة اتهمت بالرقص لشدة الألم ولرفضٍ داخلي عاشته وتعيشه باتجاه ما جرى ويجري من تغييب وقتل للبراءة، للفطرة، للطفولة مما دعاه أن يتعرى بطريقة البورنوغراف كما هي لدى الإبنة لا بنهج إباحي لكشف ما هو مكتشف ومعروف بديهي لدينا فلغة التعري هنا تجاوزت ظاهر الجسد بل تعرٍ كشف حجم المأساة المهول الذي عاشته الشخصيات الأربعة وكأنّهما ارادا أن يقولا أنّ تضاريس أجسادنا ليست بالغريبة عن بعضنا البعض لكن الفارق ما بداخلنا من وجع يغلي لذلك هو تعري داخلي نحتاجه بين حين وآخر كسلوك تطهيري نعلن من خلاله حقيقة كوننا ضحايا لا جلادين ضحايا ظروف قاهرة صنعتها العبثية بطريقة } الما عنده ظهر ينضرب على بطنه {.. وكأنه تعنيف لمن يدين أبطال أفلام البورنو في تعرية أجسادهم التي هي أجسادنا المألوفة للجميع فما بالكم فيمن تعرى ليكشف لكم وجعه الداخلي الممتد من يوم مولده وحتى خاتمته هذا الوجع الذي لكم نصيب كبير في وجوده وخلقه وزرعه في ثنايا أرواحنا المعذبة.

وبعد أن لاحظَ الخادم ارتخاء عضلات الأم وجسدها بآه عميقة أطلقتها وهي جالسة على الكرسي الطغياني لطمأنينة غازلت هوسها بنجاح الخادم كالعادة في تنفيذ ما تريده طلب منها النوم رغبة في إعلان صباح وردي وختم ذاكرة الموت لديها بالشمع الأحمر وأنْ تنسى ما هي عليه من رغبة محمومة في ضخ العزلة لما حولها بشكل جريمة ضحاياها اكتضت بهم الأرض وهي إشارة واضحة الى أنّ ملك الموت هنا في ظل هذه العزلة هو الأم وما الخادم إلا أداة مسيّرة وعليه السمع والطاعة، وفي عبارته هذه أراد القول للأم أن نومك راحة لك وللآخرين وبمونولوج داخلي (مو كافي موت)

- نامي خاتون.. بلكي نفتح عيوننا على صبح شمسه متغيب.. وطيره ميجفل..

ولعظيم الخوف الذي كان مسيطراً على الخادم وهو يواجه دموية الأم وابنتها أصبح محالاً عليه أنْ يحلم وهو مستيقظ، هذا الحلم المشروع لكل إنسان في أنْ يكون غده مشرقاً وحتى وإنْ نام وأصبح الحلم مباحاً لا ضير منه فسيصطدم بالتأكيد بطريقة تحقيقه لأنه مستلب، مقيد فكرياً، وروحياً وربما جسدياً وما هذا الحراك الذي يزاوله أمامنا ما هو إلا هذيانات شبح متقاعد عن الحياة يريد التعجيل في نهايته وختم جوازه باتجاه العدم.

- ما أقدر انام.. حتى ما نحلم بشي نشتهيه وما نحصله

لينتهي بنا المطاف تأويليا أنّ النوم لدى الخادم هو فض نزاع لحجم الشعور بالألم الذي يعيشه وكأنها رغبة في الموت والخلاص، لكن هيهات له لعظيم ما اقترفت يداه وكأنه الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان يأمل النوم ولو برهة دون أنْ يرى ضحيته سعيد بن جبير يطبق على خُنّاقه مبشراً إياه بالنار وسعيرها.

وبرسائل مهمة أوحت بها العلامات العديدة الصاخبة والضاجّة في العرض لاحظنا أنّ الخادم طيلة زمن العرض لم يُرى جالساً على واحدة من المثابات الديكورية التي احتوتها أحضان الفضاء المسرحي فقد نجحت د.عواطف نعيم في بحثها التكاملي عن الجمال الهارموني اللذيذ وبطريقة الأسلبة الواعية بإسقاط الإضافات برشاقة حيث ذهبت باتجاه هذا المنحى التجريدي الجمالي واختزال الواقع وثيمة العزلة والفراغ وعدمية الوجود بمنظر مسرحي غاية في الجمال حيث لاحظنا الأم عند حدود عليائها وجبروتها وطغيانها حيث الكرسي الشاهق.. والإبنة عند مثابة أوطأ من مستوى كرسي الأم في موقع على يسار الخشبة.. والإبن عند نفس مستوى المثابة الآنفة الذكر ولكن على يمين الخشبة.. حيث مثلت المثابتان جناحي الأم التي تصارع الزمن وهي تحاول أن تطير مبارحة هذا النفق المظلم، والمكان الموحش الرمادي، بحثاً عن أفقٍ عريض لحياة جديدة.. لكنها أجنحة كسيحة لا تجيد الطيران ورعونة المسلك والسلوك هما من جعل الجناحين بهذا الشكل المعاق.. الجناح الأول يمثل الإبنة وهو جناح يعاني الجنون والعزلة والاغتصاب والرغبة في الانتقام تفترسه الهشاشة وإنْ بدا قوياً والثاني يمثل الإبن القادم من الضباب والعدم لا يقوى على الرفيف ولا الصفيف لأنه ميت مشلول منذ ثلاثين سنة ولّت ورحلت ووجوده الحالي موت من نوع آخر.. وفي رأيي وقناعتي النقدية أنْ الأم مع هذا الخلل في إمكانياتها المعاقة في الطيران والخلاص نجدها أحيانا قد استسلمت لهذا الأمر فاتخذت من الحكاية برمتها تسلية لقضاء الوقت حتى موعد ينتهي فيه كل شيء وتجلو الغبرة وهي إشارة عبثية بالغة بإحلات وانزياح اتجاه الوجود في الولادة والموت واعلان ان الحياة كوميديا عبثية لا طائل منها.. ومن كل ما مر آنفا نرى بوضوح حرفية عواطف نعيم الإخراجية وجمالية قراءتها للنص وإبداع تعريقها وفقاً لنظرية الثابت والمتحول حيث مازجت عواطف نعيم بين المنهج الساتناسلافسكي ومنهج مايرهولد لتأكيد الدلالة والتشكيل المسرحي للجسد في ثنايا الفضاء بتداخل مع قيمة الكلمة واللغة ووجوب حظورها عند جدلية الوجود وما يرافقها من جدليات متناسلة وذلك من خلال عملية فصل قصدية من خلال الخادم وبقية الشخصيات الثلاثة بين الحركي المتكلم بقسوة وبين الساكن المتكلم على استحياء مما أفضى الى توليد قناعات لدينا أنّ الخادم هو في أصل ذاته القدر الأعمى الذي يراقب بعيون جوانيّة ويتابع ما صنعه الثلاثة منتهزاً الفرصة للقفز على خنّاق أحدهم في صورته الساكنة وهو يعتلي المثابات الثلاثة لينهي حكاية الإنسان وصراعه مع الحياة.. فلو قمنا على سبيل التجريب بعملية نفي لشخصية الخادم عن حدود العرض لما حصل أي خرق أو شذوذ في الفعل لدى الأم وابنتها وأصل الحكاية بل لاستمرتا بالقتل وافتعال الصدفة في تواجد أبناء وأخوة آخرين وضحايا آخرين وتصفيتهم وسداد الدين المعنوي والحقيقي في إشارة الى دين الأم مع ابنها الذي لم يدخر جهداً في مغادرتها يوم كانت بحاجة إليه ودين الإبنة مع المجتمع الذي انتزع منها حريتها وربما أعز ما تملكه.. شرفها.. إذن الخادم هو في أصل ذاته قدرنا المرئي الشبحي الذي يلازمنا كظلنا هذا القدر الذي تعلم كيف يصطادنا كحبات الحنطة بمنقار فاختة جميلة وما افتعال كونه حفاراً للقبور لمحو أسماء الناس بذاتها من صفحة الوجود ما هو إلا تمويهاً وبث ضبابية لإحداث الفعل الدرامي الناضج لدى المتلقي من قبل كامو ونعيم مع وجود الغاية الدرامية اللازمة لتأجيج الفعل وانعكاسته.. وفي تأويل آخر للخادم هو الزمن الذي تحدثنا عنه بما يخص الأم في إنها تعول على مروره وتقادمه حيث يعيق الحساب والمحاكمة لذا بطمره الجثث في خبايا الأرض هو قطع دابر الحكايات واعلان خاتمتها بالتواطئ مع الزمن وعلامة ذلك هو الحاح الأم وابنتها في التعجيل بعملية القتل والتخلص من الجثة مخاطبة الخادم او الزمن بعدم التوقف عن المسير بعد أن طلبت من الإبن الاستمتاع بشرب الشاي المسموم.

- اشرب اشرب جايك لا يروح يبرد..

- لا تشغله خلي يشرب الجاي بالهيل

- يبين تحب الجاي بالهيل

- شراح يكون غير واحد من الساكتين المحنيين الراس.. شيله هو وعوده وادفنه

ليصرخ الخادم هنا بعبارة سحرية ايقضت دموعنا وحرضتها لشق نهر ثالث يتقاطع مع دجلة والفرات حينما شكا للأم عدم وجود مكان يسع جثة اخرى "صرنا نخاف نحفر اساس بيوتنا.. لا نلكه جثة زوج لو اخو لو ابن".. اشارة الى المقابر الجماعية التي مثلت ظاهرة وثقافة دخيلة على مجتمع كان ينام بعد المغرب مباشرة تاركا باب داره مفتوحا دون حراسة.

الأم في جنون الجمائم هي الوطن المشاكس الماكث في الحروب.. الحروب التي قتلت ابنائها لعظيم أنانيتها لاستحواذ جدلية البقاء على مخيالها الوجودي والتي هي المحرك الرئيسي لجميع افعالها فالغاية لديها تبرر الوسيلة وموت الابناء وهجرتهم عامل مهيمن في البقاء لها ولسلطتها مع تأشير مهم طالعناه في سلوكها الاعتذاري حينا والذي أكد كذبها في كل ادعاءاتها لتبرير هذه الأنانية التي هي عليها وهذا ما سنؤكده في قابل مقالتنا لاحقا.. كذلك هي السلطة الحاكمة المهيمنة والتي أوحت بها طبيعة الكرسي الذي احتوى كيانها وقد تمثلت بعمومياتها باتجاه هاجس الخوف الذي خيم بظلاله على الفضاء المسرحي مما أبطل حرية الفعل لدى الشخصيات اشارة لقول أحد الطغاة الحاكمين بامر الشيطان في معرض دفاعه عن سلطته أمام ابنه وولي عهده "أنك لو نازعتني هذا الامر لأخذت الذي فيه عيناك"..مما ولد هذا الطغيان فينا خوفا نشأ وكبر وترعرع حتى اصبح ثقافة وهو الذي منع الخادم من أن يصرح جهاراً أمام الخاتون بأنّ ما نحن فيه نتيجة طبيعية لرعونة التفكير وسذاجة الثقافة التي لازمت تفاصيل حياتِك في ايمانِك بأن الحل والاجتياز لجميع العقبات لا يتم الا بالقتل والحرب والانتقام.. ورغم مشاركتنا في القتل والتغييب ما نحن الا ضحايا لما أنتِ عليه من هوس وجنوح صوب العزلة وتصفية الآخر المضاد.. وما ابنتك إلا امتداد لحليب فاسد غذيته لها صَنَع منها وعاءً لا يركد يعيث بأسماع السماء صخباً وصراخاً حتى يمتلئ بالدم فيهدأ حيث ترجمت الإبنة ذلك الانطباع بمطالبتها أخيها بشرب الشاي المسموم بإلحاح وعلى عجل بطريقة متعطشة والذي يذكرنا بعسل معاوية كي تراه غائبا في طيات الارض السحيقة ميتاً بلا حراك انتقاما لجراح طالتها فيما مضى وسنناقش ذلك عندما يحين دور محاكمة الابنة في قابل المقال..

"لم أعرفه فقتلته.. وحين لا تعرف الأم ابنها فعليها أن ترحل"

ابدعت د. عواطف نعيم في توليد ازمتين بدتا كهرمين دراميين غيرا مسار الحكاية وأججا الموقف باتجاه معقد بعد الأفقي المستمر الذي عكس اليومي الرتيب حسب ملتون ماركس حيث قال "الأزمة هي نقطة التحول التي تغير مجرى الأحداث كلياً".. تداخلت الأزمتان كنواة في خلية وهذا ما نسميه السببية الدرامية بخلق الأزمات وتداخلها وصناعتها لبعضها فالأزمة الأولى وجدناها عند عتبة بلادة الانسان بوصول الإبن للنزل لإكمال فصول تمثيليته الساذجة الغير محمودة العواقب في ظل عالم صامت فقد اللغة المناسبة للتداول والتعاطي اللساني والشعوري مع الآخر وحسب رينيه ديكارت حيث قال "من الخطأ افتراضنا بأن الآخرين يفكرون بنفس طريقة تفكيرنا"

أتى الإبن بعد طول غياب وقد أحدث الزمن ما أحدث في ذوات أمه وأخته فيباس الشعور من أولويات ما اكتوت به قلوب أرحامنا لهول ما مر من خراب ولاعتبارات قصدية لديهما أن الآخر هو الجحيم كما قال سارتر في نصه المسرحي الأبواب المغلقة لذا كان الابن جزءً من الخراب فالظلام دامس والفضاء ضبابي حد اللعنة وقد أحسنت صنعا د. عواطف نعيم ببث جزئية الدخان على جانبي الكالوس لتأكيد الصورة الضبابية التي دفعت بالأم حصراً أن لا تتعرف على ابنها على اعتبار ما قلنا آنفا بأنه جزء من الخراب الذي أحاط المدينة وكل المشاعر المقدسة كمشنقة مفتولة الحبل تخنق كل جميل.. لم تعرفه فقتله.. فقد قتلت هنا الفرح الذي كانت تنتظره ولم تتعرف على هذا الفرح بعد مغادرته عنها فنسيت شكله ولونه وحتى حقيقته لعمى داخلي أصبح ملازماً لشخصية الأم كما أن هذا الفرح ملام هو الآخر فلم يأتي بطبول وعزف وألحان واعتراف جلي بأنه قادم من أجلهما بل أتى منفرداً بصفة مُقَنّعة وبكذب كان يعتقده ابيضاً وحسب سارتر "كل كلمة لها تبعاتها وكذلك كل صمت".. كذبه هذا قاد الأم وبأزمة ثانية صنعتها د. عواطف نعيم لتكذب هي الأخرى "كذب صامت" بادعائها بعدم معرفته والحقيقة هي إرادةُ الإعراض عن معرفته كانت قد سيطرت على عواطفها وخاصة عندما تعاطت معه في أداء الأغنية التي كانت تهدهده بها وهو صغير استعادت ذكرياتها معه لكن أنانيتها وسطوة القوى الغيبية التي تمسك بخنّاقها جعلتها تخرس كل نداء عاطفي يتفجر في جوانياتها فما يملكه من مصداق وجود له ثمن باهض هو ما سوف يخلصها من هذا العالم الموحش من هذا النزل المنفرد المعزول المهمل وكما قال توماس كارليل "الأنانية منبع وملخص كل الأخطاء وبواعث الشقاء" لذلك لابد من مذبحة ديونيزيوسية بقربان بشري يمثل أعز ما تملكه الأم وهو فلذة كبدها ليحيلنا ذلك بمقاربة مع ما جرى ويجري من مشاهد الذبح والقتل والتصفية التي كانت صورة حقيقية لواقع فوضوي يبرر القتل، الفارق في الأمر أنّ عزيز خيون وعواطف نعيم وشذى سالم ومصطفى حبيب ممثلون وصنّاع فرجة ومن كان يقتل آنذاك أونلاين قاتل مع سبق الإصرار والترصد بوعي قصدي.

ومن ضمن آليات المغايرة النصية ل د. عواطف نعيم والتملص من عباءة ألبير كامو جعلت الابن الضحية فناناً لقصديات واقعية وفلسفية نعيش فصولها على مدى الأيام باعتبار الدكتورة هي فنانة وفنانة ذات رسالة هي ومن رافقها من الجماليين وقد عانت من الاجحاف والظلم ما عانت من خلال تحجيم الحكومات لحراكها بافتعال ضيق ذات اليد في عدم الدعم وقطع سبل الحضور أمامها بطرق استفزازية كونها محسوبة على النخبة الواعية لماض تنويري في مواجهة الجهل المركب لواقع خرف هذا الواقع الملتاث الذي وقف أمامها كحجر عثرة وعصاً كأفعى تلتف حول عجلة الجمال تعيق قول ما يجول في وعيها من إبداع ترى في وعيها الكامن أنه طريقاً مناسباً للنجاة.

أفرز العرض واقعاً ممسوساً ملغماً بالدلالات والاشارات لإنتاج جيش من التأويلات النفسية لشخصية الإبنة التي جعلتنا المخرجة عواطف نعيم بمعية الممثلة شذى أن نعيشها معهما بمشاعر متناقضة بين الرضا والعطف والشفقة وبين الرفض والبغيضة والاستهجان ففي معرض حوار الإبنة والخادم وهو يحاول امتصاص سورة غضبها لما هي عليه نتيجة ماض ملوث وذكريات معجونة بخسارات تترى

- الدين يتسدد ونرتاح

- الا ديننا شما ندفع اكثر يرجع اكبر واكبر

اشارة الى ان القتل لا نتيجة له الا القتل والخراب

- اهدي بنتي

- اني مو بنتك.. لا تقول بنتي ما ارضى ان اكون ابنة لواحد جبان

- صبري نفذ

-  ابويه لو كان موجود محد قدر يلمس شعرة من راسي.. كلكم عفتوني وخليتوني بين اغراب

عند هذه النقطة اكتشفنا ان هذه الأنثى ناقمة على من فشلوا في توفير الحماية لها ومنهم الخادم الذي هو بمثابة أبيها أو هو أبوها فعلا لكن خنوعه وضعف شخصيته في مواجهة الخطر المحدق بابنته التي تُمثل بالتأكيد الوطن وعاصمته بغداد ووقوفه متفرجا وهي تغتصب بين الأغراب جعل منه شخصية تقاد كيفما يريد الراعي شخصية مستلبة لذا لم يعد له الحق في منادة الإبنة بكلمة "ابنتي".. وما عانته الابنه يحيلنا عند مشارف طفولتها وربما اغتصابها وهي بعمر الزهور ومن خلال الاستبطان الذاتي لشخصيتها وحسب "كننغهام" "أن النساء الناجيات من اعتداءات في الطفولة يعانين غالبًا من التوتر ونوبات الفزع والرهاب" نجد بالتأكيد أن كل ما مر هو "صدمة" بكل المقاييس، صدمة في خسارة ذاتها يوم احتوشها الأغراب وخطفوا أثمن ما تملك، وصدمة أخرى تمثلت في رهانها الخاسر على الخادم الساكت التابع وعلى أخيها الذي هاجر بحثاً عن نجاته مُفَرِّطاً بأخته وحاجتها له.

ومن أعراض الإجهاد بعد الصدمة "عبالك الي شفته هين يا غشيم" كما هي الصدمة لدى المحاربين الأمريكان الذي احتلوا بغداد.. ولدى الناجين من الاعتداء الجنسي في الطفولة.. هذه الصدمة التي سببت عرقلة النمو الاجتماعي الطبيعي لديها وبالتالي فرض حاجز شاهق من العزلة.. وفي النهاية تتطور لديها الاستجابات الانفعالية بتكرارها والاستمرار عليها كعادة طبيعية والقتل واحدة من تلك الاستجابات كما اوردت العالمة النفسانية اليزابيث هيرلوك ذلك في معرض حديثها عن رابط الطفولة بما ينتجه المجتمع في المستقبل.. وهذه الاستجابات الانفعالية أصبحت ملازمة للعائلة مثل عملية جراحية مؤلمة في البداية لكنها باعتقادهم فيها راحة كبيرة بعد التنفيذ وهذا ما لاحظناه على الام بعد اعلامها من قبل الخادم بكلمة "خلص".

نعود الى الابنة وراحتها المطلقة في الانتقام والقتل هو موت من نوع آخر. فعقدة الطفولة مازالت تعيش معها مرافقة لها وطريق الخلاص من هذه العقدة ورغبتها في مفارقة هذا العالم الموحش ان تختلق سببا للعقوبة فعقوبة القتل الموت لذلك هي في يقينها أنّها يوماً ما لابد أنْ تُكتشف ولابد أنْ تنال جزاءها وتعاقب بالموت وهذا انتحار من نوع خاص اعتراضا ورفضا لما مر بها من عنف اجتاح براءتها.

اعتقد المتلقي ان ابتعاد خطاب سوء تفاهم عن خطاب جنون الحمائم بما نصه لكامو "لسنا ننشد عالماً لا يُقتل فيه أحد بل عالماً لا يمكن فيه تبرير القتل" وبما نصه لعواطف نعيم "وإن انتهت الحرب فهي مصدر لتوليد ويلات لا تنتهي" وكأنه بما يشبه تبرير للقتل الذي ارتكبته العائلة لكنه في حقيقة الامر وهذا ما عرفناه في ادق تفاصيل منجزات د. عواطف نعيم انها حريصة على زج خطاباتها في طيات العرض بشكل لا تنتهي معالمه وإن كانت إدانة الحروب ثيمة لمسناها ضمنيا طيلة مدة العرض لكنها ولامتلاكها لعوامل الدهشة الفاعلة في صفع المتفرج بعد خدر دام فيه متسمراً على مقعده وإيقاظه على حقيقة أكبر وأعظم وأجمل وهي الواعية المحنكة التي تعرف كيف تقدم خطابها مغلفاً بطريقة تشكيلية بصرية لتحدث ضجة فلسفية في ذات المتفرج وذلك عندما أنزلت في خاتمة العرض جثث الضحايا بتزيين كروتسكي بالغ الصدمة في ذات المتلقي من أعلى نقطة في مدى بصرنا حتى متوسط رؤيتنا لتقول لنا الدكتورة ترجمة ل "جان كوكتو" حيث قال "الحياة سقوط عمودي" أي أن كل من فارقنا مظلوما في ظل هذا الخراب الذي عشناه أو هذه الجثث التي هبطت من عليائها ما هي الا حياة ناطقة ما زالت تتحدث بذاكرة مجروحة وانها اي الجثث لم تمت فما زال الدم يجري في عروق من غيب من اصحابها فهم احياء يرزقون.. اشارة اخرى في العودة والرجعة للضحايا لمحاكمة الجلاد والاقتصاص ممن قض مضجع احلامنا.

حاولت المخرجة فنجحت من خلال الموسيقى والمؤثرات الصوتية والاغاني والرقصات والحركة العامة الآخذة بشكل موجات تدفع أخرى منح كل ذلك بعداً تأويلياً أو استعارياً لتأكيد الخطاب الرافض لقسوة الزمن الذي نعيشهُ ومدى اعتقادنا الواضح بأن الرابح في الحرب خاسر لا محالة.

أما على صعيد التمثيل ولأن الممثل علامة مسرحية تمثل لبنة متعاضدة مع لبنات العرض وعناصره الجمالية أثبت الجميع بإمارة عميد المسرح العربي عزيز خيون أن التطور الادائي لديهم لم يقترن بالزمن في خطه الأفقي أو الانحداري بل كان شاهقاً ولم يكرر نفسه بل افرزت حداثة الفعل الميكانيكي الدرامي جسدا والقاء وبتفرد خصيصة تمثيلية راسخة لدى هذه القامات منحت المتفرج هارمونية تلقي لا شذوذ فيها بابتكار علامات ادائية مثلت درسا للجميع بأن المبدع لا يتحرك على خشبة المسرح الا ومعه الخبرة والموهبة والاخلاص والعدوى والاقناع فهذا هو مفهوم الخصوصية والتميز لدى الممثل عند هضبة "التقنية الداخلية والخارجية".

***

كاظم نعمة اللامي

ترى جوليا كريستيڤا أن التناص عملية تداخل وتمازج مجموعة من النصوص ينتج عنها ولادة نص إبداعي جديد. ويُعد الموروث الديني المصدر الأول الذي يوظفه الكاتب في نصه الأدبي. والرواية خاصة تتميز بالقدرة على احتواء النصوص التراثية وتحويلها إلى إبداع أدبي يحقق غايات جمالية ودلالية.

والتناص الديني عبارة عن اقتباس أو تضمين من القرآن الكريم أو الحديث الشريف وغيره. وهنا يحصل التداخل بين النصوص التي تكسب العمل الأدبي ميزات وخصائص شكلية وفنية جديدة.

وقد عمدت الكاتبة صفاء بيدس إلى التناص الديني لتعزيز الرؤية الإسلامية للرواية لدى جيل الناشئة في مواجهة معززات الراهن الخاضعة لهيمنة العقل المادي. فكانت على دراية للمضامين والدلالات القرآنية والحديث الشريف فنجحت في ربط تلك النصوص بالواقع.

- التناص مع القرآن الكريم:

الغالب في التناص مع القرآن الكريم الأخذ من قصصه لأنها تحمل دلالات عدة. وقد احتوت رواية حياة نصوصا كثيرة متنوعة اندمجت وتداخلت وعمقت الرؤية للأحداث وساهمت في تشكيل البناء الفني للرواية.

وأول نماذج التناص القرآني استدعاء شخصية النبي موسى عليه السلام. وقد تلاعبت الكاتبة بحيث غيبت الشخصية الحقيقية للنبي عن طريق التناص والإحالة،ولولا المغزى وبعض المؤشرات التي توحي بتناصه مع القرآن الكريم لما أدركنا أن الكاتبة اغترفت من النص الديني الذي تماشى بكل حرفية مع مسارات السرد. فنجد في قصة سديل وأبيها في الرواية تناصا مع قصة النبي شعيب وابنتيه مع النبي موسى عليه السلام.قال تعالى في سورة على لسان ابنة النبي شعيب عن النبي موسى (يا أبت استأجره إن من استأجرت القوي الأمين). حيث نجد الكاتبة تعطي يحيى بطل الرواية هذه الصفات فعلى لسان الساردة ص54 (كانت سديل تتابع يحيى من هودجها، كانت ترى صدقه وحسن معاشرته لوالدها..لم يكن ليرفع بصره في وجهها). وفي قصة موسى طلب النبي شعيب أن يتزوج إحدى ابنتيه، وفي الرواية نجد والد سديل ص59 يعرض ابنته على يحيى (إني أعرض عليك الزواج بابنتي لحسن خلقك ودينك).

أما النموذج الثاني للتناص مع قصة النبي موسى عليه السلام فنجده في الآية 7 من سورة القصص حيث يقول الله تعالى (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين). وهذا ما حدث مع أم يحيى بعد وفاة زوجها وخوفها على ولدها من عادات القبيلة فابعدته مع جماعة عبر البحر ص 80 (أخذته وأوصت به جماعة تركب البحر فهناك حياة هناك خلف البحار) فيحيى بطل الرواية والنبي موسى تم إنقاذ حياتهما عن طريق الماء. وكل منهما تربيا على يد غير والديهما، فهذا تناص آخر مع قصة موسى عليه السلام.

كما ورد في الرواية تناصا مع قصة النبي يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز ففي سورة يوسف 29 يقول الله تعالى (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين). وقد تناصت قصة يحيى مع ملكة بلاد الفرسان حيث حاولت جره إلى المعصية لكنه تمنع وفضل الموت في الصحراء على أن يعصي ربه. ففي ص45 ما جاء عن الملكة على لسان الساردة (قالت وهي تمسك ثيابه بيدها الأخرى،لكنه دفعها بقوة فارتدت إلى الخلف وسقطت). فاتهمته عند زوجها الملك كما فعلت امراة العزيز فكان مصيره أن ترك في الصحراء ليموت فسلم نفسه للحراس طوعا كما فعل النبي يوسف عليه السلام عندما فضل السجن على الوقوع في المعصية.

كما تستحضر الكاتبة قصة هدهد النبي سليمان وتقصيه لأخبار البلاد ففي سورة النمل 22 يقول الله تعالى على لسان الهدهد للنبي مبررا غيابه للنبي سليمان (وجئتك من سبأ بنبأ عظيم). وفي روايتنا عندما يسأل الهدهد يحيى من أي البلاد جاء فيخبره من بلاد الفرسان يعقب الهدهد ص52 (بلدة فاسدة وأهلها ظالمون) وهنا تكون الكاتبة قد استخدمت تقنية التناص باستعادة قصة هدهد سليمان عليه السلام..

- التناص مع الحديث الشريف:

يعد الحديث النبوي الشريف التشريع الثاني بعد القرآن الكريم والتناص مع الحديث الشريف من أنجح الوسائل لإيصال وتبليغ رسالة ما وقد استثمرته الكاتبة في نصها فاستخضرت نصوصه بما يتماشى مع مضمون كتابتها ويخدم إبداعها. ومنها التناص الذي جاء على لسان هجان أخت يحيى ص95 (لأن يهدي الله بك قلبا خير من الدنيا وما فيها) مع حديث (فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم). وما جاء على لسان سديل لوالدها ص61 (ألم تقل لي أن المسلم أخو المسلم؟) فقد تناص مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) إلى آخر الحديث.

وغيرها الكثير من التناصات التي لا تسعنا هذه الدراسة بالإلمام بها والتي نجحت الكاتبة في توظيفها.

بقي أن نقول بأن رواية حياة رواية موجهة بذكاء إلى فئة الفتيان حيثراعت صفاء بيدس استخدام الخيال الذي كما قال عنه الباحث العراقي نجم عبد الله يرمم الفجوة بين مدركات الطفل وخبرته المحدودة وبين ظواهر العالم المعقدة التي يبدأ بملاحظتها منذ أن ينضج وعيه على العالم حوله .

كما استخدمت عنصر التشويق وهو عامل مهم في أدب الفتيان لشد انتباههم طوال صفحات الرواية وأن تكون الأحداث غير اعتيادية. كما واهتمت بطول الجملة ولغة الحوار..وقد قدمت العمل بحيث امتزجت فيه الحكمة والمغامرة والحب والخيال الواسع.

* الرواية من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/2021

***

قراءة بديعة النعيمي

(حينما اتكلم، اتكلم نفسي، اتكلم ثقافتي)

تبنى الناقد عبدالله الغذامي قضية النقد الثقافي في الوطن العربي على اساس انه آلية جديدة لقراءة النصوص من وجهة نظر النقد الثقافي، اذ تجلت ملامح هذا المشروع ضمن كتب عديدة له، اذ يرى انه فرع من فروع النقد النصوصي العام، ويرى انه احد علوم اللغة والحقول الالسنية، يعنى بنقد الانساق المضمرة التي ينطوي عليها النص  بكل انماطه وصيغه، ماهو غير رسمي وغير مؤسساتي، كذلك لم يعد يرى للنقد الادبي لازمة ومن هنا اعلن الغذامي موت النقد الادبي وولادة النقد الثقافي، كونه رأى ان تركيز الناقد على جماليات النص جعله غافلا عن عيوب الخطاب النسقي، وهو يعني بذلك الزام الناقد دراسة المكون الاول لشخصيتنا السلوكية والثقافية، وهذا ما ولد سجالا وجدلية واسعة وروى متباينة حول الموضوع ما بين المؤيد والرافض والمتقبل للقضية لكن برؤيا جديدة.(١)

من المؤكد ان ما طرحه الغذامي يحسب له، اذ احدث طرحه للقضية موجة من الحراك في ساحة النقد العربي  بعد خموده لفترة طويلة، لكنه ركز على الجانب السلبي لمفهوم الجمالية وهذا ما أخذ عليه.

مثل النقد الثقافي التوسع في مجالات الاهتمام والتحليل للانساق، اذ لم يعد ينظر الى الادب بالمفهوم التقليدي السائد في مجال الدراسة النقدية والتحليلية، بل غدا يمثل في الدراسات المعاصرة جزء ا من كل، وهو اكبر واوسع واشمل، اذ سُمّي هذا الكل بالدراسات الثقافية بما تعنيه الثقافة، والتي بامكاننا ان نوجز دلالتها على انها مكون معرفي شمولي يرصد حراك الانسان وفاعليته في ابداعاته وانجازاته بتخطيطات ذكية، ودوافع عقلية، ومواقف فكرية ونوازع شعورية متنوعة ومعقدة، هي دائرة نشاط الانسان المتحققة على الارض، ووصفها ويليامز بأنها كل طريقة للحياة يعيشها الناس، ويؤكد الناقد روبرت شولز ان قراءة النص الادبي ترتكز على نمطين من الشيفرات توليدي وثقافي، ويوكل للشفرات الثقافية تحليل المادة اللفظية كي نبني عالما اساسه الخيال، وتكون فيه انفسنا مشرقة، اذ ان فهم احداث الشخصية وتراتيبيتها الاجتماعية، وتموقعها لا يكون الا بفعل اللغة، التي تكون مركزا للشيفرات الثقافية، ما يعني ان النص هو نص ثقافي منتج للانساق مولّد للجدلي والفلسفي والاشكالي وتشكيل عالم وفضاءات رحبة يتمازج فيها الواقعي بالمتخيل وتندغم الذات مع المعية، ويكون ذلك اما تصادما او تقاربا أو تضادا، هذا بدوره يثير المتلقي ويحفزه على كشف العالم وتجلياته ضمن مسار فاعل للاسئلة حول الانسان ومكانه وزمانه، ضمن هذه الجدلية يبقى النص نابضا بالتوتر، والحس القلق، والتساؤل، كونها تدور حول الانسان كقضية اساسية، لهذا تكون القصيدة قابلة للقراءات والتأويلات المضاعفة) اما الدراسات الثقافية فقد تشكلها اسئلة ما بعد الكولونية  حول القهر الاستعماري، ومثلت الوسائل التكتيكية لمواجهة تلك الممارسات، اضف لما تقدم فهي كذلك من الممكن ان تتشكل من دراسة النوع، (الجنس) يعني ذلك ابانة العلاقة الخفية بين الرجل والمرأة، وقد تتشكل من الدراسات النفسية، والاجتماعية ايضا ؛ وهذا حسب فكر الفلسفة الماركسية، وقد يكون للاجراءت الانثروبولوجية دور في تشكيلها، او تطبيقات النقد الادبي اوالجمالي.(٢)

من الرؤى النقدية التي تتوافق مع ما سبق ذكره، مايراه (ميكل دوفرين) الذي افترض وجود شكلين متنافرين من قصدية الابداع الفني، يتمثلان بالقصد الحاضر وقصد التأمل، اما القصد الحاضر اي الحاضر المعاش تتحد فيه الذات مع الموضوع، وتؤكد الذات في قصدها التأملي، بعدها التأملي عن موضوعها الخاص، ومن خلال الانتقالية بين القصد الحاضر والقصد التأملي يتولد الجدل الذي يؤلف الجدل الجوهري لوعي الانسان، اذ يزاح الحاضر المدرك الخاضع لسيطرة الافكار ازاحة مستمرة، اما الدور الانتقالي فيكون الخيال فيه محكما سلطته.(٣)

ولرؤية ياكبسون صداها ضمن هذه الجدلية، اذ يرى ان الدراسات الأدبية يمكن ان تصبح علما،  اذا ما سلط التركيز على دراسة النسق فقط، كون النسق نظاما، اذ تتجلى نظاميته في مخاتلته وطبيعة لغته المراوغة، فضلا عن ذلك يصبح شكل النص المؤلف بهذه اللغة الخاصة بابا لتحرر رؤية الشاعر وقيدها في الوقت ذاته.(٤)

من الرؤى النقدية التي رفدتها الحقول الثقافية ما قدمه ستيفن غريبلات حول الانطلاق من مفهوم جماليات النقد الثقافي، اذ مكنت هذه الرؤيا من تخفيف حد الهوة السحيقة بين الشعرية والثقافية، ورأت من الجمالية اداة تسويق وتمرير المخبوء، فكل ايحاء جمالي يضمر نسقا، فيكون له دور على التعمية الثقافية، وهذا بدوره يمكن الانساق من الاحتفاظ بحيويتها ودلالتها، ووجدت هذه الرؤيا صداها في الاردن، اذ تبنى الناقدعبد القدر الرباعي هذه الرؤيا منطلقا من مرتكزات النقد الثقافي التي حددها الغذامي وقد تبعه الناقد يوسف عليمات والعديد من النقاد، إذ اطلق عليمات عليها (بالرباعية الجديدة)

اما تركيز الناقد على الانساق المضمرة هدفه ابانة االوظيفة النفعية لكل ما هو جمالي او بلاغي، نعني بذلك انه لايمكن للجانب الجمالي ان يهمل من لدن الناقد، في الوقت الذي تنظر فيه العديد من الدراسات للجانب البلاغي والجمالي على انه حيل خادعة وعلى الناقد ان لا يتطرق لها، و من جهة اخرى لا يمكن لمبدع النص ان يتجاوز الجانب الجمالي كونه الهدف الرئيس والاساس لتحقيق شعرية الشعر، هذه الرؤيا التي شكلت عالم النص هي ذاتها التي تقتحم العالم لتخرج الشاعر من قوقعته ضمن حدود زمانية ومكانية متينة الاسوار وعالية الجدران، فتخترقها تلك الذات المبدعة ويعلو فوقها ليصل الى عالم لا تحده المواد مهما كانت صعبة.(٥)

تتمثل علاقة علم الجمال بالنقد من خلال تمثيل العمل الفني بثلاث دوائر متداخلة، مثلت الدائرة الاولى الكبرى وتشمل هذه الدائرة العناصر التي تجعل العمل الفني عملا فنيا وهي ضمن ساحة عالم الجمال واهتماماته، وفي الوقت ذاته تفيد الناقد، اذ توضح له من البداية بأن العمل الذي ينقده عمل فني او انه بعيد عن الفن، ويتمثل بالتفكير بالصور اما الدائرة الثانية الاوسط فهي التي تحدد العمل الفني فيكون قصة او  شعرا او الرواية، وهي محل اختصاص عالم الجمال والناقد، اذ يحدد عالم الجمال العناصر العامة التي تميز كل عمل ادبي، اما مهمة الناقد فيصور لنا كيف ترجمة المبدع هذه العناصر الفنية ووظفها وجسدها في ابداعه، اما الدائرة الصغرى فتتمثل بالعناصر الاسلوبية والتكنيكية، وتقع ضمن اهتمام الناقد و اجتهاده اذ يعمل على اجلاء الخصائص التي تميز اسلوب الكاتب وطريقة بنائه للعمل الادبي والوسائل التكنيكية التي وظفها، ويعد الفيلسوف الالماني الكسندر جوتليبب بومجارتن (1714 /1767) اول من امسك مصطلح علم الجمال، اذ كان يقصد به علم الاحساس، هدفه دراسة الافكار الغامضة مقابل الافكار الواضحة التي دعا اليها ديكارت، و يرى ان الفن تعبير يوقظ الشعور، وهذا بعيد كل البعد عن الجلاء العقلاني، اي ان مادة الفن ليست عقلية، وفي الوقت ذاته يرى ان القيمة الجمالية لاي عمل فني تلتقي مع الحيوية الحدسية للصنعة المنصهرة للتجربة التي تبعتها، وهذا يعني انه اول من مهد الطريق لجعل الجمال ليس علما بل انه شديد الصلة بالأحساس مقابل هذا التيار ظهر تيار اخر للفيلسوف الالماني فردريك هيجل (1770 /1831)، اذ جعل من الجمال فلسفة للفن الجميل، اي انه تحليل فلسفي للوعي الجمالي ورسم خط فاصل بين الفن الجميل والفنون التطبيقية، اذ يرى المفكر المجري جورج لوكاتش، ان الادب يجيب عن  سؤال واحد والذي يتمثل بقوله (ما الانسان ؟)، وهذا السؤال يختزل النظرة الكلية للادب ازاء العالم والمنظور في رايه.(٦)

من الممكن لاي شخصية ان تعلي من قيمة ما وتدافع عنها بمحاولات حتى وان باءت بالفشل، اذ يرفع هذا المنظور من شأن الفن ويجعل منه رؤية كلية شاملة بعيدة عن التجربة الذاتية، بعبارة اخرى توحد الذاتي بالموضوعي.، ويذهب لوكاتش الى ابعد من ذلك ويصبو الى نقل الحياة وتصويرها في كلية شاملة، ومايوحد ذلك هو الاهتمام بتكامل الانسان، ويكون ذلك بالخروج عن المصالح الضيقة والتعبير عن الوعي الشمولي، والايديو لوجية هو ان يتنازل المبدع عن ذاته الجزئية من اجل الانسان، فجوهر الادب هو التوحد مع التجربة الذاتية كشفا للقيمة الانسانية العامة، ولا ينقل الادب الواقع الفج او ايديولوجية محددة،  بل انه يحاول ان يسمو بالواقع وينقيه ويرفعه نحو المستقبل، ويؤكد لوكاتش ان الادب فن عظيم يسعى الى تقديم صورة يحاول ان يحل من خلالها التناقض بين المظهر والحقيقة، والجزئي والعام، والمباشر والتصوري،، حتى ينصر كلا النقيضين وتقديم شعور يوحي بالتكامل الذي لا ينفصل، ما يعني اننا ملزمون بالنظر الى الادب برؤية كاملة شمولية ولا يقصر على حقبة تاريخية بعينها وواقع اجتماعي بعينه، اي ان عليه ان يتجاوز الحقبة التاريخية، وبتتبع منتج السماوي تجلى لنا انساق مخاتلة تصارع انساقا تنافرها، لكن اذا ما حاولنا تنقيب تلك الانساق بدت مقبولة، مقنعة للمتلقي، من خلال تبنيه قانونا يسمح بذلك انطلاقا منها يدرك الجمال الفني، وعندما نقول ان النص الشعري هو انعكاس لظاهرة ثقافية جمالية، يعني ذلك ان الشاعر يرفد مادة النص الشعري من منبع الثقافة من صورة او فكرة او مادة فنية، من نبع ثقافة التفاعل مع المجتمع بأعرافه وتقاليده، وهذا يلزمنا الوقوف على (النسق الجمعي) و(النسق الفردي) اما النسق الجمعي يتمثل بثقافة المجتمع الذي ينسب اليه الشاعر او الممدوح، كذلك الاعراف والمرجعيات التي تخضع لهذا النسق ويمثل النسق الفردي ؛اي النسق الشعري، رؤية الشاعر الذاتية للأخر، اما الاخر فيمثل القبيلة، او الوجود، او الممدوح، او المهجو.(٧)

يتجلى لنا السماوي رافضا ثائرا تارة ومتعاليا تارة اخرى، فيقول في قصيدة (عصفا بهم):

حاشاك تنثر للغزاة ورودا

فقد خلقت كما النخيل عنيدا

*

لازال فيك من الحسين بقية

تأبى الخنوع وان تباح وريدا

*

ومكبرون يرون في وثباتهم

باسم الحنيف على الغزاة سجودا

ومرابطون يشدهم لترابهم

ما شد للكتف السليم زنودا

*

يأبن الاباة المرخصين

ونفيسهم عن عرضهم ووليدا

*

كن مثل طين الرافدين

ولا تكن  ان اوقدوا نار الضلال حديدا

*

سل الضلوع اذا عدمت اسنة

واقم عليهم بالجهاد حدودا

*

واكنس بمجرفة الرصاص قمامة

بشرية لا تستحق وجودا

*

شطبا لها من لوح طينك

حسبها  ان شرعت يوم احتلاك عيدا(٨)

نستذكر من خلال هذه الحماسة حقيقة احداث وقعت بعد دخول المحتل الاميركي وما اثير حول هذه القضية من استقبال بعض من رخصت له ارضه وشعبه المحتل بالورود، وهذه الحقيقة مثلت الارضية التي انطلق منها السماوي رافضا التهاون والخنوع للغزاة، اذ يوجه خطابه للذات المنقادة المتعاونة مع الغزاة فقد تمثل السلطة السياسية،  أولي الامر والحكم في العراق  ومن معهم ممن سولت له نفسه التفريط بأرضه،  ما يوكد ان النص يرتكز على نسقين متعارضين  تمثل الاول ذات الشاعر السماوي / العراق، ومثل الثاني ذات المتهاون الخنوع / السلطة السياسية، الادارة السياسية، وما يتجلى للمتلقي ان خطاب السماوي محمل بنبرة تحدٍّ لتلك الذات واستعلاء، فشاعرنا يرى ان الاستعلاء والعنف من لدن ذات السلطة لايمكن ان يواجه بالضعف والاستسلام، بل يلزم الشعب بأعلاء صوت الرفض، متجاوزا ما تفرضه السلطة، ولنا ان نقول ان صوت الشاعر الرافض لإملاءات السلطة المتعاونة مع المستعمر تحمل اشارة تحذيرية، واشارة ترفض الاستعباد والذل، فمن خلال استحضار الذات الشاعرة لقضية الحسين(عليه السلام )، التي لا تمحى من ذاكرته، دعا السماوي ابناء العراق الى الثورة، اذ مثلت قضية الحسين (عليه السلام) الثورة والرفض والانقلاب على الواقع، وهذا ما يقابل الخنوع  الذي اوحت به دلالة لفظة الغزاة / يوم الاحتلال، وبتصادم تلك التناقضات على ارض واقعه ؛ تشكل الصراع داخله ؛ لمحاولة الشاعر بعث الواقع من جديد وتحويل السلبية الى ايجابية، اذ كان لصيغة الامر التي شكلت نسيج النص دلالة على التهاون والخضوع ففي قوله (كن، لاتكن، سل، اقم، اكنس، شطبا) وهو ما يدل على محاولة الشاعر ايقاظهم من حالة الركون والتهاون والخضوع، فهم كالنخيل بشموخهم، وهم مازالوا يحملون مبادئ الحسين عليه السلام وهم شعب يرفض الذل والخنوع، وكأنه اراد القول عليكم ان تكونوا حماة للوطن فأنتم احفاد الحسين وانتم شعب أصيل، لا ان تكونوا شعبا متهاونا في قضية وطنه، ولو حاولنا تنقيب المفردات المكونة لنسيج النص نرى انها اوحت حاول الشاعر أن يتجاوزها بتقديم ماهو ايجابي ماهو الذي احكم سلطته على اسلوب الشاعر وفكره فبدل أن يعري تلك الذات المتهاونة بأمر وطنهم، حاول ان يسند تلك الذات ويعلي من شأنها، ويذكرهم بمجدهم فهم أبناء بلده، وهو فرد منهم لم يتخل عن مسؤولية بلاده، فحب الوطن والولاء له والتعظيم من شأنه هو ما يعزز انتماءك ويثبت هويتك، كذلك لصيغة الامر التي شكلت نسيج النص دلالة على التهاون والخضوع الذي يغلب على أبناء بلده لذا حاول تنبيههم ففي قوله (كن، لاتكن، سل، اقم، اكنس، شطبا)  ما يدل على ذلك، ومن المؤكد هذا غرس الثقافة ببعدها الانساني الذي اتكأ عليه النص والذي فسره الناقد الثقافي الذي يحاول تنقيب قبحيات النص على انها نبرة استعلاء، لكن ما يراه ناقد الثقافة الجمالي ماهو الا توازن يحاول الشاعر ان يحدثه بين ذات الشاعر والاخر الذي يصارعه.

ونلمح صراع السماوي مع المكان الذي يشكل نسق الطلل والوقوف على ما آلت اليه مدينته السماوة ذاكرا الاهل والجيران، وتفاصيل المكان الذي نشأ وترعرع فيه مسقطا خلجات ذاته على متن النص اذ يقول:

كاللص

فـي حَـذرٍ دخـلـتُ مـدائـنَ الـوطـنِ الـجـريـحِ

مُــفــتِّــشــاً فـي زحـمـةِ الأيـامِ

عـن أمـسـي الـقـتـيـلْ

*

وعـن الـسـمـاوة والـفـراتِ

ونـخـلـةِ الـبـرحـيِّ وسـطَ الـحـوشِ والـجـارِ الـقـديـمِ

وبـيـتـيَ الـمـوعـودِ فـي فـردوسِ بـسـتـانـي

الـذي اسـتـودعـتـهُ

مَـنْ خـان نـامـوسَ الأمـانـةِ والـرجـولـةِ

والـخـلـيـلْ

*

فـرأيـتُ أقـمـاراً مُـهـشَّـمـةَ الـسـنـى

والـنـهـرَ يـســتـجـدي الـنـدى

والـعـاشـقـيـن بـأرضِ نـخـلـةَ يـشـربـون الـدمـعَ

والـبـسـتـانَ مـذبـوحَ الـنـخـيـلْ(٩)

نلمح صراع الشاعر مع نسق الطلل، اذ يقف معاينا المكان (السماوة، مدائن الوطن الجريح، نخلة البرحي وسط الحوش بيتي الموعود في فردوس بستاني)، فيحاول اقناع ذاته بجمالية المكان وسعادته لرؤيته من جديد رغم سلبية المكان الذي بدى له عكس ماتمنى ان يراه فتضاربت احاسيسه تجاه المكان، ففي الوقت الذي يتوق الشاعر العودة الى وطنه نراه ينفر منه وذلك لما آل اليه المكان من دمار، وهذا يتجلى من الحقول الدلالية المكونة لبنية النص (الاقمار مهشمة السنى، النهر يستجدي الندى، العاشقين يشربون الدمع، البستان مذبوح النخيل)، وهو ما عكس صورة سلبية للمكان،، ليس هذا فحسب فنراه ايضا يستدعي نسق الزمان الذي يتوق الى استرجاعه، مفتشا عنه من خلال استرجاع ذكرياته وكأنه يجد في ذكرياته والعودة الى الماضي مايثبت هويته وانتماءه للوطن الذي نراه يدخله كاللصوص وهذا مايؤكد شعوره بالاغتراب، ورغم ان ما مضى من ايامه كان قد احدث ندبا لا يلتئم الا انه يحاول ان يعود اليه وكأنه يعكس موقفا ايجابيا تجاه ما مضى من الزمان رغم سلبيته وهنا يكمن الصراع بين الهروب من الماضي والرجوع اليه، فأيا كانت الثنائيات النسقية التي تحكمت بسير الامور، نرى السماوي يراوح بين الانتماء /والاغتراب، الكينونة / والتلاشي، القوة / والضعف، اذ احدثت تلك الانساق انسجاما يتناسب مع ايديولوجية الشاعر وثقافته، وكأنه يقول انني اتوق للعودة الى وطني رغم ما حلَّ به من دمار وابحث عن ذكرياتي رغم انها لم تحمل الا الحزن والالم الا اننا نراه يجد ذاته الضائعة المغتربة في ذلك الوطن المسلوب الارادة، المستغل من قبل السلطة السياسية، فأثبات هويته وبناء كيانه لا يتحقق الا بالانسجام والانغماس في ذلك الوطن الجريح وهذا ما أراد السماوي التعبير عنه فهو يحاول التعبير عن اصالة الانتماء واثبات الهوية مؤكدا مكانتها ودورها لاثبات وجوده، رغم الترف وحسن الحال في بلاد الغربة الا انه يفضل العودة الى الوطن، لذلك نراه يوجه سؤالا لقلبه طالبا منه النصح في امره هل يترك الترف ويعود الى العراق ام ان ما يحدث في العراق لا يعنيه كونه نال منه ما نال، فيقول:

أأقـولُ مـا شـأنـي

رغـيـفـي طـازجٌ وحـبـيـبـتـي قـربي

وبـيـتـي عـامـرٌ

وكـؤوسُ مـائـدتـي طِـلاهـا الـزَّنـجـبـيـلْ؟

*

فـسـألـتُ قـلـبـي

أيـهـا الـقـلـبُ الـفـراتـيُّ الـمُـنـى والـعـشـقِ

والـحُـلُـم ِ الـجـمـيـلْ

*

كـُـنْ نـاصـحـي..

فـأجـابَـنـي قـلـبـي ســأبـرأ مـنـكَ

لـو خِـفـتَ الـلـظـى فـي الـذودِ عـن عـشـبِ الـغـزالِ

وعـشِّ عـصـفـورٍ عـلـيـلْ

*

وعـن الـحـديـقـةِ والـفـراشـةِ

والـكـمـنـجـةِ والـهـديـلْ

*

فـخـشـيـتُ أنْ يَـعْـتـابَـنـي شَــرَفـي

ويـبـرأ مـن جـذوري

طـيـنُ بـسـتـانـي الأصـيـلْ

*

لـو أنـنـي أطـبـقـتُ أجـفـانـي

وقـلـتُ

حـبـيـبـتـي قـربـي وبـيـتـي عـامـرٌ

وكـؤوسُ مـائـدتـي طِـلاهـا

الـزنـجـبـيـلْ (١٠)

الواضح لنا ان الصراع الذي يرتكز عليه المقطع الانف الذكر يتمثل بصراع داخلي يتأجج في كوامن ذاته لذلك نرى قلبه ينفصل عنه ليكون الاخر الذي ينصحه ويوجهه الى الصواب، اما السماوي فقد بدى متحيرا في امره مترددا بين البقاء الذي عكس الصورة الايجابية وبين العودة الى العراق والذي عكس الجانب السلبي، لكن السماوي فضل العودة على البقاء رغم ماتجلى لنا من سلبية العودة

خلاصة القول، لنا ان نقول بأن المبدع يعمد الى طرح ايديولوجية عامة مطلقة، وان عليه ان يكون ملتزما، اذ يكون الالتزام فلسفيا ؛ اي اثبات ان الانسان هو اساس الوجود وليس زائدا عن الحاجة الكونية، ويكون الالتزام كذلك اجتماعيا يخص قضايا المجتمع.

ما يتجلى لنا من النصوص المنتقاة ان صورة النسق الفردي الشعري تناور بين الانتمائية الى النسق الجمعي والولاء له، او التمرد عليه بنسق مضاد ليشكل الشاعر عالمه الذاتي الخاص، ما يعني ان النص الشعري هو محاولة الشاعر لمعالجة الواقع وتحقيق الانسجام من خلال الانسجام الحاصل ضمن حدود الواقع المعاش، ولان النص ينتمي الى الواقع من خلال شرطه اللغوي، لذلك يعمد الشاعر صياغة واقعه من خلال الواقع، بتمرده عليه لاعادة بنائه بما يتلاقى مع ميوله ورؤيته، اما البنية اللغوية فتتجلى غريبة عن واقعها الاول واقع القول المؤتلف، يكون ذلك من خلال صورتها الغريبة فتتجلى معانقة للواقع الثاني، المتمثل بواقع القول المختلف، وهذا يلتقي مع رؤية ج.ب. بالب، اذ قال ان اللغة الشعرية لاتعزل عن سياقها الثقافي والتاريخي والجغرافي، لذا فالشاعر لا يخرج عن حدود واقعه المدرك بتلاقيه او تنافره.(١١)

***

نسرين ابراهيم الشمري

.....................

المصادر

1. ينظر. تمثلات النسق الثقافي في الشعر الجاهلي، يوسف محمد عليمات، الاهلية، الاردن، ط١، ٢٠١٥

2. ينظر.الاسس الجمالية في النقد العربي عرض وتفسير ومقارنة، عز الدين اسماعيل، دار الفكر العربي، القاهرة، ط١،  ١٩٩٩

3. ينظر.البنية الجمالية في الفكر العربي الاسلامي، د.سعد الدين كليب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٩٧

4. ينظر.جدلية النقد وعلم الجمال، مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٧

5. ينظر علم الجمال الاستطيقا، دنيس هويسمان، تر اميرة حلمي مطر، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ٢٠١٥

6. ينظر.جماليات التحليل الثقافي الشعر الجاهلي انموذجا، د.يوسف عليمات، الموسسسة العربية للدراسة والنشر، الاردن، ط١، ٢٠٠٤

7. المصدرالسابق

8. تعالي لابحث فيك عني، يحيى السماوي، دار التكوين، استراليا، الطبعة الاولى، ٢٠١٢

9. ينظر.جماليات التحليل الثقافي ف الشعر الثقافي، يوسف عليمات.

10. المصدر السابق

11. المصدر السابق

ديوانُ (التّحْليْق بأَجْنِحَةٍ مِنْ  حجر) أُنموذجًا

المُستخلص: إنمازَ التناصُ بصفاتٍ مُلهمةٍ للنصِ،  قادرةٍ على سَبْرِ أغوارهِ والتّغلغلِ إلى عُـمقِ طبقاتِهِ، فالمتحسّسُ لهذه الظّاهرةِ يُدرِكُ الغنى التناصِّي فيه، والذي يَستحقُ التوقْف عندَهُ للبحثِ والدّراسةِ والتّحليل، وإنْ أشارتْ بعضُ الدّراساتِ الأكاديميةِ بإيماءاتٍ لا تُغني عن تناولِ الظّاهرةِ على نحوٍ مُتخصّصٍ في شعرِ يحيى السّماوي، ومحاولةً منا لرصدِ ملامحِ هذه التّجربةِ الجديدةِ وتقديمِ رؤيةٍ تناصيةٍ تنبعُ من ملاحقةِ الشكلِ وتتبُّع مراحلِ تطوّرهِ، كما نقفُ عندَ المضمونِ، متأملينَ تشكيلَ اللّغةِ الشّعريةِ لديه، ومدى تعبيرها عن المفهوماتِ الاجتماعيةِ والفكريةِ والعقائدية والآيدلوجية الثقافية.

يُقدّمُ هذا البحثُ قراءةً عن جمالياتِ التّناصِّ في شعرِ السّماوي، إذ جاءتْ الدراسةُ في مقدمةٍ ومبحثين : تضمّنَ المبحثُ الأولُ: مفهوم التناصّ، مبينًا إيّاهُ لغةً واصطلاحاً، فيما عرضَ المبحثُ الثاني مستويات التناص الدّيني (القرآني) في شعرِ السّماوي، مع عيناتٍ اجرائيةٍ تطبيقيةٍ مُختارةٍ من شعرِهِ، أعقبهُ التّناصُّ الأدبيُّ (الشّعري) في شعرِه، ومن ثَم  التّناص التّاريخي، والذي تناصَ فيهِ بإشارةٍ أو إيحاءٍ مع أبرزِ الشعراءِ، مع ذكر الشواهد التناصية المحكمة، تلتهُ ثمارُ النّتائج والمصادر والمراجع.

الكلماتُ المفتاحيةُ: السّماويُّ، التّناصُّ، التّناصُّ القرآنيُّ، التّناصُّ الشّعريُّ، التّناصُّ التّاريخيُّ.

مُقدِّمة

تنوّعت مصادر التناص لدى الشّعراء بتعدّد الثقافات التي احتكَّ بها كلُّ شاعر، فإذا ما تتبعنا مفهومه ونشأته في تراثنا العربي القديم، نجده مُصطلحاً جديداً لظّاهرةٍ أدبيةٍ ونقديةٍ قديمةٍ، وكانوا يُسمّونه بأسماء أُخرى، مثل: (التّضمينُ، التّلميحُ، الإشارةُ، الاقتباسُ،....)، فالتأملُ في طبيعةِ التّأليفاتِ النّقديةِ العربيةِ القديمةِ وخاصة البلاغية يُعطينا صورةً واضحةً لوجودِ أصولٍ أو جذورٍ لقضيةِ التّناصِ فيه، ولكن تحتَ مُسمياتٍ أخرى وبأشكالٍ تقتربُ من المصطلحِ الحديث.

وقد ازدهرت مصادرُهُ عندَ السّماوي[1]. بحكم العصر والمكان الذي عاش فيهما  إذ جاء عصرهُ مزيجاً متعددًا من الحضارات والثقافات التي انصهرت معاً في وعاء الحداثة، وتجلّى في شعره تنوّعُ هذه المصادر المعرفية. إنَّ أهمَّ ما يُثيرُ في هذا النوعِ (التناص) عـندَ الشّاعر هو أسلوبُهُ المُميزُ والتّعبيرُ السّاحرُ والقُدرةُ الفائقةُ في استدعاءِ النّصوصِ القديمةِ ومحاكاتهِا تاريخياً، مما شكّلت وحدةً موضوعيةً ناهضةً لديه، حيثُ رسمت نسيجاً معرفياً وتاريخياً وجمالياً في إنتاج النصّ، فشعره يتجذّرُ امتدادًا لخنادقِ التاريخِ وكهوفِهِ، لِما عاصر من حقبة زمنية مضمّخة بالمتغيرات التاريخية والانقلابات السياسية، فاحتواء النص السّماوي للتاريخ ينطلق من رؤيته ومنهجه الساميين، فضلاً عن قراءاته المحضة للواقع المحيط به، غير أن الذي زاد التّناصَّ جمالاً هو تخييله الشعري الوقّاد، الذي لم يكن ليتجاوز رؤيته المعهودة، ويلاحظ أنَّهُ يولجنا في نصٍّ جديدٍ من خلالِ سكبهِ في نصٍ تليدٍ، ويتكرّر هذا الاستدعاء ليولد من رَحِمِهِ تناصٌ جديدٌ.

وقد أثرى السّماويُّ في تناصاته المتنوّعة ومخياله الحسّي المرهف آفاقًا واسعةً وعوالمَ مُعصرنة من أساليب التعبير وتجلّيات التلقّي المرتبطة بهوية وطابع الشعر العربي القديم، والذي يستمدُّ مضامينه من ظلاله الغنية الوارفة، كالإشاراتِ التّناصيةِ التي تتضمن في تركيبها اللّغوي الشعري تضميناتٍ لُغويةً مجردةً أو اقتباساتٍ حسيةً محضةً، وجدت طريقها المباشر دونَ تكلّفٍ أو اقحامٍ في مستوى التّناصِّ الشعري للشاعر. ومن خلال هذا المهادِ التقديمي سنسلطُ الضوءَ على مباحثِ الدّراسةِ الآتية.

المبحثُ الأولُ: مفهومُ التّـناصِ

لـجماليات التناصِ في شعر السّماوي أثرٌ واضح، فإذا ما تأملنا في مفهومه ونشأته في تراثنا العربي، نجده مصطلحاً جديداً لظّاهرةٍ أدبيةٍ ونقديةٍ قديمةٍ موروثةٍ، فالقِراءةُ المتأنيةُ للنتاجِ النّقدي العربي القديم، تُعطينا تصورًا ناضجًا لوجود أصول التّناص فيه، حاملاً عنواناتٍ مختلفةً تداني المصطلح الحديث.

وقد تطوّر التناص لديه لتطوّر عصره ثقافيًا وفكريًا، وكذا البيئة التي نشأ  فيها ؛ إذ جاء عصره مزيجاً من الحضارات والثقافات التي انصهرت معاً في وعاء الحضارة والثقافة، مما دعا إلى تنوع أشكال التناص فكان (دينيًا، أو شعريًا، أو أسطوريًا، أو رمزيًا، أو تاريخيًا)، كما نقف عندَ تعريفهِ لغةً واصطلاحًا.

يُعدُّ التّناصّ من المصطلحات الغربية الحديثة، التي دخلت على الأدب العربي مبكّرًا، إذ أنَّهُ من الأساليب الشعرية الزاخرة والتقنيات الفنية  المؤثرة التي لجأ إليها السّماوي في خطابه الشعري، معتمداً اللّغة وعناصرها النّصية ومقدرتها الشّعرية، ومستغلاً هذا الإرث بما فيها من سماتٍ إيحائيةٍ ورمزيةٍ ودلاليةٍ؛ لأنَّها ضربٌ من تقاطع النّصوص، يُفضي على النّص ثراءً ونضجًا، ويُسهم في البناء الجمالي وخلق الأثر في المتلقّي بما يتّجهُ من أبعادٍ دلالية، إذ تكمن" قدرة المبدع في توليدِ تراكيبٍ  وصورٍ جديدةٍ لم تكن مألوفةً في الاستعمال، تُفاجئ المتلقّي وتهزُّ كيانَهُ وتحققُ متعةً له"[2].

ويمثّلُ التّناصُ انفتاحاً على الأعمال الأدبية وتنوّعها ليفسح المجال لأقوال أُخر، وتأويلاتٍ أُخر تعيش التجديد مع أقواله وتأويلاته حالة من التعدّدية التي تتناقض وتتعاضد من دون أن تصل إلى مرحلة المواجهة والسّعي إلى إلغاء الآخر، لهذا فالتّناص" جزءٌ من استراتيجيةِ الانحرافِ القائمةِ على مغايرة اللّغة الشّعرية للخطاب الاتصالي – النثري" [3]. وهنا تكون العملية تواصلية بين (الشّاعر والماضي والمتلقّي)، فبالإضافةِ إلى مخزونِ السّماوي الثقافي، فإنَّ إدراكَ أبعاد النّصِ التّاريخية واللّغوية والنّفسية تتوقف على معرفة المتلقي وذاكرته الحفظية، وطريقة ترشيحه المتداخل في النّص، وعليهِ فالتّعالقُ النّصيُ ظاهرةٌ لغويةٌ معقدةٌ في نظرِ بعضِ الدّارسينَ، ويصعبُ ضبطها؛ لأنّها تعتمدُ على ثقافةِ المُتلقّي– كما قلنا – وقدرته على التّرجيحِ[4].

وانبثقت فكرة التناص" لتبعث الاضطراب في كلِّ أنواع التّرسيمات الابيستيمية المعرفية الاتجاهية الذاهبة من المُؤلِّف إلى العمل ومن المرجع التجريبي إلى التعبير(اللّغوي) ومن الينبوع إلى التأثير بالمتلقّي – من الجزء إلى الكل – ومن الرّمزِ إلى التّجليةِ، ولكي تضع في النّصِّ خطيته وسياجه موضع التساؤل، من الحرف الكبير إلى نقطة النهاية"[5]. وهناك من يرى أن التناصَ ارتبطَ في الدّرسِ اللّساني الحديث بالتّعالقِ النّصي بينَ نصٍ وآخرٍ أو بتداخلِ النّصوصِ بما يعنيه من حضورِ نصٍ في نصٍ آخر، استدعاءً أو تأثراً[6].

مَفْهُوْمُ التّـناصِّ (لُغةً واصطلاحاً)

التّـناصُ لُغةً

للمعاجمِ العربيةِ أثرٌ جليٌ في تبيانِ معنى التـناصّ لغةً، حيثُ جاءَ في لسان العرب: " النص رفعه الشيء، نص الحديث ينصه نصّاً: رفعه، نصّ الحديث ينصه: رفعه ونصّ المتاع، جعله بعضًا على بعض[7]. أما القاموسُ المحيطُ فيرى أنَّ التّناصَ من: نص الشيء، حرّكه ونصّ العروس، أقعدها على المِنَصة [8].

وحينما بحثنا عن معنى التناص في بطون معاجم اللُّغة العربية، وجدنا أن كلمة (تناصّ) هي فعلٌ في تصريفهِا اللّغوي من (تناص، يتناصُّ، مصدر تناصّ)، أي تناص الناس تزاحموا، والتناص في الأدب العربي مصطلح نقدي يُقصد بهِ وجود علائق وتشابه أو تقارب دلالي بينَ نصين أحدهما قديمٌ وآخرهما حديثٌ، أو بينَ عدةِ نصوصٍ بينهما فارقٌ زمنيٌّ.

التّـناصُ اصطلاحًا

إنَّ التناصَ بتغيراته غير المتناهية مقترن بالتطوّرات الجذرية لهذا المصطلح، إذ أغدق دلالاتٍ ذات ظلال حافة استجلت ثيمة النّصّ الشعري وآزرته، وهذا الشَّكل التّعبيريُّ وظّفّ تقنيةً مائزة داخل النص، إذ أنَّ التّناصَّ المقصود يُثير ضباب الدلالة ويفتح التأويل، فهو استرجاعات فنية لنصين مختلفين زمانًا ومكانًا.

و(لرولان بارت) بصمةٌ في استراتيجية مفهوم التناص، إذ انطلق في مشروعه التناصي هذا من ثراء مشاريعه النقدية لمفهوم التناص، فيرى أنَّ" كلَّ نصٍ ليس إلّا نسيجاً جديداً من استشهادات سابقة"[9]. أي أن هذا النسيجَ تُحْبَكُ خيوطهُ النقدية بشكلٍ مُحكمٍ من رَحِمِ النصّ التليد حتى يستقرَّ به بعد تعالق متين تناصاً مُكتنزًا.

ولعلَّهُ من المفيد أن نؤكد أن فكرة جماليات التناص جاءت" لتبعث الاضطراب في كل أنواع الترسيمات الابيستيمية الاتجاهية الذاهبة من المؤلف إلى العمل، ومن المرجع التجريبي إلى التعبير اللّغوي، ومن الينبوع إلى التأثير بالمتلقّي – من الجزء إلى الكل- من الرمز إلى التجلية، ولكي تضع في النص خطيته وسياجه موضع التساؤل، من الحرف الكبير إلى نقطة النهاية "[10]، ولكنه اضطراب تخليقي انتاجي جديد.

وفي هذا الإطار فإنَّ الناقد الروسي ميخائيل باختين ينظر إلى التناصِّ على أنَّهُ بؤرة تواصل في ضوء حزمة من العلائق التي تنتج بينَ المُرسلِ(الكاتب) والمُرسلِ إليهِ (المتلقي)، لذا عرّفَ التناصَ بأنَّهُ، " عبارة عن وسيلة تواصل لا يمكن أنْ يحصل القصد من أيّ خطاب لغوي بدونه، إذ لا يمكن أن يكون هناك مرسل بغير متلقٍّ مستوعبٍ مُدركٍ لمراميه"[11]. ويؤكدُ باختين هنا على العلاقة المبرمة بين المرسل والمتلقي،  فهي علاقة تشعرنا بعمق هذا التعالق وتواصله معَ النصينِ القديم والحديث.

وعلى وفقِ ذلك فإنَّ النَّصَّ لا يتفاعل كثيراً مع جزئيات النص السابق، بقدر ما يسعى الإشاري إلى إنشاءِ علاقةٍ فريدةٍ بينَ النّصينِ تبدأُ بــ" الإشارة العابرة اللَّاواعية، وتنتهي عندَ إحاطةِ القارئ بمُناخٍ دلاليٍ يدفعُ بهِ نحوَ قراءةٍ تأويليةٍ تقومُ على التّفكيكِ وإعادةِ البناءِ"[12].

هذا وأنزل د. جبّار ماجد البهادلي النَّصَ" بمنزلة الابن الشرعي الذي يستمدُّ خصوصيتهُ الثقافية واستقلاله الذاتي من رَحِمِ آبائه النصوص الأصلية السابقة دون أن يفقد ميزاته اللُّغوية والجمالية؛ كونه نصّاً قائماً بذاته الاستقلالي، تمنحه نظريات القراءة وجماليات التلقي الحديثة وضعاً قرائياً تأويليّاً جديداً يسبرُ أغوار وحدته الموضوعية، ويفكُّ شفراتِ هُويته اللُّغوية ويجلو سياقات مستوياته الدلالية، فيُحقّقُ بذلك النّصِّ أبجديتَهُ التي تؤمِّن له من أن النّصَّ يُشكّلُ فضاءً واسعاً رحباً قابلاً للتأويل بقراءاتٍ فاعليةٍ مُتجدّدةٍ كثيرةٍ تجلو صفحاته المتنوّعة المتعدّدة الرؤى، سواء أكانت الرؤى الفلسفية المتجليّة والخفية منها، مرئيةً بصريةً، أم غيرَ مرئيةٍ بصريةٍ "[13].

المبحث الثاني: مُستوياتُ التّـناصِ في شعرِ السّماويِّ

يمتاز التناص - من بين جماليات الخطاب الشعري ـــــ بأنَّ له مستوياتٍ متعددةً ومصادرَ متنوعةً تعضدها فنياً في رسم البنية النصية، وتغذيها تنوّعاً وثراءً لغوياً وجمالياً، له الأثر البالغ في هندسة  التناص لدى المتلقّي.

إنَّ البحثَ في الخطاب الشعري لدى السماوي قد تضمن اقتباساً شعرياً يؤكّد فيه أنّ النصَّ هو محاكاة ومتواليات لنصوص أُخرى، مجتمعة وموحّدة في نصٍ موازٍ آخر، انماز بلغته الرشيقة وشكله التناصي الذي وقع في أصفاده الشاعر؛ كونه من الوسائل اللّغوية المتطوّرة، وقبساً لغوياً من تناصات الشاعر المتلونة في الشعرية النقدية المستحدثة، فالتناصُ يمثّلُ مهمةً استذكاريةً واسترجاعيةً تستعيدُ نَصاً سابقاً؛ مُعيدةً إيَّاهُ بلباسِ ثوبٍ جديدٍ آخر، والغاية منها استحضار الرصيد السابق للنصوص التليدة الناهضة، فضلاً عن استنهاض الخزين المعرفي واستثماره للنص الأول، من أجلِ قراءةٍ تفاعليةٍ بينَ المُرسلِ والمُرسلِ إليه، وهذه المتغيراتُ النّصيةُ وتحولاتُها في شعر يحيى السّماوي، تجلّت ملامحُها في تناصاتهِ الشّعريةِ المُتباينة، فـ" النّصُ الإبداعيُّ ينبغي أن يكونَ منتجاً يكسرُ شكلَ النّصِ القديم"[14].

ينقسم التناصُ القرآنيُّ لدى الشّعراء على قسمينِ: تناصٌ كُليٌ لآيةٍ من القرآن الكريم مع محاكاة يسيرة عند توظيفها، أو إعادة هيكلة النص المتناص معه، وعادة يكون هذا التناص بعيداً عن سَبر الوزن، أمَّا الثاني فهو محاكاة المعنى وصياغته بلغةٍ رشيقةٍ، مع البقاء على قرينة تدلُّ عليهِ في سياق النص، فالأول عُرف بالنُّدرةِ والنُزُر القليل، أم الثاني فقد ذاعَ صيتُهُ وحسنُ استخدامُهُ.

التّناصُ الدّينيُّ (القُرآنيُّ) في شعرِ السّماويِّ.

تُعد ظاهرة استدعاء النّص القرآني أو معناه من الظواهر المهمّة البارزة في الساحة النقدية والإيحائية، التي تُؤدي إلى تَدعيم الخطاب وتكثيف دلالته بين النصين القديم والحديث، لينتج بحثاً لغوياً تنويرياً إبداعياً جمالياً مناسباً لواقعة الحدث الموضوعية والجمالية التي وهبته تعبيرية هذا الثراء الفني التقني، والمُتلقي لنصوص النهج يجد نفسَه إزاء هذه الأنواع الاقتباسية التي تَتَمحور حول (استحضار) مُفردةٍ، أو تركيبٍ، أو آيةٍ، أو بعضٍ منها، أو أكثر، أو استحضارِ لمعانيها، أو مَبانِيها.

وجديرٌ بالذكرِ أن الاقتباسَ ظاهرةٌ ملحوظةٌ في البلاغةِ العربيةِ القديمة، وهي أقربُ ما تكونُ لظاهرةِ التناصِ في النقدِ الحديث، مع تمظهر بعض الفروقات، منها أنَّ الاقتباسَ كان يَرِدُ في النصِّ لفظًا ومعنى، وقَـلَّما يوظّف الشّاعرُ اللّفظ والمعنى توظيفاً جديداً، بينما في التناصِّ نرى أن الشَّاعرَ في أغـلبِ الأحايين يُعيد إنتاجَ المعنى ويسُوقه وفقاً لرؤيته وتحقيقاً لأمانيه ووصولاً لغرضه ومقصدياته الفنية.

لشعر السّماوي تجلّياتٌ تناصيةٌ مع القرآن الكريم بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ؛ لأنَّهُ مقومٌ أساس من مقومات ثقافة الشّاعر المُسلم، لذلك نراه يتناص معه بوصفه شاعراً؛ لأنَّ القرآنَ الكريمَ بحرٌ من الدّلالات لا ينفد معينُهُ، لِما يحتويه من قصصٍ وعبرٍ وأحداثٍ، وهكذا اتكأ الشاعرُ على مفرداتِهِ ومعانيهِ واقتبسَ بعضاً من آياتهِ، ليعكسَ بذلك مدى ما يشعرُ بهِ اتجاهَ العصر وما شهده من تطور حضاري وفكري وعقائدي،  وإذا أمعنا النّظرَ في ما بينَ أيدينا من ديوانه (التّحليقُ بأجنحةٍ من حجرٍ) وإلى محاكاتِهِ معَ القرآنِ الكريم، فإنَّهُ يثبت مدى تأثره به، فنجدُ في بعضِ أبياته كأنَّهُ يصوغ تلك الآيات قلائدَ من جُمان، إذ تميّزَ بقدرتِهِ على استيعابِ معاني القُرآنِ وصياغتها شعرًا، فضلاً عن هذا كلِّهِ أنَّ ثقافة السّماوي القرآنية المكتسبة تؤهلهُ شِعريًا إلى التّناصِّ مع آياتهِ وسورهِ التي تدبّرها شكلاً ومضمونًا.

فالقارئُ لشعرهِ يستطيعُ أن يميّزَ من أيِّ آيةٍ استقى هذا البيت، فعند اطّلاعنا نتصور أنفسنا أنَّ شعره يعكس تماماً شيئاً عن الحالة العقلية والمخيالية التي كانت تُسيطر عليه، والتي يذود عـنها شاعرنا ويدعمها بكلِّ ما أوتي من بيان، فيحتاج إلى ذلك صوراً قرآنيةً يستشهدُ بها ويستدعيها لتُضفي على دلالةِ نصهِ دلالةً سَماويةً أخرى، وبهذا تمثّل آلية فاعلة لإحياء التراث العربي واستحضاره تاريخياً من خلال نصوص مرآته التناصية العاكسة للتراث، واستحضار النص الغائب، وإنشاء الصلة بين الحاضر والغائب، عندئذٍ يتسع الأفق الدلالي للنص الناتج عن تعالق النصين أو التركيبين.

وثمةَ مزيةٌ أخرى للتناص القرآني لدى السّماوي، هي تفخيمُ شأنِ نصِّ الشّاعر وتعظيمه فنيًا وجماليًا، وتزيين سبكهِ على وجه لا يشعر بأنَّه منه،   وهذا ما اعتمده الشاعر في تناصاتهِ لترقية أبعاده اللّغوية والفكرية، فالتّناص القرآني يجعل الشّاعر يميل بلغته صوب آفاق دلالية عميقة لها أثرها ووقعها الدلالي والجمالي على ذائقة المتلقي.

فمن روائع التناص القرآني عند يحيى السّماوي قولهُ في قصيدة (تَبتُّلٌ)  [15] :

مــا عــــادَ لـــيْ إلآ هـــــواكِ

بُـــراقَ مِــعـــراجِ الــتـّــــمـنّـي

*

لـولاكِ مـا عـــرفـــتْ صَـدىً

لـلـشـدوِ حـــنجـرةُ الـمُـغـنّـي

*

ولَمّا اهتديتُ إلى الصّراطِ

وكــنــتُ ذا شـــــكٍّ وظــــــنِّ

في هذا المُناخ القرآني وما يحويه من شحنةٍ تناصيةٍ طافحةٍ بالمعاني الدلالية في مخيال السّماويِّ؛ كونه مرتكزًا ذاتيًا خاصًا من جهة وفكرياً من جهةٍ أخرى، إذ انبثقَ النصُّ بمحاكاته التضمينية والاقتباسية وهو إنشاء لنص مُغاير، راسمًا علاقته التصاعدية مع النصِّ الدّيني ومسرحته تناصياً، إذ ذكر الشاعر في تفاعله مع النص الديني السابق دلالةَ: (الصّراط)، وقد تفاعلت تناصيًا مع الآيةِ القرآنية، ولكنهُ في تعامله النصي التصاعدي هذا، أراد أن يعكس التناص الديني بشكلهِ التّفاعلي مع أجواء مفعمة بالحبِّ منشودة بالعهود. فنلمح اشهارَ تناصه مع قوله تعالى: ((اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ))[16]. وأشار السّماوي هنا إلى (الصراط) فصرّحَ جهاراً إنْ كانت العلاقة لا تصلح في أحد من الناس إلا بيننا؛ لأنَّكِ لن  تبرحي قلبه وجفنه. مستثمراً الرصيد التناصي للأبيات من أجلِ قراءةٍ تناصيةٍ تفاعليةٍ مع المتلقّي، وهذه المحاكاة التناصية في شعره ظهرت آثارهُا في تناصاته الشعرية ذات المظهر الديني الذي جادت به قريحته وذائقته الشعرية. فضلاً عن هذا التناصِّ استخدمَ السّماويُّ في هذه الدّفقةِ الشِّعريةِ لبعضِ الألفاظِ والرّموزِ الدّينيةِ في القُرآنِ الكريمِ، مثل: البُراق، الدّابة التي حملت الرّسولَ(ص) من مكةَ إلى المسجدِ الأقصى ولفظة (المعراج) التي هي ليلة الإسراء والمعراج، وتعطي الاهتداءَ إلى الهدايةِ والظن، كلُّ هذه الألفاظِ أسهمت في تلاحمِ النصِّ القرآني التناصي.

أنتجت التناصاتُ السّماويةُ مع النصِّ القرآني قيمتين مائزتين؛ الأولى جمالية زادت من سبكهِ، والثانية دلالية أضفت إلى المضمون قوةً؛ إذ عضّد هذا التناص ما قصد إليّه الشاعر من عذابات حبه التي لم يذقها من قبل أحد، ومحبوبته قد سمت وارتقت في الوجدان حتى أصبحت صورةً لافتةً في حياته، مُنزلًا إيّاها منزل الوجد مشفعًا ومقدسًا ومطهرًا في يوم رغيدٍ، هي لن تبرح قلبه وجفنه، ولم يرَ المحبوب أمام ناظريه سواها. وهنا لم يخرج الشّاعرُ بالتّركيب المقتبس من معناه الأصلي، بل جاء التناص الجزئي متوافقاً وسياق النّص. ولا شكَّ في أن " التراكيب اللغوية لها قيمة وأهمية نسبية  متفاوتة بحسب ذلك التركيب وصياغته، وهذا ما يُكْشَفُ في ضوء دراسات الشكل والمضمون، ومعايير كلٍّ منهما، ووفقاً لِمَا حُدِّد في علوم البلاغة، وما يُظهرهُ النقدُ في ميادينه المختلفة، وليس القرآن الكريم بعيداً عن ذاك"[17].

وما زاد استخراج هذا الجمال التناصّي روعة ما تمتّع به يحيى السّماوي من حذاقةٍ ومخيالٍ وقدرةٍ على الغوص في بطون النصّ الديني واستخراج مفاتنه الساحرة، هذا وانماز في تناصه بأنَّهُ ميالٌ إلى الإيجاز والإشارة والتلميح دون التفصيل، وهذه الخاصية الفريدة لا تأتي أُكُلها إلا عند المقتدرين من الشعراء  ذوي الحظ العظيم، والسماوي في طليعتهم وشاخصهم الأميز في الشّعرية.

ويقول في قصيدته (قَسمٌ) [18]:

أَقسِمُ

بالتُفاحةِ المُقدَّسَةْ

*

وبالنّدى النّاضحِ مِنْ زَهرتِهَا

واللّذةِ المُحْتَبَسَةْ

*

أنَّ طقوسي كلَّها قبلكِ

كانتْ

نَزوةً  مدنَّسةْ

ولعلَّ النظرةَ الفاحصةَ لجمالياتِ النصِّ الشّعري الغزلي الشّفيف لمعشوقتهِ الرّوحيةِ، تُؤكّدُ أنَّ التناصَّ القرآنيَّ الإشاري أُبرمَ مع قصةِ آدم (عليه السلام) في القرآن الكريم ما تؤكّد إشارته ودورها في صقل الروح وتهذيبها، وهو قوله تعالى: ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ }البقرة35))[19]. وهكذا وُفـقَ السّماوي في هذا التلوين التناصّي مع الآية المباركة، إذ نقله إلى المتلقّي باستلهام النَّص القرآني، ولا سِيّما إشارته إلى (التفاحة المُقدسة)، إضافة إلى ذلك أنَّهُ استخدم رمزيةَ اللّذة ودلالتها التناصية. وهكذا يستمدُّ من قوة هذه اللّفظة (اللّذة المحتبسة) أثرها في النصِّ لكي يُثري بها أسلوبَهُ، لِيوفق في أن يبثَّ روحَ الإيمان والحماسة عند القارئ، مُحققًا في ذلك أمانيه. ولا شكَّ أنَّ محاكاةَ القرآن والتناص معه يُعدُّ فـنًا جماليًا زاهرًا ومؤثرًا في النّص الشعري، وما يترتّبُ على هذا التناصِّ من أيديولوجيات ناهضة. إذ يقول في قصيدته (لي فيكِ ما لا تعرفينَ وأعرفُ)[20]:.

أستعطفُ الأيامَ حمْلَ حقيبتي

نحوَ الفُراتِ  ونخلَهُ أستعطِفُ

*

لا والذي حجَّ الحجيجُ وكبّروا

في بيتهِ واستغـفروهُ وطـوَّفـوا

أفادَ السّماويُّ في رحلتهِ الإسرائيةِ نحوَ الفراتِ من جمالياتِ تفاعلِهِ التّناصّي التّحوّلي من خلالِ تعالقِ هذينِ البيتينِ معَ لفظتي (الحج والطّواف) في قوله تعالى:((وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)[21]، إذ استحضر مستنطقاً في ذات الوقت الآية القرآنية بما تحمله من رمزية وظّفها لخدمة غرضه، في مقام إعلانه عن استعطافه للأيام، فنلحظ في الفضاء النصي التناصّ القرآني السّماوي استدعاءه نصوصًا دينيةً متنوعةً متمثلةً في سُور(الحج) ومنها قوله تعالى: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ))[22]. وتمثّل إشاراتٍ تناصيةً لمقدّمات متناسقة، وفي هذه المتوالية التناصية أحكم الشاعر التناص برمزيتها الدينية، إذ تجلّت من خلالها دلالتا (حج) لدى الشاعر، وكان السّماوي يروم من هذا التناص سلطنة المعنى واستحكامه دلاليًا، متكئًا على فرضية (التـأمَّــل)، لتبقى فرضية حضوره داخل أروقة النص شاهدًا مائزًا على ذلك، معتمدًا على ما أثارته بنية التناص الشعري دينيًا وفكريًا.

يُجدُّد السماوي تناصَّهُ مع آيةِ أخرى وفضاءات تناصية متنوعة كقوله: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ))[23]. ففيها دعوةٌ لنقاء بياض الروح والسريرة من خلال الانغماس في صومعة بيت الله والطّواف في كنهه وعظمته، فالشّاعرُ هنا يميل إلى توظيف النّص القرآني بشكلٍ جليٍّ.  وثمةَ مزيةٌ أخرى للتناص من القرآن، ومزيةُ هذا التّناص الدّيني هو التّعالقُ الرّوحيُّ والجماليُّ الذي يسعى إليهِ الشّاعرُ، من خلالِ الارتقاءِ فنياً وتناصياً ببناءِ نصوصهِ الشّعريةِ ومنحها قوةً دلاليةً مغايرةً للمألوفِ الاعتباري.

وفي رؤيةٍ فلسفيةٍ عميقةٍ في قصيدةِ (تسبيحة في محرابِ النّدم)، يقولُ[24]:

هـيَّأتُ قـبري يا طـهورُ فَهَيِّئي

كَـفَـنـاً مـن الصّلَـواتِ لِلـمُـتـفـــــــاني

*

عطفاً عليكِ كتمتُ ما أدماني

كيّ لا يضرَّكِ من لـظايَ دخــاني

*

ولقـدْ  يُبرَّأ قـاتـلٌ من جُـرمِـــهِ

ولـربّـمـا كـان الـقــــتـــيــلُ الـجــــاني

وبما أنَّ الشّاعرَ هائمٌ بحبّه الروحي الجمالي بالوجود وما يحمله من أسرار قاهرة وكنه خفاياه وتراتيل عظمته الدالة على قدّرة الصّانع والمدبّر، إذ تتوارى خلفه يدٌ جبارةٌ مقتدرة، لذا أصبحَ هذا الخيالُ الصّاخبُ يُشكلُّ مكوّنًا مُهماً لافتاً من مكونات أشعاره، إذ يمكنُ القولُ: إنَّ التناصَ يؤدِّي دورًا فاعلياً بنّاءً عندَ السماوي؛ كونه تناصاً جمالياً للغةِ الشّعر.

إنَّ ما يمكن أن نستشفَهُ من هذه الأبيات المشحونة بموحياتِ الشّعورِ بالزُهدِ هو أنَّ القصيدةَ جاءت تُصوِّرُ خاتمة الإنسان وفناءه، حيث " لِلـمُـتـفـــــــاني" . إنَّ المُدققَ في هذه الأبياتِ السّابقة يكشفُ التناصّ الديني الذي شكّلَهُ السماوي، إذ جاء النصُ متناصًا مع الموقفِ القرآني الذي استلهمه الشاعرُ مّن قــولــه تــعــالى: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ))[25]، وإنَّ مثلَ هذا النصِّ الشّعري الذي بين أيدينا، يشهد بأنَّ الشّاعر ركّزَ تركيزًا مباشرًا على الخبر  (فَانٍ) والذي جاء مرفوعاً بالضمة على الياء المحذوفة وهو اسم منقوص، ليظهر من خلاله استمراريته وديموميته وثباته، وموسيقاه التي جاءت متوافقةً ومتناسقةً ومنسجمةً مع مبتغاه، فهذا النصُ يشيرُ بوضوحٍ إلى تأثرِ الشّاعر بالنّص القرآني، والسّماويُّ لا يتأثرُ باللّفظِ والموسيقى فحسب، بل تأثّرَ بالأسلوب واللّفظ والمعنى على حدٍ سواء، حيث استخدمَ التناص في النصِّ الشّعري بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ (الرمز والإشارة). ونخلصُ إلى القول: أنَّ التناصَ القرآني (الديني) يكادُ يكونُ هو المهيمنُ عددًا وعُدةً على سيميولوجيا الخطاب الشعري السّماوي، فضلاً عن جمالياتِ الجناساتِ البديعيةِ التي حفلت بها ألفاظُ الدفقةِ الشّعوريةِ المُحتدمةِ بآياتِ السّمو الرّوحي.

التّناصُّ الأدبيُّ (الشّعريُّ) في شعرِ السّماويّ

يُشكّلُ التّنَاصُ الشِّعريُّ موروثاً أدبياً آخرَ، ومصدرًا من مصادر الثقافة لدى السماوي، والذي عُرف باهتماماته الفكرية والثقافية؛ إذ اعتمدها بوصلةً يلجأ إليها في نصه الشّعري التناصي موظفًا دلالات معمقة في بنيته الشعرية، ومكوَّناً لغوياً ودلالياً غنياً، فيه من توثيق أواصر العلاقة بينه وبين المجتمع ما لا يُنكر، فهي تعكس نباهته وفطنته وخبرته، وغالباً ما يكون هذا التناص يحمل صوراً شعريةً ورمزيةً وإشاريةً وإيحائيةً، منحت نصَّهُ قيماً جماليةً بالغةَ الرّوعة.

إنَّ البحثَ في ديوانِ السّماوي -والذي تضمن محاكاةً واضحةَ المعالم- يُدلي بأنَّ النّصَّ هو متوالياتٌ متناسقةٌ لنصوصٍ موروثةٍ سابقةٍ، توحّدت بمعالم نصٍ آخرَ لِيُولَدَ نصٌ جديدٌ لغةً وشكلاً وانزياحًا، وبدوره يمثّل محاكاةً تطوريةً وثوبًا لغويًا مائزًا من التناص الشعري في شعره، فضلاً عن أنَّ التناصَ بأشكالهِ المُتعدّدةِ يُمثلُ وسيلةَ استدعاءٍ لنصوصٍ سابقةٍ لاعادة إنتاجها بمخيالٍ ونصٍ آخرين، وبذلك يتمُ التناصُ مع نصوصٍ سالفةٍ واستثمار شحناتها الفكرية والثقافية والعاطفية، لرسم ملامحها في النص الجديد قائم على التفاعل والانسجام بين المُرسل والمُرسل إليه. وهذا التناصُ الانزياحيُّ التّحوليُّ في شعرِ السّماوي بزغت ملامحُهُ في تناصاتِهِ الشّعريةِ الناصعةِ الخيال، وهذا ما جادت به قصائدُهُ.

إنَّ هذا التكرارَ لدوال نصيّةٍ تناصيةٍ في أكثر من موضعٍ لشعرِه لا يعني اجتراراً لأفكار سابقةٍ مُستهلكةٍ، بقدر ما يُفصح عن مخياله المُتقـد في خطابه الشعري، مُعبرًا عن التوأمة بين نصهِ والنّصوصِ الأخرى، رغم نظرته الحداثوية وهي نظرة ثابتة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة. وبتلك المحاكاة السّماوية انبرى عمّق تواتر الدوال النصية ببعدها العلامي لعملية التناصّ، وابتعد بها عن التكرار والاجترار ليقترب من حركية الدوال التناصية، التي رَسّخت وأكّدت على النسق الثابت في الرؤية التي لا تميل إلى التغيير. فاستدعاءُ النّص ومجاراته صوريًا وصوتيًا " ليست شيئاً ثانوياً في الشعر يمكن الاستغناءُ عنه، بل هي وسيلةٌ لإدراكِ نوعٍ متميزٍ من الحقائق، تعجزُ اللّغةُ العاديةُ عن إدراكه"[26].

إنَّ هذه العلامات الرئيسة التي تكوّنت عبر التفاعل التناصّي بينَ نصِّ السّماويِّ وأشعار القدامى، لا تنغلق أسوارهُا عندِ هذا الحدِّ، بل تنفتحُ في آخرِ هذه المحاكاةِ على علاماتٍ أخرى تُعزّزُ من الثنائياتِ السّابقة، وبذلك تتوافقُ هذه العلاماتُ مع العلاماتِ السّابقة، لتؤكْدَ على الثنائياتِ التناصيةِ عبرَ تواترٍ نصّيٍّ يتّحدُ فيهِ التسلسل التناصي مع المخيالِ الشّعريِّ في التّعبيرِ عن تلك العلاماتِ؛ إذ " يكشف العمل الأدبي عن طاقة المبدع، وقدرته على تحويل تفاصيل الحياة التي تثير اهتمامه إلى عملٍ فنيّ، تظهر فيه الكثير من تجلّيات الذات المبدعة ونظرتها في الكثير من القضايا"[27].

ومن الدفقات التناصية الشعرية لدى السّماويّ قوله[28]:

ما مُنقذي مني سوايَ إذا جَنتْ

نفسي ولا غيري لجرحي مُسْعِفُ

*

لولا هدى الروح انتهيتُ خطيئةً

تـلهـو بها ريـحُ الضّـلالِ وتـقـذفُ

*

والنفـسُ ناصِـحَـةٌ إذا ناصَـحْـتـها

وإذا تُـــــرَدُّ إلى الـغـرائـــز تُـقـــــــرِفُ

إنَّ السّماويَّ في هذا التناصِ لا يُمكنُ الاعتقاد بأنَّهُ يقومُ بإعادةِ معاني الشّعر التليد الذي تراكمَ في مخياله، وتجديد صياغة نص كان قد تأثرَ بهِ مسبقاً فاستقرَّ في مهجتهِ فحسب من دونِ توظيفِ تلكَ النّصوص أو مغازلتها، بل أنّ تضمينَ التناص الشّعري هو انتقالٌ دلاليٌ يتحاورُ فيه المتناصُ مع تجربةِ الشّاعر الآخر، كاشفًا موقفاً شعورياً دعا إلى استذكاره؛ وذلك يتطلب إثارة القيمِ الجماليةِ المكنونةِ فيه، فلاشكَّ أنَّهُ يُجاري فيه الشّعور والأفكار، فقد تناصَ السّماويُّ في هذه الأبياتِ معَ الشّاعرِ المُخضرمِ أبي ذؤيب الهذلي، من قصيدةٍ حكميةٍ لهُ، رثى بها أولادَهُ الذينَ ماتوا بالطّاعونِ، بقوله[29]:

والـنـفـسُ راغـــــبـةٌ إذا رغّـــــبـتـهــــا

وإذا تُـــردُّ إلى قـلـيـلٍ تـقـــــنعُ

*

كم من جَميلِ الشَّملِ ملتئمِ الهوى

باتوا بعيشٍ ناعمٍ فَتَصَدَّعوا

ومنَ الواضحِ فإنَّ من يطالعُ ويتفحّصُ شعرَ السّماوي يُدركُ أثرَ الشّعرِ الإسلامي واضحًا في الشكلِ والمضمون، فإنَّهُ قد تأثّر في هذا المقطع من القصيدة أكثر من غيره، إذ نجحَ في إيتاء الدّلالات السّاحرة، مستثمرًا جماليات النّص الموروث، ومستدرجًا إيّاها إلى صومعته الشعرية. فالشاعرُ يَستثمرُ ثقلَ حاضرهِ وما يحملهُ من نضجٍ فكريٍ وحضاريٍ، فيدعو بذلك ما يشاء من النصوص الشعرية، ليتناصَّ معها بطريقته المُثلى، وخاصةً إذا كان المتناصُ شعراً ذا أهميةٍ كبيرةٍ ومؤثرةٍ على ذائقةِ ونفسِ المتلقي القارئ.

وهنا يُعْلِنُ السّماوي مدى تأثّرهِ  بشعرِ أبي ذؤيب الهذلي، فهو لا يتأثرُ باللّفظِ والموسيقى فحسب، بل انطلق من رونق الأسلوب وجمال السّبك، لذا اعتمدَ البيتَ بِرُمّتهِ مُغيرًا القافيةَ وبعضَ الألفاظ، فقد استبدلَ لفظةَ (راغبة) مكان لفظة (ناصحة) وكذلك (رغّبتها) مكان لفظة (ناصحتها)... ، والتي تُصوّر ملامح الرّأفة والرّقة والتهذيب. لا ريبَ أن توظيف المتناص، وبعثه من جديد في سياقاتِ نصوصهِ التّعبيريةِ الحاضرةِ، يَكسبهُ قالباً جديداً من منطلق رؤيويٍ جديدٍ أضفى عليهِ واقعَ عصره في تواصلهِ مع التّراثِ العربيِّ الشّعريِّ القديم.

يَكشفُ النّصُّ السّماوي اتصاله بالتّراثِ التّليدِ من ناحيةٍ ومحاكاتهِ واهتماماته الفكرية والثقافية والعاطفية من ناحيةٍ أخرى، إذ عبّرَ من خلالِ هذه الشّخصيةِ عن تجاربهِ المنشودة، وأعطاها دلالةً تناصيةً جديدةً  لتكون شاهدةً لهذه المتناصات، في توصيفِ سفرهِ خلال جائحة كورونا والذي تعثّر مرات عديدة بسببها الحائل، وذلك في قصيدتهِ الدالةِ على عنوانهِا (أنا وحقيبتي وخيباتُ الوجعِ) حيثُ يقولُ[30]:

أمشي

ولكن الحقيبة لا تريد المشيَ

ها أنذا توسّدت الحقيبة أستحثُّ الشمسَ

واسعةٌ هي الصحراء

لا ماءٌ ولا شجرُ

سوى قمرٍ خجولٍ خلفَ غيمتهِ سَجا

إذ جاءَ ذلك التّوافقُ الشّعوريُّ الذّاتيُّ مُتناصاً معَ ما قالهُ الشّاعرُ الأُمويُّ الحُطيئةُ بقولهِ[31]:

مــاذا تــَقـــولُ لِأَفــراخٍ بِــذي مَـــرَخٍ

حُمْرِ الحَواصِلِ لا ماءٌ وَلا شَجَرُ

*

غَيَّبتَ كـاسِـبَهُم في قَـعــرِ مُظلِمَةٍ

فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ

*

أَنتَ الأَمينُ الَّذي مِن بَعدِ صاحِبِهِ

أَلقَـت إِلَيكَ مَقـاليدَ النُّـهى البَشَرُ

*

لَم يـوثِــروكَ بِها إِذ قَــدَّمــــــوكَ لَها

لَكِن لِأَنــفُـسِـهِــم كانَت بِـكَ الخِـيــَرُ

وقد نجحَ  السّماويُّ وهو يتناصُ معَ الحطيئةِ في هذا البيتِ مع استدعاءِ عبارة (ماءٌ وَلا شَجَرُ) إذ كساها شحنةً تناصيةً شعرية، مُغنيًا في ذات الوقت تجربته الشّعرية، معتمداً في تناصه الأدبي مع الحطيئة على محاكاة بعض الألفاظ في النص، وهذا ما كان حافزاً مُثيراً في أن يتخذ من تقنية (ماءٌ وَلا شَجَرُ)، أسلوباً شعرياً متفشياً في تجسيد تناصاته الشعرية وتضمينها محاكاةً سلطويةً رمزيةً متموضعةً في النّص، قائمًا على بثِّ شحنةِ التّناصِ الشّعري بتحولاتهِ المقبولةِ في تقنيةِ النّصِ، لتكوين لوحةٍ تشاكلية انسجامية إشهارية فنية رائعة في بنيةٍ تناصيةٍ واضحة، وهذا التّناصُّ لمسناهُ مبثوثاً في شعره، إذ حلّقَ فيه بعيداً في مخياله الشعري، موصلاً إيَّاهُ إلى دولته الشعرية المنشودة، وما تحمل من عشق متـقـد. ورُغمَ ذلك يبقى السّماويُّ مُتفردًا مائزًا في ديوانه، ولا نكاد نرى بريقَ الشّعراءِ الذين أثّروا فيه إلا نزراً، لِمَا تمتّعَ بهِ من إتقانٍ ونضجٍ لقصيدته، وإنَّ المُعادلَ المَوضوعيَّ بينَ الشّاعرينِ هو الشّعورُ بغربةِ الذّاتِ الشّاعريةِ وتوحدها معَ نفسهِ المهجوسةِ بالحنينِ والفراقِ والاغتراب.

وكما تناصَ السّماويُّ معَ الحطيئة فإنَّهُ يتناصُ معَ الشّاعر نصير الدين الطّوسي في عدةِ مواضع،

حيثُ يقولُ السّماويُّ [32]:

ولَرُبَّ صَوَّامٍ أضرُّ على الورى

من راغِبٍ في الطّيشِ لا يَتَحَنَّفُ

*

ليْ موقفانِ: معي بسِلْمِ  تبتّلي

وعـليَّ في حـربِ الـلـذاذةِ موقِــفُ

*

وأمرُّ أنـواعِ البكاءِ على امـرئٍ

جَـلَـدُ العيونِ وليسَ دمعـاً تَذرِفُ

ونرى التناص الشعري مع الطّوسيِّ متجلّيةً في قوله [33]:

لو أنّ عـبــداً أتى بالصّالحاتِ غـدًا

وودّ كـلُّ نـبـيٍّ مـرسـلٍ ووليِ

*

وصـامَ ما صـامَ صـوّامـا بـــلا مـلـــلِ

وقـامَ ما قـامَ قوّامًا بلا كسلِ

إنَّ استعمالَ السّماويّ لطرائق شعريةِ حكميةِ سابقة آلفَ بين التاريخي والمتخيل الشعري، فهناكَ الأشعارُ العربيةُ الفصيحة، كان مهمًا وضروريًا لاثراء اللّوحة الدقيقة والصادقة التي عبرت عن أمانيه، لذلك كان الاعتمادَ على أكثر من نصٍّ يرتبطُ بوشائج مختلفةٍ ومتعددةٍ. وهكذا يدورُ النّصُّ معَ المتلقّي في ترتيل مخيال هادر يوصل بعضه ببعض، إذ يقومُ السّماوي بطرحِ المعاني تشاكلياً، فقد جاءَ تناصُهُ طافحاً مشعاً في دلالاته، إذ دأب في هذه الأبيات إلى كسر أفق التوقع، مبيناً تناصه (ولَرُبَّ صَوَّامٍ) مع (صامَ صوّام)، وبيان ما افترق منهم من هيام النقاء، فتناصه مع الطوسي يكشف لنا عن استدعاء السماوي لهذا النص بالذات، لِمَا يتمتعُ بهِ من نقاءِ الوجدِ والسّريرةِ، ليوشجَ بها نتاجه الشّعوري الإبداعي، بصورٍ وانزياحاتٍ لغوية جديدة تُمتّعُ المتـلقي وتدهشهُ جمالياً.

ويقول السماويُّ [34]:

أزِفَ الوداعُ وما تزالُ سفينتي

في الغربَتَينِ حَبيسَةَ الخلجانِ

*

عينايَ عيناها عليَّ وليسَ ليْ

عـينٌ عليها وهْي عـقـدُ جُمانِ

ويتناصُّ معَ النابغةِ الذبيانيِّ بقوله[35] :

أَفِــدَ التّـّرَحـلُ غــيـرَ أنَّ ركـابَنا

لَمّا تَــُزلْ برحالنا وكأنَّ قـَـــــدِ

أجرى الشّاعرُ في تناصهِ هذا تداخلاً جزئياً مع النابغة (زياد بن معاوية بن ضباب)، حيث استدعى  بيته وتحديداً قوله: (أَزِفَ التّرحلُ) لتوظيفها في سِياقٍ آخر، وأراد بذلك دنو الفراق والرحيل، حيثُ استلهم من ذلك التراث الثر التميز والمحاكاة والتماهي، من أجل إنتاجه من جديد، بطريقة تمكنه من مد جسور الوصال مع الموروث لبعثه من جديد، لأنَّ الشّعرَ يؤسس لصدى تجارب متنوعة، لها من جذور الأصالة ما تفتخر به الأمم، بوصفه رافداً معرفياً وسجلًا لتاريخها الشامخ، وعلى الرّغمِ من ذلك، فإنَّ قافيةَ الشّاهدين الشّعرية قد اختلفتا، فقافيةُ السّماويِّ العينية مُطلقة متحركة في حين قافية النابغة العينية مقيدة ساكنة، وجاءت شاهداً على الترنّمِ الموسيقي.

3- التّناصُّ التّاريخيُّ في شعرِ السّماويُّ

لم يخلُ الخطابُ الشِّعريُّ السّماويّ من استدعاء التاريخ واستلهامه في مختلف منعطفاته المكانية والزمانية والإنسانية، لذا حاولَ الشّاعرُ أن يتخذَ من التاريخ فناراً لبيانِ المُناخ السياسي لتلك الفترة، ما أُسدل الستار عن الحراك السياسي المتلوّن، وبيان زيف المتخاذلين المتواري خلفَ السُحبِ، فعكف على قراءة التاريخ بعين باصرة، باحثًا عن نقاطهِ السّوداويةِ المفـتعـلةِ، والتي يمكنُ أن تكونَ سببًا لمعاناتهِ ومطاردتهِ في تلك الحقبةِ الحرجة.

ويرى الباحثُ أنّ شعرَ السّماويّ يمثّل المجال الأرحب في التناص التاريخي وانسجام النصوص وتجاورها، وإذا ما أيقن بهذا القدر من الانسجام والتجاور فلا بدَّ من قراءةِ شعرهِ قراءةً مكثفةً، تُمكِّنُ من سبرِ أغوارِ النصِّ، وهذا ما يتطلّبُ قارئاً حاذقاً واعياً قادراً على الكشف عن هذه الأنماط المتناصة، لأنَّ النّصَ المقروءَ تناصياً يخبّئ خلفه نَصّاً آخر. كما يُلاحظُ أنّ التّناصَّ التّاريخي يمثلُ شكلاً مفتوحاً على قيمنا النقدية والتاريخية معاً، حينما نستدعي هذه القيم في ضوء المعطيات التناصية، فيستدعي الماضي  ليترجمه في الحاضر بوعي شديدٍ، يمنح القارئ تمثّلاً مباشراً للخطاب التناصي.

كما يستغلُ الشّاعرُ المنعطفَ التّاريخيَّ وقابليتَهُ للتأويلِ أثناءَ التّعبيرِ عن تجربتِهِ الشّعريةِ؛ كي يمنحَ عملَهُ الفنيَّ نوعاً من الشّموليةِ، مُسترعيًا فكرَ المُتلقي ووجدانَهُ، ومحققاً تواصلاً وتفاعلاً مع العملِ الفني الجديد[36].

يجنحُ السّماويُّ في هذا التناصِّ للاستفادةِ من التّراثِ التّاريخيِّ الدّيني التّليد والشّخصيات المركوزة  في ذاكرة الأمة، فقد تألقَ الحوارُ في مقصديةٍ حواريةٍ تناصيةٍ في قصيدتِهِ (شُقي من الأمامِ يا زُليختي ثوبي)، إذ نلمحُ الحضورَ مع مرموزته الحبيبةِ في علاقةٍ وثيرةٍ، مُستدعيًا نصاً تراثياً دينياً خالداً، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقصة نبي الله يوسف(ع)، وتحديداً مع زليخا زوج عزيز مصر، في ترجمان قوله تعالى في سورة يوسف: ((وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ))[37] ، يقول[38]:

سيدةَ الأمطارِ والسّلامِ والجمالِ والحبِ

شُقي من الأمام يا زُلَيختي ثوبي

واقـتـربـي أكـثـرَ من  جفنٍ إلى هُـدبِ

يتجلَّى التضمينُ النصّي للخطاب الشعري في هذه الدفقةِ الشّعوريةِ المُزهرةِ للسماويّ، فهذا القلبُ أضحى مرتعاً للإنسانية، وهذا التّحولُ التّاريخيُّ المعهود أضفى على البؤرةِ التّناصيةِ الشّعوريةِ التّاريخيةِ صوراً جماليةً متتابعةً للحدث، في أجواءِ الحبِّ السّرمدي، إذ استمدَّ الشاعرُ ثيمتَها الدّينيةَ والفكريةَ والعاطفيةَ وأسقاطها على شعريتِهِ الحاليةِ بتناصهِ التّاريخي الرمزي. إذ عبّرَ في هذه العلاقةِ التّناصيةِ دلالةَ       الاشتياقِ المعتقِ بالألمِ، التي وثــقــت رمزيتُها التّاريخية والتّناصية مع بؤرةِ النصِّ (زُلَيختي)، إذ جعلَ تلكَ الصّورةَ مرآةً لحبيبته، ولا يكترثُ لِمَا تؤولُ إليهِ الأقدارُ.

إنَّ العلاقةَ بينَ الّلغة والتّناصِ علاقةُ تفاعل وانسجام، يُعْرَفُ من نمطيتها التناص عبر الرّمز والإشارة، فالتناصُ مخاضُ اللّغةِ ونتاجُها، وهو مزاوجةُ نصينِ ينتجُ عنهما نصٌ جديدٌ ناهضٌ باللّغةِ وتراكيبهِا، وكلاهما يسموان من خلال رؤيتنا للواقع وترجمتنا له.

وتأسيسًا على ذلك، فإنَّ مقدرةَ السّماويّ تجلّت فيما يُشكِّلُهُ من تناصٍ تاريخيٍ معَ الشّعراء، إذ يتناصُ مع جزءٍ من قصيدتِهِ، ليرسم ذلك الجزء ممتداً على طول قصيدته في حراك تاريخي تصاعدي، فلم يكتفِ باستدعاءِ النصِّ فحسب، بل أذابهُ مع واقعهِ الفكري، فقد أنزلَ  السّماويُّ التاريخَ على واقعهِ الآيديولوجي السّياسي الراهن، لينضحَ بإبداعاتهِ المُتدفقةِ، فيصبحُ نصاً تناصياً تاريخياً متماسكاً منسجماً مع تطلعاته الفكرية.

لخزين الثقافةِ التّاريخيةِ المكانيةِ أثرٌ واضحٌ في شعرِ السّماويّ وفي شخصيتهِ الأدبية أيضاً، إذ تنوعت معطيات هذا الأثر من أمكنة وأحداث رافقته في تلك الحقبة، فكان لكلِّ جانبٍ من تلك الجوانب بصمته المتدفقة في شعره، كما مثل البعد المكاني جزءاً رئيساً من ماهية التّناصِ التّاريخي، لِما يحمل من رؤيةٍ خاصةٍ للشاعر، فقد تداخلت بالمَعْلم المكاني المحدث. كانت (السّماوة) بالنسبةِ للشاعر يحيى السماويّ حقلاً ثرياً بالموضوعاتِ والرّؤى والرّموز؛ لِمَا تختزنه في وجدانه من دلالاتٍ تثيرُ الذات وتهيج الذاكرة. وقد أفادَ الشّاعرُ من الرقعةِ الجغرافيةِ المكانيةِ هذه أيّما إفادةٍ، فهذه البقعةُ بكلِّ ما تثيرهُ من إحساسٍ بالحدثِ وتراكماتِهِ الوجدانية والعاطفية والتّاريخيةِ، كانت صدىً لانفعالاتِ السّماوي وتصوراتِهِ المُنبثقةِ من زمكانيةٍ لا تنفصلُ عن ذاتِهِ، إذ يقول عن السماوة[39]:

وبأنَّ آخرَ ما رأى  الحلاّجُ قبلَ الصلبِ

بَدرُ العشقِ مُكتمِلاً بوَجهِكِ..

والسّماوةَ

سوفَ تلبسُ  بُردةً ضوئيةً من

أنجمِكْ

وفي قصيدةٍ أخرى يقول[40]:

فأنا ومولاتي

يُسافرُ في جنائِننا السَّفرْ

نطوي خِيامَ الغربتينِ إلى السّماوةِ

فهْيَ نِعمَ المُستَقَرْ

إنَّ التّناصِ التّاريخي في شعره يُمثّلُ حقلاً مرجعياً لرؤى الشّاعر مُكتنزاً بالإبداع؛ لأنَّهُ يتكئُ على كثيرٍ من المعطيات المركوزة في حقوله التناصية، ولذلك برزت سمته الاجتماعية داخل نصه الشعري، فبإدامةِ النّظرِ في صورةِ السّماوة وأديمها السّامق استطاعَ أن يصلَ بخطابِهِ ونصّهِ الشّعري إلى تجسيد ذلك الواقع بصورة تتجدّد فيها الإثارةُ والحزنُ والولاءُ. هذا وتكرر لفـظ (السّماوة)  عشر مراتٍ في ديوانه، ثم انفتحت فيما بعد قصائده اللّاحقة على التناصِ في إشاراتهِ التّاريخية لذلك المكان. لقد جاءَ استحضارُ هذا المكان في شعره بتجلٍ للفظةِ ولِما راقته من أحداثٍ تاريخيةٍ وسماويةٍ مُقدسة، وكلُّ ذلك لا ينفكُ عن الأحداثِ المُرتبطةِ بها. هذا " وإنَّ أقدمَ إشارةٍ عن السّماوةِ في العصرِ الحديثِ وردت عام 1394م في الوثائق العثمانية، والتي وصفتها بقريةٍ زراعيةٍ تقعُ على شط العطشان والذي يعني نهر الفرات الاصلي"[41]  .

نخلصُ مما سبقَ أنَّ التّناصَ لدى السّماويّ على اختلاف ألوانه كانت قرآنية أو أدبية (شعرية) أو تاريخية، تحاكي التراث التليد لتنتج من جديدٍ بعدَ مرورهاِ بمتغيراتٍ فنيةٍ متعددةٍ، مُعتمداً في تركيبِ هذا التناصِّ على مخيالهِ الوقّاد، بعدَ أن يحاكي شعرياً دلالتها الموضوعية؛ لإنتاجِ نصٍ انزياحيٍ رمزي جمالي، فقد أدغمَ النصُّ السّماوي مفاتنَ إبداعِهِ لإنتاجِ تناصٍ راكزٍ مُفعَّمٍ بالإبداع، يختلفُ عمّا سبقهُ من نتاجٍ تناصيٍ ، لِما يحملُهُ من رموزٍ وإشاراتٍ نضّاخات، وما يقتضيه من تكثيفٍ دلاليٍ، يمازجُ فيهِ بينَ الشّعرِ الجاهلي والأُموي.

ويبدو أنَّ استخدامَ التقنيةِ المُثيرةِ للتناصِّ الشّعري في تتبعِ الأبياتِ المُكتنزةِ في النّصِ، مهدَ لاستنطاقِ دوالِ النصِ السّماوي، بعدة ثنائياتٍ متناصةٍ سواءٌ أكانت كليةً أم جزئيةً.

نتائجُ البحث

إنَّ الدّراسةَ اتّجهت إلى بيانِ شعرِ السّماويّ واستنطاقه تناصياً من خلالِ كشفِ علاقاتِ محاكاتهِا معَ النّصوصِ الموروثة، والسعي إلى ربطِ تلكَ العلاقاتِ بالنّصِّ الكُلي، وعلاقته بالمتناصِ معه، وهو البؤرة التي دارت حولها الدراسةُ، معتمدين في ذلك على التناص نفسه- والتي شكّلت مرجعياتٍ هذه الدراسة- لا بوصفهِا منهجًا إجرائيًا وحسب، بل بوصفهِ ممارسةً إنتاجيةً متمظهرةً في النصِّ، ولا نعني بالإنتاجية إقصاء الذات المبدعة للنصِّ، ويرادُ بها إعادة إنتاج النص الشعري، بوصف الذات خالقةً له متخلقةً. وعلى وفقِ ذلكَ نخلصُ إلى ايجاز أهمِ النتائج التي توصّلنا إليها قطافاً مثمرةً في البحثِ:

يُعَدُّ الشّاعرُ يحيى السّماويُّ امتداداً لشعراءِ العصرِ الحديث، كـ (الجواهري، ومصطفى جمال الدين، وعبد الرزاق عبد الواحد) وغيرهم، إذ مثْلَّ بمنجزهِ عطاءً زاخراً تتدارسَهً الأجيالُ، معتمداً على جمالِ لغتِهِ، وعُلو أسلوبهِ، ومخيلتهِ المُتوهجةِ التي جعلت تناصَهُ ناضجاً متماسكاً.

تجلّى من ماهية التناص أنَّ ثقافةَ السّماوي انمازت بالشّموليةِ، مما جعلَ شعره يحاكي مختلف الثقافات والأزمان، إذ كان للتناصِّ الأثرُ الواضحُ على شعرِهِ، وهذا ما يشي بثقافته المتنوعة المـتـقــدة، التي تجمعُ بينَ آثارِ الماضي وقيمِ الحاضرِ الراهنِ المعيش.

ترسّخت الألفاظُ الدّينيةُ في تناصهِ القُرآني بشكّلٍ واضحٍ، حتّى كوّنت جزءاً مهماً من معجمهِ الشّعري، إذ تكررت في شعره ألفاظٌ معينة، وتركّزت في إشاراتِهِ ورمزيتِهِ ومحاكاتِهِ التّناصيِةِ.

أفادَ الشّاعرُ من قصصِ وأحكامِ القرآن الكريم مُضمنًا إيَّاها في نتاجِهِ التّناصي، كقولِهِ تعالى: ((إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً))[42]، ومن قصصه السّردية الحكائية.

انمازَ تناصُهُ القرآنيُّ بالجودةِ والكثرةِ إذا ما قورن بالتناصاتِ الأخرى، لأنَّ السَّماويَّ كان واضحًا في رسمِ ملامحِ تناصهِ، وتحقيق مآربه بلوحةٍ جماليةٍ شاهقةِ الجمالِ برؤاها وصورها التي عكست حبّه الجمّ لدينهِ وعقيدتهِ الإسلامية السّمحاء.

تميّزَ التّناصُ الأدبيُّ (الشّعري) بأنَّهُ استدعاءٌ لنصٍّ تليدٍ، وإعادة إنتاجه من جديد، من خلال استحضار مهارته الشعرية، لتولد قراءات منتجة ومؤثرة بينَ المُرسَل والمُرسل إليهِ.

أسهمَ التّناصُ التّاريخيُّ في نضجِ مخيالِ السّماوي من خلالِ وقوفهِ عندَ أبرزِ المعالمِ المكانيةِ كالسماوة، وبابل، وأوروك، أو محاكاته لأبرزِ الشّخصياتِ والرّموزِ التّاريخيةِ في الوجودِ كالنبيِّ الأكرمِ محمد (ص) وأميرِ البّلاغةِ والبيانِ عليٍ (ع).

لم ينحصرْ التّناصُ عندَ السَّماويِّ بالقُرآنيِّ (الدّيني) والأدبيِّ (الشّعري) والتاريخي، بل يحتوي على تناصاتٍ كثيرةٍ أخرى، مثل: الرّمزيُّ والأسطوريُّ وغيرُ ذلكَ من التّناصات، ولعدمِ سعةِ المقامِ البحثي لم نسلطْ الضّوءَ عنها في هذه الدراسة البحثية.

***

م. غسَّان عـبَّاس عبد الزّهرة السَّاعـدي : ناقد عراقي / ماجستير نقد حديث، يتهيّأ لمناقشة أطروحة الدكتوراه .

...................

الهوامش

[1]- هو يحيى عبّاس عبُود السّماويُّ، الشّهيرُ لقباً بـ(يحيى السماوي)، ولِدَ في مدينةِ السّماوةِ بالعراق في السادس عشر من آذار/ مارس عام 1949م، شاعرٌ وأديبٌ عراقيٌ معاصرٌ من شعراءِ العصرِ الحديث. (البهادلي: د. جبار ماجد، تمثلاتُ شعريةِ الآيروتيك الحسي في غزلياتِ يحيى السّماويّ،9.

[2] - فلحي: علي غانم، ظاهرة الانزياح في بائية عنترة بن شداد (بحث)، مجلة ميسان للدراسات الأكاديمية، العدد 42،  مجلد 21.

[3] - الموافي: عبد العزيز، قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، 220.

[4] - ينظر: مفتاح، محمد: تحليل الخطاب الشعري(استراتيجية الخطاب)، 121-122.

[5] - البقاعي: محمد خيري، آفاق التناصية المفهوم والمنظور،83.

[6] -  ينظر: ياسر عبد الحسيب رضوان، الاقتصاص القرآني والتناص ابن فارس نموذجاً،(بحث)، ع 146، 1.

[7] - ابن منظور: 1418هـ-1990م، ن ص ص .

[8] -  القاموس المحيط، ص 122.

[9] -دهنون: إبراهيم مصطفى، 2011م، 15.

[10] -ينظر: مفتاح: محمد، 1992م، (121-122).

[11] - سماح رواشدة: 1999م، 119.

[12] - إبراهيم، خليل: 2006م، 163.

[13] -البهادلي: د. جبار ماجد، 2022م، 140.

[14] - الشمالية: معتصم سالم، التناصُ قي النقد العربي الحديث، رسالة ماجستير، ص43.

[15] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 178.

[16] -سورة الفاتحة :1/6.

[17] - عبد علي، ناصر حسن،2022م، الدلالة الصوتية في ألفاظ المثل القرآني، مجلة ميسان للدراسات الأكاديمية، مجلد: 21، 42/321.

[18] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 63.

[19] - سورة البقرة :2/35.

[20] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 102.

[21] -سورة البقرة: 2/196.

[22] -سورة الحج:27.

[23] -سورة البقرة: 197.

[24] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 76.

[25] - سورة الرحمن: 26.

[26] -(نعيمة، علي مطشر) و (جابر، كريم قاسم)، التشكيل الصّوري لخاتمة القصيدة في عهد بني الأحمر،

(بحث)، مجلد :21، العدد: 42/ 147.

[27] -نجيب: نجيّة فتحي عبد الرحمن الحاج، قصيدة السيرة في الشعر الفلسطيني المعاصر، محمود درويش،

فدوى طوقان، مريد البرغوثي، نموذجًا، رسالة ماجستير، ص27.

[28] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 103.

[29] -ديوان الهذليين، 1965م، ص3.

[30] - المصدر نفسه: 86.

[31] - ديوان الحطيئة برواية وشرح (ابن السكيت)، (1413ه- 1993م)، 107.

[32] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 96.

[33] -العلاّمة الخواجة نصير الدين الطوسي حياتُهُ وآثارُهُ ، (1419هـ ق)، 442.

[34] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 73.

[35] -ديوان النابغة الذبياني: (1416هـ- 1996م)، 105.

[36] -  ينظر: أبو زيد، شوقي أحمد يعقوب، تواصل الشعر الفسطيني الحديث بالتراث، رسالة دكتوراه، ص184.

[37] - سورة يوسف :25.

[38] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 93.

[39] -المصدرُ نفسه: 19.

[40] -المصدرُ نفسه: 67.

[41] -عبد سالم: لطيف، 2019، 21.

[42] -سورة النساء / 103.

المصادرِ والمراجع

القرآنُ الكريمُ

إبراهيم: خليل، 2006م، من معالم الشعر الحديث في الأردن و فلسطين، ط1، عمّان، دار مجدلاوي.

ابن منظور: 1992م، لسان العرب، د ط، دار صادر، بيروت، مادة (ن ص ص).

البقاعي، محمد خيري: 1998م، آفاق التناصية المفهوم والمنظور، د ط، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

البهادلي: د. جبار ماجد، 2022م، تمثلاتُ شعرية الآيروتيك الحسي في غزليات يحيى السماوي الجمالية، ط2، سوريا- دمشق، دار الينابيع للطباعة والنشر والتوزيع.

دهنون: إبراهيم مصطفى، 2011م، التناص في شعر أبي العلاء المعري، ط1، أربد - عمّان، عالم الكتب الحديثة للنشر.

ديوان الهذليين، 1965م، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر.

رضوي: محمد تقي مدرّس، 1419ه، العلاّمة الخواجة نصير الدّين الطّوسي(حياتُهُ وآثارُهُ)، ط1، مشهد- ايران، مؤسسة الطبع والنشر.

رواشدة: سماح، 1999م، فضاء الشعرية، د ط، عمّان، المركز القومي.

السّماويُّ: يحيى، 2022م، ديوانُ(التحليق بأجنحةٍ من حَجرٍ)، ط1، سوريا- دمشق، دارُ الينابيع.

عبد السّاتر: عباس، (1416ه-1996م)، ديوان النابغة الذبياني، ط3، بيروت-لبنان، دار الكتب العالمية.

عبد سالم: لطيف، 2019، مرافئُ في ذاكرة يحيى السّماويّ، ط1، سوريا- دمشق، تموز ديموز للطباعة والنشر.

الفيروز آبادي، 1993م، القاموس المحيط، د ط، بيروت، تحقيق: مكتب تحقيق التراث، مؤسسة الرسالة.

قميحة: د. مفيد محمد، (1413هـ - 1993م)، ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت، ط1، بيروت – لبنان، دار الكتب العالمية.

مفتاح، محمد:1992م، تحليل الخطاب الشعري(استراتيجية الخطاب)، ط3، بيروت، المركز الثقافي العربي.

موافي، عبد العزيز: 2004م، قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، ط1، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة.

الرسائلُ والاطاريحُ الجامعية.

نجيب: نجيّة فتحي عبد الرحمن الحاج، 2003م، قصيدة السيرة في الشعر الفلسطيني المعاصر، محمود درويش، فدوى طوقان، مريد البرغوثي، نموذجًا، رسالة ماجستير، الجامعة الهاشمية.

أبو زيد: شوقي أحمد يعقوب، 1995م ، تواصل الشعر الفسطيني الحديث بالتراث، اطروحة دكتوراه، الجامعة الأردنية، عمّان.

الشمالية: معتصم سالم، 1999م ، التناص قي النقد العربي الحديث، رسالة ماجستير، جامعة مؤتة، مؤتة.

المجلاتُ والدّورياتُ.

رضوان، ياسر عبد الحسيب: 2011م، الاقتصاص القرآني والتناص ابن فارس نموذجاً، مجلة الرافد، تصدر عن دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، ع146، 1.

المصادر الاجنبية

Falhi: Ali Ghanem، 2022 AD، the phenomenon of displacement in the epidemiology of Antarah bin Shaddad، Iraq - Maysan، Maysan Journal of Academic Studies، No. 42، Volume 21.

Abd Ali، Nasser Hassan، 2022 AD، Phonetic Connotation in the Words of the Qur’anic Proverb، Iraq - Maysan، Maysan Journal of Academic Studies، No. 42، Volume 21

(*Naima، Ali Mutashar) and (Jaber، Karim Qassem)، 2022، the pictorial formation of the conclusion of the poem in the era of Bani al-Ahmar، Iraq - Maysan، Maysan Journal of Academic Studies، No. 42، Volume 21

تحكي المجموعة الشعرية "ملحمة الخلق"، للصديق الشاعر الراحل عدوان ماجد عنبتاوي (1948- 2018)، قصةَ حياته ومعاناته خلال السنوات الخمس لتألقه الشعري، من أواسط الستينيات إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وقد أصدر عدوان هذه المجموعة الشعرية بفرحة غامرة، وانصرف بعدها عن الشعر لمزاولة كتابة اللافتات لكلّ مَن طلبها آنذاك من أهالي الناصرة ومنطقتها، وقد حاول فيما بعد، العودة إلى انتاج الشعر إلا أنّ شيطانه استعصى عليه، فجاء ما كتبه ضعيفًا فجًا، خاويًا مِن حرارة التجربة التي عاشها إبان انتاجه ملحمة خلقه تلك، وكان أن عاودته أفراح الشعر في سنواته الاخيرة رغبة في مسايرة الموجة الشعرية المتصاعدة، فتوجّه إلى كتابة الشعر باللغة العبرية، وهو ما لم يلقَ قبولًا من أحد، وكاتب هذه السطور في مقدمتهم، فلماذا نحن نكتب الشعر للتباهي.. أم للعيش؟

يقول عنوان مجموعة ملحمة الخلق، مجمل ما أراد أن يقوله عدوان، فهو هنا يتحدّث عن ملحمة خلق تشبه إلى حدّ بعيد الاسطورة الدينية حول خلق العالم، وقد اختلطت في هذه المجموعة الشعرية الاولى وأكاد أقول الاخيرة لصاحبها، الاحاسيس والمشاعر الوطنية الجيّاشة بالأحاسيس الشخصية الذاتية الصرفة، الامر الذي قرّب صاحبها من فجيعته الذاتية التي سأتحدث عنها فيما يلي من سطور، فقد ولد عدوان عام النكبة وعاش لسعها الكاوي، أكثر من مرة، وذلك عندما قتل والده ماجد عنبتاوي في معركة الشجرة وهي المعركة التي قُتل فيها الشاعر عبد الرحيم محمود، صاحب القصيدة المشهورة" سأحمل روحي على راحتي والقي بها في مهاوي الردى/ فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا"، وتضمّنت حياة شاعرنا تفاصيلَ محزنةً جدًا كان كاتب هذه السطور شاهدًا على أطراف منها، وبما أنه يجد صعوبة في التحدّث عنها لخصوصيتها الشديدة، فإنه يكتفي بالإشارة إلى واحدة من نتائجها القاسية وهي أن عدوان اضطر بعد انهائه دراسته الثانوية للإقامة في غرفة وحيدة أجّره إياها الشاعر المرحوم إدمون شحادة تعاطفًا معه ومحبة له. تلت هذه الظروف القاسية ظروف أخرى أفضت لاعتقاله فترة من الزمن بدعوى اللقاء مع عميل أجنبي أو مُعادٍ في قبرص، وكان ذلك خلال دراسته في جامعة القدس العبرية، أما نتيجتها فقد تمثّلت في انصراف عدوان عن الدراسة والشعر، وفي انخراطه في الحياة العملية اليومية، رغبة منه في العيش بكرامة في عالم لا يرحم. لقد جرت بيني وبين عدوان خلال وجوده في السجن مكاتبات، أكدت مأساته الشخصية، وأذكر هنا أنه جمع هذه الرسائل وأعطاني نسخة منها لعلّنا نتمكن من إصدارها في كتاب خاص، غير أنها اختفت بين أوراقي الكثيرة، الامر الذي حال دون إصدارها في كتاب كما خطر له.

فيما يلي سأتابع قراءتي حياة عدوان عبر مجموعته الفريدة " ملحمة الخلق"، بعدها سأقدم تلخصًا أعتقد أنه هو الدافع لكتابة هذه المقالة الاشارية.

كما ورد آنفًا حكى عدوان في ملحمته هذه قصته العامّة مازجًا إياها بروح من شعر بفجيعته الشخصية، وهناك مقطع شعري في هذه المجموعة يلخّص معاناته التاريخية الانسانية هو:

أحبيبتي

أمضيت عمري والهروب هو الهروب

أمضي فتخدعني الدروب

وأتوه في برد غضوب..

إنها الوحدة والنضال من أجل العيش والوجود، فهو كما يلحظ الاخ القارئ، يخاطب حبيبته المتخيّلة (عدوان بالمناسبة لم يدخل قفص الزوجية وبقي عزبًا طوال أيام حياته)، وها هو يشرح لها ما اوقرته الايام في قعر فنجان حياته يحدّثها عن الهروب وعن خداع الدروب له، كما يحدّثها عن المتاهة القاتلة التي وجد نفسه فيها مُرغمًا ودون إرادة له فيها أو شأن. إنها قصة الانسان " الكافكاوي- نسبة إلى الكاتب التشيكي اليهودي فرانز كافكا)، ذلك الانسان الذي فتح عينيه ذات يقظة صباحية ليجد العالم وقد أطبق عليه فكّيه الحادين متسبّبًا في آلام لم يكن شريكًا فيها، بل لم يكن له يد في حدوثها المُرعب. يقول عدوان:

عندما كان أحبائي عرايا

كنت ثوبًا مهملًا فوق الطريق

إنّه يحنّ إلى اولئك الناس الذين كانوا هنا، اولئك الاحباء الذين غالتهم يدُ البشر وتشرّدوا أيدي سبأ، وها هو يفتح دفتر فجيعته الشخصية ليخبرهم أنه لا حول ولا طول له فيما حدث لهم، وأنهم عندما كانوا عرايا، كان هو ثوبًا مهملًا فروق الطريق، يا الله ما اقسى هذا، ما اقسى ألا تكون وألا يكون أحباؤك إلا حلمًا ووهمًا، طائرًا مهيضَ الجناح وعاجزًا عن التحليق، وكلّ ما حولك يدعوك للرفرفة فوق شجرة الحياة حيث أنت واحباؤك. إنها صورة مؤسية الجميع فيها خاسر. ثم يقول:

إنني خنت جميع الخائنين

فاذا ما متّ يومًا

فخذوا منهم بثأري..

في هذه الابيات نرى كيف تختلط الامور، فلا يرى الشاعر بارقة أمل، يسترشد بها في متاهته اللاهبة، وها هو يطلب من حبيبته، بل منهم جميعًا، من أحبائه، أن يأخذوا بثأره إذا ما مات يومًا، أما السبب فإنه يتمثّل في وفائه لأناه ولعالمه، وخيانته لجميع الخائنين، اولئك الذين اغتالوا حلمه واجهزوا على فرحه في ذروة نشوته.

في قصيدة أخرى، يتصوّر عدوان نفسه مي زيادة تتوجّه إلى حبيبها الافتراضي جبران خليل جبران، ذلك الشاعر الذي عاش في المهجر الامريكي في حين عاشت هي في المُغترب المصري، ولم يلتقِ الاثنان في حياتهما إلا على صفحات الرسائل المتبادلة التي تواصلت خلال حوالي العشرين عامًا.. دون لقاء واحد. وها هو يرتدي القناع الشعري ممثلًا بمي وهي تخاطب حبيبها المفتقد دائمًا وابدًا، يقول:

سأموت يا جبران قبل الخامسة

عدوان هنا يتنبأ بموته دون أن يحقّق أي شيء مما حلم به وأراده، وهو ما حصل له في النهاية ليقضي وحيدًا وأكاد أقول شريدًا، ولينطبق عليه ما قاله أبو الطيّب المتنبي وهو: بمَ التعلّل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن.

هكذا تتراكم الاحزان فلا يجد عدوان أمامه سوى أن يهتف بالجميع، من رأى ومن لم ير، قائلًا:

افتحوا الابواب

قلبي لا يحبّ الباب مغلق

كما يلاحظ الاخوة القراء، تمكّن عدوان في مجموعته الفريدة هذه، ملحمة الخلق، أن يمزج ما بين العام والشخصي فابتعد عن الايديولوجي واقترب من الشعر في فترة كان الشعر الايديولوجي هو السيد المُطلق في شعرنا العربي المحلي، أما السبب في هذا كما أرى فإنه يعود إلى أن عدوان أحبّ الشعر آنذاك حتى الفناء فيه فاطلع نماذج جامحة منه لدى العديد من شعراء تلك الفترة في مقدمتهم الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، وأدرك مُبكرًا أن الشعر إما أن يكون شعرًا او لا يكون.

في المجمل أقول إن عدوان كتب هذا كله وغيره خلال خمسة أعوام، قد تُذكّر بالتجربة الرائدة في الشعر الاجنبي لأحد رواد الحداثة في العالم وأقصد به الشاعر الفرنسي البارز آرثر رامبو، تلك التجربة التي لم يتجاوز عمرها عمر تجربة عدوان، وتمثّلت في مجموعة واحدة رائدة هي " فصل في الجحيم"، أو أكثر قليلًا، تلك المجموعة التي كتبها قبل بلوغه العشرين من عمره وانصرف بعدها إلى شأنه الحياتي اليومي تاركًا الشعر لعشّاقه المُدنفين حبًا به وبخيراته. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل سيقيّض لملحمة الخلق العدوانية أن تكون موضع دراسة أحد باحثينا الاشاوس، لتعيد إليه الاعتبار بعد كلّ ما عاشه من الماسي والآلام؟

***

ناجي ظاهر

انتهت الحرب، أو أن استعار نيرانها هدأت حدته منزاحًا عن بغداد،

إلا أنها خلفت "شظية في مكان حساس"

*** 

 تقتنص رواية "شظية في مكان حساس" للأديب العراقي وارد بدر السالم، الصادرة عن دار نشر خطوط وظلال 2021، جانبًا خفيًا وموجعًا أرسته التفجيرات الدموية في حياة العراقيين، التفجير الأخير في العاصمة بالذات، قبل استتياب الأمن، ولو بشكلٍ نسبي، يوغل مخالبه في جسد امرأة وزوجة وأم، منتزعًا منها ومن أسرتها السلام لتندلع حربـ ضارية في أحشائها، بالتحديد في مكمن أنوثتها، عبر شظية تسبب لها حكة داخلية شرسة، نزيفًا، و... هيجانًا جنسيًا غريبًا يتطلب من زوجها ما لا يطيق، ولا يتوقع من زوجته القروية الخجول، ذلك الخجل الذي هو من سمات نساء تربين في مجتمعات مقيدة بالكثير من الأعراف والتقاليد التي تفرض على المرأة أكثر من حجاب يلقي كل ما يخصها في دائرة المحرمات، فما يمنحها إياه الزوج عليها أن تتشبع به بامتنان وحياء دون أن يبدو عليها أي تذمر وإلا صارت موضع ريبة وتوجس وأقاويل... غير أن الحرب اعتادت قلب كل الموازين، على كافة الأصعدة، وفي أدق التفاصيل الحياتية، تكشف لنا ما يكمن في أنفسنا من خبايا وما يحاول المجتمع تجاهله وغض الطرف عنه.

"الحرب أظهرت عريها أمام الناس ورأوه ولمسوه في غفلة الجروح الكثيرة التي انتشرت في جسدها، وبالتالي فصلت عنها روح الخجل الفطري الذي كانت تحافظ عليه" ص 44

 الزوج/ الراوي، غير العليم بما يجري  لزوجته في الفراش وما يجتاحها من شهوة جنونية تصل به حد الإنهاك دون أن تبلغ ذروة الإشباع إلا لوقتٍ محدود، يجد نفسه مرغمًا على الانصياع لصرخاتها المتسولة في عملية تبادل الأدوار بين الرجل والمرأة التي اعتادت أن تنساق لرغبة زوجها كلما حفزته شهوته نحوها وإلا لوقعت في المحظور الديني والأخلاقي، وكأنها تبيح له فرصة السعي وراء أخرى، بزواج أو خارج نطاق الشرعية، إلا أن الزوجة ليس لها سوى فحولة زوجها، وبطلب غير مباشر عادة، أما في حالة وجود جسم غريب لم يستطع التدخل الجراحي المساس به، لاحتمائه بستر الأنوثة، فالوضع جد مختلف ومربك للطرفين والاستقرار العائلي، خاصة لدى وجود ابنتين، إحداهما طالبة جامعية تعي كل ما يحدث في بيت يسوده الاضطراب والفوضى، كانعكاس لما يجري في البلاد التي تشهد الكثير من التغيرات على كافة الأصعدة، بينما تبقى الأم مستلبة الإرادة المتراقصة ما بين الحياة والموت الذي ظل يعبث بجسدها كما يشاء حتى وهي تنهل (إكسير الحياة) من شغف زوجها بعد انقطاع أشهر إثر التفجير الذي ظل يشم تداعيات روائحه المختلفة في ثنايا جسدها لتؤكد الحرب حضورها العبثي في أكثر الأوقات والأماكن خصوصية، يبدد دفء وقدسية العلاقة المجدولة بالحب ليحيلها إلى شهوة حيوانية مجردة من جوهر المشاعر الإنسانية.

 "حياة السياسة الطائفية التي غيرت فينا المزاج وجعلتنا ننتظر ما هو أسوأ... لكن المصاب الشخصي يختصر تلك القائمة الوطنية من الرعب والعذاب ويصبح كأنه استهدفك أنتِ لا غيرك، مع أن المأتم واسع ويتسع كل يوم في حياتنا الصغيرة والجميع مصابون بالشظايا في كل مكان لا سيما في أرواحهم" ص 763562 وارد بدر السالم

 رغم أن الموضوع العام يغري بالتشعب والاسترسال في تفاصيل كثيرة، إلا أن الكاتب التزم بالتركيز ضمن مسار درامي مستقيم، يأخذ بالتصاعد رويدًا رويدا ليوجه دائرة الضوء السردية نحو شخصية (نور) البسيطة، كما تبدو على الأقل، مثلها مثل أغلب نسائنا اللاتي تجرعنَ آلام الحروب، شأن الرجال وربما أكثر في أحيان كثيرة لا تفرق بين ضحايا التسلط وتجار الأزمات، تلك القروية المنغمسة ببراح الأرض وفوح خيرها المعطاء،  لا تتمنى أكثر من حب زوجها وتربية ابنتيها، فإذا بهذه الحمامة المحلقة في سماء العائلة الممثلة للطبقة المتوسطة، التي يقع على كاهلها أغلب ما يواجه البلد من إرهاصات فكرية وسياسية واقتصادية... تتحول بفعل آلة الحرب المتخفية بين المدنيين إلى ما يشبه وحش جنسي صعب المراس والإرضاء، تعيش صراعًا مزدوجًا ومتخبطًا لا تدري شيئًا عن نهايته، صراعًا مع أقرب الأشخاص إليها، وآخر، ولعله الأشد صخبًا، يقبع داخلها وهي تنتفض على الأنثى الشهوانية التي آلت إليها، مما يزيد من مخاوفها من مقبلات الأيام وما يمكن أن تحمل من فواجع ليس لها أن تنعزل عنها بملازمة البيت، ومن هاجس تطور حالتها نحو الأسوأ، فتلجأ وزوجها إلى دكتورة متخصصة في الطب النفسي، تكتظ عيادتها بالحالات الغريبة على أي مجتمع يتمتع بحياة طبيعية غير مهددة دومًا بالفناء، وعلى مدار عقود، فالأزمة تراكمية، تزداد استفحالًا مع كل وهج حرب وبيان انتصار تليه بيانات أسف الاندحار، مع كل مفخخة تلقى شضاياها في الأجساد بعشوائية المصادفة المجردة من أي مقصد عقلاني، فالحروب لا تخضع عادةً لأي منطق.

 "بدت لي العيادة كأنها إفرازات الحرب المختلفة التي لا نراها بارزة ولا نتلمس وضوحها، فأيقنت بشكل مبدأي أن الحقائق هي في عيادات الأطباء وليست في قاعات المحاكم." ص 124

 للمرأة كما نلاحظ حضور كبير في نصوص الكتّاب العراقيين، ربما بتأثر مثيولوجي في الدرجة الأساس، فنجد شخصية (عشتار) تطل من بين طيات السرد، تتبدى في ممازجة أدبية متقنة ما بين الأسطورة والواقع المعاش في حاضر يملي على الجميع تحدياته ونكباته ومشاقه الَمتضاعفة حربًا إثر أخرى، إذ تتحول إلهة الحب والحرب إلى أيقونة تتمثل في مواضع القوة والضعف، الإرادة والاتكسار أمام شظية تشوه العلاقة الزوجية وتحيلها إلى سلسلة من التأوهات الحادة، أشبه بتضرع باكٍ يستغيث من الموت المستبطن (تاج الخصوبة) لدى المرأة، تأوهات تردد صدى انهيار الجمال في زمن القبح المستشري بين أرجاء المدينة، يتبدى في وجوه الناس وتصرفاتهم، في الثقافة الغريبة التي حطت بصماتها الثقيلة في حياتنا، تلبس لباس التقوى في سطحية تفضح الإزدواجية التي أودعتها حياة الجدب فينا عبر عقود من الموت والدمار، وكما توارت أغلب النساء، بمختلف الأعمار والحالات الاجتماعية، بالعباءة والحجاب توارت معهن تلقائية غرائزهن ورغباتهن، طموحهن واستقلاليتهن، فالمرأة في بلادنا انتظرت النماء طويلًا إلا أن مواسم الحصاد لم تأتِ أبدًا.

 "المرأة العراقية تحملت الكثير من الأورام الوطنية جسدتها الحروب من أربعة عقود تقريباً وبالتالي وقعت عليها أدوار متعددة أكثر من طاقتها النفسية والروحية والجسمانية، لكنها واصلت الحياة بالرغم من كل القتل والرعب والموت" ص 182

 محنة نفسية أم عضوية بالدرجة الأساس، أم أنها محنة حياتية عامة فجَرَها ذلك الجسم الغريب الصغير ليثير المياه الراكدة فينا ومن حولنا، فتتشعب تساؤلات حيرى كثيرة تفتقر إلى الإجابة في فضاء المسكوت عنه المتكاثف مثل غمامة تأخذ بالاتساع حينًا بعد حين، ومع تدهور حالة (نور) وارتفاع حدة شبقها المعتصر جسدها الآخذ بالضمور، تتصاعد حمى اللهاث لدى بحثها عن السكينة التي كانت تكتنفها وأسرتها قبل أشهر معدودة فحسب.

" هذه هي الحرب.. تعرّينا حينما لا نكون مستعدين للتعري وننتزع الخجل منّا لتكشف عن بعض ما لا يجب أن ينكشف فينا فتجعلنا نرى في الجمال قبحاً كثيراً."  ص 162

 الحرب ما بين اللوثة والتلوث بكافة أشكاله، ثنائية تتلوى كالأفعى بين الأحراش، تنفث سمها في أوصال المدن والأبرياء المتوسلين النجاة من أهوال حاضر ينعطف بنا ذات اليمين وذات الشمال، عسى أن نستدل على دربٍ يبرأ فيه الوطن من شظايا الموت القابعة في الخفايا. 

"نور سلبتها عاصفة الانفجار وتناثرت في جسدها الأبيض شظايا ومسامير وفتيت حصى وشرائح زجاج صغيرة ولوّث البارود روحها البيضاء" ص 200

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

26 ـ 2 ـ 2022 عمان 

أو حينما يكون عزف ناي الشعر تصاديات الروح في التاريخ والمكان

***

"الإبداع جار الأبدية الخالد، والاغتراب قوت يومه الخالد"[1].. إبراهيم الكوني

"إن مغادرة البلاغة من أجل الرياضيات، هو التقزز من عشيقة في الثامنة عشرة من عمرها والسقوط صريعا في حب امرأة عجوز".. كويز دي بلزاك[2]

***

على سبيل التقديم، بين يدي الشعر:

يورد صاحب "الشعر والشعراء" أن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: "لقد كثر هذا المحدث وحَسُنَ حتى لقد هممت بروايته"[3] وهو يقصد شعر المحدثين في العصر العباسي مثل: أبي تمام وبشار بن برد وأبي نواس ومسلم بن الوليد ووالبة بن الحباب وغيرهم... تأكيدا لقداسة ما كتبه الأسلاف منذ العصر الجاهلي، كامرئ القيس، وعنترة بن شداد، والنابغة الذبياني، والأعشى، وعمرو بن كلثوم... وغيرهم، وصولا إلى البحتري، أبرز شاعر مطبوع في العهد العباسي، وأن كل تجديد وخروج عما أسسوه شعريا، وقد استجمعه المرزوقي في شرحه لديوان الحماسة لأبي تمام تحت مسمى "عمود الشعر"، أو اجتراح شكل إبداعي جديد، أمر مرفوض وبغيض، ولا يسلم صاحبه أن تلوكه كل الألسن بقاذع الصفات، وكأن الحقيقة الكلية المتناهية للإبداع انتهت إلى الكمال، ولا يمكن إيجاد أفضل مما هو كائن، وقد سُدَّ بابُ الإبداع الحق والتجديد والاعتراف به دون الباقين في آباد التاريخ لما فَوَّزَ الأوائلُ الفحولُ؟

وحقيقة سأشفق على أبي عمرو بن العلاء، ألم يسمع قول أبي العلاء المعري:

"وإني وإن كنت الأخير زمانه *** لآت بما لم تستطعه الأوائل"[4]

ألم يسمع البارودي يقول:

"كَمْ غادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ   *****  وَلَرُبَّ تَالٍ بَزَّ شَأْوَ مُقَدَّمِ

فِي كُلِّ عَصْرٍ عبْقَرِيٌّ، لاَ يَنِي  *****  يفْرِي الفَرِيَّ بكلَّ قولِ محكمِ"[5]

ولو مد الله في عمره أو لو حيي بيننا الآن. كيف يكون حاله؟ افترض أن يضع أصابعه في أذنيه، ويهرب متخذا مكانا قصيا، لسان حاله: أن "لكم دينكم ولي دين"[6] و"سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين"[7]. أم يعتذر عما بذر منه، ويُقَوِّمُ حكمه النقدي، ويُحَيِّنُ آلته النقدية أيضا، وكيف لا؟ وقد مرت مياه لا تحصى تحت الجسر، لما تولد شعر الحداثة العربي مع أجيال ذاقت ويلات الاستعمار، والاستغلال، والتهميش، والنفي، والغربة.. مثل: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور... والذين دفعوا بالتجديد الشعري إلى تخوم جديدة، فاتحين أراضٍ بكرٍ خصيبة، كأدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي، وأحمد المجاطي، وعبد الله راجع.. تمثيلا لا حصرا، حافزيتهم في ذلك، غنى وتنوع فكري وإبداعي يجمع بين الأصالة من تراث شعري عربي غني ومتنوع، وفكر صوفي إشراقي، والمعاصرة والانفتاح على الأجنبي كشعر توماس إليوت، وبول فاليري، وبودلير، ومالارميه، وهولدرلين، وماياكوفسكي، ولوركا، وراينر ماريا ريلكيه، وبلول إلوار، ولويس أراغون، وآرثر رامبو، وبابلو نيرودا... وغيرهم. وكذا فلسفات تحررية ووجودية وغيرها حديثة، وأساطير ورموز ثقافية متنوعة، ومترامية الثقافات والجغرافيات. وهذا ما جعل التجربة الشعرية لديهم فذة خصيبة، ثورية، استشرافية، مستقبلية، بلغت مداها مع تصاعد موجة الكتابة بالنثر، والضرب بالعروض الخليلي عرض الحائط والنسيان، فظهرت قصيدة النثر - رغم ما في الموضوع من كثرة القول والتوجهات لا نُعْنَى بالخوض فيها وتفصيلها الآن - والتي أغرت الكثيرين، وأوصلت التجديد الشعري إلى أقصى مداه في الشكل الفني، بالأساس، لقيامها على: الإيجاز والتوهج والمجانية... وغيرها حسب سوزان برنار[8]، ومن روادها عربيا، أنسي الحاج، ويوسف الخال، وتوفيق صايغ، ومحمد الماغوط، وسيركون بولص... واللائحة طويلة. فكانت بانفجاريتها تعبيرا صادقا عن تشتت الذات العربية أو المُوَاطِنَةِ عامة في الأوطان العربية والإسلامية، وانكسارها وضياع أحلامها وحقوقها، وتخبطها في الجهل والفقر، والتهميش، وهلم أسقاما، وعاهات.

وبهذا أغرت الكثيرين من الشباب في الكتابة على منوالها استجابة لاندفاعات وثورات وجدانية فكرية داخلية، هي نتاج تفاعل الذات مع واقعها ومحيطها، وقضايا مجتمعها. ومالكة حبرشيد واحدة من الشاعرات والشعراء الذين يمموا وجههم شطر هذا الخيار الإبداعي بديلا عن الشعر العمودي أو التفعيلي أيضا، متسلحة بقدر لا يستهان به من المعرفة الأدبية والنقدية التنظيرية وكذا الجغرافية الإبداعية في هذا الإطار، والمنجز حوله في المشرق والمغرب، وبمعرفة وإنصات عميقين لواقعها المغربي ونبض الشارع وحاجات الأجيال المقبلة في هذا الوطن، وُكْدُهَا في ذلك التعبيرُ عن فداحة الواقع وجنائزية الحياة فيه لمَّا تسربلت بكل إثم ومثَبِّطٍ ومُحزِن من ظلم، وقهر، واستغلال، وتجهيل، وتهميش، وترهيب، ونفاق.. إلخ، وكل محارب لإنسانية الإنسان وكرامته، وحقه في المستقبل المزهر والمشرق، أفلا يحق لهذه الذات أن تخون هذا الوطن حسب الماغوط؟ وأن أفضل توصيف للخيانة ههنا أن تكون قمة الشرف؟

لكن الشاعرة مالكة حبرشيد - التي رأت النور في مدينة خنيفرة بالأطلس المتوسط في المغرب، بطبيعتها وجغرافيتها الآسرة التي ستترك سحرها في الذات الشاعرة، وتقوي الإحساس بفكرة الرحمية بينها وبين هذا المكان وأنطولوجيتها المنبثقة متوثبة منه لتنفتح على فوهة العالم - لم تستسلم ولم تداهن وأيضا لم تخن هذا الوطن لسبق المحبة والارتباط به بحبل سري لا تنفصم عراه مهما توالى القهر والطغيان والتهميش، وإيمانها أن قدرها الانغراس في هذا الوطن وأن حب الأوطان من الإيمان.

من هنا، نسجل الحضور القوي لهاجس المكان في الشعر والإبداع عامة، فالذات المبدعة امتداد للمكان وهو نقطة التمركز والتجاذب لها، وهو أس كينونتها الأول. كما أن هذا الاحتفاء بالمكان سيحضر، بقوة، في التجربة الإبداعية للشاعرة بأكملها، ولكن بشكل جنوني آسر في الديوان الجديد الموسوم بــ: " بين القصيدة وحزن الناي" فكيف يتشعرن المكان في الديوان ليصير الرمز والمنفى معا؟ ما حدود التعالق بين الذات الشاعرة والمكان؟ ما التحققات الممكنة للهوية لدى الشاعرة في ارتباطها بالمكان والمجتمع؟ وما تجلياتها؟ ..... تلكم أسئلة جوهرية تسعى هذه الورقة المتواضعة مقاربتها والنبش في الديوان للوقوف على تجوهرها داخله والإجابات الممكنة عنها بين السطور، وفي المسكوت عنه أيضا مندسا في البياضات التي لا تقل شعرا عن السطور الواضحة، لهذا يصرح رامبو: "أيا نفسي لا تجعلي القصيدة من الحروف التي نثرتها كالمسامير على بياض الورقة وإنما اجعليها من البياض المتبقي في الورقة"، وذلك لأن "تصوير الألفاظ وحده لا يؤدي الأشياء كاملة. وعليه، فالفراغ الأبيض متمم"[9] أي أنه متمم للقصيدة وكيانية النص الشعري والتجربة الإنسانية والرؤياوية التي يتطلع للنهوض بها، وتتصادى الشاعرة مع هذا المذهب كثيرا حين تقول: " بأبجدية عشق كنا نكتب الشعر / اليوم نكتبه بياضات تروي / انتظاراتنا العالقة في جوف الريح..."[10]. ولهذا تدعونا رجاء عيد إلى التحفز وركوب صهوة التأويل، متسلحين بكل الممكنات المعرفية، والمنهجية، والثقافية، والمخيالية... لنكشف المعنى الخبيء في النص ونعيد تشكيله من جديد، إذ تقول: "عندما يصمت النص، وتلتف خيوطه على نسيجها، هنا يشرع القارئ في تأويل ما سكت عنه النص"[11].

أولا: بين يدي الديوان، قراءة في العتبات:

لقد جاء الديوان في طبعته الأولى سنة 2016 متشكلا من 106 صفحات من الحجم المتوسط، منشورات مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام، وينهض العنوان "بين القصيدة... وحزن الناي"[12] على قطبين اثنين متقابلين هما:

الاسم (القصيدة) وما تحيل عليه من إبداعية وجمالية، وتشكيل فني مشبع بالاستعارات، والكنايات، والتشبيهات، والمجازات، والرموز المختلفة، والتراكيب اللغوية البديعة، والقصيدة ذات بعد مادي حيث تكون نصا أدبيا.... إلخ، والمركب الإضافي (حزن الناي) الذي هو ضارب في الرمزية، ومعنوي، إذ الحزن شيء دفين في النفس والروح، وهو نتاج توالي الانكسارات والخيبات، وأفول التحققات الممكنة للحلم أو الرغبة، ونتاج الفقد للمحبوب والغالي، فيجثم على القلب والصدر، ويخنق النفس ويكاد يودي بها ويفنيها، فلئن قالوا قديما "من الحب ما قتل"، فأيضا، من الحزن ما قتل، والحب لا يقتل كحب، بل يقتل بما ينتج عنه لما ينكسر ويصاب بالإحباط والرفض، فيولد حزنا على الحبيب يؤدي بصاحبه إلى الموت أحيانا، ولنا ما يؤكد ذلك في قصة يعقوب عليه السلام وحزنه على فقده ابنه يوسف عليه السلام في سورة يوسف حيث قال تعالى: "وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم"، وقوله أيضا: "تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين"، ثم قوله عز وجل: "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله"[13].

أما الناي فآلة موسيقية قديمة مع الإنسان، سهلة الصنع خفيفة الحمل، لهذا كانت ترافقه كثيرا في أسفاره ورحلاته، كما اشتهر استعماله في مجال الرعي، إذ يخلق للراعي بعزفه فسحة الأنس واستحضار لحن الحب والتوق للفراديس العلوية، حيث الطهر والقداسة، وأيضا يتخفف بعزفه من وطأة الزمن وقفر المكان، مكان الرعي طبعا، ويمتاز أيضا باللحن أو الصوت الصادر عنه، المرتبط بالحزن والأنين والتوجع، كاشفا عن إحساس عميق في النفس، وصَمْتُهُ إذن بالموت "سكانها رعاة بلا قطيع/ في قلب ناياتهم/ اختنق الصمت"[14]. لكن لماذا اختيار الناي قصدا وليس آلة أخرى؟؟ ربما لأن الشاعرة حالَّةٌ مرتحلة، مسافرة دائما، لهذا، اتخذت الناي رفيق دربها مؤنسا لها، أم لأن الناي يشبه المرأة الأنثى في رقيق الإحساس والشعور وعمقه، وربما لكون الشاعرة مشبعة بالانكسارات والخيبات والأحزان، إذ تقول: "لما ابتعدْتِ يا نصفي المعافى/ حتى اعتلى النشاز ألحاني.."[15]. والتي يضطلع الناي بالكشف عنها بكل اقتدارية آسرة. ولهذا، تتموقع الشاعرة بين القصيدة باعتبارها دالا لغويا على مدلول ما قد يكون: المكان خنيفرة، أو الأرض، أو الوطن، أو الحياة بكل ما يعتمل فيها.. وبين الناي بحزنه وانكساره، تدل على هذا التموقع نقاط الحذف وظرف المكان (بين) في استهلالية العنوان. كأن الشاعرة تقول: بين القصيدة وحزن الناي تكمن أوجاعي وانكساراتي وروح أشعاري... تكمن أناي وكينونتي الشعرية متسامقة كشجر الأرز والسَّرْوِ مجابهة الواقع، متطلعة للمستقبل والآتي الذي ما انفك يأتي دون أن يتحصل، إذا استعرنا عبارة الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي.

وتتظافر مع دلالة العنوان وإيحاءاته الترميزية والشعرية الصورة في الغلاف لفتاة تعزف على الناي، حيث اليدين، بأناملهما الملائكية، تداعبان الناي في تناغم متناه، والعينان مغمضتان لتكملا إهاب المشهد وروحانيته، وتحليق الذات عاليا في تماه مع ألحان الناي وشجونه، حيث الحياة البرزخية توجد هنا، فتصبح الذات محسوبة على الأحياء في الدنيا، ولكنها مشدودة في نفس الوقت لزمن ومكان آخرين، وفراديس علوية روحا ومخيلة، وهذا ما نستشفه في أن الفتاة انشطرت نصفين على مستوى اللون من رأسها وحتى منتهى الصورة، حيث الأخضر دال على الحياة والخصوبة، والعطاء، والحيوية، والدينامية، واكتناز الذات والتجربة الإبداعية.. في حين ينهض اللون الفضي المائل للبياض للدلالة على الطهرانية، والصفاء، والملائكية، والامتداد، والانطلاق، والحرية، والحلم، والاستشراف... وكأن الشاعرة تشجع ذاتها حتى لا تستسلم، وتؤكد أن هناك متسعا للحلم والأمل، رغم ما يعتري الذات والواقع من وهن ومواجع.

وتأتي بعد هذا العبارة التنصيصية على المتن الإبداعي وتصنيفه على أنه قصائد نثر حتى ينعقد الميثاق القرائي بين الشاعرة والقارئ على الوضوح واتفاق مسبق منذ البداية، أن الذي أنت مقبل عليه هو قصائد نثر، فاحشد طاقتك اللغوية، والمخيالية، والبلاغية، لفك طلاسم القصائد ودلالاتها، والقبض على مكنونها، وتجوهرها الإبداعي المكين، واشحذ آلياتك التذوقية والأدبية أيضا لتدخل القداس وأنت مستعد لكل مراسيمه. فلا صلاة بدون وضوء ينقلك من الدنيوي إلى الروحي والأخروي، وإن كانت كذلك فلا يعول عليها، ولا قراءة للشعر بدون استعداد وحشد لمقومات البلاغة، واللغة، والفهم، والتأويل.. للقبض على جمرة الشعر، وإكسير الحياة في القصيدة، وإلا فهي قراءة لا يعول عليها.

ولتسهيل هذه المهمة، يواظف المنتج في ظهر الغلاف مجتزأ من القصيدة الأولى "مقدمة حائرة بين النص والبداية" تؤكد على الحياة الدائرية الرحمية، حيث النهاية تعود إلى البداية والعودة للزمن الأول والحالة البدئية، حيث الطهر، والقداسة، والبراءة، والحلم.. التي تبقى الذات مشدودة إليها مهما توالت عليها الأحزان والمدلَهِمَّات والخطوب، فمهما ذهب بها الغجر وأبعدوها منفى في منفى، فهم لم يستطيعوا قطع الحبل السري الذي يربطها بالرحم الأول، بالمكان الأول. هذا وينهض الإهداء في مستهل الديوان على تأكيد انشطارية الذات، وتوقها لِلِّقاء والاكتمال، مستسندة بنصفها الثاني المدجج بالحلم، فيكون بوصلة تهدي النوارس إلى الخلود، متحللة من الزمان، حيث الخلود انبعاث جديد، وهنا تكتمل الذات القصيدة. ولا ننسى في أسفل لوحة الغلاف اسم الناشر وهو "مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام" بخنيفرة. مشكورين طبعا على هذه الأناقة في التنضيد، والاختيار، والإخراج للغلاف، والديوان.

ثانيا: فتنة المكان وتعميده صعودا نحو الرمز والهوية:

لا أحد ينكر احتفاء الإبداع، عموما، والشعر خصوصا، بالمكان، إذ هو الرحم والمحضن الأول للشاعر، ومهما طوحت به الحياة ومشاغلها يبقى منشدا إلى مكانه ومسقط رأسه الأول، وقد قال الشاعر أبو تمام قديما:

" نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يعشقه الفتى *** وحنينـــــــــــــه أبدا لأول مــــــــــنزل"[16]

فهاجس المكان مطروح في الشعر منذ القديم، ويشغل المبدع إلى حد كبير، ولهذا، مع تغيرات الحضارة وظهور المدينة المعاصرة بسلبياتها وإيجابيتها، احتفى بها الشاعر الحديث، فتوزع ما بين مادح لها، منجرف إليها، وبين ساخط ناقم عليها، يرتجي تبدلها أو اضمحلالها، فهي وحش يقضي على إنسانية الإنسان ويبددها فتصير المدينة بلا قلب حسب أحمد عبد المعطي حجازي[17]، والحديث عن المكان يستلزم، بالضرورة، الحديث عن الزمان، إذ هما متعالقان، فانغراس الذات وانقذافها في المكان لا بد له، باعتباره فعلا وحدثا، من زمان يقع فيه، وله خواصه ومياسمه التي ينماز بها عن الأزمنة الأخرى، إذ مجرى الزمن متبدل ومتغير باستمرار في اشتراطاته وحيثياته. "إذ بالقدر الذي تجد فيه تجريدية الزمن كنهها المادي من خلال المكان لا يتيسر لهذا الأخير العثور على معناه الأنطولوجي المتراكب إلا إن هو استصدى تجريدية الزمن، وأدمجها ضمن علاميته"[18]، وأما ما يتحلى به المكان من خواص مائزة، يدركها الذهن والشعور عبر قنوات الحس من بصر ولمس.. هو ما يجعل المكان سابقا عن الزمان في المدرك الإنساني.

وهكذا، أخذ الشاعر الحديث يستحث طاقاته الإبداعية، وينحت طرائقه الجمالية والشعرية والتخييلية، معلنا مغايرته للهش والمألوف وثورته عليه، محتفيا بالمكان أو الفضاء بمفهوم أوسع ومقوماته الناطقة والصامتة، وذلك بشكل جديد، مفسحا المجال للقصيدة كي تُعْمِلَ حفرياتها في تضاريس المتخيل الشعري والتوهج الإبداعي لِيَهَبَ المدينة والمكان سلطتهما وايهابهما الرمزيان، ويكشف ما يعتورهما من سوء، وتناقضات تربك الكينونة البشرية، وتكدر صفو عيشها وإن كانت من صنع بشري طبعا.

"لن أبتدئ من حيث انتهيت / وأنتهي حيث بدأت / سأُخسِر الزمان رهانه حول تاريخ ولادتي / أجعل العرافات يدركن أن رملهن كاذب / وأن الغجر مروا من هنا / يوم اشتد مخاض أمي / أخذوني معهم سبية / ولم يقطعوا الحبل السري..."[19].

هكذا، تتبدى الذات الشاعرة متعلقة بمنبتها الأول، عاشقة له حد الجنون، ولهذا، فهي غير راضية عن وضعها الحالي لما تعاورها التشرد، والضياع، والمنفى، والغربة عن الواقع والمجتمع، وإثر هذا، ستمزق الماضي وتقتلع الحاضر من جذوره... وتكتب ذاتها قصيدة عشق بعثرتها المنافي، ويصير بمكنتها ذلك لما صارت غيابا يثقله الحضور[20].

ولكن الشاعرة لا تستسلم، بل تلملم قواها وتنتفض متسائلة "من حذف الشمس من لوحتي / كان يرغب في بتر ظلي / لأغدو صلاة ضارعة في العتمة / لا يعرف ملمحها بياض الفجر.."[21] فتدعو إلى اعتماد اللا فهم واللاعقل لمواجهة جنون العالم أو قراءته بلا خلفيات مسبقة والتَّحَصُّلِ على إجابة جديدة علها هي الشفاء لا الشقاء "تعالوا نقرأ دون فهم / نغير زاوية الرؤى / نبدأ من حيث لا يرغب الفاعل والمفعول / ... / قد نحظى بفسحة جميلة / لنصلح ذات البين بين السماء والأرض"[22] يا للهول: يجب أن نكون أشد عماء لنرى بوضوح سافر؟ هذا التصالح الذي تتوق له كل البشرية ولا يتنكر له إلا من كان خلده خلوا من أية ذرة فكر سليم أو قيم إنسانية سامية.

"الشعر لغات وألوان / جاذبية ملامح وأشكال / وأنا عيون تغفو في حضن الأبجدية / من بين ألعابي الطينية / يطل صخب تيعلالين / النابت عند سفح باموسى / صخب النسوة / وهن يغزلن الصوف / ... / خوف الصبية من رصاصة طائشة / تسقط الحي في الشراك المرمية على الطريق / ... / تطفني هذه المشاهد الدرامية / فأجدني مشدودة / إلى أرض توارت أحجارها / خلف دخان أسود / والعجز خمار تداعبه / المايات الأمازيغية / أينك / يا من تخضب بنظرتها شفافية المكان؟ / هزي عمود الخيمة.../ ليستفيق القر.. / ينتفض الرماد المسكون بالهيجان"[23].

وهكذا، مع معايشتنا للديوان وقصائده، تستوقفنا صور ومشاهد موغلة في الوجع والقتامة، تفضح واقع مدينة خنيفرة، عروس المتوسط وقلبه – لا كشرقه الذي كان عند عبد الرحمان منيف- وتبكي حظها وانزواء المدينة في ظلال التهميش والخذلان، وتسلط المخزن وغيره، وإرادات التهميش التي تطالها من المسؤولين... وهذا يكشف عشق الشاعرة للمدينة التي تصبح دالا بانيا للخطاب الشعري، الذي تتكثف شعريته المنفتحة على حرارة التساؤلات بين الفينة والأخرى، والتي تشف عن علاقة الجسد بالمكان، أو الشاعرة بالمدينة، ثنائية تكشفها مغامرة الكتابة في لغة تكشف العشق الآسر للمدينة، فهي محراب لصلوات الشاعرة، وكنيسة لتراتيل العشق، وقداس التعميد، حيث المعمد المكان رغبة في صعوده نحو السماوي، وتخلصه من كل المواجع البشرية المقصودة وغير المقصودة.

هكذا، وبألق العشق والغبطة والمحبة العميقة تكتب الشاعرة مالكة حبرشيد عن خنيفرة من خلال نص شعري ينجذب للأعماق، مسكون بالسؤال والحنين والوعد والذكرى، حيث الغياب عن المكان خنفرة منفى، سواء كان الغياب تحققا واقعيا أو رمزيا، واسترجاع المدينة باللغة مسكنا وإقامة ومأوى، لتراهن الكتابة الشعرية في استراتيجيتها الواعية على الالتفات لشساعة المدينة، لسحرها الذي لا يقاوم، لرائحة تفاصيلها الصغيرة التي تستنبطها ألفة القصيدة وتستلذها... وجغرافيتها المتنوعة وطبيعتها الآسرة سحرا وجمالا، وتكمن قدرة الممارسة النصية الخلاقة في استطاعة الشاعرة وخبرتها في أن تروض المكان/المدينة وتؤنسنه، وتجعله أليفا ومنصتا لحرارة الذات الشاعرة وهي تستعد لسفرها في ذاكرة الأمكنة مستكشفة أن بإمكان القصيدة أن تكون سيرة لإقامة المدينة داخل اللغة. هو الافتتان بمدينة تنفتح على شهوة اللقاء، وتنخرط في سؤال الكتابة عن المكان بوعي يتجاذبه، الشوق والغياب. لأن "لا بداية ولا نهاية للمغامرة. هذه القاعدة الأولى لكل نص يؤسس ويواجه. لا بداية ولا نهاية الكتابة نفي لكل سلطة، وبهذا المعنى، لا يبدأ النص لينتهي. ولكنه ينتهي ليبدأ، ومن ثم يتجلى النص فعلا خلاقا دائم البحث عن سؤاله وانفتاحه، لا يخضع ولا يستسلم ولا يقمع. توق إلى اللانهائي واللامحدود، يعشق فوضاه وينجذب لشهوتها. كل إبداع خارج على زمن الإرهاب، مهما كانت صيغته وأدواته"[24].

بهذا المعنى، تشتغل القصيدة على المدينة/المكان بوصفه كائنا مستفزا، ومحرضا للذات الشاعرة لتقول فرحها أو حنينها في علاقتها الممكنة مع الأمكنة، وهي العلاقة التي تؤسس رؤيتها الجمالية لتخصيب متخيلات بناء الخطاب الشعري. في الاحتفاء بقراءة بلاغة المدن، تختبر اللغة مجهولها في بناء الممارسة النصية، مشدودة للفضاء حيث الروح المبدعة تمارس طقوسها القصوى في الإنصات للكائنات، الجدة، الأم، الأخت، الصبية، عامة الناس... وللداخل الإنساني المفتوح على العتمة والإشراق، والمجهول، واليقظة، والذهول. "هكذا تتغذى القصيدة من فتنة المدن بوهج لا تعلنه إلا الكلمات"[25].

هكذا إذن تحتفي الشاعرة بالمكان مسقط الرأس والولادة مدينة خنيفرة، بمواظفة مشاهد متعددة وذكريات الطفولة والنشأة، وأخرى عن حياتها ومشاهداتها من حياة الناس المكتنزة بالتفاصيل الدقيقة عن المعيش اليومي، يخالطها تأمل ومساءلة لواقع المدينة والمكان، معلنة عدم الرضى بالمتحقق، راغبة في الأفضل لهذا المكان الذي هو حبها المكين وأنسها الأوحد، تعتورها الغربة ويتقاذفها المنفى كلما كانت بعيدة عنه، كما ورد على لسان الشاعرة ذات حوار معها.

هذه المشاهد والرؤى المتسربلة بالحب تصعد بالمكان، وترتقي به، ليصير في مصاف الأيقونية والرمز، رمز الولادة، والكينونة، والانبثاق الأول، والتبلج في فجر الحياة، إن المكان يصير، بهذا، معادلا لكينونتها ووجودها الأنطولوجي، وامتداد للذات، وجزء من هويتها. وهذا يجعلنا نستذكر رمزية جيكور للسياب حيث هي الحياة، بل هي الكون والوجود.

على سبيل الختم:

هكذا، ومن المنجز أعلاه، نؤكد على حتمية المكان، وأن انغراس الذات المبدعة فيه لا يمكن أن يجعلها إلا متفاعلة معه، وكلاهما امتداد للآخر وتعريف به، هنا يصير المكان رمزا ودالا لغويا ذا قوة خلاقة في الإفصاح عن الهوية وتشكلاتها المختلفة، حسب تجذر الذات في المكان وارتباطها به، ومدى معايشتها له، وارتباط أحلامها وطموحاتها به، لهذا تنهض الترسانة الإبداعية عند الشاعرة أسلوبا، ومعجما، وبلاغة تصوير، وعمق مخيلة، واستسناد ذلك باستضافة مقومات الإيقاع الداخلي صوتيا، وتراكيب صرفية، من أجل ترجمة هذا الحب والتعالق مع المكان، والتسامي به بالقدر الذي يليق به شعريا، وجماليا، ووجدانيا فــ "خنيفرة هي حبي الأبدي - تقول الشاعرة ذات حوار معها منشور على الأنترنت-  الذي لا بديل عنه، جرحي النازف، وحكايتي الغريبة التي أعشق اجترار مرارتها كي أتألم أكثر، وأحبها أكثر وأكثر، هي لغز كبير - رغم جغرافيتها الصغيرة - استعصى على التاريخ فكه وعلى الناس فهمه، خنيفرة هي أمي وابنتي، مهما ابتعدت أسمعها تناديني وبداخلي دائما حنين إليها. وأنا بين ظهرانيها. هي كالفجر تشرق فيَّ حيثما كنت، يهزني فقرها، يرجني حزنها، وابتسامات أطفالها العائدين من المدارس وقد جمد الصقيع أطرافهم، وسدت الثلوج دروبهم، وأنهك الجوع أجسادهم الصغيرة. لكن أرواحهم شامخة شموخ الأرز، صامدة صمود جبالها التي لا تطأطئ هاماتها مهما أمعن القهر.. خنيفرة ماية أطلسية تهز الإنسان لينفض عنه غبار الموت، والفقر، والجهل، والجوع... بحثا عن الحياة...عن الجمال.. هي البحيرات التي تروي ضفاف النوى، وحقول الجحود وقلوب الصقيع التي لا تمنحها أي التفاتة. جغرافيا مهمشة، منفية، مبعدة كليا عن دائرة الاهتمامات الرسمية عبر التاريخ، لكنها باقية ما بقي الأرز والإنسان هي القصيدة، وأنا الناي الحزين. توحدنا ملحمة النضال - في الهواء الطلق - لوطن يحكمه الحجر الصلد وقوانين التهميش"[26]. هكذا إذن تفصح الشاعرة أن القصيدة في العنوان هي خنيفرة وأما الناي الحزين فهو ترميز للشاعرة، وهكذا، نجد أن الهوية تتشكل من جماع التفاعلات الممكنة مع المكان والناس والمجتمع بكل أطيافه، خاصة المجتمع الخنيفري، حيث يتلامح لنا كيف يضطلع الآخر بتشكيل وتحديد هوية الذات إذ عبر الآخر تتعرف الذات نفسها، نواقصها، نبض الحياة، قيمة الجمال وقيمة الإنسان.. وخاصة لما يتعدد هذا الآخر بتلاوين شتى، فهو الذات والأنا في نفسها وأعماقها عبر حوارات منولوجية، تستكشف بواطن الروح وتستغور الرؤى والأحلام، وهو الحبيب والنصف الثاني، تحققات الذات في الصفاء والحب كما في الحزن والوجع، وهو الأبناء النوارس، امتداد الذات وعمرها الذي يشب بمرآها، وهو الأهل والوالدين وبقية الناس والأصدقاء... كما هو المخالف الرابض في الضفة الأخرى يمكن وسمه بالعدو الذي له يد طولى في معاناة الناي الحزين، وعذابات القصيدة، وعسر تجددها وولادتها... ولهذا، نسجل هيمنة الحزن والألم على قصائد الديوان وشعر مالكة حبرشيد عموما، وأيضا التشظي والانكسار المتناثرة دواله اللغوية بين ثنايا القصائد على مدار الديوان، ومن هنا، لا ضير أن اختارت الشاعرة الناي نظيرا لها، ولصوتها العميق المكلوم الآتي من زمن بعيد، يند ظلما، وقهرا، وتهميشا، ومعاناة.

هذه العلاقة المربكة المتنوعة مع المكان والآخر، الضاربة في التاريخ والزمن، لهذا، ليس بمكنتنا إلا الإلحاح على حضور التاريخي في الديوان، عاملا ساندا لتشكلات الهوية، ولهذا حضر التناص فاعلا أساسيا في ترميم الهوية واستكمال تجربة الذات مع المكان والآخر عبر الزمن، من مواظفة سجل اللغة الشعبية العامية، والمفردات الأجنبية منطوقة بلهجة مغربية، أو نصوص وأسماء شعراء أجانب، وأعلام أو رموز ثقافية وتارخية، أو أسطورية، تسند التجربة الشعرية، وتستدفع طاقاتها التعبيرية إلى أقصى الحدود، احتفاء بالمعنى حتى يحدث هزة في القارئ، ويستنفر وجدانه ومخياله للتفاعل مع الذات في تجربتها الشعرية المتفلتة التي لا يُقْبَضُ عليها كلية، بل لماما، لهذا، يبقى حبل الإبداع طويلا، والقصيدة الكلية مجازا وحلما يراود الذات أبدا، ويستحثها للمزيد من الكتابة والجمال.

ونسجل كذلك التناص مع النص القرآني في سياقات عدة، أو مع النص التراثي، خاصة الملحون.... وغيره، هكذا، تشيد مالكة حبرشيد سيرة شعرية في الديوان - ليس بالمعنى الأكاديمي للسيرة – لا تتوقف تشتغل على نصوصها الغائبة[27] في إطار المشترك الإنساني، وسعيا في سبيل الفرادة والإضافة الجديدة التي تغني الأدب والشعر المغربيين، وخاصة الشعر المحلي بخنيفرة. فهنيئا للمدينة بهذا الاحتفاء وهنيئا لنا بمساحة هذا البوح الجميل، والتجربة الإبداعية المتولدة من رحم الحياة واعتمالات الذات فيها، لتصير هذه التجربة بطاقة هوية للذات والمكان معا.

***

د. محمد معطلا، الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين فاس – مكناس. دكتوراه في النقد الأدبي والدراسات الثقافية، كلية الآداب فاس- سايس.

.....................

لائحة المصادر والمراجع:

إبراهيم الكوني، من اغتراب الطبيعة إلى اغتراب الهوية، ضمن كتاب: الكتابة والمنفى، تحرير وتقديم عبد الله إبراهيم، دار الأمان الرباط، ط1.

ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف القاهرة، ط 2.

أبو العلاء المعري، سقط الزند، دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، سنة 1957م.

أبو تمام، ديوان أبي تمام، شرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، دار المعارف، القاهرة، ط 3، بد ت.

أحمد عبد المعطي حجازي، مدينة بلا قلب، دار الكتب والوثائق القومية، بد. ت، وبد. ط.

أنطوان كومبانيون، مقال: الأدب.. من أجل ماذا، ترجمة محمد المزديوي، مجلة نزوى، العدد 79، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، مسقط، يوليوز 2014م.

بنعيسى بوحمالة، أيتام سومر في شعرية حسب الشيخ جعفر، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، سنة 2009م.

سوزان برنار، قصيدة النثر، ترجمة زهير مجيد مغامس، مراجعة علي جواد الطاهر، الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة، ط 2 سنة 1999م.

القرآن الكريم، برواية ورش عن نافع.

مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016.

مالكة حبرشيد، حوار مع الشاعرة بعنوان: "مالكة حبرشيد بين القصيدة والناي الحزين"، حاورتها بشرى رسوان، منشور على الأنترنت.

مجلة عالم الفكر، ضمن مقال لمحمد عدناني حول الشعر العربي الحديث والحداثة الشعرية ومقوماتها.

محمد بنيس، حداثة السؤال، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 2، 1988م.

محمد علوط، محمد بنطلحة أخسر السماء وأربح الأرض التخييل الشعري الذاتي وسؤال الهوية، جريدة الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 22/ 04/ 2015.

محمود سامي البارودي، ديوان البارودي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، بد ط سنة 2012م.

مقال المدينة في القصيدة المغربية المعاصرة، مجلة نزوى، الموقع الإلكتروني.

الهوامش

[1] إبراهيم الكوني، مقال: من اغتراب الطبيعة إلى اغتراب الهوية، كتاب: الكتابة والمنفى تحرير وتقديم عبد الله إبراهيم، دار الأمان الرباط، ط1، ص: 104.

[2] أنطوان كومبانيون، مقال: الأدب.. من أجل ماذا، ترجمة محمد المزديوي، مجلة نزوى، العدد 79، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، مسقط، يوليوز 2014م، ص: 24.

[3] ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف القاهرة، ط 2، ص: 63.

[4] أبو العلاء المعري، سقط الزند، دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، سنة 1957.ص: 193

[5] محمود سامي البارودي، ديوان البارودي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، بد ط سنة 2012، ص: 256

[6] القرآن الكريم، سورة الكافرون الآية 6.

[7] القرآن الكريم، سورة القصص، الآية 55.

[8] سوزان برنار، قصيدة النثر، ترجمة زهير مجيد مغامس، مراجعة علي جواد الطاهر، الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة، ط 2 سنة 1999. وفيه تطرح الكاتبة أسس ومقومات قصيدة النثر مع كبراء الشعراء الفرنسيين الذين بشروا بها، وكانوا الفاتحين لهذا الشكل الشعري الجديد.

[9] محمد عدناني، بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الجديد، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الع3، المجلد34، يناير مارس 2006م، ص: 114.

[10] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016، ص: 74، 75

[11] محمد عدناني، بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الجديد، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الع3، المجلد34، يناير مارس 2006م، ص: 113.

[12] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016.

[13] القرآن الكريم، سورة يوسف، الآية: 85- 86.

[14] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016، ص: 43.

[15] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، المرجع نفسه، ص: 20.

[16] أبو تمام، ديوان أبي تمام، شرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، دار المعارف، القاهرة، ط 3، بد ت، ج 4، ص: 253.

[17] أحمد عبد المعطي حجازي، مدينة بلا قلب، دار الكتب والوثائق القومية، بد. ت، وبد. ط.

[18] بنعيسى بوحمالة، أيتام سومر في شعرية حسب الشيخ جعفر، دار توبقال ط1 سنة 2009، ج1، ص: 161.

[19] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016، ص:5

[20] مالكة حبرشيد، المرجع نفسه، ص:7

[21] مالكة حبرشيد، المرجع نفسه، ص: 8

[22] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016، ص: 13

[23] مالكة حبرشيد، المرجع نفسه، ص: 14،16.

[24] محمد بنيس، حداثة السؤال، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 2، 1988، ص18.

[25] أحمد الدمناتي، المدينة في القصيدة المغربية المعاصرة، مجلة نزوى، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، العدد 77، بتاريخ يناير 2014م، ص: 30.

[26] مالكة حبرشيد، حوار مع الشاعرة بعنوان: "مالكة حبرشيد بين القصيدة والناي الحزين"، حاورتها بشرى رسوان، موقع الحوار المتمدن، العدد: 4726، بتاريخ: 2015 / 2 / 20. الرابط:

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=456134

محمد علوط، محمد بنطلحة أخسر السماء وأربح الأرض التخييل الشعري الذاتي وسؤال الهوية، جريدة الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 22/ 04/ 2015.

المبدع والمتلقي يجمعهما نتاجاً جمالي مشترك فاعل، فالأبنية اللغوية وانتاج الصورة والموضوع الشعري وكذلك الايقاع النغمي وغيرها من العناصر التي تشكل الشعرية المعاصرة، ومن هنا فان الاهم شعرية الشعر وبناء العلاقات اللغوية التي يخرجها عن سياق الاخبار والمباشرة الى سياق الشعرية مضافا الى تلك العناصر التلقي بوصفه العنصر المهيمن وعملا حاسما في تحديد النوع الشعري وسماته الجمالية بما صادق عليه الوعي الجمعي والارباب اللغة من جماليات أقرتها الذائقة ..

بين يدي مجموعة شعرية موسومة (آخر رجال الموهيكانز) للشاعر طه الزرباطي الصادرة عن اتحاد الأدباء في العراق، 2022)

حضور العنوان بوصفه بنية نصية لها اشتغالها الدلالي في النص وبنائه الدرامي وانزياحه الانفعالي المكثف ودوره في انتاج المعنى لدى الشاعر، وقد مهد الشاعر في تعريف بعنونة مجموعته آخر رجال الموهيكانز تناصا مع عنوان لفلم انتج عام 1992 من اخراج مايكل مان .. فضلا عن تناص الافكار مع التيمة في سلسلة تصفية الشعوب الاصلية في امريكا وكيفية تشويه الحقيقة باستثمار الاعلام ليصور لنا هذه الاقوام كشعوب متوحشة، يستوجب القضاء عليها ..

استنبط الشاعر عنونة نصوص مجموعته من نفس المجموعة، عنوان استنباطي معجمي صريح ويقصد به ورود العنوان كما هو (صريحاً) داخل المجموعة

استهل الاديب طه الزرباطي مجموعته بالاهداء كعتبة ومناص

لعب الإهداء دوراً مهما في توجيه القراءة وأفق التلقي، وانطلاقا من وصفه نّصا تداولي قائماً على الاتصال ومن خلال أطرافه، الكاتب / النّص / القارئ/ تتشكل شبكة من العلاقات النابعة من خصوصية الإهداء كونه خطابا موازيا بصفةٍ عامةٍ او خاصةٍ، وهو أمر يمكن الوقوف عليه..

فللإهداء وظائف سيميائية ودلالية وتداولية عدة، كما يؤدي الإهداء وظيفة التلميح، والإيحاء، والتكثيف، وخلق المفارقة والانزياح فقد جاء بلغة شعرية عذبة يربط بين حب الام والوطن:1

الاهداء

الى أمي دائما..

كانت تُعلمني الوطن، وهي تُرتلُ (دللولها) العذب،

وحين يَسقط دمعها، سهوا على خدي تبتهلُ وهي

تعلمني المطر سهوا؛ وتزداد دمعاً كانت تبسملُ،

وتحوقلُ بأكثر من لغةٍ، لله أن يفُك طلاسم دعائها، وترانيمها، وحروف لغاتها، لعل العراق سُقي من

دموع أمهاتنا.. لذلك وجعه لذيذ ومالح...

نصوص مجموعته تتنوع فيها عتبات العنونة الا انها ذات مناخ شعري يكاد يهيمن على تجربة قصائده مناخ الحب، والوجع وويلات الحروب والذكريات الطافحة بالفقد والاحزان3554 طه الزرباطي

تحتوي المجموعة على ثمانية وثلاثين نصاً، تفاوتت العنونة الداخلية للنصوص بين الرمزية والواقعية استهل مجموعته بقصيدة (أشجاري) وانتهى بقصيدة (زجاج شيركوبي كه س).

يرسم لنا الشاعر الزرباطي بلغة ابداعية نابعة من هواجس نفسية صورة او صور متعددة أمام المتلقي صورة لغوية تجديدية تعطي للقصيدة دلالاتها بعيدا عن السطحية المملة.

اللغة مادته التي يصوغ بها منتجه الإبداعي (العلاقات اللغوية والبناء النصي).. والتي تعد من السمات الاساسية للشعرية المعاصرة في بنائها وفي تلقيها، فلابد لهذه اللغة أن تكون قادرة على احتواء فلسفة الشاعر نلمس ذلك في قصيدته (أشجاري):

أشجار الله الحزينةِ،

تتعرى في الخريفِ،

لتستدرج المطرَ،

خجولاً يأتي كشاعرٍ مبتدئ!

بقصائد حبلى بمطر الحروفِ؛

تفقد الأشجار عذريّة أحلامها..

وتغنّي للريحِ بكاملِ عُريها..

وفي نص آخر جميل من قصيدة (من انثيالات السمفونية التاسعة لبتهوفن) تتجلى الخصائص الاسلوبية وهو ينحت جماليات وسمات فنية

بِفارِغِ الشِعْرِ؛

أنتَظِرُ نَصَّك الذي لمْ يولدْ بَعْدُ !

نَصَّك الذي يَحْتَلُنِي تماماً؛

ان ما جاء به الشاعر نصوص حداثوية من حيث انها تتماشى مع روح العصر واعتماده في اشتغالاته تكثيف الجانب الدلالي لتحقيق الايقاع الداخلي من خلال جملة الانزياحات فضلا عن شعرية نصوصه

نص باذخ نابض بالروح والشعرية بانزياحات متعددة ومتنقلة، انزياحات بائنة عن فضاءات الشعرية البلاغية وبشفافية شعرية تتماهى في جسد لغة النص يتشكل من خلالها الشعريات تتجلى كألوان قوس قزح بإيقاع داخلي يتواشج مع الموسيقا صعودا بغضب وارتعاشات الوتر مع تسارع في نبضات القلب وهبوطا مع انسيابية واستسلام جناحي باشق، كما في نصه:

جنودُ كلماتِك تُحِيطٌنِي من كُلِّ صَوبٍ،

وأنا أرفعُ راياتيَ الحَمْراءَ مُستَسلِماً ..

كَباشِقٍ ..!

نَصَك الذي يَفْضَحُ الصَمْتَ الجَبانَ؛

يملأهُ ضرباتٍ للأوتارِ الغاضِبَةِ؛

اعتمد الشاعر التشبيه وهو انحراف لغوي ومفارق الذي يضفي على النص الجمالية الشعرية سيما وان للشعرية علاقة وشيجة بالجمال، والتي تتسم بها وخروجها عن المألوف واللغة النثرية المباشرة العادية الى (الميتا لغة)2 كما في قصيدته (كف من وطن)

أشرب قهوتي الصباحية؛

تحليها ذاكرتي بابتسامتك..

قهوتي المسائية مرّةٌ كالقصيدة!

نكهتها عِطر راحتيك...

*

معَ أول أزيز طائرةٍ؛

أحتمي بشوقي اليك...

ومن شوقك أستبسلُ في المعارك

الحروب شهواتٌ للقتلِ...

يفتعلها الشاذون ...

وينزفها المخدوعون...

وظف الشاعر (الكف) كرمز يحتوي في طياته الكثير من الخفايا والخبايا والأسرار وما ينطوي من ذاكرة المكان والزمان وما يكنه من حب لوطنه فهو عاشق ولهان كما هو واضح من خلال العتبة الخارجية للنص

تفتضح كفه تراب وطنه/ أكتفي بملء كفي بالتراب

فثمة إيحاءات إلى زمن الكامن في هذا النص، ما هو الا زمن بائس، ضجر بنفسه، وضاق بعصره، من وويلات الحروب وإيحاءات إلى موت، وحجم المعاناة والتشظّي في الذات الشاعرة .

فعلى مستوى اللفظ نلاحظ تكرار الحرب والأسى والقتل.. متشابه من حيث الدلالة الرمزية، كما هو جلي في مفرداتها (أزيز طائرة / استبسل في المعارك/ الحرب لعبة الاضاحي/ الحروب شهوات للقتل/ أذهب للأسر / دخلت الحرب شهيدا/ في الحرب نقتل عدوا / لكن الحروب قائمة / )

وهذا التشكل "اللفظي" متعدد الدلالات "المعنوية" حسب المواقف التي يمثلها النص.

وظَف موهبته أولا، ثم ثقافته ثانيا لإخراج نصوصه من إطاره الضيق (لفظا) إلى رحاب الدلالات العميقة (معنى) كما في المقطع الخامس من قصيدته (كف من وطن) ص54

محلتنا...

وكر للذكريات الطافحة،

كالمجاري...

الحروب شهوات للقتل..

يفتعلها المخدوعون...

لجأ الشاعر في نصوصه الاهتمام باللغة الشعرية والتكثيف الدلالي والتركيز العالي واللغة الايحائية مبتعدة عن اللغة المعيارية المباشرة

اعتمد التجريب الذي بدوره يخالف السائد من اتجاهات جمالية، أما على مستوى النصوص ففيها من الجمال والصور الشعرية مليئة بالإنزياحات اللغوية ومن استعارة ومجاز واضداد ومفارقات لفظية تبهر المتلقي.

منجز شعري يكشف عن ملكة ابداعية وامكانات عالية في تشكيل اللغة

***

طالب عمران المعموري

..........................

المصادر

1- الزرباطي طه، آخر رجال الموهيكانز، ط1، منشورات اتحاد الادباء، بغداد، 2022 .

2- الشعرية في ديوان السياب، سعدون احمد، رسالة ماجستير، الجزائر، جامعة محمد خيضر – بسكرة، كلية الآداب واللغات، قسم الادب العربي، 2010 .

مدخل: الوقوف أمام التجربة الشعرية للأستاذة الطاهرة حجازي يستدعي أولا التعريف بهذه القامة الشعرية التي لم تنل نصيبها من التقدير والاهتمام:

الطاهرة حجازي،شاعرة وكاتبة مغربية،أستاذة سابقة، حاصلة على الإجازة في الدراسات العربية،صدر لها

- عندما يتحدث الشلال ديوان شعر

- قيظ الهجير ديوان شعر

- بيداغوجيا الإبداع في شعر الطفل

الأستاذة الطاهرة حجازي حاصلة على عدة شواهد تقدير وطنية ثقافية وتربوية، وجائزة الاستحقاق الوطني للأساتذة.

شاركت الأستاذة الطاهرة حجازي بندوات تهم المرأة والطفل، في العديد من المؤسسات التربوية وبعض جمعيات المجتمع المدني.

كما عملت على تفعيل شعر الطفل، على مستوى الأكاديمية الجهوية للدارالبيضاء وقد حظيت الشاعرة بالعديد من التكريمات بمختلف المدن المغربية من طرف العديد الجمعيات الثقافية.

وسنركز في هذه الدراسة النقدية على ديوان قيظ الهجير في طبعته الثانية الصادر عن مطبعة بلال في طبعة أنيقة ومميزة تضم 16 قصيدة بعدد صفحات يصل إلى ست وثمانين صفحة، قبل الولوج إلى متن ديوان قيظ الهجير لابد من المرور عبر عتبته أو عتباته، والغلاف هو أول ما يجذب انتباهنا في هذه العتبات، حيث تتوسطه لوحة فنية تشكيلية للفنان التشكيلي والشاعر مصطفى كووار، تتضمن أشكالا متداخلة تمتزج فيها ألوان حارة (الأحمر والأصفر والبرتقالي) وألوان باردة (الأخضر والأزرق والبنفسجي) والأكيد أن لكل لون دلالة نفسية معينة، وتدل على معنى واضح، فاللون الأحمر يرتبط بلون الدم وهو من الألوان الجريئة التي تعبر عن التضحية، أما الأصفر فهو لون الشمس ويرمز للدفء والطاقة والحيوية ومزيج من التميز والقوة، و يرمز اللون الأزرق إلى السقم بسبب تلون الكدمات بلونه، ولكنه أيضا لون السماء الجميل الصافي ولون البحر، وهو يدل على الهدوء والرقة والطمأنينة.

أما البنفسجي فينسب إلى زهرة البنفسج وهو ناتج عن خلط اللونين الأحمر والأزرق، وهو لون يشعر بالخيال والرومانسية وتدفق الأفكار.

اعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبرته أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه .واعتبره

شولز:"خالق النص الأدبي ومانحة الهوية"[1]

عرف “جيرارجينيت”، العتبة العنوانيّة بقوله: إنها «نقطة ذهاب وإيّاب إلى النَّص.. » أيْ إشارات دالّة ورامزة تفتح مغاليق النَّص وتكشف عن غموضه!! وعرّفها بقوله إنّها «علامات دلاليّة تشرّع أبواب النصّ أمام المتلقّي للولوج إلى أعماقه» أي إنّها مداخل قِرائِية لكي نصل إلى أعماق النَّص

إنّ العنوان وإن كان حَمّال أَوجه لا يكون صادقا دائما، فالعناوين مُخاتلة وربما صادمة.

وعنوان الديوان الموسوم ب " قيظ الهجير" نجد أنه في تجليه اللغوي يعني حرّ الهاجرة عند منتصف النهار، في حين تركيبيا هو عبارة عن جملة إسمية وإعرابه كالتالي:

قيظ: خبر مرفوع لمبتدأ محذوف وهو مضاف

الهجير: مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة في أخره

العنوان مقتبس من بيت شعري للشاعر السعودي الكبير محي الدين خوجة قدمت به الشاعرة قصيدتها ويحرق البوح لغتي وخوجة سفيرلسابق لبلده بالمغرب وهو من تكفل بنشر الطبعة الأولى من هذا الديوان، يقول خوجة:

برد وقيظ واشتعال فتيـــــــــــــلة

ما من محيص في انتظار الانطفاء

وهو عنوان عميق في إشارة إلى أن العتبة ملتهبة مشتعلة ويحضرني هنا المثل العربي الشهير:

المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار

فالهجير يحيل على القيظ وكلاهما يحيل على الحر الشديد، والشاعرة كانت موفقة في اختيار عنوان ديوانها لأن الولوج إلى متنه يفضي بنا لاكتشاف نصوص ملتهبة لما تضج به من إشارات ذات حمولة ناقدة لواقع انساني غامض بدرجة أولى وواقع اجتماعي قاس بدرجة ثانية.

إذا تجاوزنا العتبة وولجنا المتن، فإننا نجد أنفسنا أمام فيض جمالي دافق يتشرب لغته من الموروث الثقافي العربي سواء القديم أو الحديث الحامل لجينات تاريخ الهوية المغربية المتأصلة التي تميز المغاربة عن غيرهم من الشعوب، لأنها تؤسس لعلاقة وجدانية راسخة بين الذات الشاعرة ووجدان الأمة.

والملاحظ أنه يمكننا الوقوف من خلال قصائد الديوان وهي كالتالي:

1) ويحرق البوح لغتي

2) بوثقة التشرّد

3) تلكؤ في المدار

4) تهَجّد على مشارف الرؤيا

5) حذار!

6) يا لمنطق الإرهاب

7) حجارة الغضب

8) أمشاج من الوهم

9) انبعاث

10) شروخ

11) من نزيف الفرات

12) شاعر من الشرق في الأندلس

13) تأمل في البداهة

14) غربة

15) الرّيح

16) إليك أبي

على الحضور الانساني، والعاطفي، والوصفي، وعلى تجربة الشاعرة الجمالية من خلال التجليات والإشراقات الوجدانية. وهذا يتطلب منا إنصاتا دقيقا إلى هذه النصوص الشعرية، عبر البحث، والكشف والسفر، في التجربة الجمالية والإنسان والرؤيا والمعمار النصي .

إن الشاعرة في هذه النصوص تؤكد على الصورة الشعرية، والموسيقى والإحساس والوجدان، والمخيلة. فهي تكشف لنا حبها لشعرية النص وقوته التعبيرية،ومحاولتها التوفيق بين القضايا الوجودية والاجتماعية والقومية التي تطرقت لها في نصوصها وفنيات خطابها الشعري الذي يدور حول مفهوم المعاصرة والتراث في الخطاب الشعري ومدى تأثر الشاعرة بالتراث العربي الإسلامي خاصة والإنساني عامة ومظاهر هذا التأثير في ديوانها .3555 محمد محضار

تقول الشاعرة الطاهرة حجازي في قصيدة:

شاعر الشرق بالأندلس

هل يُدفن التعبُ

في التّعبِ

ياذاكرةَ التاريخِ

المُؤجَّج في لهبي

جئتُكِ

منَ الزّمَنِ المنْسيِّ

الحاضرِ في رُكبِي

يَا منارةَ

تشِعُّ جمالاً

مُهرقاً أسى في كُتُبي

يا قاموسا من الذّكرى

ملْتحفاَ

برَوائِعِ الفنونِ من أدبي

يا زهرةً فوّاحَةً

ضَاعَتْ في مَضايِعِ الشّغبِ

في هذا النص العميق نلمس " شعرية" قوية تضفي عليه تدفّقا عاطفيا يسهم في ثراء الإبداع الشعري الصادر عن ذات شاعرة متمرسة وعاشت في أجواء شعرية واستعداد طبيعي لقول الشعر، ويمكن القول أن" الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء.. والشعريّة ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض.. والشّعرية ليست الشّعر ولا نظريّة الشّعر.. إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق،إنّ الشعريّة ” محاولة لوضع نظريّة عامة ومجرَّدة ومحايِثة للأدب بوصفه فنًّا لفظيًا، إنّما يستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبيّة، فهي إذًا تشخيص قوانين الأدبيّة في أي خطاب لغوي، وبصرف النظر عن اختلاف اللغات"[2]

2) التجربة الشعرية للكاتبة:

لجوء الطاهرة حجازي لكتابة قصيدة النثر يمثل رغبة قوية لديها للتجديد ومسايرة التطور الذي يعرفه الشعر العربي الحداثي الذي راكم تجارب شعرية مؤثرة مع ظهور شعراء مبدعين من طينة أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس ويوسف الخال أغنوا هذه التجربة وساهموا في تطويرها وقد وجدوا ضالتهم التي ینشدونھا في كتاب (قصيدة النثر من بودلیر حتى أیامنا) للكاتبة الفرنسية سوزان برنار وقد تبنت مجلة شعر الصادرة ببيروت سنة 1957 م معظم إبداعاتهم ومقالتهم التنظيرية.

يقول يوسف الخال: " نحن نجدد في الشعر لا لأننا قررنا أن نجدد، نحن نجدد، لأن الحیاة بدأت تتجدد فینا، أوقل: تُجَددنا"[3]

ويقول أيضا في نفس المجلة:" أن الشعر تجربة شخصية كیانیة فريدة، وأنّ التعبير عنھا يجب أن یَتِمّ بتحرير تام من تأثير القوالب التقليدية الموروثة والقواعد الموضوعة"[4]

رغم جرأة هذه الآراء فهذا لا يمنع من التأكيد "أن الحداثة العربية ينبغي أن تنبع من الجذور العربية نفسها، ولا يمكن أن تكون صدى لسواها، ولا يمكن أن يكون هناك انقطاع مع الماضي أبدا " كما يؤكد جهاد فضل

لأن الملاحظ أن البعض ينظر لقصيدة النثر باعتبارها مطية ذلولاً كما يحسبون، يبثون من خلالها خواطرهم من جهة، وباعتبارها من جهة أخرى تمثل حركة «الحداثة» الشعرية، التي انبثقت من الشعرية الغربية.[5].

الشاعرة الطاهرة حجازي لم تكتبْ قصيدة النثر إلا وهي مطلعة على الموروث الشعري القديم سواء خلال العصر الجاهلي أو العصر الأموي والعباسي والأندلسي وكذلك لها اطلاع واسع على الشعر العربي المعاصر وبالتالي لها رصيد قوي وأدوات فنية أكسبت نصوصها شِعْرّيّة نلمسها في صورها الشعرية ذات البعد الايحائي والتعبيري تقول شاعرتنا القديرة:

صَلَّيتُ فاتهَمونِي بالجُنُونْ

قالواْ صَلاتِي باطِلةْ

تواريْتُ فَرَمُونِي بالسُّفُورِ

قالواْ عنِّي غيرُ عاقلةُ

وحينَ حمَلتُ السَّيْفَ

أردُّ في الليلِ الجناةْ

ردَّدُوا: أنتِ قاتلةْ

صوبوا إلي كلَّ الرِّماحْ

طعنونِي بكل الدُّروعْ

هشَّمُواْ سَنَابِلِي

مزَقُوا خبائلِي

قطعواْ أنَامِلي

قالوا أبدا نطاردكِ

أبداً نُحارِبُكِ

سَوْفَ نجتثك

أنتِ لَا محالة راحلةْ

استكثروا في أذني

همسة الريح

استنكروا في عيني

رعشةَ الّشمس

أجهضوا التاريخ في أحشائي

أحرقواْ مساطير كتبي

أحالواْ خضر أيامي عجافاً

عَكَّرواْ مَائي

لَوَّثوا سمائِي

قالواْ هذَا قَانونٌ

لِإقالةِ كلِّ مُوغلَةْ

هذا النص الشعري يمتح من قاموس الشعر العربي الأصيل وهذا ما نلمسه من خلال الحقول المعجمية لهذا النص و"يقصد بمفهوم الحقل المعجمي مجموع الألفاظ التي تتعلق بموضوع معين ": حقل الحرب يتضمن (الرماح، الدروع، السيف ...) حقل الدين (صليت، صلاة، السفور...) حقل الطبيعة (الشمس، الريح، ماء، سماء...) حقل الجسم (أحشاء، عين، أذن...) حقل الزمن(أيام، التاريخ، الليل...) .

3- الصورة الشعرية والايقاع:

أ) الصورة الشعرية:

من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد

ويقال عن الصورة الشعرية أنها رسم قوامه الكلمات، والقصيدة نص قوامه الصور، وارتباط الشعر بالصورة ارتباط وجودي. فعندما يوجد الشعر تتبدى الصورة تلقائيا.

واللجوء إلى التعبير بواسطة الصورة الشعرية وراءه سعي إلى نقل المشاعر بأسلوب مؤثر مقنع وبألفاظ تجمع الإحساس والصدق الفني وجمال التصوير، "من خلال بصيرة الشاعر التي تتمثل المعاني الشعرية، وهذه المعاني لا يمكن أن تتمثل إلا في صور والصورة دائما دائما مظهر للمعنى"[6]

أصبحت عند شعراء الحداثة ونقادها تعتمد ما سمي بعين القلب أو الحدس أو بالإشراق، أي بنوع آخر من التجلي المعرفي يتطابق مع الباطن اللامرئي لأنها تتجاوز المرئي وتخترقه لتصل إلى جوهر الأشياء وكنهها[7]

إن سبر أغوار نصوص الطاهرة حجازي يجعلنا نكتشف أنها اشتغلت على تطوير الصور الشعرية داخل النص حيث جعلتها تتحرك وتُثريه .فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفها للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال، ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية،وهناك نماذج متعددة.

تقول الشاعرة الطاهرة حجازي في قصيدة إليك أبي:

إليكَ رسالتي يا أبي

لمْ يُواريك عَنِّ الرحيلُ

الطّريق أجْهشَ بالبكاءْ

والغَيثُ مهجورُ الرُّواءْ

تخضّبتْ بحُزنها المدينةْ

تعتَنِقُ مضاضةَ الهزيمةْ

ساحتْ في مَجَّانِيّةِ الدّماءْ

تمزَّقتْ أحشاءُ الأبجديةْ

أحرقَ فيهَا التتار الحروف

سيفُ حَجّاجٍ زُوميٍّ يقْذفهَا

يَنْسِفُ النَّخوَةَ العربيّة

لستُ آسفَة[8]

على موتك يا أبي

كْنتَ ستموت

ألف مَرّةْ

تعتقدُ الوحشةَ

ألْفَ مرّةْ

تخنُقُكَ لا آتُك المُرَّةْ

وحيداً في المَدى

لا رَجْعَ لا صدَى

أبي:

سأخبِرُك عن مدينةِ الأحزانْ

عنِ الثّكالى وعنِ الأيتامْ

عن الإنسان تجرَّد من الإنسان

عنِ العدلِ يتَمَزَّقُ في الفلواتْ

يَلْتقطُهُ الغُولُ في الطُّرقاتْ

يجَشّمه ما لا يُطيقْ

يمَثّلُ بنَا يا أبي

فَآهْنأْ بعيداً

عنْ هذا المُروقْ[9]

في هذا النص نلمس جمالية الصورة الشعرية وعمقها ونكتشف الاشتغال القوي للشاعرة، على المكونات الداخلية متمثلة في اللغة والعاطفة والخيال، وكذلك على المكونات البلاغية من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز مرسل، فعلى سبيل المثل تقول الشاعرة:

"الطّريق أجْهشَ بالبكاءْ"

الاستعارة هنا مكنية وقد صرح بالمشبه وهو الطريق وحذف المشبه به وهو الانسان ولكن أبقى على شيء من صفاته وهي البكاء

وتقول الشاعرة أيضا:

" عنِ العدلِ يتَمَزَّقُ في الفلواتْ"

فقد شبهت الشاعرة العدل بأنه إنسان يُمَزقُ في الفلوات، وهنا تم التصريح بالمشبه وهو العدل وتم حذف المشبه به وهو الإنسان ولكن أُبقي على شيء من صفاته وهو إمكانية قتله وتمزيقه بحد السيف.

الانزياح في اللغة هو زوالُ الشّيء وتنحّيه، ويكون بمعنى ذهب وتباعدَ، وبذلك يكون في اللغة له علاقة بالذهاب والتباعد والتنحّي، أيْ تغيير حال معينة وعدم الالتزام بها، وقد ترتبط الدلالة اللغويّة بشيء غير المكان كقول: زاح عنه المرض أيْ زال عنه، أمّا اصطلاحًا فهو يُشبه دلالتَه اللُّغويّة فهو الخروج عن المألوف والمُعتاد، والتنحّي عن السائد والمتعارَف عليه، وهو أيضًا إضافة جماليّة ينقل المبدع من خلالها تجربته الشعوريّة للمتلقي ويعمل على التأثير فيه، وبذلك فإن الانزياح إذا يحقق قيمةً جمالية[10]

والغَضبُ نبالٌ

يقْذِفهُ جُرْحُ الأيامِ أحجاراً

له الرّكْضُ نارٌ

يُؤَجِّجهُ الثَّرى

منْ تحتِ الثلْجِ نارا

سباقٌ نَحوَ الحَتْفِ

يُرديهِ عزْمُ الصِّبْيةِ اندحارا

لهيبٌ ذَابَ الغيمُ في مداهُ

والمطر منْ جُرْحِه

تصبَّبَ فِي الصيف انهمارا

في نص حجارة الغضب تتعمق جراح الذات الشاعرة فنلمس بوحا شعريا يوظف الصورة الشعرية لرسم مجموعة من الأفكار والمضامين ذات بعد تعبيري وإيحائي.

كما أننا في هذا المقطع نجد الشاعرة تستحضر لغة خارجة عن المألوف وتستدعي ظاهرة الانزياح وهذا نلمسه في تشكيل لغتها الشعرية، وتعميق محتواها الدلالي وامتيازها الشعري الذي يحفظ لها بصمته الإبداعية، ويتيح لها إثبات ذاته الفكرية.

والغَضبُ نبالٌ

يقْذِفهُ جُرْحُ الأيامِ أحجاراً

له الرّكْضُ نارٌ

يُؤَجِّجهُ الثَّرى

منْ تحتِ الثلْجِ نارا

في هذا المقطع الشعري نجد أنّ الانزياح هنا دلالي حيث تنزاح الدَوالّ عن دلالاتها الأصلية فتختفي الدلالات المألوفة لتحل محلها دلالات جديدة غير معهودة ولا محدودة مثلا:

الغضب نبال

يقذفه جرح الأيام أحجارا

طبعا الغضب لا نبال له،وكذلك جراح الأيام لا تقذف أحجارا ولكن الشاعرة انحرفت باللغة عن المعتاد واستعملت انزياحا استبداليا(دلاليا)،وهذا يعتبر خرقاً منظّماً لشفرة اللغة، يحاول بناء نمط شعوري آخر بنظام جديد، وجملة الأمر أن تجاوز نمطية اللغة أصبح من أهم المرتكزات الأساسية المحدثة في الخطاب الشعري المعاصر.

ب) الإيقاع:

يرتبط الإيقاع عند ابن طباطبا باِعتدال الوزن وصواب المعنى. في حين عند المحدثين فإن الايقاع هو التتابع والتواتر ما بين حالتي الصمت والكلام؛ حيث تتراكب الأصوات مع الألفاظ والانتقال ما بين الخفة والثقل ليخلقا معًا فضاء الجمال..

والايقاع:

1- داخلي يستند على الموازنة (يعني أن يكون البيت متعادلًا في الأوزان والألفاظ،) والتكرار(هو مجموعة من الوظائف من أبرزها لفت الانتباه والتأكيد على المعنى ونحو ذلك)

2- خارجي و هو العروض والقافية.

فإلى أي حد نجحت الشاعرة في نصوصها بشكل يخدم نسق التتابعات والإرجاعات ذاتِ الطابع الزمني والموسيقي، ليقوم بوظيفة جمالية مع غيره من عناصر تشكيل النص الشعري ؟وإلى أي حدّ نجحت في صياغة شعرها على النحو الموسيقي الذي يتناسب وخلجات نفسها ودفق مشاعرها؟

على الرغم من أن معظم قصائد الشاعرة الطاهرة حجازي يمكن أجنسَتُها تحت مسمى قصائد النثر فيجدر بنا أن نؤكد أن الشاعرة تلجأ إلى استعمال القافية والرّوي في بعض قصائدها، كما نجد أن هناك نصوصا بوزن في كثير من مواضع في الديوان وإن لم يكن ذلك مقصودا .

أرجع محمد مندور في:" الشعر العربي: غناؤه وإنشاده وأوزانه» الوزن إلى كم التفاعيل، والإيقاع إلى النبر أو الارتكاز عن طريق تردد ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة.

النبر:" ظاهرة صوتية دقيقة تهدف إلى إبراز الصوت على مقطع من الكلمة. في العربية لا يغير النبر المعنى لكنه قد يساعد السامع على الفهم."

سنأخذ كنموذج قصيدة ويحرق البوح لغتي

حنين يسبح خلف أنين

تطلّع لمرامي الارتقاء

واللاَّمبالاة في الرّبوعِ

عَجْزٌ تردّى في انحناء

حرب تُتْلف توازُنَها

والصّوْتُ الجريح نزيفُ الدماءْ

ورجع الصدى

منافي الغياب ْ

حضور ضامرٌ

من قهقهات الجبنِ والارتخاءْ

خُدْ يدي

تعانق يداً ممدودةً

تُقَصِّفُ الإعصار

تَقُضُّ مضاجع اللاَّمبالينْ

تَسْتشِفُّ الأنَا

تُمَزّقُ أَقنِعةَ المرابينْ

تحرّكها آلات الجسد الخُوَاءْ

خد يدي لمدينة الرفض

أمتزج بالامتناع

انتشلني من هذا الضياعْ

ضَمِّخنِي بالشّذى

من طَعْمِ الوجود

خد يدي

سافر بها[11]

في قصيدة ويحرق البوح لغتي نلمس جمالية الايقاع الداخلي من خلال التواشج اللفظي: "التقاء الكلمات في جمل في صورة او اكثر من جهة اللفظ،" [12] مما يخلق تناغما داخل الاسطر الشعرية ويربطهما ببعضهما رابط موسيقى محبب يشد انتباه المستمع للقصيدة ونجده كملمح أسلوبي للسيطرة على الموسيقى الداخلية بشكل يحقق الانسجام ما بين الألفاظ والمسموعات اللتان تؤديان معًا إلى تحقيق الغاية التركيبية التي تؤدي إلى الوصول إلى غاية البلاغة والبيان.

كما نلاحظ أن الطاهرة حجازي استغلت كل الإمكانيات الإيقاعية المتاحة لها لتحقيق تناغم موسيقي يخدم البنية الجوهرية للنص.

4) خاتمة:

الأديبة الطاهرة حجازي أدبية متميزة وهي من الأصوات الشعرية التي تتمتع بمكانة بارزة في المغرب تتميز قصائدها بتنوع وثراء جمالي يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغتها مُوحية تتكئ على التكثيف والايجاز، وتبتعد عن المباشرة، ولم تخلو بعض نصوصها من الترميز والتناص، سعيا لتوسيع المعنى وتجويع اللفظ بأسلوب بلاغي قوي.

***

محمد محضار

...................

[1] ألزميت بلقاسم السيميوطيقا وحدود التفضية في الشعر العربي

[2] حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1994 ص9

[3] العدد 6 ص 152من مجلة شعر

[4] لعدد 6 ص 152من مجلة شعر

[5] قصيدة النثر وأزمة الشعر العربي المعاصر عبد الجبار العلمي موقع القدس العربي 3أبريل2019 د

[6] عز الدين إسماعيل/ الأدب وفنونه ص 168م

[7] أدونيس الصوفية والسريالية ص 222

[8] حجازي الطاهرة ديوان قيظ الهجير ص82

[9] نفس المصدر ص83

[10] بوطاهر بوسدر ظاهرة الانزياح موقع الألوكة بتاريخ22.01.2018

الطاهرة حجازي ديوان قيظ الهجير ص 9و10 [11]

[12] (يوسف ابو العدوس، الاسلوبية الرؤية والتطبيق،دار المسيرة للطباعة والنشر،2007 ص262-

القصيدة بشكل رسالة عرفت كنوع من أنواع القصيدة في الأدب الروسي منذ القرن التاسع عشر، إذ بإمكاننا رؤية هكذا قصائد لدى الكساندر بوشكين (الرسالة المحروقة)، ولدى تيوتشيف (رسائل قديمة)، ولدى نكراسوف (رسائل تلك المرأة الغالية). أما في القرن العشرين فقد طوَّر الشاعران المعروفان سيرغي يسينين وفلاديمير ماياكوفسكي- طورا هذا النوع من القصيدة.

دون أدنى شك القارئ الروسي اليوم كما القارئ العربي كل منهما لا يثمن عاليا أهمية ودور هذا النوع من الكتابة، كون الرسالة وأهميتها الأسرية والإجتماعية غدت صورة من صور الماضي، بفضل ثورة الاتصالات، ووجود جهاز الهاتف المحمول.

في القرن الماضي لعب هذا النوع من القصائد في الشعر العربي بذاك الزمن دورا ذات أهمية نذكر من تلك القصائد قصائد الشاعر العربي الكبير نزار قباني، إذ أننا نرى في نتاج القباني قصيدة (خمس رسائل إلى أمي) التي دونها بعد سفره في منتصف الستينيات، والتي مطلعها

صباح الخير يا حلوة

صباح الخير يا قديستي الحلوة

ونجد لدى القباني (100 رسالة حب) دونت عام 1970

في إحداها يقول: أريد أن أكتب لك كلاما

لا يشبه الكلام

الذي يعنينا اليوم - رسائل قباني إلى أمه، كون موضوع حديثنا هو حنين الشاعر الى أهله وموطنه وكتابته ما يلامس خلجات الروح في نص قصيدة من نوع القصيدة بشكل رسالة.

لدى الشاعر الروسي سيرغي يسينين نجد قصائد تأخذ شكل الرسالة مثل

(رسالة إلى أمي)، (رسالة إلى إمرأة)، (رسالة إلى جدي). أولى تجارب الشاعر الشاب كانت عام 1910 حين دون قصيدته المعروفة (إلى الأصدقاء)، وفي عام 1911 كتب قصيدته (إلى الصديق). تلك كانت تجاربه الأولى في هكذا نوع للقصيدة. إنّ شعر يسينين كما أشار عدد من الباحثين الروس – هو شعر السيرة الذاتية، إذ أنّ يسينين كان يكتب ما يلامس خلجات الروح في لحظات السعادة وفي لحظات الشجن. لابد هنا من الإستشهاد بما قاله الباحث المختص بنتاج يسينين يوري بروكوشيف، إذ أشار "أنّ أشعار يسينين هي بمثابة قصة حياته" وأكد أنه قد وجد في نتاج الشاعر عددا كبيرا من الرسائل، أما القصائد التي كتبت فيها كلمة رسالة فهي قليلة(1). ويشير الباحث تينيانوف إلى أن أشعار يسينين كأنها رسائل استلمت من موزع البريد، فهي تحكي عن قضايا خاصة، شخصية، وبذات الوقت لها طابع إنساني عام. ويجمع النقاد على أنّ أشعار يسينين، التي جاءت على شكل رسالة قام بكتابتها في عامي 1924-1925، وإذا ما سألنا - لماذا قام الشاعر باللجوء إلى هكذا نوع من القصيدة في تلك المرحلة من عمره؟ فمن المؤكد أن المنطق سيجيبنا بأنه في اللحظات الحرجة،الصعبة والقاسية لجأت روح الشاعر إلى موطنه الصغير، إلى حضن الأسرة كي تشتكي، لجأت إلى مرابع الطفولة، إلى بيت الأهل.

إن هجرة الشاعر من ضيعته ومن موطنه الصغير الى موسكو، ومن ثم الى بطرس بورغ، ثم إلى خارج روسيا، هذه الهجرة أوقدت نار الحنين في نفس الشاعر، وهيجت مشاعر المحبة تجاه مرابع الطفولة في بلده، حيث النهر الجميل والسماء، والماء، والغابات الكثيفة والوسط الريفي الإجتماعي البسيط والصادق.

وإذا عدنا إلى شاعرنا القباني العظيم أليست الهجرة ومغادرة دار الأهل بالشام، أليس هذا ما أوقد نار الحنين وهيّج مشاعر المحبة والإلتصاق بكل ما تركته فترة الطفولة والفتوة في الذاكرة: البيت، والدار، والبركة والزهور في فسحة الدار، وعلاقته بأمه وأبيه... .

أليس هو من قال في (خمس رسائل إلى أمي):

أنا وحدي

دخان سجائري يُضجر

ومني مقعدي يَضجر

وأحزاني عصافيرٌ

تفتش بعدُ عن بيدرْ.

ويضيف

صباح الخير من مدريد

ما أخبارها الفله ؟

بها أوصيك يا أماه..

تلك الطفلة الطفله

فقد كانت أحب حبيبةٍ لأبي

يدللها كطفلته

ويدعوها إلى فنجان قهوته

ويسقيها

ويطعمها

ويغمرها برحمته

ومات أبي

ولا زالت تعيش بحلم عودته.

ويضيف

سلامات ...

سلامات...

إلى بيتٍ سقانا الحب والرحمة

إلى أزهارك البيضاء..(2)

***

سوف نكتفي بهذا القدر ونستمر في عرض أشعار يسينين المرسلة إلى الأهل بشكل رسائل.

***

إعداد وترجمة إسماعيل مكارم

 إنّ جغرافيا الأدب جزء من الخريطة الكونية الانسانية، والرواية منجز حديث من تشكّلات هذا الأدب المعرفي، وإذا ما اعتبرنا أنّ الرّواية فنّ محض فإن هناك الكثير من التّصوّرات الذهنيّة والأماكن التي تحيلنا إلى الوقوف عند مسارها وأماكن وصولها.

فالرّواية عالَم متكامل يشيّده مؤلّفه، بدقّة مهندس خبير، فيناسق بين أبنيته، ويخلق شخصيّاته التي تتّسق مع الأحداث الحركية عبر حبكته، ويناسب بينها حسب رؤاه وأفكاره لتكون الشّخصيّة أكبر وأعمق من مجرّد موضوعة. فهي إمّا تفتح أبوابًا للتأمّلات الفكريّة في رحلة إلى المستقبل، وهذا يحتاجه الإنسان بين الحين والآخر للعودة إلى ذاته، وإمّا تكون الرّواية باعثًا إلى البحث في التاريخ الذي يشكل جذوره فيربطه بالماضي بصورة أو بأخرى، وبهذا يكون الإنسان عبر الرّوايات حلقة وصل بين التاريخ والمستقبل كغصن يرتبط بجذوره ويحمل أوراقًا يانعة خضراء.

وإنّ أيّ عمل روائي لا ينشّط التأويل والخيال لقارئه ويدخله قسرًا في متاهاته، إنّما هو عملٌ ضحلٌ لا يغري صغار المبتدئين في العوم. كما يقول بيرس" يجب أن تترك العلامة لمؤولها مهمّة تجهيزها بجزء من معناها".  وهذا يعني أنّ كل نصّ أدبي أو عمل فني يجب أن يكون آلة لتوليد المعنى لينتج عنه مستويات متعدّدة في القراءة والتّأويل سواء على مستوى الأحداث، أو الشّخصيّات، وقلّما نجد شخصيّة استقلّت بعوالمها فغادرت دفّتي الرّواية لتحيا في ذاكرة الأدب العربي مثل شخصيّة "سي السيّد" لدى نجيب محفوظ في ثلاثيّته، أو الطّيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال".

والمتتبع لمسيرة الرواية العربية وتشكلاتها يجد أنّ التّاريخ الاجتماعي للرّواية يُعتبر نصّا متعدد المستويات خضع لأيديولوجيات متنوّعة منذ بداياته، فظهرت الرّواية في القرن الماضي وكأنّها خطاب أدبي يثبت مرتكزات الواقع السّياسي، واتخذت شكل البطل بثلاثة نماذج، الشاب المناضل التنويري الذي يدعو للتحرّر الوطني خلال فترات الاستعمار كبطل ينتمي للمستقبل، ونموذج البطل الإيجابي الذي سلك دروب الرّواية الواقعيّة في الحياة من خلال تعزيز القيم وإدراك معاني الانسانيّة فيها، والنموذج الأخير هو البطل المغترب الذي عبّر عن إخفاقات المجتمع في تأخّره وعدم مواكبته ركب الحداثة الذي جعله معزولًا يرثي زمنه.

ومع تحوّلات المجتمع العربي وفي ظلّ آثار الكولينيالية ثم الحروب التي عاصرها، والانفتاح الحضاري في بعض الدّول لمواكبة الحداثة، مرورًا بزمن العزلة الذي صاحب انتشار حالة كورونا نجد أن النموذج الرّوائي بدأ يمضي في طريق مختلف، فلم يعُد البطل النموذج هو الحدث الأهم، إنما آثار الأحداث والحروب وويلاتها والخيبات نتيجة عدم التوافق الفكري كانت البطولة والحدث معًا، لتكون صفعة جديدة للمجتمع على مستوى الأفكار والمعتقدات تلتمس مستوجبات الحداثة، وصيرورة المابعديات، فحتّم وجود رواية متمركزة حول الذّات، تسقط الهمّ الجمعي لصالح الفردانيات، مما جعل انفتاح الرواية يتمثل بسرد الذّات، ولا يحمل همّ المثاليّة والبطولات التي غادرت الساحة أو تظهر على استحياء، وبهذا التشكّل اقتربت الرّواية من مسارين أوّلهما الحقيقة حسب النظرية الأجناسية للكتابة الذّاتيّة، بأن يقول الحق كلّ الحق كمبدأ عام. والثاني عبر تزييف الأهواء، وانتقام المؤلف لنفسه، كمحاولة لردم هوّة النسيان.

فالكتابة الذّاتيّة في الأغلب هي كتابة خاضعة للتحقيق، بينما المتخيّل الروائي لا سند له، كل ما عليه هو تفعيل الرّموز والأقنعة. يعود فيها المؤلف إلى تفاصيل حياته، والعودة إلى الطّفولة وهناك ما يُبتكَر أكثر من استعادته، فتظل الحقيقة نسبيّة بلا شهادة ولا توثيق. وقد لا تكون كتابة السيرة الذّاتية اعتبارية بالمفهوم التقليدي، لكنها تجنح إلى تأسيس حالة يتزامن فيها مع خط سيرها حوادث مؤثّرة فيها يخصّها بالوصف الزماني والمكاني كأبعاد أصيلة لها. 

في الكتابة الذّاتيّة قد يبدأ الروائي بنيّة حسنة فيكتب نفسه، حتّى يظهر ما يحول إلى الوصول للحقيقة وهذا يُعتبر عائقًا. فتظل إثارة ذاكرة الروائي بمثابة رمي حجر في بركة النّفس الرّاكدة، لاستخراج جوهر كلّ الأشياء فقط، من دون توثيق.

ولو طرحنا سؤالًا: إلى أيّ مدى من الممكن أن تكون المذكّرات صادقة وهل الرّغبة في الالتزام تجعل النّص أكثر تعقيدًا، وماذا عن تعالق السيرة بفنون أخرى وانتمائه الفنّي ؟ فمن الممكن أن تكون الإجابة أنه لا يمكن بأيّ صورة قول الحقيقة كاملة، إلاّ في عمل متخيّل، والقارئ الفعلي معني بالحقيقي سواء كان عبر أشخاص حقيقيين أو متخيلين.

الأمر الذي يجعل نضارة الرّواية تتأثر بالحياة الباهتة التي يعيشها الروائي العربي، فيقوّض الحقائق، بحيث لا تكون مطلقة، ويتحوّل إلى مجرد ناسخ لتمظهراته الشخصيّة، ويبث خلالها التفاعلات بين الأدب والحياة وارتباط الأنا بواقعها وتحويلها إلى واقعة ورقيّة. 

إنّ أكبر النّصوص الرّوائية هي التي تمنحنا قراءة مفتوحة لتأويلات متجدّدة بتجدّد الزّمن وتنوّع القراء، وفي النّهاية إذا كانت القراءة عملًا مُتقنًا فإنّ الكتابة تفكير مخصّص في قارئ نموذجي تتوافق موسوعيته الفكريّة مع موسوعة النّص الروائي ليقدّم عملًا يتماشى مع جغرافيا الرواية، وتحوّلات المجتمع العربي بكل فئاته.

***

ريما الكلزلي – أديبة وكاتبة

رواية معبد الغريب للأسير الفلسطيني رائد الشافعي،  رواية تنتمي إلى أدب السجون جاءت مكثفة تلامس المشاعر الوطنية وتهز الضمير العربي والفلسطيني بعد النتوءات والجراحات التي أصابت جسد القضية الفلسطينية وحولته للأسف إلى جثة هامدة  وفي أحسن الأحوال إلى جسد مقطع الأوصال نتيجة ما خلفته اتفاقية أوسلو من تداعيات كارثية على الشعب الفلسطيني حسبما جاء في هذه الرواية وتبعا لما يعتقده كاتبها، الذي أصيب غريب بطل روايته كما يبدو بخيبة أمل كبيرة بعد خروجه من المعتقل ليجد نفسه من جديد أسير قناعات لم يعد قادرا على ممارستها،  وأنّ أحلامه أصبحت بعيدة المنال بعد أن تنازلوا عنها.

معبد غريب المقدّس هو ذلك الركـن البعيـد بـن أشـجار الزيتـون يلجأ إليه كلما شعر بالحاجة إلى الإنفراد بنفسه بعيدا عن ضوضاء وصخب الناس فيجلس على ذاك الحجر يتخّذه مقعداً،  ذاك الحجر الـذي لـم يُمَّـس ولـم يتغيـر أو يتحـرك مـن مكانـه منـذ تلـك الطفولـة البعيـدة.

في هذه الرواية يشير الكاتب إلى أهمية الكتابة والدورالذي تلعبه في حفظ الذاكرة الجمعيّة لهذا الشعب،  فهو يكتب بلسان الجماعة وعنها  يقول:" نحـن نكتـب حتـى نتخلـص مـن أعبائنـا مـا دمنـا نعيـش في حقـل ألغـام لا نعلم متى تصدر عنّا كلمة تُفجّر لغمًا  تحت أقدامنـا،  أو تُنهـى علاقتنـا بالآخريــن ممــن يخشــون الحريـّـة والنقــد وتقبــل رأي معاكــس،  وأنا  أسـعى إلـى تخليـد الذاكـرة الجمعيّة ولا أكتـب عـن ذاتـي.(ص31). أمّا رفيق زنزانته أبو عماد يحثه على أن يضمـن سـلامة مــا يكتبــه حتــى لا يضيــع تعبــه ســدى.

اللافت في هذه الرواية  اعتماد الكاتب بشكل ملحوظ على الحوارات بين شخوص روايته لإيصال ما يريد إيصاله،  أكثر من اعتماده على السرد الذي يكون مملاً في بعض الأحيان،  وكتب روايته بأسلوب سلس لامس فيها وجدان القارىء وجعله ينجذب وبتلقائية للإستزادة من هذه القراءة الممتعة والهادفة.

أفرد الكاتب مساحة لا بأس بها  في تناوله لإتفاقية أوسلو وتداعياتها ويبدو أنّه من رافضيها من وجهة نظره على الأقل،  وفي حوار غريب مع جاره ابو حسن تتم الأشارة إلى إنقلاب الصورة وتبدل في القيــم الوطنيــة،  أبـو حسـن يصف أوسلو بسلام الخرفان وينبه من مخاطرالثقافـة المضـادة التـي تولـدت وانتشـرت وإلى حالة الإحبــاط الــذي تفشــى بين جموع الأسرى المحررين خاصة، بعد أن أصبح شرط خروجهم من السجون التوقيـع علـى وثيقـة تُجَـرّم النضـال وتدينـه وتعتبره بمثابة الإرهاب  ضـد الكيان الإسرائيلي،   وبقـي معتقـلًا مـن رفـض التوقيـع علـى ذلـك الشـرط المـذل. وفي إشارة الى التعاون المقنَّع بين السلطة الوطنية والإحتلال يذكر أبو حسن واقعة إستدعاؤه إلـى أحـد مراكـز الأمـن الفلسـطيني،  وهو والد لشهيدين مما أشــعره بالإســاءة والحنــق والقهــر. أما سبب إستدعائه والتحقيق معه فهو حيازتـه قطعـة سـلاح غيـر مرخصـة،  ويجب عليه  تسـليمها حتـى ينتهـي كل شـيء. يقول أبو حسن لقـد داسـوا علـى جثـث شـهدائنا حيـن اقتادونـا إلـى مقراتهـم كالمجرميـن واللصـوص،  هكـذا كافـأوا آبـاء الشـهداء،   وبحسرة وغضب يكمل أبو حسن الحديث عن أوسلو ويصفــه بالجريمــة التــي جلبــت العــار والخيانــة .لقـد أبـادوا القضيـة والحلـم بعـد أنّ أبيـد الشـعب وقـراه ومدنـه (ص52).

وفي حواره مع رفيق سجنه أبو عماد يستذكر غريب كيف إقتيد إلى أروقـة مكاتـب التحقيـق وإتهامه  بمحاولــة تقويــض عمليــة الســلام وممارســة مـا مـن شـأنه تهديـد الأمـن القومـي الفلسـطيني. وهنا يتمنى غريب ليته لم يتحرر ويخرج من معتقلات العدو ليدخل إلى مقرات التحقيق للأمن الوطني التي تشبه بكل تفاصيلها مقرات التحقيق الصهيونية  لولا لون العلم الذي كان يخفق باستحياء وهو مشبع بالرطوبة.

لقد أصبح  غريب كإسمه غريباً ومنكسراً كأي مواطـن عربـي هتكـه نظامـه الحاكـم. وبأن كل  أحلامه عن الوطن،  العودة والتحرير تحولــت بجــرة قلــم ولحظـة استسـلام إلـى كابـوس مزعـج بعد أن شـهد بعينيه كيف َ بيـع الحلـم في بـث حـي ومباشر (64).

كما تظهر الخيبة أيضا في حوار غريب مع صديقه يوسف الذي يقول : منـذ "سـلام الشـجعان" يـا غريـب لـم أذكرأن تلفظــت باســم فلســطين أصبحــتُ مــن المثلــث وحســب لا مــن فلســطين.(ص69).  لقـد تنازلـوا عـن الوطـن يـا صاحبـي،  وعندمـا قبلـوا باسـتعادة جـزء منـه،  ً قدّموا أثمـن ممـا اسـتعادوه؛ قدّموا أحلامنـا نحـن ودفنوهـا  تحت مقـرات شـيدوها، (ص71). وفي تبريره لإنقلاب حاله من حال إلى أخرى وإنغماسه في اللهو والملذات يقول يوسف لقد باعونا وأحالونــا بموجــب الاتفاقيــة الجديــدة  رعايــا لـدى هــذا  الكيـان الصهيونـي،  لـم يكتفـوا ببيـع الوطـن بالجملـة،  فباعونـا بالمفـرق.ومنـذ أوسـلو يـا صاحبـي سـيطر علـيَّ شـعور بـأن الوطـن لـم يعـد لـه معنـى. لقد صرنا "عرب إسرائيل"  مواطنـي دولـة طيبـين أو سـيئين. ذلـك حسـب اقترابــك مــن حلمــك وابتعــادك عنــه. ألقونــا خــارج الزمــان والمــكان.

أما سماح تلك الفتاة التي صادفها في حيفا فتقول: "أتعلـم يـا غريـب!! لـم ينجـح الحكـم العسـكري بـكل مـا بـه مـن قهـر وإذلال في إخراجنـا مـن أرضنـا،  بينمـا أوسـلو لـم يقتصـر علـى تحويـل الوطـن إلـى مزرعـة خاصـة،  لقـد أخرجنـا نحـن فلسـطينيو الدّاخـل مـن الهويـة الوطنيـة،  حتـّى إنـه لـم يعتبرنـا جـزءا مـن هـذه المزرعـة".

وفي لغة لا تخلو من المرارة  وتُبّرز حجم الضياع والألم الذي يعيشه غريب يخاطب نفسه قائلا: "تخلـص مـن بعـض المفـردات المهترئـة والصدئـة ذلـك لا يتناسـب وشـروط المواطنـة الســعيدة والقيــم الحداثيــة والعصريــة.

الوطــن: هوأينمــا وجــدت مصلحتــك وسـعادتك وأمنـك.

الحريـة: هـي حـدود بيتـك.

الكرامـة: أن تجـد لقمـة العيـش.

الوفــاء: غبــاء لا حــدود لــه،  ضعــف تجــاه الآخريــن.

الصداقــة: ملهــاة للوقــت،  مشــاعر خادعـة تنتهــي أمــام أصغــر مواجهــة مــع المصلحــة الذاتيــة.

الحــب: وهــم يخلقــه النــاس ينتهــي في الفــراش.

الحلــم: ثمنــه باهــظ لكنــه خبــز الفقــراء.

الســعادة: التخلــي عـن الأحـلام الكبيـرة .

الديـن: عبـادة الـذات وتقديـس المـال.

الضميـر: عـبء ٌ ومازوشــية،  مــرض خطيــر يجــب الشــفاء منــه.(ص73).

وفي موضع آخر يتطرق الكاتب إلى الشأن الثقافي وجمهرة المثقفين،  وقد أبدى دانيال شريك غريب في زنزانته خشيته من أن يتحول المناضل إلى مثقف عقلاني ســرعان مــا يبــدأ بإطــلاق توصيفــات غريبــة علــى المقاومــة والنضــال،  إمــا مغامــرة أو رومنســية أو عبثيــة.  وفي إدانة واضحة لما آل إليه بعض الوسط الثقافي يقول دانيال  لســنا بحاجــة إلــى مثقــف آخــر،  يكفــي مــا لدينــا مــن مثقفيـن بعقــول مأجــورة،  وأقــلا م مرتزقــة.(ص104).

محور آخر تتناوله الرواية وهي موضوع الإحتلال وما تبعه من دعوة للتعايش وقبول الآخر وهذا ما يظهره الحوار الذي جرى بين غريب وصديقته هلا،  تلك الفتاة التي هي ثمرة زواج هجين بين أم يهودية وأب فلسطيني،  ثمـرة تـزاوج الحـق والباطـل،  وهي ثمــرة لأبويــن شــرعيّين اعتقــدا أنهمــا بارتباطهمــا ســيضعان حدًا  لصـراع ٍ مديـد ٍ وقـاس لمجـرد التقائهمـا،  فهي مجرد طفلـة ولـدت علـى الحـدود بيـن الأنـا والآخـر. فوالدتها اليهوديــة تــرى أنهــا صاحبــة الحــقّ وأنهــا هــي المظلومــة،  ووالـدها الفلسـطيني يـرى أنـه هـو صاحـب هـذا الحـق وأنـه هـو المظلـوم.  وكل واحــد منهمــا يشــدّها  إلــى طرفـه حتـى انقسـمت نصفـين،  ليأتيها الردّ من غريب بأنّ عليها الاختيـار فـلا يمكنـها البقـاء في المنتصـف،  ويسألها كيــف لا تزالـيـن مؤمنـة بفرضيـة التعايـش والسـلام وهـذه الأوهـام وأنـت أكبـر دليـل علـى فشــلها.(ص211).

أيضا كانت العمليات الإستشهادية محور النقاش بين غريب وهلا،  هذه العمليات  تدينها هلا وتعتبران من يقومون بها  لم يعطوا فرصة للسلام،  وتسأل لقـد فجَّـر نفسـه ومـات. مـاذا اسـتفاد؟ ويجيبها غريب بأنّه تحـول مـن إنسـان طبيعـي إلـى كائـن مقـدس،  فهــو لــم يفجـّـر نفســه عبثــا بل حبًا بالحياة،   إنـه بـذاك العمـل الشـجاع إنمـا يعيـد تكويـن ذاتـه عبـر أشـلائه،  فيصبـح هـو الـكلّ ونحـن الأجـزاء.

كما ذكرنا فقد أفرد الكاتب مساحة لا بأس بها للمرأة والحوارات المكثفة التي أجراها غريب معها،  وقدَّم لنا نموذجين عن المرأة،  نموذج هجين جسدته هلا او هيلانة المتلطية وراء دعوتها للسلام والتعايش ولكن في حقيقة الأمر كان دورها المشبوه  هو إصطياد الشريحة الصلبة من الأسرى المحررين بغية غسل دماغهم وإيهامهم بعبثية النضال والمقاومة،  أمّا النموذج الآخر فهو المرأة الفلسطينية المناضلة على طريقتها والمؤمنة بعدالة وأحقية قضيتها والذي تمثَّل في كل من أمل التي رسمت على كتفها وشما يرمز إلى حنظلة الذي تعتبره ملاكهـا الحـارس وأنـه يعبـرعـن هويتهـا وثقافتهـا وهو بمثابة وطنها الصغير،  وكشفت الرواية أن أمل وصديقتها دنيا تقومان بالإشتراك مع رهـط مـن أصدقائهمـا المثقفين بنشـاط  يهـدف للتعـريف بالقـرى المهجّـرة،  البعـض يرسـم معالمهـا المتآكلـة،  والآخـر يقيـم على أنقاضها خيامًا يتـم دعـوة نشـطاء أجانـب إليهـا لتعريفهـم علـى آثـار التطهيـر الشـامل الـذي تعـرض لـه سـكان هـذه القـرى. وكثيرا ما كانت أمل تحثُ غريب على أن يبقى علـى قيـد الحلـم  ولا يُفــرّط بحلمـه.تقول له :" إيــاك أن تُهــزم وتســمح لهــم بكســرك. انكســارك ســيجعلك شــريكا  في ً مأســاتك". وهي بذلك تتماهى مع والدته التي خاطبته قائلة:" اسـمعني جيـدا كلّ الذيـن حققـوا أحلامهـم يـا بنـي كانـوا بشـرا وكلّ أم تخـاف علـى ولدهـا مـن المـوت أو الأسـر،  لكـن مـا هـو أقسـى،  أن ترى الأم ابنها مكسوراً ومهزومـا إن لم نناضل لاسـتعادة ما فقدنا سنخسر أنفسنا أيضا وحينها لن نختلـف عمـن باعـوا القضيـة وأورثـوك كل هـذا اليـأس والإحبـاط" (ص56).

وككل روايات أدب الحرية،  لا بد من ان يُعرّج الكاتب على الحركة الأسيرة ومواجهاتها مع السجّان وأيضا الإشارة إلى معركة الإمعاء الخاوية التي خاضها الأسرى،  وكيف يتم التضييق على الأسرى ونقلهم من سجن لآخر بغية كسر إرادتهم في تنفيذ إضرابهم عن الطعام.

في إشارة تحذيرية مما يحاك لأجل طمس الحقوق وتسطيح القضية يشير الكاتب إلى ما تلجأ إليه بعض المنظمات غير الحكومية والتي غالبًا ما يكون جــلّ أعضائهــا يهــود إســرائيليون،  وبعـض الفلسـطينيين الذيـن التقـت مصالحهـم وأهدافهـم مـع أفـكار هـذه المنظمـة التـي تدّعي العمل على إشاعة السلام والتلاقي بين الشعوب،  ولكن حقيقة ما تعمل له هو إصطياد النواة الصلبة من الأسرى المحررين خاصة وثلة من النُخَب الفلسطينية المثقفة عامة لأجل تفتيتهم ظنًا منها  أنّها بذلك يمكـن هزيمـة الذاكـرة الجمعيـة لشـعب لـم يتبـق لـه غيرها بعـد أن فقـد أرضـه. وبعبارة أخرى تهدف مثل تلك المنظمّات تحويـل الصقـور إلـى حمائـم وقطـط بيتيـة ووكلاء للرفاهيـة الوهميّـة والسـعادة المزيفة..  ولمجابهة هذا النوع من التحركات تقول دنيا صديقة غريب وأمل بأنّهما تعملان ضمن حــراك شــبابي فلســطيني عابــر للاديــان والطوائــف والعــرق والجنــس،  والأهــم أنــه عابــر للأحــزاب السياســية،  يجمعنــا هـدف واحـد هــو الحفـاظ علــى الذاكـرة الجمعيـّة ضـدّ التزويـر والنهـب (ص342).

ختاما نقول ان الأسير رائد الشافعي قدّم لنا في روايته هذه ما يشبه المطالعة السياسية لتبيان وجهة نظره وربما وجهة نظر الكثيرين مما حصل ويحصل في الوطن الفلسطيني،  وإذا كان الشاعر نزار قبّاني يقول "إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان" يمكننا القول أيضا أن أدب الحريّة يولد من قمع السجّان،  وإذا كان للسجن والإعتقال من منقبة ما فهي ولادة تلك الجمهرة من الكُتّاب الأسرى مثل رائد الشافعي وغيرهم،  وما كانت انتاجاتهم وإبداعاتهم لتصلنا لولا الجهد الذي بذل ولا يزال من قبل المحامي حسن عبادي صاحب مبادرتّي "لكلّ أسير كتاب" و"من كلّ أسير كتاب"،  وأختم بما قاله الأستاذ عبادي عن هذه الرواية "حين قرأت المخطوطة وجدت كلماته تفجّر لغمًا تحت أقدام كلّ من تسلّح بالسراب والوهم الأوسلوي لتخلّصه من عبء يرزح تحته. عادت القيادة من الشتات بأضغاث أحلام لتخلق وطناً من وهم وفرقة وطنية وعبث وفراغ"

مبارك للأسير الحُر رائد الشافعي هذا الإبداع الذي وضع من خلاله الإصبع على الجرح  آملين ان يتوقف هذا النزيف العبثي ويتم إعادة توجيه البوصلة في الاتجاه الصحيح،  في اتجاه فلسطين القضية المركزية مهما حاول المهرولون نحو التطبيع  وتقديم خدمات مجانية مقابل بعض الفتات من المكاسب الزائلة.

***

عفيف قاووق – لبنان

في "رحلة البحث عن الهوية" يتداخل الحلم بالذكريات وبالأسئلة الحارقة التي تذهب طويلا مع الإنسان...

نسيج لغوي ناعم يأخذ القارئ إلى عوالم متداخلة من حيوية الواقع ولعبة التخييل، كل ذلك ضمن فضاء سردي يرتقي بالقص كفن مأخوذ بالتشويق والإبهار... إنها سلاسة الوصف المولد في شعرية متدفقة تمنحها البراءة والحنين وأصل العناصر والتفاصيل والأشياء في زمن ذهبت بعض كتاباته إلى اللهو بالتصنع والفبركة والافتعال... هي الكتابة زمن طفولتها لا تلوي على غير التأنق لأجل أن يجد القارئ عند نهاية كل قصة شيئا من المتعة التي تتركها الشخصيات أو الأمكنة أو الحالات أو حتى نبرة القص والمشاهد التي تحيل عليها القصص... إنها لعبة القص ومشتقاته الجمالية... لعبة الأمكنة وأسرارها... لعبة المشاهد والظلال...

هكذا رأيت الأمر وأنا أخلص من قراءة المجموعة القصصية " المشهد والظل " للأديبة هيام الفرشيشي الصادرة عن دار البراق للطباعة والنشر والتوزيع في 152 صفحة من القطع المتوسط حيث يتحلى الغلاف بعمل فوتغرافي للمصور حسن بحصون في جريدة الأخبار اللبنانية...

ثمة خيط  رابط بين مختلف القصص في هذه المجموعة يتمثل في الشحنة الحسية والنفسية التي عملت من خلالها القاصة هيام الفرشيشي على إذكاء عنصر التشويق لشد القارئ خصوصا أمام تعدد الشخصيات من قصة إلى أخرى وتنوع حضورها ونحن نعرف بالخصوص ميل بعض القصاصين إلى افتعال الأحداث والتفاصيل للتأثير على القارئ وتتم من ذلك إهمال سلاسة السرد وحميمية طرائقه فكثيرا ما كانت الأعمال جافة وبعيدة عن العذوبة وعناصرها المحبذة في التعاطي مع الإبداع القصصي...3553 هيام الفرشيشي

لقد نجحت القاصة هيام الفرشيشي في " المشهد والظل " في شد القارئ من خلال جمالية القص حيث دقة الوصف والخطاب الذهني الموجه والمعبر عن مسائل فكرية تتعلق أحيانا بالفلسفة والوجود والحرية إلى جانب ما يتبع ذلك من مواقف وآراء، وكل ذلك يحصل بعيدا عن الإقحام والإسقاط. فهي توفقت إلى السرد الحميمي والصادق في ذهابه إلى الأشياء والعناصر والتفاصيل والحركات والأحداث والمفارقات بنعومة السرد وما ينهض عليه من عناصر الفن والجمال...

وأما الشخصيات فقد تخيرتها القاصة بدقة من حيث مكابدتها الوجدانية والنفسية والفكرية، بما يحببها للقارئ ويقربها من هموم الذات وأعماقها لنجد أنفسنا في النهاية أمام عمل لا يبعد كثيرا عن أشجان الكتابة وهي تعري حالات وتكشف ممكنات اجتماعية وثقافية وحضارية كما أنها عملت على توثيق الصلة والعلاقة بحيز من الأمكنة التي لها مجالات شاسعة في الوجدان العام. من ذلك المدينة العتيقة هذه التي اشتغل عليها العديد من الشعراء والروائيين ولكن الأمر عند هيام الفرشيشي كان مختلفا بالنظر لطريقتها المخصوصة في السرد. التي يتبين معها قارئ هذه المجموعة القصصية أن القاصة تكتب وفي الآن نفسه تكتشف معه ومثله الحالات والأمكنة وما إلى ذلك من العناصر التي يقترحها هذا العمل القصصي البديع...

في قصة المشهد والظل تكشف القاصة حيزا من معاناة الصحفية التي تسعى للذهاب إلى الحقيقة وما يواجهها من عراقيل نفسية وميدانية في هذا العمل النبيل الذي كان همه بالأساس إنارة الآخرين بالحقائق. وقد أبدعت في وصف ذلك السرد الذي اقتضته الظروف الحافة بهذا العمل إلى جانب متعة نقل مشاهد المكان أي القرية التي قصدتها في حالات مناخية خاصة فيها الرياح والعواصف والصقيع...

تقول في القصة بالصفحة 57 : " شرد ذهنها وهي داخل الحافلة تستعرض سبب حلولها بهذه القرية المختفية وراء الجبل، وخمنت أنها ستشعر بالراحة قليلا، فرغم تشعب الطريق، فهو لا يخفي نضارة أشجار الفلين والصنوبر وأشكال الهضاب المتدرجة التي تراءت كديار ذات قباب أعادتها إلى تصاميم معمارية يبدو أنها نابعة من الطبيعة. عادت إلى ذاكرتها نبرات رئيس التحرير نائمة في خيالها كعائق صخري يطمس جمال المشهد المنفتح، توقفت الحافلة في ساحة تنطلق منها الطرق المنحدرة، استفسرت السائق عن الطريق المؤدي إلى نزل الخطاف فأجابها بضرورة السير بضعة أميال والحذر من الأمطار الأوحال الزلقة... "

في "رحلة البحث عن الهوية" يتداخل الحلم بالذكريات وبالأسئلة الحارقة التي تذهب طويلا مع الإنسان في حله وترحاله ذلك أن القاصة لعبت على الحنين والقلق والاستعادة حيث الذاكرة لا تغيب حتى في حالات اليأس وما إلى ذلك تقول بالصفحة العاشرة : " استقبلتها ساحة باب سويقة ببناءاتها الحديثة التي انمحت منها بقية المشاهد الراسخة في ذاكرتها منذ أيام الطفولة. شعرت بتكسر الحلم في أعماقها وتكثف الخدر الجاثم على كتفيها... استوت الذاكرة مع الحاضر... إلى أن تقول في الصفحة 111: " اتجهت إلى القباضة المالية لتقتني طابعا جبائيا من أجل تغيير بطاقة هويتها التي مازالت تحمل صفة آنسة... كان عمق الانسلاخ عن الماضي أشبه باجتثاث تلك الصورة العالقة في هذا المكان، فقد شيدت القباضة المالية على أنقاض المقهى القديم الذي طالما جاءته رفقة أقاربها الصغار أيام عيد الفطر... إنها فتنة السرد في تجوال الذات بين الأمل وهنا تعبر القاصة عن ذلك بالحلم والمولود المنتظر وحميمية القلق الإنساني والوجداني في تعاطيها مع المكان والذكرى... إنها المراوحة بين القلق والحنين وهنا نلمس خصوصية هذه الكتابة القصصية لدى هيام الفرشيشي التي كثيرا ما كانت نظرتها للأشياء التي تسردها مفعمة بالشعرية... شعرية الحالة وشعرية التعاطي معها وهو ما أكسب المفردة السردية شحنة هي من قبيل ما يعبر به الشعراء في قصائدهم وهم يتحاورون مع الحياة والوجد يحاولون بناء عالم حالم فيه الحنين والحيرة... وقدرة الذات الإنسانية على الخوض في هذه العوالم...

في قصة "غياهب الوهم" تطرح القاصة خصائص كل من عالم المدينة وعوالم الريف والقرية التي رأتها فسيحة على عكس أزقة المدينة التي رأتها أتربة وأوساخ وغبار وروائح كريهة منبعثة من المنازل... فبين حكايات الحمام وعجوز الستوت ودور ودكاكين المدينة العربي التي صارت مجرد قضبان تسجن أحلامها البكر والريف الذي رأته مجالا أوسع للحياة... تبرز نظرة القاصة إلى الفهم الذي يسيطر لدى البعض في الخلط بين الوسطين حيث ترى الحياة منطلقة وأجمل في الريف حيث تقول بالصفحة 117:

" عذراء حياة الريف. الهواء نقي والأرجاء رحبة. والسماء لوحة ضاجة بالحياة. سارت عربية بين الهضاب والروابي وكأنها تبحث عن أغصان جديدة أو عن أعشاب نبتت هنا أو هناك. فشدو العصافير يبهجها ورقرقة السواقي تنساب في مشاعرها...

"الرسم على الروح" قصة في غاية الأناقة حيث المتاهة بين الواقعي والخيالي في عشق القاصة للفنون ومنها الفن التشكيلي ضمن متعة السرد المقتحمة لعوالم جمال الصافي وستيورات كونديلي والرسم والسينما... طقس قصصي آخر ولكن ببصمات هيام الفرشيشي التي نجحت في نحت أسلوبها في الكتابة الذي برز في القصص مع اختلافها في المكان والشخصيات... نقرأ في هذه القصة بالصفحة 132:

" لم يكن ذلك صوتها حتما بل صوت هدى المنبلج من المتاهة وهي تتخيل عودة آل غورخاس إلى الهند القديمة... "لم ينتبه الرسام المنهمك في تلوين لوحته إلى أثر لوحاته على روحها.. غادرت المرسم، تأملت أشعة الشمس الحمراء المنتشرة على أمواج البحر المتلاطمة والبجع الوحشي وهو يفتح أجنحته. في تلك اللوحة الخلاقة عاد إلى اللون توازنه وهي ترقص مع البجعات رقصة الانسياب...

هكذا تتعدد الأسئلة التي تستبطنها مختلف قصص المجموعة لتلتقي في أمكنة ومناخات سردية وحالات ذهنية ونفسية ووجدانية مختلفة يجمع بينها جوهر وروح القص المعتمد في هذا العمل المميز الذي لفت إليه عددا من الأدباء والنقاد ومنهم الروائي المصري إبراهيم جاد الله والأديب الفلسطيني جهاد أبو حشيش والناقد راسم المدهون والأديب المغربي عبد الحميد الغرباوي والأديب التونسي أحمد ممو حيث أجمعوا على أهمية هذه الكتابة القصصية في خضم الأصوات الأخرى وضمن التخييل الذي يرسم عالمه الخاص...

هذه المجموعة تم تتويجها في تونس من خلال فوزها بجائزة الكريديف لهذه السنة وقد أفادت القاصة والناقدة هيام الفرشيشي من تجربتها هذه باعتبار ما يتيحه النقد والبحث الأدبي والدراسة من خبرات تنعكس في النظر على النثر الأدبي على كونه الجزء المميز ضمن المحصلة الإنسانية ولذلك كان عملها القصصي هذا مميزا في أدبيته وتيماته المقصودة وثريا نظرا للدأب الأدبي الذي عرفت به الأديبة هيام الفرشيشي التي نحتت صوتها السارد بكثير من التأني والصدق والشغف...

" المشهد والظل " مجموعة قصصية حرية بالقراءة والمتابعة والاهتمام لتميز أسلوبها وتعاطيها الجاد مع متطلبات القص الجمالية والفنية فضلا عن الإشارة إلى دور الأدب في النظر إلى الذات وإلى الآخرين ,,

***

شمس الدين العوني

حرصت الاجناس الادبية الحداثية جميعا على تفاعل الذات مع الآخر ومن ثم الذات مع نفسها فيتحقق الانفتاح والابداع، انفتاح على الذات الموغلة في العزلة، ، وجاء تيار الوعي ليبرز في ميدان الرواية الحديثة شكلا جديدا يعبر عن هذه الازمة التي تعيشها الانسانية في شرنقتها، فاطلق العنان لتدفق الافكار والمشاعر والثورة على المألوف والسائد استنكارا للمواصفات اللاأخلاقية وهذا ما نلمسه في رواية (سيبندية) للروائي شوقي كريم حسن في طبعتها الاولى الصادرة عن دار العرب، 2023 .

وأنا أقرأ رواية (سيبندية) أقف عندها من حيث كيف يبني الروائي مادته الروائية؟، وما هي تقنياته السردية، من يروي؟ وكيف يرى الراوي الى ما يرويه ؟ وما هي علاقته بمن يروي عنهم ؟ فقد تناول النقاد مضمون الرواية وتناولوا موضوعة القيم النبيلة والرذيلة والمرحلة الزمنية لأحداث الرواية التي شكلت وثيقة تؤرخ مرحلة بدأً من مقتل الملك الشاب فيصل ومجزرة العائلة المالكة وما بعدها من صراع سياسي الذي اتسم بالفوضى والتخبط ..

ان ما يقدمه الروائي من تكنيك من حوار ووصف وتيار وعي واستبطان ذاتي وتقنية الفلاش باك فضلا عن استخدام المونتاج السينمائي والقطع والتنقل المشهدي، يعطي للرواية قوتها ومتعتها وان كانت الفكرة مطروقه..

"وقفت أمي تنتظر حيرتها، مبصرة من عند باب الحوش، صرخات الاستغاثة ودوي الرصاص وتوسلات حناجر تخرخش بفتور خائف يشوبه وجل ممتحن لا تعرف كيف تجتاح وجودها، وبين يديها ولد يتبرغث من الوجع حين ابصرت المسلّحة العسكرية، تحاول اجتياز الرصيف اندفعت مؤشرة بالوصول اليها ثمة آخر يتعلق بأذيالها. صبي مراقباً المشهد الصاخب بحذر ظل يصاحبه طوال حياته، قال الرجل المعلم بخرقة خضراء موشومة (بحاء قاف) لاعقاً شفتيه بابتسامة وقحة جعلت الأم تتراجع مهزومة إلى داخل خيبتها"1

"طريقة في الكتابة تقدم مدركات الشخصية وأفكارها كما تطرأ في شكلها العشوائي وهذا التكنيك يكشف عن المعاني والاحساسات دون اعتبار للسياق المنطقي او التمايز بين مستويات الواقع المختلفة (النوم، اليقظة..) او بناء الجملة من حيث ترتيب كلماتها في اشكالها وعلاقتها الصحيحة" 2

عتبة العنوان (سيبندية) التي جاءت بصيغة الجمع والتي من خلالها استطاع جلب الاهتمام والانظار لمفردة تعني المنحرف الذي لا أخلاق له بمعنى اناس افسدوا وقد وظفوا كل الوسائل الدنيئة والخسيسة فهي مباحة لهم ومشروعة من اجل الوصول الى غاياتهم.

 كتبت رواية سيبندية بطريقة وبتكنيك يكشف عن المعاني دون اعتبار للسياق المنطقي ولم تعد تعني بالترتيب المنطقي النمطي للعقل المنسق ببداية ووسط ونهاية فنراه يقوم بتكسير القوالب النمطية والثورة على الجمود والرتابة .

قسم الرواية الى عشرة فصول كل فصل اطلق عليه مدخل لأبجديات عشرة كعتبات ومناصات (عنونة داخلية) فيها عنوان اصلي واسفلها عنوان فرعي جاء على شكل جملة او عبارة (مقولة) للروائي مفتاحا وعتبة للدخول لعالم روايته تكشف العلاقة بين الراوي (الكاتب) وبين المروي " أبجدية اليتم" (المساحة واسعة بين القيم والرذيلة)، "أبجدية الأثم"، (الخطيئة اشد فتكاً بالضمائر التي تعدّها جسراً تعبر من خلاله الى ملكوت الرب)، "أبجدية القحط"، (من وصايا العارفين.. لا تترك خطاك تقود كلك إلى مرابع التفاهات)، "أبجدية القسوة " (قيل لمجنون ما الحكمة ؟ قال أن تبصق بوجه الحاكم من دون أن يعترض)، "أبجدية النهاية" (النهايات مشروع بدايات غير واضحة المعالم)، "ابجدية الرفض " (الاحلام أخطر اختراعات العقل الانساني وأشدها فتكاً)، " أبجدية الهذر"(لاتعادٍ الصمت في الاوقات الحرجة التي تحتاج بها اليه)، "أبجدية الازاحة" (ربة الوقاحة فاجرة، ما دارت مفتاحها يوماً لعارف)، "أبجدية الرغبات (..................)، "أبجدية الافتضاح" (لاشيء أقبح من الاعتقاد بأن الكذب فضيلة).

ربما اراد الكاتب ان يجعل من كل فصل ومدخل مسرودات لا متناهية،  باستهلال داخلي الذي يتصدر كل مدخل في الرواية تعين المتلقي وتمكنه من "ربط العلاقة بين العناوين الداخلية وفصولها من جهة والعناوين الداخلية وعنوانها الرئيسي من جهة أخرى ... "3

بدأ باستهلال افتتاحي / بدئي قبل القول جاء على شكل تنبيه كمؤشر لفهم السياق الذي تنخرط فيه الرواية:

تنويه

ذات حكاية.. سمعت حكيماً خبر الدنيا وخفاياها يقول:

- محال تغطية الحقيقة بغربال.. وهذا ضرب من ضروب المستحيل. فطنت الى المعنى وما أريد منه، وما الحقيقة التي تحتاج منا الى اعادة كشف. لذا ما جاءت به المسرودة حقيقة من المنبوشات بين اطمار ماض قريب مسكوت عنه، رغم اهميته في تأسيس ما بعده من حروب وفواجع وانتهاكات انسانية ماتزال مستمرة حتى الساعة... قد لا نصدق ما قيل ودوّن كونه ضرباً من الخيال.. ما أقبح الواقع الذي ينافس الخيال ويتغلب عليه.

في تقنية فنية تعبيرية وجمالية وظف الروائي تناصاً يعقب التنبيه مقطع من مسرحية شكسبير.. بهلوان الملك لير جاء على شكل نبوءة:

سأنطلق بنبوءة قبل ان اذهب.

إذا امتثل الكاهن لفظاً دون معنى

إذا غشّ الخمّار الخمر بالماء

إذا أضحى النبيل معلماً للخياطة

وسلم الزنديق من نار عقبى دون طلاب النساء

إذا كانت كل دعوة في الشريعة صائبة.

وما من سيّد، او فارس بالفقر يوما مبتلى

إذا الغيبة هجرت كل لسان

وأحجم النشالون عن الجموع.

إذا راح المرابون يحسبون الذهب في العراء.

وراح القوادون والبغايا يبتنون الكنائس،

عندما يحل في البلاد شغب وفوضى

عندها يأتي زمان من عاش رآه

يصبح السير فيه على الأقدام جريمة.

هناك تكنيكات اخرى توظف مع رواية التيار كالمنولوج الداخلي والفلاش باك والاسترجاع الحدثي والمكاني والزماني واستحضار المواقف أو الشخصية أو اللقطة وتداعيات الصور والاخيلة وكذلك الشعرية.

مقولة نمط السرد

اعتمد الكاتب اساليب متعددة في سرده من حيث علاقة الراوي بأصوات الشخصيات ، "اسلوب يتصف بالمباشرة، اسلوب يتصف باللا مباشرة، او نمط اسلوبي لا مباشر حر" 4 .

اسلوب يتصف بالمباشرة

نرى في هذه الحالة ان الراوي يترك القول في سياق سرده بصوته الى الشخصية او لصوتها يدعها تنطق مباشرة بصوتها الذي بإمكان القارئ ان يميزه عن سياق القول السردي للراوي عن طريق الحوار ففي هذه الحالة يقطع الراوي سرده فيتقدم صوت الشخصية المباشر محاورا المخاطب:

"ضحك (حسان ثابت) بصوته المجلجل، آخذا (دنوش) الى صدره، مقبلا جبينها الذي أضاء بفرح كان دفين اعماقها منذ رحلة الوالدين الابدية.

قال- لا تخافي .. كل ما ترينه محسوب الحساب.. حتى ان فتحوا الباب لن يجدوا لك مكاناً.

صاحت مديحة- أنت ليشر راسج يابس.. افتحي الباب تره للصبر حدود. أنت ما تعرفين شراح يصير بيج اذا اشتغلت الغدارة.

قال حسان – خذي ما ترغبين به وسأكون معك لا تنتظري انتظارك قد يخسرك جولة رهان.

قالت نادية – وأمي هل نتركها وحيدة؟ ص103

اسلوب يتصف باللامباشرة

نرى في هذه الحالة يبقى الكلام بصوت الراوي وان بدا لنا بشكل واضح انه لشخصية من الشخصيات كما المقطع السردي في ابجدية اليتم ص 7:

وقفت العجوز، التي نسميها (حبوبتنا) المثقلة بالهموم المجللة بثياب سود لم ارها تغيرها منذ مقتل الزعيم، فقدت بهجتها، تتأمل صورة ابن كيفية. كما تسميه متفاخرة ذارفة بقايا احزانها المتلاحقة الدافعة إلى التأمل، اخذت الصورة إلى صدرها، موقنة أن ما حدث اخفى الزعيم الى الأبد، قبلت بدلته العسكرية، وتناوشت جبينه بسيول هرمة من القبل الفيّاضة بالتقديس هامسة بحزن

- ألم أقل لك حاذر، تركتنا نصارع اليُتم... طيبتك رمت بك وبنا الى التهلكة.. ما عسانا نفعل ووحوش الموت بدأت تملأ الطرقات ألم أقل لك إن الحذر غلب القدر ؟

اسلوب لا مباشر حر:

يبدو في هذا الاسلوب محيرا وملتبسا يتداخل بين صوت الراوي وصوت نطق الشخصية بين ان يكون منقولا بصوت الراوي وبين ان يكون منطوقا بصوت الشخصية مباشرة في هذه الحالة الراوي لا يضع كلام الشخصية بين مزدوجين وهذا الالتباس يضفي على النص طابع البساطة والعفوية كما نلاحظه في المقطع:

- لا أظنّه يكذب، قال سأجيئ، أخبري المحبين بعودتي. فما الذي حصل؟ غيابه يبعد المسافة ويقلل الاحتمال... كرومي ماذا تقول.. وتلك الكتب التي تقرأ هل اخبرتك عنه بشيء، أخبرني اثق بما تقول.. لأنك الأحب إلى روحي والأقرب اليها. لا شيء يشير الى عودته، حبوبتي.. كل هذه الكتب تتحدث عن أمور لا تخصه!!" ص15

مستويات السرد

على مستوى تنوع ضمير الراوي اختار شوقي كريم حسن لروايته (سيبندية) طريقة تعدد الاصوات وهذه الطريقة متأتية من المجتمع المتعدد الفئات ومتنوعة الافكار حملت كل شخصية طريقة سرد خاصة بها ..

يؤكد الراوي ذلك في عدة مقاطع توضح الآراء المختلفة ووجهات النظر المتباينة في النظر الى ذلك الماضي يفصح عن تركيبة اجتماعية غير متجانسة:

"حبوبتنا" نقلت هذا الحب الى زغب احفادها الذين يتأملون الصورة المخفية بين طيات نضد الافرشة، أصرت على تسميتي (عبد الكريم)

" رغم اعتراض والدي، الذي يكره كرومي دون تبيان الاسباب، يتعمد اغاضتها، حين يعلن امام همومها " أرعن تافه.. غره تصفيق اناس يتبعونه مصالحهم.. تخلو عنه فور انطلاق اولى الرصاصات، ماذا يخسر لو اسس حزباً واستند اليه، الفقر لايحمي كرسيا، والقلوب لا تواجه الرشاشات" ص8

"- هل ما زلتم ترددون في صفوف الصباحات الباردة.. عبد الكريم رب العباد يرعاك فلم تخلى عن رعايته الرب الذي كنا نتوسل اليه أن يرعاه؟ لا اعرف ما الذي حصل أنت كرومي اعلمني ان كنت تعرف. الرب الذي طالبناه برعايته لِم لمْ ينصت لتوسلاتنا ؟"

يقدم الروائي مبناه الفني على طرق سرد متداخلة، الراوي تارة الشخصية الحكائية اي الشخصية التي تتولى الحديث عن شخص محوري يتقمص هويته ويتكلم بلسان حالها، و" قد يكون الراوي مزيجا من المؤلف والشخصية المحورية مزيجا من ان يكون راوياً وان يكون مروياً عنه".5

***

طالب عمران

........................

المصادر

1- شوقي كريم حسن، سيبندية (رواية)، ط1، دار العرب، دمشق-سوريا، 2023 .

2- ابراهيم فتحي معجم المصطلحات الادبية التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، صفاقس، 1986، ص116

3- بلعابد، عبد الحق، عتبات (جيرار جينيت من النص الى النص) ط1، دار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2008 .

4- النصير، ياسين، ما تخفيه القراءة، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سورية، 2022.

5- العيد، يمنى، تقنيات السرد الروائي، ط3، دار الفارابي، بيروت- لبنان، 2010 .

النص

حينَ نظرَ عبد الأمير الحصيري إلى جرف نهرِ دجلةَ

بدأَ يسمعُ بائعةَ البالوناتِ

وهي تنشدُ أغاني النهرِ

يتأملُ باراتِ أبي نواس العتيقةَ

وحاراتِ المسيحِ المتنقلةَ

في أزقةِ البتاوين النظيفةِ

والقواربَ المسافرةَ لتنحني عندَ آخرِ تمثال لشهريار

وهي مثقلةٌ بالبلحِ الناضجِ

من مزارعِ البصرة

وأغاني الخشابةِ و دبكاتِ الصيادين

وكتاباتِ بدر شاكر السيّاب

وهو يترقبُ حضورَ وفيقة

بينما تأتي النوارسُ كئيبةً من القيظِ

فوقَ السهولِ و المدنِ الهادئةِ

إذ هنالك يتأملُ أحمدُ الفراهيدي

تحتَ إرثٍ كبيرٍ

ينشدُ قصائدَ امرئ القيسِ

"اليومُ خمرٌ و غداً أمر"

وعن المدنِ البعيدةِ

كيفَ قاومتْ الهجمات البربريةِ

لسيوفِ الغزاةِ الدمويّةِ

وحواراتِ الفتنِ المجاورةِ

بينما ضجَ الكونُ من حروبٍ عبثيّةٍ

فسارتْ النعوشُ بغير بكاء لكثرة النحيب

ولم يعدْ أمام المدفونِ إلا انتظارَ زواره القادمين

بانتظارِ محاكماتٍ عادلةٍ

وعودة بقايا طمأنينة من دهاليزِ الميتين في ترقبٍ

إن يفتحَ اللهُ نوافذَه

للمرةِ الأخيرةِ

ويطلُّ من وادي السّلام

على أسرابِ الموتى

وينتهي المطافُ

ويُدفنُ آخرُ مقاتلٍ

قبلَ ان يُصابَ بالجبن

لكثرةِ ما قرأَ آياتٍ وتعاويذَ السلامة

وقصصَ الحروبِ الخاسرةِ

 ***

القراءة

السرد كما يصفه "جيرار جنيت" بنية يشكل بها الشاعر رؤاه الفنية، الذي حدد مفهوم السرد بأنه (عرض لحدث أو لمتوالية من الأحداث حقيقية أو خيالية، عرض بواسطة اللغة، وبصفة خاصة عرض بواسطة لغة مكتوبة)، "جيرار جنيت، حدود السرد، ص92".

لقد أتخذ السرد عدة مظاهر فنية في تشكيل بنية النص الشعري، الذي (بات قادراً على استيعاب الكثير من خصائص النصوص السردية)،"خليل شكري، القصيدة السير ذاتية واستراتيجية القراءة، ص15".

وفي قراءتنا هذه نقف على تجليات البنية السردية في نص الشاعر "علي لعيبي"، الذي اتسم بنفس سردي تجلت فيه عناصر السرد وآلياته السردية والوصفية، وتداخل البنى السردية والشعرية التي وظفها الشاعر في النص. ومرد ذلك يعود تميز الشاعر بالتعددية الثقافية (أدبية ونقدية وفنية وسياسية)، انعكست في كتابة نصه الذي صاغه بأسلوب حداثي إثرى به النص، وقدرته في توظيف تقنيات الأجناس الفنية والتداخل والتفاعل بينها.

قد يبدو مصطلح (السرد الشعري) متناقضاً اللفظين المكونين له، بسبب وجود جنسين أدبيين مختلفين في مفهوم اصطلاحي واحدة، فالسرد ينتمي إلى عالم النثر، والشعر ينتمي الى عالم الشعر، وما بينهما من اختلافات في الشكل والوظيفة وغيرهما، ولكن الجامع بينهما هو ما أصطلح عليه بـ(تداخل الأجناس)، الذي يشير الى وجود تعالق بين الأجناس الأدبية.

أعتمد الشاعر "علي لعيبي" في بنية النص على التداخل السردي مع الشعري، فالسردي يعتمد على عناصر السرد ( الحدث والشخصية والمكان) وتقنياته، أما الشعري صنع بنية النص بالأعتماد على الصورة والانزياحات اللغوية والترميز.

صنف الباحثين والنقاد شخصية النص السردي نوعين هما:

النوع الأول: الشخصية الفاعلة التي (تقوم بدور تنمية النص من خلال عدد من الوظائف الفنيّة التي تمارسها)، "محمد زيدان، البنية السردية في النص الشعري، ص 192". فهي المحور المهم في بناء النص السردي، والتحكم في توجيه النص الشعري.

أما النوع الثاني: الشخصية غير الفاعلة، وهي (ساكنة إلى حدّ ما، وهذا السكون إما أن يكون مؤثرا، أي يقوم بدور ما في أحد محاور النص، وإما أن تكون الشخصية في حدّ ذاتها هامشية، لا تسهم إلا في نطاق داخلي، على مستوى الوحدة السردية التي تمثلها)،"محمد زيدان، البنية السردية في النص الشعري، ص 203".

استلهم الشاعر "علي لعيبي" الأسلوب السردي وتوظيفه داخل النص، حتى بدأ على شكل سرد ذاتي، وعلى تقنية سردية شعرية في بناء النص، من خلال الإنزياحات التي استحضرها في أمكنة وشخصيات النص، التي تمثل رموزا وظفها دلالياً، فنرى السرد يتحكم بمجريات  النص، وشكل بؤرة تدور حولها لغة مكثفة وصور شعرية.

اشتغل الشاعر "علي لعيبي" في بناء نصه على فضاء حكائي يختزن دلالات لها معانيها، يحاكي هواجس ذاتية، ذات نزعة واقعية تعتمد التجربة الحياتية، يضعنا أمام إيقونة، تجسد في النص سير ذاتية للشاعر  "عبد الأمير الحصيري"، بلغة شعرية، مبنية على تكثيف العبارة وعمق المعنى، هذه النبرة الحكائية في النص تخاطب الواقع، وتستفز المتلقي الذي يترقب ما يفرزه هذا السرد في النص.

أعتمد الشاعر "علي لعيبي" على الخطاب الشعري الوصفي الذي يعتمد الرمز، لأن الرمز يحمل تداعيات تربطه بحكايات يومية تشير الى أمكنة وشخوص تتوقف على معرفة الشاعر لها. مازجاً في النص بين التقريرية المباشرة والرمزية الواقعية.

الرمز كأصطلاح هو (ما دل على غيره، وله وجهان: كدلالة المعاني المجردة على الأمور الحسية، ودلالة الأمور الحسية على المعاني المتصورة)، وقسم النقاد الرمز نوعين: رمز كلي؛ يستغرق النص كله. ورمز جزئي؛ يكون جزءاً من النص ولا يمتد ليشمل بناءه الكلي.

إن توظيف الرمز في النص الشعري الحديث دفع الشعراء الى إعتماده كوسيلة تعبّر عن رؤاهم الشعرية، فهو هدف، لجأوا اليه في (توفیر التعقید المطلوب في الشعر، وتكثیف الدلالة فیه). فالرمز في الشعر حسب تعبير "مارتن هايدغر" (يجعل المعنى ملتصقاً بالكينونة الأصيلة)، لأنه يعميق المعنى، ويستحوذ على لغة النص وتراكيبه وصوره، فيكون مصدر للإدهاش وتجسيداً لجماليات التشكيل الشعري، كذلك يعمق دلالات النص ويؤثر في المتلقي. ويعرف "أدونيس" الرمز بقوله: (هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص. فالرمز، هو قبل كل شيء، معنى خفي وإيحاء. إن اللغة تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، أو هو القصيدة التي تكون في وعيك بعد قراءة القصيدة)، "أدونيس، زمن الشعر، ص 160".

ما الذي جعل الشاعر "علي لعيبي" أن تكون شخصية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" موضوعاً رأسياً ورمزاً كلياً تدور حوله كل موجودات النص؟.

لابد أن نعرف إن تجلي حضور الشخصية الرئيسية للشاعر "عبد الأمير الحصيري" في النص، لأن (النص الشعري يعتمد على شخصية واحدة ساردة تروي الأحداث وتسرد الأحاديث والصفات والأفعال والأفكار)، "د. محمود الضبع، السردي في الشعر/الشعري في السرد، ص 355". فكان أختيار الشاعر "علي لعيبي" في نصه، شخصية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" كرمز كلي، أو (فكرة مطلقة)، ومحور تدور حوله كل الصور الشعرية، ودعامة رئيسية لتأكيد دلالة النص وتأصيل فكرته التي أغنت النص، وعمقت رؤى الشاعر الفنية. هذا الأختيار لم يكن أعتباطياً، بل جاء إيقونة قامت عليها فكرة بناء النص، أراد الشاعر من خلالها أن يطرح موضوعة "عبد الأمير الحصيري"، والتعبير عن أفكاره وارائه، ورؤاه الخاصة التي يريد أن يبثها للمتلقي في محاولة قراءة الواقع، كمعادل موضوعي لما يشعر به، من أزمة ذاتية يعانيها، وقلق وجودي، وتمرد على عالم لا يريده.

يختلف الشاعر "علي لعيبي" في أستحضاره رمزية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" عن غيره من الشعراء، أو أراد أن ينفرد في أستحضار شخصية لم يلجأ اليها آخرون. فأستحضار شخصية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" المتمردة ليس مجرد رمز لبيان وضع مؤلم له، وأنما غربة قاسية يلفظها شعرياً، أنتجت خطابه الشعري.

لقد أستغرقت شخصية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" النص كله، وشكل محاور النص الأصلية، وفكرته الأساسية التي تدور حوله جميع الأفكار، ويمكن الأستدلال على ذلك من خلال سياقات النص، أضافة الى بعض القرائن التي تختلف أشكالها بإختلاف بنائها، فتضفي على النص أبعاداً نفسية تتوغل في مكنونات النفس المنفعلة.

اعتمدنا في قراءة نص الشاعر "علي لعيبي" المنهج الوصفي الموضوعي الذي سار عليه الشاعر، لأن النص يفرض على القارئ قراءة واعية تحثه على كشف تعددية المعنى الخفي في النص، لما تحمله شخصية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" من غنى في أبعادها الفكرية والإنسانية. تمتلك هذه الشخصية القدرة على تجسيد مضمون الصورة الفنية التي يريدها الشاعر الذي أستهل نصه، وهو یقف أمام عذابات الشاعر "عبد الأمير الحصيري"، كشاعر تفرد بأسلوبه الشعري، وبطاقته الشعرية المتميزة، ورؤيته المعبر.

یمكن ملاحظة أن أدوات الشاعر "علي لعيبي" هنا كانت غير متكاملة في تحقیق شعریة عالیة لأسباب عدیدة أولها، أنه لم یكشف عن دواخل الشخصیة، وإبراز أهمیتها الشعرية والفكرية وقیمتها الإبداعية، رغم أن الشخصية حظيت بنصيب وافر من أهتمام الشاعر "علي لعيبي" في النتاج الفني للنص، كرمز كلي، ولكن (لا يقول فيها كل شيء، بل يكتفي بالتلميح فقط).

عاش الشاعر "عبد الأمير الحصيري" حياة أقل ما يقال عنها حياة صعلكة وتشرد، وهروب واغتراب داخلي، وتمرد على التابوهات التى تحكم المجتمع، رافضاً للقيم السائدة فيه.

واصفاً حاله بهذه الأبيات، المقتبسة من قصيدته (أنا الشريد):

(ما زلت طفلا غريرا، كيف تقربني

أنا التشرد والحرمان والأرق؟!

أنا الشريد!! لماذا الناس تذعر من

وجهي؟ وتهرب من أقداميَ الطرق؟!

وكنت أفزع للحانات، تشربني

واليوم!! لو لمحت عينيّ، تختنق).

الصعلكة عند "عبد الأمير الحصيري" رؤية فلسفية، لتفريغ الألم النفسي والوجودي، تمظهرت في (التشرد والتسكع، وإدمان الخمر، والتمرد)، فكانت حانات، ومقاهي، وشوارع بغداد، ملاذاً وسكناً له، فكان يُردد عبارته الشائعة في حانات بغداد (أنا شيخ الصعاليك منذ ابتداء الزمان)، لم تكن الصعلكة عنده تمرداً فحسب، بل كانت هوية بكل عذاباتها، ومأزق وجودي وتحرر ذاتي وهروب من واقع اجتماعي وسياسي وثقافي بائس.

الشاعر "عبد الأمير الحصيري" بعد أن توج أميراً للصعاليك في حانات ومقاهي بغداد، أضحى مسجوناً في فناء الشعر والخمر، ثم قتيل الشعر والخمر، وهو انتحار تدريجي بإدمانه على الخمرة، عندما عثر عليه ميتاً في غرفة في أحد فنادق بغداد البائسة.

(ولم يعدْ أمام المدفونِ إلا انتظارَ زواره القادمين

بانتظارِ محاكماتٍ عادلةٍ

وعودة بقايا طمأنينة من دهاليزِ الميتين في ترقبٍ

إن يفتحَ اللهُ نوافذَه

للمرةِ الأخيرةِ

ويطلُّ من وادي السّلام

على أسرابِ الموتى

وينتهي المطافُ

ويُدفنُ آخرُ مقاتلٍ

قبلَ ان يُصابَ بالجبن

لكثرةِ ما قرأَ آياتٍ وتعاويذَ السلامة

وقصصَ الحروبِ الخاسرةِ).

كان الشعر رفيقاً وملاذاً للشاعر "عبد الأمير الحصيري"، فهو ذو ذائقة شعرية، كانت حياته عبارة عن مغامرة شعرية كبرى، يضيء حانات بغداد ومقاهيها بقصائده التي يلقيها، عاش على أرصفتها وفي حاناتها، نائماً في شوارعها. الصعلكة في منظوره منهج حياتي، ومنظومة قيم، وأحتجاج على واقع، كونه مثقف، لم يخضع أو يتقيد بالتقاليد الاجتماعية.

لقد أصر الشاعر "عبد الأمير الحصيري" على نهج الصعلكة كموقف، تراه متنقلا بين الأرصفة والحدائق والحانات. فشاعت عنه القاب وأسماء كثر منها (شيخ الصعاليك)، (الشاعر الشريد)، (الشاعر المتمرد)، (صعلوك الشعراء). أراد الشاعر "علي لعيبي" أن يوظف ملامح هذه الشخصية بما يتلاءم وطبيعة التجربة التي يريد التعبير عنها، والتي لا يقتصر وجودها على الجانب الدلالي في النص، بل تسهم في التشكيل الجمالي للنص. فجاءت شخصية الشاعر المتمرد داعمة للنص بما أحتوته من رموز، وتوظيف لأسماء وأمكنة معلومة ومؤشرة في ذاكرة الجميع، تعطي دلالة من كينونتها، هذه الأمكنة التي أفترضها الشاعر "علي لعيبي" هي (باراتِ أبي نواس) و (حاراتِ المسيحِ) و (أزقةِ البتاوين) و (تمثال شهريار) و (مزارعِ البصرة) و (وادي السّلام) و (نهرِ دجلةَ)، هي أمكنة محلية، بغض النظر عن الموقع الجغرافي لها، وانما دلالتها في بنية النص، تتحول الى معرفة وبؤرة للتاويل، والذي دعا الى إدراك الشاعر "علي لعيبي" أهمية المكان، وهو استنطاق دلالاته التاريخية والحضارية، لأنه يعد خصوصية إنسانية، يعمق رؤية الشاعر ويعكس أفكاره، وحرصه على استرجاع  الأماكن ذات العلاقة بطبيعة تجربة الشاعر الذاتية، لأن ذكرها دلالة على تعلقها في الذاكرة، ومحوراً أساسياً في بنية النص الشعري المعتمد على البناء السردي، وتوظيفه توظيفاً عكس رؤية الشاعر لواقع "عبد الأمير الحصيري" وحالة الضياع والعزلة التي يعانيها، فشكلت صورة المكان وتنوعها (مشهداً بصرياً) سعى الشاعر من خلاله لإبراز قيمة المكان ومعاناة الشاعر. فكان المكان (وسيلة إلى إدخال القارئ مباشرة في الحياة الداخلية للشخصية)، "رينيه ويليك، أوستن وارين، نظرية الأدب، ترجمة محى الدين صبحي، ص235".

ثم أضيفت لهذه الإيقونات المكانية، شخوص (بدر شاكر السيّاب) و(وفيقة) و(أحمدُ الفراهيدي) و(امرئ القيسِ).

یعود الشاعر "علي لعيبي" في هذه الإيقونات إلى الوراء لیستمد من التاریخ رموزاً حیة یعید تشكیل الواقع على وفق رؤیته وتصوره، وإقامة نوع من التواصل بین الماضي والحاضر.

لقد استخدم اسم الشاعر "أبا نواس"، في سياق مسميات الأماكن، جاء من باب التناغم بين الأسمين الشاعر "عبد الأمير الحصيري" و الشاعر "أبا نواس"، في مجونه من جهة، وفي الصعلكة من جهة اخر ، ويرجع سبب هذا الاستخدام الى الدلالات المشتركة بين الشاعرين، لإن شعر أبي نواس (صورة لنفسه، ولبيئته في ناحيتها المتحرّرة، فكان شاعر الثورة والتجديد، والتصوير الفنّي الرائع، وشاعر خمرة غير منازع. ثار على التقاليد، ورأى في الخمرة شخصاً حيّاً يُعشق، وإلاهةً تُعبد وتُكرم، فانقطع لها، وجعل حياته خمرةً وسَكْرة)،"ويكيبيديا". أضافة الى شخصية الشاعر "بدر شاكر السيّاب"، الذي (أتى بغداد وراح يطلب فيها ما لم يجد في بيئته من طمأنينة حياتية، كما مال إلى الشرب والمجون يطلب فيهما الهرب من مرارة الحياة ومتاعبها؛ وكان إلى ذلك مفرط الحساسية يشعر بالغربة ولا يجد له في المجتمع مُستَقَراً، وينظر إلى الوجود من خلال غربته النفسيّة ومن خلال فرديّته التي كانت تحول دون اندماجه في المجتمعات التي عاش فيها، وكان من أشدّ الناس ميلاً إلى الثورة السياسية والاجتماعية)، "ويكيبيديا". وأما "أحمدُ الفراهيدي" وهو الضليع في اللغة العربية صوتاً وصرفاً ونحواً ودلالةً ومعجمةً وموسيقى، و"امرئ القيسِ"، (الذي لم يكن في مطلع حياته يؤخذ بأُبَّهة الملك وشهرة السلطة والحكم، بل شغف بالشعر يصور به عواطفه وأحلامه وبالحياة ينتهب لذائذها. وقد طرده أبوه وخلعه لمجونه وتهتكه، فهام على وجهه مع جماعة من الصعاليك وكانوا إذا وجدوا ماء أقاموا عليه يصطادون وينحرون ويحتسون الخمرة ويلهون)، "موسوعة المعرفة". هذه الأسماء كقرائن ذات صلة لما حصل للشاعر "عبد الأمير الحصيري" هذه التوظيفات للشخوص والأمكنة، لا يمكن أن يكون توظيفها أعتباطياً، وانما تم توظيفها من لدن شاعر متمكن من أدواته، وظفها كدلالات لفظية في سياق النص الشعري، وأضفاء مسحة جمالية على صياغتها وتراكيبها في توليد فضاءات النص، وبناء الفكرة الشعرية داخل النص.

***

حسين عجيل الساعدي

كيف أكتب قصة؟.. سؤال طرحته على نفسي، مدة نافت على نصف القرن.. هي مدّة معاقرتي للكلام. في البداية كنت أطرحه على نفسي، أما فيما بعد، بعد أن بتّ واحدّا من كتّاب القصة وصدرت لي مجموعات قصصية عديدة، تضمّن بعضها قصصًا بات يُدرّس ضمن المناهج التدريسية في بلادي، فقد انضمّ إليّ اخرون في طرح هذا السؤال.

في كلّ مكان أذهب إليه تقريبًا يطرح عليّ مثل هذا السؤال، لا سيّما من قبل الطلاب الذين التقي بهم أو أنوي تعليمهم الكتابة الإبداعية في مجال كتابة القصة.

فكيف تكتب القصة؟ وماذا عليك أن تفعل كي تتمكّن من كتابة قصة تلقى القبول وتحظى باهتمام القراء؟ وماذا يُطلب منك كي تنضم إلى نادي كتّاب القصة؟

أجيب بداية، أن حال كاتب القصة نادرًا ما يختلف عن حال سواه من كتاب القصة، المجلّين، فهو إنسان حسّاس، يمتلك درجة عالية جدًا من الحساسية، يعمل أربعًا وعشرين ساعة في اليوم، كما يقول الكاتب دي فوتو في كتابه الآسر عن " عالم القصة"، ويجسّد حساسية دائمة الاشتعال ومتميّزة تجاه الواقع، كما يري فرانك اوكونور في كتابه الهام عن الفن القصصي" الصوت المنفرد".

هذا الانشغال المتواصل وهذه الحساسية المتوترة، تدفعان بصاحبهما، لأن ينشغل بكلّ ما يحيط به، فتراه يتوقّف منشغلًا بالمرأة المسنّة الذي رآها وقد استقلّت باص الساعة السابعة المسافر من مدينته الناصرة إلى المدينة القريبة حيفا، ويرى ما وضعته على وجهها من أصباغ وعطور لا يمكن لعطّار أن يعيد إليه بهاء كان، فيقول لسان حاله إن العطار لا يُصلح ما أفسده الدهر، وقد ينشغل بهذه المرأة المسنّة، وينساها ثم يعود إليها ليتذكرها مجدّدًا، فإذا ما بقيت، انتابه إحساس، مثل ذاك الذي انتاب الكاتب العربي المصري يوسف إدريس، بقيمة ما وقعت عينه عليه من إيحاءات، أما إذا نسيها، فانه يتأكّد من أنها لا تستحق عناء التذكر وينساها إلى لا رجعة، آملا في قدحة أخرى، يبعثها" سقط زند" آخر على طريقة أبي العلاء المعري.

إلحاح هذه المسنّة قد يدفع الكاتب مع مضي الوقت، لأن يوغل في عالم متخيّل لتلك المرأة، فهي مسنّة، إذن هي عاشت في زمن النضال الفلسطيني، في عام النكبة الفلسطينية، أما سبب سفرتها تلك فلا بدّ من أن يكمن وراءها سرّ، فما هو؟ إنه خبر غريب مذهل تلقّته تلك المرأة، على حين غرّة، من محبوب لها كان مقاتلًا إبان الفترة المشار إليها، ذاك المحبوب كتب إليها ما مفاده، انه أقام منذ عام النكبة في حيفا متشبثًا بأرض الوطن، وانه لم يتّصل بها منذ ذلك الوقت لسبب بسيط هو أنه لم يشأ أن يكون سببًا للتنغيص عليها وعلى حياتها الشخصية مع زوجها!! أما دافع كتابته لها، فانه يكمن في سبب لا يقلّ أهمية عن ذاك الذي جمع بينهما أيام فلسطين، هذا الدافع يتمثّل في أنه بات يشعر بأن أيامه قليلة على هذه الأرض، وأنه يريد أن يراها في لحظاته الأخيرة.

تلك المرأة، وقد باتت واضحة المعالم وأطلق عليها خالقها مجدّدًا اسم كلاريس، حملت نفسها يوم الأحد، وانطلقت في باص الساعة السابعة إلى حيفا، بيدها عنوان ذاك الرجل الذي كان، على أمل أن تلتقي به ولو في لحظاته الأخيرة، لقد بات واضحًا أن تلك المرأة إنما تزيّنت واستقلّت الباص، في تلك الساعة، لتلتقي بحلم كان وآن لها أن تلتقي به ولو في لحظات رحيله الأخيرة. لكن هل ستلتقي حلمها ممثلًا بذلك الرجل؟ سؤال لا تجد له أية إجابة، لهذا تواصل السفر وفي عينيها أكثر من حلم.

يتوقّف الباص أخيرًا في حيفا، هناك تُسارع للنزول منه، ترتقي درج البيت في الدور الذي حدّده لها. قبل أن تصل بخمس من الدقائق، تنطلق صرخة، إنها صرخة مدوّية تنبئ بموت ألفته وعرفت بأية نبرة من الصوت يـُعبـّر عنه الناس.

في تلك اللحظة تدرك أنها لم تتأخر منذ ذلك العام، عام النكبة، إلى العام التي تعيش فيه، وإنما تأخرت دقائق، لا تعدو عدد أصابع اليد الواحدة، فتعود على عقبيها.

ترون والحالة هذه، أن القصة ولدت من منظر مميّز ترك تأثيره الخاص في نفسية صاحب القصة، ثم تشكلت في أبعاد ذات علاقة بما عاشه الكاتب من تجربة حياتية، كونه ابنًا لعائلة من المهجّرين الفلسطينيين وفدوا للإقامة في مدينة الناصرة، بعد تهجير إسرائيل ألقسري لهم من قريتهم سيرين، وهي مهدّمة حاليًا وكانت تتبع لمنطقة بيسان. كما ترون.. القصة ابتدأت بتلك المرأة المُسنّة، ثم تنقّلت معها لتعيش بعضًا من هواجسها وأفكارها، ثم انتهت تلك النهاية الفاجعة التي قادت إليها الأحداث، بكلّ ما تضمنته من فجائعية حفلت بها" التغريبة الفلسطينية"!

صاحب القصة، كما قد ترون أيضًا، اعتمد على مخزون لا باس به من المعرفة بالنفس الإنسانية، كما استعان بتجربة حياتية يومية لها زمانها ومكانها، فهي لا تحلّق في فضاء الخيال إلا لترتد إلى الواقع، ولا تتضاد مع الواقع إلا لتلتصق به أكثر، هي باختصار تحاول أن توجد مساحتها المتخيّلة الذاتية، غير أنها لا تقوم بأي تعاكس مع الواقع، بقدر ما تحاول أن تتصالح معه عبر فتحها نافذة جديدة على الرؤيا، تضيف إليه، ولا تنتقص من حدّته.

بناء على هذا كلّه، يمكننا ملاحظة أن صاحب القصة إنما يعيش تجربة فريدة من نوعها ويحاول دائمًا أن يقدّمها إلينا على أنها الواقع، علمًا أنها ليست الواقع بحذافيره، وإنما هي واقع متخيّل قد يكون أشد صدقًا من الواقع، أقول هذا لسببين أحدهما أننا في القصة نلمس واقعًا متكاملًا، وليس مُجتزءًا، كما هو الشأن في الحياة اليومية المعيشة، والآخر أنه يقف وراء القصة، كاتب ذو حساسية دائمة الاشتعال، لا يخبو لها أوار، وهو ما يمكّن صاحبها من تقديم واقع متخيل ومتكامل أيضًا.

***

بقلم: ناجي ظاهر

في إطار الجهوية الموسعة وسياسة اللامركزية آن الأوان لإبراز مؤهلات وخصوصيات المحلي في مختلف المناحي السياسية الاقتصادية والثقافية... لذلك نفتح اليوم ملفا بكرا نتحدث فيه عن "الرواية في أسفي" مع ما يثيره المفهوم من إشكالات: هل المقصود ما كتب في المدينة وحولها؟ أم المقصود ما كتبه أبناؤها والمنتمون إليها مولدا ومنشئا؟ وهل يدخل في المفهوم العابرون والمنتمون للمدينة مسكنا ووظيفة... وما مدى مساهمة المرأة في الرواية بهذه المدينة...

لا بد في البداية من الإشارة إلى مدينة أسفي عرفت كتابة الرواية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي برواية " الهاربة" لمحمد سعيد الرجراجي، التي صدرت في طبعتها الأولى عن مطبعة الأندلس، الدار البيضاء سنة 1973 متزامنة مع بواكير الرواية في عدد من الدول العربية كليبيا والإمارات، وعمان التي ظهرت بهما أولى النصوص الرواية بداية السبعينيات بل ومتقدمة على دول مثل موريتانيا والصومال التي تأخر ظهور أول نص روائي فيهما إلى سنة 1981 بإصدار رواية الأسماء المتغيرة لأحمد ولد عبد القادر، ورواية "مان فاي للصومالي إبراهيم هود، وقبل أن تكتب أول رواية في قطرة سنة 1993 "العبور إلى الحقيقة" للروائية شعاع خليفة وإن جاء في مقدمة الرواية أن صاحبتها كتبتها سنة 1987، ليتضح أن أسفي سبقت دولا ، ليتراكم العطاء بالشكل الذي نعرفه اليوم، حيث (قرأت منها أزيد من عشرين رواية ويصعب حصر جميع روايات المدينة)

لكن الأكيد أن روايات أسفي تجاوزت الحدود المحلية واستطاع بعضها انتزاع جوائز عالمية يكفي ذكر من جائزة كتارا (رواية جينوم لزكريا أبو مارية) واللائحة القصيرة لجائزة البوكر (تغيبة العبدي المشهور بولد الحمرية للروائي عبد الرحيم لحبيبي) وجائزة الشارقة (سيرة الصمت لياسين كني) )وجائزة منف بمصر التي احتف فيها روائيو اسفي المرتبة الأولى والثانية برواية بروزاك لسيومي خليل ورواية انتقام يناير للكبير الداديسي) إضافة إلى الظفر بجائزة الطيب صالح في السودان ب"حالة حصار" لزكريا ابومايا وغير ذلك كم الإنجازات التي حققتها روايات اسفي...

لكن مقابل هذا التراكم وهذه الإنجازات يسجل المتتبع حضورا خافتا لروائيات المدينة إذ انتظر القارئ حوالي أربعين سنة ليكون ميلاد الرواية بآسفي، فلم نعرف لحد اليوم نصرا روائيا اقدم من رواية "طريق الغرام" لربيعة ريحان الصادرة عن دار توبقال سنة 2013.، وظل الإنتاج الروائي يراوح مكانه بإصدارات قليلة... وكانت لوباء كورونا دفعة قوية للنساء في الإبداع الروائي إذا كان إنتاجهن في في الرواية خلال السنوات الأخيرة أكثير مما أنتجن قبل ذلك ، هكذا أضافت الروائية ربعية ريحان روايتين هما :

* رواية الخالة أم هاني: عن دار العين للنشر والتوزيع، 2020

*  ورواية بيتنا الكبير، دار العين للنشر، 2022.

كما أصدرت الكاتبة أسماء غريب ثلاث روايات هي رواية السيدة كركم 2019 / رواية أنا النقطة 2020 ورواية وريثة السر2022 ، كما صدرت باكورة الروائية منى الهردي "بحيرة البجع رواية الموت جوعا " عن مؤسسة اسكرايب للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 2022، وفي ذات السنة أطلت على القارء وراية فاطمة المعيزي "ما تبقى من ذاكرة الرماد" صادرة عن مؤسسة بيبلومانيا

ولمساعدة الدارسين على البحث الأستاذ الكبير الداديسي يضع رهن إشارتهم هذه البيبلوغرافيا الأولية تتضمن حوالي أربعين رواية لأهم روائيي المدينة مرتبة حسب سنوات الإصدار:

1. محمد سعيد الرجراجي " الهارية" مطبعة الأندلس 1973

2. حسن رياض "أوراق عبرية" مطبعة المعارف الجديدة. ط1 الرباط 1997

3. صلاح الوديع الاسفي "العريس" مطبعة النجاح. 1998

4. أحمد الفطناسي "ملح دادا" دار وليلي منشورات حوض أسفي 2003

4 محمد أفار "مجهولة وغريب: رحلة تيه و أمل" دار وليلي مراكش. 2004.

5 أحمد الفطناسي "الخطايا" مطبعة وليلي 2006

6 عبد الرحيم لحبيبي "خبز سمك وحشيش" إفريقيا الشرق. ط1 الدار البيضاء 2008

7 زكريا أبو ماريا "جلنار" جائزة الشارقة 2008

8 أحمد الفطناسي "وشم الجنوب" مطبعة نورسافي 2013

9 حسن رياض "زاوية العميان" منشورات وزارة الثقافة. الرباط 2009

10 عبد الرحيم لحبيبي "سعد السعود" إفريقيا الشرق. الدار البيضاء. 2010

11 أحمد السبقي "باب الشعبة ج1" مطبعة طوب بريس. الرباط، 2011

12 ربيعة ريحان "طريق الغرام" دار توبقال للنشر. 2012

13 محمد أفار "درب كناوة، ج1" مطبعة سفي غراف آسفي. 2013

14 محمد أفار "درب كناوة، ج2" مطبعة طوب بريس الرباط. 2013

15. عبد الرحيم لحبيبي "تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية" إفريقيا الشرق، الدار البيضاء. 2013

16. عبد الله إكرامن" السيد "س" ط1 مطبعة الكتاب آسفي. 2013

17 زكريا أبو ماريا " جينوم ـ مزامير الرحيل والعودة" جائزة كتارا 2014

18. محمد نادر فهمي " تراب الصيني" دار النشر كوول ن هوت ميديا 2015

19. عبد الرحيم لحبيب "يوم يبعثون" إفريقيا الشرق الدار البيضاء. 2016.

20 المصطفى حاكا"أناس عرفتهم ط1 " دار وليلي للطباعة والنشر مراكش. 2017

21. ياسين كني "تيغالين حلم العودة، ط1 " المكتبة العربية للنشر والتوزيع القاهرة 2017

22. خليل سيومي " بروزاك" روافد للنشر والتوزيع 2017

23. حسن رياض "اسفار يعقوب الأربعة" المركز الثقافي العربي بيروت/ البيضاء 2018

24 عبد الرحيم الدريوشي النيني "نهاية بحار" دار سليكي طنجة. 2018

25 ياسين كني " سيرة صمت" دار راشد للنشر ط1، الإمارات 2019

26 يا سين كني "اسفار القلوب والصوارم" مكتبة نور 2019

27 عبد الرحمان الفائز" النادل والصحف، ط1" المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش 2019.

28. أسماء غريب"السيدة كركم" دار الفرات للثقافة والإعلام ط1 العراق. 2019

29. الكبير الداديسي "انتقام يناير" ط1 دار بلال فاس 2020

30. ربيعة ريحان "الخالة أم هانئ " دار العين للنشر.2020

31. الكبير "الداديسي قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط" مؤسسة الرحاب الحديثة بيروت 2021

32. منى الهردي "جزيرة البجع رواية الموت جوعا" دار اسكرايب القاهرة 2021

33 الكبير الداديسي "قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط طبعة منقحة مؤسسة الرحاب الحديثة بيروت 2021

34. فاطمة المعيزي "ما تبقى في ذاكرة الرماد" مؤسسة بيبلومانيا 2021

35. أسماء غريب "أنا النقطة" دار الفرات للثقافة والإعلام 2021

36. عبد الرحيم الخصار "جزيرة البكاء الطويل" دار المتوسط 2022

37. أسماء "غريب وريثة" السر دار الفرات 2022

38. ربيعة ريحان "بيتنا الكبير" دار العين للنشر 2022

39. الكبير الداديسي "رقصة الفلامنكو" مؤسسة الرحاب الحديثة بيروت 2023

40 عبد الرحمان شكيب "حدائق درب مولاي الشريف" سيرة روائية دار سليكي 2023

41. عبد الرحيم الدريوشي النيني "بهيجة واخواتها" دار سليكي 2023

***

 الكبير الداديسي - المغرب

...................

* رابط لفيديو طرحت فيه الخطوط العريضة لهذا المقال

https://www.youtube.com/watch?v=YMlyK3V5Jtw

مسرود الوجع الشخوصي ومسافة تعالقات المواطنة المأزومة

توطئة: إذا شئنا القول التقويمي في حدود مستوى استعدادات الأفعال في رواية (سواقي القلوب) لإنعام كجه جي ـ مسرودا في أشكال الخطاب ـ فذلك لأن الوظائف والأحداث والشخصيات تستمد عناصرها السردية بموجب وضعيات حال (السارد المشارك) ـ متعديا ومقيدا ـ بعلامات العوامل المتفصلة من جراء معطيات الخروج بالموضوعة إلى مواقع متمفصلة من حركية الأدوار العاملية، والتي تحددها وقائعها رؤية متوحدة ومتغايرة من الأوضاع الشكلية من فضاءات الرواية.. لعل القارىء إلى علامات الرواية الدلالية ومختلف مشاربها الوحداتية المفصولة ما بين اختلاف المكان ودلالات الإيحائية والصفاتية، بأن هناك ثمة ضمير أفعالي يتماشى ويتوازى ويتساوى إلى جانب الأسباب والمبررات التي جعلت من مستوى التمايز الشخوصي منظورا متعددا ومتوحدا في استقبال ملامح الغايات المصيرية المشتركة، لذا لا تحتل الأغراض الشخوصية في دائرة موضوعتها سوى التغيرات الشكلية الطفيفة التي تعتمدها الرواية بشكلها الزاخر بحكاية (الوجع العراقي؟) بالأحوال والمراحل والانساخ عن ويلات الواقع المأزومي في مستوى لا تغيب عنه دلالة الاغتراب والتمييز وديمومة الانعزال خارج قهرية الأوطان.

ـ الأنا العاملية ومحكيات الانفصال والاتصال بلغة المسرود

تواجهنا موضوعة الرواية بالانفكاك والتجسيد وصولا إلى البعد الأسمى في التوصيف نحو مغزى الغايات المواقعية المتصالبة بوصفها دلالات للأنا وللأخر كوسيلة للعبور أو الانقطاع عن عملية الوصل الفعلية. تنفرد استهلالات البداية الروائية بلبوس تيار الوعي أو المسرود المونولوجي ـ مكونا ولونا وتدويرا ـ نحو عكس تداعيات المؤشرات القصوى من المحصلة الحكائية المبثوثة في تفصيلات الوازع (المتن ـ المبنى) المحصل بإشارات فعلية من خصوصية هذه العلاقة الاستهلالية من عتبات النص ـ تداخلا إظهاريا ـ بالشكل الخيوطي الذي راح يمكنه تشخيص وتقليب الإشارات والأحوال الوقائعية في محاور السرد، إلى جملة اجتزاءات في سرد الأحداث (الاستباقية ـ تعاقبية الأحداث تحولا) لذا تركت فينا الأحداث الروائية ذلك الأحساس الذائقي بأن كجه جي تود تقليب الزمن بضمير الأنا الشخوصية المشاركة في أطوار خاصة من جرعات التداعي كوسيلة مختلفة في موارد الحكي.

1ـ الفاعل الشخوصي: مخاطبة المسرود واستعادة المكتوم:

فمن خلال إطار فاعلية المروى مسرودا، نتعرف على حالات الكشف بالوسائل التقنية الخاصة بماهية السارد المشارك، والذي لم نتعرف على هويته في كيفيات الأحداث السردية، سوى كونه منفلتا من قيود التسمية والكنية الاشارية حول مصدرية التحامه في إطار المعرف الشخوصي والأحوالي في سيرة الحكاية الروائية. لذا وجدناه من جهة غاية بالأهمية بوصفه كأنذلاق الحبرر فوق لبوس ثوب الرواية متطاولا في رصد الهواجس وتعريف منطويات المحابس السرية لأفئدة الذوات، والمبادر أولا في أستشعار الفاعلية الجروحية واللذية في بواطن الأفعال.. فهو من جهة أولى بمثابة (القوس والوتر والانقضاض) ومن جهة ثانية كحالة الاتجاه من المغلق إلى المفتوح، كالهدم والبناء، كنهرا هادرا في الجداول الذاكراتية الآسنة. ولذلك وفي سبيل ذلك احاطنا لهذه الوحدات الأولى من الكشف واللاكشف في شعاب الاستقبال و التلقي: (أمضيت زهرة سنوات عمري وأنا أنتظر هذا الإيباب وأرسم له، على صفحة الغيب، مئات الرؤى السعيدة، دون أن تكون بينها الصورة القاتمة التي أراها الآن ـ دخلت إلى الوطن، ذات ضحى نسياني ساخن ـ ثلاثة أحياء في الداخل، وفوق رؤوسهم يقبع، على سقف السيارة، تابوت ملفوف ببطانية بالية. /ص7 الرواية ) تتخذ الأحوال المكانية والزمانية والعاملية وجودا مستقلا في علاقتها بالفضاء المعطى بالحالة المتمركزة بالفاعل المحور المباشر، وبهذا يكون هو السارد وقد ترجم هذا الفضاء المعطاة بعين (الاتصال = الانقطاع) متخذا من زاوية رؤية الواصف، الشخصية المشاركة والمتواجدة ـ الشاهدة، فأصبح الفضاء الاستهلالي من الوحدات (تعليق الراوي ـ مسافة الرؤية ـ المبأر تأثيثا) حيث استطاعت عين السارد تتمت المتأمل للفضاء (المقيد من زمن الماقبلي: أمضيت سنوات .. وأنا انتظر.. هذا الإياب وأرسم له = اتصال بعلاقة ناظمة ـ السارد بالامتداد (النصي) وتجد الاشارة إلى أن مستوى (الذات العاملة) ها هنا حلت في حدود التلقي الناتج عن حصيلة الدلالة المتصلة بالذوات الفاعلة: (ثلاثة أحياء في الداخل ـ فوق رؤوسهم يقبع) الافتراض المعادلاتي هنا يمنحنا شكلا ترميزيا يظل مرتبطا بأحوال البنية الاجرائية (الثيماتية) للرواية في شكلها التحليلي، وذلك ما يجعلها تكتسب مقصديات خاصة في محددات موضوعة الرواية، لذا فإن هذه الوحدات من الاستهلال جاءتنا واردة بخطاطة مؤولة في كون موضوعة الحكاية تبص لذاتها (أدلة علاماتية) خاصة ومخصوصة في علاقة وصياغة وأداء رؤية عين الواصف بالمسرود النصي الكلي: (دخلت الوطن = العالم الفنائي من حدود مقصدية الرائي / في سيارة أجرة تنقل ثلاثة ركاب = المستوى الدينامي بالدليل / جالسا إلى جوار = فضاء علاقة ماثلة /في المقعد الخلفي تكومت كاشانية خاتون على نفسها = دليلا مفردا بتأجيل المقصدية / مثل صندوق عرس عتيق = الدليل الاستهلالي بين مدار الذات الواصفة ومؤشرات الرؤية المرتبطة) وقد تكون حالة الانتقاء هنا انطباعية نوعا ما، ولكنها تلخص بالضبط حدود الدليل الجزئي إلى أسانيد المدلول المداري في الرواية، وبعد دخولنا إلى سياق العالم الروائي ذاته، نلاحظ الدليل الاستهلالي في بداية وحدات الرواية كان مؤولا لمدار كافة تعالقات النوعية واللانوعية من السياقات العامة والخاصة المرتبطة ببعضها البعض.

2ـ المظاهر المؤنثة وأدلة الواصف الأنثوية:

في الواقع استندت إنعام كجه جي إلى ضمير المذكر عندما حولت من ضميرها المؤنث إلى مرونة ذكورية متصلة بحياة شخصيتها الساردة الذكورية، ولكن الواقع الإجرائي في تعيينات الدور الذكوري لساردها الشخصية لا تؤشر بأي حالة ما تعكس دوره الذكوري إطلاقا، فهناك إيحاءات ظلت تعكس بأن وراء هذا السارد ثمة ملامح لأنثى في مجمل أوصافها وشرائط خصوصيات القابلية المستحالة على أن يكون هذا السارد ذكرا، رغم ما تسعى إليه إنعام من فحولة ساردها المؤنث: (حيث لاحت لي، بعيدا عن يمين الطريق الصحراوي، نخلتان تصفق سعفاتهما مع لفح ريح غبراء، فاض أمامي حتى كاد ينز دمعا من عيني، تذكرت المرات القلائل التي بكيت فيها. /ص8 الرواية) لعل إنعام لم تجرب العيش في جلباب ومهام ومشاعر الرجل جيدا، فهذه الوحدات لم تكن معنية بمشاعر ذكورية تماما، فالرجال لا تبكيهم الأحوال العابرة إطلاقا ولا حتى الأسوأ منها. فالكاتبة قد لاحظناها في مواضع عديدة من روايتها لم توازن بل لم تحسن رسم مظاهر الرجل في إطار شرائطه الحقيقية، لذا ظل ساردها المشارك يبدو حينا مخنثا وحينا وكأنه شبح فتاة تهوى دور الرجولة المفتعلة، على أية حال لا يعنينا من أمر هذا السارد المؤنث سوى حدود تمظهرات السرد والشخوص من خلاله أحيانا. أردت أن أقول أن أحداث موضوعة الرواية (سواقي القلوب) رواية تتحدث حول مواجع عراقية مؤثرة حقا، خصوصا فيما يتعلق بشخصية كاشانية العجوز الأرمنية ومشاعرها الحسية إلى مدينتها العراقية الموصل، كذلك ما جرى لشخصية ساري الذي كانت تعصف به أهواء أحاسيس الأنوثة أكثر من الرجولة ونجوى وسراب وزمزم.

ـ تعليق القراءة:

ما يؤكد رجحان دليل الرواية نحو إيجابية الذائقة القرائية، هو حفاظها على طبيعة ملامحها الإنتاجية الموضوعية المؤثرة.. وعلى هذا النحو لا أزعم لرواية (سواقي القلوب) بوصفها فعلا روائيا متفردا لا طبعا، فقط كون حكايتها حلت تعبيرا مشروطا على سلامة وصحة المشاعر الأكيدة لمواطنة عراقية تحيا في باريس وتكتب رواية معبرة عن مدى صلاحية وديمومة مشاعر المواطنة عند هذه الكاتبة لبلادها الأم. فالتفكير في دلالات الرواية يحملنا إلى التعاطف مع مقصديات الذوات التي تحيا بعيدا عن أوطانها، لولا أن الكاتبة لا تبتعد أحيانا عن عملية تفريغ وتخفيف من انفعالات حسية تذهب في أوقات أصطدامها مع ظروف منكدة تواجه هذه الأفراد في حياتها اليومية، وليس بالضرورة القصوى من أن تكون الأبنية الدلالية في هواجس النصوص مظاهرا ملازمة لكل حالات الكاتب الطبيعية والشخصية. عموما تبقى رواية (سواقي القلوب) صورة سردية حققت لقارئها فسحة قرائية جمالية محكمة في عناصر انظمتها الدلالية والاسلوبية صعودا نحو تراجيديا تراتيبية مصيرية قاهرة جسدت كفاءة الفعل الروائي ضمن مشروعية مسرودة الموجع الحسي في القوالب الشخوصية ومسافة تعليقات حسية المواطنة الصورية المؤطرة بأقصى إحباطات الوطن واغتيال ظلال الأحاسيس الكتابية الطازجة والمعلبة والجادة والمفتعلة. لذا تبقى مغامرة التجارب الروائية الناضجة مختلفة ومتراوحة، فمنها من ظل أنموذجا عبر آليات، وموضوعة التجربة ومنها من تكاد أن تكون عبارة عن ردود انفعالات ومحاكاة تجملها اللغة الكنائية ومظاهر أصحاب النصوص الخارجة عن حقيقة أحكام القيمة داخل جمال عوالم النصوص وجديتها الابداعية المؤثرة في الذوق والذائقة القرائية الرصينة.

***

حيدر عبد الرضا

نعثر في رواية (خاتم) للروائية السعودية رجاء عالم على شفرات متداخلة متقاطعة: ثقافية – سوسيولوجية- جنسية، وهي تشكل الجسد المزدوج (البطل) وتصنع المعنى، وبغياب الجسد يغيب المعنى برمته في السرد، باعتباره (أي الجسد) نقطة التقاء وتنظيم لهذه الشفرات المندمجة، والمحتوي على المعنى الكلي، وفي الوقت ذاته تكون بنى الشفرات هنا مشتركة في صناعة بنية النص وبنية الجسد، وبتداخلهما تتحقق الشعرية- الجمالية للسرد الروائي، فالسرد لدى الروائية رجاء عالم يختلف عن السرد الذي يحمل الطابع الذكوري، من حيث الرؤية، والتجربة، والمخيلة، فهي تهدف الى تكسير النموذج السردي الذكوري بتفتيت الوحدات السردية وتعرية عجزها... تحطم نموذج الحبكة الذكورية لتترك النص هشيما، كما يقول الناقد عبد الله الغذامي، وعليه تتحقق هنا أسبقية الجسد على النص، بمعنى ان النص يخرج من جسد لا هو بالأنثى ولا بالذكر، وهذه الرؤية تقع ضمن الشفرة الرمزية التي تعتمد على الجسد الإنساني بوصفه كلية النص، وبهذه العملية ينتج النص المشفر.

ومن خلال الجدلية – الجنسية، تتكشف لنا العلاقة المتناقضة داخل الجسد، وتميزه عن الآخرين، وتوحده مع العالم، وغربته مع الواقع، ويتحكم بهذه العلاقة الوعي الذي تمتلكه خاتم، وعي يتصف بالكثافة، يعمل على تعميق الإحساس بالانقسام داخل جسدها، واختلافه، ففي هذه الحالة يكون هنالك جسد مزدوج ووعي متداخل، غير متناقض، منسجم، ومنهما نستخرج المستويين التكويني والدلالي لشخصية خاتم، والتغلغل الى أعماقها غير المستقرة، القلقة، التي تصبو الى الوحدة والتكامل، بعيدا عن هذه الازدواجية، والتمزق بين اتجاهين مختلفين، لكن هذه الازدواجية تتوقف تجاه الخارج، لتمارس وضعها الحقيقي المفروض عليها بيولوجيا والمحكومة به اجتماعيا.

ان رجاء عالم تتجاوز النظرة التي ترى في الأنثى الجانب السلبي الضعيف للكائن الإنساني الخاضع للرجل، وفي الذكر الجانب الايجابي القوي المخضع للأنثى،ونلمس ذلك في خاتم الشخصية الإنسانية المركبة، التي صورتها الروائية بقصدية عالية ودقة عميقة، ولتفسر الاجتماعي بالفردي، وان الموجود الإنساني ليس هو الخنثى، وانما الإنسان: الأنثى والذكر، الإنسان الذي فيه الطبيعتان الذكورية والأنثوية، فأنهما الحياة وجوهرها الإنساني.

منذ بداية الرواية نحس بأن هنالك شيئا مفقودا أو غائبا عن القارئ: (انشق غشاء الخضرة وبان ما بين ساقي الوليد، بإصبع مرتعد أشارت سكينة لما بان، وجاوبها اصطكاك أسنان الشيخ نصيب – ص7)، انها الشفرة الغائبة التي يبنى النص عليها، انها الشفرة التي تعمدت الروائية ان تخفيها، انها حقيقة خاتم، وهذه الحقيقة لا تكشف من قبل الأخوات والجواري، الا بلحظات قبل مقتلها في نهاية الرواية، فتكون حقيقة مطعمة بالمرارة والخديعة لديهم، فلقد ارتسمت على وجوههم المذهولة (نظرة هي مزيد من دهشة على ذعر وغيظ وغدر ذاك الاكتشاف- ص31) لقد رأوا السر- الحقيقة أخيرا، بينما القارئ يعلم به مسبقا دون ان يراه، لانه كان قد فك رمز هذه الشفرة أثناء القراءة المتوارية في الكلمات، فالرؤية والمعرفة انحصرت بالأم سكينة، والأب الشيخ نصيب فقط، وان القراءة العميقة للرواية تستدعي ميدانا دلاليا من الكلمات، فالقارئ – الناقد ينتقل عبر الشفرات من النص الى لا تناهي الشفرات ليكشف المعنى(1)، وهذا يدفع بالقارئ لكي يتجاوز السر السؤال الذي يقول: ما هو؟

والموقف هذا يتشابه مع موقف سارازين بطل رواية سارازين لبلزاك، حيث يكتشف الخديعة التي وقع فيها، وحقيقة المرأة التي أحبها زامبنيلا كونها (كونه) لا امرأة ولا رجل، فإنها (حقيقة مريعة الى نفسه)(2)، فالقارئ هنا لا يكتشف تلك الحقيقة- السر، الا مع سارازين قبل مقتله في نهاية الرواية على يد رجال الكاردينال سيكونيارا، عشيق زامينيلا، فقد كانا يعتقدان بانها (المرأة، بكل مخاوفها المفاجئة، وكل نزواتها الطائشة، واضطراباتها الغريزية، واجتراحاتها من غير سبب، وتبجحاتها، ورقة مشاعرها) (3)، بينما هي إمراة زائفة، وولد مزيف في خاتم، وفي كلتا الروايتين سارازين وخاتم، تكون شفريتهما الرمزية: التشوه، الذي هو المحور الرئيسي لهما، أي لا طبيعية الجسد.

من هي / هو خاتم ؟ تقول زرياب لرفيقاته في المبغى:

بنت في ثوب ولد، مثلما خطفونا من أهلنا خطفوه من جسده، نقلوه لجسد، لا هو بالذكر ولا بالأنثى، في الأفراح والولائم أنثى، وفي الصلوات ذكر، أي لغة يمكن لجسد هذا الإنسان ان يتكلم؟ لو استراح للغنج واسترسل فمن أين يجئ بالرجولة لحمل ثوب؟ جسد محبوس في لغتين، صار للشك في الوجهين لا هو يستريح للأنثى ولا للذكر- ص22.

ان تأويل (أي جانب من جوانب النص يعد تأويلا لواحدة من الشفرات " القوة الغائبة " التي تعمل بصمت في عوالم المعنى المضطربة ضمن إطار " شبكة اللغة المتاخمة" التي تشكل انسيابية النص) (4)، بمعنى انتقال الدراسة الباحثة عن المعاني على مسار واحدة من الشفرات، الواقعة خارج نطاق النص، وفي استطاعتنا القول بان عملية تفكيك الشفرات تعطي المجال لإنتاج نص آخر.

وكما قلنا فان النص محصور في الجسد، المهيمن عليه هيمنة مطلقة، والذي يكون حاضرا في جميع ثناياه، وصوره المختلفة، بتناغم وانسجام، والخاضع لدلالات تأويلية لا تخفي على القارئ: الجسد – المطر، الجسد – الآذان، الجسد- العود، الجسد- الغناء، الجسد- الحجارة،الجسد- الرؤية، الجسد- النور. الهواء. الصوت.

الجسد يخلق الجسد، من الجسد ينبعث جسد، وذلك باتحاد المرأة والرجل، اما في رواية خاتم، فالجسد معطل، ولا يستطيع القيام بفعلا الأنوثة والذكورة، فهو معطل عن خلق الحياة (لماذا لا يطاوع جسدي فيستسلم لهذه الرغبة الحارقة لاحتواء جنين بجسدي، ولا يستسلم للرغبة في الانصباب لجسد؟!. ص27)، رغبة خاتم اللا محدودة في إعطاء الجسد هوية مستقلة مختلفة عن الآخر، لكن هذه الرغبة تبقى واقعة في ميتافيزيقيا الحضور، ويبقى الصراع محتد داخل الجسد، وفي حالة ألم، اما تجاه الخارج فيتوحد، ليتوجه في محاولة بناء علاقة متوازنة معه، تتسم بالمثالية، متمثلة في اتحاد الجسد بالأشياء، لتكون البديل عن الآخر الطبيعي، (العود جسدي، هذا الكون الذي يعنيني. ص24). رغم ان مركز الكون: الجسد، وفي موضع آخر من الرواية، يكون العود/ الموسيقى هو الجسد الآخر بالنسبة لخاتم، لتعاشره معاشرة جنسية مثالية ( خاتم لم تكف تهرب وتعاشر العود عند زرياب الحلبية. ص22)، انها معاشرة مبتورة، غير طبيعية، فليس من الممكن ابدا، ان تعاشر الانا – الانا بل الانا – الانت، ومن هذا يتشكل عندنا معنى سوسيولوجي ودلالة جنسية، مفهومة في هذه العملية التي تحدث، من خلال منظور معقد، ينتج عنه بنية دلالية، تصب في انزياحات الجسد، وإحالاته المتعددة (زرياب تقودها للتخاطب مع جسدها دون رجل- ص20)، ليس هذا فحسب، بل أنشئت زرياب طقوس طوطمية أثناء حصول هذه العملية، حيث تقوم بنزع ثياب خاتم (مفترشة الأرض العارية- ص19) عارية، فمفردة الفراش تحلينا من خلال المفهوم اللغوي الإيحائي الى العملية الجنسية، هنا خاتم والأرض عاريان والعود محتضن، هذا المشهد سوف يعطينا تأويلات مختلفة، وتفسيرات تنتمي الى الشفرات: الرمزية، الدلالية، الإيحائية، تدفعنا للتفتيش في النص، للحفر فيه، من اجل العثور على الصور السلبية، الملحقة بالصور السردية، والتوصل مع زرياب الحلبية الى الأسرار الخفية عن جسد خاتم، التي تعرف ( ما لا يعرف، وكتمت حتى عن نفسها ما تعرف- ص22).

ان غياب الهوية الجنسية في الجسد، تعمل على نشوء ممارسة سوسيولوجية مزدوجة، منقسمة، متناقضة، ففي الصلاة يوم الجمعة: غلام، وفي الأعراس: صبية، لكن (في اللحظة التي يتقابل فيها شيئان متعارضان فان من الممكن توقع التحامهما)(5)، وتعبر خاتم عن ذلك الوضع بدقة حينما تقول:

انا لا أطيق البقاء مع أخواتي في المبيتات ووراء البرقع، أحب نظر الناس في عيني ونظري في عيون الناس على الطريق، لا أطيق خروج الحمارة دون ان أكون على ظهرها، أحب الاختباء وراء أستار الشقدوف، لأنصت لأخفاف الجمل على صخر الجبل، أريد ان أرى وأريد للأشياء ان تراني، أحب النقلة بين الشيء وما بعده وقبله او وراءه او نقيضه، أحب مراقبة النساء، الدخول في مجالسهن، وأسرارهن لكن لا أريد ان أكون سرا محبوسا هناك، لا أريد ان أختبئ وفي الوقت نفسه لا أريد ان انكشف- ص12- 13.

ترفض الاختباء، ترفض الانكشاف، لعبة مزدوجة خطيرة بالنسبة لها، وهذا ما يبدو لنا في الظاهر، لكن ما تريده، وما ترغب به، وما تصبو اليه، أعمق من هذه اللعبة، انه حلم الإنسان، الذي يشترك فيه المرأة والرجل، انه الذي يحولها، الى النور/ الهواء / الصوت، انها: الحرية، (فالحرية في الإنسان لا تتجزأ وإذا منحت المرأة الحرية لتتكلم، فسوف تقود حرية الكلام الى حرية التفكير وحرية الفعل)(6)، حرية يقودها الوعي، فالوعي بالآخر، بالعالم، يعمق الوعي بالذات، فليس في مقدرة الوعي الانفصال عن الجسد الذي يحمله، وعليه لا يمكن اختزال الوعي والجسد ببعضهما، الا انهما دائمي الارتباط، لكن ما وظيفة الوعي في هكذا جسد؟ وما هو موقفه تجاهه؟ اذا عرفنا ان الوعي الجسدي- الجنسي يوجد في خاتم في صفة تعارض وتعاكس، على ان هذا التعارض ليس تناقضا انه جدلي- حواري، فان وجود الجسد بهذه الوضعية، يحدد وظيفة الوعي في الصراع من اجل السيطرة على الجسد، فلقد قام الوعي بترويض جسدها – بالاشتراك مع مجهولية الجسد للآخرين- وتكيفه مع الظروف الاجتماعية كما شاهدنا ذلك، وان معرفة خاتم بذاتها، تعمل تغييرا موضوعيا، بنيويا.

فالشخصية الروائية خاتم، لا يمكن فصلها عن العوامل الاجتماعية الموضوعية، والتعامل معها على انها فرد فقط، فلقد ابتعدت رجاء عالم عن النظرة (او الرؤية) الزائفة اللاعقلانية للشخصية، في وسط مغلق، بل كانت خاتم شخصية عامة، متفتحة، غير مفصولة عن المجتمع، ولم تجرد من صفاتها الإنسانية، ولم تكن تكتفي بذاتها وتستقل به، فهذه الشخصية لا تتطور بمعزل عن الواقع الموضوعي، بل كانت مركزا لبؤرة المعاني المشفرة، والتناقض المرعب بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي، ويلخص باختين هذه الرؤية على النحو التالي( كل عمل ادبي اجتماعي بالضرورة، وان تلك الاجتماعية داخلية بالنسبة للعمل ومحفورة بعمق فيه)(7)، والرواية تنبع من هدف واحد: تصوير كلية الحياة الاجتماعية ذات البطل الإشكالي، هكذا اذا (ففهم اثر أدبي ما، يعني توضيح علاقته برؤية العالم ضمن البنية السوسيولوجية الشاملة)(8).

ان السرد يتضمن ثلاث قصص هي: قصة خاتم الخنثى- خاتم العواد، قصة خاتم – هلال، وقصة خاتم- سند، وان كل واحدة من القصص الثلاث تمتلك محورها الخاص بها، الا أنها تنتمي الى المحور الرئيسي الا وهو جسد خاتم، وفي نفس الوقت تتجاوزه الى فضاءات شاسعة تحت جناح الرمزية- التأويلية، ولهذا (ينبغي ان نعد أي سرد له ثيمة، سردا رمزيا لا واقعيا)(9)، وليس هذا فحسب، فالشفرة الرمزية تتسيد الرواية، تبدأ الرواية بانبعاث سند، خاتم، هلال الى الحياة وتنتهي بغيابهم ثلاثتهم سوية، ففي الموت ينتهي الجسد: الألم، الوعي، العالم.

ونلاحظ ظهور الدلالة الطبقية بجلاء، عندما تتعمد رجاء العالم بوضع الفوارق الطبقية الحادة بين الشخصيات الثلاث، فخاتم ابنه ثري من أثرياء المجتمع المكي، وهلال ابن مهاجر من خارج الجزيرة، وسند ابن عبد، وتمتد هذه الفوارق الاجتماعية – الاقتصادية، لتشمل الدار الكبيرة المؤلفة من ثمانية طوابق، والفناء من خلفها يتألف من المقاعد السفلية للمهاجرين، والأقبية للعبيد، والإسطبلات للحيوانات، والدار تقع في الجانب المسمى النعيم، المقابل للجانب الآخر الحميم او الجحيم، يفصل بينهما مسجد مهجور لا باب له، والعالم المحظور يتشكل من بوابات(ازقة): السراق، والبغايا، والبائسين، والتنابلة، وجميعهم يعيشون على هامش النعيم، أناس سحقتهم الحياة، الى حد انهم محصورون في عالمهم الذي حكم عليهم، بأنهم شاذون ومختلفون ومتخلفون، ولكن في هذا المنفى تعثر خاتم على جسدها في شهقة المومس زرياب الحلبية، وتكتشف مجاهله، وتحس بالألم فيه لأول مرة.

وتستخدم رجاء عالم الأفكار الحوارية، وأفكار الشخصية كمرآة، كمتاهة، كلغز، في استجلاء المعنى، وليكون مفتاح الشفرة الخفية (حذرت خاتم قلبها: " لا تعبر الجسر، هو جسر سراق، من يعبره بنصك قلبه للأبد ويذوب المفتاح، جسر قام ليخطف المفتاح- ص9)، انها شفرات احالة: الجسر، المفتاح، وشفرة رمزية: الجسر/ المحظور، والمفتاح/ الحرية، وهذا نتوصل اليه من خلال الخطاب الروائي، وكذلك نتوصل الى شفرة الباب السرية، حيث يجعل السارد حكاية خاتم موازية لحكاية الباب، ونعثر على دلالة الباب التأويلية في الفقرات التالية:

- حكاية البيت انطلقت، ربما من باب قام من زمن متأخر بآخر الدهليز، لم يكن الباب موجودا في جسد البيت الأصلي، لكنه ظل موصدا بلا مفتاح لزمن، حتى شمله النسيان فانفتح دون ان يعتني بانفتاحه احد – ص5.

- باب الدهليز لم يكن له وجود يوم دخل سند نسل نصيب، ولا حتى حين حملت سكينة يوم البرد ووضعت طفلها الذي لم تطلع عليه قابلة، ليلتها لم تقم في الدار أبواب داخلية- ص6.

- على لحمة الباب انتصب جسد منقوش بضربات سكين، خط ودائرة الرأس مضروبة بعنفوان شفرة، إنسان مجرد أشبه بمفتاح تركته يد طفل محبوس وراء ذلك الباب- ص11.

- حين مست اليد خاتم توقف قلب الشيخ نصيب، ببياض عينه يجحظ لا على خاتم وانما للباب الدخيل يصفق بآخر الدهليز، لأول مرة أدرك ان خيالا كان منقوشا هناك وزال الآن – ص31.

حكاية الباب تنتهي بهذه الجملة الإخبارية الكلية ( ان خيالا كان منقوشا وزال الآن)، هنا نستطيع من خلال الخطاب السردي، العثور على رمزية الباب في شفرته الاحالية، وترابطيته بالجسد، فالجملة (على لحمة الباب انتصب جسد منقوش)، احالة واضحة وصريحة لجسد خاتم، والفقرات تلك تبين مدى التداخل السردي، والترابط المعنوي، والالتحام الصوري بين جسدي خاتم والباب.

فالجسد يعثر على حريته في انفتاحه على الآخر، بلا قمع او قسر، ويحقق هويته في العملية الفسيولوجية الصميمية، ولكن في وضعية خاتم ذات الجسد المثالي، فالعملية تصبح مثالية ايضا، والعلاقة مع الأشياء تكون غير مرئية، وأحاسيسها المرهفة الرقيقة لا احد يشعر بها باستثنائها:

وجاء همس الريح في حجارة المحراب:

" صلوا على ابينا نوح، صلوا على أبينا آدم.. " أسندت شفتيها لحجارة المحراب وهمست:

" صلوا على أمنا حواء.." – ص14.

فهي وحدها تتناغم مع العالم المحيط بها بانسجام وتجانس صوفي، فالجسد يصبح محور وجودها، محور عالمها، فعبره تتحاور مع الأشياء، مع الوجود، مع العالم، خاتم عبرت عن ذاتها بكل صدق وشجاعة، بكل حرية، لأنها اكتشفت السر الذي ظل غائبا عن الجميع بمن فيهم: سكينة- الشيخ نصيب- الشيخ مستور- سفر ياقوت- الشيخة تحفة، فقط كانت زرياب الحلبية تعرفه، وقادتها اليه بشهقتها السحرية، انه سر الحياة، ديمومة الوجود الانساني، والفناء فيه، لا يهم نوع الجنس، أنثى او ذكر او الاثنين معا، هذا السر تعطيه رجاء عالم بعدا أسطوريا لا يحس به القارئ لأول وهلة، وبما ان الواقع الروائي جزء من هذا السر، عليه أصبح الواقع الروائي بكل تناقضاته وأضداده ومفارقاته، واقعا أسطوريا مشبعا بالمعاني، وخاتم تعي واقعها بكل وضوح، فلقد اكتوت بنار التجربة، وبألم التجربة، وبرؤية التجربة، تجربة تشبه تجربة سدهارتا بطل هرمان هيسه، تختلف في التفاصيل وتتشابه في صورته الإنسانية للعالم، انهما شخصية الإنسان الباحث عن نفسه بين الناس وبين ذاته، لذا لا بد من ألم التجربة الإنسانية، التي تقودنا للمعرفة، فـ( العالم ايضا معرفة)(10)، وهذه المعرفة أعمق من (الصوت والجسد القابلين للتحريف بثياب انثى او ذكر- ص21)، لانها تخضع لسلطة الوجود، السلطة التي تمثل علاقة قوى، ولان كل علاقة قوى هي علاقة سلطة مؤسسة لمعرفة، فالجسد يصبح علاقة قوى وجودية في السلطة- المعرفة، (يرى ويُرى- ص26)، فالجسد- البؤرة، يرى ويتكلم ويكتشف، ضوء ولغة ومعرفة.

تقول ناتالي ساروت: اذا أراد القارئ ان يحدد ماهية الشخصيات فعليه، بالتعرف عليها من الداخل. ولنلاحظ ان لعنوان هذه الرواية (واسم الشخصية الرئيسة)، خاتم معنى رمزيا ودلالة، مع قصدية التسمية لإعطاء مدلول معرفي، فالمصدر الثلاثي للاسم (ختم) يدل على وضع إشارة ما على شيء ما – جسد، جلد، قماش، حديد، خشب، ورق...الخ، بمعنى انه يترك في عمليته هذه: وشم، حفر، نقش، وفي بعض البلدان العربية يأتي اسم خاتم مرادفا لـ(المحبس)، وجميعها تكون على شكل دائري، وتاتي الدائرة عند الحلاج في الطواسين، مغلقة على الحقيقة: النقطة في وسط الدائرة، والدائرة ما لها باب، والدائرة في أساطير العراقيين القدماء، تمثل الكون، المتكون من ذكر وأنثى معا، تمثل الكمال الانساني، والمحبس مشتق من الحبس/ السجن، هنا تتحكم ثنائية العبودية – الحرية، الجسد المستبعد، والجسد الحر، وفي الأخير يتضمن لدى رجاء عالم اكتشافا للجسد كحيز انقلاب وتغير، وسيكون خ، ت، م، خارج تاريخ الموت، ويتضح المعنى الأساسي ونفهم ان الخاتم اكتمال الرواية اكتمالا فعالا، وانها الشفرة البوصلة.

تتسيد ميتافيزيقيا الحضور/ الغياب، ثنائية الجسد، حضور الذكر وغياب الأنثى، أو غياب الذكر وحضور الأنثى، في تبادل المواقع، في تبادل الأحاسيس، في تبادل وجهات النظر، في الرؤية للعالم، ازدواجية مخيفة ينشأ عنها ألم فظيع، ووحشة،ووحدة عميقة مسكونة بالانقطاع، وجسد يتقاسمه قلبا واحدا، ولسانا واحدا، وشعورا حادا بالانقسام، باللاتكامل، انها حالة إنسانية مصابة بالتمزق والمعاناة.

أتريد رجاء عالم ان تصرخ مع هاملت من خلال شخصية خاتم؟ (ما أعجب الإنسان من كائن، ما أسمى ذكاءه، وما أبرع عقله وحصافته! ما أشبهه بالملك في عمله الطيب، وما أشبهه في إدراكه ببعض الآلهة! انه أجمل شيء في الكون)، رغم تشوهه الجنسي، فان روح الانسان مهما كان جنسه، لاتقهر، لا تحبط، وبتغلغل وعيه السوسيولوجي الى اعماق جوهر علاقاته الإنسانية، غير المشوهة، غير المتناقضة، ولكنها في المستوى الجنسي تكون غير متكاملة، كما في رواية خاتم، لان الفعل الإنساني – الجنسي مفقود، مما يسبب لـ(خاتم) انحرافات في صميمية العلاقة، وانزياحات في سايكولوجيتها الاجتماعية، هذا إعطائها ان تمارس حياتها اليومية بازدواجية متقنة تكاد تكون بالنسبة للآخر طبيعية، لا تثير الشك، ولا تثير الفضول لديه، لان هكذا نوع جنس نادر.

أدركت خاتم بتجربتها الحسية المكتملة على يد زرياب الحلبية، في بيت البغايا- لاحظ ان خاتم قد اكتشفت جسدها، وعثرت على البديل في الحجرة الضيقة لزرياب المُنتهكة، فلقد علمتها زرياب العزف على جسدها وعلى العود – باللا توافق الجسدي مع الآخر، فالإحساس بالتوافق أمر فردي يتأثر بالعوامل الجنسية- السوسيولوجية- الثقافية، لذا لجاءت خاتم في بداية أمرها، يقودها لا وعيها للنقاقير، للتعبير عما يجيش في نفسها من حزن، وألم، وغضب، بدون كلام، ثم يتحول هذا الأمر بالعود الى المثالية الجنسية- التسامي بالمفهوم الفرويدي – والاتحاد بالعالم عن طريقه لتشكيل هارمونية كونية، ليصبح بعدها العود هو الكون، فعبر هذه العملية تتوزع الشفرات السرية في سردية النص:

حين علا نغم الزير شعرت خاتم بعصارات جسدها تجيش، يصحو في جسدها صيف حراق، يتصبب العرق على نحرها، وتشعر به يسري بجسدها فيبسطه على قبة البروج الجهنمية من السرطان مرورا بالأسد للسنبلة، في جسدها سماء من ذروتها حتى مغربها، ويقبض جسدها على شباب مشحون بقواه الجذابة، كل من يعبر من طير ونور ينجذب لعريها المنطوي على العود- ص19.

وقد نقرأ هذه الفقرة على الشكل التالي:3527 الابراج

يتمثل لنا في هذا الشكل الشفرات المختلفة في تجانس، وتداخل مع بعضها البعض بقوة الموسيقى الهارمونية الكونية، فالشفرة ( نسق من العلامات يتحكم في انتاج رسائل يتحدد مدلولها بالرجوع الى النسق نفسه، واذا كان إنتاج الرسالة هي نوع من " التشفير" فان تلقي هذه الرسالة وتحويلها الى المدول هو نوع من " فك الشفرة" عن طريق العودة بالرسالة الى إطارها المرجعي في النسق الأساسي)(11) ومنها نستدل على قبة البروج الجهنمية، ونكتشف موقعها في جسد خاتم.

عند قراءتنا للنص الروائي(خاتم)، لا يمكننا الا الوقوف عند اللغة التي تكاد تشكل لرجاء العالم المادة الأساسية، فاللغة عندها، لها أسرارها، وخباياها، وعوالمها، وأفلاكها، لانها لغة قوية، متماسكة، مبهرة، مدهشة، ممتنعة، انها لغة خاصة لرجاء عالم، كالقلعة الحصينة بأبوابها المختلفة، وطرقها المتنوعة، لا نتمكن من الدخول والوصول اليها الا عبر ممراتها السرية، بعد قراءة مرهقة، وجهد مضاعف، انها تهشم اللغة من اجل إعادة تشكيلها في أفق الميتالغة، مخترقة بها فضاءات السردية الذكورية وحتى النسائية، بدمجها للسردية اللسانية والدلالية بأعمق المستويات، ولتأسيس جدلية المعنى، فاللغة أساس المعنى/ الشفرة، حيث تجعل (النص، والإبداع هو الأصل الذي يلتقي عنده المؤلف والقارئ)(12)، كما يقول د. عبد الله الغذامي.

ومن خلال القدرة المشفرة لهذه اللغة تتعمق شخصية خاتم المأساوية، وتتحد العلاقة التبادلية بين القارئ والشخصية، وبين الراوي والشخصية، وبين القارئ والمؤلف، وفي هذه العلاقة يتفكك الاتساق، ويتم الاكتمال الرمزي/ الجسدي للشخصية، ومنها تبرز سيطرة اللغة التامة على البنية النصية، بالإضافة الى ذلك، تعمل هذه اللغة ( على تعرية الرواية، من خلال إظهار مادية اللغة، بحروفها وكلماتها وجملها- سونيا ميشار)، وتعمل ايضا على تحويل مرجعية النص التاريخية – السوسيولوجية الى إيحائية دلالية، ولكن تبقى هذه المرجعية مرتبطة بها بالخفاء ومنها تكون رواية خاتم، رواية جسد: يرى ويتكلم ويكتشف، ورواية ضوء ولغة ومعرفة.

***

أسامة غانم - ناقد

..........................

الهوامش والإحالات

1- س. رافيندران، البنيوية والتفكيكية: تطورات النقد الأدبي، ت: خالدة حامد، ص83، دار الشؤون الثقافية، بغداد 2002.

2- بلزاك، سارازين، ت: محمد معتصم، مجلة الثقافة الأجنبية، العدد، 1/ 1991، بغداد (كتاب العدد).

3- رولان بارت، نقد وحقيقة، ت: د. منذر عياشي، ص15، مركز الإنماء الحضاري، دمشق، بلا تاريخ.

لم اخذ هذا المقطع المستل من قصة (سارازين) من النص المترجم من قبل محمد معتصم بل اعتمدت على المقطع المترجم من قبل الدكتور منذر عياشي المتضمن في مقالة موت المؤلف لبارت، المنشور مع كتاب ( نقد وحقيقة).

4- البنيوية والتفكيكية، ص96.

5- تزفتيان تودوروف،المبدأ الحواري: دراسة في فكر ميخائيل باختين، ت فخري صالح، ص132، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1992.

6- نوال السعداوي، الأنثى هي الأصل، ص150، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1974.

7- المبدأ الحواري، ص15.

8- جاك لينهارت، قراءة سياسية لرواية الغيرة، ترجمة وعرض: إبراهيم الخطيب، ص129 ضمن كتاب (البنيوية التكوينية والنقد الأدبي) مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1984.

9- البنيوية والتفكيكية، ص78.

10- جيل دولوز، المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو، ت: سالم يفوت، ص131، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء- المغرب 1987.

11- اديث كيرزويل، عصر البنيوية، ت: جابر عصفور، ص266، دار آفاق عربية، بغداد، 1985.

12- نقد وحقيقة، ص11 (المقدمة).

* رجاء عالم، خاتم (رواية)، كتاب في جريدة رقم 56 (السنة الخامسة)، 5/ 6/ 2002، مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية- مؤسسة الحريري، يصدر بالتعاون مع وزارة الثقافة، بيروت – لبنان – وهي النسخة التي اعتمدت عليها في دراستي، وليس على نسخة الرواية التي صدرت عام 2001 عن منشورات المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المملكة المغربية

مزجت الروائية المصرية سهير المُصادفة في روايتها “ لَهْو الأبالسة ” بين الحكاية الشعبية والغرائبي واللامعقول، لانتاج نص سردي مغاير تمام المغايرة عن نصوص سردية عربية كثيرة، فهو يعمل –أي النص –علىً خرق المنطق والقانون الطبيعي، لكنه في الوقت ذاته، يعمل على تاسيس منطقه وقانونه الخاص به، ليحقق التماثل بين البنية الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية، وبين بنية الرواية، وتعميق الجوهر المفارقي  المتآصل فيه .

ان تطعيم الكتابة الروائية بالحكاية الشعبية والغرائبية، لا يفسر على انه تهرب من الواقع، بل استغواراً وتجسيدا له، والواقع الذي يعكسه هو الواقع اليومي، انه واقع مخيف، فالرواية كما يقول لوسيان غولدمان، قصة بحث عن قيم اصيلة بصيغة متدهورة، وفي مجتمع متدهور(1)، هذا يعطي سهير المُصادفة رؤية موسعة، ومرونة عالية في التحرك داخل النص، مع حرية كبيرة في التقنية السردية من حيث الاضافة والتغيير، ويحقق جمالية الكتابة السردية أيضاً .

بداية ساتفق مع د. محمد مفتاح بان "انتاج أي نص هو معرفة صاحبه بالعالم، وهذه المعرفة هي ركيزة تاويل النص من قبل المتلقي ايضاً" (2)، أو لنقم بترتيب ذلك على الشكل التالي:

المؤلف – العالم = النص.

المتلقي – النص = التأويل.

بمعنى وجود علاقة جدلية - حوارية متداخلة فيما بينهم، متعددة الاتجاهات، هذه العلاقة تخضع بشكل كامل، لثلاثة محاور اساسية في النص الروائي: التاريخي – الواقعي – التخييلي، لتفجير القدرة التأويلية عند القارئ أو المتلقي، والقدرة تعتمد على مرجعياته الثقافية، ورؤيته للعالم، ومدى عمق إطلاعه على تراثه .

هنالك جانب مهم جداً لا يمكن تجاوزه، الا وهو عنوان الرواية “ لَهْو الأبالسة” وعناوين وفصول الرواية العشر المُعْنونة جميعهاً "سمكة الجيتار"، ملحق به كتابة حول السمكة ذاتها، ومستقلة تماماً عن متن الفصل، ثم قامت الروائية بوضع عنوان آخر داخلي لكل فصل، ومبتدأ به، اسمته "حوض الجاموس"، واذا ما عرفنا بأن جيرار جينيت يعتبر العنوان احدى المداخل الرئيسة إلى قراءة النص فذلك يقودنا إلى معنى المعنى، ومعرفة مدى عمق قصدية الروائية فيه، إذ يكتب رولان بارت قائلاً: "فالتسمية هي التي تخلق السلسلة السردية "(3) . فالناقد أو القاري إذا لم يستطيع الامساك بدلالة التسمية فسوف لن يخرج من متاهة السلسلة السردية، لان التسمية حبلى بمضامين ومعاني لا محدودة مع اعطاء المجال للتأويل اللامحدود .

هذا يجعلنا امام تساؤل ضمني، لماذا هذه الاسماء بالذات: سمكة الجيتار، حوض الجاموس، لتكون عنواناً لجميع فصول الرواية ؟ أو لماذا لم تضع الروائية لكل فصل عنواناً فرعياً مختلفاً ومستقلاً عن الاخر ؟ الاجابة، لا نعثر عليها الا من خلال قراءة تأويلية تسمح لنا بدخول اجتماعية النص، ولمواجهة الاعماق السرية له، فالاسماء "كلها بعد استدعائها وتحريرها وتحريكها ليست في النهاية الا تأويلاً لمسمى ارحب: مسمى الحلم" (4)، وعندما نقرأ ما تقوله البطلة – مها السويفي لاختها نجوى نعثر على مرتكزات التسمية الاستعارية، ومنطلقاتها الايديولوجية:

- إذا ما صحوت ساحكي لك: كيف اصبحت بالتدريج سمكة جيتار ص104 .

ليس هذا فحسب، بل شمل ذلك اسماء شخصيات الرواية ايضاً، من الذكور، فالشخصيات المحورية الرئيسة في الرواية اطلق عليها جميعها اسم "احمد": احمد الدالي، احمد منصور، احمد العتر، احمد القط، احمد ابو خطوة .

هنا يكون القارئ محشوراً تحت طائلة علامة استفهام كبيرة، ما الغاية من هذه القصدية العالية في التسمية – الدلالة؟ فحالما تقع عين القارئ على عبارة "حوض الجاموس"، تضعه في مواجهة مع دلالاتها الاجتماعية- الاقتصادية معها، وهذا ما يؤكده الراوي برؤية طبقية، عندما يتناول سبب تسمية الحي بهذا الاسم: "في البداية كان اسم هذا الحي "الزريبة" ثم لجأ اليه الموظفون بعد انفجار الازمة السكانية فسمى تأدباً "حوض الجاموس" ص10 ".

ذلك ان تفاعل العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية مع مخيلة الراوئي تنتج نصاً برؤية طبقية، متفاعلة مع التجربة التاريخية ايضاً، والمتبلورة بالممارسة الفردية والجماعية، ولذا لايمكن ان نقوم بفصل الجزء عن الكل، فاي فصل يكون معناه تشويه النص، وتحريفه، فيقول في ذلك لوسيان غولدمان في كتابة الاله الخفي:" كيف نستطيع فهم نص أو مقطع ما؟... بدمجهما في العمل المتماسك "(5).

ان التشكيل الادبي (=الكتابة الادبية ) يستمد بنيته وفضاءاته من التشكيل الواقعي، الذي بدوره يفرز البعدين الجنسي والجمالي في الرواية، فالبعد الجنسي في هذه الرواية يتشكل معه الياً البعد الجمالي، بمعنى عندما ناتي لقراءة سمكة الجيتار الموضوعة كمقدمات للفصول العشرة، نعثر على البعدين معاً، لكن قراءتنا لهذه المقاطع، ستجعلنا نغامر في كشف ماتقوله الكتابة سراً عكس ماتقوله علانية، وما بينهما وفيهما يشتغل الجسد بوتائر مختلفة:

- تنزلق عارية الا من جلدها، على ذراعيه المتوحشتين تغفو قليلاً، تنساب من بين احضانه تاركة اياه يصفعها على كل جزء من اجزاء جسدها ص7.

- جسمها يشبه كثيراً الة الجيتار .ص37

- لحمها لذيذ، كل الصيادين يعرفون ذلك .ص105.

- سيكون خلاصها الوحيد ان يعزف جسدها اغنيته ص239 .

فضلاً عن ما قلناه، نقول ان هذا الخطاب للراوي يقع ضمن خطابين مختلفين ومتوازيين في آن، خطاب المعلن / المتحرر وخطاب المسكوت عنه /المقموع وهما مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالجسد / الانثى، وتحليلنا يزداد وضوحاً اكثر،عندما نتوصل الى ان هذه رواية عن امراة، لاتجد في العلاقات الجنسية ملاًًًذاً لها، انما تجد نفسها في جسدها المثير،وفي ما يحيط به وما يتفاعل معه، من خلال وعيها بذاتها،ومعرفتها به، فان "معرفة الذات هي المعرفة الموضوعية لجوهر المجتمع" (6) كما يقول جورج لوكاش .

استخدمت سهير المُصادفة الصورة المجازية، عندما وضعت مها السويفي وسمكة الجيتار في صورة واحدة من التشابه والاختلاف للاستعارة،حيث ان القارى اصبح لا يستطيع التميز والفصل بينهما لشدة الدمج،فعندما يتكلم الرواي، تغيب الحواجز، ويبقى القارى لا يعلم عن ايهما يروي، يتكلم، يصف، لتداخل الصورة، واختلاطها مع بعضها، وهذا يجعل الصورة المجازية تقوم باعادة تجميع الاجزاء وفق رؤية جديدة،وطرح جديد في التجريب،رغم ان الاعمال التجريبية تبدو لا شكل لها بتاتاً، بل تتكون من اجزاء غير مترابطة فالعمل الادبي "اذن مفصول عن الواقع على نحو مضاعف،لانه رمزي، ولانه يستخدم اداة هي ذاتها ملوثة بعناصر ذاتية" (7).

تبدا الرواية هكذا:

ثلج في حوض الجاموس !!

يبدو انني معفرة لم ازل ببروة "موسكو" التي تركتها منذ ساعات قليلة . مازال ازيز الطائر يطن في اذني وخمول مطار القاهرة في الثالثة صباحاً وعبارات زوجي الاخبارية المتقطعة التي تريد الاعلان عن الاحداث دفعة واحدة، فلا تعلن عن شىء، انا لا احلم اذن ص9.

المقطع يسير في خط واقعي، باستثناء الجملتين الاستهلالية، "ثلج في حوض الجاموس"، جملة يجب ان تأؤل بـ"لماذا" لانها تثير تساؤلات معينة فيما سياتي من احداث، والختامية "انا لااحلم اذن !"، فهي جملة ملتبسة، الوهم والحقيقة متداخل فيها، والروائية في جمل اخرى، تعمل على تشويش القارى، وارباكه، واعادة النظر فيما قرأ، او فيما فاته من صيغ سردية، كما في الحوار التالي:

-يكفي هذا يا "احمد" هل جاء النور ؟

-أي نور يا "مها" . النور لم ينقطع عن الحي ابدا .

-النور لم ينقطع عن الحي أبدا يا سلام . هذا اذن خيالي المريض ص364 .

فعندما تعيد "مها السويفي" جملة زوجها "احمد الدالي" على ان النور لم ينقطع ابداً، فذلك معناه تاكيد ضمني بان النور كان موجوداً، دائماً، هذا يناقض مع ما جاء في بداية الرواية، بان النور مقطوع:

-ضغط "احمد الدالي" جميع مفاتيح النور ولما قابله الظلام عرفوا ان التيار الكهربائي منقطع . ص11 .

نعم، ظاهرياً المقطعين متناقضين، ولكن داخلياً ( =باطنياً) لايوجد اي تناقض بينهما، فثنائية النور / الظلام، تتجاوز واقعية الرواية الى مجازية جدلية، تعطي مفهومية مختلفة في الرؤية،وفي وجهات النظر كآن تكون هكذا:

النور = العلم - التطور - الحضارة – الخير . (الحياة)

الظلام = الخرافة – الرجعية –التخلف – الشر .(الموت)

هذه الثنائيات التأويلية مستمدة من مرجعيات اوحفريات عدة كالعقلانية والاجتماعية والايديولوجية والاخلاقية، ولكنها في الوقت ذاته تعتمد على ما اطلق عليه كينيث بيرك في كتابه فلسفة الشكل الادبي بـ"استراتيجية الاتصال" ما بين المؤلف والقارىء، ومدى سعة الاستيعاب والتاثير الذي يحدثه النص في القارى لذلك "ينبغي فهم النص كمجموعة من الاشكال والعلامات الموزعة لتوجيه خيال القارىء " (8)، ودور الناقد يكون هنا في تفعيل فاعلية النص، لمساعدة القارىء في تحطيم وتعديل توقعاته في قراءته للنص .

ربما يتسأل البعض، لماذا استخدمت المُصادفة الغرائبية بهذا الشكل المكثف والاصرار على ذلك ؟ اولاً علينا ان نعلم بان مفهوم الغرائبي – الفنتازي – يعني خرق للقوانين الطبيعية والمنطق كما يعرفه البروفسور ت . ي . ابتر، وان البعض من الكتَاب يلجأ اليه لعدم قدرته على مواجهة الواقع، بالرغم من ان الغرائبي يُعتبر المدخل الى الواقع، ولكي يؤكد "تشظي الادراك الحسي المألوف، لإلغاء الاحساس بالنظام، وللتوكيد بان المنطق والنظام هما بحد ذاتهما فنتازيا " (9).

تبدأ الرواية بعودة مها محمد السويفي، وزوجها احمد الدالي في سيارة الاجرة المؤجرة من مطار القاهرة قادمة من موسكو، لتدخل في شارع ضيق أسمه: د. طه حسين – طريقتها في اختيار الاسماء قصدية وذكية جداً – بعد ان اجتازت مجموعة بيوت سوداء متناثرة، لتقيم في بيت جميل مكون من طابقين، منذ لحظة نزولها، تبدأ احداث الرواية، وتبدأ حكاياتها العديدة المنتشرة فيها، ليكون حي الجاموس عالمها: بناسه، وحيواناته، ومشاكله، وارهاصاته وجنونه، وتنتهي الرواية بموت مها في بيتها، ويلازم القارىء عند قراءته للرواية شعور عميق، بان المؤلفة كانت حريصة في عباراتها، ودقيقة في اختيار كلماتها، مع عناية فائقة في رسمها للشخصيات، فانها رسمت عدة افاق محتملة مليئة بالتناقضات، ولكنها تبقى امينة في منطق القص، أما تاثير الغرائبية "الاهم والاروع فمصدره صلاتها بما هو مألوف والطريقة التي تسلط بها الضوء على عدم الاستقرار والتناقض او حتى اللاعقلانية التي ينطوي عليها المألوف "(10) .

لقد منحت سهير المُصادفة حيزاً كبيراً في تناولها للجسد، بحيث جعلت الاخر يظن بان الجسد بطل الرواية بلا منازع، وهو المحور الرئيس:

" يالهذا اليقين امن المفترض ان اغوص، واغوص بلا نهاية ولا اصل لحدود هذا الجسد ؟ نفذت كل حيلي ياحبيبي للدخول والخروج والحصار، ولم تزد معرفتي بك عن الولوج في متعة الى متعة الى اخرى، أسيرة انا حتى الموت فيك فهل سأظل اعتلي هذه القطرات من الشهد وانا غائبة في غموض ابيض ؟ ص43"

يصبح الجسد عند المُصادفة لعنة، كما تجسد ذلك في الليلة السـوداء لنجوى السويفي، عندما تكتشف بانها فاقدة لعذريتها دون ان يمسسها رجل: - قلت له، انا لااعرف، وكنت فعلاً لااعرف، لم يصدقني، ظل يبحث في كما فهمت عن بقعتي دم الى ان طلع الفجر، وفي الصباح اعادني الى امك التي اغلقت مع حجر قبرها سري هذا، ورغبتي في كل الرجال ص20 .

فان هذا الحدث يعتبر خرق للقوانين الطبيعية، كذلك فانه يعتبر خرق للقوانين الاجتماعية في بلادنا، ولولا ادراكنا بان الحكاية تقع في داخل عالمنا، لكانت فقدت معناها الغرائبي والاجتماعي والاخلاقي .

ليس هذا فحسب، بل تعمل الروائية على إن يتجاوز الجسد وظيفته الوجودية- البيولوجية في تحقيق اللذة، والعمل على تحرره، حيث تحوله إلى رموز ودلالات ويتبين ذلك في علاقة جسَدي احمد ومها، واستمرار هذه العلاقة رغم عدم اكتمالها فيزولوجياً لكنها ملتهبة وحميمية، وهذا يجعلنا نعلم سبب الزيجات الكثيرة لاحمد، وسر عدم مكوثه معها طويلاً، ف مها تمثل بالنسبة إليه الأرض العذراء: "إنا الذي لم استطع بعد فض بكارتها والولوج في أسباب عيشها كما ينبغي . ص11"، فهذه العلاقة الانسانية العميقة ليست مبنية على أساس اختراق الجسد، بل على أساس اختراق الذات، والولوج إلى داخله، وفي حكاية ماريان المصرية، ترسم لنا انتهاك الجسد والسلوك الإنساني المنحرف اجتماعياً وأخلاقيا، عندما يقوم بعض الشبان باغتصاب ماريان، لقد اخترقوا الجسد ولكنهم لمْ يستطيعوا اختراق الذات، فهنا الصورة الغرائبية في الحكايات تكشف وتبحث عن المعاني السوسيونفسية للمجتمع، ومدى تحكم اللاوعي الجمعي فيه:

أنها لم تصرخ، ولم تستغث وإنهم كانوا يزدادون شراسة وسفالة كلما وضعت يدها على انفها وعينيها هربا من رائحتهم وملامحهم، فقط مشت إلى جوارهم بعريها المهتوك، كما لو كانت تسير إلى جوار بهائم ص180 .وفي مكان أخر تبين لنا شذوذ الجسد، وانحرافه، وموقعه في المسار غير الطبيعي، ولكن هذا الجسد يأخذ حريته في علاقته الشاذة وسريته في فعله، رغم أنها علاقة غير متكافئة،غير متوازنة، غير منطقية من وجهة نظر الأخر، بسبب نوع الفاعل في العلاقة، لكن المرأة- بطة "لسلوك المرأة الحيواني أطلقت عليها اسم حيوان بطه "هي التي تريد ذلك، وتعمل على ديمومة هذه العلاقة، بطقوسها السرية، إلى حين موتها بفضيحة انشقاق بطنها، وهي راقدة على طبليتها العالية: "بطة الفاسقة كانت تدهن جسمها بروثه وتلبس بردعته حتى إذا هم بها ليلاً، استلقت له على طبليتها العالية .ص32" .

فـ"بطة" تمثل الواقع المخالف والمسكوت عنه في حياتنا اليومية، وفي قول الممنوع، لذا اننا كما يبدو لانستطيع ان نعرف على وجه الدقة اي الصور رئيسة وايا منها ثانوية، ولانعرف اي الصور مجازية وايا منها روائية حقيقية، لذا يجب علينا "ربط النص بالتأويل، هي الطريق الفضلى في البدء بدراسة القراءة"(11) .

ان عرض الحكايات(= تحليل وقائع الجسد فيها ) من مختلف وجهات النظر: الاخلاقية- الاجتماعية- النفسية، عن طريق الواقع الذي يقترب من تخوم الغرائبية، بل واحياناً اخرى يمتزج فيها، وبيان القوة المختلفة التي تسيطر على الجسد، وعلاقة الانسان بجسده، واجتياح الفوضى الاخلاقية له، كما في حكاية بطة المدانة بتدمير جسدها، والمسؤولة عن تمزقه،لنوازع ذاتية، واختلال في التفاعل مع العالم الخارجي، وانعدام الرؤية فيما حولها، وحكاية ماريان المصرية اللامسؤولة عما جرى لجسدها من اعتداء واختراق بوحشية مكشوفة، وبحيوانية مرعوبة ضعيفة في داخله، فتكون الحكايات هنا مصدراً للمعنى او التأويل، عند الناقد او القارىء، بسبب امتلاكهما السلطة القرائية عنهما .

تقول الناقدة اللبنانية يسرى مقدم في كتابها "مؤنث الرواية" ( دار الجديد ـ بيروت 2005): تريد المؤلفة ان تكتب المرأة من خلال جسدها، لكن هذا يستدعي ان تقبله اولاً وتتعرف عليه وعلى أحاسيسها(12). وبدورنا نتساءل، لماذا يجب ان تكتب المرأة من خلال جسدها، اذا كان جسدها موازاً لجسد الاخر، واختباره يكون بوجود جسد الاخر، كما تعلن الروائية العراقية عالية ممدوح (13)، فالجسد هو الصانع لقوانينه واّلياته وطقوسه دون التخطيط الكبير في ذلك .

ان الحكايات الموّظفة في "لهْو الابالسة " ترتكز اغلبها على المتخيل الاسطوري، وتستمد منه الحكي، وتستلهامه حتى في حالات الجسد المتنوعة، وبالذات في صور غيابه (= موته)، رغم انها اي الحكايات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمتخيل الروائي، ولا تحيد عنه، وتستند عليه، فالروائي الذي يخلق الاسطورة يعلم انها الطريقة المثلى للخيال، وانها في الوقت ذاته، نقيض ما هو تقليدي وضيق، لان المتخيل الروائي الاسطوري يمنح "واقعيته فيبدو العالم الروائي او القصصي الوهمي حقيقياً، وهو، في تبديه هذا، مغادر لعالم الواقع دون انفصال عنه، ومغادر لعالم المتخيل دون خيانة له"(14)، لذا المتخيل الاسطوري يعطي المؤلف / القارىء القدرة على التأويل ودخول مجالات لولاه لما استطاع النفاذ اليها والقيام بمعاينتها، وان الصراع والتنافس والاختلاف وتمييز المعنى يجري تعميقه بواسطة الخيال، وشحذ القدرة التأويلية، يقول كيرمود: "تفقد القصص الخيالية قدرتها حين تفقد قدرتها التأويلية" .

بتقابل المخيله الكتابية بالمخيلة القرائية ينتج التأويل، وكما ان "فعل الكتابة وعي للذات وللعالم – جريدة الحياة 4/8/1993" كما تقول الناقدة فاطمة محسن، كذلك فعل القراءة وعي للذات وللعالم، بل الفعل القرائي/ النقدي يتخطى الرؤية الكتابية للذات وللعالم احياناً، مما يجعله يتماهى مع النص وفي موقع الند له، اذا لم يكن متقدماً عليه ففهم نص" لَهْو الابالسه" المتضمن الحكايات الخرافية والتي يطلق عليها علماء الاجتماع الاساطير الاجتماعية، تكون صناعتها واعتناقها رائجة قي هكذا بيئة، لتحارب بها الظلام الطبقي وظلم السلطة، يعني اكتشاف رؤيته للعالم، ومدى تداخل العلاقة بينهما، ضمن البنية الايديولوجية – السوسيولوجية، وان هذه الرؤية جزء لايتجزأ من الوظيفة السوسيولوجية، وان ادماج تاريخ فئة اجتماعية في التاريخ العام هو شرح لدور ووظيفة هذه الفئة لفهم المجتمع ذاته، وابراز سلطة الكتابة مقابل سلطة المجتمع .

اذا ما عرفنا بان الرمز والاسطورة نقطة التقاء بين المعقول واللامعقول عندئذ يكون الراوي نقطة التقاء بين الخيال والواقع، وهذا ما يقودنا الى الرمز المكثف والمتواجد في الرواية الا وهو الموت، شفرة تحمل في طياتها الولادة من جديد، والانبعاث كالعنقاء، شفرة يتواجد فيها وحدة الاضداد الغياب/الوجود، الاختفاء / الظهور بحيث تكون لحظات الموت هي لحظات ولادة: "وقفزوا في الهواء عالياً لمنتصف الجدار المقابل لسفارة "قرفبيا" والتصقوا عليه محتفظين بطزاجة خروج الروح من الجسد . ص123 "، بمعنى اننا امام شفرة تأويلية جامعة للرمز واللغز والحدث، مكونات الرواية المدرجة في خانة البنية .

وشعرية السرد للراوي تستمد شرعيتها من حكايات الف ليلة وليلة في القص ومن الواقعية – السحرية الحديثة،وخاصة في صور الموت العجائبية والمنحرفة في المعنى، لإبراز مأساوية الإنسان، وعبثية الحياة،والتركيز على ثنائيه العقل /الجنون، وتصوير بشاعة الأخر حتى في استغلاله للموت فمقتل "سيد "عامل ماكنة صنع الحلوى، الذائب في عجينتها عند سقوطه في الخلاط، وقول صاحب المصنع بلا مبالاة مخيفة:" اخلطوا عليها نصف صندوق سآنس فراولة حتى تغطي على دمائه لوناً ورائحة .ص 195"، او مشهد مراحل موت الخالة كفاية الداية،عندما تتفتت أجزاء جسدها وتغادره متساقطة بين حين وأخر قطعة قطعة "216" أو وضعية وردة التي تقطع جثة زوجها بعد أن تقتله، إلى أكثر من مائه قطعة و لتضع كل قطعة في كيس بلاستيكي، ثم توزعها على حافة نهر النيل على ( أبعاد متساوية ص 76)،هذه الجملة التهكمية "إبعاد متساوية "تضعنا حال قراءتها (=وصور الموت الاخرى) أمام دلالات /ذهنية –مجازية، وصور /حسية –مادية كثيرة، ونتسأل لماذا هذا التوزيع في المسافة المتساوية لدفن الاجزاء المقطعة من قبل الزوجة بشكل هندسي جمالي ؟عندئذ هنا تتدخل سوسيولوجيا الفكر للعثور على القيمة الجوهرية لكل حياه اصيلة عن طريق الصراع بين المعقول واللامعقول،بين الخرافة والوقع، بين الخير والشر، بصورة سخرية او مآساة تعبيرا عن العالم،وتمهيدا لانبعاث مستقبل جديد،وهذا يبين لنا حساسية الروائية سهير المُصادفة تجاه مشاعرها وأحاسيسها، ومدى اتساعهما وثرائهما في التعبير عما هو جوهري بالنسبة للتحولات الاجتماعية-ألاقتصادية التي تمر بها، والمحصلة النهائية تكون في مزج الإنسان /بحفرياته و مرجعياته وثقافته،في الكون /بغموضه ولا محدوديته وابديته للعثور من خلالهما على الطريق المؤدي إلى إنتاج وعي شمولي .

إن الحكاية المركزية في الرواية، هي حكاية مها السويفي، وبقيه الحكايات تكون متداخلة في جسد هذه الرواية،أو ملحقة به أو تابعة له، وظيفة هذه الحكايات العمل على تفكيك الحكاية الرئيسة،أو أضاءة الجوانب المعتمة منها أو لإملاء الفراغات الموجودة في المشاهد السردية، فالحكاية ما هي إلا مجموعة من الأفعال السردية تتوق الى نهاية كما يقول الناقد عبد الفتاح كليطو،إذ الحكاية الملحقة او التابعة هنا مهمتها تقوم باعادة صياغة الحكاية الرئيسية أيضا،إي حكاية مها السويفي،وهذا يقودنا إلى معرفة المشكلة الحقيقية لمها - أنها لا تستطيع أن تتفاعل مع الواقع اوتختبره، لان مداركها الحسية تنتقل باستمرار من معنى إلى معنى، أنها تؤمن بان المعنى في الحياة ذاتها- وهذا يؤدي الى عدم الاستقرار، والقلق،والتحفز، والتشظي، ويحس القارئ عندما يسمعها بأنها متفرجة على عالم ليس لها علاقة به:"ف "احمد الدالي " لا يجيد إلا الفعل إي انه يعيش الحياة،وإنا لا اجيد إلا البوح إي إنني مثل سمكة الجيتار أتفرج على الحياة ص291".

بالاضافة إلى ذلك عملت هذه الحكايات على فتح مغاليق النص الشامل،ودخول شبكة المفهومية له، من خلال تداخل العناصر الخارقة أو السحرية المؤثرة في تنامي الإحداث السردية كما يذكر ذلك فلاديمير بروب في كتابة "مورفولوجيا الحكاية الخرافية"، كما أنها تحفز مخيلة القارئ وتثير المتعة فيه،وتعمل على التلاعب بتصوراته الذهنية .

عودة لعنوان الرواية "لَهْو الابالسة " الحامل لدلالات رمزية –جنسية، ترتبط ارتباطا وثيقا ًبشكل خفي بالدلالات السياسية-الاجتماعية، وهذا يحتاج من القارئ الانتباة الشديد في عملية القراءة للنص، من اجل فهم وتفسير دلالات العنوان ورموزه،فالعنوان لم يوضع جزافا ًبل وضع بقصدية عميقة مستوحاة من مرجعياتنا الدينية المؤسسة لتراثنا،ففي مختار الصحاح للرازي يقول:ابلس من رحمة الله إي يئس ومنه سمي إبليس، والابلاس ايضاً: الانكسار والحزن، إما لهوْ: ولهَا بالشيء من باب عدا لعب به، وتلاهو اي لهَا بعضهم بعض،وقوله تعالى:( لو أردنا أن نتخذ لهَوا) قالوا: امرأة وقيل:ولداً، فعندئذ يكون العنوان لغةً: امرأة الحزن،أو امرأة الانكسار،إما إذا تناولناه في دلالته الايحائية –الرمزية فسنحصل على معنى مختلف كلياً عن معانيه اللغوية السابقة،كا أن يكون:"لعب السلطة بالفقراء"،لذا يعتبر العنوان نصاً موازياً للنص الأصلي،كما يطرح ذلك جيرار جينيت،وعليه يكون نصا فنتازياً انفتاحياً يمتلك إبعاد مختلفة ؛"ورقصنا مترنحات مرددات وراء المرشحين شعاراتهم بسيقان عارية غارقة في رغاوي صابون رخيص: لمبة لكل مواطن، يسقط الظلام –وفكرت "مها "على إيقاع اهتزاز ردفي "انشراح السبتاتي" وهي تستمع من الشرفة لخطيبة احد المرشحين، الذي كان غاضبا بإخلاص وثائراً ومقطباً ما بين حاجبيه ...هل تكون له نفس التقطبية يا ترى وهو بارك فوقها وهل وعدها حينذاك بشقة قي المساكن الشعبية ؟ص72،"هذا التواجد الظاهري للنص يلعب دوره،ضمن البنية الايديولوجية للبرجوازية "إي إيديولوجية السلطة "في تشكيل القارئ وتكوينه بوصفه فاعلاً منسجماً ذاتياً ومساوياً للنص، ولكن هنا الأيديولوجية تظهر كصيغة من صيغ الفوضى والتزيف، عندئذ تكون مهمة النقد فحص آليات التحريف والاختلال التي تنتج الخطاب الممزق، لاعادة تشكيل وتأسيس العملية التي ينتج عبرها العمل حيث يعاني النص ازاحة داخلية، ومفارقة حادة تعمل على ترسيخ (=وكشف ) جماليته، كما في المقطع التالي، عندما يقتل المأمور بيد احد الأصوليين المتطرفين، وهو مدير سابق لجهاز مكافحة الشيوعية:

- يجب ان نكمل التحقيق، خاصة وان الباشا الله يرحمه كان قبل ان يصبح مأموراً رئيساً لجهاز مكافحة الشيوعية.

- لكن قتله شاب من الجماعات الاسلامية، واضح ان الباشا بتاع حضرتك كان بيكافح كل حاجه، شيوعيين، مسلمين، وحتى "علي القزعه " ص135

يشكل تحليل الخطاب جزءاً مهماً من تحليل المجتمع، ومن جهة اخرى فالبحث عن الحقيقة هو بالضرورة ووفقاً لكل الاعتبارات يتم داخل وعبر الاتصال، ومن الممكن احالة هذا المقطع الى واقعة تاريخية هي واقعة مقتل الرئيس انور السادات بيد احد المتطرفين الأصوليين، ولكن النص تعامل مع التاريخ بطريقة المخيلة الادبية عليه "اذا لم نستطيع قراءة التاريخ الواقعي قراءة تخيليية في هذه الحالة فاننا نكون قد قرأنا خطاباً تاريخياً لا خطاباً ادبياً" (15)، بينما غاية الخطاب الادبي واضحة بالعمل على تقويض وزعزعة وادانة الخطاب الديني الاصولي، واعتباره حركة سياسية متطرفة، من خلال سرديته الشعرية .

ان ما يميز السرد الفنتازي ان له رؤية مغايرة للاشياء، فحالة المتلقي "بعد " القراءة تكون مختلفة تماماً عن حالته "قبل" القراءة، الاختلاف هذا يعمل لتحطيم الرؤية الساذجة بين الواقع واللاواقع،وبين الظاهر والباطن، عندئذ تصبح الكتابة الفنتازية مغامرة واستجلاء للذات الانسانية (الشخصية الروائية) ولتحليل الرموز، وعليه يمكننا ان نكًوْن رؤية ( =وجهة نظر) واضحة، حول الشخصيات التي في الرواية، وهنا سا تناول شخصية احمد القط فقط، الشخصية الاكثر انحطاطاً والاكثر وضاعة، وما يصلنا عنه، عن طريق احمد منصور وامه انشراح السبتاتي، حتى الراوي لم يظهره بشكل مباشر الا مرة واحدة عندما يكون في بيت مها السويفي "ص52" . مع امه لتصليح الحمام، لذا فكل ما نعرفه عنه مصدره الاثنين، شخصية متغيرة (= ليس بالضرورة ان تكون متطورة)، متحولة، متناقضة، وما يهم الروائية في الشخصية / البطل بوصفه "وجهة محددة عن العالم،وعن نفسه هو بالذات، بوصفه موقفاً فكرياً، وتقديماً يتخذه انسان تجاه نفسه بالذات وتجاه الواقع الذي يحيطه "(16)، وبه نكتشف ونفهم من هو احمد القط، ومن يمثل، ومدى تطابقه واختلافه مع الواقع، ولرسم ملامح شخصيته غير المنجزة، غير المتكاملة، غير الناضجة، بسبب تناقضاتها العميقة، وازدواجية الرؤية، وتعددية الرموز "يسميها غاستون باشلار خلل الصور "، وسلبيتها اللامحدودة تجاه الذات والعالم، ورغم ان كل الشخصيات الرئيسة تموت، الا هذه الشخصية الوحيدة:لا تموت (= الشر)، وشخصية احمد القط تلتقي وتتقاطع مع شخصية سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب "1961" لنجيب محفوظ، حيث ان سعيد مهران جاهل غير مثقف، لا يمتلك رؤية واضحة للاشياء، غير متعرف على ذاته، انكفائي، سلبي تجاه الذات والعالم، الاانه يموت في نهاية الرواية، فمن خلال هذه الشخصية الشريرة(=احمد القط)، تسلط الروائية الضوء على الواقع المصري – العربي، ومن وجهة نظر مونولوجية " يعتبر البطل مغلقاً، اما حدوده الدلالية واضحة المعالم: انه يفعل، ويعاني، ويفكر، ويعي ضمن حدود وجوده المتحقق اي في حدود صورته الفنية المحددة بوصفها واقعاً حقيقياً انه عاجز عن التوقف عن كونه ما هو عليه بالفعل " (17)، وتأكيداً على ذلك نستعرض الحالات التي مر بها احمد القط في الرواية افقياً: عاطل عن العمل، تاجر مخدرات في العاصمة، مطرب في الاذاعة والملاهي – ثم امام ومؤذن جامع، يفتي لنفسه بقتل امه بعد تعذيبها .

ان سهير المُصادفة قد تفوقت في تحويل الاحداث والمشاهد والشخصيات الواقعية الى فنتازيا، من خلال العلاقة التي اقامها السرد كأدب بالاسطورة "الفقراء – المهمشيين – المنسيين – اليسار المحبط " كايديولوجية، وربط هذه العلاقة وتفاعلها بالجسد في كل اوضاعه: مشاكله، اشواقه، هيجانه، انفجارته .

***

أسامة غانم - ناقد

الموصل

17/11/2007

....................

الهوامش والاحالات

1- جانييف موييو – الرواية والواقع . ترجمة . د رشيد بنحدو. الموسوعة الصغيرة – دارالشؤون الثقافية ط1 1990 بغداد ص126 .

2- د . محمد مفتاح – استراتيجية النص . دار التنوير بيروت 1985 ص123.

3- جونثان كلر – تحديد الوحدات السردية. ت . فاضل ثامر . مجلة الثقافة الاجنبية العدد الاول / 2004 بغداد ص33.

4- منى طلبة – من يسترجع الاحلام من تأويلها؟ مجلة فصول العدد 62 / شتاء وربيع 2004 القاهرة ص265.

5- د. جمال شحَيد – في البنيوية التركيبية . دار ابن رشد ط1 بيروت 1982 ص.

6- جورج لوكاش – التاريخ والوعي الطبقي . ت . د. حنا الشاعر . دار الاندلس . ط2 بيروت 1982 ص133.

7- جاكوب كورك – اللغة في الادب الحديث – ت:ليون يوسف و عزيز عمانوئيل دار المامون 1989 ص 93 .

8- سمو ليت – السيطرة الاجناسية والاستجابة الجمالية ت،،هناء خليف الدايني مجلة الثقافة الاجنبية العدد 3 – 4 /2005 ص 64 .

9- ت.ي.ابتر – ادب الفنتازيا . ترجمة / صبار سعدون السعدون . دار المامون 1990 . بغداد ص 163 .

10- م . ن ص 191

11- جونثان كلر - مقدمة نقدية في نظرية القرأءة . ت . د . نبراس عبد الهادي مجلة الثقافة الاجنبية العدد الثاني 1998 .

12- مي باسيل، المرأة - الكاتبة متحررة من طغيان الاسطورة . جريدة الحياة العدد 15336 في 28/3/2005 .

13- حوار مع الروائية عالية ممدوح – جريدة الاديب العراقية العدد 71 في 11/5/2005 .

14- يمنى العيد – في معرفة النص . منشورات دار الافاق الجديدة ط3 بيروت 1985 .

15- تيري ايجلتون – نحو علم للنص . ترجمة / فخري صالح . مجلة الثقافة الاجنبية العدد 2 / 1991 .

16- ميخائيل باختين – قضايا الفن الابداعي عند دوستويفسكي . ترجمة: د. جميل نصيف التكريتي ومراجعة: د.حياة شرارة . دار الشؤون الثقافية ط1 1986 بغداد ص67 .

17- المصدر السابق ص73 .

18- رواية "لَهْو الأبالسة" . ميريت للنشر-القاهرة ط1 2003.

*نشرت في جريدة الاديب الثقافية – بغداد، العدد 168 في 28 / ايار / 2008 .

المتن الروائي يمتلك براعة في اسلوب التقنية الفنية بالصياغة الفكرية، في الخيال الخلاق، وهو يبتكر اسلوب رواية الخيال العلمي، من تداعيات الزمن الحاضر، تملك دلالة بليغة في خطابها الرمزي المثقل بالمغزى العميق في استلهام اسطورة طوفان (نوح) وسحبها الى الواقع الحاضر، ليدق ناقوس الخطر بالتحذير بالطوفان الثاني القادم، إذا لم يتعظ الواقع من عبر ودروس الطوفان الاول، بهذه النظرة البصيرية الثاقبة، بأن الطوفان الثاني سيكون أكثر فداحة اذا لم تتغير عقلية المجتمع والمتسلطين عليه في عبثهم في في الخراب والحروب، إذا لم يتخلص الواقع من الفنتازيا التي تتحكم به، والحدث السردي في الاتجاه ألاسلوب الخيال العلمي في الرواية  يمتلك وجاهة هادفة في الرؤية البصيرية من مديات الواقع المأزوم، منصات  السردي الروائي اعتمدت السرعة والتكثيف في دراماتيكية الاحداث المتصاعدة نحو الذروة القصوى، وهو يدلل عمق الازمة التي تجتاح الواقع، الذي بمخمط الحقيقة والحرية، وبالتالي يؤديان الى ضياع الواقع والانسان معاً، هذه رمزية المستنقع، وهي رمزية الواقع المقطع الأطراف والأجزاء، ويتحرك بدون عقل أو رأس، هذه الرؤية الفكرية التي اشتغل عليها الأستاذ الروائي قصي الشيخ عسكر في رواية (شيء ما في المستنقع) في أسلوبها الخيالي الخلاق، في احداث تمتلك البعد الاجتماعي والسياسي والنفسي، والغوص في دلالاتها العميقة، والحدث السردي يتطرق الى وجود جثة طافية على سطح المستنقع مقطعة الاجزاء أو بقايا من جثة، بلارأس، وبلا اطراف ويعطيها ابعاد فكرية عميقة الدلالة، والبحث داخل المستنقع لتجميع بقايا الجثة طافية على جرفه، بشكل مختلف عن روايات فرانكشتاين المتنوعة، ليس في تجميع اجزاء من جثث الموتى من المقابر أو من الحوادث العاصفة، من اجل خلق المسخ للقتل والاجرام والانتقام. في هذه الرواية يكون الأمر مختلف جداً بأن هدف تجميع بقايا الجثة لشخص نفسه، ليعيد حقوقه المسلوبة، في الحرية، ليعيد وجه الحقيقة الضائعة في ركام الزمن او في المستنقع الذي يرمز الى الواقع القائم، وشخصية بطل الرواية  يقوم بدور البصير في التنبؤ في الأحداث القادمة، لكنه يتهم بالاجرام والقتل ويقدم إلى المحكمة على جرمٍ لم يقترفه، بما يدلل بأن عدالة القضاء ناقصة مبتورة، كأنها تحاول ان تخلق التهم بشتى انواعها وتفرضها عليه، كأنها تحكم على جندي عائد من الحرب منكسراً ومهزماً ومحبطاً، يحاكم على خيبته واحباطه وانكساره، هذا الواقع المأساوي في الأزمة الانسانية الضاربة في الأعماق الواقع، يرى الامور بالمقلوب ويتهم بالتمرد والخيانة، وبذلك وجوده يشكل خطراً على المجتمع والأمن والنظام، وعليه تقديمه الى المحاكمة، بالتهم، بأنه يختلق الاكاذيب في وسوسة عقول الناس،. وحين يدق ناقوس الخطر بالطوفان القادم، يتهم بالفوضى وتغيير النظام، ويقدم الى المحكمة بقضية اجرام خطير، وتجري المحاكمة بهذا الشكل (الدفاع: يرفع يده معترضاً. سيدي القاضي ارفض ان يوجه الى موكلي سؤال يخص حياته السابقة، حيث كان يعاني من مرض،

الادعاء: لكنك لم تكتفِ بذلك قطعت شجرة قديمة

المتهم: كنت أهيئ نفسي للطوفان

الادعاء: لو كان ما تقوله صحيحاً فلم اخترت شجرة ترجع إلى الطوفان الأول ؟

الدفاع: يرفع يده معترضاً. سيدي القاضي لا يحاسب الإنسان على المصادفات

القاضي: الاعتراض مرفوض) ص80. كما قوبل بعاصفة من الضحك في المحكمة حينما قال المتهم، بأنه كان يبحث عن جثته في المستنقع.

×× مسرح الاحداث والطوفان:

طفل فقد ابيه غرقاً فتولت الام تربيته برعاية حنان الام، وتعليمه على الذكاء والفطنة والبصيرة في الحياة، وكانت قلقة جداً على حياته من العواقب الوخيمة (أخشى ان خرجت ألا تعود ابداً.

- أني ابحث ابحث عن شيء حلمت به ولا اتذكره

قالت يائسة:

- حاول ان تتذكر قبل أن تخرج) ص6. فكانت تناوشه الهواجس، التي تضجع راحته في الحلم واليقظة، لهذا يخرج كل ليلة صوب المستنقع، كأنه يفتش عن شيء مفقود منه، رغم تحذيرات الأم بعدم الذهاب ليلاً الى المستنقع، لكنه يخالف رأي أمه ويصر على الذهاب والتفتيش في ماء المستنقع، يأخذه هاجس الحلم الى المستنقع (جذبه طريق طويل تحف جانبيه اشجار الصفصاف، ثم يلتصق بمستنقع عند أول منعطف، ظل يمشي محاولاً التذكر، غير منتبه الى النقيق وغناء الطيور، كانت أحاسيسه تتمثل في عينيه وهما تتابعان النهر ويخطوان برجليه وسط الأشجار الكثيفة، استوقفه شيء ما بالقرب من الجرف بقعة ضحلة راكدة بدأ الشيء الغامض ثياباً للوهلة الاولى، ثم تبين بعض جثة تطفو في الماء على صدرها) ص6. ثم تبين بقايا جثة بلا رأس، بلا أطراف، وسحبها الجرف، لكن بدأت الحيرة والارتباك تأكل عقله بالهواجس القلقة، كيف وجد بقايا جثة ؟ وكيف عثر عليها ؟ ربما يتهم بالاجرام والقتل، ماذا سيقول الناس عنه ؟ ربما بأنه هو القاتل والمجرم، ماذا سيخلق الانطباع عند الناس بالأقاويل عن إنسان وجد بقايا جثة، وربما تنسحب اقاويل الناس على أمه بالسوء، وخاصة أنها رفضت الزواج بعد موت زوجها غرقاً، وقد تقدم إليها الكثير بطلب الزواج، لكنها كانت تصر بعناد، بحجة رعاية طفلها، يشعر انه في حيرة وتخبط في قراره، كأن الحلم الذي كان يراوده، يجده في اليقظة ماثل أمامه. وعليه ان يقول الحقيقة أمام الناس بدون كذب ومراوغة، ان يكون حذراً في خطواته، حتى لا يقع في مأزق (أتخذ تدابير احتراز بعد أن صنع زورقاً لا يشبه الزوارق الراسية على الجرف، وهدفه ان ينزل الى المستنقع من غير ان يعرفه الاخرين بذلك) ص47. لكنه وقع في المحظور وانتشر خبر بقايا الجثة بين الناس،بعدما سحب الجثة الى غرفته واخفائها، وقدم إلى المحكمة بتهمة القتل والاجرام (القاضي: ماذا تقول في التهمة الموجهة إليك ؟

- الدفاع: سيدي، أن موكلي أصم وأعمى وأبكم

- القاضي: مع ذلك يجب أن لا نتجاوز على الإجراءات التقليدية) ص59. بدأ يشعر بأنه غريب عن المجتمع، والقضاء والنظام، يترصدون به، لايقاعه في الفخ، ولا يمكن تغيير عقلية المجتمع بأنه ليس قاتل، ولم يسمع نصيحة الآخرين بعدم تصادم مع المجتمع (- اسمع ياولدي، حينما كنت في سنك فكرت بالتغيير، فقد كان كل شيء رتيباً، اردت ان احرك الرتابة فاختفيت، كان الخطأ بعدئذ غير متعمد فبدلاً ان تحدث قفزة أصبحت أسطورة ولغز) ص74.

لكن الغرابة في امر بقايا الجثة، انه كلما اكتشف جزء من بقايا الجثة، فقد جزءاً من جسمه.، هو يحاول جاهداً  تمزيق ستارة القضاء والقانون ويكشف الأخطاء الجسيمة ضد الزمن والانسان،فبدلاً من مناقشة رؤيته الفكرية بالطوفان القادم، يتهم بالاجرام وخيانة الوطن، وحتى لو كانت بقايا الجثة هي جثته (الادعاء: ألم يكن تعرف ان اخفاء جثة مهما كانت محظوراً ؟

المتهم: لكنها جثتي

الدفاع: (يرفع يده) سيدي القاضي ما دامت الجثة تابعة له، فلا يحق لاي شخص ان يحاسبه

القاضي: القانون ينص على عموم الجثث، كان على المتهم أن يخبر عنها. الاعتراض مرفوض) ص81. ثم تضاف الى لائحة الاتهامات اشياء اخرى تصب في الاعتراض على القانون والقضاء والنظام، وهو بمثابة التحريض على الدولة في المطالبة بالتغيير (الادعاء: ماهي دوافع خروجك في الليل ؟

- المتهم: كنت ابحث عن جثتي

(ضحك وهرج في القاعة، القاضي يدق بمطرقته)

الادعاء: هل وجدت جثتك ؟

- المتهم: عثرت عليها مجزأة، لا أعرف من قتلني ؟. وكيف سقطت ؟ مع ذلك قبلت حكماً في اليقظة، ونزلت عنه الى حكم النوم، ثم دفنت الجثة في غرفتي) ص82. ويستدعي للمحكمة شهادة الأم لتقول مبررة فعله (- الام: يحاول ان يجمع أشلاء جثته ويفكر بالطوفان) ص84. ثم تستدعي الى المحكمة شهادة إمرأة (الدفاع: هل لكِ ان توضحي الامر ؟.

- المرأة: في البدء عثر على الوسط ثم القدمين واليدين والرأس

- الدفاع: هل تأكدتِ انها جثته ؟

- المرأة: نعم) ص85.

لكن وقع المحظور وما كان ينادي به ويحذر منه، من الطوفان الثاني سيكون أفدح من الطوفان الأول، سيهلك كل شيء، ولم يترك أي شيء لم يصبه الخراب العام، فقد اشتعلت الحرائق والنيران في كل مكان (كان يرى ألسنة النار تلتهم الشبابيك والأشجار الارصنة، الدخان يتصاعد فتنشر في الأفق روائح كريهة) ص91، ولكن بعد الحرائق  تعود جثته اليه، يعود ابيه الغريق الى الحياة، تزوجت أمه بعد ما كانت تصر بعناد على رفض فكرة الزواج، اما هو فكان يجدف إلى عمق المستنقع، منتظراً ان تنحسر النار ويعود من جديد. وهذا يدل بأن الحياة لن تموت مهما طال الزمن، فلابد ان تنبعث مجدداً من رمادها.

***

جمعة عبدالله

استلهم القاص محمود جنداري في قصة "زو – العصفور الصاعقة"*، الأساطير السومرية في بنائها، بل عمد في سردها من البداية الى النهاية على المتخيل الأسطوري فقط، ولم يتقرب نهائياً الى الزمن الحاضر، هذا ما يبدو عند القراءة للوهلة الاولى، ولكن عند القراءة العميقة، والمقارنة بين الصور المتخيلة المعلنة والصور الواقعية الخاتلة، نعثر على ما اراد القاص أن ينوء عنه الا وهو الزمن الحاضر، عن طريق المتخيل المكثف في الخطاب الرمزي – الأسطوري، في بناء نص سردي له القدرة على خلق الصور، بمعنى ابداع الصور وليس إعادة إنتاجها، ويتسم هذا النص بالتجريب والتجديد غير المسبوق في كتابة القصة القصيرة، عراقياً وعربياً، حيث نلج نص محمود جنداري الرمزي – السحري بدون توجّس، والمشحون بالأسطورة المستمدة من الواقع، مكوراً تاريخ العالم وتاريخ الإنسان منذ بدء الخليقة بين يديه ككرة من بلور، لينقلك عبرها من عصر السلالات السومرية الست الى جزيرة دلمون، ومن مدينة أوروك الى يثرب، ومن اتونابشتم الى السامري، لكي يغذي بها خيال المتلقي ووعيه، ولكي يدين ويؤشّر الحالات غير الإنسانية، وبالسرد المتداخل المخترق للزمكانية، والغاء تسلسل القصة التقليدية الأفقي، وتزاوج الفنتازي بالتاريخ، وفي اللحظة ذاتها يعمل على تأسيس وبناء نصاً سردياً بتقنيات مختلفة كلياً، مفكّكاً الأسطورة والتاريخ ملتقطاً شذرات من هنا وهناك، غير مترابطة لإعادة تركيبها، وصياغتها صياغة معاصرة برؤية شمولية، مكوناً منظومة متماسكة ليصنع منها أسطورة واقعنا الحاضر، وبهذا يترك لوحة شاملة، متكاملة، ومتداخلة، لكنها في الحقيقة أجزاء متفرقة مختلفة متعددة على المتلقي أن يقوم بإعادة تركيب هذه الأجزاء وترتيبها للوصول الى مقصد القاص والمعنى من خلال المعنى المستنبط من النصّ.

تعتبر المجموعة القصصية " مصاطب الآلهة " والتي تتضمن قصة " زو – العصفور الصاعقة "، من اجمل وأفضل ما كتبه جنداري، وهي كتابة تجريبية حداثية ظل القاص محمود جنداري متفرداً يشتغل عليها، كتابة متميزة ومهمة في القص العراقي الحديث والقص العربي،كان يصبو اليها منذ اول قصة كتبها، وكان يؤمن بالكتابة التي يسميها " المحلية الخلاقة "، ودلالة على ذلك، ففي أحد اللقاءات قال: " أنا أحب بلدي العراق، أنا محلي، قلباً وروحاً وفكراً وتطلعاً، أنا مفتوناً بتاريخ العراق، الى حد انني بدأت أرى العالم من خلال العراق، أنا محلي وسأظل كذلك"1. ونص القصة يكون نصاً مفتوحاً في تفاعله مع المتلقي، وفي تفاعل النصّ القصصي ومؤوله / الناقد، وهذا ما أشار إليه فولفغانغ إيزر في دراساته النقدية فما " هو أساسيّ بالنسبة لقراءة كل عمل أدبي هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه"2، ولأن مفهوم "الانفتاح" له علاقة حتمية صميمية بالمؤول / الناقد الذي يستهلك الأثر أو النصّ، وايضاً، يمنح النصّ المفتوح متلقيه حرية، ليتمكن من التمركز وسط نسيج من العلاقات النصية، وذلك لا يتم إلا بقراءة مفتوحة، تعمل على إكمال النهايات الناقصة وسد الفراغات في النصّ المفتوح. ومن الأمثلة التي يستعرضها إيكو في كتابه "الأثر المفتوح" في تجلي "الانفتاح" من خلال الاستعارة التجريبية التي تجعل المتلقي يعلم بأن الدلالات والرموز الموجودة في سرد القصة يتحتم عليه اكتشافها. لأنه لابد للمتلقي من " الظن بأن كل سطر في النص يخفي معنى سرياً آخر، كلمات، بدلاً من التصريح، تخفي ما لم يقال، ومجد القارىء يكون باكتشاف انه يمكن للنصوص أن تقول كل شيء عدا ما يريد مؤلفوها أن تعنيه. وبمجرد أن يدعي اكتشاف المعنى المزعوم، تكون على يقين من أنه ليس المعنى الحقيقي، حيث يكون ذلك الأخير هو الأبعد"3. وفي هذا يدرك المتلقي أن المعنى لا نهائي، ويتبدل بتبدل القراء، وتباين التأويلات، واختلاف زمن القراءة.

ليس من الممكن أبداً، الاعتماد على النقد الأسطوري فقط، في تحليل واستبطان نصْ القصة، لأن هذا سيعمل على تثبيت الرؤية الأحادية، القاصرة على الالمام بكل الجوانب، لذا يجب اللجوء في قراءتنا الى النقد الثقافي المتشعب الفروع (من فروعه النقد الأسطوري) فالنقد الثقافي يهتم بالمضمرات الدلالية الكامنة وراء السرد الجمالي الظاهر، وهو ينبني على نظرية الأنساق المضمرة، وهي أنساق ثقافية – تاريخية – معرفية – ايدولوجية، تتقن الاختفاء تحت مجازية النصوص، لذا فأن النقد الثقافي هو مشروع في الأنساق، والنسق يكون مرتبط بكل ما هو مضمر في النص، وهذا ما تميز به نص القصة " زو- العصفور الصاعقة ". ليس ذلك فحسب، كذلك يحتاج المتلقي الى مرجعيات: ثقافية – معرفية – تاريخية، لفهم معنى النص القصصي واستيعاب الفكرة، لأن القاص يعمل بقصدية ميتا نصية على احالتها خارج النص تماماً الى ما وراء السرد والى ما وراء القصة، ففي هكذا علاقة ما بين النص والمؤول، يصبح بإمكان المؤول تحديد قصد النص.

وهذا ما نلمسه منذ عتبة النص الا وهو عنوان القصة، لقد وضع العنوان بقصدية عالية، متلاعباً بفكر ومخيلة القارىء العادي، من خلال الأيحاءات المبطنة والغموض الذي يكتنف العنوان، بدلالات تتداخل فيما بينها: ابستمولوجية – أسطورية، تستعيد التاريخ الى الواقع، وتشتغل على اظهار الصورة المختفية / المستعارة من حاضر القاص القابعة تحت الصورة الظاهرة / المستعارة من ملحمة جلجامش - الماضي، صور مليئة بالشفرات والاستعارات، فالعنوان هو البوابة الأولى للدخول لأي نص، وبتفكيكه نستطيع اضاءة النص كله. فالعنوان الذي وجد على الللوح الطيني هو " طائر العاصفة – زو " فقام محمود جنداري بتغيره الى " زو – العصفور الصاعقة "، ففي هذا التقديم والتأخير بشكله البسيط، يعني الشيء الكثير وفي ذات الوقت مهم جداً، حيث يكشف للأخرين ما يعتمل في رؤيته وفكره تجاه الآخر والعالم وتجاه ذاته القلقة. زو سارق لألواح الحكمة / القدر، رؤية ايدولوجية بحتة عندما يكون المستبد يسيطر على اقدار الناس، وكذلك مسيطر على المعرفة والثقافة، فكيف سيكون الوضع؟

ففي الأسطورة السومرية، يكون الطائر "زو" هو إله ثانوي يرمز الى قوى العالم السفلي المُدمرة، ورمزاً للشر، ويسمى ايضاً بالاكدية " انزو"، وعند البابليون ينذر بالسوء، ويتصورون فيه ارواح الموتى على هيئة طيور، وهو إله يرتبط بالعواصف الرعدية، وهو طير العاصفة الخرافي في المصادر الاكدية، ويصور على شكل نسر براس اسد، يعتبر في الاساطير السومرية والاكدية، أنه إله وشيطان " نصف رجل ونصف طائر "، واسطورة " زو " أن الاله "انليل " في النسخة الاكدية، وهو نفسه الإله " انكي " في النسخة السومرية، كان يستحم حين باغته " زو " وسرق منه الواح القدر ذات القوى السحرية الهائلة التي تعطي حاملها سلطة مطلقة على الآلهة والبشر والكون واخفاءها على قمة جبل. امر " آنو " إله السماء الآلهة الأخرى باستعادة الواح القدر، رغم انهم جميعا كانوا يخشون الشيطان. وبحسب أحد النصوص، قتل زو من قبل مردوخ.

وهنا نتسأل لماذا لجأ القاص الى استعارة الأسطورة السومرية؟ وهل هناك ضرورة في استعارة الاسطورة؟ وما لذي اراد أن يقوله من خلالها؟ لقد عمل القاص على مطابقة هذه الاستعارة بالواقع الحاضر عن طريق الرمز والغرائبية ومزامنة الحدث الآني مع الحدث القصصي، وذلك بالاشتغال على المتخيَل التجريبي والابتعاد عن المباشرة في السرد، لذا يستخدم القاص الترميز والاستعارة والإحالة في السرد، لتأسيس علاقة جدلية بين المتخيل والتاريخ والواقع، وليس ذلك فحسب، بل أن هنالك علاقة متبادلة قوية بين المتخيل والتأويل، عليه يجب أن يُنظر إلى التأويل على أنه " شيء يُجري على التخييل، بالأحرى على أنه شيء يُجري في التخييل، يصبح، عندئذ، موقف مناهضة التأويل موقفاً يتعذر الدفاع عنه، لأنه مساوٍ لرفض شكل هامّ من أشكال التخييل ( الحديث ) الذي يعني بالتأويل: أي أنه يعني بمدياته وحدوده وضرورته وقصوره"4.

تبدأ القصة بمشهد الطوفان، " انهمر المطر طوال اربعين يوماً ولم يتوقف. مطر غزير واصل سقوطه في الليل والنهار وريح جامحة اعولت محتدمة بصراخ محتبس في فراغات كونية هائلة. احتربت مع الظلمة المستوطنة هناك قبل خلق العالم "**، فما هي دلالة الطوفان الملحق بالمطر، رغم أن لكلا المفردتين معنى دلالي رمزي، غير المعنى الحقيقي الفعلي، فالطوفان هو دائما يعني الموت لكل ما يجتاحه، وبالذات الإنسان، ثم تاتي مفردة " مطر " مرتين للتوكيد، بصحبة: ريح جامحة – صراخ محتبس – ظلمة مستوطنة، أي فوق الموت، موت، عكس المعنى الحقيقي الذي يعني انبعاث الحياة في كل الكائنات، واحيانا تاتي مفردة " مطر " بتفسيرات وتأويلات عديدة لدي النقاد والباحثين، فبعضهم وجد فيها الثورة، والبعض الآخر اعتبرها رمزا للانبعاث، ولكن هذه الاستشهاد يجعلنا نتسأل، ما هو قصد القاص فيه؟ " ما نظن نحن أنه هو معنى النص، لا غيره. وتتمثل هنا مهمة المؤول الرئيسة في أن يعيد، بنفسه، إنتاج " المنطق " المؤلف واتجاهاته ومعطياته الثقافية ثانية، أي باختصار: أن يعيد إنتاج عالمه. وهو يتلخص تحديداً ببناء خيالي جديد للذات المتكلمة "5. وعند العودة لمضامين أسطورة الفيضان، سوف يتكشف لنا السبب الحقيقي له، من حيث أن الطوفان حدث نتيجة طغيان وفساد البشر، وعادة ما يحل بقصاص الهي، وكذلك توصف مياه الفيضان بأنها تعمل على تطهير البشرية بولادة جديدة، كما تحتوي معظم أساطير الطوفان على بطل ثقافي يمثل رغبة البشر للحياة: زيوسدرا- اوتونابشتم – نوح. المفارقة أن هذه الشخصيات الثلاث هي لشخصية واحدة، ولكنها اتية من ثلاث حضارات مختلفة، في اللغة والزمان، فالأولى اكدية والثانية سومرية، والثالثة النبي نوح الذي جاء ذكره في القرآن في عدد من السور، وفي التوراة في سفر التكوين،وفي الانجيل، ونحن بدورنا نتسأل لماذا عمد جنداري الى أن يجعل مفتتح قصته بــ: الطوفان وقبل خلق العالم؟! " فراغات كونية هائلة، قبل خلق العالم ". ولماذا الماء والفراغ؟. " ينظر في الدم المسكوب على الطين ويقرأ بشفتيه مراحل تكوّن العالم عبر انهمار المطر وعويل الريح ". يتعرف على ذلك المتلقي عندما يرى بأن زمن القصة السردي من بداية القصة لنهايتها هو الايام الاربعين لمطر الطوفان والذي يعتبر احدى الركائز الأساسية التي تستند عليها عمليات السر القصصي لبناء القص، أي أن زمن القصة هو زمن عدد ايام الفيضان الاربعين فقط.

إما في الاستشهاد يختلف الوضع، لأن الطوفان حدث نتيجة خنوع واستسلام وجبن الناس عما يفعله الطاغي، الدكتاتور، المستبد بهم، وعليه يجب تحريك واستنهاض الوعي في ذات المتلقي، وبالتحديد الإنسان العراقي، وحثه على التمرد ورفض الظلم. ونقرأ بجمالية عالية عندما يصف استبداد وعجرفة ووحشية اله السماء أنو تجاه الشعب: " من اور الى حيث يجلس – آنو – هنا فوق جبل امانوس يُسبح لنفسه ويقرأ في النسخة الاولى من تلمود بابل. كلمة كلمة ومن حوله، آمين. جانباً ينتظر مرور الاقوام تحت قدميه، مباركاً بقليل من الاهتمام حشوداً تعبر على شفا صراط مستقيم كأنه حد السيف، من كتلة النور الأبهى الى كتلة الظلام الابهى، وينقل نظراته التي لا تخطىء، من قبل آنو الجالس على منصة التسلط ".

في القصة تتكرر ثنائيات كثيرة: الحياة / الموت، النهار / الليل، الضوء / الظلام، الآلهة / الإنسان، السلام / الحرب. ولكل مفردة من هذه الثنائيات لها دلالتها واحالاتها المجازية مع مرجعيتها الواقعية.

القصة موشومة بالدم ومختومة بالدم المسفوك، اينما تولي وجهك تشاهد نافورات الدم منتشرة في كل مكان وفي كل زمان، فالاقمار تنز دماً والشموس تنزف دماً، فهي قصة تحاول ان تقول بأن الإنسان قد كتب عليه لعنة الدم الابدية منذ بدأ الخليقة والفناء:

* اختفت نينوى. سقطت الى الابد وهلك ملكها ابلط بعد خمس سنوات من الاستحمام في احوض الدم.

* والشمس التي تظهر دوماً وهي تنزف دماً. فتاريخ سفك الدم منذ الخليقة الى يومنا هذا:

* سقطت نينوى. سقطت الى الابد وهلك ملكها ابلط بعد خمس سنوات من الاستحمام في احواض الدم

* اسفارأً لم تعلو ولم يجف مداها بعد، ومدادها من الدم والدم لايجف سريعاً في أول ايام المطر.

* قتل من اجل مجدها خمبابا العظيم المنذور لحراسة غابة الارز.

* حياة ارابخا السرية، غسلها المطر / فسال حبر الكتابة من عيني الاميرة فملا نهر الخاصة واختلط الدم ببحر دجلة وبحر الفرات.

* من ذبح نبونيدس وقطع راس مروان ولسانه وحز رقبة ابلط وذبح اهل بغداد في 1258؟ من هدم الكعبة؟.

- نبونيدس ملك بلاد بابل تزوج من ابنة نبوخذنصر وهي نكتوريس Nictoris من ما اهله إلى حكم الامبراطورية البابلية. كان أحد ملوك بابل استلم العرش في عام 556ق.م وتنحى عن العرش سنة 539ق.م، بعد غزو الفرس للعراق بالتحالف مع الليديين بقيادة كورش وكانت نهاية الدولة البابلية بإزاحته عن الحكم.

- وهزم «مروان» في معركة «الزاب» الحاسمة، التي وقعت بينه وبين عبد الله بن علي بن عبد الله، حيث التقي الجيشان في منطقة الزاب بين الموصل وأربيل، وانهزم جيش «مروان» وفر إلى مصر، حيث قتل في قرية «أبو صير» بالجيزة، وقطع رأسه ووجه به إلى عبد الله بن علي فنظر إليه وغفل، فجاءت هرة، فاقتلعت لسانه وجعلت تمضغه.

- فى سنة 1258 سقطت بغداد فى ايد المغول ودمروها وأبادوا سكانها وقبضوا على الخليفة العباسي المستعصم بالله ورجالته وركلوه بالرجلين حتى الموت.

- هدم أبو الطاهر القرمطي الكعبة عندما هجم على الحُجاج بجيشه، فقتل منهم ثلاثين ألفاً داخل الحرم المكي، حيث قال قولته الشهيرة: "أنا، انا أخلق الخلق، وأفنيهم أنا"، وبعد أن انتهى القتال أمر أبو الطاهر أن تردم بئر زمزم بجثث القتلى، وسرق الحجر الأسود وكسوة الكعبة أيضاً، وظل الحجر بحوزته في البيت الذي بناه أبوه ما يزيد على عقد من الزمان.

وبالرغم من أن قصة " زو- العصفور الصاعقة " مستمدة من ملحمة جلجامش، الا ان القاص يخرج من النص ليستعير من التاريخ الذي يعتبر قريب للحاضر الحالي بالنسبة لتاريخ ملحمة جلجامش، أي أن ما اراد أن يقوله جنداري هو أن تاريخ العراق منذ عصر السلالات وليومنا هذا هو عبارة عن حروب ومذابح وقتل واغتيالات وانقلابات دموية ومؤامرات، أي يعني بالمختصر نزيف الدم العراقي مازال مستمراً عبر القرون، بل أن هناك مفارقة مثيرة مدهشة للمتلقي على شكل تنبؤ لما سيكون عليه العراق بعد مائة سنة القادمة، ولكنها تقع عام 2003م، عام الاحتلال الامريكي للعراق، وما قاموا به من قتل وتعذيب للسجناء في ابو غريب واضطهاد،وسرقة اطنان من الذهب من البنك المركزي، ثم يسلموه وهو في فوضى عارمة لسياسي الصدفة الذين ولائهم لدولة جارة رغم ان القصة كتبت عام 1988م وهو رحل عن هذا العالم 1995م:

" ان المائة سنة المقبلة فيها مجاعات وطواغيت. طاعون وطوفان / حرائق واغتيالات ونساء يحكمن بالخفية واعتداءات وزنى بالمحارم وسرقات ".

إن كل قراءة للنص تحوي مادة موضوع ضمنية يحيل اليها النص وتوجه استيعاب القارىء إلى فهم يمكن أن يقال عنه إنه صحيح، الى حدّ ان كل من يقرأ النص يكون مأخوذاً بالمعنى المقصود ويستلزم " فهم النص فهماً لمادة الموضوع التي يتحدث عنها النص، في الدوافع الادراكية التي تكمن خلف البحث وذلك لفهم النص وجعله موضوعاً للبحث. ولهذا السبب ينبغي أن يشتمل الفهم النصي على عملية فهم ذاتي أيضاً: إذ ان ما ينبغي فهمه ليس كلمات النص وعلاقاتها فقط، بل اسباب ممارسة النص دعواه في القارىء أيضاً، وذلك لأن القارىء هو المخاطب المباشر في ذلك النص"6. فاللغة في النص تحمل اسرار الذات واسرار المتخيل سوية.

منذ السطور الأولى، يعمل القاص على اقتران الفجر بـ الخلق ونشوء المدن / حضارة والسيف / ابادة، وهذه المفردات تتضمن الكثير من الرموز والدلالات التي تحيل المتلقي الى القيام بربط الداخل بالخارج في النص القصصي، وكيفية نشوء حضارات وعصور جديدة تسود ثم تندثر وتختفي لا يبقى منها الا الأثار، وحقب متتالية مختلفة:

- بدأ الخلق / حاول الخالق / بحد السيف.

- انشق الفجر واتسع حد السيف.

- انشق الفجر قبل ان تظهر المدن.

" بدأت المدن تظهر / والازمان تنضج / والحقب تتحدد بعلاماتها، انبياءً أو ملوكاً أو رؤى والانعطافات تداخلت بدمائها الشرسة كما يتداخل الضوء بالظلام. والعالم بدأ يغادر فراغاته التي يسبح بها ويتوضح يوماً بعد يوم رؤى من داخل المطر / وعبر انهماره البليد ".

وظهرت نينوى /

كما يظهر البرق / ظهرت نينوى.

اختفت نينوى.

من الضوء الى الضوء.

إما اللعب بالأزمنة والوقائع التاريخية، فهي كثيرة جداً، وعلى سبيل المثال نأخذ المقطع التالي الذي يتضمن كذلك سخرية واستهزاء:

" تضايق آنو وخفت نوره ولبس نعليه من على منصة التاريخ وقال اجعلوا من هذه مبولة / وهم بالنهوض ولكنه لمح آدم وزوجه يُطردان من الجنة في اليوم الثالث من ايام المطر الأربعين ظهر ابن شحر بجسده الناري يجر خلفه آدم وزوجه بحبل ".

ففي القصة ربط مباشر بين السخرية الأدبية وبين الأسطورة السومرية، والتهكم فيها ليس فقط لحفظ التاريخ، ولكن ليُسْأل السلطة،وعندما ترتبط بالهجاء كما في قصة زو، فأن التهكم يأخذ بكل تأكيد ابعاداً ايدولوجية اكثر دقة، ولأن أسلوب الما بعد الحداثي " يتطلب الاستدعاء التهكمي الساخر المتعمد للتاريخ بأشكاله البنائية والوظيفية "7. حيث نجد أن " المشابهات الشكلية تشير الى الفروق التهكمية في المضمون وفي الشكل. وهنا تؤدي القوة الهجائية للتجاور التهكمي دورها "8.

إن اكثر الذين تناولوا القصة بالدراسة والتحليل، لم اشاهد أي احداً منهم يشير ولو مجرد اشارة للتساؤلات المبثوثة بين الاسطر والتي جاءت كأنها مقحمة بالسرد وليس لها علاقة به، بينما في الحقيقة الاجوبة لهذه التساؤلات متواجدة في النص، وقريبة جدا، فقط تحتاج الى حفر وتدقيق للسطور، ولكي يكتشف المتلقي أن التاريخ يعيد نفسه، كما يحاول القاص أن يوصل ذلك للمتلقي، مرة على شكل مأساة، ومرة أخرى على شكل كوميدية كما قال ماركس:

"هل الارهاب علامة؟ هل السؤال علامة؟ هل الصوت علامة؟ هل المعابد علامة؟ هل النورس الابيض علامة؟ هل القتل علامة؟ هل المجاعة علامة؟ هل الأبواب علامة؟ هل المآذن علامة؟ هل الغواية علامة؟ هل الكتابة علامة؟ ".

سأتناول علامتين فقط، لتوضيح ما ارد بهما القاص، من معاني وهما:

هل القتل علامة؟ / هل الكتابة علامة؟

نعم علامة، لأنها تدلل على فاعلها ومقتفي أثرها، ويسميها البعض بالرمز. ويعدّ هذا المصطلح على حد قول بارت من المصطلحات الغامضة جداً بسبب استخدامه في معاجم مختلفة، فالرمز، بمعناه العام يرتبط بالفعل الإنساني الذي يستطيع الدخول الى أعماق الأشياء واستبطان مكنوناتها. " هل الكتابة علامة؟ اهي موج ام برق يخطف عقول البائسين؟ "، هنا يجيب القاص على السؤال بسؤال، بمعنى أن على المتلقي استخلاص الجواب من بين الأسئلة، لتكون الكتابة الرمز الثوري لعقل المثقف الحقيقي، لقد استعاض جلجامش عند فقده لعشبة الخلود، بأن يتوجه الى الأعمار، والتصالح مع مواطني مدينته اوروك، بالإضافة الى كتابة ملحمته، كان خلوده، فالكتابة اصبحت هي الخلود وهذا خاضع لتأويلات مختلفة كثيرة حسب القراء، وحسب وجهات نظرهم المتعددة. ولمعرفة معنى هذه العلامات يجب أن تكون هنالك امكانية فهمها وتوضيحها، أي " الطرق التي بها تصنع المعنى، الطرق التي يتحصل بها القراء على معنى هذه الاعمال. فإن المعنى يربط قيم ذوقٍ ما بالعمليات التي يؤديها المرء للوصول اليه.أن نصاً ما يمكن أن يصنع معنى، وشخصاً ما يمكن أن يصنع معنى من نصاً ما. ولو أن نصاً أصبح يصنع معنى بعد أن كان لا يصنع معنى في البداية، فذلك أن شخصاً ما قد صنع له معنى. إن صناعة المعنى توحي بان على المرء لكي يدرس الدلالة الأدبية أن يحلل العمليات التفسيرية" 9.

هذا النمط من الأدب التجريبي ما بعد الحداثي قام بالاشتغال عليه محمود جنداري في مجموعته الأخيرة " مصاطب الآلهة " حيث يتصف غالباً بمناهضة السلطة السياسية، ولكن ليس بصورة مباشرة، بل عن طريق الاستعارة والمجاز والتخييل والتورية، وهذا ادى الى الالتقاء مع مختلف أنماط النظريات النقدية الحداثية، وبالأخص نقد استجابة القارىء، وجمالية التلقي، والتأويلية، ونظرية النقد الثقافي، والنظرية الجنسية، ونظرية ما بعد الاستعمار، والتعددية، وغيرها، ويتميز بالانعكاس الذاتي واحياء البعد الشكلي من القصة، وهنا نتسأل مرة أخرى لماذا لجأ محمود جنداري الى أسطورة جلجامش في كتابة قصته " زو – العصفور الصاعقة؟، ولماذا هذه الأسطورة بالذات؟ لأن دلالتها تشير الى حالة التشظي، وفي ذات الوقت تعمل على تكريس هذه الحالة، لتميزها بالتلاعب في الثيمات والامكنة والازمنة، والشخصيات. وتميزها كذلك بانها تقوض نظاماً عن قصدية عالية لتشكل مكانه نظاما مغايرا للسابق.

تنتهي القصة بمشاهدة كبير الآلهة " انو "، وهو في حالة الغلمة والاشتهاء للفتاة فائقة الجمال، ابنة الكاهن تلبونايا، وهو مخمور، يستدرجها بالوعيد / الخوف، وهو في خضم هذه العملية، يقوم زو بسرقة الواح الحكمة للمرة الثانية (هنا تستبدل جملة الواح القدر بالواح الحكمة بينما في كل القصة يسميها الواح القدر) نشواناً:

" تحمل اسرار ارابخا في سجلاتها السرية، اقتربت الفتاة ممسكة باللوح فوق راسها وانحسر الثوب قليلاً عن حلمة نهدها، بهت انو فجلس على منصة الشهوة. تابع اهتزاز النهد وطلب شراباً. وامر ان يركن السجل عند اقدام المنصة / ان الواح الحكمة والنواقيس المقدسة لا تزال خلف اسوار اوروك. بينما انقض الاله زو واختطف لوح ارابخا وطار به نشواناً من جبل الى جبل ".

أخيراً. هل الشهوة علامة؟.

***

أسامة غانم

...................

الهوامش والاحالات

*محمود جنداري – " زو – العصفور الصاعقة " قصة، مجلة الأقلام العدد 11-12 / 1988م، بغداد.

** جميع الاقتباسات التي ترد في الدراسة هي من قصة " زو- العصفور الصاعقة " والمحصورة ما بين الصفحات 152 – 164 في مجلة الاقلام.

1 - حوار مع محمود جنداري اجراه هاتف الثلج في مجلة " أفاق عربية " العدد 11 / 1989م، بغداد / العراق.

2 - تحرير: سوزان روبين سليمان وإنجي كروسمان - القارىء في النص: مقالات في الجمهور والتأويل، ترجمة: د. حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت / لبنان، 2007م، ص 129.

3 – وليم راي – المعنى الأدبي:من الظاهراتية الى التفكيكية، ترجمة: د يوسف يوئيل عزيز، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد / العراق، 1987م، ص 175.

4 – القارىء في النص: مقالات في الجمور والتأويل. ص 198- 199.

5 – ديفيد كوزنز هوي – الحلقة النقدية: الأدب والتاريخ والهرمنيوطيقا الفلسفية، ترجمة: خالدة حامد، منشورات الجمل، كولونيا / المانيا، بغداد / العراق، 2007م، ص 27. الاستشهاد يعود للناقد الامريكي أ د هيرش.

6 – المصدر السابق،ص 212.

7 - ليندا هتشيون – ما وراء القص التاريخي: السخرية والتناص مع التاريخ، ترجمة: أماني ابو رحمة، المجلة الثقافية الجزائرية، 10-6-2011م.

8 – ليندا هَتْشيون – سياسة ما بعد حداثية، ترجمة: د حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت / لبنان، 2009م، ص 351.

9 – جوناثان كلر – مطاردة العلامات: علم العلامات، والأدب، والتفكيك، ترجمة: خيري دومة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2018م، ص 82.

*نشرت في مجلة تامرّا العدد 16- 17 تشرين الثاني 2022م. بعقوبة / العراق.

* نشرت في مجلة الرقيم العدد 34 / 2023م، كربلاء – العراق.

يعتبر نص "مصاطب الآلهة"* للقاص محمود جنداري امتداداً لكل نصوص المجموعة الثمان، أي الواحدة تتغذى من الأخرى، أو الكل تستمد ديمومتها من مشيمة واحدة، وبالأخص نص " زو العصفور الصاعقة "، ففي هذه النصوص لا نعثر نهائياً على أي شيئاً مركزياً: شخصية – حدث – مكان – زمان – ثيمة، يطغي على محاور النصوص، لتلتقي مجتمعة في تأسيس نصوص تجريبية مفتوحة داخل الخطاب القصصي على شكل انزياح سردي، تمتاز بالمغايرة والاختلاف، تستند على مرجعيات: تاريخية – اسطورية – واقعية، تحيلنا خارج النص تماماً الى ما وراء السرد، والى ما وراء القص، للعثور على الشفرات والاشارات المتواجدة داخل النص، والواقعة في منطقة يتداخل فيها الوهم بالحقيقة، والمتخيل بالواقع، تحت مظلة الرمزية المبطنة لجميع المرجعيات، مما يرغم القاريء على بذل مجهوداً كبيراً من أجل قراءة عميقة فاحصة مع مقارنة الصور المتخيلة الظاهرة بالصور الواقعية المضمرة وذلك من اجل إعادة تجميع آفاق النص الدلالية – المشفرة – المضمرة.

وهذا ما اشار اليه جنداري في الكلمة التي القيت في اتحاد أدباء العراق عن نصوص " مصاطب الآلهة " عام 1994، حينما قال: " إنها نصوص قصصية مبنية بطريقة خاصة ومتفردة. قد تحتاج الى مزيد من الوقت والتمعن، للكشف عن منطلقات تكّونها الإبداعية "1. بمعنى أنها شبيهة بالكلمات المتقاطعة، التي تحتاج الى وقت وتفكير وقوة ملاحظة بالإضافة الى ثقافة عميقة في كافة المجالات، وهذه الطريقة في البناء " الخاصة " و " المتفردة " كانت في الاستعارة والمجاز والتلاعب في حقيقة الأشياء / المعلومة من اجل توصيل المراد توصيله رغم التشظي والتشتت المتعمد في النص، والاشتغال على تقنية الظاهر/ المعلن والباطن/ المخفي، الذي تم بواسطة المتخيل الادبي الذي ابداع صوراً، واحداثاً، جديدة غير واقعية.

هنالك تسأل يتبادر الى ذهن القاريء، حالما يبدأ بالقراءة، لذا علينا قبل الخوض في تحليل نص " مصاطب الآلهة " أن نستعرضه، لماذا استلهم محمود جنداري2 الاساطير السومرية: ملحمة جلجامش – قصة طوفان نوح – السبيء البابلي لاورشليم – عشتار ودموزي – ملكة كيش كوبابا / صاحبة الحانة – الملكة اميتيس زوجة نبوخذ نصر الثاني، الخ. والتراث العربي الاسلامي: مروان بن محمد – ابو مسلم الخراساني، في بناء نص " مصاطب الآلهة ". فمن خلال توظيف هذه الاسماء التاريخية / الاسطورية، ومن خلال عمق وعيه بالتحولات الوجودية، وبالذات الوعي السياسي العالي، في عملية سردية هادئة من حيث اصبح الحاضر ماضي وبالعكس، عليه التجأ الى الاسطورة بدلاً من الحاضر، والتجأ الى المحمولات الرمزية الموجودة في الاساطير، وهذه الحمولات المختلفة في انساقها وتوجهاتها مرتبطة جميعها بوعي ظاهراتي حاد مع قصدية حذرة، في إعادة صياغة مفاهيم العلاقات الممكنة القائمة بين " الأنواع الرئيسية الثلاثة للخطاب السردي (الأسطوري والتاريخي، والتخييلي) والعالم الواقعي، التي ترجع اليه من دون شك "3. لذا استخدم محمود جنداري: الترميز، والاستعارة، والإحالة في السرد، لتأسيس علاقة جدلية بين المتخيل والتاريخ والواقع، وليس ذلك فحسب، بل أن هنالك علاقة متبادلة قوية بين المتخيل والتأويل.

إن هذه الأنواع الرئيسية الثلاثة للخطاب السردي،استخدمها القاص بحيث دمج أو مزج هذه الأنواع في بوتقة واحدة مع إضافة الغرائبي اليهم، لتكون في بؤرة قص مركزية، مستقلة بذاتها، متوحدة في توجهها، ذات اهداف مرسومة بدقة وقصدية متمكنة، حيث يقول جنداري عن تجربة هذا الاشتغال، أن " الدوافع الحقيقية للمزيد من الكشف والبوح، تظهر علناً وفي زمن الكتابة، عبر اجتراح مسارات جديدة وصعبة الى حد ما، مثل مسار اختراق التاريخ "4. بحيث تصبح هذه الأنواع مع الغرائبي نسيج لحظة الكتابة، الكتابة الشاملة والمعقدة بالنسبة الى المتلقي،أي أن هذا النسيج يأخذ بالتشكّل لحظة الكتابة. نتيجة تلاعب القاص بهذه الأنواع. وفق منظومة من التحولات الفكرية والايديولوجية والفلسفية المستندة على التحولات الاسلوبية والبنائية، التي تؤدي بنا الى رصد وكشف الواقع الحاضر، وعن حمولات هذا الواقع الرمزية المتخمة بالدلالات والانساق المضمرة، نتيجة كثرة التناصات في الأنواع الثلاثة من: اسماء – امكنة – ازمنة، مختلطة ومتداخلة مع بعضها، لتمنحنا وحدة المنظور الرابط بين لحظة التاريخ السردي الظاهرة وبين لحظة الحاضر المضمرة.

وهكذا، فإن " السرد التاريخي يشبه السرد التخييلي، إلّا أن هذا يخبرنا عن مثل هذه الأعمال التخييلية اكثر مما يخبرنا عن مثل تلك الأعمال التاريخية. إن السرد التخييلي أبعد ما يكون عن عكس السرد التاريخي بل أنه يكمّله ويتحالف معه في الجهد البشري العالمي المتمثّل في التفكير في لغز الزمنية "5. بحيث مهما كانت الاختلافات بين الحدث الواقعي والحدث المتخيل فإن محتوهما الاخير هو ذاته. أي هنا يتقاسم المتخيل السردي والمتخيل التاريخي، في الانفتاح اللامحدود، وفي عدم التقيد بأي شيء، عليه يتطلب منا أن ننظر للتاريخ كخطاب، وكشيء بالاستطاعة التلاعب به من قبل السارد، ومن قبل القاريء. ولاستخلاص المعنى من خلال اشتراك القارىء والقاص في لعبة التخيُل، ويمكن ان ندعو " نتاج هذه الفعالية الإبداعية البُعْدَ الفعلي للنص، الذي يمنح النص واقعيته، وهذا البُعْد هو ليس النص نفسه ولا تخيل القاريء: انه نتيجة النص والتخيُل معًا "6.

ولو علمنا ان المصاطب كانت تقام عليها المعابد السومرية القديمة أو بيوت الآلهة، ويحلو للبعض أن يسميها مصاطب الآلهة. ومن امثلة المعابد المقامة على مصطبة معبد تل العبيد الكائن في موقع خفاجي ضمن منطقة ديالى، الذي يعود تاريخ تشييده الى عصر فجر السلالات الثاني، وقد تم العثور على نص يذكر فيه ان تشييد هذا المعبد يعود الى زمن الملك " آنيبادا " ملك اور.

تفتتح القصة بهذا الشكل، مشهد غرائيبي، وسرد متداخل متشظي:

" وضعوا سلال الخوص التي انجزوها تواً. وضعوها في الظل حول جذع نخلة فتية اخذت تنمو منذ سنوات نمواً غريباً ومضطرباً ثم جلسوا على مصاطب من المرمر في صفين متقابلين وراحوا يلملمون شتات الحكايات ويعيدون ترتيب اجزائها المفككة وسط صمت ظلامي "، هذا المفتتح يعطي القاريء اللماح فكرة واسعة عما سيكون النص عليه، حيث يتكون المشهد من: شجرة غريبة ومضطربة، مصاطب من المرمر متقابلات، يلملمون ويعيدون شتات الحكايات المفككة، في صمت ظلامي. ثم بعد قراءة عدة صفحات من القصة، يبين لنا السارد وظيفة السلال والتي يسميها " سلة الحكايات "، حيث نكتشف أن المحتويات التي توضع داخل السلال هي التأريخ: المزيف أو الملفق أو الحقيقي، فالحكايات هي تاريخ البشرية المغمسة بالدم منذ مقتل هابيل على يد قابيل، رغم أن الإنسان اخو الإنسان، ولكن، كلما مرت حقبة ارتفع منسوب انهار الدم حيث " لا تنفك تدور، سلال الخوص، حاملة بداخلها الحكايات، ملفقة وحقيقية على رقم من طين او رقاع من جلد غزال يجلس فوقها أخر الملوك "، عندئذ نعلم بان ما يعني بالسلال هي الحقب و المحتوى هو التاريخ المنسوخ على الرقم الطينية، وهذا التاريخ مهما تغيرت عصوره فهو محكوم من قبل الملوك الذين تتغير اسمائهم ولا تتغير افعالهم من حقبة الى حقبة: " امبراطور – ملك – امير – رئيس – زعيم – جنرال ". ولكن جميعهم " طواغيت من حجر ".

يبين لنا السارد العليم، منذ البداية، بإشارة واضحة الى أن الآلهة متفقة ومتعاونة مع الملوك، في تسهيل وشرعنة افعالهم من خلال القوة المفرطة والاستعانة بإصدار فتاوى لـ تسخير الناس وفرض الضرائب العالية عليهم، واستعبادهم عن طريق التجنيد الاجباري،والقوانين الجائرة، حيث الآلهة والحكام هنا يمثلون سوية سلطة قمعية، وهذا نشاهده في المقطع التالي، دماء وخوف، ينزف الناس دماءً خوفاً من الآلهة " حفروا عميقاً في الارض شبراً وراء شبر ونزفوا كثيراً من الدماء قطرة وراء قطرة. حفروا خوفاً من الآلهة. حفروا تحت رقابة صارمة امام اعين الجند المدربة على التقاط البريق من مسافات بعيدة، حفروا تحت لذع السياط سياط جند الملك اسرحدون أو سنحاريب أو رعمسيس، المعروفين بالدقة اللامتناهية في متابعة الفؤوس التي تهوي، والمنهالين بالضرب فوراً على من يتوقف. من يتوقف يمت ". يتوقف – يمت افعال مضارع - آنية مستمرة في كل الازمنة والامكنة، وهكذا " منذ عشرات القرون، وهم الملوك بالسوط يضربون الخارجين من كهوف شايندر "، ليس ذلك فحسب بل نرى مشاهد فظيعة بشعة وحشية مخيفة للسلطة المطلقة عندما " يذرون الرمل فوق نقاط الدم التي تناثرت على الارض، وعلى الارض تسقط الآن قطرات الدم والعرق ومن الارض تنبعث للتو رائحة فريدة هي رائحة الدم والتراب ". ولكن ليس باستطاعة أحد أن يغطي بالرمل الدم. فالدم ينبثق من الارض، ينمو عشباً قانياً احمراً، يطفو فوق الماء مشكلاً برك حمراء، الدم الدم يُسفك في كل الحقب والازمان، لأنها " دهور الهلاك " والموت المجاني. التي أبتدأت منذ خلق الخليقة. ومنذ أن اصبح للعالم ملك وأله.

وفي نص " مصاطب الآلهة " استلهم القاص اربع شخصيات من التاريخ، القاسم المشترك بينهم، هو انهم يمتازون بانهم كانوا آخر الملوك أو أخر الخلفاء في الحكم، والمدن التي يحكمونها تسقط، وقد ركز عليهم القاص بشكل ملفت للنظر، الذين هم:

نبونيد: كان آخر ملوك الامبراطورية البابلية الحديثة حكم من 556ق م حتى سقوط بابل. على يد كورش الكبير في 539 ق م، كان نابونيدوس أخر الملوك لبلاد ما بين النهرين القديمة، ولم يكن هذا الملك من العائلة المالكة، وهو يقول بصدد ذلك في احد نصوصه " أنا نبونيد الذي لم يتشرف بانحداره من نسل ملكي":

" شعر نابونيد بالمهانة عندما عرف عن طريق الاله مردوخ في لحظة لقاء عاصف بينهما انه أخر ملك سيجلس على عرش بابل. اضطرب عقله وانحرف سلوكه وانجذب بهواه النفسي الى معبد الاله سن في حران، حيث تعتكف هناك، ومنذ خمسة الاف سنة، امه كبيرة الكاهنات.".

ريم سن الاول: هو ملك اموري لسلالة لارسا، وكان آخر ملوك سلالة لارسا، وسع هذا الملك نطاق مملكته الى اوروك وايسن ثم بدأ عدة حروب جديدة ضد بابل في زمن حمورابي، الا أن بابل هي التي انتصرت في النهاية:

" عند حدود مارخاتس يحتشدون بصفوف متراصة ويندفعون كالسيل ويزيحون خصم بابل ريم سن، ملك لارسا المدعوم من العيلاميين، ويكتسحون اسوار الجبس من حول مدينة ماري ويدحرون الى الابد عدوتهم اشنونا، ويشيدون اسواراً من الدم والكبريت والقار والرصاص".

مروان بن محمد ( 72 هـ / 691م – 132هـ / 750م ) آخر خلفاء بني امية حتى سقوط دمشق. كان شجاعاً بطلاً لا يفتر عن محاربة الخوارج، حتى ضرب فيه المثل في الشدة، فقيل " أصبر في الحرب من حمار " ولذلك سمي مروان الحمار:

" ومن يثرب خرج مروان باتجاه الشمال، الى حران، مطارداً أو مطروداً حاول المكوث عند المعبد لكن خيل ابي مسلم الخراساني، اجتازت الجسور العباسية والعثمانية والحقب، وعبرت من نهر الى نهر ومن بحر مظلم الى بحر مظلم ".

" واضيئت بابل للمرة الاف

واغتمت بابل للمرة الاف، لما هرب الملك الاخير امام ابي مسلم. توقف في قنسرين وقاومه اهل حمص، وبصق اهل حماه على اعراف الخيل المخذولة فامر الملك المهزوم بان تصوب المنجنيقات اليها. واصل الملك تقدمه نحو حران ! ولكن خيل ابي مسلم كانت تنتظره عند ضفاف النيل فتمكن منه الجند، وقتلوه. قطعوا راسه وعلقوا جسده على عمود وقطعوا لسانه ورموه لقطعة جائعة ".

وللدلالة على ان نص " مصاطب الآلهة " الذي كتب في حزيران / 1988، و نص " زو – العصفور الصاعقة " الذي كتب في تموز /1988، قد جاءا متقاربين جداً، من حيث الأسلوب وبناء الجمل، وانتقاء الكلمات، بل حتى من حيث الإنْسَاقَ المختلفة: الثقافية – السياسية – اللغوية، قد استخدمت على نهج واحد، برؤية متداخلة واحدة، يصعب تمييزهما الا بصعوبة لانهما من نسيج واحد غير مختلف يؤديان ذات الوظائف، الا في الشخصيات التي اسُتْلهمت لأغراض مقصودة من قبل محمود جنداري لتحقيق غاية ما أو فكرة ما معينة، والمقطع السابق المقتطع من نص " مصاطب الآلهة " الذي انهى به القصة خير دليل عند مقارنته بمقطع قريب منه، من نص " زو- العصفور الصاعقة "، وعليه يجب ان يكون قارىء المقطعين على دراية كافية بأسلوب جنداري، مع امتلاكه مرجعية ابستمولوجية واسعة،وثقافة عميقة تاريخية – سياسية – اجتماعية، لكي يتمكن من فهم ومعرفة مقاصد السارد، ففي المقطع الاول كان هناك بابل، والخليفة الاموي مروان بن محمد / المقتول، والقائد العباسي ابو مسلم الخراساني / القاتل، أما في المقطع الثاني كان هناك فقط مدينة بابل التي تنهض ثم تختفي !:

" من الضوء ظهرت بابل / وفي الضوء دخلت.

نهضت في الضوء قبة من صخر، فوقها قبة من حديد، فوقها قبة من نحاس، وفضة وذهب، وخشب من شجيرات الارز وجوهرة بحجم الشمس، ومخلوقات تتحدث بسبعين لغة، والف عام وهي تحت الشمس، مثيرة للدهشة، تغسلها الشمس تسبح احداهما في حجر الأخرى / بابل والشمس / يقدمان نذوراً وقرابين تُقبلُ منهما على مدار الزمن بمحبة، والاسوار، تحرسها أسود الآلهة، وثراها البليل / بابل / تعجن منه الطينة المقدسة التي يخلق منها الإنسان. ثم اختفت بابل / وازورت عنها الشمس وهدت الرياح اسوارها، وفرت الأسود الى الجبال "7.

ابو مسلم الخراساني ( 100هـ / 718م – 137هـ / 754م ) هو عبد الرحمن بن مسلم الخراساني، صاحب الدعوة العباسية في خراسان، ومن ثم اصبح واليها، وهو حسب الروايات الفارسية واحد من احفاد آخر الاكاسرة يزدجر الثالث، سير ابو مسلم جيشاً لمقاتلة مروان بن محمد آخر خلفاء بني امية، فهزم مما جعله يفر الى مصر، فقتل في ابوصير وزالت الدولة الاموية سنة 132هـ، وقتل الخراساني على يد الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور وذلك لتعاظم نفوذه وازدياد شعبيته بين القادة والجند، وخوفه منه ان يطمع في الحكم:

" كان ذلك من اجل بابل: خض ابو مسلم في صدور الخراسانيين ليجعل له نكهة فارسية ورفع كورش رقيماً من هنا ووضعه في مكتبة ورمى بآخر في تلك السلة التي بلغت الآن شواطىء البحر ".

قبل ان نبحث لماذا اختار القاص هكذا شخصيات اشكالية؟ لنقرأ ما كتبه عام 1970 عن الالتزام في الكتابة حينما يقول " اذا كنت تكتب بتجرد، فانك لن تقول شيئاً ذا اهمية. هذا يعني الاختيار، الذي يعني الانحياز بالضرورة "8.يعني ان هنالك قصد مبطن في النص يلتقي مع قصد القارىء في القراءة، على اعتبار " الانتقاء، إذن، هو فعل تخييلي طالما انه يميز الحقول المرجعية للنص بعضها عن بعض وذلك من خلال ابراز وتجاوز الحدود الخاصة بها. وتنشأ عن هذه العملية قصدية النص، وهذه القصدية لا تتماثل مع النسق المعني بالأمر ولا مع الخيالي في حد ذاته (لأن اشتراطها يعتمد عموماً على تلك الأنساق الخارج نصية التي تكون مرجعاً) بل هي موضوع انتقالي يكون بين الواقعي والخيالي، لها كل خاصية مهمة تكون للواقع، فالواقع يمكن في الطريقة التي يمارس فيها الخيالي تاثيراً على الواقعي"9. ان موضوع القصد يتطلب الى فاعل له قصد معين، ولذلك سوف يكون هنالك فاعل واحد الذي هو الفاعل الحقيقي الاكثر ثقة بمسألة النص القصصي انما هو القاص. وعلى ضوء هذا تتحقق إمكانية تبادل المعنى بين القاص والقارىء معاً.

هذه الشخصيات الاربع هي بالإساس قد وضعت في صور فنتازية – تخيلية، حيث أن من الصفات المميزة للفنتازيا في ادراج العناصر الخيالية داخل اطار متماسك ذاتياً " متناسق بالداخل "، ويكون الخيال نابع من الأساطير والحكايات التراثية فكرة أساسية متسقة. بداخل هذا الشكل، ويمكن تحديد أي مكان لعنصر الخيال: قد يكون مُخبأ،أو قد تسرب الى ما قد يبدو اطاراً لعالم حقيقي، كما يمكن ان ترسم الشخصيات في عالم باستخدام هذه العناصر، أو قد توجد كاملة في اطار لعالم خيالي، حيث تكون هذه العناصر جزءاً من هذا العالم، بمعنى أن الفنتازيا والواقعية السحرية متداخلتين، متشابكتين، متقاطعتين في الاشتغال، مختلفتين في الرؤية، فالفنتازيا تصور عالما لا يمكن ان يكون. عند تناولها ما لم يحدث ولن يحدث، وكذلك كانت البنيات الأسطورية التي تميز الفنتازيا جزءاً من اعظم الاعمال الأدبية بدءاً من ملحمة جلجامش، والف ليلة وليلة، والمجموعة القصصية " مصاطب الآلهة " ومائة عام من العزلة.

اقول، لا يمكن كتابة هكذا نص من دون الاستعانة بالمتخيل – التأويلي، لأن اللعبة / المغامرة هي جوهر المتخيل – التأويلي، فهي حاضرة، وبالذات الخيال، منذ رسم اول حرف أو كتابة اول حرف في مدينة اوروك مخترعة الكتابة، ومنها ظهر الحرف الاول، والمشترك في هذه اللعبة، لعبة المتخيل، هما المؤلف والمتلقي، ولكن لكل منهما دوره في اللعبة، فالمؤلف يقدم نصًا غامضاً ملغزاً، والمتلقي عليه كشف الغموض وحل اللغز، وتحقيق ادبية النص وجماليته، عندئذ تكون القراءة مُمتعة لأنها ستكون فعّالة وإبداعية 10.

قد يتخذ التأويل من المتخيّل الخاتل في الذاكرة الجمعية مادة انطلاق في تحليل نصاً ما، وفي اللحظة ذاتها يكون فعل التخيل فعلاً تأويلياً في جوهره، ولأن المتخيل يكون هنا قابلاً لاحتواء مفاهيم جديدة، كما أنه يكون متواصلاً مع الطروحات المختلفة والمتغيرة، فهو كما تقول عنه ايفلين بتلجيون أي المتخيل " يتكون من جملة التمثلات التي تتجاوز الحدود المرسومة لشروط التجربة "11:

" في تلك الساعة المريعة التي بدأت فيه رحلة مروان من يثرب وانتهت في صعيد العمارنة. رقاق من جلد الغزال فيه سور من كلام آنو الكبيرة مركبة بطريقة فذة تصف انتصارات نابونيد وشطحاته. ملوك يكتبون تاريخهم بأنفسهم عبر الآلف الزجالين والمداحين والنساخين، ملوك يهوون الصيد ويحبون خصي العبيد، مستمتعين بالصراخات وهي تترد في ارجاء بابل ".

ومن النساء اللواتي لعبن دوراً مهماّ في " مصاطب الآلهة "، هن، الملكة كوبابا، ملكة مدينة كيش، ذكرت في قائمة الملوك السومريين، وتقول القائمة انها حكمت لمدة مائة عام، وهي اول ملكة لسلالة كيش الثالثة، وانها كانت صاحبة حانة حسب ما جاء في الرقم الطينية، فالنص لم يذكر أنها كانت ملكة لمدينة كيش، بل يذكرها على انها صاحبة حانة فقط:

" صوت السيدة الجبارة – كوبابا – مديرة الفندق الوحيد الذي وافقت الآلهة على تشييده بعشرين طابقاً من خشب. فندق الربة عشتار الذي أسسه على جماجم عشاقها قبل طردها من الاجتماع ونفيها الى العالم السفلي ".

والمرأة الأخرى الملكة اميتيس، ابنة أو حفيدة ملك ميديا وزوجة الملك نبوخذ نصر الثاني، تزوجها الملك لإضفاء الطابع الرسمي على التحالف بين السلالتين البابلية والميدية ويذكر ان حنينها الى وطنها أدى الى بناء جنائن بابل المعلقة، لذا ارجو قراءة المقطع السردي الذي جاء في نهاية القصة بمخيلة مفتوحة مستعرضة النص كله، ولماذا تركها نبوخذ نصر الثاني عذراء لثلاث ليال، الا بعد ان طلبت الآلهة منه العودة لفراش اميتيس من اجل بابل، ولكن لماذا هذا التعامل الوحشي ؟، مما يعني ان " يشير النص ذاته الى طبيعته الرمزية، أي أن ينطوي على مجموعة من السمات المؤكدة التي يمكن تحديدها والإمساك بها، سمات يحملنا النص من خلالها على القيام بتلك القراءة الخاصة التي هي التأويل "12، وهذا الشيء لا يمكن ان يحصل الا بعد قيامنا بعدة قراءات مختلفة لـنص " مصاطب الآلهة "، من خلال الحفر والبحث لاستخراج ما اراد القاص ان يستعرضه ويقوله للقارىء:

" قام الى اميتيس، جردها من ملابسها، مستخدماً راس مدية مصنوعة من عظمة حصان، وما أن دخلها حتى استغاثت، وتولت تقطيع خيوط الحرير بيديها ".

واخيراً، لقد انهى السارد العليم قصة " زو- العصفور الصاعقة "، باختطاف الواح الحكمة من قبل الآله زو وطار بها نشواناً. وانهى قصة " مصاطب الآلهة "، بإعلان الآلهة أن " دهور الهلاك " قد بدأت. وما بين سرقة الواح الحكمة / المعرفة – الفلسفة، وبدأ دهور الهلاك / الموت، ضاع الإنسان الحالم، الشبيه به، الذي كان تائهً وسط اهله، منفياً داخل وطنه، هارباً داخل ذاته، متمرداً على العالم.

***

أسامة غانم

.....................

الهوامش والاحالات

*محمود جنداري – " مصاطب الآلهة " قصة، مجلة الاقلام العدد 6 في 1/ يونيو / 1988م، دار الشؤون الثقافية، بغداد / العراق.

جميع الاقتباسات التي ترد في متن الدراسة مأخوذة من نص قصة " مصاطب الآلهة " المحصورة ما بين الصفحات 59 – 67 لمجلة الاقلام الانفة الذكر.

1- محمود جنداري – الاعمال الكاملة، تموز للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق / سوريا، 2018م، ص 459.

2- يقول الروائي محسن الرملي في موقع الناقد العراقي في 6/4 / 2012 في مقالة تحت عنوان " الإنسان..هو تراكمات مكانية قراءة في القصص الاخيرة لمحمود جنداري زو نموذجاً "، كان محمود جنداري " يقرأ ملحمة كلكامش مرة في كل عام ".

3- هايدن وايت – محتوى الشكل: الخطاب السردي والتمثيل التاريخي، ترجمة: د نايف الياسين، هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة / البحرين، 2017م، ص 363.

4- محمود جنداري – الاعمال الكاملة، ص 457.

5- هايدن وايت – محتوى الشكل، ص 384.

6- جين ب تومكنز – نقد استجابة القارىء: من الشكلانية الى ما بعد البنيوية، ترجمة:حسن ناظم و علي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت / لبنان، ط2، 2016م ص113.

7- محمود جنداري – زو – العصفور الصاعقة / قصة، مجلة الاقلام العدد 11- 12 في 1 ديسمبر 1988م، دار الشؤون الثقافية، بغداد / العراق

8- محمود جنداري – الوجه الواحد في خطوات المسافر نحو الموت، مجلة الاقلام العدد المزدوج 11- 12 نوفمبر 1970م، بغداد.

9- فولفغانغ إيزر – التخييلي والخيالي، ترجمة: د حميد لحمداني و د الجلالي الكدية، مطبعة النجاح الجديدة / الدار البيضاء، 1998م، ص 13.

10- أسامة غانم – جدل التأويلية: الكتابة / النص – القراءة / الفهم، دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2022م، ص 74.

11- م. ن، ص 73.

12- تزفيتان تودوروف – الرمزية و التأويل، ترجمة وتقديم: د اسماعيل الكفري، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق / سوريا، 2017م، ص 44.

*نشرت في جريدة طريق الشعب الصادرة في بغداد جزأين في العدد 124بتاريخ 6/6 /2023م والعدد 126في 8/ 6 /2023م.

يتسيد المكان بناء رواية أم أسعد، من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/2023،  من حيث تأثره وتأثيره في باقي العناصر مثل الشخصية والحدث والزمن ويشكل همزة الوصل الرابطة بينها جميعا. وهو الذي حرك مشاعر سميح مسعود وذاكرته حيث قريته "برقة" التي فتحت المجال الواسع لخياله ليكتب من خلالها عن أماكن بما فيها قرى ومدن بأسمائها الواقعية ويرصد حقبة زمانية وأحداثا مهمة من تاريخ فلسطين.

فنجد الكاتب يصف الأمكنة طيلة صفحات العمل،وهذا الوصف من الأمور المهمة التي تتدخل في البناء السردي له. وقد ظهر أثر هذا الوصف أحيانا في صورة مقاطع كاملة وفي صورة جمل أحيانا أخرى،على لسان السارد العليم أو الشخصية.حيث كان لها الأثر الواضح في صنع إحساس مختلف بسرعة النص السردي.ويتجلى هذا ص٥ على لسان السارد العليم في افتتاحية الرواية فيقول" ومع اقتراب الليل زحفت غيوم سوداء على طبقات أجواء قرية (برقة) إحدى قرى وادي الشعير الشرقي،الممتدة على أطراف جبل النار ،خاصة فوق الجهة الغربية من القرية،حيث توجد سقيفة سليم أبو ذياب التي بناها على عدة أمتار من الأرض" ولقد كان لهذا الوصف الافتتاحي لهذا الجزء من القرية حيث تقع سقيفة سليم أبو ذياب دور تقني بالغ الأثر في صنع تصور لدى المتلقي عن نقطة الانطلاق إلى داخل السرد.

والمتتبع لرواية أم أسعد يجد بأن العلاقات المكانية برزت على شكل ثنائيات كان منها ثنائية المغلق/ المفتوح فسقيفة سليم المصنوعة من ألواح الزينكو وأفرع الشجر وأكوام الحجارة تقابلها العقود والمضافات لملاك القرية كلها بيوت والبيت يعني الأمن والاستقرار مع أنها توصف بالأماكن المغلقة لكن الانغلاق بالنسبة لسقيفة يطلق عليها اسم بيت كسقيفة سليم هو انغلاق نفسي وليس بمعنى الانغلاق المكاني أو الجغرافي. وقد أقدم الكاتب على تنفير المتلقي منها من خلال الوصف الذي جاء ص٥ على لسان السارد" تلتصق بها لوائح زينكو مغلفة بأفرع من الشجر ،بغير انسجام وأي قيمة بنائية تجذب المارة ،ولا يجذبهم السقف المغطى بعشرة ألواح زينكو طويلة مثبتة بأكوام من الحجارة الثقيلة.." وقد صنعت هذه السقيفة صراعا داخليا لدى ساكنيها وشعورا بعدم الاستقرار على عكس البيوت الآمنة المبنية من الحجارة المتينة ،ويتضح ذلك على لسان السارد ص٦ ما جاء عن سليم أبو ذياب" وبعد عدة دقائق اتسعت تقطيبة جبينه عندما سمع صوت سقوط المطر على ألواح الزينكو المثبتة فوق سقيفته ،وشعر بتيار خفي من التوتر يخيم على زوجته" وهنا يتحول البيت إلى وظيفة ودلالة عكس وظيفته الحقيقية من حيث أنه مصدر الأمان والسعادة وهي الوظيفة الحقيقية ويتجلى ذلك ص١١٨ في الليلة التي استقر فيها سليم أبو ذياب وزوجته في عقدهما الجديد الذي بناه ولدهم حمد بعدما كبر"تأكدا من حقيقة ما لديهما في داخل العقد،ثلاثة شبابيك على اتساعها طبقة زجاجية واسعة يمكن من خلالها رؤية كل شيء خارج العقد ،حتى النجوم وهي تلمع كالدرر في السماء الصافية"

كما ويستطيع المتلقي التقاط العديد من الأماكن المفتوحة مثل الحقل ومخيم عمل سكة الحجاز وغيرها وتوحي مثل هذه الأماكن بالحرية.ويعتبر الإنسان فيها حلقة وصل بينها وبين الأماكن المغلقة.

لكن البطل حمد لا يرضى بحياة فرضها الفقر وضيق ذات اليد عليه وعلى أسرته فيقرر الارتحال إلى مكان آخر للعمل بعيدا عن الحقول التي يستنزف فيها ملاك الأراضي جهده ويسرقون تعبه. ليكون أول ارتحال له نحو سوق الماشية للعمل دلالا هناك باسم أحد ملاك الماشية حيث يلتقي في هذا المكان الجديد بصديقه السلفيتي الذي يحدث حمد بما سمعه في مضافة عمه وهنا تبدأ شخصية حمد بالتبلور ومعرفة ما يحدث على أرض فلسطين من أخبار عن الصهيونية وسعيها لانتزاع الأرض من أصحابها الحقيقيين اعتمادا على أساطير توراتية.

وتواصل شخصية حمد النضج مع انتقاله للعمل في مخيم سكة الحجاز حينما يلتقي برائد الذي يحدثه عن جريدة الكرمل الحيفاوية وما تبثها من أخبار سياسية وهنا يكتشف بأن الأرض ليست مجرد مصدر للرزق بل هي كالبشر تحرك في نفوس أهلها أوتار الوطنية وتبلور الوجدان العام لهم وهي ذاكرة الماضي والحاضر. ومن هنا فالمكان له قوة تقود الإنسان إلى دروب المعرفة وبالتالي تصنع شخصيته من خلال الحدث.والإنسان يحمل هوية مكانه والمكان يشكل ملامح هذه الشخصية من خلال رسم أبعاد تاريخها وواقعها ورؤاها. فثنائية الإقامة/ الارتحال ساهمت بتغيير المكان والذهاب بحمد إلى أمكنة جديدة كان لها بالغ الأثر في بلورة شخصيته.

فالشخصية تصنع أحداث الرواية وهذه لا تقوم إلا بوجود المكان الذي يرتبط ارتباطا عميقا بزمن الأحداث. هذا الزمن الذي يشكل عنصرا مهما في رواية أم أسعد كون عجلته تدور على أرض ساخنة الأحداث ،إنه الزمن الفلسطيني الذي تنبني من خلاله علاقات ثنائية ضدية بينه وبين المكان ،فمرة نجده عطوفا على المكان وأخرى قاسيا عنوة عنه لأن هناك من يتحكم بتلك العلاقة ألا وهي الشخصية.فعندما انتقل حمد بنصيحة من رائد للعمل في حيفا بوظيفة تقيه الحاجة والعمل بسخرة في الحقول ص١٠٥ على لسان رائد" إذا رضيت بعملك الجديد يمكنك الاستقرار في حيفا" يأتي الزمن بسوطه التركي ليرغم شباب فلسطين على المشاركة في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جملا.وهنا نجد الزمن الذي يفرض سطوته وقسوته على المكان/ حيفا.ويتجلى هذا ص١٣٩ على لسان صديق حمد عن جيش الأتراك" سوف يلحقوننا قريبا بكتائب الجيش المنهار" فيضطر حمد للهرب والارتحال من مدينة حيفا إلى الريف وهنا يجد المتلقي نفسه يصطدم وجها لوجه مرة أخرى أمام جدار ثنائية المدينة/ الريف حيث يحنو الزمن على حمد من خلال إيجاد عمل في الأرض مرة أخرى في قرية عليوط والزواج من إحدى فتياتها. لكن الزوجة بعد حملها لن تحتمل برد قريتها شتاء فيفعل الزمن فعلته وسطوته ويجبر حمد على الانتقال إلى قرية لوبيا التي تتميز بدفئها فتتطور الأحداث هناك عندما يرزق حمد بأسعد الذي يتبلور بدوره فكره السياسي عندما يلتحق بمدرسة الأحمدية في عكا ص١٨٤ فيلعب المكان وتبرز أهميته في خدمة أسعد ورفاقه حين يقدمون على مقاومة الإنجليز.

 إذن فالعلاقة التي تربط الزمن بالمكان والشخصية وتأثر كل واحد بالآخر وهذا التأثر يؤدي إلى دفع الأحداث للأمام. فالمكان لا ينفصل عن الزمن بل يرتبط به بقوة والأخير قادر على رسم معالمه على الأول بفعل الشخصيات التي تشاركها الأحداث حيث تتطور الحكاية وتقود السرد إلى النهاية لتشكل وحدة نص أم أسعد. ف قرية برقة تغيرت ملامحها عند مد سكة حديد الحجاز في زمن السلطان عبد الحميد الثاني.

وحيفا تغيرت ملامحها بعد سقوطها على أيدي العصابات الصهيونية. فعلى لسان السارد ص٢١٣ عن الصغير -ابن سارة حيث يصف مشاعره بعد سقوط حيفا وفعل الزمن بها" مرت الأيام واختلطت أحداثها بمجرى حياة الصغير الذي أفاق بعد ثلاث سنوات على سقوط حيفا، واجه سقوطها بحزن ما زالت ناره تشب في قلبه حتى الآن،كتم غيضه وانطلق في منافي الشتات مع أسرته". فالزمن ظل وسيظل يؤثر ويتأثر بالمكان لكنه كان مختلفا بتأثيره على فلسطين بفعل انتداب ثم اغتصاب لم يغير فقط ملامح الأرض بل غير ملامح أبناء الأرض وقذف بهم خارج الأسلاك الشائكة تمزقهم الغربة يواجهون زمنا أقسى من ذلك الذي مزق فلسطين.فعزّ على الأبناء شراء لحظة زمن فائتة في أحضان الأم.

***

قراءة بديعة النعيمي

مقدمة البحث

تهدف الدراسة إلى الكشف عن مثيرات الشعرية ومحركاتها الرؤيوية في بنية القصيدة عند وهيب عجمي، من خلال قصيدته الموسومة ب( وردة العشق)، ولهذا سيسعى البحث إلى الكشف عن مغريات الشعرية ومؤثراتها الفنية في هذه القصيدة على المستويين الإيحائي والجمالي؛ دون الإغراق بالتفاصيل الجزئية ومتابعتها داخل النسق الشعري.

ومن هنا، ستقوم الدراسة بملاحقة الكلمة في تركيبها الجمالي وحياكتها النسقية المميزة، تبعاُ لمؤشرات البنى الدالة ومحركاتها ضمن النسق الشعري الجمالي؛ وهذا يعني أن الدراسة تفصيلية رؤيوية تسعى إلى تحريك الرؤية الجمالية ومثيراتها ضمن النسق الشعري وكشف المثيرات الجمالية التي تتضمنها القصيدة على المستوى الفني الجمالي.

أولاً- نص القصيدة (وردة العشق)

صباحكِ وردة ُ العشقِ الجميلِ

وعينُ الحبِّ في شمسِ الأصيلِ

*

وأشعارٌ تُفتشُ عن رموشٍ

لتسكنَ رقة الرمشِ الكحيل

*

وإشعاعٌ تسللَ في عيونٍ

ليكشفَ سرَّ حسنٍ مستحيل

*

وأنوارٌ تلاقت في جبينٍ

تعانقُ قمة العشقِ الجليلِ

*

وأنغامٌ وألوانٌ ودفءٌ

بأجنحةِ الحمائمِ والهديلِ

*

وقدٌّ ماسَ يهمسُ في نسيم

يميلُ تلاطفاً حتى تميلي

*

وطيرٌ في خمائلهِ تعافى

يدندنُ فوقَ أجراسِ النخيلِ

*

فعيشي في غرامكِ كلَّ حينٍ

ليبقى العشقُ يهدرُ كالسيولِ

*

فدينُ الحب عندك كل دينٍ

يغذي القلبَ في كلِّ الفصول

*

أجافي ذا الهوى لكن قلبي

بدنيا الحب لايخلي سبيلي

*

أتيتُ إليكِ تحملني رياحٌ

وتلقيني على أحلامِ ليلي

*

فأغرقُ في بحارٍ باتْ فيها

شراعٌ غارَ في الجسدِ العليلِ

*

أيا شمسَ الصباحِ وعين حبي

وأفراحي لما بعد الرحيل

*

جنوني في هواكِ يثير ظني

فيصلبني على قلقي الثقيل

*

أغني في هواكِ طوالَ ليلي

وليلي غصَّ في ليلي الطويل

*

ووحي الشعرِ لايأتي ببرقٍ

ووعد ماطرٍ فوق السهولِ

*

بدونِ قصيدةٍ تلتاعُ شوقاً

فشعري في معاناتي دليلي

*

يجيءُ الشعرُ مهراً دونَ وعدٍ

يحييني بحمحمةِ الصهيلِ

*

فأشربُ من يديهِ الكأس مُرَّاً

فأشفي في مرارتهِ غليلي

*

ففي عشقي لمن أهواهُ نارٌ

هي الجناتُ مادامتْ مقيلي"(1).

***

ثانياً- البحث:

قد يظن القارئ أن الشعرية كتلة متحولات ومؤثرات فنية يمكن أن تتواتر عند الكثير من الشعراء بالقيم الجمالية نفسها والحياكة الإبداعية ذاتها؛ وهذا ينافي الحقيقة الإبداعية التي تجعل لكل نص شعري قانونه الجمالي الخاص به، تبعاً للمثيرات الجمالية التي يمتاز بها شاعر عن شاعر آخر؛ وتجربة عن أخرى؛ ومن هذا المنطلق تختلف التجارب الشعرية عن بعضها البعض؛ من خلال الحياكة الجمالية والحنكة التشكيلية الإبداعية في ربط الكلمات واستثارتها الجمالية.

ومن هنا يمكن القول: إن لكل نص شعري مثيراته النصية، ومحمولاته الإبداعية ومحفزاته النصية، لأن الشعرية – بالأساس- كتلة متحولات ومتغيرات ومحمولات جمالية تبثها القصيدة على مستوى الكلمة والكلمة، والجملة والجملة، ناهيك عن إيقاعها التآلفي الترابطي الذي يدلل على أن البنية النصية الشعرية بنية متكاملة إحساساً وفاعلية رؤيوية تحفيزية نصية ترتقي درجات من الاستثارة والتحفيز النصي.

وتختلف شعرية المحمولات الجمالية من شاعر إلى شاعر، ومن نص شعري إلى نص شعري آخر، تبعاً لفاعلية المحمولات الجمالية، ومؤثرات النسق الشعري؛ وهذا يعني أن فاعلية المحولات الجمالية متغيرة في حد ذاتها ومختلفة من نص إلى آخر، ومن رؤية نصية إلى أخرى تبعاً لمثيرات التوابع النصية التي ترتبط بالأثر الجمالي الذي تخلفه المحمولات النصية فيما بينها، وبما أن المحمولات الجمالية كتل متغيرات ومؤثرات مختلفة فيما بينها، فإن ما يثيرها على المستوى الجمالي تفاعل هذه المحولات فيما بينها لتحقق قيمة جمالية تملك مؤشرها الجمالي البليغ، وخصوصيتها الإبداعية الخلاقة. ومن هنا يمكن القول:

تختلف مجالات البحث في علم الجمال الشعري اختلاف التجارب الشعرية التي تتنوع في دلالاتها ورؤاها ومؤثراتها النصية، ومحفزاتها الجمالية وقيمها الفنية، وهذا يعني أن لكل تجربة شعرية مقتضياتها الفنية التي تجعل البحث في علم الجمال الشعري يعني البحث عن الآلية الجمالية التي جسدت مغامرتها اللغوية الجمالية لخلق بؤرة تأثيرها في المتلقي، وكما هو معروف فإن لكل نص شعري إبداعي سطوته الفنية؛ هذه السطوة تختلف من نص لآخر اختلاف التجارب الشعرية نفسها في ارتقاء أسهمها الجمالية أو انحدار المستوى الجمالي لقيمها وأسهمها الجمالية.

ومن هنا تختلف فاعلية الدراسات الجمالية بمقدار اقتناص النصوص الجمالية التي تتضمن الكثير من القيم الجمالية التي تشكل ممانعتها النصية، وبتصورنا: إن القيم الجمالية في نص من النصوص تزداد بالقناة البلاغية الأولى، وهي الصورة المتحركة التي تشتق معانيها المحفزة للشعرية من خلال براعة الشاعر في نقل الأفكار والدلالات والمشاعر بالصورة المبتكرة والمعاني الخلاقة، والمحفزات اللغوية الأخرى كالتكرار والتوازي والتفاعل والتماسك والمناورات التشكيلية والدلالية وغيرها من المؤثرات التي تخدم شعرية الجملة في انفتاحها النصي؛ وما إلى ذلك من المؤثرات التي تجعل النص الشعري غابة من المؤثرات الجمالية في الصورة والرمز والإيقاع والمتجانسات الصوتية، ومحركاتها الضمنية ضمن النسق الشعري.

وبتصورنا: إن البحث عن جمالية الشعرية في قصائد وهيب عجمي يعني البحث عن الأصالة الإيقاعية والموسيقا الداخلية التي تغني جماليات قصائده في جرسها الصوتي وبلاغة الصورة المعبرة عن عاطفة مشبوبة بالمشاعر المفعمة بالإحساس والحساسية الجمالية؛ فالشاعر وهيب عجمي يمتلك مخيلة شعرية وهاجة في صورها خلاقة في معانيها ورؤاها الجمالية، إذ يعيش الحالة الشعورية بإحساس جمالي يجعل كلماته عذبة تسير بإيقاعها المزركش بالألوان والدلالات والمعاني التي تفيض استثارة وحساسية جمالية مرهفة بالمعاني والدلالات الوهاجة، فهو يمتلك الرؤية الشعرية والحساسية الجمالية في رصف الكلمات وتشكيل الصور بإيقاع رومانسي غزلي ليصوغ من لغته الشعرية لغة خاصة لا يقلد فيه أحداً سوى العجمي، أي ترى في قصائده نكهة الحداثة ونكهة المعاني القديمة التي تسبح في تجليات الفكر والتصوف والغزل الجاهلي باختيار الجمل والتراكيب الفياضة التي تشبه الشعر الغزلي القديم بموجات حداثوية يقارع فيها الزمن ويدق ناقوس الجمال الشعري المتوحد بالحالة الشعورية والإيقاع الروحي الذي يتغور أعماق التصوف بالحدث وحالة الوجد القصوى، وما قصيدة وردة العشق إلا صورة من صور التجسد والتفاعل على مستوى الكلمات وإيقاع التراكيب التي تشبه في مدها وحراكها الشعوري قصائد بدوي الجبل هذا العملاق السوري، أي يعيد العجمي بناء قصيدته الحداثوية بإيقاع رومانسي لا يبتعد عن إيقاع بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، ليبنني الصورة الجمالية التي تخلق معانيها بجلال وجمال بارعين.

ومن يعتقد أن البنية التركيبية أو الهيكلية النصية لقصائد وهيب عجمي متشابهة فقد أخطأ الحكم النقدي الجمالي على الآلية البنائية أو الهيكلية البنائية لقصائد العجمي؛ إذ إن العجمي ينوع في نسيج خلايا قصائده، تبعاً لمسار الحركة الشعورية أو الموقف الشعري؛ فالعجمي يبني النص الآني، أو نص اللحظة الشعورية الحالية، يعيش الواقع الشعري بمسبباته الشعورية فهو لايعيش اللحظة الماضوية إلا باللحظة الحضورية الطازجة، ولهذا تسبح قصائده بفيض دلالاتها وإيحاءاتها الشعرية المتوترة؛ فهو يتنفس الجمال الشعري دون أن يتغيب عن إيقاع العاطفة المتقد ونبع الثراء الوجداني الذي يغلف قصائده بالغنائية الشفافة التي يستقي وهجها من حرارة الموقف العاطفي أو اللحظة الشعورية التي يعيشها في واقعها الحالي ولو استرجع لحظة ماضوية أو حدثاً ماضوياً أو رؤية ماضوية أراد أن يحياها في واقعه الراهن؛ إنه يبني النص الجمالي الخلاق بكل مستجدات اللحظة الشعورية الراهنة والواقع الراهن.

وما قصيدة (وردة عشق) إلا استرجاعاً حقيقياً لعالم غزلي أراد أن يجسد لحظاته في واقعه الشعري الراهن؛ ولعل أبرز ما يجسده في هذا العالم أنه يعيش الواقع الشعري باستثارة وجمالية وحراك شعوري ظهر شعرياً من خلال الفاتحة الاستهلالية التي يقول فيها:

صباحكِ وردة ُ العشقِ الجميلِ 

 وعينُ الحبِّ في شمسِ الأصيلِ

*

وأشعارٌ تُفتشُ عن رموشٍ 

لتسكنَ رقة الرمشِ الكحيل

*

وإشعاعٌ تسللَ في عيونٍ

 ليكشفَ سرَّ حسنٍ مستحيل

*

وأنوارٌ تلاقت في جبينٍ 

تعانقُ قمة العشقِ الجليلِ

*

وأنغامٌ وألوانٌ ودفءٌ  

بأجنحةِ الحمائمِ والهديلِ

*

وقدٌّ ماسَ يهمسُ في نسيم

 يميلُ تلاطفاً حتى تميلي

*

وطيرٌ في خمائلهِ تعافى

يدندنُ فوقَ أجراسِ النخيلِ

لاشك في أن أية قيمة جمالية مكتسبة في قصائد العجمي تتبدى في دفقتها الاستهلالية أو فاتحتها الاستهلالية الموفقة التي غالباً ما يجعلها جملاً اسمية راسخة، ومن طبيعة الجمل الاسمية أنها تحمل الديمومة والثبات في الحدث والموقف الشعوري، وهو يريد أن يكون غزله تأسيسياً وحبه راسخاً كرسوخ الجبال أو ثابتاً صامداً كما راسيات الجبال، فابتدأ الفاتحة الاستهلالية بأوصاف راسخة تدلل على جمال المحبوبة، ورقي أوصافها، وحيازتها على أكبر كم من الصور الاسمية الراسخة في تبيان أوصاف الحبيبة، ومصدر جمالها؛ فصباحها ورود حب، وقصائد وأشعار، وجمالها الوديع إشراقات ملائكية تسكن رقة الرمش الكحيل، وهي ينابيع حسن، وأنوار ولآلئ وأنغام وهديل حمام، تتسامى في الخمائل لتقرع أجراس النخيل، إنه يبني الصور المشتقة من جمال الطبيعة بكل أنسها وخصوبتها ومصدر ائتلافها المشهدي على مستوى وحدة الرؤيا وشاعرية الموضوع.

وهنا نتساءل: هل العجمي كان مدركاً أن شعريته متنوعة في مشاربها الفنية كما تنوع الهيكلية النصية لقصائده؟ هل يؤمن أن الغنائية التي بنى عليها قصائده متنوعة في إيقاعها من الشكوى وبث النجوى والحنين، هل كان يدرك أن لقصائده جرسها الصوتي الخاص وإيقاعها المختلف؟ هل كان يدرك أن شعريته متماوجة متناغمة كتناغم الإيقاعات الدافئة في خميلة غناء؛ إن قصائده تسبح في ملكوتها الشعري الخاص وفضائها الصوفي المؤثر.

هل استطاع العجمي أن يبني القصيدة الجوهرة أو قصيدة الحياة بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من معانٍ ورؤى ودلالات؟ وكيف يستطيع الشاعر وهيب العجمي أن يحرك القارئ بهذا الكم من الصور، لابد قبل الإجابة عن هذه التساؤلات المتتابعة من الوقوف على حقيقة صرح بها العجمي قائلاً:" الغنائية في قصائدي لحنها الواقع المعيش والحياة التي أتنفسها في صباحي الريفي المنتعش برائحة الأشجار والحقول وأنسام الطيور المهاجرة والطيور المغردة على أشجار النخيل، لقصائدي حرارتها الواقعية التي تعيش في داخلي في يومي والحدث اليومي"(2).

وهذا القول يدلنا على أن العجمي يعيش يومه شعرياً وهو في أحضان الطبيعة، يتنقل كالبلابل بين الخمائل والورود، يعانق صباحه الريفي بلذة، وانتشاء جمالي، يظهر من خلال إيقاع القصيدة، ليجمع الحس والحركة والرؤية والشعور؛ وما ألذ هذه الصور الموحية بدلالاتها ورؤاها الماثلة في قوله:

فعيشي في غرامكِ كلَّ حينٍ

 ليبقى العشقُ يهدرُ كالسيولِ

*

فدينُ الحب عندك كل دينٍ

 يغذي القلبَ في كلِّ الفصول

*

أجافي ذا الهوى لكن قلبي 

بدنيا الحب لايخلي سبيلي

*

أتيتُ إليكِ تحملني رياحٌ 

وتلقيني على أحلامِ ليلي

*

فأغرقُ في بحارٍ باتْ فيها 

شراعٌ غارَ في الجسدِ العليلِ

*

أيا شمسَ الصباحِ وعين حبي

  وأفراحي لما بعد الرحيل

هنا يعيش الشاعر اللحظة الشعورية بجماليتها ورؤاها مخاطباً محبوبته أن تبادله هذه المشاعر لتعيش الحب، وتدين بدين الحب أنى توجهت، حتى بعد رحيله ليبقى حبها خالداً كخلود الحياة لتعيش اللحظة السرمدية بالحب، وهنا جاءت الصورة (أيا شمسَ الصباحِ وعين حبي وأفراحي لما بعد الرحيل) دالة بقوة عن مقصودها وإحساسها الجمالي ليؤكد العجمي أن الشاعر ليس فقط ديدانه اللغة والصورة فحسب؛ وإنما ديدانه الهيكلية الجمالية التي تخوله الانتقال من مثير جمالي إلى آخر، لاسيما إذا كان شاعراً رؤيوياً يتنفس الشعر إيقاعاً روحياً يخرج من الصميم.

والملاحظ أن الشاعر وهيب عجمي يشكل القصيدة اللحمة أو القصيدة المتآلفة في نسيجها من بابها إلى محرابها، يتنفس الشعر بوحي فني وبلاغة شاعرية آسرة، ومن هنا تتسامى الرؤى والصور الشعرية وتتآلف لتحقق هذا التألق والارتقاء بها من نسق شعري إلى آخر؛ وهذا يدلنا على أن الوعي الجمالي في التشكيل والحرص على تكثيف اللحظة المشهدية من محفزات الرؤية الشعرية في قصائد وهيب عجمي.

2- المناورة الأسلوبية:

لاشك في أن الشاعر المبدع يمتلك أساليبه الشعرية وطرائقه في التشكيل الإبداعي، ولا يمكن للشاعر الحقيقي أن يعيش اللحظة الشعرية دون مناورة في طريقة التشكيل وحرفنة في تشعير النسق الشعري وخلق متغيره الجمالي، والشاعر وهيب عجمي يمتلك مناوراته التشكيلية البراقة التي يشكلها تبعاً لحساسيته الجمالية وطريقته في الانتقال من نسق شعري إلى آخر؛ ومن هنا نلحظ أن الحنكة المشهدية أو المناورات الأسلوبية ذات قيمة بالغة في إبراز فنية الرؤى الشعرية التي يمتلكها العجمي؛ وهذه المناورات ليست وليدة المصادفة، وإنما وليدة الإحساس الجمالي، والبراعة في التقاط الصور الجديدة وترسيمها بدقة للقارئ كما في قوله:

جنوني في هواكِ يثير ظني

 فيصلبني على قلقي الثقيل

*

أغني في هواكِ طوالَ ليلي

  وليلي غصَّ في ليلي الطويل

*

ووحي الشعرِ لايأتي ببرقٍ

ووعد ماطرٍ فوق السهولِ

*

بدونِ قصيدةٍ تلتاعُ شوقاً 

فشعري في معاناتي دليلي

إن الدهشة الجمالية تطالعنا في هذه الأسطر من مناوراته الأسلوبية الخلاقة؛ فالشاعر يبني الجمل بناءً فنياً موحياً يشير الشاعر من خلالها إلى أعلى مستويات وقيم الجمال في التشكيل، فينقلنا من زاوية إلى زاوية ومن رؤية جمالية إلى رؤية أكثر استثارة وجمالية، محققاً ارتقاءً جمالياً في هذا التوليف المناور جمالياً لخلق الصورة الجمالية والإحساس الجمالي بها:(ووحي الشعر لا يأتي ببرقٍ  ووعدٍ ماطرٍ فوق السهول)؛وهذا البيت اقتضى بمناورته الأسلوبية البيت التالي وشكل لحمة جمالية معه:"بدون قصيدة تلتاعُ شوقاً فشعري في معاناتي دليلي)؛ وهكذا استطاع الشاعر أن يخلق مناوراته التشكيلية بإيقاع جملي مؤسس على الحراك الدلالي والرؤيوي الكاشف عن دلالات ومعانٍ جديدة لا يمكن أن يسمو الشعر ويرتقي الشاعر إلا بها لاسيما في القفلة النصية الختامية للقصيدة:

يجيءُ الشعرُ مهراً دونَ وعدٍ

 يحييني بحمحمةِ الصهيلِ

*

فأشربُ من يديهِ الكأس مُرَّاً

فأشفي في مرارتهِ غليلي

*

ففي عشقي لمن أهواهُ نارٌ

هي الجناتُ مادامتْ مقيلي

هنا تأتي القفلة الختامية قمة في الاستثارة والمناورة الجمالية التي تدلل على شعرية بليغة في إشراقاتها ومناوراتها التشكيلية، كما في قوله: (ففي عشقي لمن أهواه نارٌ هي الجناتُ مادامت مقيلي)، وهكذا، يؤسس الشاعر وهيب عجمي قفلاته النصية على المناورات التشكيلية الأسلوبية التي تبين براعته في صوغ جمله الشعرية لترتكز على الجملة المحور التي تزيد فاعلية الحراك الرؤيوي والدلالي، وتكون القصيدة قوية في إيقاعاته الدلالية ومناوراتها التشكيلية الخلاقة بمعانيها ورؤاها.

نتائج أخيرة:

1- إن الشعرية ومتحولاتها في بنية قصيدة (وردة العشق) تتأتى من ثراء القيم الجمالية التي تضمرها بالانتقال من صورة إلى صورة، ومن كلمة إلى أخرى ضمن النسق الشعري الواحد؛ أي ثمة هندسة جمالية تلاحمية في ربط الكلمات وإثارة إيقاعها الجمالي والترسيمي الخلاق؛ على مستوى النسق التكاملي المفرداتي الذي يربط الكلمات فيما بينها؛ وانتقالا الى سياق الجمل ووظائفها التركيبية وغنى محمولاتها الشعرية والرؤيوية الخلاقة.

2- إن الشعرية ومحمولاتها الجمالية – في بنية قصيدة (وردة العشق) شاملة للكثير من القضايا والرؤى الجمالية؛ وهذا يعني أن ارتقاء الشعرية في هذه القصيدة يعود إلى ممكناتها الإبداعية وحراك الرؤى الشعر ية التي تجعل القارئ يسبح في فضائها الجمالي وحياكتها النسقية البليغة.

3- إن المهارة الإبداعية التي تمتاز بها قصيدة( وردة العشق) تعود إلى الحياكة النسقية وقوة الرابط الجمالي الذي يربط العبارات فيما بينها وجمالية الرؤية الشعرية؛ التي ترتقي بالنسق الشعري الجمالي إلى أقصى درجات الفاعلية والتأثير؛ وكأن العجمي يعيدنا إلى زمن الرومانسية البراقة والمتخيلات الجمالية التي تسمو وترتقي بالنص الشعري إلى آفاق السحر وألإدهاش والإمتاع الجمالي.

وصفوة القول:

إن شعرية العجمي تختلف من قصيدة لقصيدة في توثباتها الشعرية، لتدلل على أن الحداثوية -لديه- تطال قصائده جميعها في فضائها الرؤيوي التخييلي؛، لتؤكد أن الحداثوية لديه ليست حداثوية صياغة فحسب؛ وإنما حداثوية رؤيا جمالية خلاقة مبدعة في الروح والمعاني والدلالات والمضمون الجمالي؛ وهذا ما يجعل القصيدة –لديه- تتنفس إبداعها بجمال وحساسية فنية عالية المستوى على الفضاء النصي الدلالي ؛ وهذا إن دل على شيء فيدل على فاعلية الرؤيا الشعرية- لدى العجمي- وبلاغة ما تصيبه قصائده من صور ومعانٍ ودلالات جديدة تجعل نصه الشعري قابلاً للكشف والتنقيب الإبداعي أكثر من مرة ؛وهذه سمة النصوص الإبداعية التي تحرك القارئ وتثير حساسيته الجمالية بامتياز. فالنص المثير يبقى دائما مغرياً لكشفه ومحاورته من العمق.

***

د.عصام الشرتح

................

الحواشي:

(1) العجمي، وهيب، 2020-وردة العشق، دارالبنان، بيروت، ص44-45.

(2) شرتح، عصام، 2020- حوار مع وهيب عجمي، الفيس بوك.

قبل الخوض في موضوع المجموعة القصصية "قل لهم أن يتمسكوا بأحلامهم " للشاعرة والقاصة خديجة برعو لا بد من التعريف بها.

الكاتبة و الشاعرة الغنائية برعو خديجة هي إطار بوزارة الثقافة المغربية  خريجة المعهد الوطني لعلوم الاثار والتراث بالرباط حاصلة على دبلوم الماستر من جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال والآن طالبة باحثة بسلك الدكتوراة بجامعة محمد الخامس بالرباط.

الكاتبة لها عدة مؤلفات آخرها مسرحية "سر الجزيرة " للأطفال و مجموعتها القصصية الأولى " قل لهم ان يتمسكوا بأحلامهم" و في مجال الشعر الغنائي غنى لها كبار المطربين المغاربة أمثال الفنانة كريمة الصقلي و الفنان مراد البوريقي و الفنان جمال نعمان.

تنتظم هذه المجموعة القصصية التي سنتناولها بالدراسة في أربع وستين صفحة وتتضمن عشرَ قصص قصيرة هي على التوالي:

قل لهم أن يتمسكوا بأحلامهم

فــــــــــــــزاعة

إنك أنا و أنا أنت

أنـــــا الثلج

عقول عمياء

طباع إنسانية

تمترس

شيء ما سلب مني

سحر الأرقام

الضمائر الحية

قبل الولوج إلى متن المجموعة القصصية، لا بد من المرور عبر عتبة أو عتبات هذه المجموعة، والغلاف هو أول ما يجذب انتباهنا في هذه العتبات، حيث تتوسطه لوحة فنية تشكيلية تتضمن أشكال هندسية متداخلة تمتزج فيها ألوان حارة (الأحمر والأصفر والبرتقالي) وألوان باردة (الأخضر والأزرق والبنفسجي) والأكيد أن لكل لون دلالة نفسية معينة، وتدل على معنى واضح، فاللون الأحمر يرتبط بلون الدم وهو من الألوان الجريئة التي تعبر عن التضحية، أما الأصفر فهو لون الشمس ويرمز للدفء والطاقة والحيوية ومزيج من التميز والقوة، و يرمز اللون الأزرق إلى السقم بسبب تلون الكدمات بلونه، ولكنه أيضا لون السماء الجميل الصافي ولون البحر، وهو يدل على الهدوء والرقة والطمأنينة.

أما البنفسجي فينسب إلى زهرة البنفسج وهو ناتج عن خلط اللونين الأحمر والأزرق، وهو لون يشعر بالخيال والرومانسية وتدفق الأفكار.

ننتقل من لوحة الغلاف إلى عنوان المجموعة : "قل لهم أن يتمسكوا بأحلامهم"،منذ الوهلة الأولى نلاحظ أن هذا العنوان عبارة عن جملة إنشائية طلبية صيغتها الأمر، وأعرابها هو كالتالي:

قُلْ: فعل أمر مبني على السكون فاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة مستأنفة

لهم: اللام حرف جرّ، الهاء ضمير متصل في محل جر اسم مجرور، والميم للجماعة

أنْ: جرف نصب وتوكيد

يتمسكوا: فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون نيابة عن الفتحة لأنه من الأفعال الخمسة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل.

بأحلامهم : جار ومجرور وهو مضاف الهاء ضمير متصل مبني في محل جر مضاف إليه، الميم دالة على الجمع

عرف “جيرارجينيت”، العتبة العنوانيّة بقوله: إنها «نقطة ذهاب وإيّاب إلى النَّص..» أيْ إشارات دالّة ورامزة تفتح مغاليق النَّص وتكشف عن غموضه!! وعرّفها بقوله إنّها «علامات دلاليّة تشرّع أبواب النصّ أمام المتلقّي للولوج إلى أعماقه» أي إنّها مداخل قِرائِية لكي نصل إلى أعماق النَّص

إنّ العنوان وإن كان حَمّال أَوجه لا يكون صادقا دائما، فالعناوين مُخاتلة وربما صادمة، وعنوان مجموعة الأديبة خديجة برعو "قل لهم أن يتمسكوا بأحلامهم" هو نفس عنوان نصها السردي الأول، وكما قلنا سابقا هذا العنوان هو جملة إنشائية طلبية بصيغة الأمر وهي تفيد النصح والتوجيه،وحري بنا أن نضع هذا العنوان في السياق الذي أوردته الكاتبة في نصها كقفلة له:

" صاح اليراع:

- الأحلام ...الأحلام

دوت الكلمة في رأسي، كان وقعها قويا، نهضت من مقعدي مشدوها وكأنها ما كنت أبحث عنه منذ زمن بعيد...بدا اليراع ينظر إلي مستغربا، بداخلي صوت يقول صدقت أيها اليراع...من لم يحلم لن يقرأ، أجل لن يقرأ...عدت إلى مكتبي، أخذت القلم، بدا فرحا وطوع أناملي، قلت له:

- هيا لنكتب، كان العنوان: قل لهم أن يتمسكوا بأحلامهم ...

قلت للقلم:

- هذا عنوان مقالة الغد... "

الواضح أن العنوان يحمل في صورته الصوتية أو اللفظية دلالات عميقة تجد لها صدى قويا في الانطباعات الذهنية التي تكونها حواسنا لخلق وَحْدة لغوية عقلية تتكون من جزئيين هما الدال والمدلول، وطبعا العلاقة بينهما هي علاقة اعتباطية. فكيف يتلقى القارئ هذه الصورة اللفظية المتمثلة في عنوان المجموعة قل لهم أن يتمسكوا بأحلامهم ؟ قل: كلمة ترتبط بالقول والقول يرتبط باللسان، لهم : ضمير دال على الجماعة.

أن: مصدرية، يتمسكوا: مصدر الفعل تَمَسّكٌ أي تَعَلُّق، بأحلامهم، الأحلام لها أبعاد متعددة ومدلولات يصعب حصرها فقط فيما ما يراه النَّائم في نومه، بل تتجاوز ذلك إلى الرجاء والتمني في الوصول إلى هدف قد يكون قابلا للتحقق بعد عسر، وقد لا يتحقق ولكنه يظل وسيلة إشباع عاطفي.

الرؤيا السردية

تعددت الأصوات السردية عند الكاتبة فتوزعت بين استخدامها لضمير الغائب (الرؤيا من خلف) حيث يكون السارد أو الراوي عالما بكل شيء عن الأحداث وتطورها في القصة وعدد نصوص ضمير الغائب سبعة، أما ضمير المتكلم (الرؤيا مع) فيكون السارد عارفا بقدر ما تعرف باقي الشخصيات ولكنه لا يعرف باطنها، وعدد نصوص هذا الضمير ثلاثة .

وقد لجأت الرَّاوِية إلى استخدام ضمير الغائب بنوعيه المذكر والمؤنث في أكثر من قصة، وتراوح استخدامها لضمير الغائب بين الفعل المضارع الذي يدل على الحال والاستقبال، وبين الفعل الماضي الذي يدل على انقضاء الحدث ليصبح مجرد ذكرى، تقول الكاتبة في قصة "عقول عمياء" مستعملة فعل المضارع:

" تعيش كالفراشة حرة طليقة، ترقص، تغني، تقرأ أشعار أليش شتيغير وغونتر كراس وبابلو نيرودا وكتب كابرييل كارسيا ماركيز وتشيكوف وتستمع لناس الغيوان". وتقول في قصة" إنك أنا و أنا أنت" مستعملة الفعل الماضي: جلس أمين في الحديقة كعادته بعد دوام عمله، مسترخيا مطمئنا، كان يحب هذه الحديقة دون غيرها من حدائق القرية، شيء ما فيها يعيد له هدوءه وتوازنه بعد كل يوم عمل، إنه التمثال"

الحبكة في المجموعة

يمكن تعريف الحبكة في القصة القصيرة على أنَّها:” هي عبارة عن نقطة الذروة وتصاعد الأحداث والتي تتأزم فيها أيضاً الأحداث المكونة للقصة القصيرة، كما وتعتبر هي العنصر الرئيس الذي يُبنى على أساسه عنصر التشويق، حيث أنَّه كُلما زادت الأحداث تأزماً زادت نسبة التشويق المكونة للقصة القصيرة

أنواع الحبكة:

أ) الحبكة المتوازنة: وهي الحبكة التقليدية المعتادة التي يبدأ القاص بعرض الأحداث حتى تبلغ الذروة درجة الأزمة ثم تأخذ بالتفكك تدريجيًا حتى نصل إلى نهاية القصة.

ب) الحبكة العكسية: حيث يبدأ الحكي من نهاية الأحداث ويستعمل الكاتب تقنية الفلاش باك لاسترجاع الأحداث السابقة

ج) الحبكة من منتصف المتن: ويبدأ الحكي من مرحلة ذروة الأحداث

فأي نوع من الحبكة استعملته الكاتبة في نصوصها العشرة؟

الملاحظ أن هناك 8 نصوص استعملت القاصة خلالها القاصة حبكة متوازية تقليدية تبدأ بمقدمة ثم عرض للأحداث حتى بلوغ مرحلة الذروة ثم المرور إلى مرحلة التنوير تدريجيا، ولعل ما يميز قفلة هذه النصوص هي المفارقة والنهاية الغير متوقعة وهي على التوالي كالتالي: "قل لهم أن يتمسكوا بأحلامهم، الفزاعة، إنك أنا وأنا أنت، أنـــــا الثلج، طباع إنسانية، تمترس، شيء ما سلب مني، سحر الأرقام"

وكنموذج سنختار قصة «إنك أنا وأنا أنت"، في هذه القصة تقدم لنا الكاتبة شخصية أمين الذي دخل في علاقة صداقة مع تمثال برونزي يتواجد بحديقة القرية، حتى أنه أصبح كاتم أسراره والمستمع لهمومه ومشاكله، تقول القاصة على لسان أمين:

"هل تعلم يا صديقي، ينبغي أن أجد لك اسما أناديك به، آه أيها التمثال، لقد كان يومي شاقا، تشاجرت مع رئيسي في العمل، بل هو من تشاجر معي حين طالبته بتوزيع عادل للمهام داخل إدارتنا ...أنا من يقوم بكل شيء، نسخ ورقن وكتابة الإرساليات والتقارير بل حتى تنظيف المرافق أحيانا...حتى خَطّي الجميل جلب لي وابلا من العمل الإضافي لا أنهيه إلا ليلا بمنزلي، لقد أصبحت مرهقا جراء كل هذا، ربما أصبحت أشبه الموظف "أكاكي أكاكيفتش" بطل رواية المعطف  أليس هذا ظلما أيها أه وجدتها، سأسميك سيكي (الروح الطيبة)"

وتتطور الأحداث عندما يقترح أمين على زميله في العمل خالد اطلاعهُ على سره الدفين، فيصحبه إلى الحديقة ليعرفه على كاتم أسراره وتكون المفارقة أنهما يجدان التمثال قد سرُقَ.

بالنسبة للحبكة العكسية نلاحظ أن هناك نصان هما " عقول عمياء والضمائر الحية " حيث تلجأ الكاتبة لاستعمال تقنية الاسترجاع لاستعادة الأحداث السابقة.

وسندرج كنموذج نص عقول عمياء، وهو نص عميق وذو حمولة انسانية واجتماعية قوية لأنه يكشف الغطاء عن ظاهرة المرأة المثقفة التي يُضرب بشواهدها عرض الحائط ويتم اختزال وجودها وكينونتها في غرفتي النوم والمطبخ وهذا لعمري منتهى الشذوذ العقلي والتنمر الذي عفى عنه الدهر، تقدم لنا الكاتبة في مقدمة النص شخصية زينب السيدة المسماة تجاوزا عانسا الحاصلة على شواهد عليا ومنصبٍ سامٍ،وتلجأ خديجة برعو لتقنية الاسترجاع لمحطات من حياة زينب في علاقتها بالمجتمع و بالرجل باعتباره الركن الثاني في الحياة الأسرية،وفشلها الذريع في ربط علاقة متوازنة مع رجل يحترم انسانيتها وعقلها ولا يمارس عليها لعبة التشييء المقيتة التي تحصر كينونة المرأة في الجسد.

و أرى أن القفلة التي استخدمتها الكاتبة في أخر قصتها على لسان البطلة زينب وهي تردّ على زميلتها أسماء تلخص الغبن الذي تحس به مئات النساء المثقفات، إزاء وضع شاذ وغير مقبول يُكرسه المجتمع:

تقول زينب" أكل هذه المناصب تخيف؟ أليس حريا أن يُحتفى بهذا المسار الهائل لا أن يتم رفضه؟ ثم ما الجدوى من المدارس والجامعات؟ ألا ندرس فيها من أجل أن يكون لنا عقل عظيم ومستقبل زاهر؟ أغلقوها إذن وأوقفوا تعليم البنات إن كان هذا يروق لحضرة الرجل ... والنتيجة صدقوني ستكون رائعة وهائلة: تراكم للجهل والتخلف، امرأة تعيش في الظلام، أطفال متعثرون، أسرة مفككة، مجتمع في ذيل الترتيب...برأيكم أليس هذا مجتمعا للعميان؟ يخيل لي أنني أنا من سَقطت في وادي العميان وليس البطل (نونيز) "

الشخصيات

تعتبر الشخصية هي العنصر المهم في القصة القصيرة، فهي من تدور أحداث القصة حولها، وهي التي يوصل الكاتب من خلالها أفكاره للقارئ والمتلقي وعبر هذه الشخصية نستخلص العبر ونتشبع بالقيم وهي نوعان:

شخصيات رئيسية وشخصيات ثانوية

يعرف الناقد ضياء غنى العبودي الشخصيات الرئيسية فيقول هي:

"التي تحظى باهتمام، يكون لها دور مميز في الأحداث والعمل

تكون قوة الأحداث وحركة الصراع مركزة عليها، فهي نقطة ارتكاز البنية الروائية أو القصصية

منها تنطلق الفعاليات المختلفة، إذ يتجلى دورها في إثراء الحدث ونمو الفكرة وعادة ما يكون هناك

نوع من العلائقية المستمرة بين الشخصية الرئيسية وبقية الشخصيات. ويأتي هذا من خلال

التفاعل في شد الأحداث، ودفع عجلة السرد إلى الأمام، وهذه الشخصيات مبنية بناء مركبا، فبعض صفاتها من الواقع وبعضها الأخر من نسج خيال الروائي أو القاص، وتكون هذه الشخصية

مركز إشعاع داخل النص وتتمحور عليه الأحداث والسر د، وهي الفكرة الرئيسية التي تنسج حولها الأحداث"

أما بالنسبة للشخصيات الثانوية فيقول غسان كنفاني : " هي التي تضيء الجوانب الخفية للشخصية الرئيسية وتكون إما عوامل كشف عن الشخصية المركزية وتمثيل لسلوكها وعمّا نبع لها، تدور في فلكها وتنطق باسمها فوق أنها تلقي الضوء عليها وتكشف عن أبعادها"

وهذا يؤكد أن القاص يعتمد كذلك على الشخصيات الثانوية في تطور الأحداث وسيرورتها.

جل شخصيات خديجة برعو هي من الشريحة التي تعرضت للاضطهاد من قبل المجتمع وعدد من هذه الشخصيات ينتمي للفئة المثقفة فكانت عناوين قصصها مدخلا لنقد ظاهرة ما أو حالة سلبية بسخرية أو على لسان أشياء قامت بأنسنتها ومررت خطابها على لسانها وألبستها ثوب الرافض لواقع إنساني بشكل يخدم المراد من الدلالة التي أرادت ان توصلها الى المتلقي سواء كانت تلك الدلالة تُوصِل الى المدلول باعتبارها الوعاء الذي ينقل المعلومة من العالم الخارجي الى العالم الداخلي او العكس كي يوصل المعنى، ومن أبرز النصوص التي لجأت فيها الكاتبة إلى أنسنه الأشياء النص الذي تحمل المجموعة عنوانه" قل لهم أن يتمسكوا بأحلامهم " وهو واحد من أجمل نصوص المجموعة حيث تدخل الرَّاوية في حوار مع "يراع" وتلبسه ثوب شخصية ناطقة، تقول القاصة على لسان بطل النص: "صحيح أنا لست طبيبا أو شرطيا أو قاضيا ...وكل تلك المهن التي لا تعجبني، مهن تزين المجتمع لا غير...أنا كاتب، كاتب، أتدري ما معنى كاتب؟...أنا من ينير ظلمة العقل البشري يا قلم"

ويرد القلم على بطل النص:

"لا تفرح يا عزيزي، كل ما تقوله كان في الماضي، الآن لم تعد للكاتب تلك المكانة التي كان يتمتع بها، فلا أحد يقرأ ولا أحد يشتري ولو جريدة فبالأحرى كتابا...فلماذا إذن تكتب؟ ولماذا تزعجني كل وقت وحين والأدهى هو حينما تستيقظ ليلا وتأتيني مهرولا بدعوى أن أفكارا جديدة راودتك ... هون عليك ودعني أستريح"

وفي نص الفزاعة لجأت الكاتبة إلى اختيار طائرين كبطلين  لقصتها وهي شخصيات تنتمي إلى غير العاقلين إضافة لشخصيتي الفلاح وابنه المنتميان لفئة العاقلين، هناك تفاعل بين هذه الشخصيات الأربع بشكل مبني على تناقض أساسه ثنائية حزن ( الفلاح وابنه)/فرح(الطائر ذو الريش الأزرق و ابنه)، يفرق جيرار جنيت بين الصوت الذي ينتمي للسارد والرؤية المطروحة في النص السردي التي تنتمي للشخصيات

وهذا ما نلمسه من خلال قفلة نص الفزاعة حين يقول صاحب الحقل لابنه" اسمع يا مسعود، أحيانا في قلب الموت توجد الحياة، حسبك فقط بعض الخطى من الشجاعة" السارد هنا مجرد ناقل لما يرى أما صاحب الفكرة والرؤية المطروحة فهي الشخصية،وتعتبر ثنائية الصوت /الرؤية من أهم ثنائيات النظرية السردية لأنها تفرق بين من يتكلم وهو الراوي وبين من يرى وهو الشخصيات التي تعمل على تطوير الأحدث بشكل يخدم الحبكة والتنوير.

الأحداث

تقوم القصة القصيرة على سلسلة من الأحداث تشد انتباه المتلقي وتجعله يتتبّعها بلذة وشغف، وتنبني الأحداث على الصراع الدرامي الذي يدور بين الشخصيات أو بين الشخصية الرئيسة ونزعة من نزعات النفس أو فكرة معينة، وطبعا هذه الأحداث هي التي يرتكز عليها بناء القصة وتطورها، وكل ذلك يتم وفق خطاطة سردية تتكون من بداية يتم خلالها تقديم الأحداث، ثم وًسَطٍ يشتد أثناءه الصراع إلى أن يبلغ الذروة، وأخيرًا “النهاية” وتتجمع فيها عدة عوامل وقوى تتطور وتتشابك إلى أن يتم كشفها.

الكاتبة خديجة برعو حرصت في نصوصها العشرة على جعل الأحدث تتطور وفق نسق تصاعدي يرتكز على بسط الفكرة والرؤية اللتان ستسير على نهجهما، والعمل على خلق تفاعل درامي ينبني على صراع بين الشخصيات الرئيسية والعنصر المعارض الذي قد يكون إنسانا أو حيوانا أو جمادا وأيضا قد يكون فكرة أو نزعة من نزعات النفس.

اِخترنا نص سحر الأرقام لتحليله وفق النموذج العاملي لغريماس وهو عبارة عن خطاطة لدراسة النصوص السردية والحكائية .

يحددُ النموذج العاملي بناءً على الأدوار السردية والعلاقات بينها في ستة عوامل وثلاثة علاقات هي :

الذات/ والموضوع

والمرسل/ والمرسل إليه

والمساعد/ والمعيق

تربط بينها ثلاثة أنواع من العلاقات أو المحاور، هي:

1- علاقة الرغبة

2- علاقة التواصل

3- علاقة الصراع.

في هذا النموذج تعد الشخصية أيضا مفهوما مجردا يتمثل في الوظائف التي تؤديها داخل النص، فميز غريماس، بناء على ذلك، بين العامل الذي يدل على الوظيفة المُحَدِّدةُ للشخصية (والممثل) الذي يشير إلى شخصية مُحَدَّدة انسانية أو غير إنسانية، إذ أن العامل الواحد قد يتم تمثيله بأكثر من ممثل، كما أن الممثل الواحد قد تكون له أكثر من وظيفة وعامل ومن ثَم، فإن النتيجة التي يمكن الانتهاء إليها من ذلك:

أن العوامل محددة في ستة، بينما الممثلون لا حدود لهم

وإضافة إلى ذلك، فقد وسع غريماس من مفهوم الشخصية، لتصبح شاملة، من خلال النموذج العاملي للشخصيات الانسانية والحيوانية والأفكار والقيم والعواطف والمؤسسات... إي لكل ما يؤدي وظيفة من الوظائف الستة التي تساهم في تحريك الأحداث.

في نص سحر الأرقام يواجه العربي ظروفا صعبة بعد إحالته على التقاعد فيدخل في حالة اكتئاب، يَضْطرُّ للكذب على زوجته وهو يخرج في اليوم الموالي لتقاعده مبكرا، يلتقي المتشرد سعيد الذي يفتح عينيه على حقيقة كانت غائبة عليه وهي سحر الأرقام ويمنحه دعما قويا للخروج من أزمته، تقول الكاتبة على لسان سعيد وهو يخاطب العربي:

" عمرك الآن كما قلت اثنان وستون سنة، قم بقلب الرقم عندها ستصبح الستة على اليمين و الاثنان على اليسار وها قد صار عمرك ستا وعشرين سنة، ها قد صرت شابا في العشرينات من عمره"

وعندما تساءل العربي عن نظرة الناس رد عليه سعيد:

"اعتبرهم صفرا، أي لا شيء، فلا قيمة لما يقولون أو يعتقدون"

لتطبيق النموذج على هذه القصة سنصل إلى ما يلي:

العامل الذات: العربي

العامل الموضوع: التغلب على الشعور بالاكتئاب بعد التقاعد

العامل المرسل: التحرر من الكآبة، استعادة النشاط

العامل المرسل إليه: العربي، المتقاعدين، كبار السنّ

العامل المعاكس: نظرة الناس، الشيخوخة

العامل المساعد: سعيد المجنون، الأرقام

نلاحظ من خلال ما سبق أن العامل المساعد يطغى على العامل المعاكس مما أدى إلى نجاح الذات في تحقيق الموضوع وكانت النهاية مُرْضِيّةً بعد تغلب الذات على العنصر المعاكس وتحقيق الرغبة في التحرر من الكآبة.

نستنتجُ أن العلاقة بين:

العامل الذات "العربي"، بالعامل الموضوع "التغلب على الشعور بالاكتئاب بعد التقاعد" هي علاقة رغبة وتواصل

والعلاقة بين العامل المرسل، والعامل المرسل إليه، هي علاقة إرسال

دلالة الزمن والمكان في المجموعة

أبرز تعريف للمكان هو لجوليا كريستيفا والتي تطلق عليه اسم

"الفضاء الجغرافي"، وهو بمعنى المكان الذي تدور فيه أحداث النص. و ترى كريستيفا أن هذا الفضاء يجب أن ُيدرس دائما في علاقته بمكونات النص الأخرى، من جهة، وبالثقافة السائدة في عصره، من جهة أخرى، إذ أن لكل عصر ولكل مجتمع ثقافته ورؤيته للعامل، وبذلك تربط الفضاء بالتناص. أي أن دراسته يجب ألا تكون دراسة نَصية مغلقة، بل يجب أن تتم في علاقته بالنصوص الأخرى وبثقافة العصر عامة وتكمن أهمية الفضاء الجغرافي «المكان" في أنه يخلق الإيهام بواقعية الأحداث.

بالنسبة للزمن يتم التمييز داخل النص السردي بين زمنين هما:

زمن القصة الذي يخضع للتتابع المنطقي للأحداث

وزمن السرد الذي لا يخضع له بالضرورة، ويستند في الغالب على المفارقة. جيرار جنيت دراس زمن السرد من خلال محورين هما: المفارقة والإيقاع الزمني، بحيث تتحقق المفارقة بواسطة تقنيتين تكسران التتابع الخطّي للأحداث هما: الاستباق والاسترجاع .

فالأول يشير إلى انتقال السرد نحو المستقبل وسرد أحداث لم تقع بعد.  أما الثاني فيركز على سرد أحداث وقعت في الماضي بالاعتماد على الذاكرة.

ويقترح جنيت لدراسة الإيقاع الزمني أربع تقنيات لتكسير التطابق بين زمن السرد والزمن الواقعي للأحداث هي:

الإيجاز والاستراحة والقطع والمشهد. فالإيجاز يعتمد على تكثيف أحداث ذات امتداد زمني طويل في أسطر قليلة.

وتدل الاستراحة على التوقف عن السرد، واللجوء للوصف.

أما الحذف فيتم بتجاوز فترات زمنية.

بالنسبة للمشهد فيقصد به المقطع الحواري الذي نستعمله في سياق السرد.

فكيف إذن وظّفت القاصة خديجة برعو هذين المكونين في مجموعتها القصصية "قل لهم أن يتمسكوا بأحلامهم"، وذلك في ترابط مع باقي المكونات؟ وإلى أي حد استطاعت أن تتحكم في تناغمهما مع تقتضيه خصائص القصة القصيرة من إيجاز وتكثيف؟

تقول خديجة برعو في نصها  إنك أنا وأنا أنت:

"جلس أمين في الحديقة كعادته بعد دوام عمله، مسترخيا مطمئنا، كان يحب هذه الحديقة دون غيرها من حدائق القرية، شيء ما فيها يعيد له هدوءه وتوازنه بعد كل يوم عمل، إنه التمثال، وسط هذه الحديقة نصب تمثال عظيم من البرونز لرجل يجلس فوق صخرة إسمنتية ثابتة، كان التمثال مهيبا، هائلا وأخاذا ... ذقنه الرفيع، عيناه الواسعتان، أنفه المستقيم ويداه المتشابكتان كلها توحي بالعظمة والثقة والسكون"

في هذا النص اختارت الكاتبة الحديقة كفضاء جغرافي تدور فيه أحداث قصتها، ومكاناً للاستراحة والاستمتاع بجمال الطبيعة، أمين الشخصية الرئيسية في النص يلجأ للحديقة بعد "دوام" عمله، نهاية دوام العمل تكون عادة في الساعة الرابعة والنصف، يعني بعد العصر أي أن زمن السرد يبدأ في هذه الساعة، استطاعت الكاتبة في هذا النص أن تربط بين البعد الزمني والمكاني، بشكل يعكس حجم الاطمئنان الذي يحس به بطل القصة.

في نصها "طباع إنسانية" تقول الكاتبة:

" في قارة ما، في عاصمة ما، في قرية ما ...كان الشيخ سعيد يسكن قصرا محصنا في أعلى الجبل وكأنه يخشى هجوما مسلحا، لا أحد في القرية يعرف طبيعة عمله، كل ما يروج عنه أنه رجل أعمال، يغدق على القرية أمولا طائلة خلال الأعياد الدينية والمناسبات الوطنية، كما أنشأ مستشفى وثلاث مدارس لأبناء ومرضى القرية.

اليوم في قصره وكعادته، ينتظر أصدقاءه على العشاء، المحامي كريم وصديقه سليم حيث دأب على استقبال أصدقائه من حين لآخر خاصة حينما يحل بقصره

وصل المحامي وصديقه سليم في الوقت المحدد، كان الصالون فخما وباذخا وعلى طاولة العشاء الطويلة قدمت أفخر أنواع الطعام التي لم تخطر لهما على بال وفي زوايا الطاولة الأربعة يقف أربعة خدم بلباس أنيق لا يشبهون خدم أهل القرية"

الفضاء الجغرافي في هذا النص حصرته الكاتبة في قرية ما تنتمي لعاصمة ما في قارة ما. ورد اسم "قرية" نكرة أي أنها تبقى في نطاق غير محدد، وغير معروف، الشخصية الرئيسية وهي الشيخ سعيد الذي يعيش بقصر محصن، بالنسبة للزمن هناك زمن السرد المحدد في " اليوم" الذي يرد معرفا، وهو يوم لقاء الشيخ بأصدقائه، وتلجأ الكاتبة لتكسير التطابق بين زمن السرد والزمن الواقعي للأحداث إلى تقنية الاستراحة والإيجاز مستعملة الوصف والتكثيف لتجاوز هذا الأمر والملاحظ أن الكاتبة في هذا النص تعاملت مع المكون المكاني بشكل عام وعابر، إذ يبقى مكون الزمن هو المؤثر في تطور الأحداث وسيرورتها.

خاتمة:

مما سبق يتضح لنا أن مضامين هذه المجموعة القصصية تتمحور حول مواضيع متنوعة يغلب عليها الطابع الاجتماعي والوجودي، كما تحضر أيضا اللمسة الرومانسية التي تغدق على بعض النصوص الكثير من الشاعرية، دون أن ننسى الحضور الوازن لنون النسوة في تجسيد جلي لمعاناة المرأة في المجتمعات المنغلقة التي لا تعترف لها بقيمتها الانسانية وتعمل على تشييئها.

إن نصوص مجموعة خديجة برعو تتميز بتنوع وثراء جمالي، يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود، الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغتها شعرية، تتكئ على التكثيف والايجاز، وتبتعد عن المباشرة، ولم تخلو بعض نصوصها من الترميز والتناص، سعيا لتوسيع المعنى وتجويع اللفظ بأسلوب بلاغي قوي.

***

محمد محضار - الدار البيضاء

27 يوليوز 2023

«آنّا كارينينا» رواية عظيمة عن الحب والأسرة ومعنى الحياة والشغف العاطفي، من خلال قصص العديد من العائلات السعيدة وغير السعيدة في المجتمع الروسي المخملي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. يصف فيها ليف تولستوي أدق خلجات الروح البشرية، ويغوص عميقاً في نفوس أبطال روايته، ويبدو أنه كان يفهمهم أكثر مما يفهمون هم أنفسهم.

تتألف هذه الرواية من قصتين غير متداخلتين تقريبا:علاقة آنا كارينينا مع أليكسي فرونسكي وانفصالها عن زوجها، وحكاية حب كونستانتين ليفين وكاترينا شيرباتسكايا، وبداية حياتهما الأسرية. سنتحدث في هذا المقال عن آنّا كايرنينا في المقام الأول، لأن الكتاب الذي نعرضه في السطور اللاحقة، يركز على النماذج البشرية الحقيقية لشخصية آنّا كارينينا، والقيم السائدة في المجتمع الروسي في العهد القيصري.

آنا كارينينا كما صوّرها تولستوي

امرأة جميلة من الطبقة النبيلة في المجتمع المخملي، زوجها أليكسي كارينين مسؤول كبير في الدولة، ولديها ابن عمره خمس سنوات.. سعيها وراء الحب والصدق العاطفي، وعلاقتها الحميمة بعشيقها أليكسي فرونسكي تجعلها منبوذة من المجتمع. معاناتها الشديدة تدفعها إلى البؤس والشقاء وأخيراً الانتحار. آنا شخصية جميلة بكل معنى الكلمة: ذكية ومتعلمة، تقرأ بنهم، وتكتب للأطفال، وتظهر قدرة فطرية على تقدير الفن. ساحرة جسديا، أنيقة، ذات ذوق رفيع، تجذب انتباه الجميع تقريبا في المجتمع الراقي. آنا تؤمن بالحب – ليس فقط الحب الرومانسي، بل الحب العائلي والصداقة أيضا، كما نرى في إخلاصها لابنها، وجهودها الحثيثة للتوفيق بين شقيقها ستيفان أوبلونسكي وزوجته دوللي في مشاكلهما الزوجية، واستقبالها الحار لدوللي في منزلها الريفي.. آنا لا تكره شيئًا أكثر من التزييف، وهي تنظر إلى زوجها، كارينين، باعتباره تجسيدا حقيقيا للتقاليد المزيفة – الخالية من المشاعر- التي تحتقرها.

القصة الحقيقية لآنا كارينينا3514 آنّا كارينينا

وضع الكاتب والناقد الأدبي الروسي المعروف پاڤيل باسينسكي سلسلة من الدراسات الوثائقية الممتعة عن كتابات ليف تولستوي وحياته، بدأها قبل ثلاثة عشر عاما، بكتابه الوثائقي المثير «الهروب من الجنة»، الذي يستند إلى استنتاجاته، التي توصل إليها بعد قراءة وتحليل يوميات تولستوي ورسائله ووقائع حياته الزاخرة بالأحداث، وآرائه في الفن والدين والحياة. رسم باسينسكي للقارئ صورة حية لإنسان عظيم، له حياة عاطفية متناقضة. وقد فاز هذا الكتاب بجائزة «الكتاب الكبير» لعام 2010، وهي أهم جائزة أدبية روسية، وتعد بمنزلة جائزة الدولة التقديرية في الأدب. بعد ذلك نشر باسينسكي عدة كتب عن تولستوي منها: «القديس ضد الأسد»(2013) حول الخلاف بين يوحنا كرونشتاد (1829- 1909) رئيس الكهنة في الكنيسة الأرثوذكسية وليف تولستوي، علما ان اسم ليف في اللغة الروسية يعني الأسد. و»الأسد في ظل الأسد»(2015) حول العلاقة بين الكاتب وابنه الذي يحمل اسم ليف (الأسد) أيضاً، و»ليف تولستوي إنسان حر» (2016).

«القصة الحقيقية لآنا كارنينا»، هو الكتاب الذي يسلط فيه باسينسكي الضوء على شخصية آنّا كارينينا، على خلفية كم هائل من المواد الوثائقية. وقد فاز هذا الكتاب أيضاً بجائزة «الكتاب الكبير» لعام 2022. يقول باسينسكي في مقدمة الكتاب: «هذا الكتاب كتب من تلقاء نفسه. أنا أتحدث فيه ليس ككاتب، بل كقارئ شغوف بآنا كارينينا. فقد قرأتها عشر مرات قبل أن أكتب عنها. وفي كل مرة كان هناك شعور غريب بأنني أقرأ رواية مختلفة». كتاب باسينسكي الجديد ليس دراسة أدبية، بل أشبه بقصة بوليسية شائقة. سوف نكتشف أن فكرة هذه الرواية طرأت على ذهن تولستوي بشكل عفوي، ففي أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر كان يجمع المواد لرواية تاريخية عن بطرس الأكبر، كان العمل فيها صعبا ومزعجا. في هذا الوقت تقريبا، أقدم أحد جيران تولستوي وهو الإقطاعي بيبكوف ـ بعد وفاة زوجته الأولى- على الزواج من فتاة ألمانية جميلة تعمل مربية لأطفاله. وقد علمت عشيقته، ومديرة منزله آنا ستيبانوفنا بيروغوفا بذلك، فأقدمت على الانتحار بإلقاء نفسها تحت عجلات قطار، تم دفن جثمانها في مقبرة الكنيسة في كوتشاكي، حيث تقع مقبرة عائلة تولستوي. أثار هذا الحادث – خاصة طريقة الانتحار الرهيبة – التي اختارتها المرأة التعيسة – اهتمام تولستوي لدرجة أنه ذهب شخصيا لمراقبة تشريح الجثة؛ وكتبت زوجته إلى أحد أصدقائها: «أصيب تولستوي بصدمة شديدة، فقد كان يعرف آنا ستيبانوفنا، التي كانت امرأة طويلة، ممتلئة الجسم، ذات ملامح روسية، سمراء ذات عينين رماديتين». قرر تولستوي كتابة رواية قصيرة عن الخيانة الزوجية، على أمل إنهائها بسرعة والعودة إلى الأمور «الأكثر أهمية». ومع ذلك، فإن العمل على «آنا كارينينا «استمر لأربع سنوات، وأصبحت نقطة تحول في حياة وإبداع تولستوي. ليس لآنا كارينينا نماذج بشرية حقيقية، فهي شخصية خيالية بالكامل، لكن تولستوي وجد إلهاما جزئيا للشخصية في ماريا هارتونغ، الابنة الكبرى للشاعر الروسي اليكسندر بوشكين، التي التقى بها تولستوي عام 1868 في الحفل الراقص الذي أقامه حاكم مقاطعة تولا، فهي شبيهة بآنّا كارينينا من حيث المظهر فقط. انبهر تولستوي ليس بجمالها فحسب، ولكن أيضا بـ»ضفائرها السوداء الفاحمة» وأشار إلى أن «هذا ما تعنيه السلالة» ملمحا إلى الأصل الافريقي لبوشكين. ستظهر هذه الضفائر بعد ذلك على رأس آنا في الحفل الراقص، حيث رقصت مع فرونسكي و»انتزعته» من كاترينا.

أثناء كتابة الرواية، قام تولستوي بتغيير عنوانها عدة مرات، وأصبحت الشخصيات الرئيسية أكثر تعقيدا: تغيرت صورة آنا التي كانت شبيهة في البداية بماريا هارتونغ وأصبحت تدريجياً أكثر مأساوية وتوترا بتأثير القصة الدرامية لأخت ليف تولستوي، ماريا نيكولاييفنا تولستويا، التي تركت زوجها وأنجبت لاحقا ابنة غير شرعية. والأهم من ذلك، أن تولستوي تأثر بعمق بحادثة انتحار آنا بيروغوفا، التي يمكن القول إنها النموذج الأولي لآنا كارنينا. شيئاً فشيئاً، يكشف باسينسكي عن السياق التاريخي للرواية، الذي لم يعد واضحا لقراء اليوم: سنكتشف لماذا كانت رقصة المازوركا الطويلة (التي استمرت ما يقرب من ساعة!) هي الرقصة القاتلة التي قررت مصير كارينينا وفرونسكي وكاترينا شيرباتسكايا (في العديد من الاقتباسات السينمائية للرواية، يرقص الأبطال رقصة الفالس القصيرة العاطفية).

قد يتبادر إلى ذهن القارئ: لماذا لم تطلب آنا الطلاق من زوجها كارينين ليتسنى لها الزواج من فرونسكي؟ وفقا لقوانين الإمبراطورية الروسية في نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن ذلك ممكنا إلا في حالة واحدة وهي اعتراف أحد الزوجين بخيانة الآخر – وإذا حدث ذلك واعترفت آنّا بخيانة زوجها، فلن تتمكن من الزواج من فرونسكي لاحقا؛ لأن الكنيسة هي التي كانت تتولى الإشراف على مسائل الزواج والطلاق وتعاقب الخائنة بحرمانها من الزواج ثانية طوال حياتها. وقد يتساءل القارئ: لماذا اختارت كارينينا الانتحار تحت عجلات قطار في محطة أوبيرالوفكا على وجه التحديد؟ آنا تعيش في مكان آخر. لكن فرونسكي سافر من هذه المحطة في زيارة لوالدته، وقال إنه سيعود في القطار التالي، أكلت الغيرة قلبها وجاءت إلى المحطة والآن تقف في انتظاره، وتدرك أنه إذا ظهر فرونسكي هنا الآن – وهو أمر محتمل للغاية، لأنه سيعود في القطار التالي – عندها سيفكر فرونسكي انها تلاحقه وسيكون عليها أن تقدم تفسيرا مهينا لوجودها في المحطة. وجاء القطار في هذا الوقت. ومع ذلك، بغض النظر عن مدى سخافة وقسوة القوانين والأعراف الاجتماعية في الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر، كان السبب الرئيسي لمأساة آنا هو شخصيتها: فهي سيدة ارستقراطية في المجتمع الراقي، الذي يعد المغامرات العاطفية مع الضباط الشباب ظاهرة شائعة وآمنة. لكن آنا – «طفلة ساذجة» – لا تعرف قواعد اللعب، وترتكب الأخطاء وتتألم، وتخيب ظن هذا المجتمع مرارا وتكرارا وتجعل أحباءها غير سعداء.

يؤكد باسنسكي أكثر من مرة، أن آنا كارنينا هي رواية رائدة، غير مألوفة. تولستوي يخرق فيها جميع قواعد الكتابة الروائية المعروفة في ذلك الوقت، كما أنه يصمت تماما عن أشياء كثيرة، ويترك في الحبكة (فراغات) على افتراض أن القارئ سيملأها بنفسه: «هذه بالضبط خصوصية الرواية، أن القارئ يجب أن يخمن الكثير مما يحدث بنفسه، دون تفسيرات الكاتب، بل حسب تلميحاته». كان اليكسي كارينين من عائلة فقيرة، ونشأ يتيماً، ووصل بمثابرته وجهده المتواصل إلى مناصب عليا، وكان أصغر حاكم مقاطعة في روسيا القيصرية، وتزوج من آنا. لم يكن متزمتا في آرائه السياسية والاجتماعية والثقافية، حتى إنه حاول مواكبة الأدب الحديث، ما أثار سخرية تولستوي، وكان رجلا مسالما، وفقدان آنا بالنسبة إليه مثّل خسارة المعطف لأكاكي أكاكيفيتش في قصة نيكولاي غوغول، وكان فرونسكي (عشيق آنّا)، وفقا لباسينسكي، على العكس من ذلك، رجلا (فارغا)، ولم يهتم به تولستوي كثيرا، لذا ظلت صورته ضعيفة التطور في الرواية.

أراد باسينسكي أن يعرف: لماذا تطورت قصة آنّا كارينينا بهذه الصيغة، وليس بصيغ أخرى. ويبدأ في فك سلسلة أحداث الرواية – وملء ما يسميه «الفراغات». هذا هو المكان الذي يكمن فيه الجزء الأكثر إثارة للاهتمام من الكتاب. المخطط العام للرواية مألوف لكل من قرأ هذه القصة في كتاب أو شاهدها على الشاشة: لقاء آنا مع فرونسكي في الحفل الراقص المصيري على وقع موسيقى مازوركا البولونية، حياة آنا كارينينا العائلية المملة مع كارينين، مثابرة فرونسكي، عذابات البطلة، الخيانة، ولادة طفل غير شرعي، النفي من المجتمع المخملي، الغيرة، التوتر النفسي، الانتحار تحت عجلات قطار. كل شيء واضح ظاهرياً – ولكن في الوقت نفسه يثير العديد من الأسئلة: لماذا آنّا كارينينا مغرمة جدا بفرونسكي؟ ما الخطأ الذي حدث في زواجها من كارينين؟ لماذا لم تستطع الحصول على الطلاق؟ وفرونسكي – كيف خطط للعيش مع كل هذا؟ وأخيرا، هل كان من الضروري أن ترمي آنّا نفسها تحت عجلات قطار؟ في الواقع، لا يقوم باسينسكي بأي اكتشاف أدبي في كتابه، ولا يقدم قراءة بديلة جذرية للكتاب. إنه يسلط الضوء بشكل منهجي فقط على ما صمت عنه تولستوي، أو لم يهتم به كثيرا،ولا يمكن للقارئ العادي ينتبه إلى ذلك بنفسه. آنّا وفرونسكي كانا يعرفان بعضهما قبل الأحداث الموصوفة، لكن لم يبد أي منهما اهتماما بالآخر في ذلك الحين. وليس من قبيل المصادفة أن كل شيء يتغير بعد أن تجد آنا نفسها في المقصورة نفسها في القطار المتوجه إلى موسكو مع والدة أليكسي فرونسكي، التي تتحدث طوال الطريق عن ابنها الأصغر، أليكسي، لأنها تعتقد أن العلاقة مع آنا المتزوجة يمكن أن تكون مفيدة له. كل هذه مجتمعة، تملأ الفراغات. وتظهر الصلات المنطقية المبنية من جديد، وكيف أن حبكة الرواية كانت مرتبطة في عقدة محكمة. تتناول الرواية أيضاً خيانة ستيفان أوبلونسكي لزوجته مع مربية أطفالهما. آنا كارينينا، أخت ستيفان تبرر سلوكه، وتقوم بمحاولة مصالحة ستيفان مع زوجته، رغم أنها تعلم بخيانة أخيها. يسأل باسنسكي: إذن، لماذا لا تغض آنّا النظر عن خيانة زوجها وتتصالح معه؟ تجدر الإشارة إلى أن آنا كارينينا في عنوان كتاب باسنسكي مكتوبة دون علامتي تنصيص، وهذا صحيح. لأن باسينسكي يهتم بقصة البطلة في المقام الأول، وليس بجميع شخصيات الرواية، رغم أنه في البداية يعدنا بمقاربة أوسع.

المعمار الروائي

نشرت رواية «آنّا كارينينا» تباعا على شكل حلقات متسلسلة بين عامي 1875، 1877 في مجلة «روسكي فيستنيك» وعندما انتهى الجزء الأول من الرواية رفض الناشر نشر الجزء الثاني والأخير قائلاً: «إن الرواية انتهت بانتحار آنا تحت عجلات قطار». ولكن تولستوي أصر على استكمال الرواية بسرد قصة حب كونستانتين ليفين، وكاترينا شيرباتسكايا. ويجسد ليفين شخصية تولستوي نفسه: مالك أرض ثري يحاول حل أزمة إيمانه من خلال العمل مع الفلاحين في الحقول.. كان تولستوي فخورا جدا بما سماه «معمار الرواية»، أي كيف تمكن من الجمع بين قصتي آنا كارنينا، وكونستانتين ليفين وبالحجم نفسه، «بحيث لا يمكنك حتى ملاحظة مكان العقدة». في الوقت نفسه، أكد أن النقطة الجوهرية ليست في الحبكة أو تعارف الشخصيات، ولكن في نوع من «الصلة الداخلية» الخاصة بها. ما هي هذه الصلة الداخلية؟ هذا هو أحد أصعب الأسئلة، التي ظلت دون إجابة موثوقة، ولكن باسينسكي يرفض إيلاء القدر نفسه من الاهتمام بالقصة الثانية، ناهيك عن اكتشاف «الصلة الداخلية» بين القصتين.

***

جودت هوشيار

إبداعٌ وعطاءٌ يفوحان بعطور الأمل، ويفتحان باستشراف آفاق التناغم والعمل

ونحن ننتهي من قراءة ديوان "رذاذ صيفي" للشاعر أنطوان القزي رئيس تحرير جريدة "التلغراف" الصادرة بالعربية في سدني، تستوقفنا عند صفحة الغلاف الأخيرة منه سطور دافقة ومكثفة، تجسد بإيجاز عميق ودال جوانب مهمة عن مسيرته الحياتية والإبداعية، يشير في مستهلها، إلى أنه " ليس للطير إلاّ أنْ يمتطي جميع الغيوم لينسج من أكمامها أراجيح المسافت، و ليس للإنسان إلاّ أنْ يشقّ صدر المسافة حاملاً كشّة أحلامه أنّى رمت به السبل".

وإذا كان يمكن لهذه الكلمات أن تشكل مدخلاً أوليّاً، يؤكد لنا أن الشعر هو ضرورة حياتية وإبداعية للشاعر، على ما تحمله هذه الضرورة من سمات وملامح وأبعاد، فإننا نجد بجلاء أن نصوص الشاعر القزي تتنفس العشق بكل أشكاله: عشق المحبة، عشق الوطن، عشق السلام، عشق الحقيقة، وبشكل يرينا أن العشق يتوالد عشقاً.

صدر هذا الديوان بـ 106 صفحات من القطع الوسط، ضمن منشورات مؤسسة الجذور الثقافية في ملبورن، وضم 27 نصاً. ومع تعدد المضامين التي تنبض بها روح هذه النصوص، نجده يقول في نص بعنوان "دمعة حمراء":

دعيني ألملمُ الأوتارَ

أنا المأسورُ

في أمسِ الفراشات

أسبرُ الآهَ

أضمُّ الحياء.

فبيني وبين الجرحِ

عشقٌ غريبْ

وبيني وبين الندى

صيْفٌ عاقر.

وفي نص آخر، جاء بعنوان "بكاءٌ بلا تاريخ"، يقول:

بين الرّيحِ والرّيحْ

تغرّدُ ملامحي

أنا تدمرُ وطشقندْ

أنا بلقيسُ وسبأ

أنا قرطاجُ وقرطبة

وبين أسفاري وبيني

سندبادٌ بلا وطن

وبكاءٌ بلا تاريخ.

وبعودة إلى ما دونه الشاعر على الصفحة الأخيرة من غلاف الديوان، نجده يحدّثنا كيف أن السفر قد غافله ذات صباح، هو الذي أدمن سحر ذلك الأفق الذهبي مرآة تلف شاطئ بلدته الساحلية "الجيّة"، وقد سبقه أجداده على أشرعة الغفلة قبل تسعة عقود. و يرى أن "من حُسن الطالع أن القدر حطّ به في القارة الأبعد – أستراليا، مع عائلة من زوجةٍ وثلاثة أطفال تنازعتهم الهجرات الداخلية المتكررة في لبنان، إلى أن انتزعتهما الغربة إلى هذا المنأى.

ومع استرساله في الحديث يؤكد انه سيكون صادقاً عندما يقول أنّ وجنتيه لامستا مخدة الأمان لأول مرّة، وأنّ جفنيه أطبقا على وعود الصباحات الآتية، وأنّ أطفاله رسموا ابتسامات طالما حجبها الحزن في بلاده.

و يضيف قائلاً: " نعم، أستراليا زرعت في صدري كبرياء الإنسانية، ومنحتني جواز عبور إلى ذاتي الحقيقية، أنا الذي أثريت مدارس بلادي متواضعاً بثلاثة عشر كتاباَ وأتبعتها بأربعة أخرى في المنفى الأسترالي، لتصبح سبعة عشر مؤلفاً كانت ثروتي وزادي وذخيرتي الباقية.

وفي نفس المسار يقول باعتزاز: "وجدتني في بلاد الكنغر منتصب القامة أمشي، في بلادٍ باتت الحضنَ الدافئَ وحبّة الدواء وبسمة الرجاء. هنا وجدتُ أبناء جلدتي وقد سَمَتْ بهم المراتب أهل علمٍ وعمل في كل الحقول :من أربعين حاكماً ووزيراً ونائباً إلى عشرت الأكاديميين والمخترعين والعمداء، إلى الكم الذي لا يحصى في الفنون على أنواعها، إلى الإعلام العربي الذي يجاري بل يبز الإعلام في أوطاننا الأم".

إن رحلة أنطوان القزي الحياتية والإبداعية، تحمل الكثير من رموز ودلالات المعاناة والعطاء، التي تعكس بمجمعها صوراً مشرقة من صور التميز والبهاء. وهي جديرة بأن تدرس بشمول عبر مراجعة لكل مؤلفاته التي بلغت السبعة عشر مؤلفاً كما ذكرنا سالفاً.

***

خالد الحلِّي - ملبورن

فنتازيا القص التمثيلي وشرود أحوال الذات الفاعلة و المنفعلة

توطئة: إن من حدود جملة إمكانيات الوعي القصصي،استدراك تلك العلاقة المماثلة في ناصية المؤول التصديقي في مقامه الأولى من الارتباط والاسناد والمحايثة في تكوين أسباب ومسببات الفسحة الاستدلالية قي مرابط عملية التمثيل النصي عبر جل علاقاته وفضاءاته وأحواله وعوامله الشخوصية الفعلية والغير فعلية.وإذا أردنا من جهة خاصة تعيين الحجة الفنية في تشكلات عناصر وعوامل البنية الفعلية في محاور قصة (أشجار البرغش) للقاص القدير وارد بدر السالم،لوجدنا فيها ذلك الارتباط الثيماتي في علاقة (سياق ــ فنتازيا ــ دلالة مقاربة) ولو حاولنا الاستقراء من جهة أخرى في مادة الحكاية القصصية،لوجدناها ماثولا في إضاءة المدلول العجائبي الذي لا يتجاوز أواصر مادة معدولة بالمنضوي السياقي الخاص من واقعية غير تصديقية في منحى طابعها الموضوعي.ولكن من جهتنا سوف نتعامل مع هذا النص في إحالة الوازع المفترض من حدود انطباعية المادة الفنتازية في شكلها الحصولي والاستكمالي والمعادلاتي إجمالا.

ـــ المؤسطر المكاني في تضاريس الإيحاء الوصفي

قلنا في مستهل مبحث مقدمة دراستنا أن طبيعة قصة (أشجار البرغش) من النصوص القصصية التي تعتمد على وحدات (السياق ــ فنتازيا الحكي ــ إحالات الاستدلال) وإذا كنا لم ننوه عن بعض هذه الوحدات في صورتها المفهومية المستطردة في مستهل المقدمة للدراسة،فذلك لكوننا تقصدنا بلوغ الأمر في حينه من المقاربة الاتمامية في المعالجة عبر منظور القراءة ليس إلا.وعند نقطة سيرورة الحكي من على لسان (السارد العليم ــ الشخصية ــ الشاهد) تتوالد لدينا جملة تصورات استراتيجية حول تاريخ تلك القرية في مجمل محمولاتها القبلية والماقبلية،وصولا إلى إحالة التمثيل الحاضري في لغة السارد ــ الشاهد،إلى جهة أكوان واتجاهات وبنيات تضاريس وجغرافيا تلك القرية.وبمجرد حديث السارد المستفيض حول تلك السمات الإمكانية القابعة في: (قريتنا تكبر دائما مع الزمان على ضفاف هذا الطوق الصارخ،وأشجار البرغش أعجوبة الزمان. /ص23 :النص القصصي) قد نكتشف حجم الإدراك المحاط في عملية الإحالة (الوصفية ــ الاخبارية ــ السردية) أي الإحالة المقصودة في قولنا،هي التنويه إلى عملية إنتاج (الترابط الثيماتي) وتحديدا فيما يخص معادلة الزمان للقرية وحضور مشخصات المكان فيها.كنوعية مشار إليها ضمن ما يعرف بـ (قرى المعدان ــ طنينها الصاخب ــ شجرة العشيرة ــ حقيقة من حقائق) إذا الجهات المشار إليها هي نوعيات سياقية مشخصة ضمن فعلية دلالية لها وجودها التدليلي في الاستحضار اللامتناهي من (الوهم ــ اللاوهم / الواقع ــ اللاواقع/ التصديق ــ الافراط في اللامتعين) كصلة مقومة في إقامة مادة التصور كعلاقة مشروطة في محصل استيعابي فني ضروري حتما.

1 ــ مستويات الواقع في إظهارية مادة الحكاية القصصية:

إن النصوص الأدبية السردية التي تداخلت في عمليات اختزال البيئة الأهوارية من واقع مستوى الهيئات الجغرافية في مدن الجنوب،هي من التكاثر والتعدد،خصوصا في ما يتعلق بموضوعية الفئات القبلية التي تقطن في تلك الأحياز من زمن المسطحات المائية واليابسة من أعماق مياه الأهوار.لقد ظل القاص والروائي الجنوبي معتمدا في مخيلته على زمن مؤسطر شبه خرافي عندما يعيد إنتاج حالاته المرجعية من الذاكرة المعاشة أو اللامعاشة لتلك التواريخ الموغلة بالعلاقات السرانية والعلنية من مستوى حدوثات الحياة الأهوارية الجارية بموجب ظلامية التقاليد والأعراف القبلية.لذا صار من غير المنطقي للقاص إعادة ذات النسج من حقيقة حكاية واحدة،قامت مئات الأخيلة للكتاب إلى نسخها في أطوار وأشكال ممجوجة من النمطية والإعادة لكل ما هو مكرر،لذا فقد كانت (كائنات أشجار البرغش؟ ) اللون الدلالي الافرادي في صنع حكاية أهوارية أمتزجت بالتقاليد والواقع ذاته،ولكنها حلت في مواضعة ــ ماثولا ــ متفردا في مصاغ الحبكة القصصية القصيرة العراقية.أقول أنا شخصيا ممن يتفق مع (وارد بدر السالم قاصا) فللقاص بدر السالم فرادته وخصوصيته وبصمته في كتابة الفن القصصي العراقي،وليس الأمر مرجحا له في حدود مؤشرات أقاصيص مجموعة (المعدان) لا أبدا،فالقاص له في هذا الفن السردي المضغوط (زمنا ــ مكانا ــ عاملا) دورا لا يمكن تجاوزه إطلاقا من حيث التجربة ونوعية الأداء الأسلوبي.وعلى هذا النحو جاءتنا ملامح قصة (أشجار البرغش) كعلامة نوعية في صياغة حكايا الأهوار.. تلك الحكايات التي لا يحسن وضع شيفراتها سوى من أختبر خياله على تضاريس الحياة الحقيقية في طبيعة أسرار وأكوان تلك المستنقعات،لذا حلت علينا أسراب تلك الكائنات الحشرية،كحقيقة دلالية مشبعة في اختزال اللامحدود واللامرئي من عوالم الشفرات الخالصة من تلك الحيوات الآسنة التي بقيت تحياها شخوص النص (المحورية ــ الهامشية) في مستوى أدواريا دالا على وحشة تلك الكائنات ومواضع هبوطها وطيرانها على أغصان تلك الأشجار الموحشة : (نفخت رؤوسنا بطنينها الضاج ليل نهار،فامتدت خيوط حياتنا متشابكة ومشتبكة بين قص السنوات وهي تنمو على مضجة هاردة من طنين البرغش الذي يتناسل في تلك الأشجار المنتشرة على ضفتي النهر الدائري./ص23:النص القصصي) إن القراءة المتمعنة إلى وحدات النص،تترك لدى القارىء ذلك المؤشر القصدي بأن (السيرة المكانية) لا تنفصل عن مؤطرات المعطى الخيوطي في الحبكة،وذلك لكون العامل المكاني في هذا النص،راح يرتكز على الذات في شكلها (المعياري ــ الانموذجي) على إنها تلك الذات المحكومة في تذويت الأشياء المكانية في النص،وعلى إعادة إعطاءها كل الدور بالمقارنة والضرورة العلائقية بين (الآخر ــ المؤثر) أي أن الآخر طالما يكون مصحوبا في ماهية الأشياء المحيطة في وجودها التشيئي،لذا فهذا الأثر تربطه علاقة تذويتية مع وحدة الذات الشخوصية،ليكون مرادها وموضوعها ومستقبلها بالإمكان والبديل.فمثلا أن المؤثر الدلالي في مقاصد حشرات البرغش وعنفوانها جاء مؤثرا على مجرى تذويتي على حياة السارد (المشارك ــ الشاهد) في النص وعلى ممن يسكنون ذات البقعة من : (قريتنا في هذا القوس العاصف الذي يكاد يكون مغلقا إلا من فتحة تقع على طرفي حدوة،هي حدود تلك الأشجار الشيطانية./ص23 : النص القصصي) لعل القيمة التذويتية ها هنا،مبنية على أكثر السمات اقترانا باللحظات الحسية والاحوالية من وقائع الحياة اليومية للشخصية وتلك الكائنات المتوحشة،وتمييزها بهالة خاصة من اللغة (الفنتازية ــ الغرائبية) التي تتمثل بالصورية السردية التي تتعالى على الحدث والعرض والموقف العابر،إذ تمنحها ــ أي الأشياء المحاطة بالشخصية ــ تكثيفا مجردا يقترب من زمن (الواقعة الفنتازية) أو ذلك الأفق المجرد من حقيقة الشيء في ذاته.أي لربما لو تعاملنا مع تلك الهيئات من الاشجار البرغشية من ناحية رمزية،لوجدنا فيها تكمن الدلالات والملامح والصفات القهرية للحياة الأنسانية في الأهوار،وكم إنها تستنزف من القابلية والاستعداد في صراعها مع قوى الطبيعة الأسطورية في تلك الأكوان الموحشة.كذلك هناك من الأسرار التي تصارعها تلك القوى الحشرية،كحالات ممارسات الخطيئة في خلوات المشاحيف اللائذة وسط أحراش قصب البردي: (لقد عرفنا المرأة .. هي .. غرر بها صالح في ظهيرة حارة ... صعدت معه في مشحوف صغير واستسلمت لدبيب الماء في جسدها الناضج،ولا بد إنها غفت في بطن الزورق وغفا هو الآخر،وربما شغلهما لهاثهما الطويل./ص30 : النص القصصي) إن مساحات الوجود الدلالي في مجرى السرد،تتوالد بالمقاربة المتعارضة والمتضامنة بوظائفهما المتنية المتشكلة. فهناك ذاكرة تحددها قوانين الطبيعة،فيما أخرى تحددها مكامن وقائعية مستورة عن ذريعة الافصاح حول الهوية الخلفية للعلاقات الإيروسية في أعماق أسرار الأكواخ وأحراش القصب .

2 ــ سحرية الوصف وجزالة رصد الموصوف:

ولعل من أهم ما لفت اهتمامنا في تجربة قصة (أشجار البرغش) قدرة بدر السالم على منح مصوغاته السردية،مقادير مثيرة ومنضبطة في توليد هندسة وصفية اللاشياء قد فاقت حدود الأوصاف السائبة التي نجدها عادة في بعض من الانماذج القصصية العراقية والعربية.فالقاص يكرس عملية التوصيف اتصالا بالنمو السردي للزمن والتحول المشهدي عبر المكان في حدود تستوح منها تضمينات الغرائبي والحلم المكبوت أو الانعطاف في أحوال استيهامية تشيد بواقع مؤثثات ملغزة من سحر بلاغة الموصوف والواصف : (هجرتنا قرى المعدان القريبة لأنها لم تعد تستطيع احتمال الطنين القاتل،لنبقى وحدنا مع أيامنا الطنانة بذعر حقيقي من تلك الحشرات التي تلدها الأشجار وتتوالد بحرية كل يوم ويتفاقم طنينه المخنوق مع قوس النهر./ص24 : النص القصصي) على هذا النحو تتوالد مؤشرات الزمن العابقة بتذويت الأشياء الحشرية وأحوالها،وذلك بالارتكاز عبر معاينة تغلغل تقاسيم حيثيات زمن الأشياء المذوتة بقدرات تفاعلية مع الذات الساردة وهويتها الرابطة بين (هيستريا المأزق الحشراتي ــ ماهية الزمن الانتمائي) وكثيرا ما تصادفنا في مواقع النص، تكثيفات مفارقات ببصيرة الهاجس العيني للذات الحاكية لجل تصوراتها ومصافحاتها للزمن الحزين المتعلق في نتوءات وحراشف أحراش البردي المنغرسة في محيطات الهور والذاكرة الذاتية: (هكذا ينمو العذاب في أوصالنا منذ زمن لا نعرف بدايته .. لكننا نعيش حالته المدوخة ونمارس طقوس حياتنا من تلك الفتحة التي تقع على حافة النهر،بين طرفي الحدوة./ص25 : النص القصصي) من هذا الأفق المنزوع الصفاء ومسكون بالخيبة المحمومة في غائية أسرار أشجار (الحدوة؟) تتفاقم لدى (السارد ــ الشاهد) خلجات تيار الوعي الداخلي بمسرود الأسى وصبغته الاغترابية المقرونة بـ (معادلة المماثلة ــ الاستدعاء المطرد بالاحوال) الوقائعية المؤسطرة في مملكة (أشجار البرغش المتوحشة) ولو قارنا وظيفة المعادل الدلالي لتلك الأشجار وكائناتها المفترسة،لوجدنا ما يقابلها من مرموزات وإحالات لها كل الدلالة حول تخليد أزمنة البطش البرغشي في أحوال قد تتعدى ملحمة الأهوار لتدخل إلى فضاءات استعمارية متحضرة لها صور الأدمية وغرائز البرغش الأهواري.ولكن وارد بدر السالم ،للأسف لم يطرح في نصه معادلات تختلط ببقايا أصداء مؤولات الانصياع حول تفاسير مشرئبة بآفاق رمزية ناصعة،بل أقتصر نصه على متتاليات أثبات (المرجع ــ الزمن الحكائي ــ معالم الذات الأهوارية) والنتيجة الختامية في النص بدت وكأنها تفاقمات الصراع الذواتي المؤمل بماهية الحلم بحرق أشجار البرغش إلى جانب فقدان النبض المضموني إلى أية مؤشرات جدية من شأنها تحفيز المحصلة الختامية برؤية بلوغية متكاملة التجسيد ومتماسكة في الامتداد التمثيلي.

ـ تعليق القراءة:

في الواقع إن ما جعل قصة (أشجار البرغش) محفوفة بأهم مزايا القص،هو ذلك الطابع اللايقيني من عوالم فنتازيا الغزو البرغشي،تكاد أن تتحول مستويات ذائقة النص إلى محض رهانية متشظية من خطوط الأفعال السردية والوصفية،حتى نصل أو يصل ذلك السارد الأهواري العاملي إلى حالة هي من أقصى حالات فنتازيا القص التمثيلي وشرود أحوال الذات الفاعلة والمنفعلة .إلى جانب كل ما قلناه في محاور قراءتنا هذه،تبقى قصة (أشجار البرغش) وتجربة القاص و الروائي وارد بدر السالم من أنضج ملامح وقسمات التجارب القصصية في المشهد العراقي بروزا وتقويما وتأثيرا.فالقاص السالم له من النصوص القصصية والروائية ما تستحق أن تكون نموذجا يحتذى بها على مر كل الحقب النخبوية بدءا من مرحلة القاص نفسه وحتى مرحلتنا الحضورية الراهنة.

***

حيدر عبد الرضا

بداية أنوّه أني لست ناقدة ولا باحثة وعليه جاءت قراءتي بناءً على ما استخلصته مما قرأت.

يبدو لنا من هذا عنوان الرواية "العائد إلى سيرته"، أن شخصا ما كان قد أغفل سيرته أو أنه وضعها جانبا مدة ما، ثمّ عاد إليها لاحقا، والسيرة هي الهيئة أو الحالة التي يكون عليها الانسان، سلوكه وتصرفه، وأما السيرة في الأدب فهي تدوين تفاصيل الحياة والأعمال.

على رسمة الغلاف، نرى رسمة أوجه لثلاثة رجال على فروع شجرة ملتصقين ببعضهم البعض غير واضحة معالمهم جيدا، تبدو هذه الأوجه لرجل مسنّ حيث نميّز ذلك من الذقن والأنف وتساقط شعر الرأس الذي جاء على شكل أغصان جافة عارية من الأوراق، الأوسط رجل بالغ ويشبه الشخصية الأولى ووراءه يظهر وجه شاب وعلى رأس الشاب تظهر بعض أوراق الشجر، وكأن ذلك يشير إلى تعاقب أجيال ثلاثة. الشجرة صامدة بجذعها متمسكة بتربتها غير خائفة من جرف البحر لها مع أن بعض أغصانها قد أجتثّ. هناك أمل ما فوجهةُ جميع الرجال صوب البحر والفضاء الأزرق الذي طغى على لون الغلاف واحتل كل مساحته، أضف إلى شجرتين خضراوين صغيرتين في الخلف تؤكدان على الحياة والأمل.3510 باسل عبد العال

جاء في الصفحة الأولى تحت العنوان "العائد إلى سيرته"، أنها رواية واقعية، ممّا يعني أن علينا الأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر، فنسأل ترى هل هي سيرة أحد الشخوص الثلاثة التي جاءت في رسمة الغلاف؟ أم أنها سيرة الكاتب الذاتية بما أن ضمير الأنا هو المتحدث في الرواية؟ هذه التساؤلات لأني عرفت كاتبنا وشاعرنا باسل عبد العال من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وأنه يعيش في مخيم نهر البارد شمال لبنان، وترجع أصوله إلى قرية الغابسيّة المهجرة في قضاء عكا.

تقع هذه الرواية الصادرة عن دار "الأهلية" في 102 صفحة، رواية مكثّفة عميقة بطرحها وموضوعها، مليئة بالرموز والدلالات التي يمكنك فكّ بعضها بسهولة وبعضها يصعب عليك حلّ شيفراتها ومدلولاتها. كتبت بلغة شاعرية وتخلّلها أيضا بعض قصائد للشاعر، واستخدم فيها التناصّ إن كان في إرفاق بيت شعر لامرئ القيس: على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتي // أوجّهها يمينا أو شمالا (ص 27)، أو أمثالا شعبية "سيرة عن سيرة بتفرق مثل خيمة عن خيمة بتفرق" (ص20) الذي يذكرنا بقول الأديب غسان كنفاني، وأيضا "اسأل مجرّب ولا تسأل طبيب" (ص57)، وهو أيضا يورد أسماء الريح حسب قاموس المعاني وشرح كل اسم واسم، " لبليل، الجنوب، الحاصبة، الحنون والمهداج، الراعفة، رياح الصّبا، اللواقح، العقيم، النسيم" وغيرها كثير (ص21-22)

قسّم الكاتب عمله إلى تسعة فصول سمّى كل فصل بكلمة "النّطق"، فجاء النطق الأول والثاني وأما الأخير فأطلق عليه عنوان "النطق الأخير"، وأتساءل هل لهذا العدد رمز ما أيضا؟ فالرواية مليئة بالأسئلة المطروحة والبحث والدلالات، وعامود الخيمة يتوفى وهو في عمر الثمانين، فهل يجوز أن نعتبر كلّ نطق هو عقد من الحياة التي عاشها، أم أنها تشير إلى كاتم الصوت والذي بدأ نطقه يتحسن في النطق الثالث أي في سنّ الثلاثين؟

الرواية هي رحلة عودة إلى الجذور وغوص في الذاكرة كي لا تضيع وتُنسى، هذه الذاكرة تمحورت حولها الرواية لتكوّن الموضوع الأساس، حيث نرى أن كاتبنا على امتداد الرواية يخشى أن تضيع الذاكرة يوما فينسى أبناء الشعب الفلسطيني وجهة الإياب وينسون الوطن الذي هُجّروا منه، فنراه يصف الذاكرة بالخبز "الذاكرة هي خبز الجميع" (ص60)، أما النسيان "الزهايمر ̓ المُستحدَث من ضربات الريح ̓  تحت مسمَّى " النسيان الخبيث"، هدفه الوحيد تدمير ذاكرتي الأولى كي أعجز عن التذكر والبحث عن الأثر المذكور، وبناء كياني من جديد بشخص جديد لا يتذكر شيئا"، ويرى أن سلاحه الوحيد هو التذكر وأنه على الجميع أن يكونوا حرّاس التذكر في دورة الزمن الزهايمري" (ص58-59)، وهو هنا يشير بوضوح إلى أن إسرائيل هي من أوجدت مصطلح النسيان الخبيث كي تقضي على الذاكرة لدى الفلسطيني.

يستخدم الراوي الحلم والبحث ومعرفة الحقائق من خلال العودة إلى سير الآباء والأجداد التي رغم التهجير والتشرّد عن الوطن، لكنها ستبقى حيّة في النفوس جيلا بعد جيل. كل هذا يبدو لنا من أقوال جاءت على لسان بطل الرواية، فنراه يقول في مواقع عدة: "كبر المكان معنا.. العثور على التفاصيل يعني أن نخوض معركة الذاكرة والنسيان.. البحث مقاومة.. والبحث هو ذاكرة تقاوم النسيان" (ص42)، وهو يحذّر كثيرا في الرواية من وباء الزهايمر "النسيان الخبيث"، "هذا المرض حليف ضربات الريح والطائر الأسود البرّي" (ص43)، وقوله في موضع آخر "من ترك أثرا لا يمحوه الزمن بالنسيان" (ص53)، وأيضا "لأننا نعيش معركة سير، بل معركة ذاكرة ومعركة بحث، من يتذكر يعني أنه حيّ، ومن ينسى يجرفه طوفان الزهايمر"،(ص 57)، ثمّ أن أبناء "أهل الريح" أي الفلسطينيين اللاجئين لديهم نعمة التذكر بهدف الوصول إلى الطريق المقدس نحو الأثر، ويقصد بها طريق العودة إلى الوطن المهجّر فلسطين والقدس ويافا البرتقال وفي ذلك جاءت قصيدته:

"بعيدا هناك

على قلق من كلام الرعاة

على ثقة من كلام الرسول

ولو اقتربت هذه الأرض منّا قليلا

لسِرنا إليها حفاة حفاة" .... (ص34)

بعيدا إلى ما نحبّ

بلادا وشمسًا على البرتقال (ص35)

يرى الكاتب في الأحلام سبيلا لتحقيق هدفه، "الأحلام جزء من معركة الدفاع عن الغد... فالأحلام ذاكرة من نوع آخر.. وهذا ما نحتاج له كي نصل نقطة الضوء في آخر النفق" (ص 69).

تدور أحداث الرواية في مخيم نهر البارد حيث يسكن الآلاف من الفلسطينيين اللاجئين، والكاتب يشير إلى اسم المكان "الشاطئ الشمالي البارد (ص36)، ونحن نعلم أن مخيم نهر البارد يقع شمال لبنان بالقرب من مدينة طرابلس. ومما يؤكد هذا أيضا قوله: "كم غيمة مرّت تحت سماء هذا المكان؟ ربما أربع وسبعون غيمة" (ص17) وهذا إشارة واضحة إلى سنوات النكبة، وأيضا "بعد أن نموت هنا من سيعرف أننا من هناك؟" (ص 23)، والمقصود بـِ "هناك" فلسطين.

تتحدث الرواية باختصار عن عامود الخيمة ويظهر أنه من الجيل الأول للنكبة، وربما هو الشخص الأول الذي يظهر لنا على رسمة الغلاف، شيخ مسنّ وبوفاته عن عمر الثمانين سنة، تنتقل المسؤولية إلى كاتم الصوت الذي يبحث ويحلم دائما ويدرس لغة أهل الريح ويسأل الطبيب دائما عن كل ما يراه أو يطلّع عليه، وهدفه أن يعود إلى الوطن المهجّر، ابن الكاتم الذي ينام فترة شهر دون أن يستيقظ، وظهور أول إصابة لأحد التلاميذ في المدرسة بعدوى الزهايمر والخوف من انتشار العدوى حيث تبيّن لأستاذ التاريخ والجغرافيا أن الطالب لم يعد يتذكر الخريطة (ص88)، والمقصود هنا خريطة فلسطين، وعليه يتهمون المدرسة بأنها من أهملت سبل الوقاية والتوعية ضد انتشار الزهايمر، يضعون المصاب في حجر صحي، ويوصي الطبيب أن أكل الزعتر البلدي وأوراق الزيتون  في الماء المغلي يبعد الزهايمر، ثم إصابة أخرى بعد أيام لشاب في العشرين من عمره "لا يتذكر شيئا عن البرتقال الآتي من الأثر المقدس، يقول له البائع: هذا برتقالنا يا غبي، ينظر الشاب بعينين حمراوين ولا ينطق" (ص92)، يدبّ الخوف في الناس ويسرع أهل الريح إلى مقبرة عامود الخيمة ليروا أن امرأة ركضت باتجاه التلة وليس الشاطئ بهدف قراءة السّير كي لا تصاب بالزهايمر (ص 98)، ومن ثم يتوافد الناس على المستشفى لفحص الزهايمر، ليتضح أن "الزهايمر لا يصيب الذين يبحثون عن الزهرة الحمراء ويقرأون حروف السير المعلقة على مقصلة الخيمة والمحفورة بالأحمر على ألواح السفن المتحجرة على الشاطئ الشمالي البارد" (ص 100). تنتهي الرواية باستيقاظ ابن الكاتم من سباته ليعلن "قد أصبحت باحثا يا أبي بعد أن تخرّجت من جامعة سرير العجوز عامود الخيمة" (ص 100)، وأنه لن يصاب بالزهايمر أبدا لأنه تخرّج ليحمي والده ويحمي الذاكرة من بعده.

هنا كان لا بدّ لي من أن أعرّج بعض الشيء على مدلولات بعض الرموز والأمور التي وردت في الرواية وفق رؤيتي الخاصة:

* "السِّير المعلّقة على مِقصلة الخيمة" والتي وردت عدة مرات في السياق، إشارة إلى سير وذاكرة الآباء والأجداد أبناء الشعب الفلسطيني، "مقصلة الخيمة" المقصلة هي آلة الإعدام وبهذا ربما إشارة إلى المأساة والتهجير والمذابح التي لحقت بأبناء الشعب الفلسطيني، وستبقى معلّقة عاليا كي يتذكرها الجميع.

* "زهرة حمراء مبللة بالدم" قد تكون إشارة لدم الكثيرين ممّن استشهدوا، أو رمزا لزهرة الدحنون التي تشتهر بها فلسطين.

* "الأثر المقدّس" و"الطريق المقدس"، إشارة إلى فلسطين.

* "السفينة المتحجرة عند الشاطئ"، تشير ربما إلى السفينة التي نقلت المهجرين من الوطن عند النكبة إلى لبنان.

* "سرير عامود الخيمة"، قد يكون بهذا إشارة إلى غسان كنفاتي ومجموعته "موت سرير رقم 12"، وكأن الكاتب يريدنا أن نقرأ أدب الأديب غسان كنفاني في سبيل أن تبقى لنا الذاكرة حيّة.

* الزهايمر " النسيان الخبيث"، هو ما تزعمه إسرائيل من مرض يصيب أبناء الشعب الفلسطيني عندما يموت كبار السنّ أبناء الجيل الأول وينسى الأبناء والأحفاد قضيتهم.

* "الشاطئ الشمالي البارد"، إشارة إلى مخيم نهر البارد الواقع شمال لبنان وحيث يعيش به الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني.

* " الزعتر البلدي وأوراق الزيتون" و"البرتقال" كلها نباتات تشتهر بها فلسطين ولا يمكن للاجئ أن ينساها.

* "ضربات الريح والطائر الأسود البرّي"، إشارة إلى إسرائيل، ويذكر عدد ضرباتها للمخيم "تضرب الريح للمرة السادسة" (ص37).

* "الصحراء"، هل المقصود بها الشتات والغربة، نستدلّ هذا من طعم رمل الصحراء والمحشوّ في فم كاتم الصوت الذي بدأ يزول مع كل فجر جديد.

* "قلعة الحروف"، هي المعرفة والبحث والاطلاع على السيرة والذاكرة لأنها كما يقول الكاتب هي الباقية الصامدة وهو في هذا يكتب:

"سنقرأُّ عمّا قليل،

سنقرأُ فوق الجسد،

نداءَ الحروف التي لا تُطيع

غشاء الزبد

سنقرأُ كي نظلَّ

على قيد حلم ٍ طويل" (ص83)

والكاتب بهذا يؤكد أن الكلمة هي السلاح الأقوى "أسلحتنا اليوم أقوى لأنني رأيت حروف السّيَر المعلقة بمنظار عالم الآثار / الطبيب" (ص83).

شخصيات الرواية:

تتمحور الرواية حول ثلاث شخصيات هامة تأتي هي أيضا بأسماء مستعارة؛ عامود الخيمة، كاتم الصوت، ابن الكاتم، إضافة إلى شخصيات أخرى مثل الطبيب/ عالم الآثار، أهل المخيم "أهل الريح" من طلاب ومعلمين ونساء.

"عامود الخيمة" إشارة إلى شيخ أو كبير العائلة من الجيل الأول للنكبة، توفي فجأة عن عمر ثمانين سنة، وبموته تتغيّر أمور كثيرة على "أهل الريح"، هو العالم والحكيم بكثير من الأمور. بموت عامود الخيمة يطرح السؤال "هل مات البرهان في إثبات الحقيقة؟" (ص30).. أي هل بموته يموت الدليل الذي يثبت جذوره وأصله ووطنه، وكاتبنا دون شك يعلم بالمقولة "يموت الكبار وينسى الصغار قضيتهم" وهو يريد إثبات نقيض هذا القول في الرواية.

"كاتم الصوت" وهو بطل الرواية، وهو الذي يحرّك أحداث الرواية ويرويها بضمير الأنا. فمه محشوّ بالرمل ولا يحسن النطق جيدا ومع التقدّم في الرواية وأحداثها، نرى أنه رويدا رويدا يسترجع النطق، قد يكون ضعيف الشخصية ولا يجرؤ على الكلام أو أنه كان جاهلا بالأمور في البداية وبعد كثرة البحث والدراسة والتعمق في السيرة والذكرى تمكن من النطق. ويمكن لنا أن نفسّر سبب حشو فمه بالرمل على النقيض مما ذكرت وربّما هذا تفسير أقوى برأيي، فمه محشو بالرمل لأنه مملوء بالذكريات عن فلسطين وخاصة عن قريته المهجرّة، ففي إحدى القصائد الرائعة التي جاءت في الرواية يذكر كم أحبّ جدّه الرمل الدافئ هناك والأرض التي تشتاق لها المعاول؛

"كانَ المكان وكان دفء الرّمل في

يده يشدّ الرملَ كي يجد اليدا" (ص 59)

وقد عرّف البطل عن نفسه في بداية الرواية، " لا تعريف يدلّ عليَ سوى الرمل، لا أعرف عني سوى أني من أهل الريح، ولدت بينهم، لكنني لم أمسك بدورة الزمن الذي رماني هنا" (ص 13)، وقد يكون الرمل هو ما دخل فمه أثناء الهجرة والمعاناة التي مرّ بها أثناء الرحلة في البحر إلى أن وصل إلى شواطئ لبنان، وتبقى هذه كلها تفسيرات وجهد ذاتي.

كاتم الصوت يرى ما يصيب أهل المخيم من مصائب وضربات ولا يصيح، وهو أيضا كما يبدو لنا لا يقرّر أي شيء فهو دائم الاستعانة واستشارة الطبيب /عالم الآثار.

يقول عن نفسه "أنا أبحث وأحلم ومنذور للسير.. وأدرس لغة أهل الريح والنطق الثالث وغارق في الحلم (ص30). وعن مهنته يقول "مهنتي أداة لانبعاث الأمل وليس لانبعاث الحزن واليأس" (ص56)، مما يؤكد أن مهنته هي البحث والكتابة ومعرفة الذاكرة جيدا وحفظها. يصف الطبيب له دواءً عبارة عن الزعتر البلدي وأوراق الزيتون(ص32)، أوليست هذه من رموز الوطن التي لا يمكن أن ينساها الفلسطيني وأنه بعثوره عليها ولمسها يُشفى من كل مرض. يقول في النطق الخامس "طعم الرمل يزول في كل فجر يحلّ علينا، وطعم الزيتون والزعتر ينتشر في فمي، هل ثمّة فجر؟" (ص53)، إشارة إلى بادرة أمل في قضية الوطن فلسطين.

يصرّح لنا البطل في بداية النطق الرابع أنه بدأ يتعافى، "الكلام أصبح أقوى قليلا، واشتدت رؤيتي وفكرتي، تغيرت قليلا، التعمق في قضية أهل الريح يحيلني من باحث إلى مؤرخ" (ص41)، وهو في النطق الخامس وأمام قبر عامود الخيمة يشعر أنه فائض بالكلام، فيقول " أن تنطق يعني أنت حي، ومعك التفاصيل كدواء يساعدك للشفاء من الزهايمر إذا أصابك.." (ص 61)، ويعود نطقه بشكل تام له في النطق الثامن من الرواية "عاد لي نطقي الحر، وكان شيئًا لم يكن، بحّة خفيفة في الحنجرة" (ص87) وهذا النطق جاء أيضا بعد وفاة عامود الخيمة أي أنه وريثه في نقل الذاكرة للأجيال القادمة والحفاظ عليها من الضياع والنسيان.

" ابن الكاتم"، وهو ابن كاتم الصوت، "ولد الصغير باحثا صغيرا، ما علاقته بالسِّير المعلقة في رواية أهل الريح؟" (ص70) وهو "يسأل أسئلة عميقة وبحثية" (ص71)، "لم يكن عنده تأخرا في النطق.. ولد في الصحراء.. وقذفته الريح معي.. لكن الرمل لم يكن محشوا في فمه مثلي، لأنه صغير وفمه لا يحتمل ولا يتسع" (ص73). ينصح الطبيب كاتم الصوت أن ينام الابن "ابن الكاتم" على سرير عامود الخيمة مدة شهر كامل دون أن يصحو، يصحو في نهاية الرواية متخرّجا من جامعة سرير عامود الخيمة باحثا ليحمي الذاكرة ويصونها.

في نهاية كلمتي، أعترف أن الرواية جذبتني رغم الغموض الذي اكتنف بعض الرموز فيها، ووجدت من خلال كلمات الكاتب أن الذاكرة لا تزال حيّة ولا خوف عليها من الضياع وهذه المسؤولية تقع على عاتق كل جيل وجيل.

عمل رائع يضاف إلى مكتبتنا العربية وخاصة الفلسطينية، مبارك وألف لكاتبنا باسل عبد العال مع تمنياتي له بمزيد من العطاء والألق.

***

فوز فرنسيس

في الإحتفاء بالمكتوب.. رمزية أدوات الكتابة وأثرها في صناعة المعنى الشعري

تصدير: "... وما ظنك بقوم يملكون أزمة المنى والمنايا بحسن كلامهم ويريقون دماء الأعداء بأسنة أقلامهم. وقديما أغنت كتبهم عن الكتائب (....) ففي سواد مدادهم بياض النعم وحمرة الدم. " – عبد الملك بن محمد الثعالبي-

إن الحديث عن رمزية أدوات الكتابة في الرسائل الشعرية والرسائل المتبادلة بين وجهاء القوم مما تواتر ذكره في كتاب " الذخيرة " لإبن بسام (ت 542 هج / 1147 م) وعن أثر ذلك في صناعة المعنى الشعري والأدبي، من شأنه أن يحيلنا على نظرية التواصل اللسانية بوظائفها المتعددة ولاسيما الوظيفة الأدبية والوظيفة الماوراء لغوية la fonction metalinguistique  من  ناحية وعلى عناصر مقام الترسل: وضع المتكلم،  وضع المخاطب، الرسالة المكتوبة بأنواعها: الإبتداء، الجواب، الإستئناف وجواب الإستئناف ، من ناحية أخرى فبين هذه وتلك تشابه، إن لم نقل تطابقا. هذا التطابق من شأنه أن يعيننا في تحديد نوعية الرسائل المتبادلة وتحليل خطابها. فمن سمات مقام الترسل أنه يخلص المرسل- المتكلم وكذلك المرسل إليه- المخاطب من وضع المواجهة ويخلق بالتالي سبيلا جديدة في تلقي الرسالة- الخطاب. الكتابة تبتدع نوعا تواصليا جديدا يحدث نقلة نوعية، إن لم نقل قطيعة ما بين الشفوي والمكتوب، أو ما بين الصوت والخط،  يقول إبن وهب الكاتب (ت 335 هج / 947 م ): " أما الرسائل فهي مستغنية عن جهارة الصوت وسلامة اللسان من العيوب لأنها بالخط فإن ذلك يزيد في بهائها ويقربها من قلب قارئها. " (1) فهل يسمح هذا النوع الجديد من التواصل، لأدوات الكتابة وما ترمز إليه أن تشكل المعنى الشعري والأدبي سواء أ كان ذلك في الرسائل الشعرية أم في في الرسائل النثرية؟ وبالتالي هل ترتقي هذه الأدوات بالخطاب الترسلي إلى وظيفته الماوراء لغوية لتحقيق أدبيته؟ إن تحويل أدوات الكتابة من معناها الحرفي إلى معناها المجازي من شأنه أن يربطها بمناخ الأدب والشعر ويمكنها من أن تلج عوالمه وتصبح بالتالي أدوات الكتابة رموزا قادرة على صناعة المعنى الشعري والأدبي، فالرمز يقوم على فكرة تحويل الشيء من دلالته بذاته على ذاته إلى دلالته بذاته على غير ذاته، ومن شروط تحقق الرمز طواعيته لهذه الدلالة على غير ذاته، وهي طواعية مزدوجة بعضها ذاتي يتصل بما ينبثق عن الرمز من طاقة تعبيرية أو إيحائية وبعضها الآخر موضوعي مقترن بما يتوفر للمتلقي من قابلية التمثل للربط بين الرمز وما يرمز إليه.

1 – في الإحتفاء بالمكتوب من خلال فن الترسل:

لئن كانت المشافهة هي الأصل وآستمرت طيلة قرون الوسيلة المثلى لتلقي المعارف ونقلها ثم تداولها ، فالعلم كان يؤخذ من صدور الرجال، إلا أن ظهور الكتابة أحدث تحولا عميقا كان له أثر كبير في صياغة المعارف وفي تدوينها من ناحية، وفي ظروف تقبلها نعني بذلك العلاقة بين الباث والمتقبل للخطاب المكتوب، فإذا كان للمشافهة l’oralité  دعاماتها من ذلك سلامة النطق ووضوحه، صحة المنطوق، النبرة ودورها في تدقيق المعنى المراد تبليغه ثم أخيرا سلامة حاسة السمع، فإن للكتابة l’écriture  أيضا دعاماتها ses supports  من ذلك اليد والقلم والمداد والقرطاس والخط وسلامة البصر لدى طرفي الخطاب / الرسالة. إن الخط بآعتباره التجلي الأمثل للمسار الجديد الذي أحدثته الكتابة، ستتولد عنه فنون وأجناس يقتضيها المقام ومن ضمنها جنس الرسالة أو فن الترسل حيث الباث / المرسل يتوجه إلى متقبل/ مرسل إليه بعينه برسالة تقتضي جوابا وربما إستئنافا وجوابا للإستئناف. فالكتابة إكتشاف حاسم وفريد مكن الوعي الإنساني من أن يلج مناخات جديدة من المعرفة، فآختراع الإنسان لنظام مشفر من العلامات البصرية إستطاع بواسطته أن يصوغ آراءه وأحاسيسه ومشاعره وأن يدون كل ذلك وأن يسجله تسجيلا مرئيا وأن يبلغه لقارىء حقيقي أو مفترض. لقد كانت الذاكرة على إمتداد قرون حبيسة ما يرد عليها عبر حاسة السمع، تغنيها وتنعشها ثم جاءت الكتابة لتمنحها بعدا جديدا يسمح لها من خلال حاسة البصر بتوسيع طاقة إستيعابها وتمكينها من وسائل جديدة تستثيرها لتثريها. لقد إحتلت أدوات الكتابة في القديم منزلة مرموقة، في ظل إحتفاء حار بمقدم هذا المولود الجديد ألا وهو الكتابة، لا سيما الخط والرق اللذان إقترنا بصاحبهما إقترانا شديدا ،فما تخطه يد الإنسان يعكس شخصيته لا محالة من حيث قيمة الأفكار التي يحتويها الرق ، كما أن نوعية الرق تخضع بدورها لأحكام قيمية تعكس طبع صاحبها. ففي ظل بيئة تهيمن عليها الأحكام الإعتبارية ذات المستند الديني، لا مناص من التقييمات الأخلاقية في مقاربة جل المواضيع المطروحة .و قد وردت في  كتاب " الذخيرة " لإبن بسام (ت 542 هج / 1147 م ) إشارات تبين المنزلة الهامة التي أصبحت تحظى بها أدوات الكتابة من عناية وإهتمام ، فكلما إنحط الخط، إنحط الفكر المعبر عنه بذلك الخط تبعا له،  وكلما دنئ الرق ،دل على دناءة صاحبه. ففي رقعة كتبها الوزير الكاتب أبي حفص بن برد الأكبر إلى المظفر بن أبي عامر يقول فيها: " وإن قوما من خدمة الحضرة قد عادوا لما نهوا عنه فكتبوا الخط الدقيق، في دنيء الرقق، دقة من هممهم ودناءة في إختيارهم، وجهلا بأن الخط جاه الكتاب وسلك الكلام، به ينظم منثوره، وتفصل شذوره، ونبله من نبل صاحبه، وهجنته لاحقة بكاتبه (...) وأنا أعطي عهدا لئن إرتفع إلي كتاب على الصفات المذمومة  والأحوال المسخوطة من رق أو مداد أو خط، لأوفين لصاحبه بما قدم إليه من الوعيد إن شاء الله " (2 )

2 – في التغني بأثر أدوات الكتابة في جماليات النصوص

إن التشدد في ضرورة أن يكون المكتوب حائزا على قدر من الجمال والنبل ،لأنه يحيل على صاحبه، لم يكن هو القاعدة في جميع الأحوال. إذ نعثر في كتاب " الذخيرة " على رسائل قد إختل خطها وقمىء ولكن صاحبها، وبسبب ما إحتوته من جيد المنثور وجزالة التعبير يدعو المرسلة إليه أن يغمض عينيه عن قبح المرئي ليتمتع بجمال المخفي وأن لا يغتر بالشكل فالجوهر أسمى وأجدى، فقد جاء في رقعة لإبن حناط في وصف رسالة: " بعثت إليك برسالة الوزير الكاتب أبي عمر الباجي في البهار، منقولة بخطي على إختلاله وإختلاف أشكاله، إلا أن حسن الرسالة، وموضعها من البلاغة والجزالة يغطي على قماءة خطي، ودناءة ضبطي، فآجتلها – أعزك الله ‐ عروس فكر، لحظها حبر، ولفظها سحر، ومعناها بديع، ومنتهاها رفيع، ومرماها سديد. ركب اللفظ الغريب فآعتن له المراد البعيد، يطمع ويؤيس ويوحش ويؤنس، فأما إطماعها فبما تحرز من لدونة ألفاظها وسهولة أغراضها، وأما إياسها فبما يعجز من إمتثالها ويبعد من منالها والله يمتعك برياض الآداب تجتني أزهارها وتنتقي خيارها ." (3 ) تبدو صورة الرسالة بما تحتويه من معان كعروس قدت من أفكار وقد تجملت لحاظها بمداد، فآستوت فتنة ينم جوهرها عن إغراء يطوح بصاحبه بين الطمع حينا واليأس أحيانا، وبين الوحشة تارة والأنس طورا آخر. إنها صورة لغانية تتمنع عن الرجل وهي راغبة فيه . وإذا لم تكن الرسالة شبيهة بالمرأة، فهي تتحول إلى فضاء للمتعة وللإستمتاع، فتغدو روضة من رياض الأدب يطيب إقتطاف أزهارها / أفكارها وإنتقاء خيارها وتذوق رحيقها وإستنشاق رياحينها.

إذا كانت أدوات الكتابة في بعض الرسائل صفات لموصوفات تتصل بمجالي الطبيعة والمرأة، فإننا نعثر في بعض الرسائل على تحول قلب تلك المعادلة رأسا على عقب، فأصبحت أدوات الكتابة موصوفات وعناصر الطبيعة موضوعات للوصف. لقد إنقلبت الصورة في غرض المدح ضمن أدب الترسل، فأضحى الخط والمداد والرقعة وغيرها المرجع أي موضوع الوصف وأصبحت الموصوفات أي عناصر الطبيعة هي المجال التصويري الذي تستمد منه الأوصاف. جاء في" الذخيرة " أن الوزير أبا محمد عبدون كتب إلى الوزير أبي الحكم عمرو بن مذحج:

أبا الحكم أبلغ سلام فمي بدي

أبي الحسن وآرفق فكلتاهما بحر

و لا تنس يمناك التي هي والندى

رضيعا لبان لا اللجين ولا التبر

فراجعه أبو الحكم بأبيات منها:

أتى النظم كالنظم الذي تزدهي به

عروس من الجوزاء إكليلها البدر

فحلت لنا منك بخطك رقعة

هي الروضة الغناء كللها الزهر (4)

هكذا يجعل مقام الترسل، ولا سيما في رسالة الجواب، الصورة الشعرية أكثر إيغالا في التخييل، فبعد أن شبهت اليد بالبحر وهي صورة مستمدة من التراث الأدبي والشعري. في رسالة الإبتداء، يعمل المقام ولاسيما في رسالة الجواب على تكثيف دور عناصر الطبيعة في إكساب رموز أدوات طاقتها الإيحائية. فتشبه الرقعة بالروضة الغناء والخط بالزهر الذي يكللها، مما يعني أن رسالة الإبتداء ليست سوى تعلة un prétexte  حتى تبدو الصورة الشعرية أكثر إكتمالا في رسالة الجواب، وهذا ما يؤكد أن الرسالتين تكونان معا وحدة نصية.

إن علاقة الخط كشكل/ وسيلة بالمخطوط كمضمون علاقة أرسطية في منشئها، لأنها علاقة بين الصورة والمادة في وجه من الوجوه. فكلما فسدت الصورة فسدت المادة التابعة لها، ولكن ذلك لم يكن هو القاعدة التي حكمت تلك العلاقة، إذ يمكن أن تكون الصورة/ الخط فاسدا ومنحطا ويكون المضمون راقيا وجميلا.

***

بقلم: رمضان بن رمضان

.....................

الهوامش:

1 – أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم بن وهب الكاتب ، البرهان في وجوه البيان،  بغداد ،1967 ، ص 116 .

2 – أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني،  الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ليبيا / تونس،  1395 هج / 1975 م ،القسم الأول، المجلد الأول، صص 107 – 108 .

3 – نفس المصدر ،القسم الثاني،  المجلد الأول، صص 195 – 196 .

4 – نفس المصدر، القسم الثاني،  المجلد الثاني ، ص 590 .

 

يكشف الكاتب التركي البارز أورهان باموق، الحاصل على جائزة نوبل الادبية، في كتابه المؤثّر "الروائي الساذج والروائي الحسّاس"، عن أسرار كتابته الروائية معتمدًا على كتابات هامّة سبق وكتبها أصحابها عن أسرار الفنّ الروائي، أمثال م. فورستر، في كتابه عن "أركان الرواية"، أو "جوانب الرواية"، كما يرد في الترّجمة العربية للكتاب موضوع حديثنا. ويقدّم للقاري تجربته في الكتابة الروائية سابرًا أغوارها العميقة بحرفية ومهنية، متمكّنة وراقية.

يستمد باموق عنوان كتابه من مقالة هامة جدًا حول "الشاعر الساذج والشاعر الحساس"، كتبها الشاعر الالماني شيلر، واعتبرها الكاتب الروائي المتميّز توماس مان، أهم مقالة تمت كتابتها باللغة الالمانية. أما الروائي الساذج كما يتردّد أكثر من مرة في الكتاب، فهو، وفق تعريف باموق، ذاك الذي لا يشغل باله بالقضايا الفنّية في كتابة الرواية وقراءتها.. في حين أن الروائي الحسّاس على العكس من الروائي الساذج، إنه الروائي العاطفي المتأمّل الذي يولي أهمية خاصة للأساليب الروائية والطريقة التي يعمل بها عقل القاري. إجابة عن سؤال طالما وُجه إليه يقول باموق إنه روائي ساذج وحسّاس في الآن ذاته.

يضمّ الكتاب ست محاضرات ألقاها باموق في جامعة كامبردج عام 2009، يطرح فيها أهم القضايا المتلّعقة بالكتابة الروائية، كما تحدّث عنها روائيون مشهود لهم عالميًا وكما عايشها هو ذاتُه.

يفتتح باموق كتابه/ محاضراته، بالسؤال الصعب، كيف تعمل عقولنا عندما نقرأ رواية، ويجيب إن الروايات حياة ثانية.. مثل الاحلام التي تحدّث عنها الشاعر الفرنسي جيرار دي نرفال، ويضيف إن الروايات تكشف لنا الالوان والتعقيدات في حياتنا وهي مليئة بالناس، بالوجوه والاشياء التي نشعر أننا نعرفها من قبل، تمامًا كما يحدث في الاحلام.. عندما نقرأ الروايات نتأثر أحيانًا بقوة الطبيعة الخارقة للأشياء التي تصادفنا والتي تجعلنا ننسى أين نحن ونتصور أنفسنا وسط الاحداث الخيالية والشخصيات التي نشهدها.

خلافًا للعديد من الروائيين، يقول باموق إنه يخطّط لكتابة روايته ويستعد مطوّلًا للبدء في كتابته لها، ويتحدّث عن بطل روايته يقول: شخصية البطل الرئيسي في روايتي تحدَّد بنفس الطريقة التي تتشكّل بها شخصية الانسان في الحياة، مِن خلال الظروف والاحداث التي يعيشها. القصة أو الحَبكة هي خط يربط بشكل فعّال الظروف المختلفة التي أريد التحدث عنها. البطل هو شخص ما شكّلته الظروف وساعد هو على إظهارها بأسلوب حكائي.

يقول باموق إجابة عن سؤال مُفترض حول تميّز الرواية عن باقي أنواع السرد الطويل، إن السمة الرئيسية التي تميّز الرواية وتجعلها نوعًا أدبيًا له شعبية واسعة، هي الطريقة التي تقرأ بها الرواية. حقيقة رؤية كلّ هذه النقاط الصغيرة. هذه النهايات العصبية على طول الخط. عينا إحدى الشخصيات في القصة. عملية ربط هذه النقاط مع مشاعر وأحاسيس الابطال، سواء مَن كان يروي الاحداث هو الشخص الاول أو الثالث، سواء كان الروائي أو القاص، مدركًا أو غير مُدرك لهذه العلاقة، فإن القارئ يمتص كلَّ حدث في المشهد العامّ، وذلك بربطه مع مشاعر وعواطف البطل القريب من الاحداث. يقول باموك ويتابع، هذه هي إذن القاعدة الذهبية لفنّ الرواية، تنبع من البنية الداخلية للرواية عينها.. ويتحدّث باموق عن الزمن الروائي، يقول إنه ليس الزمن الخطي والمجرّد الذي عرّفه أرسطو، وإنما هو الزمن الشخصي للأبطال، ولا يبتعد باموق في كلامه هذا كثيرًا عمّا تحدث عنه بيرسي لوبوك في كتابه الخالد "صنعة الرواية"، عن وجهة النظر التي تُروى الرواية عبرها.

يتحدّث باموق عن ابتكار الروائي للبطل. يقول إن أهم ما على الروائي القيام به، كما يعتقد معظم الروائيين، هو ابتكار البطل!. إذا نجح في الوصول إليه، أي البطل، فسوف يتحوّل إلى ما يُشبه المُلقّن على خشبة المسرح، يهمس للروائي مسار الرواية بالكامل.. ويوضّح باموق مُضيفًا ان فورستر ذهب، في هذا السياق، بعيدًا جدًا عندما اقترح علينا، نحن الروائيين، أن نتعلّم من شخصيات الرواية ما يجب أن نقوله في الكتاب. هذا التصوّر لا يؤكد أهمية شخصية الانسان في حياتنا، مجرد أنها تظهر لنا. إن الكثير من الروائيين، يبدؤون بكتابة رواياتهم بدون أن يكونوا متأكّدين من قصتهم، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يستطيعون الكتابة بها. بالإضافة إلى ذلك يشير تصور فورستر إلى الجانب الاشد تحدّيًا في الكتابة، كذلك في القراءة: حقيقة أن الرواية هي نتاج المهارة والبراعة معًا، كلّما كانت الرواية طويلة يواجه الكاتب صعوبة في صياغة الاحداث.. يحتفظ بكلّ الاحداث في عقله. ويبتكر تصوّرًا عن محور الرواية بكلّ نجاح.

يشير باموق، في سياق مُقارب، إلى تعبير "المعادل الموضوعي" الذي عرّفه ت. إس. اليوت. بأنّه سلسلة من الاحداث التي تتوافق موضوعيًا مع تلك التي ستكون الصيغة.. الاستحضار التلقائي - مشاعر خاصة يبحث عنها المبدع ليعبّر عنها في قصيدة. رسم. رواية أو أي عمل فنّي آخر، قد نقول هذا في الرواية، المعادل الموضوعي هو صورة الزمن التي تكوّنت بالكلمات والتي نراها من خلال عيني البطل. ويقدم باموق مثالًا تطبيّقيًا لهذا من رواية "آنا كارنينا" للكاتب الروسي ليف تولستوي.. هذه الرواية التي يرها الأعظم في التاريخ الروائي. يقول.. لم يُخبرنا تولستوي عن مشاعر آنا كارنينا وهي تستقل قطار سانت بطرسبورغ، بدلًا من ذلك، رسم صورًا تساعدنا في فهم هذه المشاعر: ظهور الثلج من خلال النافذة على اليسار. النشاط في المقصورة. الطقس البارد. إلخ..، وصف تولستوي كيف أخرجت آنا الرواية من حقيبتها الحمراء، بيديها الصغيرتين، وكيف وضعت وسادة صغيرة في حجرتها، ثم استمر بوصف الناس في المقصورة، وهذا بالضّبط ما نفهمه، نحن القراء، وهو أن "آنا" لم تتمكّن من التركيز في الكتاب، لأنها رفعت رأسها من الصفحة ووجّهت اهتمامها إلى الناس في المقصورة، ومن خلال تحويل كلمات تولستوي ذهنيًا من أجل خلق صور نراها.. نصل إلى الشعور بمشاعرها.

يخصّص باموق فصلًا/ محاضرة كاملة في كتابه، للتحدّث عن محور الرواية، ويرى أنه هو الاهم في الكتابة الروائية مُقدّمًا الكاتب الروسي فيودور دستوفسكي في كتابته روايته "الشياطين"، أنموذجًا ومثالًا.. عندما اكتشف دستوفسكي محور روايته.. بادر لإعادة كتابتها مجدّدًا.. علمًا أن محور الرواية هو سرّها الكبير وأن تناوله/ يقصد محور الرواية، يختلف من كاتب لآخر. يوضح باموق.

***

قراءة: ناجي ظاهر

................

* الروائي الساذج والحساس. تأليف اورهان باموق. ترجمة ميادة خليل. الكتاب يضجّ ، للأسف، بالأخطاء اللغوية والنحوية. صدر عام 2015 عن منشورات الجمل في بغداد.

على الرغم من أن سعد ياسين يوسف يشير بعوالمه السبعة إلى دواوينه السبعة إلا أن فكرة العوالم السبعة في الأدب تشير إلى فكرة وجود سبعة عوالم أو مستويات مختلفة من الواقع والوجود. وتعدّ هذه العوالم ممثلة أحيانا لمستويات التجربة الروحية التي يمكن أن يخوضها الفرد أو المبدع، حيث يحمل كل عالم منها طابعًا فريدًا خاصا به، ويمثّل رمزًا لمرحلة من مراحل النمو التي تتميز بقوانينها وظروفها مختلفة.

وبهذا فإنه يمكن تصوير هذه العوالم على أنها طبقات متراكمة أو بوابات يحتاج الدارس أو الناقد إلى تجاوزها للوصول إلى مستوى أعلى من الفهم والإدراك للمنتج الأدبي الإبداعي.

وقد عملت على دخول هذه العوالم من خلال بوابتي التجنيس الأدبي والخصائص الفنية العامة لمجمل أعمال سعد ياسين يوسف الإبداعية دون الدخول في أمثلة تطبيقية وذلك لضيق الوقت.

أولا: التجنيس الأدبي

عملت هذه الدراسة على محاولة تجنيس تجربة سعد ياسين الإبداعية وفق تأصيلات المناهج النقدية الحديثة والتي جعلتها تندرج تحت مسمى قصيدة النثر أو النثيرة، ولن أخوض هنا بمسألة موقع هذا التجنيس من الشعر والنثر وما يثار حول أحقية رواد هذا الجنس الأدبي بلقب شاعر، بل سأنتقل مباشرة للحديث باختصار عن سمات هذا الجنس الأدبي كما تجلت في أعمال سعد ياسين فقصيدة النثر عنده هي شكل من أشكال الإبداع المكتوب الذي يمتزج فيه النثر بالشعر، امتزاجا يتخلّص من خلاله هذا المبدع من تقنيات القوافي والأوزان التي تستخدم في الشعر التقليدي بما يتيح له حرية مطلقة في التعبير وقدرة أكبر على الانتقال السلس بين الأفكار والصور، مستغلا طاقات هذا الشكل التعبيري الهجين في بناء نماذج تجريبية حديثة تعبر عن تقنيات الكتابة الحرة بانسيابية وسلاسة تتناغم مع تدفقات النص الإبداعي مستغلة غناه اللغوي وسارحة في فضاء غير محدد من الصور والأخيلة التي تعبّر عن الأفكار والمشاعر التي يمتلكها ويرغب بالتعبير عنها، ومستفيدة من كم هائل من المعارف التراثية والثقافية المخزونة في وعي المبدع والمتلقي والجامعة بين الروح الابتكارية الحداثية وبين التراثية التقليدية المألوفة وموظّفة الرمز والأسطورة والتناص والفلسفة والفكر في إطار بنائي يحمل في طياته موسيقاه الداخلية المتأتية من الطاقات الصوتية التي تحملها المفردة في ذاتها، وهي طاقات ذات دلالات إيحائية مستندة إلى التكرار والتناوب البنيوي المنبثق من سيميائية الدال والمدلول.

ثانياً: خصائص التجربة الإبداعية:

وتتجلى التجربة الإبداعية في أعمال سعد ياسين يوسف في عدة عناصر أبرزها ما يأتي:

- التجربة الإبداعية بين الإنسانية العامة والذاتية الخاصة:

ينطلق سعد ياسين في أغلب نصوص أعماله الإبداعية من وعي شديد بمدى تأثير الحدث الإنساني العام المشترك على ذاتية الفرد وبناء اهتماماته وأفكاره وميوله ورغباته وهذا يتفق مع الطرح الذي أشارت إليه الناقدة الدكتورة سهير أبو جلود في دراستها للبناء الفني في شعر سعد ياسين والتي خلصت فيها إلى أن الشاعر ينطلق أحيانا من الكل ليصل إلى الجزء، كما ينطلق أحيانا من الجزء ليصل إلى الكل، فالهمّ العام ومعالجاته يطغى عند سعد ياسين على ذاتيته وفرديته ولا سيّما في أعماله الأخيرة، وهو ما أسماه أستاذ النقد الأدبي الحديث د .عبد الرضا علي بالإمساك بجمرة النص الشعري، وفي هذا ما يؤشر إلى الطبيعة الواعية العقلانية الناضجة في شخصية سعد ياسين يوسف الإبداعية وتساميه على ذاتية النظرة والتطلّع والرؤية.

- المضامين والمعاني:

القارئ والمتابع لمجمل النتاج الإبداعي لسعد ياسين يجد هذا التحوّل الوجداني من المواضيع الذاتية التي كان يناقشها في أعماله الأولى (قصائد حب للأميرة "ك" الصادر عام 1994) و(شجر بعمر الأرض 2002) واللذان ناقش فيهما موضوعات الحب والجمال والرومانسية والرغبة باكتشاف الحياة وعيش مغامرتها واستكشاف مجاهيلها أملا بالبقاء والخلود، وهي في مجملها موضوعات ذات صبغة ذاتية تبحث في أثر الحياة اليومية وتقلباتها على ذات المبدع الفرد. ولا يلبث سعد ياسين أن يتحوّل للهم الجمعي العام المتصاعد تزامنا مع ما رافق وطنه الأم العراق من نكبات وويلات بفعل الظروف السياسية التي انعكست نتائجها على أولويات المبدع فأصبحت موضوعات الحياة والموت والغربة والسياسة والإرهاب والإحباط وحب الأرض تتصدّر قائمة الاهتمامات والموضوعات التي يعالجها في نصوصه وهي الموضوعات التي اكتسبت مع عمق التجربة ونضج الأدوات أهمية ارتقت بها من المحيط الضيّق الخاص إلى فضاء إنساني عالمي رحب متسلّحا في ذلك كله بثقافة عالية جدا ورؤية فلسفية وتأملية ووجودية لمسائل كبرى بعضها مبني على تضادات الخير والشر والحياة والموت وبعضها قائم على عبثيات الوجود والخلود، مستعينا في ذلك كله ببناء لغوي سلس سهل يراعي احتياجات التشكيل الشعري ويدعم مستويات التبادل اللفظي الترميزي جانجا خلال ذلك للتصوير المباشر المستند إلى البيئة والطبيعة ليعزز رسوخ أفكاره ومضامينه في إدراك المتلقي ووعيه.

- مظاهر الطبيعة:

يعكس سعد ياسين في شعره رومانسية واعية تجلّت في حبه وتقديره للطبيعة بمختلف مظاهرها وتجلياتها الشكلية واللونية والمكانية، ورؤيته لها على أنها البلسم السحري القادر على إنقاذ الحياة الإنسانية وإعادة التوازن إليها وإثرائها، وهو  بذلك يرسم في نصوصه لوحة جمالية لهذه الطبيعة متنقلا بين ألوانها وأزهارها وأشجارها وأنهارها في صور شعرية تعمل على إبرازها كمصدر للسلام والخير والهدوء وكأداة فاعلة لتحقيق التناغم والتوازن في الحياة، وهو يعمد في ذلك كله إلى استخدام هذه المظاهر الطبيعة بوعي أو بغير وعي كوسيلة للمقارنة الرمزية بين الصفاء الكامن فيها وبين الدمار الحالّ بها رابطا ذلك كله بمشاعر الإنسان أو بالأحداث المحيطة به وبمضامين النصوص الإبداعية لديه.

ويعتبر سعد ياسين شاعرًا يقدّر ويصوّر جمال الطبيعة، ويستخدمها لإيصال رسائله العاطفية والروحية، إذا يعكس شعره العمق والتأمل في تفاصيل الطبيعة ودورها في حياة الإنسان، ويتجلى اهتمامه بالطبيعة في اختيار أبرز عناصرها عنوانا مشتركا لأغلب أعماله الأدبية، فباستثناء منتجه الإبداعي الأول المعنون بـ (قصائد حب للأميرة ك الصادر عام 1994)، نجد الأشجار تتصدر عناوين دواوينه السته الأخرى بدءا من (شجر بعمر الأرض 2002)، (شجر الأنبياء 2012)، (أشجار خريف موحش 2014)، (الأشجار لا تغادر أعشاشها 2016)، (أشجار لاهثة في العراء 2018)، (الأشجار تحلّق عميقا 2021)، حتى.   لقد استحق بحقٍ لقّب شاعر الأشجار، تلك الأشجار التي تحولت على يديه إلى طوطم وقناع تمت أنسنته جينيا ليغدو معادلا موضوعيا للشاعر ذاته حسب تعبير فاضل ثامر، وثيمة وأيقونة كما يراها الناقد الأستاذ الدكتور حاتم الصكر، أو لتصير معادلا لرسوخ المكان في الأرض كما هي عند علي حداد، أو رمزا لحتمية الخلاص كما يرى سمير خليل.

لم يقتصر حضور الأشجار في أسماء دواوين الشاعر فحسب بل تعدت ذلك لتتسلل لقصائد الدواوين ذاتها فتسيطر على عناوين نصوص الدواوين السابقة. ولعل هذا الاهتمام بالشجرة يشير إلى أن أشجار سعد ياسين ليست أشجارا عادية، فهي بوعي منه أو بغير وعي تنتقل من التشييئ إلى التشخيص عندما تتحول بين يدي نصوصه إلى أشجار نامية محمّلة بالهموم والرموز وحافلة بالإسقاطات الفكرية المتنوعة ومعبرة عن الصراعات الإنسانية وتشظّيات الروح التائهة فيها، فهي في ترنحها مقاومة للرياح الهوجاء التي تهب عليها من كل الجهات إنما تتمسك بما تبقى لديها من قوة مخبوءة في جذورها الملتحمة بالأرض راسمة لوحة عظيمة للبقاء الذي يتجاوز عوامل الهدم والتحطيم، مصممة في الآن ذاته على الانبعاث من جديد مستعينة بما يشعّ فيها روح من سماوية مقدسة ارتشفتها من مياه أنهارها الخالدة.

- الرمز ودلالاته:

ترى الدكتورة فطنة بن ضالي(من المغرب ) أن نصوص سعد ياسين حفلت بعشرات الرموز ذات الدلالات الدينية والعاطفية والتاريخية والتراثية والتي تقوم في مجملها على توظيف بارع لتقنيات الحكائية الغائية السردية التي وظّفها خدمة لمنتجه الإبداعي وداعمة لنظرته القيمية والأخلاقية.

ويرجع هذا التنوّع الكبير في نوعيات الرموز وطرائق توظيفها إلى خصب خيال الشاعر وتنوع ثقافته وعمقها الناتج عن المؤثرات البيئية الموروثة حينا وعن الدراسات الأكاديمية حينا أخر إضافة إلى تراكم التجارب الحياتية وتعدد الرحلات والسفرات والاتصال المباشر وغير المباشر بعدد كبير من شعوب المنطقة والعالم.

وتأتي الأشجار على رأس قائمة الرموز التي حفلت بها نصوص المنتج الإبداعي لسعد ياسين وقد تحدّثنا عنها سابقا، في حين تظهر على سطح هذا المنتج الإبداعي رموز أخرى لا تقلّ أهمية وتأثيرا استمدّها الشاعر من بيئته الحاضنة لرموز التراث العراقي المرتبط بحضاراته القديمة كالآشورية والبابلية والسومرية ليدلل في هذا التوظيف على العمق الحضاري للعراق هذا العمق الموغل في الحضارة والقدم والذي يستمر ليتصل برموز الحضارة العربية الإسلامية التي تسيّدها العراق قرونا طويلة وصولا إلى رموز متنوعة لأساطير مختلفة من حضارات عالمية شتى تدلل في رأيي على وحدة الهم الإنساني واتصال الحضارات بما يعرف في يومنا هذا بسياق المثاقفة.

ويشكّل التناص في نظري تجليا بارزا من تجليات الرمز وانعطافا عن سياق الدّال المفرد إلى سياق الدّال النصي والذي يؤدي في نهاية المطاف عمل الرمز الإيحائي التحويلي، فالرمز هنا لم يعد تلك المفردة التي تحمل دلالات المرموز فحسب بل أصبح حالة ثقافية اكتسب شرعيته من نص أو بعض نص اجترحه المبدع ليطعّم به نصّه الإبداعي ويحيل المتلقي من خلاله إلى فضاءات مفتوحة من التأويل القائم على المشابهة حينا والمخالفة حينا آخر.

- المكان المحوري والمكان العام:

يمثّل المكان الفضاء الأبرز الذي تدور فيه أحداث النص النثري والذي يكتسب أهمية كبرى عندما يتحوّل المكان ليصبح عنصرا فاعلا من عناصر الإنتاج الإبداعي، ولا أغنى من بيئة العراق المكانية، هذه البيئة التي لعبت بحق دورا هاما ومؤثرا في مسرح العمل الإبداعي عند سعد ياسين والتي احتفظ لنا بكثير من أسرارها داخل بنية نصوصه الإبداعية، تلك الأسرار التي جعلت من المكان مسرحا حالما مقاوما تارة ومقارنا بين صفاء المكان في الزمن الجميل وخرابه في هذا الزمن تارات أخرى.

هذا لا يعني أن سعد ياسين قد اقتصر في تناوله لعنصر المكان وتجلياته وتمظهراته على المكان العراقي الخالص الذي يحمل عبق تاريخه وحضارته وإنسانيته، بل تعداه بفعل ظروف الاغتراب إلى أماكن أخرى وسّعت من البعد الجغرافي لمضامين نصوصه وساهمت في تفجير طاقات الإدراك والوعي المكاني لديه.

وتعكس تجربة سعد ياسين مدى تأثير قضية الغربة والبعدعن الوطن والانتماء على الفرد من خلال إشاراته إلى الاثار النفسية والعاطفية السلبية غالبا والتي تتسلل من بين الصور والمفردات العاطفية، جاعلا منها سببا فيما يصيب الفرد المغترب من توترات ناجمة عن محاولات التكيف مع المكان الجديد، وعلى الرغم من تناوله لهذه المشاعر السلبية، إلا أنّه يقدّم في بعض الأحيان رؤية إيجابية تتمثل في تعظيم قدرة الفرد على التمسك بالجذور والمحافظة على الهوية الثقافية.

وعلى ذلك فيمكننا تقسيم الفضاء المكاني في أعمال سعد ياسين إلى مكان محوري خاص قام بتحديده ضمن مسمّيات تحيل إليه حصرا كأور وميسان والعمارة ودجلة وعمّان وبيروت وبلغراد وغيرها، ومكان عام مشاع شكّل مسرحا فضفاضا لإطار الصورة الكلية الكبرى المعبرة عن التسامح والتعايش الحضاري والتي يمكن أن نسقطها بغير تحديد على إي مكان في العالم وإن كانت كثيرا ما تحمل إشارات إلى بيئات خاصة أيضا.

- الصورة بين المضمون والجمال:

للصورة الفنية حضور لافت في نتاج سعد ياسين ولها أهمية خاصة تتجلى في سمات بنائها القائمة على استغلال عناصر الطبيعة من لون وصوت وحركة وتكرار وتوظيف للمكان والرمز والثقافة، بما يحقق التوازن بين جماليات الصورة من جهة وعقلنة توظيفها المرتبط بالمضمون من جهة أخرى دون انحراف أو ميل لجانب دون آخر، مراعيا بحرفية عالية هندسة البناء الجمالي للصورة ومنوّعا أو مزاوجا بين ثيمات الصورة القائمة على البناء الحسي وثيمات الصورة القائمة على البناء المعنوي سعيا في ذلك كله لتحقيق اللذة الشعورية المتأتية من الانزياحات والمفارقات والشحنات الإيحائية والعاطفية المتوهجة جماليا والمكثّفة رؤيويا.

ومع أن بناء قصيدة النثر يعلي كثيرا من شأن الصورة الفنية ويخلق منها فضاء يحلّق في عوالم الانزياح والدهشة والغرائبية ويحفل بالمؤثرات الصوتية الناتجة عن هذا التوالي والتوالد بل والتزاحم في حركة الجرس الموسيقي داخل بناء الصورة الفنية إلا أن هذا الانجراف وراء الصورة الفنية وجمالياتها إنما هو فخّ للمتلقي الذي يرهقه هذا الركض وراء الصورة ليخرج من حلبة النص خالي الوفاض من إدراكه الواعي لما ورائيات البناء الفني وأقصد هنا المضمون والمعنى والرسالة، ومع ذلك فقد تمكن قليل من المبدعين والرواد في قصيدة النثر من الجمع بين جماليات البناء الفني وقيمة المضامين التي تحملها نصوصهم الإبداعية محتفظين بالرسالة وبجمالياتها في آن واحد وأظن أن سعد ياسين في محاولته خلق هذا التوازن بين الصورة والرسالة إنما هو واحد من هؤلاء القلة.

- خلاصة:

يشكّل المنتج الإبداعي لنصوص سعد ياسين تحدّيا للدارس والناقد على حد سواء، وقد أشارت الدكتورة الناقدة سهير أبو جلود إلى هذا الأمر في دراستها للمنتج الإبداعي للشاعر، وهي على حق فيما ذهبت إليه من صعوبة وجود منهج نقدي واحد يصلح لدراسة هذا النوع من النصوص المتحركة في فضاء الوعي والمعرفة والتمازج بين الذاتي والعام، والذي أذهب إليه أن تفكيك المنتج الإبداعي الخاص بسعد ياسين يوسف يستلزم من الناقد استعمال أدواته النقدية كلها منطلقا من المناهج الخارجية في النقد كالمنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي ومرورا بالمناهج الداخلية كالأسلوبية والسيميائية والبنيوية وصولا إلى مناهج الحداثة وما بعد الحداثة كنظريات التلقي والخطاب والمثاقفة، وذلك ليتمكن الدارس من النظر بشمولية وإحاطة وعدالة لهذا النوع من النصوص ذات المرجعية الفكرية المتنوعة والمتغيرة بسبب تطور أدوات الكاتب المعرفية وتغير المؤثرات والظروف المحيطة بعمله الإبداعي من ديوان لآخر.

وعلى ذلك فيعتبر ديوان (الأشجار لا تغادر أعشاشها 2016) واحدًا من أبرز دواوين سعد ياسين التي يتجلّى فيها تركيزه على قضايا الحياة والحب والوطن والانتماء، وهذا ما جعله محط أنظار الدراسات النقدية التي تركز على دراسة وتحليل الأسلوب الشعري والمضامين والصور الشعرية المستخدمة والرموز والمعاني التي يعبر عنها الشاعر في قصائده.

***

قراءة نقدية بقلم: د.علي غبن (الأردن)

في المثقف اليوم