قراءات نقدية

قراءات نقدية

يطل علينا الأديب الأسير كميل أو حنيش  بروايته مريم مريام  بما تحمله من إربكات وطروحات فكرية وسياسية اقل ما يقال فيها أنّها مثيرة للجدل. حاول الكاتب من خلالها التعرض لمسائل اللجوء والنكبة والحلول المقترحة او المتخيّلة لحل معضلة الشعب الفلسطيني وذهب أبعد من ذلك إلى حد طرح تساؤل حول إمكانية او قابلية التعايش المشترك بين الشعبين او بين العرب واليهود.

ينطلق الكاتب في روايته من بلدة صفُّوريّة التي تعرضت للقصف بالطائرات وتم تهجير أهلها بالكامل لجأ البعض منهم إلى شمال الناصرة وأقاموا في حيّ خاص بهم عرف بحي الصفافرة.

الرواية تعتمد أساسا على مريمتين  مريم الفلسطينية العربية ومريام اليهودية الأوروبية، وقد عمد الكاتب ولسبب ما  إلى إبراز أوجه التشابه في العذابات والمعاناة لكل منهما،. مريم العربية عاشت أحداث النكبة وشهدت على دمار بلدتها صفُّوريّة  وقصفها بالطائرات وتهجير أهلها، وكذلك مريام اليهودية شهدت أحداث المحرقة وأسهبت في وصفها وما لاقاه اليهود من عمليات تصفية في معسكر أوشفيتز النازي، وكما أنّ مريم العربية قتل زوجها محمود على أيدي العصابات الصهيونية ،كذلك فإن مريام فقدت زوجها آدم قتيلا في مواجهة الفدائيين الفلسطينيين، هذا التشابه ولو بشكل نسبي بين مأساة كل منهما كأن المُراد منه الولوج إلى فكرة التسامح والتلاقي لذا كان المدخل لهذا الطرح هو الزواج الذي حصل بين إلياس ابن مريّم العربية وبين شلوميت ابنة مريام اليهودية وكان من ثمرة هذا الزواج ولادة ابنهما  ابراهيم أو أبرا . ولكن يجب أن لا يغيب عن بالنا أنّه رغم التشابه الظاهر في ظروف هاتين المرأتين إلاّ أن هناك  فرقا كبيرا بين ما انتهت إليه الأمور، فمريم العربيّة تحولت من مواطنة إلى لاجئة في بلدها غائبة حاضرة كما يقال، في حين أنّ مريام تحولت من شريدة أوروبية إلى مستوطنة ومغتصبة لبيت مريم في فلسطين.

بالعودة إلى زواج الياس وشلوميت  والذي اعتبر بمثابة الحل وجسر التواصل وبداية التصالح بين الشعبين، فإنّ هذا الزواج برمزيته  يشكل حلا فرديا ولا يمكن التعويل عليه بالرغم من الإيحاءات السياسية التي حملها لكنه أثبت عدم جدواه وعدم قابليته ليكون الحل المنشود بدليل انهما عاشا في عزلة تامة عن الجميع ولم يلتفتا إلى ما يجري من تطورات سياسية  واكثر من ذلك أنجبا ابراهيم الذي عاش طفولة معطوبة تملأها التشوهات ويعوزها الإنتساب الحقيقي، وعانى طويلا من عقدة تعدد الهويات.فالبعض من أفراد أسرته بشقيَّها العربي واليهودي يعمل على تعريبه والبعض الآخر يجهد على تهويده.

لقد أبدع الكاتب في وصف المكان وخاصة بلدة صفُّوريَّة التي هي أجمل مكان في العالم، وتتربَّعُ فوق سفح جبلٍ، تلالها مكتظَّة بأشجار السَّرو والصنوبر والبلُّوط والتين والزيتون. تطالعك الناصرة من جهة الجنوب ومن الشمال تجد ديرٌ للقدِّيسة حنَّا وفي رأس البلدة تشمخ قرية ظاهر العمر. وكذلك عين الماء وشجرة التين العسالي والتي هي برأيي إحدى شخصيات الرواية.كما يذكرنا الكاتب  ببعض ما تجود به البراري والجبال مثل الزعرور، التوت البرِّي، الزعتر، النرجس والحُميّض وغيرها من النباتات والأزهار.

تطرح الرواية فكرة الانتماء الإنساني وتقدّمُه على بقية الإنتماءات المتعددة كما قال عيسى أبو سريع : "إنّ الانتماءات العرقيَّة والدينيّة والقوميّة والطائفيّة ليست هي الاساس،إنّها انتماءات زائفة  متخيَّلة وتحجب الهويّة الإنسانيَّة المشتركة للبشر، أمَّا الانتماء الإنساني فهو الانتماء الأرقى والأعمق والأكثر صدقاً وانسجاماً مع النفس البشريَّة".

انطلاقا من هذه النظرة حول البعد الانساني وسموه، يمكن اعتبارالهوية بأنّها انتماء إنساني وأخلاقي ووجداني قبل كل شيء، أمّا الوطن فهو المسألة الثقافية والأخلاقية وهو الانحياز للهويّة الإنسانيَّة وللحب والعدل،وكما يقول تشي غيفارا "أينما وُجد الظلم فذاك موطني".

هذه النظرة الإنسانية والدعوة إلى الانتماء الإنساني تبدو في جوهرها دعوة راقية تستحق التوقف عندها، ولكن يبقى السؤال هل يستطيع الإسرائيلي أن يرتقي إلى هذه الدعوة وأن يتخلى عن عنصريته وجبروته ويعود إلى إنسانيته المفقودة، ويتوقف عن إقتلاع البشر والحجر من جذورهم وأيضا عن إقتلاع الشجر كما فعل بحناس عندما اقتلع شجرة التين العسالي رغبة منه في قطع كل ذكرى وأمل لمريم بهذه الأرض . الإجابة على هذا السؤال أظنها معروفة سلفا ولكن لا بد من طرحه.

وفي سعيّه لتوضيح الفكرة والعودة إلى الجذور الموحِدة  فقد أحسن الكاتب في اخيار الأسماء وتوظيف معانيها في خدمة تلك الفكرة، مريم ومريام هما في الأصل واحد ويؤديان نفس المعنى الكنعاني القديم  الذي هو  نتيجة زواج الإله مُر بالآلهة يّم فنشأ اسم مريم أو مريام، وأيضا إنّ اعتماد هذين الإسمين في الرواية فيه محاولة ربط غسم مريم بالتوحيد بين الديانات من خلال الإشارة إلى مريم الممتلئة بنعمة الربّ ومباركة ثمرة بطنها يسوع الناصري والتي خصّها القرآن الكريم بسورة من سوره.  وكذلك جاء اختيار اسم ابراهيم وهو ثمرة زواج العربي من اليهودية دلالة أيضا على ان الشعبين يعودان في الأصل إلى جدّ واحد هو نبيينا إبراهيم. ناهيك عن تسمية زوجة الياس بشلوميت بمعنى السلام. كما قدمت الرواية شرحا مفصلا عن تاريخ اليهودية الصحيح وليس كما ورد في إدعاءاتهم.

قدّم لنا الكاتب بعضا من الحلول المطروحة سابقاً  وحاليا لحل القضية، ومنها ما طرحته مريام على مريم بأن تعيد لها بيتها او تمنحها التعويض الملائم، هذا الطرح أقل ما يقال فيه أنّه طرح مفخخ وهو إشارة بشكل أو بآخر إلى ما طُرح ويُطرح في بعض المنتديات بمعنى عودة مجتزأة ومنقوصة لبعض من تم تهجيرهم وتقطيع لأواصر النسيج الفلسطيني بحيث يعود الأصل وتمنع العودة على الفروع الذين سيبقون في أرض الشتات والمخيمات. لهذا كان رفض مريم لهذا الطرح حاسما جازماً.

واضح للجميع أنّ الرواية تتحدث عن أجيال ثلاثة، جيل مريم ومريام وجيل الياس وشلوميت وأخيرا جيل ابراهيم وعنّات.

لو أردنا التوغل في تحليل شخصيات هذه الأجيال ومن الجانب الفلسطيني تحديدا نجد ان جيل الأجداد المتمثل بالجدَّة مريّم، هو الجيل الأكثر إخلاصاً والتصاقاً بالأرض والقضية، تحدثنا الرواية كيف أن مريم جمعت ما في حوزتها من حليّ ذهبيَّة ووضعتُها في كفّ محمود، وقالت له بحسم: بِعْها واشترِ بثمنها بارودة. وهنا يبرز دور المرأة الفلسطينية المجاهدة والمُضَحيّة بكل ما تملك في سبيل العزة والكرامة، وأيضا تُبرز الرواية تعلق هذا الجيل جيل مريم بحق العودة والأمل بتحقيق هذا الحلم، لذا كان ما يشبه البروفة للعودة تمثلت في رحلة الربيع التي أقامتها مريم مع بقية النسوة للإطلالة على مشارف وتلال صفُّوريّة وعادت من هناك بشتلة من شجرة التين العسالي لتزرعها في احواض الزرع في حي الصفافرة لتبقى الشاهد والشهيد على بقاء القضية حيّة في الوجدان. بالرغم من الفارق الكبير بين هذه الشتلة وتلك التينة، فهذه التينة هي الأصل  أمّا هذه الشتلة فهي الفرع ، التينة عنوان صمود لا تنفك تقاوم أمّا الشتلة فهي عنوان استسلام ولاجئة في حوض الزرع في حي الصفافرة كبقية اللاجئين.

أيضا فإن الجدّة مريّم تمتعت بمنسوب عالٍ من الوعيّ والثقافة السياسية لمدوامتها على تتبع نشرات الأخبار، وهي التي أصرّت على المشاركة في المظاهرات المنددة بالاحتلال ولم تنخدع يوما بالسلام المزعوم الذي أنتجته معاهدة أوسلو وكان تعليقها الأشد بلاغة وإيلاما: "اليوم فقط أدرك أنّي لن أعود إطلاقاً إلى صفُّوريّة؛ لقد تهاوى الحلم الكبير بعد أن أصبحت فلسطين هي الضفَّة وغزَّة فقط وهذا يعني أنَّنا بتنا خارج الحسابات.". وكانت مؤمنة بمقولة ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة وبأن بالعودة الى البلدات والبيوت تحتاج إلى حرب.

ولإثبات أحقيتها بهذه الأرض وبأن مريام مجرد طارئة ودخيلة على فلسطين جاءت من أقاصي الدنيا لتحتلَّ مكان مريم  وتقيم سعادتها فوق حطامها وحطام أهلها تطلب مريم من  حفيدها إبراهيم أن يسأل جدّته اليهودية مريام هل جرَّبت أن تقيم علاقة مع الطبيعة من حولها؟ هل تعرف ما ينبت في جبال القريّة؟ وهل باستطاعتها أن تسمّي نوعاً واحداً من أنواع النباتات والأشجار البريَّة؟.

وفيما يشبه إحدى سيناريوهات المفاوضات التي تصل دائما إلى الطريق المسدود، تبرز الرواية ما قام به ابراهيم من نقل رسائل تفاوضية بين جدتيّه العربية واليهودية للتوصل إلى نوع من التسامح والغفران والتعايش المشترك وفي هذا الشأن تسأل مريم ماذا خسرت مريام بسببي لكي تسامحني او تغفر لي ؟ ستقول لي إنّها خسرت زوجاً كان يقاتل الفدائيين الذين هجَّرهم من ديارهم؟ هل نحن من قتلنا أهلها وتسببنا في المحرقة؟ وهل هي على استعداد أن تخلي مكانها وتعيد لي بيتي مقابل التسامح والغفران؟. ليأتيها الجواب بلسان مريام  معترفة بأحقية مريم بالبيت ولكن أين سأذهب بعد ذلك، هل أغادر بيتي لأغدو لاجئة، وبمنطق المنتصر المتعجرف تقول إنّها الحرب، والعرب هم من اختاروا الحرب فليتحملوا نتائجها، والمنتصر هو من يقرر مصير المهزوم.

الجيل الثاني الذي تحدثت عنه الرواية وهو جيل الأبناء وقد برزت منه فئة تدعو للتعايش والتسامح ونبذ الخلافات تمثل بكل من الياس وزوجته شلوميت، فئة يمكن القول عنها أنّها ارتضت الأمر الواقع والتطبيع الكامل ونأت بنفسها عن كل الصراعات السياسية والإيدلوجية دون أن تبذل أي مجهود او تطالب بحق.

أمّا الجيل الثالث فهو جيل الأحفاد، ومنه كان ابراهيم أو أبرا ضائعا بين انتمائين وهويتين عربية ويهودية  وفي هذا إشارة ولو خفية إلى المخاطر التي تهدد الهوية الحقيقية للشعب الفلسطيني إذا ما جرى التمادي او التغاضي عن الخصوصيات الضامنة لهذه الهوية.

ختاما نقول هذه الرواية رواية سياسية وفكرية بامتياز حاولت البحث عن حل لمسألة الصراع القائم والأمل بمجيء يوم تستعاد فيه الحقوق والأرض، يوما يراه المحتل بعيدا ونراه قريباً بهمّة  وسواعد الأبطال والمجاهدين.

***

عفيف قاووق – لبنان.

رواية البلدة الاخرى للروائي العربي المصري، ابراهيم عبد المجيد؛ رواية محملة بالكثير من الاسئلة عن الواقع العربي الذي كان في ذلك الوقت؛ يتجه الى، أو بداية الطريق الى هاوية التمزق والتشتت والتشظي. كما انها تحمل بين كلماتها التي رسمت مصائر اباطلها، وبطلها المركزي او شخصيتها المركزية، الذي عاين واقعيا وحياتيا؛ ابطال الرواية بعين الفاحص والمتشارك معهم في هذه المصائر. إنما بصورة حيوية، أو ان السارد الماهر بل هو البارع تجليا في هذا السرد؛ أذ، لم تكن هذه الاسئلة والاشارات، والرموز المضمرة بين ثنايا السرد، مباشرة ابدا، بل انها قالت ما قالته من خلال واقع معيش لأبطالها الذين تمحور نشاطاتهم واعمالهم حول عمل ونشاط البطل المركزي الا وهو؛ اسماعيل؛ في واقع مرير والاشد منه مرارة هو واقع الحياة التي تركوه واراءهم، وظل يطاردهم في غربتهم. الزمن الروائي في اواخر عام 1979، وهو العام الذي شهد ثلاث احداث بارزة استراتيجيا، والتي سوف لاحقا، بعد عدة سنوات؛ تلعب دورا محوريا تماما في تغيير الواقع العربي نحو ما هو معيش في الوقت الحاضر؛ اي ان الرواية كانت قد تنبأت بما هو حاصل الآن في الواقع العربي، من غير ان تقول هذا الاستقراء بوضوح اي بصورة مباشرة وفي الوقت ذاته قالته بوضوح تام؛ عبر مصائر الابطال والمصير الذي ينتظر الشخصية المركزية؛ كل هذا كان التعرف عليه، او على هذه المصائر من خلال حياة هذه الشخصيات التي تبحث في الغربة والاغتراب عن حياة حرة وكريمة ولو بعد حين.. ان هذه الاحداث ذات الابعاد الاستراتيجية؛ هي الثورة في ايران التي اطاحت بنظام الشاه، والغزو الروسي او غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين بجين والسادات ونكسون." ينتهي الارسال التلفزيوني، وادخل حجرتي اقلب في الصحف والمجلات التي يشتريها سعيد ووجيه، ويتركانها في المطبخ بعد قراءتها. كل الصحف تتحدث عن السادات وتلعنه، وحملت المجلات عنوانا يقول: الا من رصاصة تزف الى رأس الخائن؟! فوق العنوان صورة للسادات في البدلة العسكرية الالمانية وفي فمه البايب الشهير." - انك تكره السادات. أليس كذلك مستر اسماعيل؟ - ذلك واجب مستمر اسماعيل، واجب ان نكرههم جميعا. إنني اعرف كثيرا عن مصر. عن مظاهرات يناير العام الماضي. مظاهرات الفقراء في باكستان نحتاج مثلها لكن العسكريين اغبياء يطلقون الرصاص على الناس. انهم جميعا ضدنا مستر اسماعيل. كل هؤلاء الرؤساء ضدنا. أننا بحق تعساء جدا." ارشد الباكستاني، يعمل ميكانيكيا في ورشة الشركة؛ هو الشخصية هنا، في هذا الحوار بينه وبين اسماعيل المصري المسؤول عن توقيت حضور عمال الشركة وتوقيت انصرافهم يدون كل ذلك في سجل، بالإضافة الى قيامه بالترجمة للتقارير الفنية التي يتم ارسالها إليه من قبل الامريكيون الذين يقومون بتلك الاعمال. تربطه علاقة صداقة مع اسماعيل، او علاقة ابعد من علاقة العمل. اسماعيل يشتاق له كثيرا حين يتأخر في الحضور إليه، يوم او يومين، ليس من اجل التوقيع على الحضور والانصراف، إنما شكل اخر خارج علاقة العمل. في عام 1979؛ شهدت باكستان تحولات بالضد من الديمقراطية، فقد تم الاطاحة ببوتو المنتخب ديمقراطيا، واودع السجن، بقيادة ضياء الحق، احد قادة الجيش؛ بعد الغزو الروسي لأفغانستان؛ تم لاحقا، بعد فترة وجيزة، من اعتقاله؛ اصدار حكم بالإعدام عليه. كان اعدام بوتو الشغل الشاغل لأرشد الباكستاني. ان الانظمة الاستبدادية ومنها نظام ضياء الحق؛ تطارد شعوبهم حتى وهم في غربتهم سعيا وراء تحسين اوضاعهم المعاشية، وظروف حياتهم. يتحملون الاغتراب عندما تضيق بهم ظروف الحياة وانعدام فرص العمل والحياة الكريمة في بلدانهم. يعود الباكستانيون بعد انقضاء اجازاتهم، لم يعد ارشد معهم. يفتقده اسماعيل. يسألهم عنه. يكون الجواب الذي يسمعه اسماعيل منهم؛ مؤلما، ومسببا، المزيد من الحزن والأسى على المصير الذي، ربما ينتظره. يقول الباكستانيون عندما سألهم عنه: لقد تم اعتقاله حين نزل من الطائرة، من قوات الامن. يقولون انه متهم بمساعدة المعارضة، ماليا، وان المعارضة قد ارسلتهم، هو وغيره الكثير، الى دول الخليج العربي؛ اولا كي ينقذونهم من السجن وثانيا لجمع اموال من العمل في السعودية وبقية دول الخليج العربي لصالح المعارضة. لم يقل شيئا، ظل صامتا، إنما داخله كان يمور بالألم والحزن والغضب. تحضر امامه؛ مظاهرات الطلاب، عندما كان في حينها، طالبا جامعيا، في السنوات الاولى لعهد السادات، وكيف يتم اطلاق الرصاص عليهم لتفريقهم، وزج البعض منهم في المعتقلات. يتحرك من مقر الشركة بسيارته التي كان قبل اشهر قد علمه ارشد قيادتها. يقودها بطيش او بغضب استمر دفينا داخل نفسه، لم يبح به لأحد. لكنه تفجر او انه هو من فجره بقيادة سيارته بجنون، في شوارع تبوك وفي دروبها الخلفية، لا يلوي على شيء، ولا هدف له، فقط ان يقودها بسرعة فائقة. تعترضه سيارة اخرى، حين حاول التخلص منها، لم يتمكن، ولم يسيطر عليها، تقذفه السيارة والاصطدام الى النهر الثاني للطريق. ينجو بأعجوبة. تفاجيء ان من صدمه، صالح صاحب الدار المؤجرة لهم من قبله. هو الطالب الذي رفض اسماعيل تدريسه من المحاضرة الاولي، لا يريد ان يدرس، يريد النجاح بلا دراسة، عبر رشوة المدرسين العرب والاجانب. تتخلل كتلة النص الروائي تداعيات تشحن بالمعاني جسد النص. حين يفتح عينيه في المستشفى؛ تحط عيناه على وجه عايدة الممرضة المصرية، واقفه الى جانب الدكتور وجيه، جراح المستشفى، الذي يسكن معه في الدار. " كنت مارا في الطريق عندما حدث الاصطدام. حسن حظك اوجدني في المكان في تلك اللحظة. صالح صدمك قاصدا. بإمكانك مقاضاته؛ بطلب التعويض." ثم ينصرفان دكتور وجيه والممرضة عايدة. الممرضة عايدة تثير فيه، أو تحرك فيه الكثير من الاحاسيس، منذ راها ذات ليلة، حين سهر مع الدكتور. يرى انه منجذب إليها بقوة، فيها شيء خفي، حزين ومؤلم هذا الشيء، لكنه لا يعرف ما هو. يخرج بعد يوم واحد من المستشفى، لكنه يدخل إليه، تاليا، بعد شهر؛ لأستأصل الزائدة الدودية، يرقد فيه؛ لأيام. في احدى ليالي رقوده في المستشفى؛ يسمع صوت نجاة الصغيرة. يقف في الرواق امام غرفة عايدة الذي يبث منها صوت الغناء الشجي المملوء بالحزن والاسى. ينصت مأخوذا بسكون الليل وصمت المكان. ثمة نحيب في الغرفة. "عايدة تبكي" لم ينتبه الى باب الغرفة حين فتح. " – لم اقصد. أنا متأسف. لم اقصد ان اسبب لك الألم." – لا عليك. لم تسبب لي اي ألم." يقضى معها في الغرفة دقائق كثيرة. حدثته عنها وعن عائلتها. اخوها هاشم مشلولا. اخوتها او بقية عائلتها سعداء بما ترسل لهم من المال. هي سوف تظل هنا؛ لترعى عن بعد، اخيها هاشم حتى يعود كما كان، قبل شلله. هاشم شارك في مظاهرة ضد نظام السادات؛ اصابته رصاصة. الشرطة اطلقت النار عليهم. تصر على عدم الزواج حتى ولو بعد عشرين عاما، الى ان يشفى هاشم من شلله. مع تدفق الروي على لسان اسماعيل الشخصية المحورية؛ نتعرف على مآل شخصيات الرواية. الدكتور رأفت يسافر الى امريكا لجلب اجهزة لعيادته في طنطا، غادر في اليوم التالي لنزول اسماعيل في الدار، حتى يكون قريبا من ابنه المريض. " عندي عيادة في طنطا، وسأسافر من هنا الى امريكا اشتري بعض الاجهزة، واعود اعمل بالعيادة واعيش كأي مواطن يعتمد على عقله وقوته.. هل تراني مخطئا؟ إنما القدر كان له بالمرصاد؛ يموت قبل ان يصل الى مصر. يرزح المجتمع السعودي وبالذات نساء هذا البلد العربي؛ تحت نظام اجتماعي صارم، تفتقد فيه، المرأة السعودية، ادميتها حتى تتحول الى كائن من لحم والدم بلا روح، تتحول الى قطعة من حجر؛ يضم في داخله كم هائل من نار العواطف والاحاسيس الانسانية المشروعة، تبحث لها عن مخرج ما حتى ولو كان ضئيلا كي تخرج الطاقة الكامنة فيه او فيها، حتى لا ينفجر ويتشظى الحجر. إنما هذه المحاولة او المحاولات تصطدم بعيون كاشفة للظلام والمستور في ظلاله، وحتى لو كانت هذه المحاولات في البرية خارج المدن، او داخل غرفة مقفلة الباب؛ فالعيون الرادرية تكشف كل نأمة او اي حركة مهما كانت في اي حيز من الوجود تحركت. واضحة شابة في مقتبل العمر، جدها لأبيها مصري، استوطن السعودية من عقود. يقوم اسماعيل بتدريسها الادب الانكليزي، بتكليف من اخيها خالد. عندما يلتقيها في اول محاضرة؛ ينجذب إليها بنفس درجة انجذابه لعايدة الممرضة المصرية؛ فيهما جمال عربي اخاذ جذبه إليه بقوة. يتأكد من انها هي التي كان قد راها في اول ساعة، من اول مساء لوصوله الى تبوك؛ تطوف بها سيارة شرطة في الشارع الرئيسي لتبوك. " واضحة بنت سليمان بن سبيل التلميذة في المدرسة المتوسطة بالعزيزة كانت تخرج كل يوم بعد الدراسة، مع اليمني اليامي بين عبد الله اليامي.. كانت تخرج معه كل يوم الى طريق تيماء المهجور." يتوقف اسماعيل عن اعطاءها المحاضرات؛ اخوها خالد طلب منه التوقف عن تدريسها مؤقتا. صالح وشى بهم؛ من انهم يحتسون الخمر في الدار. تقبض عليهم الشرطة في الليل. ينتشر الخبر في تبوك. واضحة الفتاة اليافعة الممتلئة بالحيوية وحب الحياة، الطامحة لحياة افضل؛ حياة تعثر فيها على نفسها وذاتها؛ لكنها تنتهي بفضيحة وفجيعة، لم يكن اسماعيل طرفا فيها. يسافر اسماعيل الى القاهرة لمعرفة امر البضائع التي تعاقدت الشركة على توريدها لحسابها عن طريق او بواسطة لاري الخبير الامريكي للشركة. يخبره مدير شركة الشحن من انه لا اساس لمثل هذه البضائع، لا هنا، ولا في امريكا، اي ان العملية مزورة بالكامل. " هذه ردود التلكس. لا بضائع خرجت من سان فرانسيسكو، ولا بضائع وصلت الى مطار من مطارات الرحلة. ازداد عم عبد الله امتعاضا وقال للاري – اذن جهز نفسك للسفر. وقام ليغادر المكتب، لكنه ابتسم فجأة وقال - لا تنس ان تأخذ روس معك، لا تتركها وحدها في الكامب" في بيت الخبير الامريكي لاري؛ فقد دعته زوجته روز" ليس في الامر حيلة يا روز. أنا مصري فلن يصدقني الناس هنا ويكذبوكما. رأيت في عينيها ألما فأسرعت بالخروج... سمعتها تصرخ! – انت أغبى رجل في العالم يا لاري، ولن اتركك تفوز بكل شيء." الممرضة المصرية، عايدة، تنقل الى قرية الضبا ومن ثم بأمر وزير الصحة يتم نقلها الى مستشفى في الرياض." جاءت زيارة الوزير في وقت دقيق. كنت بدأت افقد شيئا من قوتي، وبدا الخوف يجد مسالك الى قلبي. ما ابشع المستوصف في الليل. كل طارق للباب من اجل الدواء اظنه رجل امن جاء للقبض على هاشم، كانوا يأتون في الليل دائما." الدكتور وجيه هو الأخر يتم نقله الى ذات المستشفى في الرياض. سعيد الذي يعمل مدرسا، يعود الى مصر. لم يبق في الدار الا هو. ينتقل الى دار اخرى، صالح طلب منه اخلاءها. يؤجر دار اخرى، لم يشأ ان يشاركه احد فيها. تمر الليالي عليه في وحدة قاتلة، وموحشة في ليل بدى له، لم ينته. يتصفح المجلات والجرائد. تكاد لا تخلو من عملية فدائية في الاراضي الفلسطينية المحتلة؛ يتوقف امامها فاحصا، متأملا، وموجوعا؛ لوضع منذر احد عمال الشركة. " انظر ضاع ثديي الامين من حريق قذيفة مرت من امامي، وانظر هذا الهور في ربلة ساقي.. وهذه ذراعي فيها عشر خرز. أنا من عائلة فداوية يا اخ اسماعيل. لا تخبر أحدا بما رأيت من جسمي. يعرفون اني كنت فدائيا فيرحلونني يا أستاذ. - معقول؟! – جدا." العالم يمور بالاحداث، الجرائد تنقل إليه تطورات العالم واحداثه. الطلاب في ايران؛ يقومون بمهاجمة السفارة الامريكية، واحتجاز الدبلوماسيين الامريكيين داخل السفارة. الامريكيون يقومون بعملية فاشلة في تحرير الرهائن الامريكيين في السفارة الامريكية. تهب عاصفة ترابية تحطم مروحيتين، يقتل جميع افراد المجموعة الخاصة الامريكية. في هذه الاثناء تصل إليه رسائل من الاسكندرية. اخاه يخبره بمرض امه. يطلب منه ارسال كمية من المال لغرض العلاج. ثم تنقطع الرسائل لأسابيع. تاليا بعد هذه الاسابيع؛ يتسلم رسالة من اخيه تخبره بموت امه. " وانا اتقلب ساقطا ولا تلحق بي الذراعان اللتان ميزت بينهما وجه امي فزعا ولا اصل الى قرار الهاوية." في الطائرة كان معه على متنها؛ نبيل عامل الكافتيريا. ما ان ارتفعت الطائرة قليلا في السماء الا وصوت المضيفة يعلن عن خلل فني في الطائرة.. لاحظ ان نبيل قد اغمي عليه. مما اجبره على ان يشد له حزام الامان. في المطار ابصر عم عبد الله مدير الشركة مع مجموعة من الشرطة. يقول بالكاد له نبيل: ليس هناك خلل فني. انا اخذت جميع المال الذي في الخزنة؛ عرفت رقمها السري" - لا اظن ان الله يكرهك يا نبيل. هز رأسه وابتسم وقال: ليت خالي اعطاني الفلوس ولم يمت، وليت المدرس تركني فتعلمت، وليت الضابط لم يدفع بي الى اصلاحية الاحداث. واجهش يبكي فجأة ثم قام وتركني!.

***

مزهر جبر الساعدي

الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في نهاية "سري الخطير" موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، المسلمة والعربية في منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي. وهي جريئة لأنها اهتمت بالذات بعذرية الفتاة التي تعد إحدى أهم بوهات مجتمعات الشرقيين والمسلمين. ولهذا ليس من الغريب أن تجلب إهتمام المفكرين والنقاد حيث كتب عنها الاستاذ إبراهيم البليهي مؤكداً على أهميتها وتأثرها بكتّابٍ أوروبيين وعرب عقلانيين مثل شكسبير ونجيب محفوظ والعروي وبن جلون وآخرين، ويرى أن “نهاية سرّي الخطير”  تتميز “بمعالجة عقلانية باهرة لقضية ثقافية وإجتماعية شديدة التعقيد”. ص 5. كذلك كتب عنها الدكتور خليل إبراهيم حسونة والكاتب أحمد محمود القاسم ويوسف عز الدين والأديب والشاعر عبد الكريم الكيلاني و د. عبد العلي جبار و د. يوسف الكايدي. وأحاول هنا تسليط الضوء على بعض جوانب هذا العمل الجاد من خلال قراءتي الشخصية لها. يقوم معمار هذه الرواية على صيغة سردية قديمة: لقاء- فراق ومعاناة – لقاء ونهاية سعيدة من خلال ستة عشر فصلاً، يبدأ بالأول بعنوان “أشهد أنك عذراء” مثير ومقلق ويوحي بمضمون معقد، وينتهي بالأخير “وعادت شهرزاد إلى فاس” عنوان رحب يشير إلى نهاية سعيدة بعد أقل بقليل من خمسمائة صفحة. تعتمد هذه الرواية على موضوعة مهمة للغاية إذ إن البطلة المراهقه غاليه تتعرض لشيء بسيط جداً لو كانت تعيش في بيئة عائلية ومجتمعية متفتحة، لكنه هنا حدثٌ “لا يرفع رأسها” وتخشى منه: قطرة دم تنزف منها على ملابسها الداخلية. تُخبر غاليه اختَها غير الشقيقة “العنود” بالأمر، التي تقول لها بعد أن “إبتسمت إبتسامة خبيثة..لنذهب بسرعة إلى الحمام لكي أغسل بقعة الدم من سروالك ولا تقولي لأحد عن هذا السر الخطير. قالت غالية وجسمها يرتعش: سر خطير؟ ماذا تقصدين؟ هل أنا مريضة؟ هل عندما يخرج الدم من الفتاة يعتبر عيباً؟ وسراً خطيراً هل، هل، توقف الكلام في حلقها وانفجرت تبكي، وإذا بأختها تمسك بيدها بقوة تجرها إلى الحمّام غسلت سروالها وقالت لها بلهجة المعلم إن اخبرت امك ستضربك لأن الدم عندما يخرج من البنت يعتبر عيباً كبيراً إحفظي هذا السر بيني وبينك كأن شيئاً لم يكن”. ص 14. أوهمتْ “العنود” أختَها غاليه أن هذا يعني أنها ليست عذراء، ويجب عليها أن تخفي الحديث مع والدتها حول هذا الأمر! الكاتبة تبني روايتَها ال 475 صفحة على هذا الحدث “الجلل” الصغير الكبير، وتصور البطلة منذ تلك اللحظة وهي في خوف وألم كونها “ليست عذراء. وهكذا تُصاب الطفلة بأزمة نفسية تؤدي إلى إضطرابات في شخصيتها وتؤثر على سلوكها اليومي وتصبح العائلة كلها مشغولة بها و”بمشاكساتها” مع أخوتها الأولاد الذين يأمرون وينهون، و”إضراباتها” عن الطعام والدراسة. كثيراً ماتسمع غاليه أهلها يرددون على مسامعها كلاماً من قبيل: “إذا جلستِ في البيت بدون دراسة علينا تزويجك”! من المؤسف أن هذه الموضوعة اهم شي بالنسبة للبنت في أغلب الأسَر الشرقية، وهي أن تتزوج بناتهم بأي ثمن وبأسرع وقت لكي يسترن أنفسهن وشرفهن وبالذات في الأرياف والأوساط المحافظة. لكنها كانت تعاني ما تعاني وتبذل كل جهدها من أجل أن  تحصل على المساواة مع أخوتها، وهو أمر شبه مستحيل، كونها تنتمي إلى عائلة تقليدية لدرجة أنها لا تستطيع أن تتحدث عن هذا الأمر العادي مع والدتها رغم أنها تربوية تعمل في التدريس. عَمّتُها تسكن معهم في نفس البيت، تتعاطف معها لكنها مغلوبة على أمرها، ولا يمكن أن تتحسن الامور، ولهذا تظل تعيش في هاجس خوف إنكشاف “السر الخطير”. قد يجد بعضُ القراء صعوبةَ تقبّل هذا الحدث أوالإقتناع به، لكن يمكن توقع كل شيء في المجتمعات والعائلات المتزمتة المغلقة، ويبقى في النهاية معبّراً عن فكرة تجسّد واقعاً مريراً. وتبقى طبعا منذ تلك اللحظة تعيش في هذا الهم الكبير والمعاناة مما يدفعها لأن تكون أكثر عدوانية وإنعزالية من أهلها، فتثير تساؤلات الأهل وشكوكهم، لماذا تبتعد عن العائلة. الأليغوريا: قد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى بعض الأليغوريا في هذه الرواية المتجسدة بدءًا من الأسماء: البطلة “غالية” إسم على مسمى، قوية الشكيمة، نَسَوية، ترفض العذرية وطقوس ليلة الدخلة والتقاليد القديمة ولا تقبل الأمور على عواهنها، وتطلب المساواة مع الذكور. والدها القاضي المتخصص بالشريعة المعروف “سلطان“، هو أيضاً إسمه يدل على حقيقته، متسلط ومتزمت يفضل الأولاد على البنات بإسم الدين ويعطيهم إمتيازات. أختُها الكبيرة غير الشقيقة “العنود“، إسم عربي قديم غير متداول كثيراً في المغرب، لكن الروائية تستخدمه هنا، قد يكون لغرض تكامل المنظومة الأليغورية، فهذه الشخصية صاحبة الإبتسامة “الخبيثة” تظهر مرتين في كل هذه السردية الطويلة، في بدايتها ونهايتها، في المرة الأولى أقنعتها أو “أوهمتها” بدافع نفسي عفوي أو “شرّير”  مقصود بأن قطرة الدم النازفة منها تعني أنها غير عذراء، وفي الثانية يوم عرسها وزواجها بعادل لتسألها عن عذريتها، فيا ترى هل هذا مقصود أم أنها الصدفة لاسيما وأنها ليست شقيقتها؟ العائلة تجسد أيضاً رمزَ التراث، إنها تمثّلُ شمال أفريقيا الحقيقية، المتمسكة بالتقاليد، فالأب موريتاني والأم سودانية، والأطفال ولدوا في مدينة فاس المغربية التاريخية العريقة. أما الشخصية الأليغورية الأخرى فهو عادل “حبيب قلبها” وفارسها، وزوجها الحقيقي، الذي سنأتي عليه لاحقاً، ونرى أن هذه الفكرة معزّزة بموضوعة أليغوريا الطريق المتجسدة في تنقلات البطلة واسفارها وبحثها عن الذات. وقد يكون لفكرة قطرة الدم النازفة من الأنثى المراهقة غاليه ايضاً أليغوريا رمزية لايمكن إهمالها، تتضح للقاريء المتأمل بعد إنتهائه من هذا العمل.  بيان الواقع الإجتماعي: ورغم أن الأم مُدرّسة ومتفتحه، لكنها لا تتحدث مع أولادها وبناتها بصراحة عن هذه الأمور الخاصة، وطبعا يفضلون الاولاد على البنات ويعتبرونهم أهم منهنَ وأفضل، مما يثير رد فعل البطلة غالية واصبحت تعاني نفسياً وتطلب التحرر، تذكرنا برواية “أنا حرة” لإحسان عبد القدوس، وهي تحب دائما وأبداً أن تثبت أنها لا تختلف عن الذكور. وليس عبثاً أن تذكر الكاتبة زكيه خيرهم رواية “طفل الرمال” للكاتب المغربي بن جلون الصادرة عام 1985، فهي من أهم النتاجات التي تعالج موضوعة “الذكورية” في المجتمعات العربية من خلال تكريسها لشخصية “أحمد” الذي هو في الحقيقة البنت الثامنة لوالدها، لكنه ربّاها كولد تعويضاً عن “النقص” الذي يعاني منه. وعندما تتوقف “غاليه” عن الدراسة، تضغط العائلة عليها بقسوة لتتزوج، ويصبح الزواج أهم وأغلى من كل شيء، سيما وأن عائلتها متزمتة دينياً. من المفترض أن يكون من الطبيعي أن ترجع البنت إلى أمها وتستفسر منها عن قطرة الدم النازفة من أعضائها التناسلية، لكن الخوف كبير جداً بالذات بعد “نصيحة”  أختها العنود، ورغم التطورات والبرامج وبعض الإنفتاح في العالم العربي. وفي الحقيقة، حتى في الغرب هناك عائلات لا يحسن أولياء الأمور الحديث مع أطفالهم في قضايا حساسة، يشعرون بالخجل، لكن على الاقل هناك طرق أخرى يفتحون بها مثل هذه المواضيع. توظف الروائية هذا الحدث لتبني عليه الحبكة والمضمون وتصف تطورها من خلال السلوك النفسي لبطلتها غالية، وتلتقط حالات اجتماعية كثيرة تعينها في بيان الواقع، بإعتباره أهم مقومات النوع الروائي. وقد يعود لهذا السبب إتسام لغة بعض مقاطع الرواية بالمباشرة الإجتماعية والتلوين بالأسود والأبيض أحياناً وعدم تناول الشخصيات من الداخل وتحليلها، وهي من الأمور المتوقعة في مثل هذه الأعمال. كمثال على ذلك نلاحظ أن الكاتبة  لم تتطرق لشخصية أختها “العنود” حتى بعد زواجها من عادل، وإستفسارها عن عذريتها، بل أهملتها، لإنشغالها بطرح القضايا الإجتماعية على حساب المستوى الفني في بعض المقاطع، لاسيما أن هذا العمل (475 صفحة) وأن كتابة الرواية الطويلة بالذات جهدٌ مضنٍ يحتاج بالتأكيد إلى المزيد من التأني والمراجعة. يمكن أن نلاحظ هذه السمة في مقطع طويل تعبر فيه الكاتبة عن فكرها على لسان بطلتها: “لا أريد أن أتزوج رجلاً يمتحن شرفي بدمي ويضعه على خرقة بيضاء ويقدمها في صينية لكي يراها أهلي .. إن الشرف لايقاس بالبكارة..إن الرجل من غير شرف مادام  يروي لزوجته مغامراته الغرامية مع البنات قبل ان يرتبط بها..”. ص 119. ونفس الشيء يقال في مقطع آخر، حيث تقترب اللغة من المقال، وتورد الكاتبة هنا عدة امثال ضد المرأة دفعةً واحدةً بدلاً من توزيعها في الحوارات الحيوية أو المونولوجات. “إن في بلاد العُرب من الأمثال التي لا تحمل للمرأة إلا إهانات تحطم كلَّ شيء جميل.. كل بليه سببها وليّه، يابن مقطعة البضور، البنت عار ولو كانت مريم،  اللي بغى العذاب يرافق النسا والكلاب.. ص .123

تركز الكاتبة على تخلف التربية الاجتماعية وتنتقد التقاليد البالية وبالذات تفضيل الاولاد على البنات، وأيضا تفضل دائما أن تكون هي في المقدمة ولا تحب أن تكون في المؤخرة، كرمز التنافس بين الذكور والإناث. ‏مرة أخرى أقول إن هذه الرواية مهمة لأنها تدخل في عمق التابوهات/ المحرمات التي تبقى سرية ولا احد يعلم بها، مع الأسف! تصوروا أن مراهقة تنزفُ منها قطرة دم ولا تعرف فيما إذا هي الدورة الشهرية أم لا. وتخشى مراجعة الطبيب ليفحصها في كل هذه الفترة علماً إذا إكتشف الطبيب مثلا أنها ليست عذراء، فهذا أمر خطير حقاً، يمكن أن يعرضها للمضايقات أو حتى الموت. وتبيّن الروائية الواقع الإجتماعي المتخلف، أيضاً من خلال التعامل مع البنات، مثل فحصهن بين فترة وآخرى في المدرسة للتأكد من عذريتهن، وتنتقد هذا الأمر على لسان بطلتها غاليه، وتقول لوالدها: “المستقيم مستقيم سواء كان في المغرب أو في أمريكا. لم يعجبه كلامها. إعتبره تحدياً فهو القاضي والإمام، وهو الدكتور في الشريعة والقانون، وهو الذي سبقها إلى الحياة وسيد العارفين، وهي عليها أن تطيع وتسمع من غير نقاش، لأن طاعة الوالدين طاعة لله..”. ص 22

هذا الحديث عن الأب يعني أيضاً رمزية العالم الأبوي، الذي اشرنا إليه، كذلك تقول له وهي تحاول أن تتمرد على والدها لأنه رفض أن تذهب للدراسة في أمريكا: “يا أبي أنا أطيعك ونحن كذلك عندنا فرن كبير في المطبخ. إن أردتني الآن أن أوقده وأدخله سأفعل في الحال لكن، تأكد أنني لست ذلك الطفل الصالح الذي نجا بمعجزة من الله. فزمن المعجزات قد انتهى وهذا الفرن سوف ينهي حياتي ويضع حداً لها وهذا ما أتمناه غادرها الخوف دون ضجة ولامسها حد الجنون. هرعت الى المطبخ، أمسكت علبة الكبريت .. تحاول إشعال الفرن كي تدخل فيه ص 24”.  وتخلت عن التقاليد وأصبحت ترفع صوتها على والدها كموقف جديد من الكاتبة التي تصور تطور الشخصية الروائية وهي تتجه نحو “التمرد” حسب حالتها النفسية، “أما أخواتها فاتخذن الصمت مدادا وكنَّ فقط ينظرن إليها مندهشات لانقلابها على والدها الذي يعتبر الحاكم الذي لا ترد له كلمة ص 24”. لاحظ مفردات مثل “إضرابها وتمردها وانقلابها” لها دلالات رمزية كبيرة جدا هنا في البنية الروائية وتطور السرد إذ إنها تعبّر عن تحول جذري في شخصية البطلة غالية، وأصبحت ثائرةً رغم  قلقها على والدها وهذا يعني موقف الروائية “الثوري أو المعارض” كأنها تدعو جيل الإناث الجديد إلى المطالبة بحقوقه والوقوف ضد أساليب التربية القديمة، “ثلاثة أيام وهي مضربة عن الطعام والشراب ص 25”. لكن التربية الدينية العميقة و”خوفها من النار جعلها تخرج من غرفتها معلنةً هزيمتها، تتعثر صوب مكتب والدها وأسمال روحها ممزقة، ثملة بكل انواع الخنوع. وجدته يطالع كتاباً، اقتربت منه في هدوء أقرب إلى الخوف، قبلت يده في صمت منكسر، اما هو فكان يسترق النظر إليها بطرف عينه من وراء كتابه وابتسامة رضا ملثمة بقناع من هدوء مفتعل تعلو وجهه ص 25”.  ومع ذلك تحلم بالكوابيس حيث “يحمل والدها خنجراً” ويحاول أن يقتلها رغم أنها تحبه وهو يحبها ص 27!

توظفُ الكاتبة الموضوعة الإجتماعية لتسلط الضوء على تساؤلات كثيرة حول التقاليد خاصة عن “ليلة الدخلة” التي تبدأ روايتَها بوصف تفاصيلها، حيث تتجمع العجائز بالذات يحاولن معرفة فيما إذا كانت العروس عذراء أم لا، من خلال المنديل الأبيض الملطخ بقطرة دم، وتنتهي بها ص 8-9. تعتمد بنية الرواية على الحركة الدائمة، وتغير الزمان والمكان، ونحن نتحرك في زمن آخر من خلال السفر من المغرب إلى فضاء آخر، نخرج منه إلى الجزائر ومنه إلى ليبيا ومنها إلى تونس ومنها إلى أمريكا ومنها العودة إلى الوطن المغرب، وبعدها إلى النرويج حيث تستقر مع زوجها. تتكون علاقات الزمان والمكان أو ما يسمى بالهرونوتوب (الزمكان) بالتدريج، وليس صدفةً أن يصبح النرويج هنا رمزَ الإستقرار وأنه المكان الذي تذهب فيه إلى مستشفى الأوليفول ليتحقق طبيبُها من عذريتها أو عدمها، ويصير مكان النهاية السعيدة بعد إزالة غشاء بكارتها بعملية خاصة ص 460.

نلاحظ هنا أن الكاتبة تبدأ روايتَها بالحديث عن غشاء البكارة والعذرية وخوفها من فقدانها وتكوّن عُقَدِ سرِّها الخطير، وتنتهي به في الصفحات الأخيرة حيث تصف بالتفصيل فحص الطبيب النرويجي الشاب لها ليخبرها بأنها عذراء. وتتفق معه على موعد لإزالته بعملية جراحية، لتقول لخطيبها عادل: “إن كنت تريدني أنا، قبلتك زوجاً. وإن كنت تريد عذريتي فهي هناك في مستشفى الأوليفول ص 468”. من المؤكد أن قسماً كبيراً من القراء الشرقيين لن يتفهمَ هذا الموقف المتحرر من العذرية، لكنه ينسجم مع كل مغزى الرواية وهدفها.  الحركة والسفر في هذه الرواية رمز أليغوري يُعبّر عن طريق حياة البطلة، التي تتعرض إلى مظاهر حزينة ومؤلمة تفضح المجتمع العربي، منها مثلاً أنها تسافر مع رجل كبير بالسن وزوجته الشابة، المفروض أنه يحافظ عليها ويهتم بها كما أوصاه والدها الذي ساعده وأعطاه نقوداً، لكنه بالعكس تنكر له وتحرش بها، إلا أن السائق عرف بذلك وطرده من السيارة، وقال له “ألا تخجل من نفسك؟ ص 68، وأنه أيضا يعامل زوجته معاملة الحيوان. تصفُ الكاتبةُ بدقة كيف تحرشَ بها هذا الشيخ المسن الذي يدعي التدين: “.. حتى وضع يده مرة اخرى على ظهرها ويدأ ينزلها شيئا فشيئا إلى الأسفل، فنهضت من مكانها ودموعها خرساء على جسدها المنهك. جلست على أرضية السيارة مقرفصه حتى شعرت بتنميل رؤوس أصابع رجليها من ثقل جسدها.. لم تعرها فاطمه اي انتباه. ولم تسأل نفسها ما الذي دفع غاليه للجلوس بتلك الطريقة. .. ماذا كان بوسعها أن تفعل؟  إكتفت بانشغالها برضيعها الذي يبكي الضجيج المتغلغل في أحشائها ص 66”.  تقدم الروائية زكيه خيرهن مقاربة  إنتقادية للمجتمع من خلال وصف لسردية ذات مغزى عميق: سائق السيارة سمير، مدرس الفلسفة سابقاً، يريد التخلص من التقاليد البالية، تضايق جداً من العجوز الدجال، كأنه هو جرثومة يعمل على إستئصالها من المجتمع، قال للمسافرين بتلقائية: “إن هذا الرجل العجوز تطاول على الفتاة.. العطب ليس في السيارة ولكن في هذا العجوز لا أريده في سيارتي ص 67“. تتحدث الكاتبة عن رواية الطاهر بن جلون “طفل الرمال” الإجتماعية مع سائق السيارة سمير الذي تنشأ بينها وبينه علاقة جميلة، علاقة تفاهم في ليبيا، إلا أنه أيضا إسم على مسمى، مجرد سمير في الحكي والنظرية والشعارات، لا يتقبل فكرة أن تكون زوجته غير عذراء رغم انه ناصرَ المرأة وأخته كما يدّعي. تضع الروائية بطلها ضمن فكرة الإختبار، فكثيراً ما تحدّث لها هذا السائق الشاب سمير عن الآلام التي تعاني منها أخته وعن التمييز في التربية بينها وبينه في عائلته، لكنه عندما يحب غالية يواجهها بأنه لا يقبل أن تكون زوجته غير عذراء، وتبين تناقضات الرجل الشرقي. وبعد وصولهما إلى ليبيا يواصلان اللقاءات بعد قصص طويلة جدا مع عائلة الشيخ وسوء تصرفاته، وهي تحاول بهذه الطريقة أن تفضح الناس الذين يتظاهرون بالتدين وأنهم في حقيقة الأمر ليس لهم علاقة بالدين الحقيقي وإنما يتاجرون ويتسترون به. توقفت الكاتبة عند هذا الموضوع كما لاحظتُ، في فضاءات أخرى من الرواية، ومن المفيد هنا الإشارة إلى وجود تصورلدى بعض تجمعات المسلمين المغتربين في أوروبا عن إستعمال الدرّاجة يؤدي إلى إنفضاض غشاء البكارة عند الفتيات، ولهذا يمتنعن عن إستعماله مما يؤثر على موقفهن في المجتمع وتمييزهن عن زميلاتهن الأخريات. وتنجح الروائية بتقديم مجموعة شباب من الجيل المغربي الجديد، مثلا هذا السائق سمير يحدّثها عن أخته، يخبرها أن أمه “تدربها دوما على كيفية الجلوس بإحتشام والتحدث باختصار وحياء، وهمّ عائلتي أن توفق أختي بعريس وبحياة عائلية سعيدة، دون الإشارة إلى وجوب بلوغها مراتب العلم والثقافة التي تعتبر بنظرهم أمراً ثانوياً، المهم أن تتعلم الطبخ وتنظيف البيت، ويُمنع عليها اللعب خارج البيت وركوب الدراجة والقفز على الحبل لأن ذلك قد يفقدها عذريتها ص 53”.

تُصوّرُ الكاتبةُ زكيه خيرهم الشبابَ في السيارة وهُم في مزاج جميل، أحدهم يغني أغاني جميلة، ويشعر القارئ أن هذا الطريق وكما أسلفنا رمزُ الحياة، بحلوها ومرّها رغم المتزمتين، تلتقي البطلة مع ذلك بناس منفتحين على العالم مثل سمير، كان متفهما لوضع المرأة ويقول لأحد الآباء منتقداً مظاهر المجتمع وأساليب التربية القديمة: “لا أستطيع أن افهمكم أنتم الآباء ولا أستطيع أن افهم اسلوب الضرب والقمع الذي تمارسونه مع بناتكم!! الضرب لا يصلح الأخطاء، بل يزيد من تراكمها واستعصائها ص 71”. في ليبيا تتغير علاقة غاليه مع هذه العائلة المغربية التي كان والد غاليه يعوّل عليها كثيراً وترك إبنته تذهب معها، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. تُضطر غالية للإنتقال من بيت إلى آخر في طرابلس حتى تعرفت إلى الدكتور السوداني الأصيل نبيل الأميركي الذي يشتغل في المركز الأفريقي، بينما اشتغلت في شركة ليبيه وتعرضت للتحرش من المسؤول، فتركته. نلاحظ في هذه الرواية أن الكاتبة تصور أليغوريا الطريق ورمزيته كما أسلفنا، والصعوبات وكأنها تُقدم الحياة الجارية أو رمز الحياة كما يظهر واضحاً: “شرع الرجل في الغناء، والمسافرون يصفقون، أما هي فكانت تنظر إلى تلك الطريق الطويلة وكأن لانهاية لها. طريق مقفرة نائية..لم تكن ترى إلا طريق طويلة وصحراء شاسعة ص 69”. في تونس يحاول الدكتور نبيل أن يسعد زوجته “الرسمية أو الشكلية” غاليه، لكنها تصدّه، تقول بين نفسها “هل أنا مستقلة أم محتلة.. إن أجبرني أن اشاركه حياته فسرّي سينكشف ونهايتي ستكون وخيمة ..هل أنا زوجته أو لستُ زوجته؟  لم اكن أريد منه سوى إقناع والديّ بأن يتركاني أسافر لمتابعة الدراسة ص 342”. وهكذا تحاول أن تصف حياتها مع زوجها “الشكلي” الدكتور نبيل: شخصان يسكنان معاً بلا علاقة زوجية. ومع ذلك تتسائل غاليه: “لماذا شعرتُ بإمتعاض عندما ذكر زوجته؟ لماذا شعرت بالغيرة؟ ص 352. لموضوعة ختان الإناث أهمية ايضا في الرواية من خلال ذكريات الطفولة بالتفصيل عنها حيث تمت عملية الختان، “وأنا أتذكر في وهم طفولتي الممتدة ما بين فتحات رجليّ إلى أن أصبحتا فخذين عريضين كبيرين. ص 353. تصف الكاتبة الاختلافات الثقافية حتى ضمن الدين الواحد، في أمريكا تلتقي المسلمين الأفارقة إحداهم تقول لها: “أفريقيا للأفريقيين وليس للعرب”، ويذكرون أن “المسيحية ظهرت في أفريقيا، والمسيح أسود وليس أبيض”. ص 402. ولأنها تعاني نفسياً وتعود دائما إلى “سرها الخطير“، تقول الكاتبة عنها مثلاً: تريد أن “تنهي دراستها لتسترجع بها قوتها وتبعد بها الخوف من سرها الخطير”.  ص 406. إلا أنها تتردد فتتساءل: هل أرجع إلى المغرب فمهما بلغت من الدرجات العلمية فطاعة الوالدين واجبة علي، إن أرغموني على الزواج هل الشهادة الجامعية ستحجب عني الإتصالات وإجباري على الزواج؟  إن الإسلام اعطاني حق الاختيار وحق الرفق، لكن رب الأسرة الذي أنجبتني هؤلاء لهم الامتلاك والتصرف في مستقبلي. ص 406. وتبين الكاتبة أن غالية النَسَوية الرافضة للتقاليد تلتزم بالدين الإسلامي الوسط، فهي مثلا تصلي وتقرأ كتبَ نوال السعداوي.  ص 417. كذلك تتحدث عن رفضها للثقافة الأمريكية وتصف مثلا أن احد الأبطال يقول: “ما زالت روح الغزو مسيطرة على العقلية الأمريكية حتى الآن وتظهر جليا في أفلامهم مثل فيلم “الوطني” يبرر القتل والعنف والدماء.. فتاريخ “بنجامين مارتن” ليس ناصع البياض فهو بطل مذبحة مثّلَ فيها بأشلاء قتلى الفرنسيين”.  ص 412. وتتعرف غاليه إلى أحد زملائها في العمل يتعرض للضرب بالسكين كرمز لمظاهر العنف في هذا البلد ص 425، وعلى اللبناني العربي أنطوان، وتعيش بعض التناقضات بين الثقافتين، لكنها تبين أيضا أن الحرية الغربية ليست هي الفُضلى، من خلال تصوير فتاة تعرضت للاغتصاب، ومع ذلك لا تستطيع  الشكوى عند الشرطة لان والدها سناتور وتخشى فضحه. ص 428. لوتشيو زميلها في العمل كان يتصور أنه يمكن أن يمارس الجنس معها من أول لقاء، لكنها ترفض ذلك وتشرح له سبب ممانعتها مثل هذه العلاقة بدون زواج. إنه شخص متحرر غير مبالٍ فتكون التبعات سلبيةً، يتعرض فيما بعد للضرب وتتأثر كثيراً. وهكذا تهيّأ الكاتبة قارءَها لتمهيد الخاتمة من خلال تعرفها على زميل جديد إسمه “عادل”  يبدو انه اسم على مسمى، يحمل رمزاً كما ذكرنا، ” اغدق عليها القليل من ثروته والكثير من ذاته وحبه. علّمها أن تؤمن بالحياة ..عادل كان لها الفارس القوي الذي يتكلم صامتاً..” لكنه عادل معها ومتفهّمٌ لمواقفها الجريئة من قضايا المرأة في مجتمع محافظ، لا يتخلّى عن مفهوم العذرية.  ص 460. هذا هو الموقف الإيجابي الوحيد في حياتها، وقد أتقنت الروائية تقديمه كونه يتناسب مع بنية هذا النوع من الروايات وصيغتها، التي أشرنا إليها في بداية مقالنا: لقاء – مغامرات وصعوبات وأهوال- نهاية سعيدة، كما تعودنا عليها في النتاجات الشعبية القديمة. تقول الكاتبة عن غاليه: “تمنته زوجاً .. ارادته حلالاً، لم يكن لها من جسر العبور إليها إلى أن تكشف بنفسها سرها الخطير، لابد أن اذهب عند الطبيب النسائي وأكشف عن حالي، لابد من الذهاب إلى طبيب نسائي كي اقطع الشك باليقين فإما أن أكون له وإما أن يكون الموت لي، لابد أن أبدّدَ الغيوم الهشه وأفسح المجال لرؤية اوضح. ص 460. تتصل بالطبيب في المستشفى وتأخذ موعداً معه لكي يفحصها ويتأكد من عذريتها، وفي النتيجة يقول لها إنها عذراء. وكرست الصفحات الاخيرة لهذه الموضوعة، “ويقول لي الطبيب أنت عذراء.. أهذا هو هذا هو سري الخطير؟ هذا هو الوهم الذي قتلني.. ازهقَ روحي، بدّدَ حنيني الى وطني. ص 464. تطلب من الطبيب أن يزيل البكارة بإجراء “عملية بسيطة يشق فيها غشاء البكارة” ص 465، وليس في ليلة الدخلة بعرس مع زوجها كما جرت العادة، تعبيراً عن رفضها لهذه العادة البالية حسب رأيها. وتخبر حبيبها وزوجها القادم عادل بهذا الأمر. “تخلصت غاليه أخيراً من وهم العذرية“. ص 467. وأتوقع كما أشرتُ، أن يختلف بعض القراء مع الكاتبة، وقد يعتبرون الفكرة إفتراضيةً وغير واقعية، وهنا تكمن أليغوريتها ورمزيتها. ويُعقد زواج غالية التي يدلّ إسمها على شخصيتها كما أسلفنا، مع “عادل” رمز العدالة والتطور والإنفتاح، على، دون أن نتعرف على سلوكه الشخصي ولا أوصافه الداخلية والخارجية، لأنه هو أيضاً أليغوري (رمزي) الطابع كما ذكرنا، ويذهبان إلى حديقة قصر الملك، “قال لها هل تقبليني زوجاً لك؟ قالت له: إن كنت تريدني أنا؟ قبلتك زوجاً وإن كنت تريد عذرية فهي هناك في مستشفى الأوليفول”،  ولم يتضايق، بل بالعكس “انطلق مسرعاً إلى غرفته بالحي الجامعي. أما هي فكانت تضحك، إلى أن وصل صوتها إلى الفضاء”. ص 468.  يقول لها هل تقبليني زوجا لك..” بينما تردد هي: “ضمني الى صدرك بقوة، إصهر روحك بروحي.. إجمع قلبينا كي يخفقا معاً”. ص 469. إنها النهاية السعيدة كما قلنا كخاتمة لحكايات تذكرنا بألف ليله وليله: الفصل السادس عشر، العنوان التراثي الرحب:  “وعادت شهرزاد إلى فاس“، وصلت غاليه مع حبيبها إلى المغرب، حيث أقامت عائلتها عرساً فخماً، هنا، في منزل  القاضي سلطان حشد كبير من الناس..إختفى عادل بينهم، .. انعقدت حلقات الرقص والغناء للنساء والرجال، .. طبول مغربية، إيقاعات موريتانية وسودانية..”. ص 472. لم يتخلَّ العريسان غاليه وعادل عن “ليلة الدخلة” ولا طقوسها كما يُفترَض ويُتوقّع كنتيجة لموقفهما المعارض لها وللمنظومة الأليغورية الوعظية التي أشرتُ إليها، لكنها هنا مجرد “تمثيلية” للتسلية قاما بها إحتراماً لمشاعر العائلة والأصدقاء: “وحانت ليلة الدخلة ودخلت مع عادل إلى الغرفة التي كانت يوماً منفردةً فيها مع عريسها السابق نبيل. دُقت الطبول وارتفعت الزغاريد، وإنهال على باب غرفتهما طرقٌ. ..عادل .. يخرج شفرة حلاقة من حقيبته ويكشف عن فخذه محاولاً جرحه لإخراج شيءٍ من الدم. كان العرق يتصبب على وجهه ويده ترتعش.. لم يستطع أن يجرح نفسه..وأخيرا قام بذلك الإنجاز العظيم.. مسحَ بقطعة قماش بيضاء على فخذه .. ألقى بها خارج الباب وأغلقه. زادت الزغاريد في الارتفاع وزادت الاصوات في التهاليل”. ص 472.  وبهذه الخاتمة نلاحظ أن الكاتبة كأنها تريد أن توصم المجتمع العربي بالنفاق والمظاهر والتقاليد البالية. !

***

د. زهير ياسين شليبة

أستاذ جامعي عراقي مقيم في الدنمرك

.......................

* زكيه خيرهم. نهاية سرّي الخطير. وكالة سفنكس للترجمة والنشر والتوزيع 2017

في حقول الحروف ترتقي أقلام الإبداع، تجلب الكاتبة والروائية الفلسطينية إيمان الناطور بسحرها الشاعري وحسها المرهف، تنزف عبير الكلمات المعطرة بالأسى والحزن، تنادي بصوت الأمل والصمود في واقع فلسطيني ملتهب. تلوح في أفق الرواية وتعانقها بحنانها، تأخذنا في رحلة لا تنسى بين صفحاتها، حيث تتجلى رؤية الكاتبة الفذة التي تغوص في عمق التاريخ وتأسرنا بقصص الجدات والأجداد المليئة بالحكايا الخيالية والحقيقية. بأسلوبها الفريد وبمفرداتها الشاعرية، تبني عوالم متنوعة تجرفنا بعيدًا عن الواقع المعاش إلى أفق أكثر ملامسة للروح والخيال. تشدنا بقوة ذاتها وعذوبة كلماتها المختلفة والمعبرة، فتتراقص الأفكار في أرجاء النص وتتراقص الأحرف بأنغام الشعر والمشاعر. إيمان الناطور تنبض بالألم والجمال في آن واحد، وتعيد بناء الواقع بخيوطها الشاعرية وأحرفها المبدعة. تزهو إيمان الناطور، الكاتبة المبدعة، بأقلامها الساحرة، ترسم لنا لوحات من الكلمات المعطرة بالأسى والحزن، تروي قصة واقع فلسطيني ترقص على أوتار قلوبنا. تنغمس في أعماق الزمن وتستحضر حكايا الجدود. تنسج الخيال والواقع بألوانها المتعددة. تعبق رواياتها بشغف الحرية وشجاعة الإنسان، تبني عوالمًا متنوعة وتشرق بنور الكلمات المتألقة. تتلألأ أعمالها بالقدرة على صياغة القصص وتخطي الحواجز اللغوية، تلتقط تفاصيل الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال وتنسجها في خيوط روائية تلتهم القلوب. تنساب لغتها برقة شاعرية وجمالية، حيث ترقص الأحرف وترسم المشاهد بألوانها المبدعة. تعبّر رواياتها بعمق عن تأثير الحرب والمعاناة على الفرد وتجسد رسائل تعزز الحرية الشخصية وتحمل الأمل عاليًا. تحليل شخصياتها يبهرنا بتنوع الأفكار وتعدد وجهات النظر، ترسم بكلماتها لوحات غنية بالإنسانية والتعبير العميق. بصوت الشاعر والروائي المتقن، تسرد قصة الفلسطينيين بكل تعقيداتها وتأسرنا بجمالية الكلمات وعمق المشاعر.

تمتاز جدتي بالإنكار، لكنني أجد في عينيها ذئابًا تتواطأ مع أشجار الغابة، على مر السنين ظلت جدتي تلوح لي بالتآمر الذي لم تخبرني به، وما زالت ستارة الليل تخفيه بعد، وها أنا الآن أكبرت، صمت جدتي يغيب لكي أدرك حقيقة التآمر، أفهم الآن أن أشجار الفول لا تصل إلى السماء، وأن عالم العجائب لم يكن سوى وهم ضخم يبتلعني، وأن وطني لم يضيع بل تم فقده بصورة متعمدة، وأن ليلى كانت ضحية للذئاب منذ زمنٍ بعيد. ومن خلال مأساتي العميقة، ينبعث سؤالٌ من أعماق المعاناة، هو سؤال الحرمان من الهوية والانتماء، أتساءل: "هل يحق لجميع الجنسيات امتلاك أرض الفلسطيني، وحده الفلسطيني نفسه يظل محرومًا؟... أعلم أن الفلسطيني يتعرض للاضطهاد، وأنه يحارب لسنوات من أجل حقوقه، غالبًا ما يفقد أحبائه دون أن يستردهم، لأن قوانين الغربان لا تعرف معنى الرحمة". وعلى الرغم من ذلك، يبقى للفلسطيني شعلة الأمل مشتعلة في حكايات الجدات ومفاتيح البيت القديم. بعبقها الشاعري وجمالها المعاني، تستقر رواية "رسائل الخريف الضائعة" في عمقها النقدي وثراءها الأدبي. ترصد تجربة الفلسطينيين بصورة متنوعة وجذابة، تأتينا بلمحات عميقة لحياة الشعب الفلسطيني تحت ظروفه الصعبة. تنقلنا في رحلة روحية مثيرة، نرى من خلالها شخصية ليلى تكشف تأثير النزوح والتشرد، بينما يلقي الضوء على محنة الأسرى الفلسطينيين شخصية حسين. تتناول الرواية مواضيع حساسة مثل الهوية والوطن والانتماء، وتعكس الواقع السياسي والاجتماعي المعقد في المنطقة. بأسلوب سردي متقن وجذاب، تحملنا الرواية في أحضان تجربة شخصياتها المتنوعة وتفاصيل حياتهم اليومية. تستخدم اللغة والأساليب اللغوية ببراعة لنقل رسائلها الأساسية بشكل فعّال وجميل. تشجعنا على التفكير النقدي والتحليلي للواقع الفلسطيني، وتعزز الوعي الاجتماعي. بشكل عام، "رسائل الخريف الضائعة" هي تحفة أدبية تضيء الأدب النقدي والفلسطيني، تعيد لنا تجربة الشعب الفلسطيني بتعدد أبعادها. في شخصيات مثل ليلى نكتشف تأثير النزوح والتشرد على الفرد والمجتمع، وبحسين نشاهد محنة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

في رحاب رواية "رسائل الخريف الضائعة" تعانق العمق النقدي وتغنى الثراء الأدبي، تأخذنا في رحلة ملحمية لاكتشاف تجربة الفلسطينيين بألوانها المتعددة. تتجسد في شخصياتها المتنوعة، من ليلى وحسين، طيف التحديات التي تلتف حولهم. تشدنا الرواية لعالم مرهف يكشف تأثير النزوح والتشرد، ويكشف مأساة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. تمسك الرواية بالمواضيع الحساسة والأساسية في حياة الفلسطينيين، كالهوية والوطن والانتماء والحقوق الإنسانية. تعكس واقعًا سياسيًا واجتماعيًا معقدًا في المنطقة، وترسم الضوء على تحديات يواجهها الفلسطينيون. بأسلوبها السردي الجاذب والمثير، تأسرنا الرواية في رحلة عاطفية للاندماج في حياة الشخصيات وتفاصيلها اليومية. تتألق اللغة والأساليب اللغوية المستخدمة بجمالها وتنقل رسائلها بقوة وجاذبية. تعزز الوعي الاجتماعي وتحثنا على التفكير النقدي والتحليلي للحقيقة الفلسطينية. بوجه عام، "رسائل الخريف الضائعة" تضفي قيمة فريدة على الأدب النقدي والفلسطيني، حيث تجسد تجربة الشعب الفلسطيني بأبعادها المتعددة بشخصيات تأسر القلوب. إنها رواية تحمل ثراء التاريخ والثقافة، تدفعنا للتأمل والاندماج في قصتها الفريدة.

في رحاب رواية "رسائل الخريف الضائعة" تزيد قيمة الأدب النقدي والفلسطيني، بروعتها وعمقها تنقلنا في رحلة سحرية مليئة بالروح والتأمل. تترجم الرواية براعةً وعمقًا تجربة الشعب الفلسطيني بكل تأثيرها، تحمل ثروةً من تاريخٍ وثقافةٍ في صفحاتها، وتجعلنا نتأمل ونتوغل في رحلتها الفريدة. تنبثق منها رسائلٌ عميقة تكشف تحديات وتطلعات الشعب الفلسطيني، وتداعب أحاسيسنا وتستفز عواطفنا مع قصتها الملهمة. تكشف عن قوة الأدب وقيمة الفن في رحابتها، تعتبر "رسائل الخريف الضائعة" فنًا فلسطينيًا رفيعًا يستحق التأمل والاستيعاب. تسحر القلوب وتحرك العقول للتفكير والتأمل في قضايا الإنسان والمجتمع. تجسد براعة الرواية بشكل كامل تجربة الشعب الفلسطيني، وتسلط الضوء على مسائل هامة كالهوية والانتماء والحقوق الإنسانية. تقدم قراءة نقدية قوية وعميقة، تعكس دراسة شاملة للشخصيات والأحداث والمواضيع واللغة والبنية الدرامية والرموز. تتجلى روعة هذا الفن الأدبي المتكامل في توازنه بين العناصر الفنية والمحتوى العميق. وليس ذلك فقط، بل تعزز الرواية التعاطف مع القضية الفلسطينية ونضالها، وتشجع القراء على التفكير العميق في المسائل الإنسانية والاجتماعية التي يواجهها الشعب الفلسطيني . بعد تجربة قراءة رواية "رسائل الخريف الضائعة"، ندرك أنها تمتاز بإثارة التأمل والتفكير. تحمل قصة الشعب الفلسطيني بألوانها المتعددة وتكشف عن صراعاته وتحدياته المتعددة. تنقلنا في رحلة روحية مشوقة، نشعر من خلالها بقسوة الواقع وتأثيره على الفرد والمجتمع. تستعرض الرواية مواضيع حساسة وقضايا إنسانية عميقة مثل الهوية والانتماء وحقوق الإنسان. تبرز القوة الروائية للرواية من خلال استخدامها للغة الجميلة والأساليب الأدبية المتقنة. تتميز بوصفها رحلة مثيرة وتوازن فني ممتاز بين الواقعية والتجريبية. تعزز قوة الرؤية وعمق الفكر في كلماتها وأحداثها، مما يلهمنا للتأمل والاندماج في تجربة الشخصيات والمواقف التي تعيشها. باختصار، رواية "رسائل الخريف الضائعة" هي أعمال أدبية رائعة تنقلنا إلى عالم الشعب الفلسطيني بأسلوب سردي مدهش وعمق فكري ملهم. تعكس التجربة الفلسطينية بكل تعقيداتها وتحمل رسائل هامة تتعلق بالإنسانية والعدالة الاجتماعية. تستحق هذه الرواية الفنية الاستكشاف والاستمتاع بها كمصدر ثمين للتأمل والتحليل.

في بياض الصفحات، تنثر الرواية أنغام الوجدان، تلمس أوتار الروح وترتقي بالأفكار إلى عالم الفن. إنها أكثر من مجرد حكاية، فهي نهضة للإنسان ونضال للوطن، تسعى لترسيخ الوعي وتنبيه الضمائر. تحثّ على التعاطف والتضامن، وتدعو القارئ للوقوف مع الشعوب المظلومة، بدءًا من الفلسطينيين الأبطال. يجسد أدب هذه الرواية الوجع والأمل، ويروي قصة شعب يصارع الظلم ويحمل في قلبه رغبة جارفة في الحرية والعدالة. بغض النظر عن خلفية القارئ، ستتسلل الرواية إلى دواخله، تتغلغل في عمق الوجدان وتعزف ألحان المقاومة والأمل. في عبق كلماتها ترقص الحقائق، تنزف الأحداث والمواقف، وتعبث بالخيال بأسلوب شاعري يسكب المعاني. وعندما تصل إلى نهايتها، تفتح "رسائل الخريف الضائعة" أفقًا جديدًا للتأمل، وتطلق أسئلة تحوم في فضاء الذات. إنها رحلة فريدة في طرقات الوجدان، تلمس الجراح وتنشر الأمل، وتجعلنا نستشرف المستقبل بثقة وإيمان.

***

زكية خيرهم

 

عتبات ومتون بين التنوع الأسلوبي ونمطية النصوص

توطئة: تجسد الفنون الثقافية في مجالات النص المسرحي، مفهوما إجرائيا في رصد العوالم الشخوصية المتحاورة والمتماثلة في شكل مؤطرات العنصر المكاني الذي يعد بمثابة المحور الثبوتي بطبيعته المتيحة لحالات المعطى الموضوعي تشكلا لما يشبه حالة الواقعي باللغة والحركة والشعور كوجهات وسائطية في مستوى منتج العلاقة الدلالية في بعدها المتصل والمنفصل عن موجهات السارد العليم.أن المتتبع الناشط والنهم إلى فنون العرض المسرحي، لربما يستطيع أن يفهم بأن مسارات الوظائف الأكثر فاعلية في طبيعة وبيئة المرسل الدلالي المسرحي غالبا ما تقتصر على أنماط وثيمات (المحور الاجتماعي ــ المحور الطليعي ــ المحور المابعد الحداثوي) كذلك أن ظهور مثل هذه الأساليب وطبيعة آلياتها شكلت مشروعية خاصة في خاصية تجسيدها كفاعلية عضوية في عاملية الخطاب المسرحي.وقد ضاعف في امتداد هذا الخطاب جملة إجرائية من العناصر (الممثل ـــ الإضاءة ــ منطقة العرض ـــ الإخراج)ومن الممكن أن يبدو العرض المسرحي أشكالا وأنواعا متعددة في الفروقات وإمكانية النوع النصي، كما الحال في تجربة الكاتب عبد الحليم مهودر في مجموعة مسرحياته المصنفة بـ(مسرحية إذاعية ــ مسرح الدمى ــ موندراما ــ مسرحية للأطفال) وتبعا لهذه التصانيف الأسلوبية المتصلة بالممارسة الأدائية للنص المسرحي، نلاحظ أن مهودر راح يقدم لكل ممارسة نوعية من واقع العرض الحواري المسرحي، جملة صياغات حاصلة بالدلالة والمحاكاة التي تتلبس الصوت الشخوصي انطباعا في كونه الشخصية الأكثر جنوحا في ملامحها الفضائية الدالة.

ـــ أصوات وأسئلة وعلاقة متحولة:

تعد الصورة بمفهومها المسرحي الذي يقترحه البعض نقاد الفن المسرحي بمثابة الشكل النوعي الذي يتم إدراكه بمشاهدة معرفية تترصدها مجسات الذائقة البصرية والروح المتذوقة.ولأن طبيعة عروض مجموعة (لون آخر للصمت) جاءتنا عبر الوقائع المقروءة وليس عبر الأداة المجسدة في المسار من الأجواء الحاصلة من العرض عبر خشبة التمثيل المسرحي، يمكننا حينئذ قراءتها كأصوات صورية ليس فيها حرارة العرض المسرحي، كحركة الممثل وواقع التفصيل العياني من جهة خشبة العرض، لذا فإننا سوف نتعامل مع النصوص كأصوات صورية لا تحمل ثوابت المنطلق الخيوطي في الدراما العروضية، ولكنها من جهة أخرى تحمل حياة الدال الصوتي وصورته الإيقاعية التي ترتفع بالخطاب الفضائي نحو مسارية (لعبة التخاطب) إن لم نقل لعبة الإيماءة الجسدية المتحققة، وعلى هذا النحو تتخذ طابعية الصور في قوام التحاور الصوتي المقروء، تظافرا عبر المكونات التي تجعل من (الصورة ــ الصوت) وحدتان شاملتان ومتماسكتان، كما الحال في هذه الوحدات الشعرية من مسرحية (صوت الحجر): ( يعدو .. يسرع .. والأفكار تلاحقه .. تزحم عقله .. ملتفتا خوافا .. يلتقط الأنفاس .. وتعثر رجله: آه .. يا ألم الجرح القاتل. / ص7: صوت الحجر) فالدوال الصورية إذا، هي الشكل المشبع بالظهور الشكلي و المضموني وبكل عناصرهما المكابدة في منظومة مأزومية الحياة والوجود.فالنص المسرحي ــ الشعري، ها هنا يشكل بذاته ذلك التأمل التصوري لماهية الحالة وجوهرها، وحين تكون للمقاطع الإخراجية كيفيتها في رؤية الأشياء وتخيلها وإعادة بنائها، فأن ما يقدمه الكاتب مهودر يعد نموذجا مستخلصا من تفاعل (رؤية ــ حركة = عالم داخلي ــ مكنون صورة) كما الحال في هذه المتواليات: (الجندي الصهيوني: من أنت يا هذا: ـ أبن العرب .. أنقذوني .. أنقذوا جسدي .. أنقذوا صوتي./ص17) وكلما أزدادت حقيقة المكون (الصوتي ــ الصوري ) بدت لنا جوهرية العلاقة أكثر كشفا وشكلا وفعالية.

ـــ مسرح الدمى: بين خاصية الثيمة وآهلية الواقعة المؤنسنة:

تكاد بنيات التحول أو التداخل بين العوامل الثابتة والمتحولة في دلالات النص المسرحي الخاص بوقائع ـ مسرح الدمى ـ أو ما يطلق عليه أيضا في شكله المحلي ـ مسرح العرائس ـ حيث يعد هذا الأسلوب من العرض المقروء معادلا سيسيولوجيا تسعى من خلاله ( الأبطال ) في النص الحواري إلى بلوغ منطقة التصارع بين الأضداد أو تقديم الوظيفة الموعظية القادمة من أثر مرجعية أمتلكت زمانها وسياقها الاحتفاظي بمنطق التفاصيل واستطلاع البيئة الحكائية: (الراوي: كان يا مكان .. كان بحار صاحب سفينة تنقل البضائع بين مدينتين على شاطىء البحر ./ ص22: مسرحية (السفينة).

1 ــ الراوي شاهدا: الرؤية من الخارج:

تشكل وظيفة (الراوي = كان يا مكان) في الأدب القصصي والمسرحي الخاص بالمحكي في مسرور أدب الأطفال، اعتمادا على اللازمة التراتيبية لصيغة الزمن والمكان المتحققة من خلالها تداولية الشكل الأخباري الحكواتي عبر واصلة (كان يا مكان؟) وهذه الوحدة المقتربية هي من القدرة على خلق المبنى التقليدي في المسرود الشفاهي .فهناك من يرى أن مفهوم اللازمة ـ كان يا مكان ـ هي صيغة من الترتيب للحوادث، وتارة من يعتقد كونها إعادة المروي في حبكة التبئير الجاذب إلى طرف التلقي.نقول أن الراوي في القصة أو المسرحية كلاهما يقدمان الحكي في خصائص معرفة الشخصية والأحداث الحكائية.وهناك ثلة من النقاد من يؤكد على أن نصوص أدب الأطفال غالبا ما تكون متجاوزة في البدائل الضمائرية، حيث تكون العلاقة متساوية بين (الراوي ـ الشخصية ) ويصور السارد للقارىء في هذا النص المسرحي عدة أطراف شخوصية بدءا من (الراوي ـ البحار ـ القمر ـ الشمس ـ العصفور ـ النورس ـ الحمار ـ الفيل)إذ نعاين أن الكاتب مهودر يسعى لإدخال مضامين تربوية أكثر إيغالا بهدف زرع روح الإرشاد والنصح، ولا يعني هذا أن تصبح المسرحية خالية من إمكانية طابعها الأدواتي، فهي لغة ومضمونا، وإخراجا مقروءا تدعمها مخيلة تتجلى سطوعها في أهمية العلاقة المتماسكة في الأجزاء العاملية المتحاورة بلوغا معادلا.

ـ شيطنة العجوز وبراءة إبليس: قبل رحيل إبليس

أن فن الموندراما بالطبع هو أحدى الفنون الدرامية التي شاع توظيفها في الأشكال المسرحية التجريبية والتي فاق خطابها رقعته خلال القرن العشرين على أنها الأجزاء المتكونة من المشاهد، إذ يتم توظيف شخصية واحدة في العلاقة الحوارية، إذ يوحدها الواقع الافتراضي مع صورة الآخر في الطرف اللامرئي من خشبة العرض، وعلى النحو الذي تتكاثر فيه ممارسة الاشارات العلامية والإيمائية على أن وجود ذلك الآخر، شخصية حاضرة في مجمل خواصها التفصيلية: (العجوز: تجلس على دكة في وسط المسرح ـ تكلم نفسها ـ السفينة التي يكثر ملاحيها تغرق.. أنا وهذا الإبليس في مكان واحد يجعل عملنا يتعارض على رغم أن عملنا واحد يجب أن أتخلص منه لكي أطبخ طبخاتي على مزاجي./ص39 المشهد الأول: مسرحية ـ قبل رحيل إبليس ــ لا بد من الإشارة بادىء ذي بدء، من أن موضوعة هذه الموندراما معتمدة على رؤية درامية مرتهنة بعمق غواية الشر في داخل الشخصية العجوز، مما جعلها أكثر كيدا من أبليس، الذي غدا راحلا مفترقا تاركا للعجوز تحقيق مكائدها الجرمية حيث نتابع تجربة عبد الحليم مهودر في السرد القصصي والروائي والمسرحي، لايغيب عنا أيضا دوره ككاتبا للحكايات الساخرة وبعض من أعماله الوثائقية.أما في ما يخص تجربة مسرحيات (لون آخر للصمت) فهي بحد ذاتها تعكس الكفاءة النخبوية لهذا الكاتب البصري، الذي ما يزال دؤوبا في تقديم النصوص الابداعية سواء كان الأمر في مجال القصة القصيرة أو الرواية أو المسرح أو التوثيق المرجعي لأهم مظاهر المحافل الأدبية والثقافية في مدينة البصرة، التي من خلالها يحقق الوعي القائم بالحضور الممكن والاحساس به كإمكانية معرفية في سلطة الثقافة والمثقف.

***

حيدر عبد الرضا

 

 

(دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

يمكن القول إنَّ محرِّك الهيبة من (الذِّئب) وراء تصويره تلك الصور النمطيَّة في الشِّعر العَرَبي، أي إنَّ الشاعر يلمح في كُلِّ صِفَةٍ يصف بها الذِّئب ما توحي به ممَّا رسمه للذِّئب من معاني في مخيِّلته. وبمعنًى آخَر أن الشاعر- إذ يصف الذِّئب- فإنَّه لا يصف بالضرورة ذلك الحيوان المعروف، الذي شاهده في البيئة، لكنه يجسِّد في نموذجه: الشرَّ، والغدر، وشراسة الطبع. ومن أجل ذلك فهو قد يُهوِّل في وصفه فوق ما يُعرَف عنه في الواقع، وقد لا يكون عَرَفَ الذِّئب عَيانًا، وإنَّما يتَّخذه رمزًا فنِّيا لتلك المعاني التي قدَّمنا. ومن هذا تصويره في قصيدة (البُحتري)(1)، مثلًا:

وأَطْلَسَ مِلْءِ العَيْنِ يَحْمِلُ زَوْرَهُ

وأَضلاعَهُ مِنْ جانِبَيْهِ شَوًى نَهْدُ

لَهُ ذَنَبٌ مِثْلُ الرِّشَاءِ يَجُرُّهُ

ومَتْنٌ كمَتْنِ القَوْسِ، أَعْوَجُ ، مُنْأَدُّ

طَوَاهُ الطَّوَى حتَّى استَمَرَّ مَرِيْرُهُ

فما فِيْهِ إِلَّا العَظْمُ والرُّوْحُ والجِلْدُ

فهو «مِلْءُ العَين»، من مهابته في نفس الشاعر لا في حقيقته، وإلَّا كيف يكون «مِلْء العَين» و«ما فيه إلَّا العظم والروح والجِلد»؟! ثمَّ إنَّه يبدو متناقض الصورة، ففي حين يصوِّره «يَحْمِلُ زَوْرَهُ وأَضلاعَهُ مِنْ جانِبَيْهِ شَوًى نَهْدُ»- وهي صورةٌ قد تنطبق على (الفِيل) لا على الذِّئب- يُمعِن في تصوير هُزاله؛ إذ طَواه الطَّوى حتى استمرَّ مريره. ولا يتهيَّأ الخروج من هذه المناقضة إلَّا أن تكون صورته الأُولى صورةً معنويَّة(2)، بما تنطوي عليه من إعظامه وتهيُّبه، والأخرى واقعيَّة، إلَّا أنها تثير كذلك رموز الشِّدَّة والحِدَّة في صورته، أكثر ممَّا تنقله من صورته الشكليَّة والتكوينيَّة. ولذا تراه يكثِّف في بيته الأخير معناه هذا، بما يصفه به من الطَّوى، واستمرار المرير، وهما صفتان تقتضيان أن يكون أشدَّ ضراوةً ووحشيَّة.

وليس ببعيدٍ عن هذا الهدف الفنِّي ما اعتاده الشُّعراءُ من تصوير (الذِّئب) منجردَ الشَّعر، مشبِّهين به رِماحهم أو خيلهم مُغيرةً على الأعداء. فيقول (الحُطيئة)(3):

بِكُلِّ أَجْرَدَ كالسِّرحانِ مُطَّرِدٍ

وشَطْبَةٍ كعُقابِ الدَّجْنِ تُزْهِيْنِي

ويقول:

وكُلُّ أَجْرَدَ كالسِّرحانِ آزَرَهُ

مَسْحُ الأَكُفِّ وسَقْيٌ بَعْدَ إِطْعَامِ

فانجراد شَعر الذِّئب هاهنا لا يُعبِّر عن صِفة شَعره بمقدار ما يُعبِّر عن: روح التمرُّد، والانفلات، والمراوغة، وسَعة الحِيلة، إلى آخِر هذه الصفات التي يوحي بها انجراد شَعره، والتي أحبَّ الشاعر أن يتَّصف بها رمحه وتتَّصف بها فرسه في مواجهة خصومه. حتى قال (ابن مُقْبِل)(4):

لا تَحْلُبُ الحَرْبُ مِنِّي بَعْدَ عِيْنَتِها

إِلَّا عُلالَةَ سِيْدٍ مَارِدٍ سَدِمِ

أي: إن الحرب لا تنال منه شيئًا، إلَّا كما يمكن النيل من ذِئبٍ ماردٍ هائج.

وفي تصوير (الذِّئبَ) لدَى (البُحتري) يهتمُّ بتأكيد جوعه، كما رأينا. وقد كانوا يقولون: «رماه الله بداء الذِّئب»، أي الجوع؛ لأنهم يزعمون أنْ لا داء له سِواه(5)، وهو في مدافعة دائه هذا يكون في أشد حالاته شراسة. والشاعر يُلاحِظ هذا فيُوظِّفه في تصويره، إلَّا أنَّه يقول:

سَما ليْ وبيْ مِنْ شِدَّةِ الجُوْعِ ما بِهِ

بِبَيْدَاءَ لم تُحْسَسْ بِها عِيْشَةٌ رَغْدُ

كِلانا بِها ذِئْبٌ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ

بِصَاحِبِهِ ، والجِدُّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ(6)

فهو هنا ينظر إلى نفسه هو؛ ولأنَّه يودُّ أنْ يَرَى في الذِّئب نفسَه: «كلانا بها ذِئب»، فإنَّه يخلِّص صورته ممَّا لا يودُّ أن يراه في نفسه؛ فلا يَصِفُه بالغدر، مثلًا، كما فعل (الفرزدق) في قصيدته، بل يستبقي من صفاته- في علاقته الصراعيَّة معه- ما يجعل من تغلُّبه عليه، في النهاية، فوزًا عظيمًا:

فما ازدادَ إلَّا جُرْأَةً وصَرَامَةً،

وأَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ مِنْهُ هُوَ الجِدُّ

فأَتْبعْتُها أُخْرَى فأَضْلَلْتُ نَصْلَها

بحيثُ يكونُ اللُّبُّ والرُّعْبُ والحِقْدُ

فَخَرَّ وقد أوردتُهُ مَنْهَلَ الرَّدَى

على ظَمإٍ لو أَنَّهُ عَذُبَ الوِرْدُ(7)

يُعْجِب الشاعرَ فيه أنَّه كلَّما اشتدَّ عليه الموقف، من جوعٍ أو خوفٍ، ازداد جُرأةً وصرامةً وجِدًّا، لولا أنَّه غزا بنصله جماع تلك الروح كلِّها: «بحيثُ يكونُ اللُّبُّ والرُّعْبُ والحِقْدُ»، فخَرَّ الذِّئب. إنَّه لا يكاد يموت، وإذا مات، مات واقفًا، ثمَّ يَخِرُّ كيانًا عظيمًا، يحقُّ للشاعر الفخر بانتصاره عليه. وهكذا يكون الدافع الرمزي، وراء هذه الصُّورة، سببًا في اجتهاد الشاعر للتجويد فيها.

[ولحديث الذئاب بقيَّة تحليل].

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

............................

(1)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف، 743.

(2)  ويؤيِّدها عند (البُحتري)، خاصَّة، أنَّه كان يعيش في الحاضرة، مع ما عُرِف عنه من طبعٍ، أبعد ما يكون عن مثل ذلك الموقف الذي صوَّر فيه نفسه. هذا بالإضافة إلى العلاقة الواضحة بين وصف (الذِّئب) والصراع معه وبين خصومة الشاعر مع (آل الضحَّاك)، الذين ذكرهم في القصيدة، قبل أبياته هذه.

(3)  الحُطيئة، (1958)، ديوان الحُطيئة، (شرح: ابن السكِّيت، والسكَّري، والسجستاني)، تحقيق: نعمان أمين طه، (مِصْر: مطبعة البابي الحلبي وأولاده، 87، 227.

(4)  (1962)، ذيل ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم، 399/ 9.

(5)  يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (ذأب).

(6)  البُحتري، ديوانه، 743.

في الديوان: «والجَدُّ يُتْعِسُهُ الجَدُّ«! ولعلَّ صوابه كما أثبتناه؛ فالجِدُّ: الاجتهاد، والجَدُّ: الحظُّ. أي إن نتائج الاجتهاد قد يحول دونها سوء الحظِّ.

(7)  م.ن، 744.

لا يكتب مظفر النواب قصيدته حسب القوانين السائدة في كتابة الشعر الشعبي، بل هي تفرض منطقها الخاص بالشعر، القصيدة الجديدة لمظفر لا تبدأ بالموضوع، انما الموضوع أحد مكتشفاتها، إحدى منصاتها للتوغل عبره نحو الموضوعات الكبرى، نحو (القضية)، وهي الكينونة التي تنبع من خصوصية النواب، من تجربته الحياتية، وشخصيته الاستثنائية.

في شعره أشياء عديدة، مثل الأبواب والدفاتر والمحطات والشبابيك، الناس، النهر والهور، أشياء كما هي، ومع ذلك عندما تدخلها في دينامية الحقل المغناطيسي للنص، تأخذ أبعاداً أخرى، مما يعيدنا الى فكرة السيميائية في الشعر، لا التقليدية منها، انما الاشياء والمفردات نفسها، تتحول الى معادن، والقصيدة الى مختبر.

قصيدة (لابد يردّون باچر)، من القصائد التي كتبها مظفر النواب في سنوات عمره الاخيرة، لم يكن النواب فيها مستعداً للتخلي عن أناه، أو تذويبها لم يعد في العمر متسعاً، كي يواجه المشكلات الصعبة في تجربته الحياتية،

گاعد بشباچك من اسنين واتنه

وهالدفاتر تركض تشيل الجنط

والحزن إلمن

ناس ما منهم گمر

ناس مايسوون خاشوگة شكر

احساس عميق بالخيبة، وفقدان الأمل، حتى صار الألم السمة البارزة لقصائد مظفر الأخيرة، وصارت الغربة والاحباط أهم سماته، التي تكشف عن طبيعة مكوناته، كيف يكون حال الشاعر وهو يواجه حالة الانفصال، عن اؤلئك الذين يتناسون، أو يدعون النسيان، الشاعر أمام هذا العقوق مطالب ان يفعل المستحيل ليخترق سكونه، في خضم الألم الذي يعيشه من اجل ان يتوازن ويكتب:

والناس الردتهم

نسوا من اسنين اسمك والمحطّة،

وخلّوا ادموعك نهر

يحسّ ان كل ما عنده لم يكن كافياً لكي يصرخ، لكي يعبر عن هذا الذهول، بالشعر، لكن ليس بشعر المأساة، انما بشعر كأنه ينعى نفسه:

أدري بيك تريد تبچي

ابچي وحدك، آنه ساكت

بس أحلفك ياگلب يا چبير

لا ينخطف لونك لو شفتهم

النواب يكفيه صوت يصعد من كعب قدميه إلى رئتيه، فيقيء صراخاً ودماً، هكذا كان الصمت، يتضمن الصراخ الذي لا يكاد يسمعه عند نفسه،

لم تكن القضية خاضعة للمزاد، والدم ليس حمّالة قصائد إلى صفحات الجرائد والمجلات، ذلك خارج لعبة الشعر، كان مظفر يتوهم انه حسم امره مرة واحدة مع الماضي والمكابدة على الجرح، واذا به يكتشف الحقيقة بانه مازال ينزف، فيما يعنيه انه ربح كل خساراته، لانها رأسماله الرمزي، قوامه خسارات مركبة، واذ لا بيت يخاف عليه، ولا ثروة يسعى اليها، ولا حبيبة تفتك فيه، يجد نفسه في أحسن حال مقتصداً في النكد، يحتفل بمن أحب على طريقته:

اثكل شويه يگلبي

مرّة خلّيهم محطة

وانت سافر

كان النواب مزيج كأسه، من صداقات، الى اشراقات، الى عناوين عتب، وقراءات في عذابات الانسان، الى الغور في عمق الذات، (الذاتي)، فالانساني، لذا حين يهدأ موكب الندب، يعلن انه وحده يحمل عبء الراية الحمراء، ولم يكن النواب حامل راية، انما كان مقاتلاً في خط النار، على مراحل، وبحسب مزاج، ثم بصراحة كان ذاك التشاكي المتشاكس، العنيد، الكاشف، الصاخب مرات، في هدوء عجيب. وحنين غير منقطع، الغريب في مظفر هذا الحياء، فما أقرب ما يحدو به الشوق لأفيائه الأولى، حينما يمتلىء قلبه حنيناً يستدر العيون، رغم جروح الأساءات، وثقل الرزايا:

لاينخطف لونك لو شفتهم

سلّم بسرعة

ولو نشدوك

تعرف واحد يگص التذاكر

گلهم الشباچ گصلهم شهر

فتنطلق نجواه على البعد الى الوطن، عندما تختلط الغربة بالليل، يطل الوطن الأم يناجيه، فيصحو على بصمات خطواته الاولى فيه.

تجليات مظفر الأخيرة، تبدو وهو يحاور الموت الذي يدنو منه، كأنها حدوس الراحل، اذ يهاتف صحبه، في الشام، وعمّان، ولندن، كدّسَ خبرة شعره وحياته للناس الذين أحبهم وانتمى اليهم، على حافة الوطن سار، والمساف البعيد قطع، ببصيرة نفذ الى آفاق وآماد، أوصلت مقلته إلى (العدسة) المكّبرة لينشد، فامتاز بتلك القدرة على الكشف، واثارة الأسئلة، كأن الحادثات والعوادي تتكشف قبل أن تقع، أمام تلك البصيرة،

منح الشاعر العصمة لشعره في انحيازها للانسان، واتخذ من جمهوره صحبة ضد زمان النكد، وبرغم جمهرة المعارف، وحشد المتأثرين والمتلقين، كان النواب يخاف العزلة والوحدة، وهكذا اعتاد أن يطرق باب قلبه بيمينه، وباليسار ينظر الى تاريخه يرفع راية الفقراء والثورة، والكلمات التي لا تموت، وأسى شعبه، فمازج بين جيفارا والحلاج، ثم ابن المقفع وصويحب، ليصنع نموذجه في بطل عصره والأزمنة، لكنه بحسرة يقول:

شگد خطيه

اليفرش عيونه درب

للماله جيّه

لم يلذ بالصخرة مقيداً، بل انطلق واثقاً يشعل تحت أقدام الطغاة، بارود شعره، أولئك اللائذين بالمصالح والمنافع، وبنار شعره أيضاً أضاء كهوف اللصوص والمتسلقين، وسخر من الموت المجاني، وباستحقاق الصداقة، ورفقة المجالدة، والضنى المزمن، ناقشه محبوه، فاختلفوا، واتفقوا على الاختلاف لانه عافية حضارة العقل، والضمير الذي لا يخون. طبيعته ان لا يتطابق، وإن جامل أو انحنى للريح بهدوء، حتى يعبر هو من عاصفة الاختناق والقسر، الى رحابه، حريته.

منذ البداية أرادوه على وفق المواصفات متطابقاً مع الشروط، فتمرد، لم يتردد في شدّ قوس الهجاء لكل من يحاول إغلاق نوافذ الأمل، يصادر حريته، ويكبّل معصميه بالقيد، أويمدّ حباله لشنقه، ينفي وجوده، فكان أول العارفين بالمنزلق، ليتساءل هل يزرع الشعر ليتناسل، أم يتيه في المغارة؟ فاختار الأول.

***

جمال العتّابي

تقنية المزج بين الفلسفة والسايكولوجية والأخلاق عند الكاتب عبد الرزاق الغالبي في نصه (قد يكمن في الإحسان شراً!).. دراسة نقدية ذرائعية حسب إستراتيجية الإستقطاع الذرائعي.

المقدمة:

حين ولجت الى قراءة هذا النص وهو ينتمي الى حد كبير من المقطوعة السردية.. فعنوانه كان بوابة مخبوء بداخلها رسالة موجهة الى شخص معني بقرائتها دون البوح جهرة عن اسمه او عنوانه.. و لعل الكاتب بهذا العنوان يروم إيصال رسالته اقوى من ان يذكر فيها المعنون له بها.. إن دخولي النص من خلال منظوري الخاص الذي اتخذته لنفسي حين الكتابة او تحديد المخبوءات بين السطور للدراسة، فحين نعتمد النقد الذرائعي تكون المهمة أكبر ف فلسفة النقد الذرائعي للنص بعلمية المداخل و الادوات بإستخدام الدلالات سواء البصرية منها و اعني المنظور عينا، او الشكل العام للنص.. يراد له إلماما تخصصيا او عامة إذا كان النقد بمحدودية الاستقطاع، احتاج الكاتب عبد الرزاق الغالبي لأن يخلو بنفسه حين كتابة نصه المقالي هذا واعتمد الاتيان بالتأريخ الفكري أو العقلي ليسبر اغوار ما يريد إيصاله من خلال نصه هاته.

.. الاستدلال النفسي.. :

أختيار المفردات او الكلمات بشكل فلسفي لونه بألوان إخرى من حمولة الكلمة، مرة في سخرية ومرة بجد جعلت من المتلقي بين عالمين.. فإنتحار الكلام بين الشفتين دلاله نفسية واضحة ان الانتحار كان دون شاهد عيان، فلو كان كذلك لكان إنتحار المفردات على الشفتين، لأن الكاتب اختار المفردات بعناية.. لهذا برر ذلك ان مثل هكذا صياغة تزعج الكلمات و تصنع من الحلاوة مرارة.. فلوي المفردات فنا ايضا يستعملها من يجيد فرك اصابعه من هرج في ايصال رسالة ما.. والغالبي نجح في اتباع اسلوب يخصه هو طارحا تشريح نصه الى من يرغب ان يعيد بناء صياغته بمنظوره الخاص واعني القاريء.. لذا حين دخلت عالم هذا النص بمنظور عين الفسيفساء او منظور عين النملة التي ترى الاشياء من زوايا مختلفة عن البقية وبعيون متعددة وهذه خاصية لا تجيدها سواها.. لأنها تعكس رؤيتها على بلورة المقصود من المنظور من الصغر الى الكبر كلمة واحدة كفبلة بأن توصل رسالة كاملة.. الدلالات المتعددة في نص الغالبي.. اباح الكاتب الغالبي في نصه الى انه يعرف قاتله وسمح له بالتقرب منه الى حد كبير وقد نهل من معين ضيافته كمؤازر له، لكنه ما ان تمكن حتى استغل ذلك القرب بغرز سكينه في خاصرته وقد استعان بدلالته استحضار مقوله (حتى انت يا بروتس) لما تماثل له من ان الغدر لا يمكن ان يؤطر بعلاقة صداقة او قرابة او صحبة.. العرض المسرحي كدلالة ابعد فلسفيا شرع الغالبي في مسرحة نصه منذ البداية فقد وضع الخطوط بشل متوازي كي تنال حظوتها من القاريء دون ان يتناسى الدهشة!!! التي ستتركها المفردات على وجه المتلقي، فمسحة نصه أضافت له الابعاد النفسية والسايكلوجية بشكل بات مسرحا عالمية وليس مجرد نص للقراءة.. لم يستهلك ادوات الابهار حين اشار الى مقارنة وإن كنت أراها بعيدة لكنه استحضر العناوين او المقولات كي تكون هناك مفارقة الاحداث مكررة لا تحدها زمكانية، فمحورية العناق بين المفردات لا يمكن ان تتماشى بين الشخصيتين رغم انه بَيّن ان ما قيل كحكمة او مقولة هي المعني لا الشخوص.. دلالة استرجاع الصراع الازلي.. استخدم الصراع عنوانا آخر ليعطي محاكاة تأريخية بأن الصراع أزلي و لا يمكن ان تجمعه صورة واحدة او مقولة، ان التصرف في اللجوء الى الامثال هو بمثابة إلقاء اللوم على اي جرأة يمكن ان يحسبها المتلقي عصيان او خطأ او لوم اي اعتبارها احداث سابقة حصلت من قبل

الإستدلال الفلسفي:

وجنح الكاتب الغالبي نحو الفلسفة ليحسن الأقتضاب والهروب من الإسهاب والحشو فاختار مفردات محملة بالإفك اللغوي بعد ان صاغ عنوان رسالته حول الاحسان ذكر البعد العميق لذلك الاحسان مستحضرا مقولة للامام علي عليه السلام ( إتق شر من احسنت إليه) فمن اكثر بلاغة من نفس الرسول بتلك العبارة تلافى اي جلبة يمكن ان تثار فهو اجاز لنفسه ان يستخدم العبارات لا الشخوص في مقارنه الواقع البعيد البعيد، والبعيد القريب، والقريب البعيد.. والمستقبل القريب البعيد، هذه لا يمكن ان تتبلور إلا من خلال فلسفة عين النملة النظرة الفسيفسائية للاشياء.. فالإنسان حين يرى الاشياء بعينه المجردة براها مقلوبة معكوسة، بيد انها تدخل الى الدماغ كأشارات تُعدل الصورة بعدها كي تكون معتدلة.. اما منظور عين النملة فهي ترى الاشياء من خلال عيون كثيرة تتعشق الصور من ابعاد مختلفة حتى تكون صورة واحدة سواء وهي صغيرة او حين تكبر بالتدرج.. وهذا بالضبط ما حصل في نص الكاتب عبد الرزاق الغالبي الذي استطاع ان يوزع صور نصه بعناوين مفردات فلسفية ممسرحة الى حد كبير وأمثال كي تصل الرسالة من عدة مداخل مع وجود عامل الابهار في صياغة النص الذي رامه شكسبيريا و لعله حين عرج على اختلاف التجربين كان غرضه لا مقارنة الشخوص بل ما قالاه.. فشتان بين انسان لا يملك من القول شيئا الى انسان هو القول كله.. دلالة بمنظور فلسفي و نفسي.. لا اخفي ان الغالبي صنع من نصه نصا لا يمكن ان يصيغه سوى قيادي متمكن من ادواته وذلك ما طرحه و بينه مقارنه بين أمة الامام علي عليه السلام التي قادها و بقي إرثها، وبين من قاد جيلا في فترة زمنية خبت إلا من سطور.. إن تجدد الافعال بين عامة الناس بالنسبة للمقولتين خصخص الفئات وحتى الطبقات و الحقب المتعاقبة بين من يمكنه ان يستلم الرسالة او يأخذ عبرة عنها، والغرض أعمق من طرح النص بهذه الكيفية الفلسفية، فليس كل من يقرأ النص يفهم المعنى او الغرض.. إن الغالبي طرح نصا عبقريا فكل من يقرأها يمكنه ان يفصله رداء يرتديه على ما واجهه في الحياة من مغباة صحب او اصدقاء او اقارب او اغراب.. إن الثيمة التي صاغها لا تتوقف على زمن معين او تصرف عابر مر و انتهى، بل هي متجددة ما دامت الحياة ومغرياتها.. ولعله حين تسائل عن مستلم الرسالة الثاني شبيه بمستلمها الاول.. دلالة ان الاحقاب يمكن ان تتغير لكن النفس البشرية لا تتغير وإن بدا عليها التحضر والتمدن، كما اجاب مؤكدا ان هناك اختلاف إنساني و ليس عقائدي مبينا ان طرحه ليس عقائديا لكنه إنسانيا.. و الانسان تحكمه الغريزة الحيوانية و الأنا الى جانب عامل الغيرة و الطمع و الخيانة.. الخ من سلبيات اجتماعية تتنامى مع النفس البشرية التي تحمل مؤهلات الاصابة بتلك الامراض.. الدلالة الزمكانية.. الرسالة الاخيرة التي وجهها الغالبي الى صاحبه الذي يعنيه بنصه حيث انه يتوقع ان يصدر فعل آخر اشد شناعة او اكثر غدرا، فاستعرض خاصرته رغم توقعه الغدر وهي اقل وطأة، عكس يوليوس قيصر الذي كانت خاصرته لا تعلم من اين سيأتيها الغدر، لذا كانت وطأة الغدر اكبر واشنع خاصة حين رآها جاءت من صديق مقرب إليه في زمكانية لم يحددها الغالبي لكنه تركها الى الظروف التي تحكمها الاقدار، ولعل الدلالة تبقى مستمرة الى قيام الساعة فالزمكانية في النص مفتوحة كون حدث الخيانة والاحسان عاملان لابد من تواجدهما في وقت واحد دون زمكانية تحدهما..

الإستدلال الأخلاقي:

الأخلاق في الأدب هو جنوح وإمتثال للمثل العليا في الكتابة لتكون نموذجا في تربية المجتمع الموجة رسائل الأدباء نحوهم وهنا تمكن الكاتب الغالبي بتوجيه عدة رسائل أخلاقية متماثلة:

الرسالة الأولى: الغدر.. بمهوم الخيانة.. والخياة.. بمفهوم الغدر ولخصها بقول مشهور:

حتى أنت يا بروتس

الرسالة الثانية: ألإحسان.. بمفهوم الشر ونكران الجميل.. الشر.. بمفهوم الغدر وسكين الأحسان

مكان المقارنة الأخلاقية في تلك الرسالتين مقارنة فلسفية نفسية مزج الكاتب في هذا النص بين السايكولوجية والفلسفة والأخلاق كدرس مدرسي في مدرسة الحياة..

النص الأصلي:

قد يكمن في الإحسان شراً..!

عبد الرزاق الغالبي

قالها مرة وانتحر الكلام بين الشفتين.. قول كهذا يزعج الكلمات ويصنع من المر حلويات.. مفارقات تفوق الاتفاق وتعلن عجز القادرين، تلتفت حولك وسكين يغرز في خاصرتك من أعز مؤازر،قاسمك الألم مرارا وفوق عقرب ساعتها سبب في موتك.. عمرك سمعت عن ميت يئن في قبره وترتسم فوق قبره علامة استفهام..!؟ المغدور لا يموت مادامت علامة الاستفهام تصنع الأسئلة..!

اعتقاد لم يمر في بال شكسبير حتى،ولو كان عميقا بفلسفة الخيانة،فقد أطلقها بقول بسيط فوق قارعة الحضارة: (حتى أنت يا بروتس)، شأن جعله مسرحي العصور،عادته أن يدخل مبدأً فلسفياً في كل مسرحية،و لم يبلغ العمق الفلسفي عند يوليوس قيصر لو تماثل قولاً مع الإمام عليّ(ع) بتوازٍأخلاقي،حين صاغ ذات الأمر بمقولة أقوى من مقولة قيصر،و جعلها صراعاً أبدياً بين خير وشر،وليس غدر وخيانة - اتقاء شر يقابل إحسان-: (اتق شر من أحسنت إليه..) والفرق بين القولين يحكمه مبدأ القوة بالتعبير، والصدق في النوايا، تتدلى القوة دوما من تجربة الجمع و أخلاقية الجزء، يمر بها أصحاب القولين،والقول مرآة الشخصية،حتما ستغلب شخصية الثاني لكونه قاد مجتمعاً بأخلاق عظيمة،لكن الأول كان رجلاً متواضعاً في قيمته الجمعية والمقارنة بين القولين تعني المقارنة بين التجربتين..

علي قاد أمة، خليفتها الرابع وشكسبير قاد أجيالاً ولم يقد أمة،فاختلاف التجربتين يفرض القوة بين القولين،فالقول رسالة وقائله باعث ينشد درساً بتضمير مساو لمسؤؤولية المرسل ومحصلة المستلم وعمق تأثير الرسالة.. فهل ياترى مستلم رسالة الثاني شبيه بمستلم رسالة الأول،حتما هناك اختلاف انساني وليس عقائدي لكون المسالة يتلبسها الانجاز بالفعل وليس بالقول،الغدر أقبح خيانة والخيانة أقبح غدر.. ويتفق الطرفان..! تأخر صاحبي كثيراً وتجاوز حد المبدأ المرسوم، إن لم تفعلها اليوم فغداً قريب،و خاصرتي لا تزال تنتظر سكيناً سيصلها،حتماً،في غفلة من زمكانية الزمن مادام قيصر لن يموت وماقيل عن تجربة أضحى معياراً..

***

بقلم الناقد الذرائعي : عبد الجبار الحمدي

5/202

تعرية المسكوت عنه في "لعبة الدوائر الفارغة" للكاتب العراقي "علي لفته سعيد"، الصادرة عن دار العراب/ دمشق/2023 ودار الصحيفة العربية / العراق.

شهدت مادة روايات ما بعد 2003 التحولات العنيفة التي مر بها المجتمع العراقي بعد الإحتلال الأمريكي والذي عمل على تمزيق العراق كهوية بتضخيم أقوامه وطوائفه والصراعات الدموية والقتل على الهوية تمهيدا لبناء عراق طائفي جديد وما تركه من معضلات وقضايا شائكة لا تزال تُعمل في النسيج العراقي إلى تشظي الوطن عندما تنازعه لصوص الطوائف بأحزابها المتبرقعة بالدين.

ونجد الكاتب علي لفته وهو ابن هذا الواقع بضبابيته وفوضاه قد كتب تحت سطوة الحدث وبذلك يكون قد وثق للحدث في عمله لعبة الدوائر الفارغة ما أنتج صنعة أدبية تزخر بالجمال لأنها توثق مشاعر وانفعالات اللحظة التي عاشها من تمزق . حيث تعد الكتابة الروائية تعبيرا عن تفاعل الكاتب مع واقعه وظروفه.

واعتمد علي لفته في عمله على تقنيات تجريبية جديدة اخترق من خلالها تابوهات المثلث المحرم ليس لشيء إلا لتصحيح المسار وتسليط الضوء على أمراض اجتماعية تتعلق بهذه المحرمات التي يزخر بها المجتمع العراقي والذي أفرزته فوضى الحروب.

فنحن أمام عمل يكشف وجود المسكوت عنه وحضوره في اللاوعي الفردي والجمعي. وتيمة المسكوت عنه لبنة أساسية في الخطاب المعاصر كونها تعالج موضوعات غير مصرح بها كانت ممنوعة من الطرح في وقت مضى. وقد جاءت لعبة الدوائر الفارغة كخطاب متحرر يعري التابوهات ويغوص في حيثيات المحرم السياسي والديني والجنسي فكسر الصمت،اخترق الساكن وفضح المستور.

وظف علي لفته هذه التيمة كما ذكرنا سابقا ليعكس واقع العراق الراهن المتأزم حيث تنبني جلّ أحداث العمل في بيتين فخمين أحدهما أقرب للقصر في حي راق لا يشبه الأحياء الشعبية في مدينة بغداد والزمن جائحة كورونا.

العنوان وهو العتبة الأولى للنص يختصر المضمون في كلماته الثلاثة لعبة الدوائر الفارغة،لعبة لم يتقنها أبطالها حيث يجعلها الكاتب مرة خارجها وأخرى على حوافها وثالثة داخلها ،هي لعبة السياسة والدين والجنس من يدخلها يخرج خاسرا خالي الوفاض لا يحمل سوى أدرانها ،لعبة مصغرة عن واحدة أكبر منها مضمونها رضوخ الشعوب وصمتهم حتى كأنهم دمى وأدوات بأيدي حكامهم.فعلى لسان أبي جاسم موجها كلامة لجاريه ابي عدنان وأبي سرحان ص178" عليكما أن تفهما أنها لعبة تشبه الدوائر الفارغة ،لا شيء يمكن الوصول فيها على نتيجة".

تكشف رواية لعبة الدوائر الفارغة، مجموعة من المحضورات والممنوعات التي تمس القضايا الدينية ومنها المتمثلة في شخصية المسلحين الذين يقاتلون باسم الدين حين اقتحموا بيت أبي عدنان واغتصبوا زوجته عالية وسجلوا عملية الاغتصاب وعرضوها أمام الزوج لإرغامه على الالتحاق بهم ففي ص52 عن عالية على لسان السارد" حين فتحت عينيها وجدت أحدهم يقف فوق رأسها ويصور وجهها وأسفل المسلح" وفي ص53 على لسان عالية لزوجها" ضاجعوني خمسة".

حيث يتبين لنا من هذا المشهد تجاوز هؤلاء لشرع الله في إحلال ما حرم.

كما يتجلى للمتلقي اختراق المحظور الديني من خلال شخصية أبو سرحان الذي يعلم أن مصدر أمواله وطعامه من سكوته عن زوجته التي تمارس الرذيلة ففي ص63 على لسان وعد لزوجها" الزوج الذي يرسل زوجته لتأتي بالطعام دون إعطائها دينارا عليه ألا يشك".

أما ما يخص كشف المستور وهاجس الجنس فقد قدم علي لفته وصفا صارخا في غير مشهد جنسي وتحدث بجراة كبيرة عن المسكوت عنه.فالمراة في المجتمع العراقي مجرد وسيلة يستمتع بها الرجل ليخمد شهوته ففي ص146 عن ساجدة وزوجها " يسحبها إلى حضنه فتكون له مثل أنثى عطشة فيغدق عليها فخولة هائجة".

كما ويصور علي لفته تصويرا واضحا ومكشوفا للانحلال الخلقي في المجتمع مجسدا في شخصية البطلات ساجدة ،عالية،وعد فعلى لسان ساجدة ص104"أول رجل فتح زر قميصي ليرى جزء من نهدي كنت فيها أرتعش ..لكني تركته يفعل ما يشاء ولولا سماعه الأذان لتمادى أكثر لكني حصلت على توقيع عقد استيراد ثريات إلى أخد المشاريع الرئاسية". ففي هذا المشهد أراد الكاتب تعرية الواقع ونزع الحجاب عن المسكوت عنه من خلال تصوير الحياة الاجتماعية الفاسدة التي تتلذذ بالمحرمان وتغوص بالمجون ،فالأجساد أصبحت معرضة للبيع والشراء كأي سلعة مقابل ثمن دسم.

كما تصور الرواية عجز الازواج من خلال شخصية وعد حيث تركض خلف غير زوجها العاجز جنسيا والذي تعرض لإصابة أثناء تفجير لسد جوع شهواتها الجنسية وحرمانها ويظهر هذا ص35"قارنت بينه وبين بائع أجهزة الهواتف المحمولة الذي أراد مراودتها لقاء منحها هاتفا جديدا....كانت أسرع في اللهاث ليس خلف جهاز الهاتف بل لمقارنة أنوثتها كيف تتفجر".كما وتعتبر رواية لعبة الدوائر الفارغة مرتعا خصبا لتابو السلطة والفساد السياسي فقد أقدم الكاتب على خرق الواقع السياسي فتناول تساقط المنظومات القيمية وثوابتها السياسية طوال العقود المنصرمة وتداعي أنساقها المجتمعية بفعل الإذلال والإقصاء بعد أن كرست التحولات السياسية الجديدة قيم المحاصصة المبنية على الطائفة والدين والعرق وقد اتضح هذا ص114 عندما جاءت على لسان مالك المطعم لمنتظر عامل الدليفري"لا تقل لي حكومة محاصصة وتعيينات خاصة.هذه تجدها في كل المراحل وكل الدول...لا دولة بلا محاصصة ولا واسطة".

ففضح بذلك علي لفته خلتل اختراق المسكوت عنه مجموعة الممارسات التي تتجرأ السلطة على اقترافها ضد الشعب الذي ذاق ويلات الحروب على مدى عقود ويذوق الآن ويلات الانقسامات والطائفية.

كما يتطرق الكاتب إلى ظاهرة الهجرة غير الشرعية بسبب انعدام الأمان والكرامة وقد جاء هذا عندما اقترح أبو عدنان على زوجته الهرب عن طريق تهريبهم إلى الأردن ص23.

كما تناول الكاتب في روايته موضوع الإرهاب وهو مصطلح سياسي ديني بطريقة مكثفة وغاص في بحر الحقائق لينقلها للمتلقي بكل جرأة وصراحة وأنهم جماعة متطرفة ذوي عقيدة خاطئة تقتل باسم الله والدين فهم يتبعون ما يتماشى مع مصالحهم وأيديولوجياتهم وكل من يريد أن يسلك مسلك هذه الجماعات لا بد ان يغير مظهره ولباسه.كما ونتلمس في لعبة الدوائر الفارغة قضية جهاد النكاح وهذا ما جاء على لسان قريب أبي سرحان ص67" عليك نسيان تلك الكافرة..هنا يمكنك الزواج من اية فتاة تختارها" وهنا عمد الكاتب ان يبين كيف تتم عملية غسل الدماغ.

بقي ان نقول بأن علي لفته استطاع التقاط الجمال من القبح والقيمة الإنسانية من خراب الروح في دوائر فارغة وسط ضجيج سيهدأ يوما ليسمع لعبة تلك الدوائر صوتها للعالم.

***

قراءة بديعة النعيمي

(الأصعب هو امتلاك الفكرة، والأسهل قطع الرؤوس)... دوستوفسكي.

رواية «عروس الفرات» للكاتب علي المؤمن، صدرت عن دار روافد في بيروت في العام 2016، وتقع في (240) صفحة، وتتألف من ثمانية فصول.

ملخص الرواية

الرواية تحكي مأساة عائلة عراقية نجفية (أباء، أبناء وأحفاد) من سكنة محلة الحويش، يتم تصفيتهم بالكامل من قبل رجال الأمن بعد تعرضهم للاعتقال التعسفي، نتيجة اشتراك عدد من الأبناء في تنظيم سري إسلامي معارض للنظام الحاكم في ذلك الوقت. تتألف هذه العائلة من الأب (عبد الرزاق حسين الموسوي) وزوجته (حليمة نوفل جاسم) وأولادهما:

ــ (الدكتور عادل) وزوجته (نور) وطفليهما (هشام وآمنة)

ــ (أحمد) الموظف في مديرية شرطة النجف، وزوجته (ياسمين) وطفلهما (علي)

ــ (صلاح) خريج كلية الهندسة، حديث عهد بالزواج، وزوجته (زهراء)

ــ (ياسر) طالب في المرحلة المتوسطة

ــ (شيماء) طالبة في المرحلة الثانية في كلية طب الكوفة.

بعد أن يتم اكتشاف خلايا التنظيم، يهرب دكتور عادل مع زوجته وطفليه من النجف إلى بغداد، وعندما يحاولان الهرب خارج العراق بجواز مزوّر، يتم القبض عليهما، ليُعدما لاحقاً مع طفليهما في أحد معتقلات الأمن. صلاح هو الآخر يُلقى عليه القبض أيضاً ليُعدم سريعاً. أما أحمد فيحاول التخفي عن أنظار رجال الأمن، ولكن يُلقى عليه القبض، ثم يُفرج عنه لعدم وجود أدلة واعترافات ضده، ولكنه يُساق للاشتراك في جبهة الحرب بين العراق وإيران، ومن هناك يقرر الهروب إلى إيران وينجح في ذلك. وفيما كانت قوة من رجال الأمن تحاول اعتقال بقية عائلة عبد الرزاق، يتعرض ياسر للقتل بعد أن حاول المقاومة.

في المعتقل تتعرض العائلة لأبشع أنواع التعذيب والتعسف وهتك الأعراض، بإشراف النقيب (فلاح) أحد أشرس ضباط جهاز الأمن، وجلاوزته الغلاظ، فيُخنق الطفل علي من قبل أحد رجال الأمن كوسيلة ضغط على العائلة، ويموت الأب عبد الرزاق كمداً وغيضاً وهو يرى ابنته شيماء تتعرض للاغتصاب أمامه، ليتم إعدامها هي الأخرى لاحقاً، وتفقد الأم رشدها بعد صدمتها جراء ما حدث، ليتم تسفيرها مع كنّتها ياسمين إلى إيران بحجة التبعية والخيانة؛ فتموت الأم نتيجة إصابتها بلغم عند الحدود، وتصل ياسمين سالمة بعد معاناة كبيرة، لتلتقي بزوجها أحمد لاحقاً في أحد مخيمات اللاجئين العراقيين في إيران.

العُنف والقمع والاعتقال في الرواية العربية

رحم الله نزار قباني الذي عُرف بنقده اللاذع لسياسات الانظمة العربية، وبسخرية تقترب من الكوميديا السوداء:

(هل تعرفون من أنا؟

مواطن يسكن في دولة قمعستان..

فأرض قمعستان جاء ذكرها في معجم البلدان

ومن أهم صادراتها

حقائباً جلدية

مصنوعة من جلد الإنسان)(1).

يلجأ النظام الحاكم غالباً في منظومة العالم الثالث، ومنها منطقتنا العربية، للعنف والقمع والاضطهاد لمواطنيه، لضمان تشبّثه بالسلطة واستمراره بالحكم إلى أطول فترة ممكنة، وكأنه يتعامل وفق القاعدة الميكيافلية: (الغاية تبرر الوسيلة).

موضوعة (ثيمة) العنف والاضطهاد السياسي والاعتقال وممارسات التعذيب وثنائية الجلاد والضحية الذي تطرقت له رواية «عروس الفرات»، سبق وأن تم تناوله كثيراً من خلال عشرات الروايات العربية، ولعل أهمها: رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، رواية «الوشم» لعبد الرحمن الربيعي، رواية «مكان اسمه كُميت» لنجم والي، رواية «خضر قد والعصر الزيتوني» لنصيف فلك، رواية «العسكري الأسود» ليوسف إدريس، رواية «الكرنك» لنجيب محفوظ، رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، رواية «الحياة لحظة» لسلام إبراهيم، رواية «مقامة الكيروسين» لطه حامد الشبيب، رواية «سيرة الرماد» لخديجة مروازي، رواية «تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلّون، رواية «المدغور» عمل مشترك لبشير الخلفي ورحمة بن سليمان، وغيرها من روايات أخرى. هذه الروايات رسمت للقارئ العربي صورة السادية البشعة وشهوة القتل التي تتمثلها أجهزة المخابرات والأمن وخفافيش الظلام في البلدان العربية بصورة عامة. وإذا كانت بعض هذه الروايات كـ«شرق المتوسط»، و«الوشم» لجأت إلى لغة التشفير، فلم تكشف هويتها المباشرة والبيئة الحقيقية التي تناولتها، وتركتها للقارئ أن يكتشف ذلك بنفسه على اعتبار أن البيئة العربية متشابهة لتوظيف هكذا (ثيمة) ، فإن روايات أخرى قد كشفت ذلك القناع مكاناً وزماناً واسماً صريحاً، كروايات «الكرنك»، و«العسكري الأسود» في مصر، ورواية «المدغور» في تونس، ورواية «سيرة الرماد» في المغرب، وروايات عراقية كثيرة، ومنها رواية «عروس الفرات».

تحليل الرواية

(ليس المطلوب من النقد أن يشرح أو يوضح، مطلوب منه أيضاً أن يضيف، أن يعيد صياغة الجمال ضمن مقولاته الخاصة)(2).

تدور أحداث رواية «عروس الفرات» بدرجات متفاوتة بين النجف، وبغداد، ومعتقل الأمن، والحدود العراقية الإيرانية، ومعسكر اللاجئين العراقيين في إيران. وزمان الرواية بين الأعوام 1979 و1982. تناوب أدوار البطولة في الرواية عدّة شخصيات بدرجات متفاوتة أيضاً: الأب عبد الرزاق، الابن دكتور عادل، الابن الثاني أحمد، البنت شيماء، زوجة أحمد ياسمين، والنقيب فلاح في جهاز الأمن، وهو ما يُعبر عنه في أدبيات النقد بـ(البطل الضد).

اتسمت الرواية بالبساطة والوضوح والمباشرة والواقعية والتسجيلية، وهي تعد وثيقة مهمة لحقبة قاسية مرّ بها العراق وهو يرزح تحت ثقل نظام يحبس الأنفاس، ويحكم بقبضة من حديد؛ حيث كشفت الرواية (وهذا ليس خافياً على أحد) الأسلوب القمعي لذلك النظام الشمولي الذي يسحق الناس كأنما يسحق نملة، من دون رحمة ولا شفقة كما جاء على لسان فلاح النقيب في جهاز الأمن: ((السيد الرئيس منع دخول الرحمة إلى أجهزة الأمن والمخابرات، لا طفل.. ولا عجوز.. ولا شاب.. ولا فتاة.. الكل سواسية.. مجرمون.. جواسيس.. عملاء. بشرفي سنسحقكم كالنمل.. أولاد العاهرات.. يريدون أخذ الحكم منا!))(3).

لقد عبّرت الرواية وبصدق عن موضوعة الاضطهاد السياسي في العراق خلال حقبة النظام البعثي الفاشستي، وتداعيات هذا الاضطهاد من معاناة وتوترات وانفعالات نفسية حادة، تجسّدت بشكل واضح على حياة شخصيات الرواية. كما جاءت الرواية لتكون شهادة حقيقية ومهمة من صور التضحية والبطولة لمعتقلي الرأي.

تناول السرد في رواية «عروس الفرات» ثلاث شخصيات: الراوي العليم وله حصة الأسد في السرد، وأحمد الابن المطارد من قبل أزلام السلطة، وزوجته ياسمين. ولكون هذه الرواية تنتمي لما يُسمى بالرواية السياسية من جهة، ولأدب السجون من جهة أخرى؛ فمن الطبيعي أن ترصد الرواية الأبعاد النفسية والسيكولوجية لشخصياتها، من خلال كشف انفعالاتها وشعورها وهواجسها، وهي تعيش أزمة الصراع مع السلطة المتمثلة بجهازها القمعي (رجال الأمن) وقبضتهم الحديدية.

نجح الكاتب علي المؤمن في رسم وتصوير شخصيات روايته وسبر أغوارها، واستخدام لغة الحوار المناسبة لها، غير أننا نشكل عليه انحيازه الكامل لاتجاه فكري واحد (التيار الإسلامي)، كأنّ لا غيره في الساحة العراقية والعربية، حيث تتعدد التيارات والايديولوجيات والانتماءات بشكل واضح، وظلت الرواية حبيسة البعد الواحد؛ فلم تستثمر الجدل الثقافي والفكري المتعدد الأبعاد، الذي يتمظهر من خلاله الحوارات والآراء المختلفة، ولم تتخلص من تقليدية التجربة الشخصية الأحادية وضغوطها وصراعها غير المتكافئ مع السلطة؛ فجنحت الرواية إلى ما يُسمى برواية الصوت الواحد، الذي يقف خلفه الكاتب مهيمناً بأيديولوجيته وفكره.

شيماء: عروس الفرات

(في السجن، كل شيء يُعرض أمام أعين الجلاد وسياطه، ويكون الجسد هو الموضوع الذي يمارس عليه الجلاد ساديته)(4).

يُعد محو الجسد وقمعه، أحد تمظهرات رواية ما بعد الحداثية التي يلجأ إليها الكاتب العربي؛ فيستدعي الواقع السياسي المأزوم الذي يُدار من قبل أنظمة شمولية مستبدّة، تقوم على مصادرة الآخر وتهميشه وإلغائه وإذلاله، وصولاً إلى محو جسده بصورة نهائية؛ فتكون التصفية الجسدية هي جزء رئيس من سياسة السلطة المستبدّة.

عنوان رواية «عروس الفرات» يشي بوجود ضحية، وهو عنوان يتناص مع أسطورة (عروس النيل)، عندما كان المصريون القدماء يلقون بأجمل الفتيات في نهر النيل في موسم الفيضان كقربان له. والقربان في رواية «عروس الفرات» هي شيماء عبد الرزاق الموسوي، وذنبها أنها شقيقة لشخص مطلوب للنظام وهارب خارج البلد.

في فضاء المعتقل وهو بحسب أدبيات النقد، المكان المغلق والمعادي، يتم انتهاك جسد (شيماء) بشكل صارخ عندما يتجرد الجلاد من طبيعته الإنسانية ومن كل القيم، ويتحول إلى ذئب كاسر يفتك بالضحية متجاوزاً كل الخطوط الحمراء التي وضعتها الشرائع السماوية والقوانين الدولية والأعراف الاجتماعية؛ فتقدم لنا «عروس الفرات» هذا المشهد المؤلم: ((أعطى النقيب مساعديه إشارة البدء؛ فاندفعوا نحوها بشوق، وبحركات ماجنة، وراحوا يتناوشون ثيابها بأيديهم شدّاً وتمزيقاً واستلالاً، حتى عرّوها تماماً من كل ملابسها.. وهي تستنجد بالله ورسوله وأهل بيته. وقفوا ينظرون بعيونهم الشرهة إلى جسدها المرتعد الأوصال خوفاً واستحياء. غمز النقيب إلى أحد مساعديه، الرجل القصير، الضخم الجثة، المفتول العضلات، ذي الكفين السميكتين، والرأس الأصلع.. همهم النقيب هاتفاً بالأمر: أنا بشوق لأمتع ناظري. ابتسم المساعد ابتسامة صفراء، كأنه يعد نفسه لتنفيذ أمر رئيسه بلهفة. كمّوا صوت شيماء بخرقة قماش لفوها على فمها الدامي، فلم يعد يدوّي في أنحاء الغرفة، ولا في أرجاء المبنى، لكنه بقي مدوياً.. يصرخ في طوايا الضمائر.. لا يخرس الزمن صداه..))(5).

وإذا كانت بعض الروايات العربية قد عبّرت عن انهزامية السجين السياسي أمام الجلّاد، مثل روايات «شرق المتوسط»، و«الوشم»؛ فإن رواية «عروس الفرات» عبّرت عن الموقف البطولي والثبات على المبدأ، من خلال موقف الإباء والشموخ لدى شيماء: ((شيماء كانت أشبه بالثورة المتأججة، بالبركان المتفجر، وهي تشاهد ابن أخيها قتيلاً، فاختلطت صرخاتها مع صدى ضرباتها العنيفة للجدار برأسها: يا ذئاباً نتنة.. يا كلاباً مسعورة.. أتكتبون سطوراً في الولاء لرئيسكم القذر.. بدم الطفولة المسفوحة.. هاكم دمي يا قتلة فخذوه. كانت هذه الكلمات كافية لتستحيل شيماء إلى كتلة من الدماء حتى أغمي عليها))(6).

جاء اغتصاب (شيماء) في زنزانة الأمن وإعدامها لاحقاً، وإعدام أفراد عائلتها، ليعبّر عن اغتصاب وإعدام للوطن وللأرض وللمجتمع، وجاء كمحاولة ساذجة وسخيفة ومتهورة لاغتصاب ذاكرة الشعوب ومحوها من الوجود. أقول ساذجة وسخيفة ومتهورة لأن ذاكرة الشعوب لن تموت، الجلاد هو من يموت في نهاية المطاف، طال به الزمن أم قصر. ولا شكّ أن استدعاء رواية «عروس الفرات» لفعل الاغتصاب، إنما هو إدانة صارخة للنظام السياسي الذي سمح وشرّع لهذا الفعل. ((في هذا العصر العربي الزنيم العاهر، وفي مواجهة هذه الكوكبة المتألقة، والتي تملأ سماء الوطن، وفي ظل أعتى القوى والأساليب الهمجية؛ فإن كلمة (لا)، هي البطولة بذاتها. وكلما كانت (لا) مصقولة أكثر، نافذة أكثر، قوية أكثر؛ فقد قلت لعصرك ما يجب أن يقال، وقلت (للأقوياء) رأيك فيهم، وسميت الأشياء بأسمائها الحقيقية.))(7).

***

عبد الله الميالي - كاتب وناقد أدبي من العراق

...................

الإحالات

(1) نزار قباني، ديوان (قصائد مغضوب عليها) ص24، منشورات نزار قباني، بيروت، 1986.

(2) عبد الرحمن منيف، رسائل عبد الرحمن منيف، مجلة نزوى، العدد 84، أكتوبر 2015.

(3) علي المؤمن، عروس الفرات، ص171.

(4) سعيد بنگراد، مجلة علامات، العدد 23، يناير 2005.

(5) علي المؤمن، عروس الفرات، ص204 ـــ 210.

(6) المصدر السابق، ص184

(7) عبد الرحمن منيف، رسائل عبد الرحمن منيف، مجلة نزوى، العدد 84 ، أكتوبر 2015.

 

الوقوف أمام الصرح الشعري للشاعر المرهف الأستاذ أبو فراس جابر الصنهاجي لا يخلو من لذة وجمالية. فشعره يتضمن وعيا جماليا نتعرف من خلاله على ذاتيته ومتخيله، وإحساسه بالجمال في أنقى تجلياته. وهو انعكاس لأحاسيسه وتفاعله مع الكون. الشيء الذي يضعنا أمام تجربة شعرية ثرية ومتنوعة . وهذا ما نلمسه بوضوح ونحن نبحر في رحاب ديوانه ونخوض في عبابه مستمتعين بدرره الساطعة مستضئين بنور أقماره المشرقة.

يقع ديوان أحرقت مراكبي المولود الجديد للمبدع أبو فراس في مائة وأربع صفحات، ويتضمّن أربعا وعشرين قصيدة، تتوزع بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة والقصيدة النثرية، مع تقديم راقٍ للناقدة التونسية نجلاء المزي. والولوج لديوان الشاعر أبو فراس الصنهاجي يقتضي منّا أن نطأ عتبته ممثلة في عنوانه أحرقت مراكبي، وهذا العنوان يحيل إلى حدث فتح الأندلس كما أشارت إلى ذلك الناقدة التونسية، هذا الفتح الذي كان بطله طارق بن زياد القائد المغربي وأمير طنجة الأمازيغي الأصول، الذي قاد جيشا أغلب أفراده مغاربة.

اعراب العنوان

أحرقتُ: فعل ماض مبني على السكون والتاء المتحركة ضمير متصل في محل رفع فاعل

مراكبي: مفعول به منصوب بالكسرة النائبة عن الفتحة للتعذر وهو مضاف والياء ضمير متصل في محل جر مضاف إليه.

العنوان مقتبس من قصيدة عمودية تحمل نفس العنوان، تتميز بزجالة في اللفظ و تجويد في المعني. يقول الشاعر: ص 52

أيغريك أني أتيتك حافيا

وأحرقت المراكب والخياما

ألا هزي سهما بعين رميته

أصاب قلبا تغنى بك وهاما

قصيدة تمتح من قاموس الشعر العربي الأصيل وهذا ما نلمسه من خلال الحقول المعجمية لهذا النص و"يقصد بمفهوم الحقل المعجمي مجموع الألفاظ التي تتعلق بموضوع معين" : حقل العشق (وشوقاه، بعشقها..) وحقل الحرب (السهام، المراكب، الخيام، الخميس، رمح، قائد...) وحقل الطبيعة (البدر، النجم، الأفنان، الورود نسيم الليل) وحقل الطيور (الحمام، الباز... إلخ

إذا تجاوزنا العتبة وولجنا المتن، فإننا نجد أنفسنا أمام فيض جمالي دافق يتشرب لغته من الموروث الثقافي العربي سواء القديم أو الحديث الحامل لجينات تاريخ الهوية المغربية المتأصلة التي تميز المغاربة عن غيرهم من الشعوب، لأنها تؤسس لعلاقة وجدانية راسخة بين الذات الشاعرة ووجدان الأمة. والملاحظ أنه يمكننا الوقوف من خلال القصائد العمودية وهي كالتالي:

1) ابتهال

2) عبير وردة

3) أحرقت مراكبي

4) شموع المدارس

5) مهاجر إليك ناسك

6) رجوع إليك

على الحضور الانساني، والعاطفي، والوصفي، وعلى تجربة الشاعر الجمالية من خلال التجليات والإشراقات الوجدانية. وهذا يتطلب منا إنصاتا دقيقا إلى هذه النصوص الشعرية، عبر البحث، والكشف والسفر، في التجربة الجمالية والإنسان والرؤيا والمعمار النصي. إن للحب لذة لا مثيل لها. جنة دنيوية. وعبقا صوفيا موسوما بالتماهي بين العقل والوجدان. والشاعر في هذه النصوص يؤكد على الصورة الشعرية، والموسيقى والإحساس والوجدان، والمخيلة. إنه يكشف لنا حبه لشعرية النص وقوته التعبيرية. وجدير بالذكر أن نصوصا مثل أحرقت مراكبي، وابتهال، رجوع إليك ذات صلة قوية بعمود الشعر العربي التي وضع لبناتها الأولى الجرجاني وأجمَل أركانها المرزوقي بقوله: «إنهم كانوا يحاولون شرفَ المعنى وصحته، وجزالةَ اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف ـ ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات ـ والمقاربةَ في التشبيهِ، والتحامَ أجزاء النظم والتئامها على تخيُّرٍ من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلةَ اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما. فهذه سبعة أبوابٍ هي عمود الشعر، ولكلِّ باب منها معيار»، فعمود الشعر له سبعة أركان تتحقق في القصيدة من غير قسمة على البيت لكل عنصر، لكنها تقع مواقع الاستحسان باعتدالها، وتأخذ منابر الكراهة بزيادتها واجتلابها. فنحن مثلا عندما نقرأ لأبو فراس قوله:

أنا الذي أمسك النجم سابحا

وجئت بالبدر خوفا أن يساما

نتذكر بَيْتَ المتنبي: “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي........ وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ

وهذا يوضح مدى تأثر شاعرنا بما عاشه وخَبّره على امتداد سنوات سواء من خلال دراسته الأكاديمية للأدب العربي أو تدريسه لمادة اللغة العربية فقد راكم ثقافة شعرية تجمع بين الشعر القديم والمعاصر متمثلا في تجربة الإحياء والبعث وتجربة سؤال الذات وتكسير البنية، ما أثر بشكل واضح في رسم مساره الإبداعي المتسم بالثراء والعمق. يقول الشاعر أبو فراس في قصيدة ابتهال:

ارحم والدي فضلا منك وكرما

واغفر بعفوك رَبِّي والخير لك

والزهراء فاطم بنت محمد

وسيد الشهداء الذي استنصرك

بحق الإمام الذي كرمت وجهه

فعاش للحق داعيا حتى لقيك

في هذا النص نلمس النفس الصوفي الوجداني لدى الشاعر ونلاحظ أن كلماته تبين كثافة العشق التي تملأ قلبه والنور الذي يغشى عينيه. والبياض الذي يصبغ دواخله. إن شعره يمثل واقعه. وبالتالي تتماهى الكلمات مع ذاته، وتصبغ صوره، التي نرى من خلالها أنها " الموهبة الخلاقة التي يتحكم بواسطتها الإنسان في القوى الكامنة في الطبيعة وفي نفسه" .

الديوان يضم أيضا قصائد نثرية. لغتها وصُورها الشعرية تعبر عن ذاته وعاطفته وتعكس طموحه في كتابة قصيدة شعرية حداثية. وقد اختار أبو فراس هذا الجنس الأدبي "كتقنية كتابية تعبيرية تعكس مشاعره وبوحه. واعيا بتقنيات قصيدة النثر كشعر حداثي من حيث البناء والتوظيف والتناص والسرد" . نقتطف من قصيدة وشم في الذاكرة هذا المقطع ص 78

كم أنت طيبة يا عزيزتي

وراقية يا سيدتي

هل تذكرين أيام كنا وحدين

أياما جاورنا فيها الموت

شاركنا العنكبوت المأوى

ونمل أحمر

والصرار كان يزورنا ليلا..يتفقدنا

كان ليلنا طويلا يا سيدتي

والشمس دائمة المغيب

تبحث عنا

لجوء أبو فراس لكتابة قصيدة النثر يمثل رغبة قوية لديه للتجديد ومسايرة التطور الذي يعرفه الشعر العربي الحداثي الذي راكم تجارب شعرية مؤثرة مع ظهور شعراء مبدعين من طينة أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس ويوسف الخال أغنوا هذه التجربة وساهموا في تطويرها وقد وجدوا ضالتهم التي ینشدونھا في كتاب (قصيدة النثر من

بودلیر حتى أیامنا) للكاتبة الفرنسية سوزان برنار وقد تبنت مجلة شعر الصادرة ببيروت سنة 1957 م معظم إبداعاتهم ومقالتهم التنظيرية، يقول يوسف الخال في العدد 6 ص 152من مجلة شعر:" " نحن نجدد في الشعر لا لأننا قررنا أن نجدد، نحن نجدد، لأن الحیاة بدأت تتجدد فینا، أو قل: تجددنا".ويقول أيضا في نفس المجلة:" أن الشعر تجربة شخصية كیانیة فريدة، وأنّ التعبير عنھا يجب أن یَتِمّ بتحرير تام من تأثير القوالب التقليدية الموروثة، والقواعد الموضوعة ". الأكيد أن هذا الآراء رغم جرأتها فهذا لا يمنع من التأكيد "أن الحداثة العربية ينبغي أن تنبع من الجذور العربية نفسها، ولا يمكن أن تكون صدى لسواها، ولا يمكن أن يكون هناك انقطاع مع الماضي أبدا " كما يؤكد جهاد فضل، لأن الملاحظ أن البعض ينظر لقصيدة النثر باعتبارها مطية ذلولاً، كما يحسبون، يبثون من خلالها خواطرهم من جهة، وباعتبارها من جهة أخرى تمثل حركة «الحداثة» الشعرية، التي انبثقت من الشعرية الغربية.

الشاعر أبو فراس لم يكتب قصيدة النثر إلا وهو مطلع على الموروث الشعري القديم سواء خلال العصر الجاهلي أو العصر الأموي والعباسي والأندلسي وكذلك له اطلاع واسع على الشعر العربي المعاصر وبالتالي فله رصيد قوي وأدوات فنية أكسبت نصوصه الشعرية النثرية. نلمسها في صوره الشعرية ذات البعد الايحائي والتعبيري يقول شاعرنا الأريب:

ينهض الشهيد في عنفوان

يقبل تربته

مسك وزعفران

على وسادة خضراء

كان متكئا

بردة عليه ناصعة البياض

سبع حجج خلت

وافيات على الفراق

يمشي مطمئنا بين قطوف دانية

يتوضأ من آنية من فضة

يتابع ورده في خشوع

يرفع سبابته. إلى السماء

يشهد أن منزله رحب

والمضيف كريم

يبتسم مشرق الوجه كعادته

2 - الصورة الشعرية والإيقاع:

الصورة الشعرية والايقاع: من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد. وتستند على مكونات ثلاث:

1) اللغة من خلال الألفاظ يوصل الشاعر المعنى

2) العاطفة وهي تعبير عما يخالج ذات الشاعر من أحاسيس

3) الخيال ويستند عليه الشاعر لنقل صور وتمثلات تتجاوز الواقع

ويجدر بنا التأكيد على أن هناك أيضا مُكوّنا التشبيه والاستعارة التي قد تكون صريحة أو مكنية و أصلها تشبيه حذف أحد طرفيه، .يضاف إليها أيضا الرمز والأسطورة والانزياح. فإلى أي حد نجح شاعرنا في منح المتلقي صورا شعرية ماتعة؟

إن سبر أغوار نصوص أبو فراس الصنهاجي يجعلنا نكتشف أنه اشتغل على تطوير الصور الشعري داخل النص حيث جعلها تتحرك وتُثري النص.فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفه للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال، ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية الزجلية، وهناك نماذج متعددة. يقول الشاعر أبو فراس في قصيدة عبير وردة :

زهراء البيت فاحت أريجا

كروضة تريحني من نصب

تطوف علينا سعيدة بمشيتها

كأنها بدر في بيتنا الرحب

ص47

في هذا النموذج نكتشف الاشتغال القوي للشاعر على الصورة الشعرية، وتوسله بالاستعارة المكنية حيث يحضر المُشبّه "المستعار له" وهو زهراء ويُحذف المشبه به "المستعار منه"، وهو الزهرة ويُكنّى عن هذا المشبّه به المحذوف بشيء من لوازمه وصفاته (فاحت أريجا)،يقول الشاعر:

نجوم زينت فضاء مدارسنا

إن السماء تزينها الأقمار

المراد بالنجوم هنا المدرسون والمدرسات الاستعارة هنا تصريحية حيث ذُكر فيها المشبه به "المستعار منه" النجوم وحُذف المشبه المستعار له وهو المدرسون. والاستعارة هنا تتجاوز مستواها الدلالي المتداول إلى المستوى الايحائي وذلك بتوظيفها ألفاظا تتجاوز معناها الحقيقي لتؤدي معنى ثانيّاً في بعد مجازي. يقول الشاعر قصيدة ص :

في تلك الليلة

من ليالي الحصاد الدافئة

كنا في غمرة نغازل النجوم

فينا وفي الأعين

الحالمة كنا

على ربوة ناعسة

والقمر يقظا يحرسنا

وعندما تحجبه غيمة

من غيوم الليل السريعة

نسرق رشفات بسرعة البرق

في هذا المقطع يستحضر الكاتب لغة خارجة عن المألوف ويستدعي ظاهرة الانزياح وهذا نلمسه في تشكيل لغته الشعرية، وتعميق محتواها الدلالي وامتيازها الشعري الذي يحفظ له بصمته الإبداعية، ويتيح له إثبات ذاته الفكرية. 

الانزياح في اللغة هو زوالُ الشّيء وتنحّيه، ويكون بمعنى ذهب وتباعدَ، وبذلك يكون في اللغة له علاقة بالذهاب والتباعد والتنحّي، أيْ تغيير حال معينة وعدم الالتزام بها، وقد ترتبط الدلالة اللغويّة بشيء غير المكان كقول: زاح عنه المرض أيْ زال عنه، أمّا اصطلاحًا فهو يُشبه دلالتَه اللُّغويّة فهو الخروج عن المألوف والمُعتاد، والتنحّي عن السائد والمتعارَف عليه، وهو أيضًا إضافة جماليّة ينقل المبدع من خلالها تجربته الشعوريّة للمتلقي ويعمل على التأثير فيه، وبذلك فإن الانزياح إذا يحقق قيمةً جمالية:

كنا في غمرة نغازل النجوم

فينا وفي الأعين

الحالمة كنا

على ربوة ناعسة

والقمر يقظا يحرسنا

الانزياح هنا دلالي حيث تنزاح الدوال عن دلالاتها الأصلية فتختفي الدلالات المألوفة لتحل محلها دلالات جديدة غير معهودة ولا محدودة:

نغازل النجوم

ربوة ناعسة

بالنسبة للإيقاع :يقول ابن فارس المتوفي سنة 395م ميلادية: "إن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة" أما عند ابن طباطبا فيرتبط الإيقاع باعتدال الوزن وصواب المعنى. في حين عند المحدثين فإن الايقاع هو التتابع والتواتر ما بين حالتي الصمت والكلام؛ حيث تتراكب الأصوات مع الألفاظ والانتقال ما بين الخفة والثقل ليخلقا معًا فضاء الجمال.. والايقاع:

1- داخلي يستند على الموازنة (يعني أن يكون البيت متعادلًا في الأوزان والألفاظ، ) والتكرار (هو مجموعة من الوظائف من أبرزها لفت الانتباه والتأكيد على المعنى ونحو ذلك)

2- خارجي و هو العروض والقافية.

فألى أي حد نجح الشاعر أبو فراس جابر الصنهاجي في تطويع نصوصه بشكل يخدم نسق التتابعات والإرجاعات ذاتِ الطابع الزمني والموسيقي، ليقوم بوظيفة جمالية مع غيره من عناصر تشكيل النص الشعري ؟وإلى أي حدّ نجح في صياغة شعره على النحو الموسيقي الذي يتناسب وخلجات نفسه ودفق مشاعره؟

أرجع محمد مندور في:" الشعر العربي: غناؤه وإنشاده وأوزانه» الوزن إلى كم التفاعيل، والإيقاع إلى النبر أو الارتكاز عن طريق تردد ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة.

النبر: " ظاهرة صوتية دقيقة تهدف إلى إبراز الصوت على مقطع من الكلمة. في العربية لا يغير النبر المعنى لكنه قد يساعد السامع على الفهم." سنأخذ كنموذج قصيدة أحرقت مراكبي: ص 52:

واشوقاه إليك يرفع المقاما

وهجر حبيب حملني الملاما

أيغريك أني أتيتك حافيا

وأحرقت المراكب والخياما

ألا هزي سهما بعين رميته

أصاب قلبا تغنى بك وهاما

في قصيدة أحرقت مراكبي نلمس جمالية الايقاع الداخلي من خلال التواشج اللفظي: "التقاء الكلمات في جمل في صورة او اكثر من جهة اللفظ، " مما يخلق تناغما داخل الاسطر الشعرية ويربطهما ببعضهما رابط موسيقى محبب يشد انتباه المستمع للقصيدة ونجده كملمح أسلوبي للسيطرة على الموسيقى الداخلية بشكل يحقق الانسجام ما بين الألفاظ والمسموعات اللتان تؤديان معًا إلى تحقيق الغاية التركيبية التي تؤدي إلى الوصول إلى غاية البلاغة والبيان. كما نلاحظ أن الصنهاجي استغل كل الإمكانيات الإيقاعية المتاحة لتحقيق تناغم موسيقي يخدم البنية الجوهرية للنص. فمن الاصوات المهيمنة على القصيدة اصوات حروف المد (الواو، والياء والالف) . وكما هو معلوم أن أصوات المد مجهورة والجهر سمة صوتيه، وهي من الحركات الطوال تحمل الينا من خلال سياقها احدى خفقات التهيب والحيرة التي تسيطر على نفس شاعرنا فتصيبها بالحزن والكأبة. يقول الشاعر ص 52:

والأعمال بخواتيمها حدثنا

أصحابي هيا نحسن الختاما

على جزرة عضوا بنواجدهم

فنسوا دعوة حملوها أعواما

بالنسبة للقافية وهي الحروف التي يلتزم بها الشاعر في آخر كل بيت من أبيات القصيدة. وتبدأ من آخر حرف ساكن إلى أول ساكن مع الحرف المتحرك الذي قبل الساكن.

بالنسبة للبيت الأول فالقافية هي لَامَا بألف مشبعة

بالنسبة للروي الحرف الذي تُبنى عليه القصيدة فيقال : قصيدة بائية أو رائية أو دالية. فالروي في بيت الشاعر الصنهاجي هو الميم وبالتالي قصيدته ميمية.

هذه في أخر الأمر مجرد قراءة انطباعية بسبب ضيق الوقت لديوان أخينا الشاعر الفاضل سي جابر الصنهاجي حفظه الله أتمنى أن تنال القبول والرضى

***

محمد محضار

 

 

الوظائف التكوينية في الانسجام النصّي.. خشخشات تنقر النافذة للشاعرة السورية: رماح بوبو

ننساق وراء الوظائف وتكوينها، ومنها الوظائف السياقية التي تؤدي إلى وظائف حركية لتكوين استقراء النصّ؛ وهو ضمن حركة الخلق من خلال الأدوات الفنّية وحركة الأفعال، ومنها حركة أفعال الكلام المعتمدة في النصّ المنفرد؛ ومنها أيضاً الأفعال الانتقالية والتموضعية، أي أنّها الأفعال التي تنسجم مع الحدث الشعري وليست تلك التي تخبرنا عنه، حيث أنّ النصّ يعتبر ذلك حدثاً منفصلاً عن الأحداث العامة التي تمرّ بنا، فاليومي غير الخيالي، والواقعي غير التصوّري، وفي الوقت نفسه أنّ النصّ الشعري وانسجامه مع الحدث، يعتبر النصّ الخلاق، حيث يتداخل من خلاله الخيالي والواقعي والتصوّري، أي أنّه سيعيش حالة فكرية وتفكّرية مع الشاعر.

يتعلّق النصّ الشعري بجديده وليس بموروثه أو تكرار ما أبدعه الآخرون، لذلك لكلّ نصّ جديد، ذات جديدة، ومتعلّقات غير مطروقة، فليس هناك انسجام نصّي يخرج من النصّية إلى النصّ، بدون تأثيرات انسجامية، فالحدث الشعري يعيش مع الشاعر وإن كان لقطة لحظوية، فهذه اللقطة أو اللحظة ستكبر عندما يغذّيها الشاعر بما يلائم حركة الدال في النصّ المنظور.

طالما أنّنا في الوسط الوظيفي والمتعلقات النصّية من خلال وظائف النصّ التكوينية وانسجاماتها، إذن نحن في منطقة المقاربات التداولية والتي يبدو من خلالها الصراع بين الـ " أنا " والآخر، وكذلك بين الأشياء، فليست جميع الأشياء منسجمة مع بعضها، فبعضها يتعلّق بفعل تنافري، وبعضها بفعل تناقضي، وبعضها ينحاز إلى الفعل المختلف، وهو الدالّة المختلفة التي نسعى إلى توضيحها من خلال نصوص الشاعرة السورية رماح بوبو.

يعتبر النظام التداولي ذا تنظيم داخلي للنصّ، ولكن في الوقت نفسه نلاحظ تشعّباته وعدم استقراره في نقطة معيّنة، فإذا أخذنا القول اللغوي للنصّ الشعري، نجده ضمن المتعلقات النصّية، فالنصّ لغة قبل كلّ شيء، لغة ليست بدائية وليست مطروقة بشكلها اليومي، بقدر ما تسعفنا هذه اللغة في التناقضات والاختلافات النصّية، وتشكل المشهد النصّي المنظور، وذلك بين سياق التواصل وسياق التفاعل؛ ويكون للنصّ الشعري خصوصيته الجمالية ضمن المنظور الاستطيقي، حيث تعتبر الجمالية العنصر الفعل مع كلّ نصّ نموذجي يمنحنا الرمزية من جهة أو ماوراء الواقع من جهة أخرى.

ترتبط القدرة بوسائل وعلاقات ذاتية أو عقلية، لذلك عندما نطرق باب الأحلام، فهي ضمن قدرة الشاعر وترجمته الشعرية لهذه الخصوصية؛ ومن هنا، يبدأ بالتنقية النصّية، وهي تنقية الصورة التكوينية وكيفية اندماجها ضمن الفعل التلقائي، حيث أن الكتابة لدى الشاعرة السورية رماح بوبوـ تعتمد التلقائية من جهة والولوج إلى التفكّر الآني من جهة أخرى.3210 خشخشات

الانسجام النصّي التداولي

من خلال أدوات النصّ والعلاقات العميقة بين الجمل الشعرية وبين النصّية، تصل إلى اندماجات تواصلية في المنظور النصّي، وهي الآلية التي نرغب الوصول إليها من خلال نصوص الشاعرة السورية رماح بوبو.

يؤدّي الانسجام النصّي إلى التماسك الفعلي للنصّ، وتظهر من خلاله الصور الشعرية وفعل الإثارة، حيث أنّ تبديل المفردات الشعرية يؤدّي إلى رمزيتها أو الإشارة إليها من خلال تقريبها من النصّ واندماجها  بالجمل التركيبية، ويكون لأنواعية الأفعال الصدارة أيضاً في إيجاد الدلالات التي يعتمدها النصّ الشعري؛ والنصّ لدى الشاعرة السورية رماح بوبو، يحوي وسائل لغوية مختلفة، فتارة تقودنا عبر الرمزية وتارة أخرى إلى لغة ماوراء الواقع، بالإضافة إلى رومانسية الحدث الشعري الذي تعتمده في بعض النصوص، وهو التعبير اللغوي المخاتل والذي يعتمد على الإيحاء والتنبيه والاستعارة.

تائهةٌ

كوعلٍ على شرفة نهدة!

كأنّي في بال المغيب

دفء صباحٍ

وفي بال الصّباح

غفوة ناي بعيد!

وحزينة

كبنفسجة قصيرة السّاق

لم تستطع أن

تلبّي توق الإناء !

وكأنّني محض عشبةٍ كلّما

همّت ذبولاً

رشّها جنون الفصول برشّة ماء فلم

تجد ماتقول!

من قصيدة: مزراب القمر – ص 9 – خشخشات تنقر النافذة

دلالات اللغة كثيرة، ولكن وقوفنا ليس فقط في هذه المنطقة، بقدر وقوفنا بمناطق أخرى من خلال النسيج النصّي أوّلاً، والانسجام النصّي ثانياً، وهما فعلان للتداول النصّي، ويعتبران من مهام النصّ الشعري وتشكيلاته الفنّية والعلاقات التي تربط الجمل ببعضها.

أما من ناحية العلاقات الدلالية في الانسجام النصّي، فهي تقودنا إلى السببية والعمومية والخصوصية والتفصيل والأضداد، ولا يكاد نصّ من النصوص أن يخلو من المتعلقات السببية التي تعوم حول الذات الحقيقية، ومن هنا نستطيع أن نكون ولو بجزء حتمي مع تفكيك لبعض الجمل الشعرية وتواصلها من خلال الوظيفة التفاعلية والإخبارية.

تائهةٌ + كوعلٍ على شرفة نهدة! + كأنّي في بال المغيب + دفء صباحٍ + وفي بال الصّباح + غفوة ناي بعيد! + وحزينة + كبنفسجة قصيرة السّاق + لم تستطع أن + تلبّي توق الإناء ! + وكأنّني محض عشبةٍ كلّما + همّت ذبولاً + رشّها جنون الفصول برشّة ماء فلم + تجد ماتقول!

تفتتح الشاعرة السورية رماح بوبو مجموعتها الشعرية (خشخشات تنقر النافذة) بنصّ تحت عنوان؛ مزراب القمر، وهي تقود الآخر إلى جدل التيه؛ أي أنّ الثابت منها غير متحوّل طالما قد سخّرت مشاعرها في مسلك التيه؛ وذلك من خلال المعنى المنظور للنصّ، وكأنّ الشاعرة تطلب من المتلقي أن يندمج مع شطور المأساة التي أشارت إليها بالاختيار، فعندما يتغزّل الشاعر بالمرآة، فالمرآة عاكسة للمادة، والذي يختفي خلف المرآة لايظهر بشكل معكوس، ومن هنا، فقد أرادت الشاعرة أن يكون المتلقي واقفاً خلف المرآة لكي يلاحظ ماخفي خلفها، وكذلك الذين يأتون ويؤدون دورهم أمام المرآة، وما نظرية التشبيه إلا كونها عملية اشتغال؛ سخّرتها الشاعرة رماح بوبو كي تكون العنصر المتفاعل في نصّها. وهي تؤدي واجبها في التصوير المنظور، فقد بدا الاختلاف اللغوي وتكوين الصورة الشعرية من خلال هذه النظرية والتي تعد جزءاً من الكيان النصّي المعتمد.

إنّ بعض عمليات التشبيه التي اعتمدتها الشاعرة رماح تتوضّح من خلال حرف " الكاف " وبعضها اندمج من خلال الجملة المتواصلة، مثلاً : تائهةٌ + كوعلٍ على شرفة نهدة!

وفي بال الصّباح + غفوة ناي بعيد!

الأولى كانت واضحة من خلال حرف الكاف، أما الثانية فقد تجاوزت التوضيح، ولتوضيحها أكثر كأنّها قالت لنا : وفي بال الصّباح = كغفوة ناي بعيد!..... إلا أنّها تجاوزت هذا الحرف واعتمدت على الجملة كي تكون منسجمة تماماً وجزءاً من كيان الجملة الشعرية، وذلك لكي تعطي الشاعرة بعداً إثارياً للمتلقي.

ونستطيع أن نطلق على مثل هذا التشبيه بالتشبيه الضمني وهو يأتي ضمن سياق تركيب الجملة الشعرية، وهناك الكثير من الأمثلة واعتماد الشعراء على التشبيه الضمني في فنّ حياكة النصّ الشعري الحديث؛ ومن الممكن أيضا أي يوحي الشاعر ببعض أفكاره ضمن التشبيه الضمني، وليس هناك شاعر لايحمل فكراً أو مبدأ من المبادئ الحياتية أو نظرية من نظريات الفلاسفة.

عندما بدأت الشاعرة بمفردة (تائهة) لاحظنا أنّ القول والقول الشعري يستمدّ بهجته من السكوت، أي أنّ الصمت قد أوحت به الشاعرة رماح بوبو: وكأنّني محض عشبةٍ كلّما + همّت ذبولاً + رشّها جنون الفصول برشّة ماء فلم + تجد ما تقول!...

أردتّ يوماً أن أكون عريفة الصفّ

لكنّي

كتبت أسماء رفاقي الساكتين

ففوجئتُ

أنّ معلّمتي تحبّ السكوت

وتكره خطّي المائل!

أردتّ أن أكون سيّدة أنيقة

لكنّهم

نظروا إلى خدوش ركبتيّ

وصاحوا.. هذه ماعز!

شرّدوني للتلال

أوّل التلّ دفلى

آخر التلّ.. يباب!

وصعدتّ

كلّما عوى بوجهي خبرٌ عاجل

عويتُ

كلّما هدهدتني إقحوانةٌ مهاجرة

بكيتُ

من قصيدة: مزراب القمر – ص 9 – خشخشات تنقر النافذة

هل تكون المعرفة أوّلا، أم اللغة، فالذي يقودنا إلى المعارف هي اللغة، وذلك في الحالة المشروعة وكيفية توصيل الرسالة النصّية، ولكن، في الوقت نفسه، إنّ اللغة هي النصّ ولا نعتبرها وسيلة (مقامية) في الجانب النصّي. بما أنّ البنية النصّية وليدة عدة سياقات وانعكاسات تفكّرية ومرجعيات مختلفة تجمّعت في الذات الحقيقية ربّما لفترة طويلة، وتظهر من خلال علاقات خاصة في النصّ المكتوب بينها وبين المعاني المحمولة والتي ترافق جزئيات النصّ والتي في الوقت نفسه تتحوّل إلى مواضيع في النصّ المنظور؛ (ليس النصّ الأدبي هو الذي بين أيدينا، بل هو مملكة بناء تحمل مخاضات بناء سابقة في البنية الشعورية والفكرية، فلابدّ من تجلية النقاب عنها، وبث مكنوناتها وانعكاساتها على النصّ – إبداعيات النصّ الأدبي – ص 8 – الدكتورة سعاد جبر سعيد).

أردتّ يوماً أن أكون عريفة الصفّ + لكنّي + كتبت أسماء رفاقي الساكتين + ففوجئتُ + أنّ معلّمتي تحبّ السكوت + وتكره خطّي المائل!

أردتّ أن أكون سيّدة أنيقة + لكنّهم + نظروا إلى خدوش ركبتيّ + وصاحوا.. هذه ماعز! + شرّدوني للتلال + أوّل التلّ دفلى + آخر التلّ.. يباب! + وصعدتّ + كلّما عوى بوجهي خبرٌ عاجل + عويتُ + كلّما هدهدتني إقحوانةٌ مهاجرة + بكيتُ

ننظر إلى النصّ حسب المعاني التي يحضنها ويبثها للمتلقي، وإذا نظرنا في قصيدة (مزراب القمر) فسوف نلاحظ أنّ القصيدة تمّت حياكتها على صيغة مقاطع منسجمة مع بعضها، واستطعت الآن أن اعتمد التقطيع حسب المعاني التي رسمتها الشاعرة السورية رماح بوبو.

إنّ تناسق الجمل وانسجامها، لاتستدعي ضيافة التضاد، فالجملة التواصلية التي تحتفظ بالمعنى والتأويل لا تضاف إلى جملة إضافية متنافرة معها، ففي هذه الحالة فلن يستقيم المعنى، وكذلك لايكون الطرف الآخر مضاداً للأوّل، فحالة الاندماج قائمة؛ مثلاً:

أردتّ أن أكون سيّدة أنيقة = الشاعرة رماح لديها رغبة، من الفعل أراد (أردتّ أن أكون) واندماج الفعل مع فعل آخر (أكون) إذاً هناك تحوّل، أي ستصبح، فماذا ستصبح من خلال رغبتها؟ (عريفة الصفّ) ومن خلال مراقبتها للطلبة، تكتشف بما هو في حوزة المعلمة؛ الموضوع الذي بثته الشاعرة ليس كما ورد بمباشرته، وإنما هناك تأويلاً وقصدية مختلفة، وقد أختارت شخصياتها باعتبارها من الأشياء الحركية، فقد كان رفاقها في المدرسة، وكانت المعلّمة، هذه المسمّيات ضمن وظيفة الكلام الذي رسمته بمعاني.

أمّا في المقطع الثاني، نلاحظ الاختلاف الوارد، فاتصال المعنى اتصل بقوّة بالسياق، وقد كوّنت الشاعرة رماح مقطعها تحت خيمة الأثر الذي يتركه القول والقول الشعري:

كلّما عوى بوجهي خبرٌ عاجل = عويتُ

هل نستطيع أن نعتبر هذه المرحلة من المراحل المتناهية؟

نشر الأخبار العاجلة والكاذبة أيضاً، لا حدود لها، وهي ضمن اللامتناهي، ليس على مستوى النصّ الشعري لكي يُضاف إلى التأويل، بل على مستوى التفكّر الذهني والمنظور التصوّري الذي يرافق الشاعرة في حالة الكتابة أوّلاً وفي حالة المتعلق من المعنى ثانياً.

من خلال فنّ القول والقول المتقدم، تتغيّر اتجاهات النصّ كلما تغيّرت الحالات الفنّية؛ ومن الطبيعي أن تكون الحالة الفنّية والعلاقات بين الجمل غير ثابتة في مجموعة من النصوص، وإذا كانت كذلك فسوف يكون للملل مساحة لابأس بها من جهة، وتكون للتشابه وجوه عديدة من جهة أخرى، ونركّز على القدرة والقدرة الذاتية في تحرّكات الذات، وفي تحرّكات اتجاهات النصّ، حيث الثبات ليس من شيمته، ومن خلال هذا المنظور، أستطيع أن أضع بعض الوظائف التي تخصّ نصوص الشاعرة السورية رماح بوبو.

الوظائف التكوينية

المنظور التكويني للنسق الدال

وظيفة التعلق النصّي

وظيفة التعلق الذاتي

نتّجه نحو نوعية الوظيفة، فالوظائف التي تظهر في النصّ الشعري عديدة، ولكن الذي يجعلنا أن نتجه إلى النصّ ككتلة نصّية هو عامل الاختلاف اللغوي، حيث أن بناء الصورة الشعرية لايكفيها الخيال فقط، وإنما هناك عوامل لغوية مختلفة من جهة وعدم محدودية التركيب اللغوي من جهة ثانية، ومن هنا، تنبت لدى الشاعر بعض العلاقات بين الذات الحقيقية والمفردة والتركيب اللغوي.

الوظائف التكوينية

تنسجم الوظائف التي يختارها الشاعر في المنظور النصّي بداية من النصّ المقروء والذي يكون عادة قابلاً للتبدّلات وإضافة بعض المسمّيات العلائقية بين الجمل لتواصلها من خلال اللغة أولاً ومن خلال المعنى ثانياً؛ وأوّل وحدة لغوية تعتبر المطلع اللغوي الأوّل لافتتاح النصّ الشعري مابعد العنونة، والتي تشكّل  رأس الهرم والعتبة الدلالية الأولى، حيث أنّ دالة العنونة تعتبر المفتتح التوظيفي للنصّ، وهوَ الباب الشرعي الذي من خلاله من الممكن أن يقودنا إلى النصّ المرافق لها.

ولكي ندخل إلى المنظور النصّي من الممكن أن نكون في انسجام مع البناءين العلوي والسفلي للنصّ، حيث أنّ القاعدة النصّية تخبرنا بأنّ المكوّنات الجزئية للنصّ الشعري، تعتبر منظورها الوظيفي في تكوين النصّ الشعري، ومن الممكن جداً أن يكون للجزء تصويره أو حجته التي تشكّل موضوعاً من معنى تام، والذي يظهر أمام المتلقي إما على صيغة صورة شعرية غير مطروقة، أو لغة مختلفة تحمل منظورها الفلسفي؛ وهي في طريقها لتكوينات وظيفية من خلال قدرة الشاعر على التصوّرات وحركة فعل المتخيّل في المنظور النصّي.

من خلال المكوّنات الذاتية نتخذ من الوظيفة الذاتية العنصر الرئيسي في المنظور النصّي، وذلك لأنّ الذات الحقيقية تخفي خلف عملها الكثير من العوالم المحمّلة بالمعاني، وعندما يتجه الشاعر نحو الرمزية أو نحو عالم ماوراء الواقع، فهو ليس هارباً من الواقع المنظور أو الواقع المهتز الذي يجلب الويلات له وللذين من حوله، بل هذه تكون اختيارات تلقائية تدخل في مؤسّسة النصّ الجمالية، ومنها نصوغ شبكة من الأستطيقا في المنظور النصّي.

فيروسات تتزحلقُ على درابزين الشّعر

لو شئتَ

اسرعْ

اختبئ في قبوكَ

وإلا

لامحالةَ

ستصابُ

كشبحٍ أبيض

بعدوى

الحياة !

من قصيدة: فيروس 1 – خشخشات تنقر النافذة – ص 13

نستطيع أن نكون مع الذات التكوينية في حالة تأسيس القدرة الموضوعية والتي تنتج عن قدرة في المعاني والتأويل؛ لذلك عندما ينطلق الجزء، نلاحظه لايتوقف، فهو متآخ مع الأجزاء الأخرى لخلق مسار تسلسلي خارج اللغة المألوفة، كأنّ الشاعر يتخذ من هذا التآخي زمرة الفردي (الحالة الفردية) مع معرفة غير متناهية، وذلك لأنّ النصّ الشعري يعتمد اللامحدود عند الخلق.

فيروسات تتزحلقُ على درابزين الشّعر + لو شئتَ + اسرعْ + اختبئ في قبوكَ + وإلا + لامحالةَ + ستصابُ + كشبحٍ أبيض +  بعدوى + الحياة !

النصّ لدى الشاعرة السورية رماح بوبو عبارة عن صورة شعرية منظورة، وهي ذات علاقة بين الذات الحقيقية والمعنى، المعنى الذي يتحوّل إلى موضوع، فتصبح المعادلة:

كلّ موضوع = معنى واحد، والمعنى على علاقة مع الذات الحقيقية. فنقول:

العلاقة المطلقة = الذات + الموضوع / العالم... باعتبار أنّ العالم هو أحد عوالم المعاني التي انتمت إليها الذات الحقيقية؛ ومن هنا، فقد استطاعت الشاعرة رماح أن تجني الحياة (الحركة طبعاً) من خلال الهروب إليها، والمرء لاوسيلة لديه سوى الهروب ثانية إلى بيت الحياة.

أعرف شاعراً لم يزلْ

يفتُّ الغزَل بالحليب

يشدو وهو

يجدل كلّ صباحٍ

ضفائر البلاد المصابة بالتوحّد

يرسمُ شجيرةً على زجاج الـ " بيك آب " المغبرَ

ويدعو أن

تراها العصافير التي ارتحلت...

من قصيدة: شجيرتي في غبارٍ أحمر – خشخشات تنقر النافذة – ص 23

من الممكن جداً أن يكتب الشاعر بما فكّرت به بفترة آنية، وتنسب فعل القول إلى شاعر أو شخص آخر، وهي الإحالة التي يرغب أن يُدخلها من بوّابة الفعل التأثيري، فالمفاهيم والقصدية والترادف والتصوّرات (الاعتقاد) والتحقق والتواصل؛ كلّها مقاربات وبنى حتمية ترافق النصّ، فالمعاني التي تشكّلها هذه الاتجاهات، هي معاني دلالية يرافقها فعل الحركة بفروعه المتعدّدة، مثلاً؛ الانتقالية، والتموضعية، والمقامية، والرأسية.. الخ فالممكن من الأفعال يصبح ضمن اللامحدود، أي أنّ المحدود يفتح ذراعيه لكي تنطلق تلك الأفعال بمعانيها ودلالاتها الزمنية والفعلية.

أعرف شاعراً لم يزلْ + يفتُّ الغزَل بالحليب + يشدو وهو + يجدل كلّ صباحٍ + ضفائر البلاد المصابة بالتوحّد + يرسمُ شجيرةً على زجاج الـ " بيك آب " المغبرَ + ويدعو أن + تراها العصافير التي ارتحلت...

من خلال التماسك النصّي، هناك السمة النصّية والتي تستمد علاقتها من التماسك النصّي، ولكي نترجم هذه السمة النصّية وما طرقته الشاعرة السورية رماح بوبو، نرى أنّها أوجدت عنصر التشبيه من خلال هذا التماسك، وعنصر التشبيه لايخرج من كونها شاعرة، لذلك أحالت المعنى لشاعر آخر (لم تتطرق إلى سمة أخرى مثلا؛ لم تقل أعرف طبيباً، أو معلماً) بل مازالت في المدار الشعري، فهي:

أعرف شاعراً لم يزلْ + يفتُّ الغزَل بالحليب... ومن خلال معرفتها بهذا الشاعر، فقد كان سمة دلالية، وهي التي منحته اللقب من خلال المسمّى الدلالي للأسماء؛ ومن هنا، يكون التفسير الإجرائي، بعلاقة الجملة الجزئية مع علاقة الأجزاء الأخرى لكي يكون للمعنى سمته الدلالية أوّلا، وتماسكه التكميلي ثانياً.

المنظور التكويني للنسق الدال

من أهم الأنساق الدالة في النصّ هما النسقين اللغوي والدلالي، حيث تتشكّل العلاقة بينهما في مكوّنات النصّ وخلقه من جديد، باعتبار أن النصّ المكتوب كان مقروءاً في المساحة الذهنية قبل أن يكون نصّاً تجريبياً والاعتماد على تدقيقه وسمات انتمائه للنوع قبل كلّ شيء.

يعتبر النصّ المقروء من الأنساق الدالة المغلقة، فهو مخصّص للذهنية قبل الكتابة، ومخصّص للتفكّر الحتمي قبيل الظهور؛ لذلك يكون النصّ ضمن نسقه الدال ذا استقلالية أوّلا، وهو مغلق يشتغل لذاته عند استقلالية اللغة الشعرية التي ترافقه وتظهره للكتابة، فإذا كان الدال (كنسق دال) مادياً، فإنّه يتعامل مع المنظور المادي، فتكون الأشياء المادية أمامه، وأمّا المدلول فسوف يشكّل العنصر اللامادي أمامه، وأن القسم المفهوم للدليل هو قسم (المعنى) لذلك يكون التشكيل الدلالي من السمات الدلالية.

رجلٌ

كلّما آوته برتقالةٌ

صار حطباً

*

امرأةٌ

كلّما ناولوها دمعة

صارت ذئبةٌ وكسرت النوافذ

*

صديقٌ

كلّما لوّحت له بأغنية

انكسرت بنا رقبة الطريق !

وحبيبان

لم يصدّقا رنين ضحكتهما

فانتحرا قبل

هبوب الرصاصة!

من قصيدة : مخالب زنبقة – خشخشات تنقر النافذة – ص 43

يتناول النسق حياة النصّ، والعلاقات التي انسجمت بين أدواته، مثلاً : النسق اللغوي من أهم العناصر الدالة في حياة النصّ، حيث أنّ النصّ الشعري فيعمل على إيجاد المعاني والتأويلات ويساعد على انسجامها، وهو المساعد للبث (الباث) المرسِل الذي بواسطته يكون القول والقول المتقدم، باعتبار أنّ النصّ الشعري يعتمد القول كرسالة موجهة، ومن الضروري لهذه الرسالة هناك المرسِل (الباث) الذي أكدنا على تواجده في كتاباتنا المتعدّدة.

رجلٌ = كلّما آوته برتقالةٌ + صار حطباً

امرأةٌ = كلّما ناولوها دمعة + صارت ذئبةٌ وكسرت النوافذ

صديقٌ = كلّما لوّحت له بأغنية + انكسرت بنا رقبة الطريق ! + وحبيبان + لم يصدّقا رنين ضحكتهما + فانتحرا قبل + هبوب الرصاصة!

المكتوب أمامنا ليست تعاريف منطلقة انطلقت منها الشاعرة رماح بوبو، بقدر ماهي مقاطع تراوحت بين الطول والقصر، ومكثت بين شطورها الصور الشعرية، فكلّ مقطع يصوّر للمتلقي حالة، فلحالة الرجل الذي رسمته دون الـ " التعريف " خصوصيته عامة وليس منسوباً لأحد، وكذلك المرأة والصديق. هذه الاستعارات التي اشتغلت عليها الشاعرة نلاحظ أنّ هناك الدليل = الدال + المدلول، وهذا ماجاء به " دي سوسير) وتصوّره للعلامة.

تعتمد الشاعرة عادة في تركيب نصوصها على الشيفرات، وهي تنطلق من البنية الدليلية التركيبية والتي تكون فيها الرمزية العامل المنظور في تركيب النصّ من جهة، والانزياح اللغوي الذي يعطي للنصّ نكهة وأسلوباً خاصاً من جهة أخرى؛ فالرجل = يقابله البرتقالة، وهو يحترق، بينما خصّصت المرأة بالدمعة وذلك لعاطفتها الانسيابية، ولا تستبعدها عن الشراسة والتي مثلتها كشراسة الذئب.

إنّ الدائرة التي جمعت هذه الخصوصيات وكّلتها الشاعرة للصديق، هكذا كانت نظرة الشاعرة رماح بوبو وهي تقودنا عبر علاقات تربط محاورها الدلالات، ويخضع النصّ لنظام داخلي.

الموت ليس موجعاً أبداً

هو نهايةٌ جميلةٌ

ابتسامة مجفّفة وكفى!

مايوجع

ألا تحبّ ابنتي فساتينها الزرق

ولا توسّد ورد – الله.. الله ! في كتابها

مايوجع أن يفقد الشعراءُ أسنانهم الأمامية

أن تصير الشاعرات أكثر سمنة

فيتخففن من حرف الـ " وااو ! "

أين ستلتحف الدهشة حينها؟

وكم ستعجّ البلاد بـ (طنابر)

الهراء المهرّب؟!

من قصيدة: ابتسامة مجفّفة - خشخشات تنقر النافذة – ص 47

إنّ النشاط النصّي يبدأ من أوّل وحدة لغوية مختلفة، ومن هنا، يكون للنصّ الشعري مطالع متتالية بحكم العلاقات التي بين عناصر النصّ من جهة، وبين الجمل الشعرية من جهة أخرى، ويكون للعلاقات، علاقات نصّية حيث أنّها تشكّل البؤرة الرئيسية لحركة النصّ، ويكون لحركة الأفعال (التي تشكل جزءاً من المستويات النحوية) خصوبة دلالية؛ تتشابك فيما بينها من خلال جدلية العلاقات المتواجدة، للحصول على حركة دلالية ناضجة تؤدي غرضها في التفاعل النصّي.

الموت ليس موجعاً أبداً + هو نهايةٌ جميلةٌ + ابتسامة مجفّفة وكفى! + مايوجع + ألا تحبّ ابنتي فساتينها الزرق + ولا توسّد ورد – الله.. الله ! في كتابها + مايوجع أن يفقد الشعراءُ أسنانهم الأمامية + أن تصير الشاعرات أكثر سمنة + فيتخففن من حرف الـ " وااو ! " + أين ستلتحف الدهشة حينها؟ + وكم ستعجّ البلاد بـ (طنابر) + الهراء المهرّب؟!

إن التدقيق في بنية الجملة من خلال مفهومها وتأويلها، يقودنا إلى أنّ الشاعرة رماح بوبو نشّطت مبدأ الأمل والتأمّل؛ فقد تواصلت مع الأوجاع تحت مسمّيات عديدة، ومنها ذكرت الموت، (الموت ليس موجعاً أبداً) وهي الوحدة اللغوية التي كانت مطلعاً للنصّ، إذن النسق الدال الذي ميّز مفهوم النصّ للالتقاء مع المعنى هي الصورة العقلية التي أطلقتها الشاعرة وقد كانت ضمن تعدّدية مفردة (الوجع) كمعنى متواصل مع الجمل الشعرية، فالوجع من المفاهيم غير المادية، ولكنّه من الأشياء، ومن هنا، كتبت الشاعرة قلقها عبر شيفرة الألم، الذي جعلته أحد مفاتيح المعنى في المفهوم النصّي.

وظيفة التعلّق النصّي

تعتبر وظيفة التعلق النصّي من الوظائف المهمة بعد وظيفتي اللغوية والدلالية، حيث تشكّل وظيفة التعلق، التعلق الدلالي أيضاً، وذلك لأنّ المعاني تختفي خلف الدلالات، وبما أن النصّ يبحث عن معنى وذلك من خلال التأويل، وخصوصاً عندما تكون المساحة المهيئة، مساحة رمزية.

يكون الأثر النصّي، هو أثر المقروء عندما يكون الشاعر في الحالة الكتابية، لذلك وجلّ ما يكون للنصّ ليس الأثر الباقي، بقدر ما يكون الأثر على المأثور، فالخلق النصّي هو الأثر المستجدّ، هو الخامة العليا التي تنهض من خلال نوعين من الدلالة؛ وهي الدلالة العقلية، والدلالة الطبيعية، فالأولى ابتكارية تعتمد الأثر التجميلي، أي أن يكون لفلسفة الجمال أثرها في النصّ، والثانية طبيعية، إما أن تكون محسوسة أو خارج المحسوس، وفي الحالتين يكون الأثر البصري وسقوطه الشاقولي على جمالية الحدث، له الميزة في التقارب الفنّي من جهة، وتوظيف الرابط الذهني بالمنظور الواقعي من جهة أخرى.

الموت ليس موجعاً أبداً

هوَ نهايةٌ جميلةٌ

ابتسامة مجفّفة وكفى!

مايوجعُ

أن يستقيلَ المساءُ من عمله

كنادلٍ للشهوةِ

وأن تقصر قامته

هكذا فجأة !

مايوجعُ

أن يفقد الشعراءُ أسنانهم الأمامية

أن تصير الشاعرات أكثر سمنة

فيتخففنَ من حرف الـ " وااو ! "

أين ستلتحفُ الدهشة حينها؟

وكم ستعجّ البلاد بـ (طنابر)

الهراء المهرّب ؟!

من قصيدة: ابتسامةٌ مجفّفة – ص 47 - خشخشات تنقر النافذة

إنّ الربط العلائقي الذي يوحي للشاعر، هو كيفية إيجاد المعنى، وبما أنّ المعنى من المتعلقات النصّية، فسيكون موضوعاً متحوّلاً يندمج مع الذات الحقيقية. إذن نحصل على دال بموضوع معيّن؛ فيكون الدال على المعنى التعييني في النصّ المنظور؛ والمطابقة التي تقودنا، مطابقة النصّ كخلق إيجابي على موضوع دال على معنى في وضعية حقيقية يستعيرها الشاعر من المنظور الواقعي.

الموت ليس موجعاً أبداً + هوَ نهايةٌ جميلةٌ + ابتسامة مجفّفة وكفى!

مايوجعُ + أن يستقيلَ المساءُ من عمله + كنادلٍ للشهوةِ + وأن تقصر قامته + هكذا فجأة !

مايوجعُ + أن يفقد الشعراءُ أسنانهم الأمامية + أن تصير الشاعرات أكثر سمنة + فيتخففنَ من حرف الـ " وااو ! " + أين ستلتحفُ الدهشة حينها؟ + وكم ستعجّ البلاد بـ (طنابر) + الهراء المهرّب ؟!

يعتبر نظام التخييل كواقعة تعلّقية دائمة؛ صاهر للكائنات الأخرى المرئية منها واللامرئية، لذلك فالشاعر هو المتمثل الحسّي الملموس في النظام النصّي، ومن هنا، قد تتمّ بعض التغييرات أو تتمّ بعض التنقلات من أنساق ابستيمية منتجة إلى مفاهيم صيرورة ترافق النصّ المكتوب؛ وهكذا يكون للشاعر الآلة المحرّكة لجميع أدوات النصّ، حيث أنّ العلاقات تتبلور بمنظور واحد.

مهما كانت الاتجاهات القصدية التي رافقت الشاعرة رماح بوبو، فهي تتعلق بتبلور واحد، مثلا لسان حال تفكرية مع مفردة الموت؛ لو سألنا لماذا الموت ؟ لا تعتبر الإجابة عن هذا السؤال مفهوما أبدياً للموت، فمسالك الموت عديدة، ولكن بالنهاية لايحمل غير مسمّى واحد وهو نهاية الحياة، وهكذا أرادت أن تعلن عن الأموات في بيئتها السورية.

لقد وظفت الشاعرة بعض المفردات المرافقة لمفردة الموت، ومنها مفردة الوجع، إذن الموت ليس موجعاً، ولكن طريقة الموت موجعة، فالأنين يئنّ من خلال الهروب من الذات والأوجاع التي تلاحق الجميع.

وظيفة التعلق الذاتي

إنّ التعلق الذاتي، يعني كلّ ما تعلّق بالذات بين الماضي والآني والمستقبل، وخصوصاً عندما تكون الأحلام قد طرقت باب الذات الحقيقية التي تعمل على إيجاد علاقات آنية، علاقات بين العناصر التخييلية والمنظور النصّي، حيث تواجد الصور الشعرية والتصوّرات ويكون للذات الشاعرة مهام الخلق الذاتي ومهام الخلق النصّي، ففي الأولى لاتنتمي الذات إلى ذاتها بقدر ماتجذب ذوات الآخرين وتعلن القول من خلال القول الذاتي وكأنّنا نستقبل الذات التي تواجهنا بينما هي تنوب من خلال الممارسة عن الذوات الأخرى؛ أمّا الثانية (مهام الخلق النصّي)، نستطيع أن نقول أنّ الأولى هي تهيئة ذاتية تصل إلى حدّ الغليان، ومن هنا، لاتستقرّ الذات المغلقة في منطقة واحدة، فهي متنقلة بين العناصر النصّية وبين العناصر الذاتية. ومن أولى المتعلقات في مهام الخلق النصّي، البنى الدلالية التي تشكّل حالتي الاستقطابين الداخلي والخارجي؛ ولكن الذي يدفع المتعلقات الدلالية في الذات هو فعل الإثارة، حيث يكون للتأثيرية عدة مناطق ومنها الأشياء things والأماكن places والوقائع facts.

وقال: من قاتلكم ؟

/ وكنت أحمل جسدي على كفّي كقميص

مطويّ على عجل

وكانت أسناني تصطكّ ويرميني الضباب

بدنانير من صقيع /

قلت: أحلامي

فما التفتَ !..

وقال: من قاتلكم ؟

/ وكان الشوك ينمو ليغطي كرة رأسي المرميّة أمامه

ومن جراحي تنمو نواقيس كثيرة ! /

قلت: إيماني

فما التفتَ !

وقال : من قتلكم ؟

من قصيدة : في حضرته - ص 55 - خشخشات تنقر النافذة

عندما يتمّ تحديد اتجاهات النص الشعري، هذا يعني فإنّ البث عبر القناة قد قام بتحديد الرسالة والمعنى الذي تحمله، ومن هنا، يتمتّع النصّ ويتوسّع أكثر وذلك لأنّ المعاني قد انحصرت بدلالات معيّـنة، حسب رأي النحاة، وأهمّ تلك الدلالات هي الدلالة اللغوية والتي يكون للدال حركته اللفظية ويكون للمدلول مساحة واسعة من المعاني وذلك بانتقال المتعلقات الذاتية من التذكر إلى التفكّر، ونحصل على معاني تلتقي بالمنظور الفلسفي ولغته التي تشغل العالم، من ناحية النتائج أو من ناحية الممارسة العملية على الواقع النصّي.

وقال: من قاتلكم ؟..... / وكنت أحمل جسدي على كفّي كقميص + مطويّ على عجل + وكانت أسناني تصطكّ ويرميني الضباب + بدنانير من صقيع / + قلت: أحلامي

فما التفتَ !.. ..... وقال: من قاتلكم ؟

/ وكان الشوك ينمو ليغطي كرة رأسي المرميّة أمامه + ومن جراحي تنمو نواقيس كثيرة ! /

قلت: إيماني + فما التفتَ ! ... وقال : من قتلكم ؟

عندما تطرّقت لموضوعي الخلق الذاتي والخلق النصّي؛ سنكون الآن مع الفعل الآني لكي ندمج الخلقين بخلق واحد، فقد حملت الشاعرة رماح بوبو في ذهنيتها المختفية، حملت موضوع القتل والقاتل، وفي الوقت نفسه نبحث عن الاستدلال في المنظور النصّي، فالإيحاءات التي اعتمدتها الشاعرة رماح بوبو كانت ضمن مفهوم البناء الدلالي، لذلك تأتي قوّة المعاني من قوّة الدلالة النصّية.

في المجال الدلالي الأوّل الذي انشغل بالشخص الآخر الغائب، نلاحظ أن التفكّر الذي اعتمدته الشاعرة، تفكر القتل مع بيانات حِجاجية اعتمدتها في الجمل الشعرية:

وقال: من قاتلكم ؟ = قلت أحلامي

القتال الدائر بين الشخص السائل الغائب، قتال المفاهيم التي طرحتها الشاعرة في المفهوم النصّي؛ لذلك فعملية الاستدلال المعتمد هي الحصول على مفاهيم جديدة:

نلاحظ المصاحبة اللغوية لدلالة القتل قد جاءت الكلمات ملائمة في الجمل الشعرية، وبعض هذه المفردات قد أعطت معاني ومفاهيم مختلفة من خلال عملية التركيب اللغوي.

مجيء كلمات دالة على الهروب من الواقع، وقد نشب القلق والخوف وذلك من خلال التعابير التي رسمتها الشاعرة رماح بوبو.

كأن تحصر الشاعرة رماح بعض الجمل بين خطين، أو لنقل بين قوسين لايلتقيان إلا بمشيئة اللغة، لذلك فقد استعملت الشاعرة السورية رماح بعض الدلالات العامة، وبعض الدلالات المعرفية، ففي الأولى نجد  نقل الحدث الشعري والبحث عن عنوان بما كتبه الروائي.

اعتمدت الشاعرة على لغة استدلالية بين السؤال والشرح، وبين اللاشرح والأسئلة المطروحة ضمن النصّ المنظور.

***

كتابة: علاء حمد

 

 

دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات

يُعنَى (البُحتريُّ)(1) بتصوير أسنان (الذِّئب) وصوت قَضْقَضَته، قائلًا:

يُقَضْقِضُ عُصْلًا في أَسِرَّتِها الرَّدَى

كقَضْقَضَةِ المَقْرُورِ أَرْعَدَهُ البَرْدُ

والعُصْل: جمع أَعْصَل، وناب أَعْصَل: بيِّن العَصَل، أي معوجٌّ شديد.(2) والشاعر، بالتشبيه الذي تضمَّنه بيته، قد أحسنَ تصوير قَضْقَضَة الذِّئب، كما أحسنَ بتوظيف الموسيقى اللفظيَّة، في كلمة "يُقَضْقِض"؛ بما تحمله (القاف) و(الضاد) من غِلَظٍ وشِدَّة، مع (الراء) التردُّديَّة، التي تتكرَّر في أجزاء البيت، لتُضِيف حيويَّةً أدائيَّةً في تمثيل حركة أسنان الذِّئب وصوتها.

ويُصوِّر (ابنُ مُقْبِل)(3) (الذِّئبَ)، وقد افترس ولد بقرةٍ وحشيَّة، واصفًا جسمه، وسَعة شِدقَيه، وخِفَّة حركته، إذ يقول:

حتَّى احـتوَى بِكرَها بالجَـوِّ مُطَّرِدٌ

سَمَعْمَعٌ أَهْـرَتُ الشِّدْقَيْنِ زُهْلُـوْلُ

شَـدَّ المَماضِـغَ مِـنْـهُ كُـلَّ مُنْـصَرَفٍ

مِنْ جانِـبَـيهِ، وفي الخُرْطُومِ تَسْهيلُ

لم يَـبْـقَ مِنْ زَغَبٍ طَـارَ النَّسِيْلُ بِـهِ

عـلى قَـرا مَـتْـنِــهِ إلَّا شَــمالِـيْـلُ

كـأنَّمـا بَـيـنَ عَـيـنَـيـهِ وزُبْـرَتِـهِ

مِنْ صَبْغِـهِ في دِمَـاءِ القَـوْمِ مِنْدِيـلُ

كالرُّمْحِ أَرْقَلَ في الكفَّينِ واطَّرَدَتْ

مِنْـهُ القَـنَـاةُ ، وفـيها لَـهْـذَمٌ غُـوْلُ

يَطْـوِيْ المَـفَـاوزَ غِيطانًا، ومَنْـهَلُـهُ

مِنْ قُـلَّةِ الحَـزْنِ أَحْوَاضٌ عَدامِـيْلُ

فيحشد من صفات الذِّئب ما يُجَسِّد صورتَه: مطَّردَ الجِسم، قويَّه، سَمَعْمَعًا: خفيفًا، واسعَ الشِّدقَين، في خرطومه طُول، أجردَ الشَّعر، إلَّا بقايا زَغَب على ظهره، متلطِّخًا بالدِّماء، كالرُّمح، قلقًا لا يَقِرُّ له قرار. يُكثِّف بصفاته هذه الإحساسَ بشراسته وتوحُّشه. وهو نمطٌ من الوصف يتردَّد في الشِّعر العَرَبي القديم، لا لتصوير هيئة الذِّئب، لذاتها، بل للتعبير عن نظرتهم إلى هذا الحيوان، وما كان يمثِّله في المخيِّلة من الشَّر والغَدر، مع شِدَّة الصَّبْر والمِراس.(4) وهذا شاعرٌ آخَر يقول في التخويف منه:

الخَـوْفُ خَـيرٌ لـكَ مِنْ لُغـاطِ

ومِـنْ أُلالاتٍ إلـى الأَراطـي

ومِنْ طَويلٍ الخَطْمِ ذي اهْتِماطِ

ذي ذَنَـبٍ أَجْـرَدَ كالمِـسْـوَاطِ

يَمـتـلِخُ العَينَـينِ بانـتـشـاطِ

وفَـرْوَةَ الرَّأْسِ عَنِ المِـلْطَـاطِ(5)

فهو جريء: "ذو اهتماط". يلفت الشاعرَ منه: خَطْمُه وذنَبُه، الأوَّل بطوله، وما يوحي به من الحِدَّة والشَّراسة، والآخَر بانجراده- يشبِّهه بالمِسواط، وهو الخشبة التي يحرَّك بها ما في القِدر ليختلط(6)- وما يوحي به من شِدَّته وحيلته وغدره، مستشهِدًا على ذلك بامتلاخه عَين البعير؛ إذْ يُقال: إنَّ الذِّئب "يأتي البعيرَ- وهو باركٌ- فيحكُّ أصلَ ذنَبه، كأنَّما ينزع القُراد منه، فيستلذُّ ذلك البعيرُ، ثمَّ يدنو إلى جَنبه، فيفعل كذلك، فإذا التفت البعيرُ التحسَ عَيْنَـهُ بلسانه فقلعَها، وذلك التقريد."(7) وما زعمهم أنَّ الذِّئب يقتلع عَين البعير بلحسه إيَّاها إلَّا وهمٌ محض، لا يُتصوَّر واقعه، وإنَّما هو وليد ما يحمله الذِّئب في المخيِّلة الشَّعبيَّة من صورةٍ نمطيَّةٍ للشَّرِّ والغَدر المفزِعَين.

[ولحديث الذئاب بقيَّة تحليل].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود

.........................

(1) (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 743.

(2) يُنظَر: الجوهري، صِحاح اللُّغة، (عصل).

(3) (1962)، ذيل ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم)، 385- 387/ 35- 40.

وتُنسَب القصيدة التي منها الأبيات إلى (جِران العَود) أيضًا. (يُنظَر: (1931)، ديوان جِران العَود النُّمَيري، رواية: أبي سعيد السكَّري، باعتناء: أحمد نسيم، (القاهرة: دار الكتب المِصْريَّة)، 40- 41).

(4) ويُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (1999)، شِعر ابن مُقْبِل: قَلَق الخَضْرَمة بين الجاهلي والإسلامي (دراسة تحليليَّة نقديَّة)، (جازان: نادي جازان الأدبي)، 1: 367- 368.

(5) الحُطيئة، (1958)، ديوان الحُطيئة، (شرح: ابن السكِّيت، والسكَّري، والسجستاني)، تحقيق: نعمان أمين طه، (مِصْر: مطبعة البابي الحلبي وأولاده)، 65.

(6) يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (سوط).

(7) يُنظَر: الحُطيئة، م.ن.

ومن هذا جاء المجاز المركَّب التمثيلي في قول العَرَب: «فلانٌ يُقَرِّد فلانًا»، أي يتلطَّف له، كمن يزيل القُراد عن جسم البعير ليسكُن إليه. وهو ما يَرِد على ألسنة العوامِّ في بعض لهجات الجزيرة العَرَبيَّة اليوم، في قولهم: «فلان يقَرْدِن فلانًا». على أنَّ في معنى (التَّقريد)، كما في معنى (القَرْدَنة)، إشارة إلى التلطُّف للخِداع، لا التلطُّف الخيِّر، نجد أصله في زعم العَرَب هذا، أنَّ الذِّئب يُقَرِّد البعير ليلتحس عينه.

من الطريف أن يتبادر الى الذهن من أول وهلة بعد قراءة اسم الرواية انها عن الجنس اللطيف والعلاقات الاجتماعية بين النصف الثاني من المجتمع الانساني ... وهلم جرا ولكن حينما نقرأ الإهداء:

" إلى الأعزاء علي عبد الرزاق باذيب، وعبد الله سالم بازوير، وزيد مطيع دماج.

أعذروني، لأن حبي لكم سوغ لي جريمة التطفل على ساحة ملغومة من إرثكم السردي والشعبي.

أنا شاهد أيضا، فقد كنت هناك، قرب وادي الدراقن" .

نفهم من ذلك ونعي أننا أمام عمل يعكس تاريخ الأحداث السياسية في رواية لشاهد عليها في شهر كانون الثاني/يناير 1986 في عدن عاصمة اليمن الديمقراطي، عاشها بكل حذافيرها ومنعطفاتها، بحلوها ومرها كما يقول المثل العربي. والكاتب (سلام عبود) هاجر الى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في أواسط العام 1974 . عمل في عدن بالتدريس في مدارسها في سبعينيات القرن الماضي وكذلك في مركز البحوث التربوية التابع لوزارة التربية في ثمانينيات القرن نفسه، تزوج وخلف فيها.

أبطال الرواية من الجنس اللطيف حيث قام الكاتب بتقسيمهم الى إمرأة وهي كما يفهم من سير أحداث الرواية كوسيما الهنغارية، أما الخمسة نساء فهن: أنس، شفيقة، شهناز، صباح، أم الخير اللذين ينتمون الى مختلف مناطق ومناحي اليمن الديمقراطي وقتذاك. أما شخوص الرواية الآخرين فهم: الزوقري، نعمان علوي، سعيد أحمد، هادي صالح ناشر، فاروق علي أحمد، الضابط ابن الحسني، ابن السيد، هيثم قاسم طاهر، أبو أيوب وآخرين.

يتميز أسلوب سلام عبود في كتابة الرواية بأنه على الرغم من وجود اطناب فيه إلا أنه يشد القاريء لسلاسة انسياب أحداث الرواية وتشوقه الى معرفة الكثير عنها من خلال سبرأسرارها والغور في بواطن العلاقات الاجتماعية والانسانية في المجتمع اليمني .

أنا متابع لما ينشره من الكتب منذ صدور أول كتاب له بعنوان: نشوء وتطور القصة القصيرة في اليمن الصادر في العام 1993 في شمال السويد في مدينة لوليو حينما كان سلام يقيم في مدينة بودن في شمال السويد أيضا. ومن ثم تتابعت صدور أعماله الأدبية وأبحاثه الثقافية والاجتماعية والسياسية والمسرحية ونصوصه التسجيلية.3197 سلام عبود

تربطني بسلام عبود علاقة زمالة جامعية منذ العام 1968 حينما كنا طلبة في جامعة بغداد على الرغم من اننا درسنا في اختصاصين مختلفين، فهو درس اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب وأنا درست الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. افترقنا بعد التخرج والتقينا بعد مرور اثنتي عشر سنة في مدينة عدن الساحلية عاصمة اليمن الديمقراطي، وقد كتبت عن ظروف هذا اللقاء في أربعة مقالات بعنوان: ذكريات استاذ عراقي في جامعة عدن في العام 2021 التي نشرت في عدة مواقع اخبارية وأدبية منها الحوار المتمدن وموقع تللسقف وموقع أخبار وصحيفة الزمان العراقية-الطبعة الدولية.

تتميز رواية امرأة وخمس نساء بحبكة أسلوبها الأدبي والفني وهذا ليس بغريب على الكاتب لأنه استغرق عشرون سنة (1992-2012) في كتابتها كما تعكس الرواية ليس فقط أحداث شهر يناير العام 1986 ولكنها تعكس مسيرة الحزب الاشتراكي اليمني والانقسامات التي حصلت فيه وقتذاك بسبب النظام القبلي في البلاد وتبعية هذه المحافظة أو تلك لهذه القبيلة أو لأخرى. ولم يتمكن الحزب من القضاء أو حتى التقليل من آثارها على مستقبل البلد.

بعد عودة عبد الفتاح اسماعيل من الاتحاد السوفيتي في ربيع العام 1985، كنت حينها موجودا في عدن وأمارس عملي استاذا محاضرا في كلية الاقتصاد بجامعة عدن. كنت أشعر أن الشارع السياسي في عدن وبقية مدن اليمن الديمقراطي يغلي ويمكن للمرأ أن يتحسس ذلك في جميع دوائر ومؤسسات الدولة ومن ضمنها جامعة عدن. كانت وفود من اتحاد الشبيبة اليمني الديمقراطي (أشيد) تزور عبد الفتاح اسماعيل في بيته الكائن في حي كريتر في عدن. وكان الأمن اليمني يراقب البيت ويصور جميع الزائرين. هذا ما سمعته من طلبتي الذي كان عدد منهم على صلة أو يعملون في جهاز الأمن المدني (لجنة أمن الدولة) والمخابرات العسكرية.

وكذلك شاهدت ذلك بأم عيني حينما ذهبت الى المحكمة العليا لتصديق دعوة زوجتي لزيارة عدن، حدثت مشادة كلامية بين موظف من مدينة الضالع من أنصار علي عنتر وشرطي من محافظة أبين من أنصار علي ناصر محمد كان يقف أمام مكتب الحاكم الذي صادف أن ذهب لتناول الغذاء في الساعة الحادية والنصف صباحا.

كان الصراع شديدًا بين علي ناصر محمد، الذي اتهم باحتكار السلطة، وبين علي عنتر، الذي عاد ليعلن تحالفه مع عبدالفتاح إسماعيل ضد علي ناصر محمد، خاصة بعد أن أعفي من منصبه كوزير للدفاع. كان عبدالفتاح قد عين عقب عودته سكرتيرًا للدائرة العامة للحزب الإشتراكي اليمني، غير أن الصراع بين الفريقين اشتد وبلغ ذروته في 13 يناير 1986، أثناء اجتماع المكتب السياسي في مدينة عدن. أقدم الحارس الشخصي لعلي ناصر محمد على إطلاق النار على أعضاء المكتب السياسي، فقُتل الحارس على الفور، وقُتِل معه صالح مصلح، وعلي شائع هادي، وآخرون، ونجا عبدالفتاح إسماعيل. قُصفت داره فيما بعد بالمدافع قصفًا عنيفاً، غير أن اخباره انقطعت ولا يزال مصيره مجهولاً. شكلت لجنة خاصة للتحقيق حول مصيره وكان التقرير الذي خلصت إلية اللجنة قد أكد أنه احترق في مصفحة تعرضت لكمين قرب القيادة البحرية، لكن هذا التقرير لم يقدم دليلاً على ذلك [1].

قام الكاتب سلام عبود بعكس هذا الصراع في رواية أبطالها الرئيسيين أمرأة وخمسة نساء مع أزواجهم اللذين كانوا يشغلون مناصب رفيعة في الدولة. تتناول الرواية قصة زواج كل واحدة منهن والأسباب الحقيقية التي تقف خلف هذه الزيجات المبنية على حب أو لمصلحة شخصية من أجل تبوأ المناصب الادارية والحزبية في السلم الحزبي والإداري. ومع ذلك نرى أن سلام سعي في روايته بيان واظهار قصة حب حقيقية ومحزنة في نفس الوقت بين عازفة البيانو كوسيما الهنغارية وبين سعيد أحمد راجح (كادر في سكرتارية اللجنة المركزية ومحاضر في الفلسفة) الذي تعرف عليها حينما كان يدرس في بودابست. واستشهاده وهو في طريق عودته من العمل الى منزله. ومن ثم مشقة البحث عن سعيد وكوسيما التي لاتعرف الا بضعة كلمات من اللغة العربية وتلفظها بلكنة أجنبية. تعرضت كوسيما لاغتصاب من قبل عدة أشخاص في العمارة المثلثة في حي خور مكسر، هجموا عليها وهي نائمة في احدى شقق هذه العمارة التي قام العراقي عصام بمساعدتها في الدخول اليها والاستحمام فيها. تمكنت كوسيما من الخروج من العمارة المثلثة في حالة مرثية لها وبملابس ممزقة ولحسن حظها تم العثورعليها من قبل الزوقري بعد يوم من خروجها من العمارة المثلثة.

ذهبت أنس والزوقري الى المكان الذي توجد فيه كوسيما وقاموا بمساعدتها في الوصول الى دار أم الخير حيث ساعدوها وأسكنوها معهم في غرفة لوحدها لعدة أيام. ومن ثم الاتصال بسفارة هنغاريا التي قامت بتسهيل سفرها الى بودابست.

بدأت العلاقة بين أنس وزوجها نعمان علوي بأستغلال الثاني لمنصبه في سفارة اليمن الديمقراطي كي يؤثر عليها وتقع في حباله بعلاقة غرامية ولكنه بعد أن عرف أنها أخت هادي عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني تغير موقفه منها وخصوصا وأنها كانت تدرس في مرحلة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية والانثروبولوجيا ولهذا قام بطلب يدها من أخيها هادي.

أما صباح وقصة زواجها من عبد اللطيف بدأت حينما قام باستدعائها وكان حينها يشغل نائب وزير التجارة والعضو المرشح في اللجنة المركزية . كانت تعمل في قسم حسابات الوزارة (ص122)، فعل ذلك حتى يتعرف عليها جيدا ويتعرف على أحاسيسها منه قبل أن يتقدم لخطبتها من أهلها ومن ثم مراسيم عقد القران وحفلة العرس. كانت تنظر اليه بالشكل التالي:" الرجل السعيد لا يهمه كثيرا اذا كان الصوت الانثوي الملتاع لذة، الخارج من فم المرأة، مولودا في الجسد بالفطرة أم هو من صناعة مالك الجسد" ص335.

قالت صباح ذلك وهي تعقد مقارنة بينها وبين شفيقة التي تعتبرها "غبية وجاهلة حينما تتباهى بلحمتها التافهة! الجاهلة الغبية لا تعلم أن العبرة لا تكمن بامتلاك هذا الشيء وعدم امتلاكه . العبرة تكمن في النتائج، والغايات. أنا أستطيع أن أصنع ذروتي الجنسية بإرادتي، بذوقي، بمزاجي، متى وأين اشاء. أستطيع أن أطيلها، أنوعها، أعمقها، أفسدها، كما اشاء، بالطريقة التي تعجبني وتنفعني . أفعل ذلك وأنا أحقق رضا شريكي، وأتحكم بمقدار توافقي معه في تلك اللحظة." ( ص335) .

كانت النساء الخمسة (أنس وصباح وشفيقة وشهناز وأم الخير) اللاتي اجتمعن مع أولادهن وبناتهن في بيت أم الخير يتحدثون عن كافة المواضيع والقضايا السياسية والاجتماعية والتربوية ...الخ ويناقشونها بالقدر الذي يعرفون تفاصيل هذه أو تلك الحادثة والتي لها علاقة بمرحلة تاريخية ما من مراحل تطور اليمن الديمقراطي . وهذا ليس بالغريب طالما هؤلاء النسوة اما متزوجات من أشخاص يملكون تأثير في المجتمع اليمني الديمقراطي وفي سياسة البلد طالما يحتلون مناصب ادارية أو سياسية في الدولة أو شقيقات أومحضيات من هؤلاء القادة البارزين في الحزب الاشتراكي اليمني.

تمكنت صباح من تطويع زوجها عبد اللطيف منذ أيام الخطوبة حينما "طلبت منه أن تعلن الخطوبة رسميا ولكن أن يتمهلا في عقد الزواج... قابل عبد اللطيف رحلتها الاعتراضية التي قطعت إتمام زواجهما، بشيء من النفور والكدر. لكنه وافق مستسلما أمام حججها القوية" (ص223).

قامت النسوة بمناقشة التحالفات السياسية بين علي ناصر وعلي عنتر وعبد الفتاح اسماعيل وعلي سالم البيض ..الخ وبرعت في ذلك شفيقة اعتمادا وانطلاقا من قضية ختان النساء وتأثيرها على الثورة والزواج بأمرأتين (ص207 - 212)، " لبثت النسوة حائرات في تفسيرات شفيقة. عقلها الصغير يخلط الحابل بالنابل . لكنها لم تكن بعيدة عن الواقع السياسي، كما كن يحسبن، ولم تكن مغفلة سياسيا. هي على معرفة بمجرى الثورة كلها...الخ " ص212.

" اكتشفت شهناز كنز شفيقة السري بمصادفة محضة، حينما أعارتها شفيقة فيلما عرييا جديدا قالت أنه وصل الى عدن توا مقرطس لكنها تفاجأت حينما عرضته في البيت فوجدت أنه فيلم إباحي مرعب" (ص219).

لاتقدر شهناز على ترك عدن والعيش في بلد آخر أو حتى في أية مدينة يمنية أخرى غير عدن حين تقول:" .......فأنا أخشى أن أكون بلا عدن. من دون عدن لن أكون سوى أم بلا رحم. هذا قدري المرعب، الذي لا أملك خيارا فيه. عدن أمي وأبي ووجودي. أنا ابنة عدن سواء أكانت ثورية أم استعمارية. هنا، في عدن أكون أو لا أكون. سواء أكنت رجلا في ثوب امرأة، أم امرأة في ثوب رجل. عدن تمنحني جنسي الذي أستحقه. أنا وعدن وجود واحد، جسد واحد، وروح واحد " (ص259) .

حلم ام الخير بزوجها تحقق في واقع الحال . " كانت في مدينة "غيل باوزير" لم تزل طالبة، حينما رأت رسالة ملقاة على الأرض، سقطت من صندوق الرسائل الممتلئ، المنتصب على عمود في الطريق المؤدية الى مدرستها....الخ " (ص325). وتمثل أم الخير مجتمع حضرموت الذي يختلف عن مجتمعات عدن ولحج وأبين من حيث قوة العلاقات الاجتماعية وطبيعة العمل الذي يرتكز على التجارة الخارجية بالدرجة الأولى، ولذلك نجد أن الحضارمة مشهورين بعملهم هذا منذ قديم الزمان وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها.

كما وأن تجمع هؤلاء النسوة في بيت أم الخير في ظل هذا الظرف الصعب لم يأتي عن عبث، وإنما جاء بحكم منزلة أم الخير بينهن من حيث احترام الجميع لها، هذا من جهة، وموقع البيت الأكثر أمانا من جهة أخرى وسعته بحيث يكفي هذا العدد من النساء والأطفال.

يتمكن قارىء الرواية من فهم علاقتهن ببعض على حقيقتها على الرغم من أنها تبدوعلاقة حميمية وقائمة على حبهم لبعضهم البعض، ولكنه يكتشف أن كل واحدة منهن تضمر شيئا ما داخل نفسها بإتجاه الأخريات. وهنا أراد سلام عبود أن يظهر طبيعة نفسية الانسان المزدوجة التي يكتنف جوهرها على الصراع بين الخير والشر.

وتقول صباح في مكان آخر من الرواية حول رأيها بأنس: " رغما عن كوننا متزوجتين من رجلين متقاربين في الأفكار والمناصب الحزبية والحكومية . أنا وهي، على عكس أم الخير، نتشابه في سلطتنا العاطفية، هي بقوة أهلها، وأنا بقوة إيماني بجمالي. القوة قاسمنا المشترك. حتى أم الخير المستكينة، الخانعة، تختزن قدرا عظيما من القوة الخفية، قوة النملة . لكن مبدأ القوة عندي لا يقود إلى معادلة زوج قاتل وأخ قتيل" (ص331). وفي الصفحة 332 تستمر صباح في القول:" فرضية الزواج عندي تقوم على معادلة حياتية بسيطة : ادفع تربح، وبما أننا ندفع كثيرا، فمن المؤكد أننا نربح كثيرا أيضا" وهنا يظهر مفهوم الربح والخسارة التجاري الميركانتيلي في عقل صباح . تستمر صباح في عكس مدى فهمها للعلاقات الزوجية والأسرية بالشكل التالي: " نحن نتبادل الأرباح، لكن أنس تتبادل الخسائر، وأم الخير توفر وتدخرالأرباح. أما شفيقة فهي في نظري إحدى مصاعب ومصائب الحياة وتفصيلاتها المزعجة. لابد أن نعترف بوجودها. ولن يجب أن نعترف بها باعتبارها خطرا، لايمكن تجاهل شروره وضبط احتمالاته المؤذية " (ص332).

جاء ذكر الشيوعيين العراقيين في الرواية كونهم موجودين في اليمن الديمقراطي منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي حيث كانوا قليلين وعددهم لا يتجاوز عدد الأصابع، إلا أن هذا العدد تضاعف عدة مرات حتى تجاوزالألف شخص من رجال ونساء وأطفال من مختلف مدن العراق في نهاية سبعينيات القرن الماضي بعد وصولهم الى عدن عبر الكويت أو عبر دول أخرى نتيجة بطش النظام الديكتاتوري بهم.

كان العراقيون يعملون في عدة مدن يمنية وبمختلف الاختصاصات والمستويات، في التعليم الجامعي والثانوي ومنهم كوادر طبية وهندسية. وفي العام 1983 أفتتحوا كازينو في منطقة الجولة (الكولة) بمدينة عدن في الجهة الأخرى من فندق عدن التي قامت شركة فرنسية ببنائه.

تمتاز شخصية الزوقري الذي يلعب دورا رئيسيا في الرواية منذ بدايتها وحتى نهايتها بأنها تمثل صوت الشعب اليمني الجنوبي الحقيقي الذي لا غبار عليه، فهو يقول مايفكر به ويعتقد أنه الصواب بدون لف ودوران. انسان بسيط على سليقته كما خلقته الطبيعة. انه يمثل ذلك الجيل النقي، جيل الثورة اليمنية الجنوبي الذي قارع الاستعمار البريطاني في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، جيل الجبهة القومية للتحرير قبل أن تلوثه البيروقراطية الادارية [2]. وقبل أن تتكون طبقة النومينكلاتورا في اليمن الديمقراطي التي باتت تسيطر على معظم قطاعات ادارة الاقتصاد الوطني [3]، على الرغم من تظاهرها بأنها خادمة للشعب ولكنها باتت تدير ظهرها للشعب و تسكن في بيوت عالية أسيجتها وحراسة خاصة بها في منطقة خور مكسر . أما الناس البسطاء والذي الزوقري أحدهم فلا تهتم بهم النومينكلاتورا كما هو الحال بالنسبة للطبقات الكادحة في الاتحاد السوفيتي في سبعينيات وثمانينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي.

ينتهي الفصل الأخير من الرواية والذي يحمل رقم 35 بأن يستيقظ الزوقري من نومه العميق وهو يفكر أين هو الآن؟ وجد نفسه بين قوارير الويسكي الفاخرة واعتقد أنه في الجنة

التي وعدهم بها الحزب الاشتراكي اليمني. "قوارير خمر بعلامات تجارية إنجليزية! نهض وهو يحمل قارورة مملوءة بالويسكي. انتصب مترنحا، متسائلا: مالفرق، إذا كان هو الآن هنا أو هناك، في الجنة أو في النار!" (ص465-466). ذهب يبحث عن العيال في بيت الدكتورة أنس وفي بيت صباح ولكن الأبواب مغلقة. فكر مليا واتجه صوب بيت أم الخير.

وبعد طرق باب بيت أم الخير عدة مرات وقيامه بركل الباب الخارجي ورمي الحجر صوب النوافذ وسماعه تكسر زجاج نافذة غرفة الاستقبال، قامت أم الخير بفتح الباب ومن ثم توجيه كلمات توبيخ له: صرعتنا يا مجنون وبدوره جاوبها : صرعني إحساسك المرهف رفيقة أم الخير، هل أنت ميتة؟ (466).

بعد أن عرف الزوقري مكان أطفاله، أخذ يسأل عن طليقته شفيقة التي اختفت. واثناء البحث عن شفيقة يعثر على النقيب بخيت با حويرث الذي كانت اصابته بليغة في بطنه. طلب باحويرث من الزوقري أن يأخذ مسدسه وينهي حياته ولكن الأخير رفض ذلك بإعتبار أن الانتحار حرام. ولكن قام بصب الويسكي في جوفه حتى يتحمل ألم الجرح العميق. بعد محادثة طويلة مع باحويرث، ذهب الزوقري للبحث عن شفيقة في المرآب. تمكن من العثور عليها في صندوق السيارة الخلفي مغطاة بالخرق والبطانيات التي لفت بها صباح المجوهرات والتحف المسروقة من إحدى المؤسسات الحكومية. صرخ بملء حنجرته وبرك على الأرض يبكي بحرقة.

بعد مرور قليل من الوقت حملها على ساعديه وتوجه صوب العمارة المثلثة [4] في خورمكسر، تاركا خلفه باحويرث وقد تحول هذيانه الى حشرجات متقطعة ( ص476) .

وقف أمام العمارة المثلثة التي تشبه العملاق الحجري في حالة هستيرية وصاح:

"أنا هنا أنا الزوقري اليماني بن اليماني الى أبعد جد، محرر الجياع والعبيد ومنقذ الجماهير الكادحة من رجس الكومبرادور والاستعمار" (476).

"يا شباب ...انتهى زمن الكفاح المسلح، وانتهت عصور حروب التحرير الشعبية.

اليوم يومنا, لا جناح يمينيا منحرفا، ولا جناح يساريا متطرفا. اليوم يومنا، يومنا نحن .(ص477)

-   الجناح اليميني الانتهازي دحر، والجناح اليساري المغامر نحر. هذا يومكم (ص478).

طوق جسد شفيقة بحنان وخشية، كما لو أنه يطوق فقاعة دموية كبيرة في سبيلها الى الانفجار والتلاشي في العدم . سار بتحد وإصرار ....مخترقا معزوفة نعيق الغربان الجنائزي....متيقنا أن الغربان الوقحة تخاطبه، تجادله، تتفاوض معه، ومن المؤكد جدا جدا أنها تساومه على جسد شفيقة (ص478-479) .

أنا أعتقد أن هذه الرواية تستحق جائزة أدبية من مستوى عال وتنتج على شكل فيلم فني لأنها وثقت وسجلت أحداث تاريخية حقيقية عصيبة مرت بها مدينة عدن بشكل خاص وعموم اليمن الديمقراطي .

كما أن الرواية ينقصها فهرسة الفصول.

مع خالص الود والاعتزاز.

امرأة وخمس نساء

سلام عبود

الطبعة الأولى 2016، عدد الصفحات 479.

منشورات الجمل، بغداد-بيروت 2016

***

أ.د. سناء عبد القادر مصطفى

................

[1] https://ar.wikipedia.org/wiki/عبد_الفتاح_إسماعيل_الجوفي

[2] . الجبهة القومية للتحرير (بالإنجليزية: National Liberation Front - NLF)‏ هي إحدى فصائل المقاومة للاستعمار البريطاني لعدن.[2] تمكنت من نشر نفوذها قبل الاستقلال على حساب منافستها جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل (جبهة التحرير) واستطاعت الانفراد بالسلطة بعد الاستقلال واعلان جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في 30 نوفمبر عام 1967.

[3] تتكون طبقة النومينكلارا من أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية واللجان المنطقية والمحلية اللذين يتمتعون بامتيازات خاصة بهم مثل السكن والمخازن والسيارات ...الخ . ظهر هذا المصطلح لأول مرة في كتاب ميخائيل فوسلينسكي: النومينكلاتورا: الطبقة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي الذي صدر باللغة الروسية في لندن في العام 1985 . قمت بترجمته الى العربية وصدر في مدينة الرباط بالمغرب في العام 2001 تحت عنوان: سقوط الامبراطورية الحمراء، دار نشر الزمن - سلسلة ضفاف.

[4] بنيت العمارة المثلثة في خور مكسر بعدن من قبل الاتحاد السوفيتي في العام 1985 وتم اسكان عدد كبيرفيها من المدرسين والمهندسين والأطباء وأساتذة من جامعة عدن من العرب والأجانب اللذين كانوا يعملون في اليمن الديمقراطي.

" أحبُّ اسمي الجديد، نادني "خيّ جيديوس". أتعلم يا صاحبي؟ بهذا الاسم أصبحت إنسانا جديدا.. فقد ساعدَني لأتغلّبَ على ماضيّ الذي أضحى هاجسي، ومنحني الأمل بالمستقبل.. يوم حملت هذا الاسم شعرت بمقدرة عظيمة على المغفرة .." هكذا تنهي  الكاتبة المخملية  "مارلين وديع سعادة"روايتها "خيّ جيديوس "، الصّادرة بطبعتها الأولى سنة 2013 من ضمن منشورات مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية. في مركز الرّواية، التي تقع في 142 صفحة، واثنا عشر فصلا غير معنون، متباينة الشّخصيات من رجال ونساء وأطفال، من شتّى الطبقات،  توشَّح غلاف الرواية برسم لامرأتين تبدو على ملامحهما الباهتة بوادر الحزن، إحداهما تواسي الأخرى، يوحي المشهد بتصميم على مواجهة المصير المكلّل بالنهايات المخيّبة، والخسارات المتلاحقة، وغير ببعيد يظهر شابٌّ يحاول أن يواسي انكسارهما، أماّ الموغل في المشهد فلا يتوه عن طيف رجلين في أعلى الغلاف يتعانقان، وكأنّ الخلاص من براثن الكراهية كلّلاه بتحابهما وتصافحهما، فيما احتوى الغلاف في أسفله تقريبا اسم الكاتبة الثّلاثي، بخط أبيض بارز، واعتلاه عنوان الرّواية الرئيسي ملحق بعنوان فرعي يختزل أحداثها  " ثمار الحرب وقائع وأبعاد "، قابله في الشقّ الثاني ملخّص كلمة الناشر المؤثرة التي تحمل في طيّاتها إيحاءً يغري القارئ باستكناه النّص، وسبر أغواره فتعمّد مصمّم الغلاف على إقحامها لما فيها من التشويق والدافعية لولوج عالم الرّواية. أمّا لون الغلاف  فقد استحوذ عليه اللّون الرمادي  وسيطرته على الجزء الأكبر من هذه المساحة الاشهارية، وحتى وإن لمسنا حرص مصمم الغلاف على إحداث نوع من التطابق بين اللّون والمواضيع الممثلة، فسيادة اللون الرّمادي  المزاوج  لللّون الأخضر، جعلت صورة الغلاف تبدو وكأنها تعبّر عن واقعية الأشياء والمواضيع المشكّلة لهذا النص الروائي،والّتي تراوح بين رماد  خلّفته الحرب وخضرة ربيع تَعِدُ به القلوب المتسامحة المتحابّة.

لا بدّ من الإشارة إلى الكاتبة والتّعريف بمنتوجها الأدبي الذي كنت أنا شخصيا أجهله، لولا مقال شدّني في إحدى المناسبات، جعلني أوغل في نصوصها وأبحث لها عن المزيد، حتى وجدتَّني أتواصل معها، وتغدق على بالمحبة وتهديني شيئا من كتاباتها، وكانت روايتنا قيد الدراسة. مارلين وديع سعادة، كاتبة مخملية الأسلوب، القلم بيدها مطواع، طود قائم في نصاب صافٍ يشفُّ عن داخله، به النورُ أشعَّ فيه فشفّ عن روح جميلة ناعمة متحابة متآخية، سعت إلى الكتابة فسخّرت قلمها خادما مطيعا لنشر الخير والتآخي بين البشر على اختلاف أديانهم وأجناسهم. تشي نصوصها بمهارة عالية في توظيف اللّغة، وتزفّ منتوجها الأدبي بأسلوب سلس راق، وهي إذ تكتب تظهر أشياء وتضمر أخرى، لا تبوح بها فما دام لكلّ امرىء باطن لا يشركه فيه إلاّ الغيب وحده، إلاّ ما تنبىء به ضمن ما ينفلت من زلاّت قلم يطيع سطوة جأش المشاعر، هذا إن كان قارئها على دراية بالفكر متوغّل في التأويل النّصي، فلا يجد من الصعوبة في الكشف عن ميل كاتبتنا إلى الفكر والتنوير وحب الفلسفة والحكمة، فلا تنفكّ تنهل من كبار المفكرين وتنوّه بالنادي الفلسفي البيروتي "أستازيا فوريم " وهي التي تفاخر باستلامها كتبا من المفكّر اللبناني جهاد نعمان ومن غيره من المفكرين والفلاسفة، مؤمنة تماما أنّ أدبا لا يتفلسف، وفلسفة لا تتأدّب يبقيان بدون بقاء، لأنّ كلًّا منهما واجب وجودٍ للآخر. وهذا يعني أنّ فلسفة الأدب هي ذاتها أدب الفلسفة، فلا تكتفي ولا تكفّ عن التزوّد بمختلف فنون الأدب من شعر وقصّة وراوية، تقرأ بنهم واهتمام، وتحلّل ما تقرأ، فتزيد من ثراء فكرها وسماقة لغتها.فتجد في القراءة ملاذها وحلاّ لمشكلات الحياة، كما ترى أنّ في غير القراءة تتعقّد كل البسائط.

وحي العنوان نوافل وأركان:

حملت الرواية عنوانا لافتا مثيرا  للتساؤل والبحث والإلحاح على قراءة النّص من أجل فكّ شيفرته العميقة، ليجد القارىـىء نفسه يبحر بين أمواج بحر الرواية وأحداثها، يتقفّى أثر العنوان  فلا يجد له أثرا، سوى أن يستسلم للاستمرار في القراءة، ليستمرّ في الاكتشاف عبر فصول، تعمّدت الروائية عدم عنونتها تجنبا للافصاح عن أحداثها، ليجد بذلك نصّا مفتوحا يكاد يخلو من العنوان لولا أن يتفطّن القارىء إلى كلمة "خيّ " ليربطها بالتعميد والصلاح والغفران والأخوة بين أطياف البشر على اختلاف توجّهاتهم، ووفق اسقاط العنوان الفرعي " ثمار الحرب وقائع وأبعاد " ينقشع ضباب الرؤية وتنجلي الغمامة أمامنا،كي ندرك شيئا فشيئا تبعات الحرب وثمارها وأبعادها وامتداداتها البائسة. فيختزل العنوان كلّ فرائض النص ونوافله وأركانه،ما ينمّ عن مهارة الكاتبة في انتقائه كعتبة فاصلة جامعة مانعة. لنصل في الأخير إلى أنّ العنوان هو اسم البطل الرئيسي للرواية الذي بدأت به وانتهت عنده ومعه باسم هو اختاره لنفسه " خيّ جيديوس " قائلا : "المغفرة لكلِّ من يسيء إليّ، حتّى الذين قتلوا أهلي.. لقد منحني اسمي الجديد محبّة كبيرة لكلّ الناس.. كلّنا أخوة "..ص 137.

يدقّون طبول الحرب ونعزف ترنيمة الحب

لا يخفى على القارئ أن رواية " خيّ جيديوس " في مجملها، أحداث وقعت بين سنتي 1988 و1976.لم تكن مجرد رواية يسرح فيها خيال الكاتبة لينسج أفكارا غريبة، إنما هي قصص حقيقية لشخصيات حقيقية أيضا، عايشتِ الحرب اللّبنانية الداخلية، لم تعمد الكاتبة  إلى تدوينها إلاّ بعد مدّ وجزر، وأخيرا دوّنت الوجع، فكان انجرافا في عالم البؤس حيث العنف وحده قوت المبدعين اليومي.

اختارت الكاتبة حقبة زمنيّة محدّدة تأجّج فيها العنف واستفحل البؤس وتفشّى الفساد فغمر القلوب بالغيّ وعماها عن الرّشد، إنّها قرية " الغمر" مسرح الأحداث وملحمة الجرائم غير المبرّرة، تقلّدت دور البطولة أربع شخصيات رئيسية وأخر ثانوية، وعلى لسانهم سُردت الأحداث بضمير الهو، دمجت الكاتبة أصوات متعدّدة للسرد، بفنيّة متقنة. وأسلوب المحترفين  حيث تفتتح النص بهروب الطفل "وسام" ــ الشخصية المحورية في الرواية ــ عبر شاحنة نقل الخضار وتعرّضه لحادث أفقده الذاكرة، لم يكن هروبه سوى النّفاد بجلده من المحرقة التي مَسّت القريةَ وأتَتْ على أخضَرِها ويابِسها، لتتبنّاه سيدة دون أن تعرف اسمه ولا هويته، كانت السّيّدة من عائلة " الصّائغ" اضطرت لمنحه اسم "عصام" . تتوالى الأحداث بسرد ممتع ووصف دقيق مترامي الأطراف وموغلا في التفاصيل، تقلّدت دور البطولة "مريم" إلى جانب السّيد "ناصيف الرّاعي "، كانت مريم البنت الوحيدة للخواجا "جورج سالم " الذي قضى رفقة زوجته جرّاء المذبحة التي طالت منزله، فالكل أسير للحظات العنف وضرب الخناجر في "الغمر" لم تسلم مريم من شرّ البرابرة، وكانت ضحية هيجانهم الجنسي، فكانت الفتاة الأشهى والأقرب من الاغتصاب الذي أثمر طفلا من الخطيئة التي نسبت إليها دون ذنب منها ولا حيلة، الأمر الذي عرّضها لنبذ أهل القرية وحقد جارتها " حنّة"، التي تتفنّن في أذيتها من سبب ومن دونه، تتوالى الأحداث لتنسج خيوطا تتداخل فيها شخصيات ثانوية كثيرة وتظهر الشخصية الرئيسية الثّالثة في الرواية متمثّلة في الفتاة " هبة" التي هي ابنة عمّ لمريم،  تلتقي بمريم وبأبي ناصيف الذي كان يرعاها ويقوم بشؤون منزل والدها "الخواجا جورج"، تتشابك الأحداث وتتعاظم لتصل إلى الذروة، حيث يلتقي "عصام" بهبة ويجمعهما حب كبير لينتهي بموت هبة رفقة خالها بعد أن تعرف أن عصام هو نفسه الأخ الضّال لمريم وهو "وسام" ابن عمّها الذي قررت مربيته الرحيل به الى الخارج، تستمرّ ثيمة البؤس والحزن والمعاناة تطغى على ذلك السرد القصصي الجميل الذي يجبر القارىء على استكمال النهاية دون توقّف، لتتعاظم عند اصابة مريم بالفالج ووفاتها بعد معاناة مع المرض تاركة وراءها " شربل" ثمرة الخطيئة. يستعيد "وسام " ذاكرته ويستعيد معها كل معانيي الانسانية، فيصير أخا لشربل يأخذ بيده ويرعاه ويستقران في دير الكهنوت، حيث المحبّة والسلام يقتبس وسام اسما جديدا يليق بوضعه " خيّ جيديوس " ويصبح ابن مريم " الأخ شربل". فيقرّر الأخوان الغفران والتسامح لأنّه أرقى أنواع النسيان. وتصفية أكداس من الكراهية والحقد، هروبا من مجتمع الكراهية فيه تجمع والحب يفرق، بعد أن تيقّنا، أنه لا يوجد إلا سحر واحد وقوة واحدة وخلاص واحد، وهو الحب التسامح والغفران، فقرّرا أن يعزفا سويّا ترنيمة الحبّ بعد دقّ طويل لطبول الحرب.

***

القارئة الوفية ليلى تبّاني من الجزائر

بفضل العمل المتنوع (في التمثيل والتأليف والإخراج …) ضمن دائرة الفن المسرحي يتمكن الفنان من امتلاك رؤى ومهارات ومعالجات - قد - لا يمتلكها غيره من الذين يعملون باتجاه احادي مثل التأليف حصرا او في الاخراج حصرا. وعليه يمكن ان نشهد تكاملا فنيا وأدبيا حين يكتب المؤلف بمخيلة وفكر المخرج.

مؤلفة مسرحية (استثمار)* د.ايمان الكبيسي متنوعة الاهتمامات، كتبت نصوصا للأطفال والكبار، أخرجت عرضا بعنوان (تويتر نسائي) اخذ مساحة جميلة حين قدمته على خشبة المسرح الوطني، وهي استاذة أكاديمية في جامعة لها محاضراتها وأبحاثها المسرحية وأصدرت أكثر من مجموعة نصوص مسرحية موجهة للأطفال منها (زهرة الماغنوليا) و(الكرى وأحلام الملائكة) ومجموعة من خمس نصوص موجهة للفتيان ضمن كتاب مسرح الفتيان المشترك مع د. حسين علي هارف، وكتبت (قالت لي العرافة) و(أيوب) مجموعتان من النصوص الموجهة للكبار.

تضطلع المرأة في عموم كتابات (الكبيسي) بدور بارز وقوي، وفي نص مسرحية (استثمار) تضع شخصيات مسرحيتها في معادلة تبدو غير متكافئة رياضيا وغير متوازنة نفسيا (أربعة نساء مقابل رجل واحد) مما يجعل القارئ يتساءل منذ السطور الاولى: لماذا اربع إلى واحد؟ ليندفع في تلمس الاجابة، ويتجلى في هذا الامر مهارة المؤلفة لأنها زرعت مصدرا للأثارة منذ البداية واسست لعملية التشويق. 

تستهل المسرحية بمشهد رقصة ثم تصفح جرائد وبعدها تنطق المرأة رقم ١ كلمة (ملل) رقم ٢ تضحك المرأة رقم ٣ تبكي، وتعود المرأة رقم ٢ للضحك، تقوم المرأة رقم ٤ بوصفهن: مجانين .. نسوة مجانين .

منحت (الكبيسي) نسوتها أرقاما ولم تمنحهن أسماء، ولا حتى صفات، دلالة تجريد الشخصيات من الملامح وابقاءهن في إطار واحد بلا تمايز وكأنهن شخصية واحدة بأربعة نسخ، أو شخصية واحدة مقطعة إلى أربعة أجزاء مع الاخذ بالاعتبار ان النسوة بأعمار متباينة وان الاحداث تجري في مكان نسوي (صالون تجميل بأربعة كراسي)

اشتغلت المؤلفة على مفردات تفتح المخيلة عملية الإخراج بِعَدِها قيما اساسية تتبلور من خلالها الفكرة الأساس وتتضح معالم الشخصيات وبواسطتها تنبني الأحداث ويتشكل الجو النفسي العام، من هذه المفردات/ القيم:

* مفردة لغة الكلام: وجدت اللغة للتعبير والتواصل الاجتماعي والفكري، وأن استخدام اللغة المحكية اليومية البسيطة أمر يقرب أفكار النص من المتلقي ويقدمها بحوار واضح ودون تعقيد ولا مغالاة في التعبير:

3- مقبرة نموذجية يعنياننا سندفن (vip)

2- سيكون هناك (واي فاي) مجاني

1- وخدمة توصيل مجاني

2- وتكسي كريم ايضا.

1- ربما ستكون لنا رواتب تقاعدية ومن دون استقطاعات.

2- انها النعيم

4- هي النعيم حقا.

* مفردة الجريدة… سواء أمسكت بها الشخصيات بصورة صحيحة ام أمسكتها بصورة مقلوبة، فهي مصدر خبر لمشروع جديد، تعتقد النسوة الأربع انه يلبي حاجتهن للعمل أو السكن،  وتبين ان المشروع هو (مقبرة نموذجية) وقد تقبلت النسوة الفكرة.

* قرع الصنج كفاصل موسيقي بين تحولات المشهد النفسية وكمؤثر صوتي يتزامن مع بعض العبارات بقصد تأكيدها.

* مفردة قصائد الحب: تسخر النسوة من مشروع المقبرة، وفي الوقت نفسه يفكرن بسرقة فكرة المقبرة ويتباحثن بكيفية انشاءها، تتفق النسوة على التضحية برجالهن للبدء بالمشروع ونجاحه ويصدف أن اثنان من رجالهن على الاقل يكتبون قصائد بمفردات متشابهة، بلا شك ان مصدر القصائد واحد، وان الحرب ذات الأشكال المتعددة أخذت الكثير من الرجال (الاب والاخ والزوج والحبيب) وذهبت القصائد معهم، وحالما يتم الشروع بالتخطيط للعمل بالمشروع  تدخل شخصية (الرجل) لتبدأ مرحلة تصاعد الفعل الدرامي.

* مفردة بدلات مشفى المجانين يأتي بها الرجل ويلبسها للنساء الأربع وينادي عليهن بإسم واحد ذي دلالة واضحة ( فقيدة ضايع تايه) لتجيب النسوة بكلمة (نعم) كلهن فقيدات بنات ضائع تائه، هذا ما اطلقه الرجل عليهن وقد يجسد نظرة الرجل لهن، بل ويذهب الرجل الى ابعد من ذلك حين يتهم النسوة بسرقة ارض والده التي يقمن المشروع عليها وأنه جاء لتنفيذ الحكم.

* مفردة الاسم والاسم المناقض:  يكشف الرجل عن اسمه (فائز بخيت منصور) ذي الدلالة النقيضة تماما لاسم النسوة وان الذي اعطى الحق للرجل بتنفيذ الحكم هم (القاضي ورجل الامن والمدعي العام) ويبدو انهم كلهم رجال، وفي هذا إذكاء وتصعيد للصراع الذي اشعلته (د.ايمان الكبيسي) بين الأنوثة والذكورة، بين الرجل الواحد والاربع نساء، بين الباحثات عن الاستثمار المشروع في الارض وبين وريث الارض من ابيه بإسناد من سلطة الأمن والقضاء حتى انه يتهم النسوة بالجنون ويحكم عليهن بالإعدام ويخبرهن بانه سيقوم بالدفن بعد الاعدام في المقبرة النموذجية، وانه يرفض استئناف المحاكمة لانه هو نفسه - وهذه نهاية صادمة-  القاضي ورجل الأمن والادعاء العام.

كتبت المؤلفة  هذا النص بمخيلة المخرج يتضح ذلك من خلال جميع مفردات النص، بما فيها تحديد مكان الأحداث (صالون التجميل) الذي استحال إلى مشفى مجانين ثم عاد في النهاية الى حالته الاولى عندما جلست النسوة على كراسي الصالون وتدلت أجهزة تسريح الشعر من جديد (الشسوار) على رؤوسهن مع إصرار المؤلفة - بحسب ارشاداتها - على أن يكون ثمة شبه بين التكوين الأخير للشخصيات وبين القبور

نهاية سالبة للنساء وناصرة للرجل هكذا ارادتها (الكبيسي) لان النساء في مسرحيتها تمثل امرأة واحدة ولكنها مجزأة، انها حيرى ومترددة وبلا قرار، في حين صورت الرجل بقرار وسلطة مستمدة من القضاء، في هذا دفع واضح نحو: يا امرأة كوني واحدة وإلا تحول مكان التجميل الى قبر.

***

ا. د. حبيب ظاهر

......................

* نص مسرحية (استثمار) منشور في مجلة (الفرجة) الاليكترونية - الثلاثاء 9/ مايو/2023.

قراءة في "بكائيات في الغربة والاغتراب" للروائي والشاعر عبد الكريم الكيلاني

الغربة والاغتراب، مفهومان يشيران إلى الحالة التي يشعر بها الإنسان بعدم الانتماء والاستقرار، في المكان الذي يعيش فيه، فيرجح السبب وراء ذلك، هجرته القسرية، أو الانتقال الذاتي لأسباب شخصية، أو اجتماعية. ومن المحتمل أن يؤدي الوحدة والانعزالية، إلى البكاء والتألم، خاصة إذا كان الفرد يفتقد الدعم العاطفي والاجتماعي الذي يحتاج إليه. ولذلك، يمكن أن تكون قصائد البكاء والتألم. النتيجة الطبيعية لتلك الحالة، في الأدب الغربي، يوجد العديد من الأعمال الأدبية، التي تتناول موضوع البعد عن الوطن، والتي قد تتضمن قصائد البكاء والتألم. ومن الأمثلة على ذلك، الشاعر الأمريكي الإنجليزي "تي. إس. اليوت في قصيدته "الأرض اليباب"، وليدلان توماس، في قصيدته التي تحث على الصمود والمقاومة في وجه الموت "لا تستسلم لتلك الليلة الطيبة". ومن أمثلة الأدب الشرقي والإسلامي. يمكن ذكر العديد من الأعمال الأدبية التي تعكس تراثنا الثقافي والأدبي، ومنها شعراء مشهورون مثل الشاعر الأندلسي ابن زيدون، والشاعر السوري نزار قباني والشاعر المصري أحمد شوقي والشاعر العراقي مظفر النواب والعديد من الشعراء الآخرين. كما يمكن ذكر العديد من الروايات والقصص العربية والإسلامية التي تعكس ثقافتنا وتاريخنا، مثل رواية ألف ليلة وليلة ، ورواية الأسود يليق بك للكاتب السوداني حمور زياد ورواية موسم الهجرة الى الشمال للاديب الراحل الطيب صالح، والعديد من الأعمال الأخرى. ويمكن أيضًا الإشارة إلى الأدب الغربي الذي يحوي العديد من الأعمال الأدبية الرائعة، مثل رواية مذلون مهانون لكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي ورواية عيناك للكاتب الفرنسي إليف شافاك ورواية ضوء افتراضي للكاتب الأمريكي ويليام جيبسون والعديد من الأعمال الأدبية الأخرى التي تشكل جزءًا من التراث الأدبي الغربي. وبالتالي، يمكن القول بأن الأدب بشكل عام يعكس الثقافة والتاريخ والتجارب الإنسانية، ويمثل جزءًا هامًا من التراث الثقافي للشعوب المختلفة.

بكائيات في الغربة والاغتراب للشاعر والروائي عبد الكريم الكيلاني، في قصيدته "الشرطي"، نجد العراقي البسيط وهو يخوض تجربة شديدة الصعوبة، حيث يتعرض لاستجواب قاسٍ من قبل شرطي يسأله عن هويته ومكان وجوده. يجيب المواطن بكل حزن وأسى، مؤكداً بأنه كوردي وأنه في طريقه إلى كردستان. وما إن يسأله الشرطي عن مكان وجوده السابق، حتى يجيب بصدق أنه كان يعيش في بغداد. ولكن، هنا يتدخل البلاغة والرمزية في القصيدة، حيث يسأل الشرطي عن الفرق بينهما، فهل يكمن الاختلاف بينهما في العاصمة بغداد أو في أربيل؟ ويجيب المواطن بحزن ويقول بصدق: "الفرق لا يهمني، فأنا أحب العراق بصباحه وليله. ومن هنا، تأتي رمزية هذه القصيدة، فالعراق هو بلد الشموخ والعزة، وليس هناك فرق بين أبنائه، سواء كانوا من الشمال أو الجنوب، الشرق أو الغرب. فكلهم أبناء هذا الوطن الذي يحتضنهم جميعًا. إنها قصيدة تمزج بين البلاغة والشعر والواقعية، وتصور الحقيقة الصادمة التي يعيشها العديد من الأشخاص في الغربة والاغتراب، وتحث على التمسك بالوطن والانتماء إليه، دون النظر إلى أي اختلاف بين أبنائه. تتميز هذه القصيدة باللغة الجميلة والموضوع المؤلم الذي يعبر عن الحزن والوحدة التي يشعر بها المواطن العراقي في هذا الموقف.

في قصيدة "أنا وأنت"، تأخذنا عبر رحلة مؤلمة إلى عالم مظلم يسوده الفساد والعنف والظلم، حيث يعيش الإنسان في حالة تشرد وضياع. تصوّر القصيدة الحالة الإنسانية بشكل عام، وتتركّز على عدم الانتماء لأي مجتمع أو فئة معينة. يستخدم الشاعر في القصيدة تشبيهات ورموز قوية تعزّز الصورة الأليمة للحياة، حيث يصف الغروب بـ"مدائن" والخطيبين بـ"هائمان حد الوجع المسلوب"، مما يجسّد الضياع والتشرد. ويستخدم الشاعر تشبيه "العتاة" بأنّهم حاملون لقرص الشمس في جيوبهم، ويصف الحالة النفسية للإنسان الذي يبحث عن تاريخه الملطخ بالعار والهزائم. وفي نهاية القصيدة، يستخدم الشاعر تشبيه الحبيب والسهم المسموم لوصف العنف والظلم الذي يمارسه الناس بعضهم على بعض. يتم تصوير الحبيب بصفة الطاغية الذي يقود الشخصين للتشرد والتعب، والسهم المسموم يرمز إلى الجريمة والعنف الذي يحاول الشاعر الهروب منه. بشكل عام، تعد "أنا وأنت" قصيدة شاعرية مؤثرة تصوّر الحالة الإنسانية العامة وتدعونا للتفكير في واقعنا المعاصر وتحليل الظواهر  الاجتماعية التي تؤثر على حياتنا بشكل عام. إنّها قصيدة تستحق القراءة والتأمل فيها، فهي تشكل دعوة للتمرد على الفساد والعنف والظلم وتحاول إلهامنا بالأمل والتغيير.  

قصيدة "غربتنا" تتميز بالشعرية والرمزية والبلاغة، حيث يستخدم الكاتب الصور الشاعرية والتشبيهات والرموز التي ترمز إلى الحرية والبحث عن التاريخ والهوية المفقودة. كما يستخدم الحوار والوصف والتعبير عن الأحداث بطريقة جميلة وواضحة. تعبر القصيدة عن الصعوبات التي يواجهها الشخصان في العثور على هويتهم وتاريخهم المفقود، ويحمل رسالة مؤثرة عن الشجاعة والإيمان بالأمل والتحلي بالصبر والثبات في وجه الصعاب والتحديات. كما تم استخدام العديد من الرموز مثل "العار والهزائم" و"مخارج الحروف في متاهة الكلام" و"السراب والواحة التي ترمقهم العيون بالظنون والأوهام". استخدم عبد الكريم الكيلاني الكثير من العبارات والجمل الشاعرية، مثل "يرتّقان صدر الحب في مواسم الغياب" كما استخدم الحوار مما يضفي عمقاً على القصيدة. وبذلك يعطي القارئ صورة شاملة عن المعاناة التي يتعرض لها الشخص الذي يسعى للحرية، والتضحيات التي يجب عليه القيام بها لتحقيق هذا الهدف. ومن الناحية الشعرية، تمتاز هذه القصائد بالإيقاع السريع والنغم العميق. بشكل عام، تمثل عملًا أدبيًا فنيًا جميلًا، يحتوي على العديد من الرموز والأفكار العميقة التي تتحدث عن معاناة الإنسان في البحث عن الحرية، وتجسد الرسالة الإنسانية العالمية التي تعبر عن النضال الحقيقي، ومواجهة القيود والظلم والاضطهاد.

إذا نظرتم إلى قصائد "بكائيات في الغربة والاغتراب"، ستجدون نغمات شاعرية عذبة يرتلها الشاعر بأسلوبه الفريد، فيعبر بكل بلاغة ورمزية عن الألم الذي ينخر في دواخل الناس، والشوق العميق إلى الحرية والوطن. ففي قصيدة "الحرية"، يتحدث الشاعر عن حالة اليأس والتشاؤم التي يعيشها الناس في بلادهم، ويوجه رسالة واضحة بأن الحرية هي الحقيقة التي يجب السعي إليها، يعبر  عن الرغبة الشديدة في التحرر من القيود والظلم، وبأن الحرية هي المفتاح الوحيد لتحقيق السعادة والازدهار في الحياة. وهذا ينطبق على كل الناس في كل مكان، حيث يعتبر الحرية حقاً أساسياً للإنسانية والكرامة الإنسانية. ويصوّر هذه الحالة المأساوية بصورة الكرسي الأبدي والسونيتة التي تعبّر عن تشرد الإنسان وغربته، وتزيد من قساوة الوضع الذي يعيشه.

في النهاية، يطلب الشاعر بأسلوب موسيقي وفني أن يقتلوه يومياً باسم الحرية، ليخرج من حالة الحرمان الذي يعيشه، ويتحرر من طغيان الظروف الصعبة، ويجد طريقه نحو الحياة الحرة والكريمة. إنها قصائد تتحدث عن معاناة الإنسان في العزلة والانعزالية، وتحمل بداخلها رسائل شديدة الأهمية، تعبر عن رغبة الإنسان في الحرية والعدالة، وتدعو إلى النضال والصمود في وجه القيود والحرمان. تخيّل الألم الذي يشعر به الإنسان المشرد، والذي يجعله يشعر وكأنه كرسيٌ أبدي يجلس فوقه طيلة الوقت، ويعزفُ خلفَ جراحه باسمِ الحرية. يترددُ صداه في أرجاء الفضاء، معزوفةُ الأمل الوحيدة التي تبقى على الرغمِ من كلِ الصعاب والتحديات. في هذه اللحظات اليائسة، يستلطفنا الشاعر بحنينٍ عميق، ويدعونا إلى مشاركته هذا الألم، لنعيشَ معاً رحلةَ البحث عن الحرية والعدالة. وبالرغم من صعوبةِ المسيرة واختلافِ الطرق، فإن الأملَ الدافع الذي يتغذى من الفن والأدب والثقافة يظلُّ شعلةً مضيئةً لا تنطفئ. يتغنى الشاعر عبد الكريم الكيلاني بمدينته الحرة، لكنها في الوقت ذاته يعبر عن حزنه الشديد لما يعانيه شعبه من محن وألم. فقد تتغطرسُ أوشحةُ النوح والبكاء والأنين في مسامع السكان، وتزيحُ الستار عن واقعٍ قاسٍ يستحقُ التغيير. وفي النهاية، يتحدث الشاعر عن شوقٍ عميقٍ للحرية المطلقة، فيدعونا إلى قتله يومياً باسمِ الحرية، لأنه يشعر وكأنه مقتول منذ سنين. لكنه يعزفُ موسيقَىً من الأمل بعد كلِّ الألم، ويشعر بالثقةِ بأنَّ غدًا أفضل. عبد الكريم الكيلاني هو شاعر وكاتب عراقي معاصر، معروف بأسلوبه الشعري الراقي والمؤثر. يتميز أسلوبه بالرمزية والشعرية العميقة، يعالج في قصائده قضايا الحرية والهوية والعدالة، وينتقد بشكل حاد الظلم والاضطهاد. تعبر قصائده عن معاناة الإنسان في بحثه عن الحرية والكرامة الإنسانية، وتحمل رسائل قوية تدعو إلى النضال والصمود في وجه القيود والحرمان. كما تتميز قصائده بالعمق الفلسفي والأدبي، حيث يتم استخدام الصور الشاعرية والتشبيهات بشكل مميز وجذاب إن ما يميز شعر الكيلاني هو قدرته على تجسيد المشاعر والأحاسيس الإنسانية العميقة بشكل جميل وراقي، وتوصيل رسالته بأسلوب شعري متقن. يستخدم الكيلاني الكثير من الرموز والصور الشعرية التي تجعل من قصائده أعمالاً فنية رائعة.

***

زكية خيرهم

مدخل: بما أنّ الرواية والقصة والفيلم والمسرحيّة والفن التشكيليّ بكل أشكالها وفي سياقاتها العامة هي مشروع فكريّ إنسانيّ، يهدف إلى بناء وعي الإنسان وإعادة تشكيله دائما بما يخدم الإنسان ذاته وقضاياه المصيريّة، لذلك سيظل هذا المشروع مع بقيّة المشاريع الموازيّة في الفلسفة وعلم الاجتماع، يؤثر بالضرورة على عقول الناس ومسيرة حياتهم وتطلعاتهم، وسيظل أيضاً محط استخدامٍ من قبل من ينادي بتطور الإنسان وتنميته، أو من قبل من يعمل على تخلفه وتشيئه وتذريره... وهذا في الحقيقة ما يدفعنا للكتابة عن هذا المشروع كي نُظهر تلك الرؤى والأفكار والنظريات التي يستخدمها الفنانون والأدباء والفلاسفة وعلماء الاجتماع، في أعمالهم تحت ذرائع غالباً ما تتخذ من مسألة الدفاع عن حريّة الإنسان وفردانيته وقضاياه الماديّة والروحيّة وسيلة أو ذريعة. لذلك تأتي قضيّة "الأدب الوجيز" ضمن رؤى هذا المشروع بالضرورة.

لقد ركز القرن العشرين في اهتماماته الفنيّة والأدبيّة على الحداثة التقدميّة - أي ما بعد الحداثة - إلى الحد الذي كادت أن تُهمل فيه الحداثة المحافظة، أي الحداثة التي بشرت بها الحركة الأنسيّة أولاً، ثم عصر التنوير ً بعد قيام الثورة الصناعيّة ثانياً، وظهور الطبقة البرجوازيّة، كطبقة حملت المشروع النهضوي ضد استبداد الكنيسة والنبلاء والملك. وعلى هذا الأساس راح الفنانون والأدباء والنقاد الذين اشتغلوا ويشتغلون على هذه القضايا في هذا القرن، يعلنون سخريتهم تجاه أيّة صيغة فنيّة أو أدبيّة أو فلسفيّة أخرى غير الصيغة الما بعد حداثيّة.

إن ما أطلق عليهم اسم (الفنانون الأكاديميون) على سبيل المثال لا الحصر  في القرن التاسع عشر، اعتقدوا – أي الفنانون الأكاديميون - أن ما يقومون به من أعمال فنيّة سيعمل على تحسين العالم عبر عرض أعمالهم الفنيّة التي تتضمن أو تعكس تلك القيم الأخلاقيّة المحافظة والنبيلة معاً، وهذا ما تدل  عليه تلك الأعمال الفنيّة  الفاضلة والمبدعة التي كانت تلهم العاطفة الدينيّة وتدفعها للعمل الصالح والنبيل الذي يطمح الجميع إلى محاكاته أو التشبه به في هذه الحياة.

أما العالم الحديث الذي راح ينعكس في الأعمال الأكاديميّة المعبرة عنه، وفي حالات تقدمه المتوالي، فلم تكن هذه الأعمال في حقيقة أمرها أكثر من تجسيد للواقع الراهن وداعم له وعارض لمستقبله بطريقة لا يهمها كثيراً الحفاظ على قيمه الإيجابيّة وتنميتها. بينما نجد الفنانين والأدباء المحافظين قد رغبوا في الحفاظ على واقعهم ومؤسساته، وفضلوا التغيير التدريجيّ التقدميّ لهذا الواقع على التغير الراديكاليّ. هذا في الوقت الذي نجد فيه أيضا أن هذه الأعمال المعاصرة (الما بعد حداثويّة) كثيرا ما كانت تُنتقد من قبل المؤسسات السياسيّة والدينيّة معا، كونها وضعت ثقتها في نطاق المنفعة الفردانيّة، هذه المنفعة التي اعتقدوا أن انطلاقتها كانت مع فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وقد وصلت الآن إلى مرحلة التفسخ الاجتماعيّ بسبب قضايا كثيرة في هذا العصر، أهمها،  نمو المدن، وانتشار الفساد الاجتماعيّ بسبب مفرزات الثورة الصناعيّة، وسيادة النظام الرأسماليّ المتوحش، الذي شجع على الفرديّة، وجعل من الفرد الذي أخذ يميل إلى الشر في عالم المنافسة هذا، حيوانا متوحشا. لذلك فكل هذا، كان وراء  تمجيد (روسو) مثلاً للطبيعة، وتشجيع العدد الكبير من الحداثيين ليعطوا حياة الريف صفة المثاليّة، وهذا هو ذاته أيضا الذي دفع (توماس جفرسون) للعيش في بلده قريبا من الطبيعة، وإعلان رغبته بأن يكون اقتصاد الولايات المتحدة اقتصاداً زراعيّا بكامله.

عند المقارنة ما بين الحداثة المحافظة والحداثة التقدميّة، أي ما بعد الحداثة - نجد أن الحداثة المحافظة بقيت مقيّدة بالأفكار القديمة الميالة إلى دعم القيم الايجابيّة في المجتمع المعاصر، بينما الحداثة التقدميّة، أو ما بعد الحداثة،  راحت تتبنى المواقف المعادية للمجتمع ومؤسساته القائمة، ثم  بطريقة أو بأخرى أخذت تناضل تجاه كل السلطات القائمة تحت اسم الحريّة، وبذلك تكون قد أساءت لقيم البرجوازيّة الليبراليّة المحافظة عن قصد أو بدونه.

على العموم ولكي لا نظلم تيار ما بعد الحداثة برمته، نحن لا نعدم في الحقيقة بعض المواقف التنويريّة العقلانيّة ذات التوجه اليساريّ إلى حد ما المشبعة بالبعد الإنسانيّ، بمعظم أنساقه المعرفيّة وفي مقدمتها الأدب والفن والفلسفة وعلم الاجتماع، وذلك من خلال  اهتمام أصحاب هذه المواقف التقدميّة بالقضايا السياسيّة والاجتماعيّة، أو بمجمل ما يتعلق بهموم المجتمع المعاصر وخصوصا في هموم حلقاته الدنيا أو الفقيرة، وإلى حد ما في حلقاته الوسطى الراضيّة عن نفسها بشكل متزايد. فمن خلال أعمالهم الفنيّة والأدبيّة راحوا يبثون هموم القوى الاجتماعيّة الفقيرة في المجتمع المعاصر بشكل مباشر أو غير مباشر، مدركين ضرورة عنونتها والعمل على تصحيحها، مثل، معاناة الفلاحين، واستغلال الفقراء، والبغاء... الخ . إضافة إلى ذلك، لقد راح هذا الفصيل المابعد  حداثيّ التقدمي، وبشكل متطرف من خلال أفكار التنوير الداعيّة  للحريّة والمساواة، يعمل على تثقيف العامة بغية مواجهة القوى الاجتماعيّة المحافظة صونا للحياة وخلق مكاناً أفضل لعيش الإنسان فيه. وهذا الموقف المتخذ هنا من قبل هذا الفصيل التقدميّ، وأمام موقف الحداثيين المحافظين الذين تمسكوا بالماضي والتقليد معا، فان الفصيل  التقدمي هذا رفض التقليد عن قصد. ولكن بالرغم من أن الحاضر في خط حركته وتطوره الحتميّ والإراديّ يكون في سياقه العام أكثر حداثةً، إلا أن التقليد يستمر في حضوره  ممتداً في نسيج الحاضر.

إنّ رفض الماضي أصبح أمرا ضروريّا بالنسبة لفنانيّ وأدباء وفلاسفة ما بعد الحداثة، وبخاصة مع قدوم الحرب الكونيّة الأولى التي عنت بالنسبة لهم الفشل الذريع للتقليد وقيمه، ثم أن الكوارث التي ولدها التصنيع والتي تجلت في نتائج هذه الحرب، بينت بشكل من الأشكال أنّ تلك الثقة العظيمة التي منحت للعلم والتقدم التكنولوجيّ من حيث قدرتهما على خلق عالم أفضل، أتبتت فشلها بشكل واضح، مثلما بينت أيضا أنّ بروز المدارس المابعد حداثويّة، كالسرياليّة والرمزيّة والوجوديّة والعبثيّة والتفكيكيّة وغيرها في الفن والأدب والفلسفة، هي علامات بارزة على انبثاق ما سميّ بـ (ما بعد الحداثة) من البنيّة الذهنيّة والعقليّة للفنان أو الأديب أو الفيلسوف أو عالم الاجتماع.

دعونا نعمل هنا على توصيف (ما بعد الحداثة) لنقول: إنّ اعتقاد طلائع الاتجاه الحداثيّ التقدميّ  والليبراليّ منذ القرن الثامن عشر بشعارات الحريّة والعدالة والمساواة، غالبا ما تجلى في الفن والأدب والفلسفة بشكل واضح لا يقبل الدحض، فهذا الاتجاه الذي أصبحت الحريّة في أبعادها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافية  أحد مواضيعه الهامة، مثلما تجلت الحريّة أيضا كأسلوب فني تمثل في اختيار شكل ومضمون العمل الفنيّ والأدبيّ، وذلك كله جاء تعبيراً عن ممارسة حقوق الفنان والأديب الذي آمن بتيار ما بعد الحداثة، وعمل على لفت نظر الآخرين تجاهها.

في مرحلة متقدمة من القرن العشرين، أصبحت ممارسة الحريّة الفنيّة والأدبيّة والفكريّة عموماً، متطرفة بالنسبة لمتبني هذا التيار الفكريّ أو المشتغلين عليه، فالفنانون والأدباء أخذوا يبحثون هنا عن الحريّة في صيغتها المتطرفة، ليس في مجال القواعد والقوانين الأكاديميّة للفن والأدب فحسب، بل وفي نطاق حاجات الشعب أيضاً، فمسألة التطرف المبكرة في الدعوة  للحريّة بالنسبة لهم كانت وراء الفكرة التي راحت تقول: إن الفن أو الأدب الذي سينتج من اليوم، لم يعد في حقيقته من أجل الشعب، بل هو من أجل الفن. أي الفن والأدب المجردين من صلتهما العضويّة بالمجتمع وقضاياه المصيريّة.

مع ملاحظة مشهد معطيات ما بعد الحداثة في الأدب والفن والفلسفة، يأتي شعار (الفن من أجل الفن)، و كذلك الأدب من ضمنه على اعتباره شكلاً من أشكال الابداع الفني، ليشكل أساس دعوةٍ للتحرر من أيّ قيود تحد من حريّة الإنسان وفردانيته. ففي الوقت الذي نجد فيه ممارسة شعار (الفن للفن) تعبيرا عن الحريّة، نجده في أبعاده غير المعلنة ليس أكثر من (خدعة)، و(إهانة) مدروسة تجاه إحساس أو وعي البرجوازي في مرحلته الليبراليّة التقدميّة او الكلاسيكيّة، التي أراد فيها الفن والأدب أن يحملا معانٍ وأهدافاً وقيماً تساعد على تنوير وتعليم الأخلاق، (فلاسفة وأدباء وفنانيّ عصر التنوير أنموذجاً). وهذا لم يعد محققا في هذه الأعمال الفنيّة الما بعد حداثويّة، حيث نجد الفنان الما بعد حداثيّ على سبيل المثال يقول بمرح : " قررت أن يكون غرض فنيّ ليس لتلك "الأشياء النبيلة "  أي نشر قيم التعليم والتثقيف والتربية.

وفي مقال للكاتب (Oscar Wilde)  بعنوان: (  (The Soul of Man Under Socialis نشر عام 1891 جاء فيه : ( إنّ العمل الفنيّ هو النتيجة للمزاجيّة الفريدة، فجماله يأتي من حقيقة ما يكون عليه الكاتب أو الفنان، وهو في حقيقة أمره لا يملك شيئا في عمله لما يريد الآخرون تحقيقه. إن الفنان في اللحظة التي يأخذ فيها إشارة أو ملاحظة ما يريده الآخرون ويجرب تحقيقه في أعماله لا يعود فناناّ، ويتحول إلى لعبة، أو حرفيّ هزليّ، أو ربما تاجر شريف أو غير شريف، وفي نهاية المطاف، هو لن يملك أكثر من الادعاء بأنه فنانا فحسب). (راجع دراستنا الفن من أجل الفن المشار إليها نهاية الدراسة).

على أية حال، إنّ شعار الفن للفن، أو الأدب للأدب المعبر عن طموحات تيار ما بعد الحداثة، ويأتي  "الأدب الوجيز" أنموذجاً تطبيقيّاً لهذا الشعار، ولتوجهات تيار ما بعد الحداثة في نسقه السلبيّ معاً، وهو (خديعة أو وهم) كما أشرنا في موقع سابق، تمخضت عنه نتائج عكسيّة.

إنّ "الأدب الوجيز"  كنسق ادبيٍّ ما بعد حداثوي، يشتغل على تحطيم السرديات الكبرى في الملاحم الشعريّة أو الروايات. وهذا التحطيم سينال بالضرورة الكثير من التكنيك الفني في السرد وما يتطلبه العمل الأدبي من زمان ومكان وشخصيات وحوادث وتناقضات وآلام وأفراح المجتمع، وكل ما يتعلق بأهداف الأدب كوسيلة هامة لتغيير الفرد والمجتمع.

إنّ "الأدب الوجيز" يركز على الفكرة (الومضة) التي تشير إلى قضيّة ما من القضايا الماديّة أو الروحيّة، معزولة عن محيطها الاجتماعيّ والتاريخيّ.. لذلك هي أقرب - أي الفكرة - إلى موقف ذاتيّ للكاتب يعتمد على الحدسيّة والإدراك السطحيّ البعيد عن عمق أو جوهر الفكرة أو الظاهرة المطروحة، من حيث تشكلها وأسباب ظهورها وأهدافها. أي بعيدا عن سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين وأهدافها.

إنّ الأدب الوجيز في نهاية المطاف هو أدب يدخل في مضمار نظريات ورؤى ما بعد الحداثة، التي حطمت فكرة الدولة والدين والأخلاق والتاريخ وكل القيم النبيلة التي تهدف لبناء الإنسان.. أي بتعبير آخر، هي نظريات تشتغل على نطاق التفكيك وموت القيم النبيلة. وما نظريّة الأدب الوجيز في جوهرها إلا تجل من تجليات ما بعد الحداثة، فهدفها تفكيك النص الأدبيّ واقصاء الكثير من مكوناته الفنيّة وحتى الفكريّة الملتزمة بقضايا الناس ومشاكلهم الحياتيّة، لتدفع بالفكرة ذاتها إلى مجال المواقف الذهنيّة، وليس إلى المواقف العقلانيّة النقديّة التي تهتم بالإنسان وقيمه النبيلة. وبالتالي هي تساهم في تحطيم الأدب وأسسه وكل جمالياته وتكنيكه السردي وشخوصه ولغته وأفكاره العقلانيّة.

إنّ البرجوازي نفسه الذي له ذوقه وأفكاره الحداثيّة التي مثلها فلاسفة عصر التنوير، راح عبر شعار الفن للفن ذاته،  يواجه بسرعة انحراف الفن والأدب عن مسارهما وتحولهما إلى وسيلة تعزز إيقاف أو إبطال مفعول المؤثرات الحقيقيّة للفن والأدب تجاه كل ما هو ضار أو مفيد في المجتمع، أي تحويله إلى فن أو أدب مجردين، وهذا ما راق له بعد أن تحوّل إلى رأسماليّ متوحش يهمه الربح، والربح فقط، تحت مظلة النظام العالميّ الجديد.

في نهاية القرن التاسع عشر، وجدت الإرهاصات الأوليّة للنقد الفني بعمومه من قبل نقاد ومؤرخي الفن والأدب، حيث كانت هذه الارهاصات النقديّة ذات مفاهيمَ شكلانيّةٍ، مُبعدة بشكل فعال مسألة (المعنى أو القصد) عن مكانته أو اعتباراته النقديّة، لذلك راح الفن والأدب يناقشان قضاياهما انطلاقا من هذه الفترة – نهاية القرن التاسع عشر وصاعدا - في نطاق مفاهيمَ أنموذجيةٍ آخذين بعين الاعتبار اللون، الخط، الشكل، الفراغ، التركيب، موت المؤلف، القطع مع الماضي، تحطيم فكرة الزمان والمكان، تحطيم السرديات والتركيز على الومضات الفكريّة المشبعة بالذاتية.. الخ آملاً هذا الفنان أو الأديب، وتحت أي اعتبار اجتماعي، أو سياسي، أو بيانات  تقدميّة معلنة .. الخ، أن ينجز عمله الفني أو الأدبي. ففي مثل هذا المقاربة الفنيّة أو الأدبيّة، تجد الفنانين والأدباء في الحقيقة، الهواة منهم، وإلى حد ما بعض المحترفين أيضا، مع تحقيق حرفيتهم واستقراهم الفني، راحوا يفقدون أهداف الحداثة الحقيقيّة في صيغتها الليبرالية الممثلة لعصر التنوير، شاؤا أم أبوا،  ليستغرقوا في الأسلوب الشكلي من التفكير الفني أو الأدبي. ودفاعا عن هذا الموقف الفني أو الأدبي، أخذ الجدل يدور حول، أنّ هذا الأسلوب المتبع هنا، يعبر تماما عن وظيفة الفن أو الأدب، وهذه الوظيفة تقوم على تعزيز وحفظ قيم وأحاسيس الحياة الإنسانيّة المتمدنة، ومحاولة البقاء بعيدا عن التأثيرات المؤذية بشكل عام، وإلى أقصى حد ممكن الثقافة التكنولوجيّة في بعدها  اللاإنساني .

أخيرا نقول في هذا الاتجاه:  لقد ظهرت هناك فكرة أنّ الفن أو الأدب الحديثين مورسا كليّاً داخل محيط صيغي مغلقٍ، ثم راحا ينفصلان بالضرورة عن محيطهما الاجتماعي كي لا يتلوّثا بالعالم الخارجي. لقد لمس الكثير من كتاب وأدباء ونقاد "ما بعد الحداثة  " أن الأعمال الفنيّة والأدبيّة في عالم ما بعد الحداثة قد أنجزت استقلالها الذاتي في مرجعيتها، الأمر الذي جعل الأعمال الفنيّة والأدبيّة تبدوا وكأنها ظاهرة معزولة تماما وفي  شيء من النقاء الفكريّ المجرد عن الواقع، أي أنه لم يعد الفن والأدب يّحكمان من قبل دوافع إنسانيّة، بل أخذا يّحكمان في الواقع من قبل قوانين غامضة كليّاً وبأساليب متطورة. وبتعبير آخر يمكن القول أيضا في هذا الاتجاه : إنّ الفن والأدب قد انفصلا عن الزمن الماديّ وعن كل ما يتعلق بالأحداث العاديّة للناس العاديين .

إنّ الاستقلال الذاتيّ لطبيعة الفن والأدب، يعني الإجابة الصحيّة عن تلك الأسئلة المطروحة حول مفاهيمها. فتاريخ ما بعد الحداثة وفق هذا التصور، بني فقط للتأثير في نفسه، وتكون مرجعيته من ذاته كليّاً.

إنّ مؤرخي الفن والأدب التقليديين ونقادهما رغبوا بتزايد اقتراب الفنانين الآخرين من فن وأدب ما بعد الحداثة، مثلما رغبوا أيضا بذاك النوع من الحديث الذي أخذ يدور حول الفترات التي راحت تتزايد فيها قيمة الوهم، عن إمكانيّة أنّ تاريخ كتابة الفن والأدب يمكن أن تتم وفقا لخط عظيم واحد من الترابط المنهجي المنظم، بالرغم من إيمانهم بأنّ التنظيم أو النظام يسمح للمرء أن يربط الفن والأدب المفضلين في الفترة المعيوشة بفن وأدب الماضي الأصيل، وذلك من خلال إمكانيات استعادة الملاحظات المنطقيّة للتقدم في الزمن الماضي، ولكن هذه الإمكانيات على ما يُعتقد، هي رأي غير مهم هنا، وأريد تسويقها في مفاهيم على ما يبدو أنها ذات ميول تاريخيّة عاطفيّة، لم تصمد أمام حتمية التطور، وخاصة في حقل النظام العالمي الجديد الذي فرضته طبيعة الرأسماليّة بعد أن أصبحت متوحشة، وتجاوزت هي ذاتها قيمها الليبراليّة التنويريّة العقلانيّة مع بداية صعودها.

أما بالنسبة لجهة المؤسسين المحافظين، فقد فقدوا قدراتهم على الصمود حقيقة، أمام التيار الشكلانيّ كأداة أو موقف منهجي فعال جدا في توجيه الفن والأدب المنفلتين من عقالهما، والمشوشين إلى حد كبير. فالعديد من التيارات الفنيّة والأدبيّة والفلسفيّة وعلم الاجتماع، راحت تّفرخ في النصف الأول من القرن العشرين، الأمر الذي حال ما بين رغبات المؤسسين المحافظين، والسيل الجارف لتيار ما بعد الحداثة بكل أنساقه المعرفيّة، التي راح كتابها وفلاسفتها وأدباؤها وفنانوها يشتغلون يداً بيد مع سوق الفن والأدب والفكر الذي كان مهتما فقط بالنقود وليس بالمعنى. هذا السوق الذي استوعب وبحيويّة كل المحاولات التخريبيّة والهدامة، أو كل ما هو ثائر على الطبيعة والمجتمع وقيمه الإنسانيّة.

نعم.. إنّ تحييد الفن والأدب في عالم ما بعد الحداثة، ذاته قد نال مسألة تنظيم الأعمال الفنيّة والأدبيّة التي كانت تستخدم من خلال العمل الإبداعي لتاريخ الفن أو الأدب، فهذه اللوحة قد  أصبحت وإلى حد كبير مجردة أيضاً من أي معنى حقيقي أو أصيل بالنسبة للعمل الفني أو الأدبي. فكل ذلك، كان يؤكد وبشكل لا يقبل الشك، بأن الصيغة الجماليّة الشكلانيّة تريد امتلاك الأولويّة في تقرير وظيفة الفن والأدب، بدلاً من التركيز على مضمون العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة للمحيط الاجتماعيّ التي يوجد فيه الفنان أو الأديب، ومحاولة تغيير هذا المضمون نحو رقي الإنسان وتقدمه.

على العموم، بالنسبة للفن والأدب لكي يكونا وسيلةً فاعلةً من أجل تطوير المجتمع، فهما يحتاجان إلى أن يكونا قابلين للفهم من قبل جمهور المهتمين من الناس قدر الإمكان، ولكون الفن والأدب لم تكن أهميتهما تكمن في كونهما مجرد صورة أو كلمة أو فكرة مجردة خارج السياقات التاريخيّة، بل إنّ أهميتهما الحقيقيّة والصادقة تكمن وراء هذه الصورة أو الكلمة أو الفكرة المشبعة بالقيم الإنسانيّة، داخل الحقل التاريخي لنشاط الناس الماديّ والروحيّ معاً. فالفن والأدب ليسا صيغةً واحدةً من جهة، والصيغة الواحدة ذاتها قابلة لأن تعطي دلالات عدة من جهة ثانية، ولكن هناك شيئاً واحداً يدعى (فناً أو أدباً)، وهو عنصر مشترك مع الكل، ومهما يكن هذا الشيء الفنيّ أو الأدبيّ، فهو شيء كونيٌّ يشبه الحقيقة العلميّة في الفهم التنويري، والفن والأدب بعمومهما قد امتلكا هذه الشيء أو هذه السمة بكل وضوح .

ملاك القول:  إنّ أول خطوة كانت باتجاه طريق التجريد ابتدأت مع العمل على إبعاد كل العناصر التي تساعد على إخفاء أو إبعاد الأهداف المميزة للعمل الفنيّ أو الأدبيّ التي تميل إلى تحقيق وظائفهما الاجتماعيّة. هذا وقد كان الفن والأدب في المدرسة التجريديّة أو السورياليّ أو الرمزيّة أو البنيويّة أو التفكيكيّة أو التعبيريّة أو الوجوديّة وغيرها، ويأتي "الأدب الوجيز" بالنسبة للبعض ممرا أيضاً لتحقيق أهداف أخرى تتعلق بالجانب الروحيّ أكثر من الجانب الماديّ، وباعتقادي أنّ دعاة الأدب الوجيز اليوم  هم يريدون بعلمهم أو بدونه،  على أن يكون الأدب الوجيز مصدر إلهام روحي آخر أمام ضياعات الإنسان في وجوده الاجتماعي، أي ضياعه في عالم إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة.

إنّ التجريديّة وكل مدارس ما بعد الحداثة الفنيّة والأدبيّة والفلسفيّة وغيرها، تعمل على استخدام نوع من التخطيط البعيد عن العالم الماديّ، عالم الإنسان في علاقاته اليوميّة المباشرة، لقد امتلكت مدارس ما بعد الحداثة إمكانياتٍ كبيرةً في الإيحاء، أو الوصف  أو الإيماء المجرد إلى عالم الروح.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

.......................

المراجع:

إن هذه الدراسة قامت على مرجعين أساسيين هما:

1- (الفن من أجل الفن – قراءة في المفهوم.) وهي دراسة قمت بترجمتها للكاتب Christopher L. C. E Witcombe - Art for Art's Sake - witcombe.sbc.edu/modernism/roots.html، وقد نُشرت في العديد من المواقع الالكترونيّة العربيّة يمكن الرجوع إليها.

2 -  (كتبنا قضايا التنوير – إصدار دار التكوين – دمشق – 2010. راجع الدراسات المتعلقة بالحداثة وما بعد الحداثة.

1ـ على سبيل البدء:

مرّت أزمان والنّقّاد يعتنون بنصوص غيرهم من المبدعين نقدا وانتقادا، مدحا وتجريحا، شرحا وتشريحًا. وكانوا بتلك العناية والرّعاية قوّة دفع كبيرة ساهمت بالارتقاء بالنّصوص الى درجات عليا من الأدبية والجمالية وساهمت في ربط علاقات إفادية بين النص والقراء. وخلال هذه الازمان لم يسه النّقّاد عن توصيف النصوص وفرزها وتصنيفها، ولم يتوانوا في تقييم الأدباء وتقسيمهم فقسموا الشّعراء مثلا الى أربع درجات. وقسّموا الأدب الى أشكال كثيرة. وقد فعلوا ذلك أحيانا باعتماد معايير شتى لا تخضع دائما الى الموضوعية وانما الى عوامل مختلفة مثل الزمن والظروف الاجتماعية ودرجات المعرفة وحتى الذوق والمزاج. والسؤال الذي اود طرحه: ماذا فعل النّقّاد بنصوصهم النّقدية؟ هل طوّروها لتواكب الحداثة أم انهم اكتفوا بالكنس أمام ديار غيرهم بأسلحة قديمة اهترأت مفاتيحها فلم تعد قادرة على فتح باب نصّ "حديثّ"؟

وان كنت لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال، لعدم الاختصاص، فإنني سأحاول في هذه الورقة ان اثير الموضوع املا في تذكير أصدقائي النّقاد بدورهم الرّيادي في ضرورة الاتيان بشيء قد يرفع نصوصهم الى كوكبة القافلة ان لم أقل ناصيتها ليتمكنوا من قيادة الحركة الأدبية أو في أضعف الأحوال أن تواكب نصوصهم النقدية النهضة التي شهدتها النصوص الإبداعية الأخرى.

2 ـ الأبستمولوجيا والصفة:

يقول بعض من اللغويّين أن جذع العربية حرفان لا ثلاثة ويسمّون العربية لغة المثاني. وحتى أبيّن حقيقة أبستمولوجيا كلمة "نقد " اعتمدت هذه النظرية وبنيت على أسس حَرْفيْ النّون والقاف (الجذع الثّنائي لفعل نقد) وولّدت منهما جميع الالفاظ الممكنة بإضافة الحرف الثّالث. وخلصت إلى أن كل الالفاظ المولّدة تدور حول المعنى نفسه وهو تسليط قوّة مادّية (ملموسة) أو معنوية (محسوسة) على شيء بغية إصلاحه او تهذيبه او تزيينه. فنقّى ونقب ونقد ونقح ونقس ونقر ونقش ونقص ونقض ونقط ونقل ونقم، كلّ هذه الأفعال يقودها رأس الحربة الذي نعوّل عليه أي نقد، تبيّن أن مهمّة النّاقد لا تكمن في ابداع (خلق) نصّ جديد إنما في تناول نصّ موجود بغية فرز الجيّد منه وتقييمه وذلك بتسليط قوّة فكريّة عليه، وهو غير مطالب باختلاق نص من خياله وانما بالاشتغال على ابداع غيره بطريقة لا تخلو من الفنّ والجمالية: يفحص النّاقد النّصّ معتمدا على مخزونه اللّغوي وعلى فطنته وذكائه وعلى ذاكرته وما ادّخرته لوقت الحاجة، يفكّكه ويعيد بناءه. وهذا العمل لا يقدر عليه من دبّ وهبّ فللنّقد شروط عديدة منها: الكفاءة والدّرجة العلمية وموهبة التحليل والتفسير والقدرة على استنطاق النّصّ وحذق الدّخول الى أعماقه. فالنّصّ يتكلّم إن دفعته الى الكلام ويبوح بأسراره إن أمسكته من النّاصية. والنّاصية في نظرنا هي لا وعي الكاتب المبثوث بين السّطور وخلف العبارة. وعلى النّاقد القنّاص أن يتمكّن من تعرية الوجه الخافي من النّصّ واستحضار ظروف ولادته.

3 ــ على النّاقد أن يشابه الطّبيب:

ان النّاقد وهو يضع جسد النص الادبي على طاولة الفحص هو طبيب يحاول ان يستنطق الجسد المريض لتحصل عنده فكرة كلية (البنيوية = l’état général) معتمدا على علم الفيزيولوجيا (الاسلوبية = (la physiologie ومتبيّنا علامات المرض (سيميولوجيا = la sémiologie). تقول الحكمة الأساسية في فن الطب: ليس هنالك مَرضٌ بل هنالك فقط مرْضى (il n’y a pas de maladies ,il n’y a que des malades ). ما يعني أن الطبيب لا يمكنه أن يطبّق المعارف نفسها على جميع المصابين بمرض واحد. كذلك الناقد لا يمكنه أن يطبق المذاهب نفسها على كل النصوص فهي تختلف من شخص الى اخر ومن بيئة الى أخرى، وقد تختلف عند الكاتب نفسه باختلاف ظروف الكتابة. فليس هنالك مدارس نقدية أصلا ولا قوالب جاهزة يستوردها الناقد في علب لغوية. وحتى إن وجدت، فهي تولد مع كل نصّ وتتوزّع ما بين وعي ولا وعي الكاتب. فلا يحقّ للنّاقد ان يتعمّد تطويع النصّ لمذاهب نقدية غريبة عنه وعن البيئة التي خلق فيها.

4ــ عنوان النّصّ، المتاهة الأخرى:

لعلّ أوّل زلّة يرتكبها النّاقد الكلاسيكي هي اهتمامه بالعنوان. اذ يعتبر كثير من النّقّاد أنّ عنوان النّص هو العتبة الأولى التي تسبق المتن ويخصّونه بقراءة معمّقة وشاملة تمسح حتّى شكل الخطّ ولونه. بل ويصرّ بعضهم على أهمّية العنوان فيضعه في مرتبة المضاف ويترك البقية مضافا اليه لا يخرج عن طاعته الا بتأويل. شقّ ثالث يمنح للعنوان صفة المبتدأ ويسمّي البقية خبرا لذلك المبتدأ اللّقيط الباحث عن نسب. يشترك كل هؤلاء في منح قيمة للعنوان لا يستحقّها لتكون في أحيان كثيرة واجهة مصطنعة وشمّاعة تأويلات. أمّا في الواقع فلا يضع المبدع، شاعرا كان أو قاصّا، عنوانا لنصّه الا بعد وقت من الانتهاء من كتابته والاشتغال عليه. وقد تطول مدّة البحث عن عنوان فتفوق المساحة الزّمنية التي استهلكتها كتابة النّص ومراجعته. وقد يرشّح الكاتب عدّة عناوين يعرض بعضها على قرّائه وأصدقائه. ولنفرض أن رأي هؤلاء النّقّاد صحيح وان العنوان هو بالفعل مبتدأ وأن المتن خبر له فماذا يساوي المبتدأ دون خبر؟ لا شيء سوى كلمة مجرّدة خالية من كل معنى فالخبر هو الذي يرفع من شأن المبتدأ ويمنحه معناه وصفته. نقول مثلا: البحر ونتوقف هنا حيث لا معنى ولا شيء حتى يحين الخبر فنقول البحر مائج فنفهم سببا ونتيجة لذلك الهيجان الخ. العنوان في اعتقادنا تلخيص للنّص وباب الخروج منه ولا مفتاح الدخول اليه.

5ـ لكيلا يبقى النّقّاد أنصاف نقّاد:

أغلب النّقّاد يتعلّمون ممارسة النّقد في كليات الآداب والعلوم الإنسانية فيتخرجون منها بشهادة في احدى اللغات أو العلوم الإنسانية مثل الجغرافيا والتاريخ والحضارة. وقد ينهون دراستهم بالحصول على نصف شهادة نظرا لتفرّع الاختصاصات في زماننا فالأدب صار آدابا منها القديم ومنها الحديث. فماذا يفعل النّاقد أمام نصّ مشحون بالمعارف العلمية الحديثة (خيال علمي، علوم صحيحة، تكنولوجيا، انترنت) وهو الذي لم يتعلّم كيف يأخذ الأشياء بمنطق الأشياء؟ سيجد نفسه عاجزا عن فهم النّصّ وقد لا يتجرّا ‘ن التعبير عن عجزه فيكتفي بقراءة سطحية بسيطة سلاحه اللغة ولا شيء غير اللغة يقيس من خلالها النّصّ وينقده فيضرّ به ويضرّ بقارئه.

5ــ تقديرا للنّاقد:

أحيانا، يجد النّاقد نفسه في وضعية لا يحسد عليها خصوصا اذا كانت تربطه بصاحب النّص علاقة أو معرفة قد تفرض عليه التضحية بقسط من النزاهة وبشيء من الموضوعية. وقد يكون الناقد مجبرا لغاية أخرى على التخلّي عن رأيه تجنبا لما عسى أن يلحق به من أذى فنحن نعلم أن سوق النّقد والجوائز والقراءات صارت حامية وأنشأت لها أنصارا وسماسرة من النّقّاد أنفسهم فجعلت بعضهم يختارون المكان الأسلم، المربح والمريح، فلا يخجلون من التضحية بدرجات معارفهم إرضاء لخاطر مانح الجائزة أو للحاصل عليها. وهذا الموقف خالص الأجر أضرّ بالنّصوص الأدبية عموما وأفقد السّاحة ثقة القرّاء.

لذلك قلت مرة في حيرة النّاقد باحثا له عن أعذار تنزّه عمله:

... ينْقادُ النَّاقِد للفوْضَى

ما أعذبَ هذا المنفَى!

وبلا مأوَى...

يتلجلجُ قلبُ الناقِد ما بين الألفاظِ

تضيعُ رؤاه

مخمورًا ينبُش في الأنقاضِ

ما أصعبَ أن يتحكَّم نصٌّ في أحْجيةِ القاضِي.

***

د. المولدي فرّوج / تونس

أسمال الصوت، تخلع صمتها، تلك اللوحة الشعرية البديعة، تنبض بالحياة والجمال، فتتأملها وترى الحقائب الخاوية والأجواء الثقيلة والجبال العجاف، وتشاهد الطيور تطير بأجنحتها المتكسرة، وتتدلى النجوم من السماء المنهكة، فتجد نفسك مبعثراً بين فصول القصيدة، تستمع إلى الأصوات المبحوحة التي تشعل الصحاري، وتشعر بالرياح التي تمزق أسمال السماء. في الصمت تتجلى الكلمات العميقة، وفي الألم تنبثق الأحلام الجديدة، وفي الرمز تتشكل الحقائق الخفية، وفي الشعر تتجلى الإنسانية الحقيقية، فأسمال الصوت تترجم لنا الواقع، وتخبرنا عن حقيقة الحياة الوجودية، ونسمع الأصوات ونستمر في التأمل وراء الظلال المبعثرة. فالشعر هو لغة الروح والفكر، والموسيقى هي الإيقاع الذي يجسد هذا الفكر، فنحن نرقص على أنغام هذا الإيقاع، ونردد كلمات هذه القصيدة الجميلة، التي تحكي قصة الإنسان وحياته الغامضة، وترسم لوحة جميلة عن الواقع والحلم والحياة. يا للفوضى والخراب الحاصل، صوت المغنية يهز المكان الفارغ، أصوات الحروب تسود المكان المهجور، كأن الدمار يتسلل إلى كل زاوية. جبال فشلت في حمل ثقلها وسقطت، أجنحة الطيور تكسرت، انهار جفت، شجرة الصبار لو استراحت ستثير الصحراء، بصوتها المدوي والهائج العاصف. في هذه الحالة من الفوضى والخراب، تتحمل الكائنات بعضها البعض، توزع الأشياء على بعضها كالقطرات التي تنثر على البحر والرمال الناعمة، كالندى الذي يروي الحدائق الزاهية، كالقصائد التي تعانق شغاف الأشعار. ويتوصل الشاعر إلى فكرة أن الحياة تحمل في طياتها الكثير من الإيقاع والتوازن. فكل شيء في الكون ينبض بالحياة وكل الكائنات تردد نغمة الوجود والتفاني. في مكانٍ مهجورٍ، صوت المغنية يُسمعُ وفي الأفق، آهاتُ الحروبِ تَدُوّي، ينهار كُلّ شيءٍ حولَنا ويتفكّكُ. جبالٌ لم تَحتمل، سقطتْ وانكسَرت، أجنحةُ الطيورِ، الأنهارُ الجافّةُ، شجرة الصبارِ، تُثير الصحراء بصوتها المدوّي. تتحملُ الأشياء بعضَها بعضًا، توزّع القطرات الماءَ على البحر والرمال على الشاطئ والندى على الحدائقِ والقصائدُ على الشعراءِ. في ختامِ القصيدةِ، يعبّرُ الشاعر عن حقيقةٍ يُحْكَى عنها، لكنّها تخْتفى. في هذا المجتمعِ، لا فرقَ بينَ الكراسي مليئة بالأشخاصِ، والفارغةِ يتماهون، عدم الأهميةِ للفرد في المجتمع، وتَتراوحُ الحضورُ والغيابُ في نظرِ الآخرين. تعبرُ هذه القصيدةُ الشعريةُ بجمالها، عن الفوضى والخرابِ، وتوزّعِ الأشياء وتتوجّ بفكرة، تقدّس الفرد في المجتمع.

أساليبٌ شعريّةٌ، تُرجمتْ بلغة ساحرة لإيصالِ الرسالةِ، وجعلِها تنبضُ بالحياة. يدور صدى صوت المغنية المتهافت في الفراغ المحيط بالكراسي، كضجيج الحروب العنيفة، يهوي عليها الظلام كصخرة هائمة في بحر الجحيم المرعب. ثم تتحوّل الكلمات إلى نغمات موسيقية تشبه صوت شجرة الصبار الوحيدة في صحراء خربة. وتتدحرج الأدلة المهتدية بالنجوم الخائبة في الليالي المشؤومة المفتوحة للموت. ترمز إلى الفراغ الذي يتنفسه الشاعر ويتأمله في مراحله المتباينة، ويهز صوت السكسفون البحر، يرقص مع تياراته الذي يتناسل بحنان، وتحكي كؤوس البحر أسطورة العشاق الذين ضاعوا في عمقها، وتنساب القصائد بين الأرجاء والمدن والحدائق، مثل قطرات الماء العذبة في إيقاعها الخالد. تحمل في ثناياها أسرار الحياة والحب والإنسانية الجميلة، تعبيراً عن وجهة نظر الشاعر الرومانسية التي تأمل في الطبيعة وتعانقها بشوق، وتلمس الحياة بكل أشكالها وألوانها، وتشعر بأنها فن جميل يحمل الكثير من الإيقاع والأناقة. في المقطع الثاني تهافتَ صوتُ المغنية ، في زحمة الكراسي الفارغة، هنا الصوت يستعير شخصية المغنية ويشير إلى الفشل والخسارة التي تجلت في عدم وجود الجمهور في الحفل. ويستخدم الشاعر هنا الاستعارة لإضفاء طابع رمزي واستثنائي على الحدث، حيث يجعل الصوت يتحول إلى صرخة تمثل حقيقة الوجود الإنساني الذي يبحث عن الحضور والاهتمام. استعارت ضوضاء الحروب لتهبَ الجحيم جثة الحجر، هنا الضجيج الناتج عن الحروب يتحول إلى رمز يشير إلى الدمار والخراب الذي يحدث في العالم، وتتحول الحرب إلى جحيم مشتعل يطال كل شيء، حتى الجحيم يمكنه الانتصار على الحجر. الجبال التي أجهضَتْ حملها، منحت سرب الطيور أجنحةً متكسرة. هنا الجبال تمثل القوة والصلابة ولكن عندما تجهض الحمل يصبح للضعف أثره ونتيجته، وتصبح الجبال عاجزة عن حماية أجنحة الطيور التي تعيش في جوها. ويعكس هذا السياق معاني العجز والضعف التي تحدث للأشياء والأحداث التي تظهر قوة وصلابة في البداية. ثمةَ نهرٍ جَفَّتْ أثداءه، لعقَ سراب مطاردته، هنا يتم استخدام الاستعارة لتوضيح فكرة اليأس والخيبة التي تنتاب الإنسان عند فقدان الأمل والحلم وعندما تجف نهر الحياة وتندثر أثداؤه، يبقى الإنسان يطارد الأحلام ويلاحق سراب المستحيل. في المقطع الثالث، يتأرجح صوت السكسفون متراقصًا مع كؤوس البحر التي تعاني من دوارها، ويروي قصص العشاق المفقودين في أعماقها، وهذا يعني أن الحب والرومانسية يمكن أن يوجدان في الأماكن الأكثر غموضًا وعمقًا. وفي المقطع الرابع، تتدفق القصائد بين الجداول والسهول والمدن والحدائق، كقطرات الماء الجارية بإيقاع موسيقي عذب. وهذا يشير إلى الحياة والحب والإنسانية التي تتدفق من كل مكان وتحمل في ثناياها أسراراً وحكايات لا تنتهي. في المقطع الخامس والأخير، تستخدم الكراسي المملوءة بالطرش كرمز على عدم الفرق بين الأشياء المختلفة، مما يدل على أن الجميع متساوون بشكل أساسي، وأن الفروقات تنشأ بسبب الظروف الخارجية، وليس بسبب الفروق الأساسية بين الأشياء والأشخاص. بهذه الطريقة، يحاول الشاعر إظهار العالم بشكل شاعري ومجازي، ويروي قصته وحكايته بإيقاعٍ جميل، ينقل القارئ إلى عالمٍ مختلف ومفعم بالمعاني والألوان والرموز.

في البداية، يستخدم الشاعر أدوات الرمزية لوصف حالة الإحباط والفراغ التي تسيطر على المكان، حيث يصف صوت المغنية المتهافت بضوضاء الحروب والكراسي الفارغة بجثة الحجر التي تهب الجحيم بها. وفي المقطع الثاني، يستخدم الشاعر صورة الصحراء والشجرة الصبارية لوصف قوة الصوت المبحوح، ويرمز إلى الحالة الفارغة التي يشعر بها الشاعر من خلال الأدلة المهتدية بالنجوم الخاوية في الليالي الثملة بالموت. ثم يأخذنا الشاعر في رحلة موسيقية نحو البحر والكؤوس المصابة بدوار البحر، وكذلك الصوت المفتعل للسكسفون الذي يحاول إعطاء هدوء للأجواء. وفي المقطع الأخير، يستخدم الشاعر رمزية الكراسي المملوءة بالطرش لإيصال فكرة المساواة بين الأشياء المختلفة، حيث يؤكد على أن الاختلافات التي نراها في العالم تنشأ بسبب الظروف الخارجية وليس بسبب الفروق الأساسية بين الأشياء والأشخاص. في الأبيات التالية، يصوّر الشاعر حالة من الفوضى والتشتت، حيث تتباين أصوات المغنية والقيثارة مع الاستحواذ الذي يمارسه الصوت المجهول المليء بالضجيج والهمس. ويُشير الشاعر إلى استعارته ضوضاء الحروب في تصوّره للجحيم، وهو ما يمثل الفوضى والتشتت الذي يحكم الواقع. ويتحدّث الشاعر  نجم عذوف عن المحيط وهو الكائن الضخم الذي يحمل الكثير من الحياة والحركة، ويصف البحر بأنه يقفز فجأةً على متن العاصفة، يحاول أن يُريح الأشرعة من علّتها. كما يتحدث عن القطرة التي تمسك بالبحر وتوزّعها على الجداول، هذا يمثل الفكرة العامة للشاعر بأن كل شيء في الحياة مرتبط ببعضه البعض، وأنه يجب علينا التعاون والتضامن للحفاظ على التوازن والتناغم في الحياة.

أسمال الصوت تخلع صمتها  قصيدة فلسفية تحمل معاني متعددة ورمزية قوية، تحمل أسلوبًا شعريًّا مميزًا، وتعبيرات متناغمة، ولها صور بديعة وتشبيهات جميلة، كما أنها تدعو للتأمل في الحياة والطبيعة ومفاهيم الوجود والتفكير في أنفسنا وعلاقتنا بالآخرين والعالم من حولنا. انها لوحة فنية شاعرية مذهلة تداعب الحواس وتسحر العقل، تفتح المجال للتأمل والتفسير، وتحتوي على رموز تجسد أفكاراً عميقة ومشاعر لتعبر عن موضوعات متعددة. مثل الحرب والتدمير والجمود، وتحويلها إلى رموز للأشياء الجميلة والموسيقى والفن والتفاؤل والحياة. المغنية التي تم وصفها بأنها تهافت صوتها في زحمة الكراسي الفارغة تمثل الفنانة التي تبحث عن جمهور يستمع لها ويفهمها، ولكنها تجد أن العالم الذي يعيش فيه الناس قد فقد القدرة على الاستماع والتفكير. يمثل صوت المغنية أيضًا الصوت الذي ينطق بالحقيقة والإيمان، ولكنه يختفي في الجحيم جثة الحجر، وهذا يمثل صعوبة توصيل الرسالة الحقيقية في عالم مليء بالجمود والتدمير. تمثل الجبال التي أجهضت حملها جبالًا كان من المفترض أن تنبت فيها الأشجار والزهور وتزدهر الحياة، ولكنها أصبحت جبالًا جامدة وبلا حياة، وهذا يمثل الخيبة والفشل. النهر الذي جف أثداءه يمثل الحياة التي فقدت حيويتها وانطفأت، وهو يشير إلى صعوبة الاستمرار في الحياة عندما تفتقر إلى الحيوية والحركة.

***

زكية خيرهم

استنادا الى الموروث الشعري السرياني والعراقي القديم

ان دراسة الشعر العربي [1] ليس سهلا وذلك لوجود حلقات مفقودة مما يجعل البحث عسيرا، فما وصل الينا من الشعر العربي كان على درجة عالية من النضج. وهذا يعني لا بد ان يكون قد سبق هذا النضج تطور في المعنى وفي المبنى وكان هذا التطور طويلا إلا أن الكثير منه ضاع والسبب في ذلك البعض منه أتلف حين اعتنقوا العرب الديانة المسيحية اولا ثم الاسلام كي لا يقع أحفادهم في شرك التوثن أو المسيحية، كما أن هذا الأدب لم يصل الينا إلا عن طريق الروي لجهل الكثير منهم بالأبجدية العربية أو أبجدية أخرى، فقسم منه وصل الينا والقسم الآخر لم يصل لأنه لم يحفظ، وقسم آخر زال مع الرواة الكثيرين الذين ماتوا في الحروب. وهذا لا يعني أن العرب لم تكن لديهم أبجدية يكتبون بها لغتهم في تلك الفترة، فلغة القران كانت على درجة من الرقي مما يؤكد أنها مرت بطور التطور ولفترة لا تقل عن قرنين. في حين يؤكد الباحثون[2] ان الكتابة قد جاءت بلاد العرب الداخلية في أزمنة مختلفة وقد جاءت قلب الجزيرة عن ثلاثة طرق أقدمها ما جاءها عن طريق الشمال الشرقي، وهـذه فـي الأغلب كانت متأثـرة بالكتابة الآشورية البابلية وكانت من الصعوبة بحيث لم تلبث ان حلت محلها حروف أخرى جاءتها من الجنوب والشمال معا، وبقيت هذه الحروف زمانا طويلا فكانت الآرامية والمسند اليمني وسيلتين للكتابة في قلب شبه الجزيرة وقد تطورت هذه الحروف في أزمنة متأخرة الى الحروف الأخيرة المعروفة بالعربية. ويؤكد ذلك الطبري[3] حين يقول (ظهر على ضهر الجماء ـ جبل بالعقيق قرب المدينة ـ فوجد حجرين وفيهما كتاب فحمل أحدهما فعرضه على أهل السريانية فلم يعرفوا كتابه وعرضه على من يكتب بالزبور من أهل اليمن ومن يكتب بالمسند فلم يعرفوه...والظاهر أنه كان في الأغلب آشوريا) أو على الأغلب كان آرامياً بموجب النقوش المكتشفة في السعودية.

فأقدم ما وصل الينا من الشعر العربي يعود الى القرن السادس، اي سبق ظهور الاسلام، ولكنه لم يصل الينا مكتوبا بل كما قلنا على ألسنة الرواة، كمحزمة بن نوفل وحويطب بن عبد وهما من القريش. وفي زمن الاسلام حماد الراوية (771م) وخلف الاحمر (796م) والاصمعي عبد الملك بن قريب (828م) وغيرهم. فهو لم يسلم من التحريف لأنه وكما قلنا لم يصل مكتوبا والرواة الذين دونوا مما حفظوه لم يعاصروا اولئك الشعراء بل نقلوه من رواة قبلهم، إلا ان العلماء إهتموا بتدوينه من القرن الثامن للميلاد في مجموعات كديوان الحماسة لأبي تمام وكتاب الأغاني للأصفهاني وغيرهما... إلا أن ما وصل الينا كان كامل البناء تام الموسيقى له لغة مهذبة واستقامة في الوزن مما يؤدي بنا الى أن نقول:

1- ان تاريخ الشعر يرجع الى ما قبل ذلك بكثيــر، فمن يقرا هذا الأدب سيصل الى نتيجة مفادها ان مثل هذه الامور لا تتهيا للأمم طفرة واحدة بل نتيجة تطور في اصول بعيدة تبدأ صغيرة بسيطة ثم تتطور بعملية من عمليات النمو الطبيعي، وهذا يقودنا الى احتمال ثان.

2- أو أن هذا الأدب كان نتيجة متواصلة لآداب المنطقة كالسومرية والبابلية والاشورية والسريانية ولو حظي هذا العلم اهتمام الباحثين لوجدوا تشابها وأواصر مشتركة بين تلك الآداب والتي تلتها كالسريانيـة والعربيـة والعبريـة. وأنا أتفق مع الاستاذ طـه باقـر[4] حين قال (ليس عندي شك في أن اوزان الشعر البابلي وأساليب تأليفه ونظمه قد أثرت كثيرا في أشعار الأمم القديمة التي كان لها اتصالات مباشرة وغير مباشرة بحضارة وادي الرافدين أخص بالذكر منها الشعر العبري والآرامي والشعر الفارسي القديم "الاخميني") وأضيف أن بعضها (الادب السرياني والعبري والعربي) إن لم أقل جميعها هي تواصل لمسيرة هذه الاداب سواء كانت بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة أعني من خلال الأدب السرياني الذي سبق ولازم الأدبين العبري والعربي ولفترة طويلة. ولو توفرت لدينا هذه الحلقات المفقودة لاتضح ذلك اكثر، إلا أننا لم نعثر على هذه الحلقات المفقودة" سوى بعض الأبيات القليلة للشنفري (توفي سنة 510م) والمهلهل (494-534) والمعلقات التي عاصرت بعضها الاسلام ووصلت الينا وكما قلنا عن طريق الروي، مثلما لم تصل الينا من الشعر السرياني قبل القرن الثاني الميلادي سوى بعض الابيات القليلة لـ (وفا الارامي ـ القرن الأول قبل الميلاد أو قبل ذلك).

اما الموازين فيعتبر الخليل بن أحمد الفراهيدي (712-778م) أول من وضع موازين الشعر العربي والذي حكم حسه وذوقه الموسيقي في وضعها وبقيت هكذا الى يومنا هذا، فكل المحاولات التي جرت بعده لم تذهب الى أبعد من ذلك. فخليل بن أحمد الفراهيدي اعتمد في قاعدته على مجموعة تفاعيل وهي:

1- التفعيلات الثلاثية - اي لها ثلاث حركات وهي (فعولن- فاعلن).

2- التفعيلات الرباعية - اي لها اربع حركات وهي (فاعلاتن- مفاعيلن- مستفعلن- مفعولات).

3- التفعيلات الخماسية اي لها خمس حركات وهي (مفاعلتن- متفاعلن).

وتتألف هذه التفعيلات من مقاطع صوتية هي السبب والوتد والفاصلة.

لقد وضع الخليل موازين الشعر العربي على أساس وجود خمسة عشر بحرا وأضاف اليها الأخفش (أبو الحسن سعيد بن مسعدة) بحرا آخر فأصبحت ستة عشر بحرا. جمعت فـي خمس مجموعات سماها دوائر كان الأساس فيها تشابه المقاطع الصوتية من الأسباب والأوتاد وهذه الدوائر هي:

1- دائرة المختلف: المتضمنة أربع عشرة حركة وتحتوي على الأبحر (الطويل، المديد، البسيط)

2- دائرة المؤتلف: المتضمنة خمس عشرة حركة وتحتوي على الأبحر (الوافر، الكامل)

3- دائرة المجتلب والمتفق والمشتبه المتضمنة اثنتي عشرة حركة وتحتوي على الأبحر (الهزج، الرجز، الرمل، المتقارب، المتدارك، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتث)

إلا أن هذه الأبحر تلحقها حالات أخرى نتيجة دخول زحافات وعلل عليها مما أدى بالبعض أن يحصى عدد أبحر الشعر العربي الى أكثر من هذا العدد بكثير.

ومن المفروض أن يكون الخليل قد اعتمد على الموروث الشعري العربي لصياغة أوزانه كما فعل الشاعر أنطون التكريتي حين صاغ أوزان الشعر السرياني استنادا الى الموروث الشعري من قبله....

لذا علينا أن نتساءل هل اعتمد الخليل على الموروث الشعري الذي تركه لنا شعراء العرب من قبله؟ أم أنه اعتمد على قواعد شعرية جاهزة لأمم أخرى وطوعها كي تلائم الشعر العربي؟ وللاجابة عن هذه التساؤلات نقول:

أولا: إن كان الخليل قد بنى قاعدته الشعرية استنادا الى الموروث لما احتاج الى هذا الكم من الزحافات والعلل الى حـد يمكن عد عدد الأوزان الشعرية الى أكثر من مئة بحر بدلا من ستة عشر، وذلك لان كل بحر يلحقه عدة ابحر أخرى، خذ مثلا البحر الطويل الذي وزنه الصحيح (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن) الا أنه تلحقه عدة اشكالات نتيجة دخول زحافات وعلل عليه فياتي:

1- المقبوض العرض والضرب فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن/ فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن.

2- المقبوض العروض المحذوف الضرب فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن/ فعولن مفاعلن فعولن فعولن.

3- المكفوف الاثلم فعلن مفاعيل فعولن مفاعلن / فعولن مفاعيل فعولن مفاعيلن

4- الاثرم /ف/ عول مفاعيلن فعولن مفاعلن/ فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

5- الاثلم /ف/ عولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن/ فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

وهكذا الحال في بحر المديد الذي وزنه (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن) وفي بقية الأبحر الأخرى... فلنتساءل من جديد لماذا هذا الكم من الزواحف والعلل ان كان الخليل قد بنى قاعدته فعلا على الموروث الشعري، للاجابة على هذا السؤال لا بد لنا من دراسة الشعر العربي قبل الخليل التي من المفترض أن يكون الخليل قد بنى عليه أوزانه لنرى مدى التزام شعراء تلك الحقبة بأوزان الخليل الصافية.

1- معلقة امرئ القيس (500-540م) والتي صنفت ضمن البحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن)، إلا أنه يصعب علينا الحصول على هذا البحر صافيا في أبيات القصيدة فمنذ البيت الأول تجد نفسك بحاجة الى زواحف وعلل لاستقامة الوزن.

اما اذا وزنت على الوزن الشعري السرياني فنجدها موزونة على البحر الطويل اي (أربع عشرة حركة) باستثناء بعض الأسطر القليلة التي جاءت مخالفة بحركة واحدة بسبب الروي كما نجد في البيت:

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له   بشق وتحتي شقها لم يحول

فالشطر يتكون من (15) حركة، أما العجز فمن (14) حركة.

فلو حذفت (ما) من الشطر لأستقام الوزن.

اذا بكى من خلفها انصرفت له    بشق وتحتي شقها لم يحول

2- معلقة طرفة بن عبد (543-569م) والتي موزونة على البحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن) حسب اوزان الخليل إلا أننا لم نجد البحر صافيــا في أبيات الفصيدة، فأغلب الابيات تستخدم الزواحف والعلل، الا انها تحتوي على اربع عشرة حركة ايضا باستثناء بعض الابيات وبسبب الروي ايضا.

3- وهكذا الحال في معلقة زهير بن ابي سلمى (530-627 م) اربعة عشر حركة وعمرو بن كلثوم (توفي سنة 600 م) اثنتي عشرة حركة و معلقة لبيد (530-629 م) التي تحوي خمس عشرة حركة ومعلقة عنترة بن شداد (525-615 م) اربع عشرة حركة، والحارث بن حلزة (-580 م) اثنتي عشرة حركة وعبيد بن الابرص (554 م)عشر حركات، وفي هذه المعلقات يكون الاضطراب في الوزن (استنادا الى اوزان الخليل الصافية) بنسبة أعلى بكثير مما لو أخضعناها الى اوزان الشعر السرياني أعني عدد حركات البيت الواحد.

لذا نقول ان الشعر العربي قبل الخليل يتفق مع العروض السريانية التي تتفق بدورها مع العروض الشعر العراقي القديم، أكثر مما هي في عروض الخليل الصافية " أعني بعيدا عن الزواحف والعلل " بمعنى آخر ان نسبة الخطأ تكون أقل بكثير مما هي في عروض الخليل.

ثانيا- أو أن يكون العروض قد ولد متكاملا او أشبه بالمتكامل في ذهن الخليل وان كان كذلك سيثير الانتباه (كما يقول كل من د. صفاء خلوصي والأستاذ كمال ابراهيم) ويحملنا على الاعتقاد بأنه محاكاة لنموذج أجنبي متكامل لأن أمر كهذا (ولادة عروض متكاملة في ذهن الخليل) أمر بعيد عن الواقع.

ثالثا- أو أن يكون الخليل قد حاكى نموذجا عروضيا جاهزا" واستطاع بعبقريته أن يطوعه بالشكل الذي يلائم الشعر العربي الى حد ما. وللاجابة على هذا التساؤل نقف مع ما يقوله أبي الريحان البيروني المتوفى سنة 1048 م في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل او مرذولة) في فصله الموسوم (ذكر كتبهم في النحو والشعر) ما يلي:

(يرجـع العروض العربي واليوناني الى الاصل السنسكريتي، وقد يكون هذا الأصل السنسكريتي بدوره مقتبسا من أصل بابلـي قديم لعثوره على تشابه بين البحور اليونانية والعربية من جهة وبعض البحور البابلية القديمة...) وقد قدم لنا البيرونــي في كتابه أعلاه وجوها من البراهين تدل على أن الخليل كان قد اطلع على العروض السنسكريتي قبـل أن يشــرع بوضع ميزان العروض العربي.... ويذهب الدكتور جواد علي[5] بأنه وجد نصا في بعض المظان العربية القديمة يؤيد ان الخليل قد اطلع على الأوزان اليونانية الى جنب كتب في العروض السنسكريتي... وهذا ما ذهب اليه المطران اقليمس يوسف داود أيضا حيث قال[6]:

(الشعر موزون في السريانية على نسق واحد من جهة الحركات أما في اللغات القديمة الأخرى كاليونانية واللاتينية والسنسكريتية والعربية فيعتبر لصحة النظم وضبطه أمران في الحركات وهما عددها وقدرها...).

لقد أفاد الخليل من اصول عروضية متعارف عليها عند العرب إلا أنه أضاف اليها ما نقل من التراث السرياني والفارسي واليوناني والسنسكريتي.. لأن الخليل الذي ولد في البصــرة سنــة (712-778) وهـو عصر التقـاء الثقافـات الهندية والفارسية واليونانية والسريانية مع العرب من خلال ما كان يترجمه الأدباء السريان الى العربية...ويضيف البيروني:

(وهم يصورون في تعديد الحروف شبه ما صوره الخليل ومن بعده من العروضيين للساكن والمتحرك    وهاتان الصورتان هما:

1-  > ويسمى (لكـ) بالسنسكريتية وهو الخفيف.

2- \ ويسمى (كر) وهو الثقيل، ووزانه في التقدير أنه ضعف الأول اي يعادل اثنان من الخفيف اي 2 < = \

وفي حروفهم ما يسمى ايضا طويلة ووزانها وزان الثقيلة، وأظن (الكلام للبيروني) أن الأول (<) متحرك والثاني (\) مجموع متحرك وسـاكن وهي تشبه السبب في عروضنا العربية. أما الاوربيون فهم يرمزون للنقرات الخفيفة بركزة (د) والضربات الثقيلة بـ (ـ-) بدلا من (< \) الهنديتين.

وهكذا وكما يقول البيروني: (كما ان أصحابنا عملوا من الأفاعيل قوالب لأبنية الشعر وأرقاما للمتحرك منها والساكن يعبرون بها عن الموزون فكذلك سمى الهند لما تركب من الخفيف والثقيل بالتقديم والتأخير وحفظ الوزان في التقدير دون تعديد الحروف ألقابا يشيرون بها الى الوزن المفروض وأعني بالتقدير ان (لكـ) = ماتر واحد و(كر) = ماتران... فيحسب المشدد ساكنا ومتحركا والمنون متحركا وساكنا. اي كما يقول د. خلوصي حوروا الطريقة الهندية (المقطعية) الى طريقة (حرفية) وكان ذلك ضروريا لتمثيل الزحافات والعلل وان كان الأفضل الابقاء على الطريقة السنسكريتية المقطعية، والاشارة الى الحروف حيثما اقتضى الأمر في حالات الزحاف والعلة...

فان كانت أبيات العربية تنقسم لنصفين بعرض وضرب، فان أبيات الهندية أيضا تنقسم لقسمين يسمى كل واحد منهما (رجلا") وهكذا يسميها اليونانيون (أرجلا) ما يتركب منه من الكلمات سلابى والحروف بالصوت وعدمه والطول والقصر والتوسط. وينقسم البيت لثلاث أرجل ولأربع (يقابله دعامة في السريانية) وهو الأكثر وربما زيد رجل خامسة ولا تكون مقفاة[7] اما في السريانية (والعبرية ايضا) فيكتب درجا، أي لا يوجد عرض وضرب.

نستخلص من كل ذلك -كما يقول الأستاذ صفاء[8] - أن البيروني يظن بان الخليل أفاد من العروض السنسكريتي الامور الآتية:

1- تقسيم الابيات الى اشطر       2- تقسيم الاشطر الى تفاعيل

3- تقسيم التفاعيل الى مقاطع خفيفة وثقيلة، أو قصيرة وطويلة  4- الاعتماد على أصوات الكلمات دون رسمها

5- اصطناع المصطلحات (الألقاب كما يسميها البيروني) لتحديد الزحافات والعلل.

6- استعارة فكرة الأشباع في المقطع الخفيف الأخير من التفعيلة وتحويله إلى مقطع ثقيل

وعلى هذا الأساس يقول الدكتور صفاء[9] أن الزمخشري والخطيب التبريزي والزجاجي والجوهري قد انحرفوا عن الطريقة الرياضية للخليل في التقطيع التي كانت تشبه الطريقة الأفرنجية في التقطيـع... فالاعتماد على عدد الحركات متشابه بين العربية والسريانية والعبرية وسائر اللغات القديمة أما قدرها ففي السريانية والعبرية سيان وفي اليونانية واللاتينية فقدرها يعني طول الحركة وقصرها وفي العربية اختلاف أسبابها اي اختلاف موضع حركاتها استنادا الى موضع سكناتها، من هنا تختلف أوزان الشعر العربي عن أوزان الشعر لسائر اللغات القديمة التي كانت مستخدمة لدى الشعوب التي سبقت او عاصرت العربية في المنطقة. اذن فلا بد ان نرجع مرة اخرى الى أبي الريحان البيروني ونتساءل هل حقا ان الخليل أخذ عروضه من السنسكريتية؟ ونقول:

ان البابلية نفسها التي ترجع اليها اصول السنسكريتية لم تاخذ بنظر الاعتبار السكنات بل الحركات فقط لان أغلب الباحثين يشيرون[10] الى أن الشعر البابلي القديم يتسم بالايقاع المعتمد على النبرات (النبرة تعني تعميق لفظ حرف علة واحد من بين الحروف العلة الأخرى) وهكذا الحال في السريانية لأن أنطون التكريتي الذي يكون أول من وضع كتاباً في أوزان الشعر السرياني (بموجب ما متوفر بين أيدينا من مصادر فلم يصلنا كتاب أو دراسة تتناول أوزان الشعر السرياني من قبله رغم وجود اشارات الى كون بريصان (المولود سنة 154 م) هو أول من وضعها) فأعتمد في قاعدته على مجموعة دعامات وهي:

1- ثنائية (اي حركتين) كما في (بَي + تا) بيتا ܒܝ + ܬܐ

2- ثلاثية (ثلاث حركات) كما في (بيت +نَه + رين) بيت نهرين ܒܝܬ + ܢܗ + ܪܝܢ

3- رباعية (اربع حركات) كما في (شَ+بَح+لمَر+يا) شَبَح لمَريا ܫ + ܒܚ + ܠܡܪ + ܝܐ

4-خماسية (خمس حركات) كما في بتَرعَح حَنانا (بتَر + عَخ + حَ + نا + نا)

ܒܬܪ + ܥܟ + ܚ + ܢܐ +ܢܐ

5- سباعية (سبع حركات) كما في حَد كَزا زعورا مَفِق ܚܕ + ܓܙ + ܙܐ + ܙܥܘ + ܪܐ + ܡ +ܦܩ

ومن ثم لا بد لنا من دراسة قصائد الشعوب التي اقتبست منها السريانية والعربيـة والعبريـة أشعارها، فمن القصائد البابلية القديمة نأخذ على سبيل المثال الوزن في الشعر البابلي. مع أن هناك بعض الصعوبات التي تعترض سبيل الباحث في الموضوع منها[11] الاصوات الحقيقية للألفاض البابلية المستعملة في الشعر على الصورة التي كان يلفظ بها البابليون أنفسهم من حيث التشديد والتخفيف، والنطق ببعض الأصوات الحلقية التي لم يعبروا عنها تعبيرا واضحا بالخط المسماري، ذلك الخط الذي أوجده السومريون لكتابة لغتهم الخالية من تلك الأصوات كما يقال. كما أن نطق المستشرقين بالمفردات البابلية في الشعر يشبه بقراءة الأجنبي للشعر العربي أو السرياني، مما يحدث الخلل والاضطراب في أوزانه كما أن تأثر الباحثين من المستشرقين بالشعر اليوناني واللاتيني او كونهم أصلا مستشرقين جعلهم يرون أن أساس الوزن في الشعر البابلي يقوم على ما يسمى بالنبرات أي التشديد والتخفيف (ACCENTED UNACCENTED) وعلى الرغم من هذه الصعوبات وغيرها توصل دارسوا الشعر البابلي الى أن هذا الشعر مثل أشعار بعض الأمم الأخرى كالعربية والسريانية والعبرية واليونانية واللاتينية وغيرها، يعتمد في عروضه على مبدأ تجزئة الكلمات الى مقاطع (SYLLABLES) تتناوب ما بين المقاطع الطويلة والقصيرة... فلو أخذنا على سبيل المثال المقطوعة التي جاءت على لسان الاله أبسو – اله المياه- حيث يقول[12]:

ENUMA ELISH LA NUBU SHAMAMU

SHABLISH AMMATUM SHUMA LA ZAKRAT

ABSU _ MA RHSHTU ZARUSHUN

MUMMU TIAMAT MUWALLIDAT JIMRISHUN

MESHUNU ISHTENISH IHUQUMA

GIPARA LA QISSURU SUSA LA SHE

ENUMA ITANI LA SHUPU MANAMA

SHUMA LA ZUKKURA SHIMATU LA SHIMA

IBBANUMA ILANI QIRBISHUM

اينما أيلش لا نبو شماما *** حينما في العلى لم تسم السماء

شابلش امتم شوما لا زكرات *** وفي الدنى لم تذكر الأرض باسم

ابسو - ماريشتو زاروشون *** وحين أبسو الأول، موجدهم

ممو تيامة مولدة كمريشون *** والأم تياما مولدة جميعهم

مي شونو ايشيتينش اخو قوما *** كانت مياههما واحدة مختلطة

كيبارا قسورو صوصا لاشع *** ولم يتكون بعد أي مرعى ولا ضحضاح يرى

حينما ايلاني لا شوبو منما *** وحين لم يظهر أي من الآلهة إلى الوجود

شوما لا زكورا شماتو لا شيما *** ولم تذكر أسماؤهم ولم تتحدد أقدارهم

ابانوما ايلاني قربشون *** ثم وجد الآلهة في وسطهما

واخضعناها بموجب قراءتها الى اوزان الشعر العربي والسرياني نجد:

- على اساس وزن الخليل، ابياتها موزونة كالاتي:

1- /0//0 /0/0 /0 //0 //0/0  فاعلن مفعولات فاعلاتن

2- /00/0 ///0 /0/0 /0 /0/00  من الصعوبة وزنها لوجود ساكنين

3- /0/0 /0 /00/0 /0/0/00   وجود ساكنين ايضا

وهكذا الحال في بقية الابيات. من هنا نقول لايمكن ان تتطابق مع تفعيلات الخليل. وفي حالة تقطيعها من حيث الحركات (كما لدى السريان) نجد ما يلي:

5+3 +3، 2+5+3، 5+3، 5+7، 3+3+4، 3+4+4، 3+3+3+3، 5+3+3، 4+3+3. أي:

الدعامة: 2 3 4 5 7

التكرار: 1 15 4 5 1

وهكذا الحال في الملحمة البابلية[13] المعروفة بـ (اترا حاسيس).

وهذا الوزن يطابق مع ما قاله الباحث انطون التكريتي (المتوفى سنة 840 م) في كتابه علم الفصاحة حين قال: "... والبحر الخامس في الشعر السرياني هو المؤلف من أوزان سداسية وسباعية وتزيد أحيانا وتنقص وهو لرجل يقال له وفا من فلاسفة الاراميين (قبل الميلاد).

لذا يكون العرب وبعكس الأقوام الأخرى في المنطقة قد أوجدوا لأنفسهم قواعد صعبة في فن الشعر... فبعد أن كان الشعر عند السريان موزونا على نسق واحد من جهة الحركات اعتمد العرب في ضبط أوزانهم أمرين وهما عددها أولا وقدرها ثانيا وكما لدى السنسكريتية لأن الحركات في السريانية لها كلها قدر واحد، اذ هي إما مشبعة او مطبقة وذلك سيان في الوزن. لذا لافرق عندهم بين:

(فاعلن وفعولن) ولا بين (فاعلاتن - مفاعيـلن – مستفعـلن - مفعـولات) ولا بيـن (مفاعلتن – متفاعلن) لأن لها العدد نفسه من الحركات.

وكذلك لا فرق عندهم بين: سبب ثقيل//، وتد مجموع //0، وتد مفروق /0/

الا ان الفرق بين الوزنين السرياني والعربي الخليلي يكمن في:

1- اعتماد الخليل على عدد الحركات وقدرها (حركة سكون) اسوة بالسنسكريتية أما السريانية فعلى الحركات فقط اسوة بالأدب العراقي البابلي القديم .

2- تكون الدعامة في السريانية ذات بنية متكاملة أي ذات معنى مفهوم، أما في العربية فأحيانا لا لأنها (التفعيلة) أحيانا تتكون من نصفي كلمتين فلا تعطي معنى.

3- لا يجوز التدوير في السريانية لا بين الدعامات كما قلنا ولا بين الأبيات، يجوز ذلك في العربية.

4- اعتماد العربية على مجموعة زحافات وعلل ولا يجوز ذلك في السريانية.

ولو رجعنا مرة اخرى الى الأوزان فلا بد لنا ان نتساءل لماذا هذا الاختلاف على الرغم من ان الموقع الجغرافي في هذه الفترة على الاقل متداخل، وحتى في الجزيرة كان السريان عندما نقلوا معهم تبشيرهم المسيحي نقلوا معهم ميامرهم ومداريشـهم أي شعرهــم وبالأخص في فترة المعلقات...

ومن اجل متابعة التطور او لنقل التغيير الحاصل في أوزان الشعر بعد البابلية لا بد لنا من دراسة الشواهد المتيسرة لدينا والتي تعتبر حلقة وصل بين القصيدة البابلية وقصيدتنا السريانية والعربية، من بينها مزامير او تسابيـح سليمان ال (42) السريانية والتي سماها دارسوها (مرتل من المسيحيين الاولين)[14] وترقى الى نهاية القرن الأول الميلادي، حيث يتضح من دراستها ان الايقاع (الحركات) هي أساس الوزن وتمتـاز هــذه التسابيــح بأنها موزونة على أكثر من بحر اسوة بالقصيدة العراقية القديمة المار ذكرها، خذ مثلا الانشودة الثالثة من القصيدة:

وهَدامَى لوًاثى انون   ܘܗܕܵܡܝ ܠܘܵܬܹܐ ܐܸܢܘܢ

وبهون تلا نا ومحب لى  ܘܒܗܘܢ ܬܠܢܐ ܘܡܚܒ ܠܝ

.........

نجد ان القصيدة موزونة كالاتي:

7، 7، 9، 8، 9، 5، 11، 10

اما اذا اخذت كدعامات بأعتبارها الاساس في البناء نجد ان الشاعر يستخدم الدعامات:

وزن الدعامة: 3 4 5 6  7

التكرار:  2 3  7 1  1

وهكذا الحال في بقية التسابيح.

من هنا نقول ان القصيدة السريانية كانت امتداداٌ للقصيدة العراقية القديمة، وكنا محقين حين اعتبرنا برديصان (شاعر سرياني ولد سنة 154م) مدشن الحداثة للقصيدة السريانية في حينها عندما أخضع القصيدة الى الوزن الواحد خدمة لنقل البشرى من خلال تراتيل ترتلها جوقات كنسية... واستمرت على منوالها الى يومنا هذا.

ومن الشعوب المجاورة للعربية التي أثرت وتأثرت بها هي اللغة العبرية التي عاشرت العربية سواء في بلاد النهرين او في الجزيرة العربية ويقول عنها الناقد العبري (يهوذا الحريزي) في كتابه (تحكموني)[15] (...وحين كان آباؤنا يقطنون في مدينة القدس ما كانوا يعرفون الشعر الموزون في اللغة العبرية، أما أسفار ايوب، والأمثال، والمزامير، فجملها قصيرة وأبياتها سهلة بسيطة، وما أشبهها بالسجع، وهي بعيدة عن أن تكون نظما جميلا موزونا ومقفى) ومن خصائص شعرها[16] (ان الصيغة الشعرية تؤسس على النبرة والنغمة، وكانت أناشيد العبادة تسمى ترانيم وكان يصاحب الترنيمة ايقاع او غناء وهذه الترانيم غير موزونة ولا مقفاة..." وأغلب الظن انه يعني بالوزن والقافية علي شاكلة العربية، لان الشعر العبري وكذلك السرياني كان يعتمــد على عـدد الحركات فقط أي على الايقاع، وهذه الترانيم هي على شاكة المداريش والسوغيتات السريانية. وهـذا مؤكد لأن اليهود الراجعين من بابل وغيرها من مناطق بلاد ما بين النهرين نقلوا معهم مع اللغة، أدب البلاد وفنونها كاوزان الشعر. أما الوزن والقافية (على شاكلة العرب) فقد ظهر في الشعر العبري منذ القرن العاشر الميلادي.

خلاصة القول نفول: ان الشعر العربي قد وجد قبل الخليل، فالشاعر القديم كان يعتمد على حسه الموسيقي في كتابة القصيدة لان معظم الباحثين يرون ان منشأ الشعر هو الغناء والانشاد، والغناء بطبيعته يعتمد على الحس الموسيقي والمعتمد على الحركات لا السكنات... اي ان الشاعر كان أكبر من العروض. وهذا ما أكده ايضا الاستاذ كمال ابراهيم في تقديمه لكتاب القسطاس: (والحق الذي لا مراء فيه ان مقاييس الشعر أو أوزانه قد استخلصت من ضروب الغناء المختلفة التي كان العرب منذ عصورهم الأولى يتغنون بها... فالشعر مدين للغناء، وجد مع الغناء والغناء وجد مع الانسان) وبهذا لو أجرينا دراسة على الشعر قبل الخليل لتيقن لنا ان الشعراء العرب كانوا يزنون أشعارهم اعتمادا على الايقاع الموسيقي أي بالاعتماد على الحـركات فقط كما الحال في الشعر السرياني والعبري ومن ثم الفارسي والتركي والكوردي حيث استقوا عروضهم من الشعر العراقي القديم وهذا ما ذهب اليه بعض دارسي الشعر العربي القديم[17]، ان العرب ـ قبل الخليل ـ عرفوا طريقة يهتدون بها الى معرفة وزن البيت وذكروا ان الخليل سئل: هل للعروض أصل ؟ قال نعم! مررت بالمدينة حاجا فرأيت شيخا يعلم غلاما ويقول له قل:

نعم لا، نعم لالا، نعم لا، نعم لالا

نعم لا، نعم لالا، نعم لا، نعم لالا

قلت ما هذا الذي تقوله للصبي ؟ فقال: هو علم يتوارثونه عن سلفهم يسمونه التنعيم، لقولهم فيه نعم... قال الخليل: فرجعت بعد الحج فاحكمتها.

وبالحقيقة انهم كانوا يعتمدون على الحركات، وهو ما يسمى عند السريان بالوزن المزدوج (الافرامي ـ 7 حركات). وعند تقطيعها حسب الخليل نحصل على البحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن)

وهناك طريقــة ثانية[18] يذكرها الباقلاني في كتابه (اعجاز القران) فيسميها " الميتر" اي القطع. وهناك طريقة ثالثة في معرفة وزن البيت كاحتساب مقاطع البيت من حيث توازي الشطرين وتساويهما بعقود الأصابع إسوة بالسريان و.. وهذا ما يؤكده ابن فارس[19] في كتابه الصاحبي ص38:

(... ان هذين العلمين ـ النحو والعروض ـ كانا قديما، واتت عليهما الايام وقلا في ايدي الناس، ثم جددهما هذان الامامان " ابو اسود الدؤلي والخليل").

ومن الملاحظ على هذه المعلقات وغيرها من الشعر الجاهلي ما يأتي:

1- لم تصل الينا مكتوبة بخطهم بل رويا مما تعرضت الى الكثير من الاضطرابات.

2- التزام الشعراء بعدد ثابت من الحركات واحيانا نجد تجاوزا وربما سببه الروي

3- كان اعتماد الناس في تقبل شعر هؤلاء الشعراء مبنيا على عدد الحروف المتحركة في كل شطر والمحافظة على هذا الرقم في القصيدة ككل وليس على تماثل الحروف المتحركة والساكنة كما هو في أوزان الخليل ولا سيما ان القصائد ذات طابع غنائي. وعليه أستطيع أن أقول أن أوزان الخليل لا بد من ان تكون دخيلة على الأدب العربي، وان تمسك الخليل ومن بعده من العروضيين بهذه التفاعيل أفرز الكثير من المصطلحات والاختلافات بين ما هو موجود في الدوائر وما هو في واقع الشعر العربي مما أدى الى تعكز هؤلاء العروضيين من خليل ومن بعده على افتراض دخول بعض الزحافات والعلل اضافة الى افتراضهم ان يكون هذا البحر مجزوءا" وجوبا او جوازا وما لا يدخله اصلا. خذ مثلا البحر السريع ووزنه (مستفعلن مستفعلن مفعولات) ولم ينظم عليه شاعر عربي على هذا الشكل[20]، لان أكثر ما ورد من الاشعار كانت على وزن (مستفعلن مستفعلن فاعلن) أو (مستفعلن مستفعلن فعلن) او (مستفعلن مستفعلن فاعلان).

وما بقي الا ان ندرس الاغنية العربية الفلكلورية والتي هي موزونة على الايقاع (الحركات فقط) اسوةً بالشعر السرياني والعبري و … والموشحات والشعر المحكي و... واغلبها تستخدم الأوزان القصيرة (5، 6، 7) حركات. خذ مثلا الأغنية الشعبية للاطفال (جاسم جسومي):

جاسم جَسومي   لا تأكُل نومي

نوميتَك وَسخة   أتوَسخ هدومي

جَتي زَهوري    كِسرَتِ القوري

نجد الاغنية موزونة على وزن بالاي (الخماسي ـ خمس حركات)

وكذا الحال في الاغنية (مطر مطر) وهي على وزن آسونا (سداسي ـ ست حركات)

مُطَرْ مُطَرْ شاشَة

عَبر بَناتِ الباشَة

مُطر مُطَر عاصي

صولْ شَعَرْ راسيْ

وهكذا في الاغنية (مغَيزل) التي هي على البحر الافرامي (سباعي ـ سبع حركات):

بيدي مغَيزِلْ فَريتَهْ

تَحتِ الشَجَرْ حَطيتهْ

بين الجَمَلْ والناكه

يَعصَيتنه التَفاكهْ

وأحيانا تكون الاغنية موزونة على اكثر من وزن أسوة بالشعر السرياني المركب وكما في الأغنية (طَلعَتْ الشُميسه) التي يستخدم الشاعر الأوزان (بالاي 5 حركات، اسونا 6 حركات، افرامي 7 حركات) … الا انها من الصعوبة وزنها على البحور الفراهيدي.

كل هذا دليل على ان الشعر العربي في السابق (قبل الخليل) كان موزونا على الشكل الوزن السرياني إلا أن الخليل طوعه على الطريقة المسماة باسمه والتي حاكى بها الوزن السنسكريتي.

***

نزار حنا الديراني

..........................

[1] للمزيد راجع كتابنا (الايقاع في الشعر ـ دراسة مقارنة بين السريانية والعربية) سنة 2000 وكتابنا الكيل الذهبي في الشعر السرياني 1988 لكاتب المقال

[2] تاريخ الشعر العربي / نجيب محمد

[3] تاريخ الشعر العربي/ نجيب محمد

[4] مجلة افاق عربية -عدد 1- اذار /1978 ص78 / طه باقر

[5] القسطاس المستقيم / الزمخشري

[6] اللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية / اقليمس يوسف

[7] القسطاس المستقيم

[8] القسطاس المستقيم

[9] القسطاس المستقيم

[10] نظرية الادب - الادب القصصي / اي.م. فيلينسكي

[11] افاق عربية / طه باقر

[12] افاق عربية / طه باقر

[13] افاق عربية / طه باقر

[14] موشحات سليمان اولى الموشحات السريانة ص28 / افرام الدومنيكي

[15] دروس في اللغة العبرية / رمحي كمال

[16] الاثر العربي في الفكر اليهودي / د. ابراهيم موسى هنداوي

[17] القسطاس المستقيم

[18] القسطاس المستقيم

[19] القسطاس المستقيم

[20] الايقاع في الشعر العربي / مصطفى جمال الدين

مقعد شاغر لغائب لن يعود!

ارى من الضروري الإشارة الى أن  تغييرا نوعيا قد طرأ علي اللغة والصورة والبنية الشعرية لنصوص الشاعرة الرائدة آيدان النقيب،. لقد أفلحت فعلا في الارتقاء بأداء مفردتها وتخليصها من التقريرية والمباشرة، ومنحتها الكثير من الحيوية والطراوة  في اخر إنتاجها الشعري الذي حمل إسم (أسافر بمقعدين)

من منشورات الزمن ٢٠٢٣، بعد ان قطعت مسافة طويلة في إثراء المشهد الشعري النسوي في كركوك منذ اول مجموعة شعرية لها (اعتصرُ الحجر) المطبوع في العام  ١٩٦٩.. هذه المسافة الزمنية البينية هيأت لها فسحة واسعة، لإكتساب المزيد من الرصيد البنوي الشعري ولطرح نصوص غنية بالرموز والَمدلولات والإيحاءات الباذخة، كما وغادرت جملها سمة التمدد على مساحات الَمعاني التقليدية التي اتسمت بها لفترة غير قصيرة  وشرعت الآن بطرح افكار خلاقة بلغة موحية وبتكثيف مقنن:

نشرتَ خبرا علي ريشة تلوح بالوداع

قضمتُ شفتي،

انت لست ضيفا لترحل!

عُش عصافيرك في كفي،

أكان قلبك حجرا…

فلما لم ترمني؟

ابتداء فإنه بإمكان القول بأن البؤرة التي تتمحورحولها المجموعة بمجملها تتمثل  بالهجر والصد المقصود من حبيب عنيد، وبالتالي فإن التجاهل العمد هو الذي افرز كتل المعاناة وإجترار الاحزان، فضلا عما نتج عنه َمن المصدات  والسبل المقطوعة والأبواب الموصدة التي حالت دون التواصل به، نتيجة اصراره على تجاهل نداءات القلب المكلوم والحب الضائع رغم المحاولات اليائسة لثنيه عن هذا الخيار الموجع:

في قريتنا.. عند منخفض ٍ

أجلسنى تحت شجرة

قال لي انتظريني

صدقت كذبته بغباء!

حاولت أن أقنع نفسي ..

أنني في حلم.

أتأتى أم أقتفي آثار قدميك؟

وفي هذا المنحى لنتأمل أغلب عناوين نصوص المجموعة (دربك طويل - ألنا موعد آخر - كروي الطريق - زرتك ولم القك - تبيع المناديل وتنساني - انتظرك على اليابسة - ما جئتني - موجة صمتك ...)، نجد أن هاجس الإرتحال دون عودة، والفقد وتداعياته المنهكة  للروح وما يتولد عنها من مشاعر الأسى والوجل كان لها حضور واضح  في الاسفارعن رؤى الشاعرة وتجربتها التي القت ظلالاً قوية على شعرها، وتمكنت أن تعمق همومها النفسية.

ولكي يصل هذا السيل من العواطف والمشاعر الى المتلقي اتكأتَ آيدان على لغة شعرية نضرة،  كان من مقوماتها إسرافها في استخدام ضمير المتكلم  ولعلها في اختيار هذا الضمير إنما أرادت اختصار المسافة المعنوية التي يمكن أن تشد إنتباه المتلقي، وتضعه في سعير تجربة البعد:

ألم تسمع صفيري

بعد أن اجتزتٌ نصف الطريق؟

وأنا أركض تارةَ وأهرول أخرى

لا منك قطار عاطل، ولا صندوق أسود

ولم تتركْ لي اثر قدم

فأي طريق أسلكه، وفي جعبتي

تذكرة عودة فات اوانها.!

وتحفل نصوص المجموعة  بصور شعرية  آخاذة، ويؤدّي الخيال الإبتكاري دورًا مهمًّا في تشكيل هذه الصور للتعبير عن معنى جديد، وتوظيف مفردات اللغة أيضًا في تشكيلها عبر استخدام  المجازات والصور الاستعارية في صياغاتها للوصول بالمقصد الى وضوح الرؤية واكتمال بنية  التجربة:

أجمل ما في الأمر

إني ما زلت انتظرك

ريحاََ… إعصاراَ،

اتعبني طريقك بمتاهاته الملتوية..

وانا.. أوجعته بخطواتي!

ومضت ايدان في تجربتها الشعرية راسمة بالحروف صورا في منتهى التأثير، بل وإستثمرت وقع الحدث بوصفه مادة ً تصويرية  موظفا ما فيه من طاقات اللون والحركة، وما يسمح به كل نمط على حدة من إمكانات فنية تعبيرية تعكس قدرتها على بنائها الشعري ذي السياقات المتعددة التي منحت النصوص دلالات ذات ابعاد رمزية:

من خلف حجر المرمر

بجرأة طفل، حفرت ثقبا

ناديتك.

الذي سمعني

قال : أصابها الزهايمر!!

أعرتك أذني

طفح فراتان من عيني

لا جذر ولا ساق

فلم طغتٌ الخضرة عليك؟

الومضة الشعرية

وبين فترة واخرى تستوقفني احيانا نصوص شعرية مميزة تؤسس لخصوصية لحظةٍ أو مشهدٍ أو موقف أو إحساس شعريّ خاطف يمّر في المخيلة أو الذّهن، يصاغ بألفاظٍ  قليلةٍ  لكنها معبرة وذات تأثير مباشر وهي وسيلة من وسائل التجديد الشعري،  وفي معرض الاشارة  قال ادونيس  “هكذا يبدو الشعراء فيما وراء الأزمنة والأمكنة شهبا تأتلف وتختلف فيما يشقون معا طريق الإنسان نحو المجهول. ويبدو الشعر كمثل انفجار ضوئي يتواصل في فضاء المعنى”. في هذا المعترك الصعب ولجت ايدان النقيب  فضاء الومضة الشعرية الفسيح، ضربات قصيرة  مركّزة وغنية بالإيماء والرمز والإنسياب . بل هي  دفقة شعورية سريعة تتناسب مع تسارع الأشياء المذهل، إنّها إشبه ببرقية شعرية تتميز بالكثافة والتركيز  اطلت من خلالها على ميدان واسع يعج بالعواطف والمشاعر الحسية المبهرة والايماء والرمز:

وانا امحو غيابك

تآكلت الممحاة!

**

حين وصلت

هممت بطرق الباب

فقرأت : (الدارللبيع)

**

تحجرت طرقاتك

من خطواتي!!

**

أكانت جواهري

عندك أحجارا؟

**

حفرتُ شقا في حائطكَ٠

لأسمعك

فلم هربت منه؟

**

زرعت لبلابا لاقطع طريقك

فإلتف بقدمي!!

**

اخبرتني

البطاقة الذكية

إن رصيدي عندك صفر!!

في اتون هذا الفيض القائظ أفلحت ايدان النقيب ولا ريب في توسيع مدلول الصورة التقليدية وتحويله الى  صور رمزية وحسية وتشكيلية ومتنامية ومتعددة ومترابطة فيما بين النصوص  وكان المجموعة كلها ليست سوى قصيدة واحدة  تطفو على بحر مائج  ترتد امواجها عن الشاطئ  البعيد  فيما تقف هي على اليابسة بإنتظار الذي لا يأتي ابدا:

غرزت قدمي بأرضك الموحلة

صنعتُ من قصائدي كرة،

قذفتها لساحلك

ونسيتُ أن أخبرك

أنا طير بحرٌ

انتظرك في اليابس.!!

ومثلما يبدو فإن ايدان لا تزال تستقل قطار العمر العتيد، تقبض  بيديها بقوة على بطاقتي سفر لرحلة لا عودة بعدها، لكن المقعد المجاور لها بقي شاغرا رغم امنياتها ان يحل فيه ذلك الغائب الحبيب  في وقت تئن هي تحت سطوة الانتظار!

***

محمد حسين الداغستاني 

في رواية "جميلات منتصف الليل"، للروائية حنان درقاوي، تأسرنا حنان درقاوي، الكاتبة المغربية، بحسها الأدبي العميق وقدرتها على استكشاف صراعات المرأة في المجتمع المغربي. تُظهر لنا الكاتبة صراعات المرأة المتأرجحة بين الرغبة الجارفة والتزامات العفة، والتي تواجه فيها النساء العديد من العقبات والتحديات. وببراعة فائقة، ترصد درقاوي لنا تلك المزالق المختلفة التي ينزلق فيها الكثير من النساء، وتسلط الضوء على التمييز والقهر الذي يعاني منه الجنس اللطيف في هذا البلد، والعنف الأصولي الذي يعكس جذوره المتناسلة. وتستخدم الكاتبة شخصياتها النسائية بقوة وصلابة لتسليط الضوء على أحلامهن المجهضة في مشهد يثير الانتباه ويجعل روايتها صرخة أنثوية مؤثرة، تناشد النفوس القاسية الميتة في جمودها، وتدعوها إلى الانفتاح على الآخر وعلى الحياة بكل تعدد أبعادها. وتعتبر هذه الرواية إسهامًا هامًا لتعزيز الوعي بحقوق المرأة وتعزيز المساواة بين الجنسين في المجتمع المغربي.

تنطوي رواية "جميلات منتصف الليل" للكاتبة المغربية حنان درقاوي على صرخة مؤثرة تجسد الصراع الذي يعانيه النساء في المجتمع المغربي، حيث تتخللها مواقف مؤلمة تكشف عن التمييز والقهر والعنف الأصولي الذي يتخذ جذوره من العادات والتقاليد. يرصد النص البعيد تمامًا عن الإدانات والتحليلات السطحية، مأزق الطالبة الجامعية صليحة التي تورطت في حياة الليل الجامحة، حملت جنينًا غير مرغوب فيه. تدفعها هذه الظروف لمواجهة تساؤلات شائكة حول مستقبل الجنين ومصيره، حيث تتقاطع الأخلاقية والدينية والاجتماعية في تحديد قرارها النهائي. فالإبقاء على الجنين يعني العيش في حالة من العزلة والفضيلة الاجتماعية، بينما الإسقاط يعني المخاطرة بحياتها وتعريضها للعقوبات القانونية والاجتماعية. يتناول النص أيضًا الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها النساء الفقيرات في المجتمع، والتي تزيد من تعقيد الوضع وتعكّر صفو الحياة. لكن، تشير الكاتبة في روايتها "جميلات منتصف الليل" إلى أن الصراع ليس فقط في اختيار بين الاحتفاظ بالجنين أو إسقاطه، بل في مواجهة مجتمع يميز بين الرجال والنساء ويمارس العنف والاضطهاد ضد النساء. فهي تستكشف العقبات التي تواجهها النساء في المجتمع المغربي، وتسلط الضوء على التمييز والقهر الذي يعاني منه النساء، والعنف الأصولي الذي يعكس جذوره المتناسلة. تتبع حنان درقاوي قصة شابة جامعية تُدعى صليحة، تورطت في حياة الليل الجامحة ووجدت نفسها حاملًا بجنين غير مرغوب فيه. تقف الشابة أمام خيار صعب، إما الاحتفاظ بالجنين والتهرب من المجتمع، أو إسقاط الجنين وتهدد بحياتها. وتدرك صليحة أن هذا الصراع ليس فقط على مستوى شخصي، بل هو جزء من صراع أوسع يخص المرأة في المجتمع المغربي بأكمله. تقدم الرواية نظرة شاملة على العنف الأصولي المتجذر في الثقافة والتقاليد المغربية، والذي يفرض القيود والقيود الشديدة على حياة النساء. ولكن في نفس الوقت، توصل شخصيات النساء في الرواية بقوة وصلابة لأحلامهن المجهضة، مما يجعل روايتها صرخة أنثوية مؤثرة تناشد النفوس القاسية الميتة في جمودها. تتأمل صليحة في حياتها المليئة بالتعقيدات والمتناقضات، بينما تلجوء إلى زميلاتها في الدراسة لطلب المساعدة المالية. فقد تباطأت أحلامها وطموحاتها بسبب الفقر المدقع الذي ينهش الأسر الفقيرة ويسلبها أبسط حقوقها الإنسانية. ومع تزايد هذا الوضع المرير، تصبح العواقب السلبية للفقر أكثر وضوحا، حيث ترتفع نسبة العنوسة بين النساء الملتزمات، وتتفشى الدعارة المقنعة بين الجامعيات. إن الجهل الناتج عن الفقر يزيد من انتشار التيارات الأصولية الإسلامية والتي تسعى إلى إشباع الرغبات الجنسية بالطرق العنيفة والقسوة وحتى القتل. فالأوضاع المزرية التي تمر بها الفئات الشعبية تحولها إلى بيئة حاضنة لهذه الأفكار المتطرفة. ويتسبب هذا في تمرد الفتيات المغربيات وتحول أحلامهن الرومانسية إلى وهم يصطدم مع الواقع القاسي. وبما أن الفقر يضعف الإرادة ويضعف الأخلاق ويدفع الفرد إلى الانغلاق والتشدد، يبدو أن صليحة هي الشخصية التي تجسد هذا الوضع بشكل ملموس. فهي تتحول بين تبادل المتعة والانتقام من حياة القهر والكبت والعنف، وتعاني من العواقب الخطيرة لهذا التحول، بما في ذلك الخطر الشديد الذي يتربص بها في كل لحظة. ومن بين العواقب الأكثر صدمة، نجد الحكاية المأساوية لأخ صليحة الذي أصبح مدمناً على الأفلام الجنسية، ويهيم بجسد أخته بشكل مرعب، ارقاً في إدمان الكحول والقسوة المفرطة تجاه الجسد المحرم. وتعكس هذه الحكاية الصادمة مدى التشدد الأخلاقي الذي يعيشه المجتمع، والذي يفرض الكثير من القيود والحرمان على الأفراد، مما يدفعهم إلى البحث عن مخارج غير مشروعة لتلبية رغباتهم الجسدية والعاطفية. وليس هذا فحسب، فالفقر المدقع الذي يعاني منه السواد الأعظم من الشعب المغربي، يجعل العديد من الفئات الشعبية بيئة حاضنة للأصولية الإسلامية، التي تزيد من حدة الانغلاق والتشدد، وتسعّر الرغبات الجنسية وتفرخ العنف والقسوة، ويصبح الفرار إلى الدعارة والمخدرات حلاً وسيلة للهرب من الواقع المرير. ومن هنا، يمكن القول إن حكاية صليحة تعكس معاناة الكثير من النساء في المجتمع المغربي، والذين يعانون من القهر والتهميش، ويجدون أنفسهم مضطرين للجوء إلى مخارج غير مشروعة للتعبير عن أنفسهم وتحقيق رغباتهم. ويجب على المجتمع ككل، وعلى الحكومة خاصة، توفير الظروف اللازمة لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ولضمان حقوق المرأة وحريتها وكرامتها، ولمنع تفشي الفساد الأخلاقي والمجتمعي الذي يسهم في نشر الجهل والتخلف والعنف في المجتمع.

هذه قصة مؤثرة ومحزنة تتحدث عن رحلة الانتقال من رومانسية الأحلام إلى حياة الواقع القاسي والتحديات الصعبة التي تواجه الإنسان في مجتمعاتنا اليوم. تعكس القصة حياة شخصيات مختلفة، من بينهم الشابة الطموحة صليحة التي تعاني من الفقر وتسعى بكل جهدها لتحقيق طموحاتها، والناشطة الاجتماعية أمينة التي تؤمن بأهمية الثورة وتعمل جاهدة لتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع. تتميز القصة بأسلوب سردي يشد الانتباه ويجذب القارئ لمتابعة أحداثها، حيث استخدمت الكلمات بذكاء لتعبر عن المشاعر الحقيقية للشخصيات وتسلط الضوء على تحولاتهم العاطفية والنفسية. كما أنها تتناول موضوعات مهمة مثل الفقر والتمييز والعدالة الاجتماعية بطريقة راقية وإيجابية. إنها قصة تستحق القراءة والتأمل فيها، وستثير بالتأكيد اهتمام وتعاطف القارئ مع شخصياتها المؤثرة. إنها قصة مؤثرة ومفعمة بالحزن والألم، فهي تتحدث عن الانتقال من عالم الأحلام والأماني إلى واقع قاسٍ وحياة صعبة. يتم تصوير حياة العديد من الشخصيات، ومن بينهم صليحة التي تعاني من الحرمان وتسعى جاهدة لتحقيق أحلامها، وأمينة التي تؤمن بأهمية الثورة وتسعى جاهدة لتحقيق العدالة الاجتماعية. تم اختيار الكلمات بشكل دقيق ومناسب لتصف بدقة الأحداث والشخصيات وتبين مشاعرهم وتحولاتهم. إنها قصة ترسم صورة واقعية للحياة وتعلمنا الكثير عن الصمود والتحديات التي يمكن أن نواجهها في الحياة. ويتناول النص موضوعات حساسة مثل الدعارة والفقر والاستبداد، ويعبر عن تأثيرها السلبي على الحياة الإنسانية. تبرز التفاصيل الفراغ الناتج عن تضييق العلاقات الأسرية ودخولها دائرة الاستغلال المادي والسياسي والديني. يتم إدخال القارئ إلى قصة صليحة، ابنة بواب، التي تحلم بالانتقام من حياتها المحرومة ببناء شخصيتها على مفهوم الرجل المخلص. تتراجع قدرتها التركيزية بسبب التعامل غير الناضج مع مسألة البلوغ، وتزداد شدة الشكوك والقسوة في مرحلة المراهقة المتبقية لها. تصبح صليحة مهووسة بفكرة الزواج وتسقط فريسة للمبادلات الرخيصة مع أستاذها في الجامعة، وتتعرض لدعوات التحرش الجنسي في الكلية والشوارع والمقاهي. بينما تتمكن صديقتها أمينة من التوازن بين حلمها بالثورة للتغيير وحلمها بأمير حقيقي يسحبها من فقرها وأحلامها المرهقة. تدرك أمينة منذ البداية أن جمالها يستحق أميرًا حقيقيًا يمنحها الحياة التي تستحقها. في المقابل، تشارك أمينة في التظاهرات والاحتجاجات الطلابية التي تعارض خطة الإصلاح التي تهدف إلى حرمان الطبقات المسحوقة من حقها في التعليم، بينما تتبنى صليحة سلوكًا مزدوجًا.

تحكي هذه القصة ببراعةٍ وأسلوبٍ مباشرٍ وخالٍ من التعقيداتِ عن العنف والتمييز الذي يحيطُ بنا في حياتِنا اليومية. وتفتحُ أبوابَ الحقيقة المثيرة للصدمةِ عن الانتهاكاتِ الجنسيةِ المتزايدة التي تنذر بالخطرِ والمستقبلِ المُظلِم المُنتظَر لأجيالٍ قادمة. وفي ظلِّ تصاعُدِ التطرفِ والعنف المرتبط بثقافةِ الاستعباد والاستغلال، يبدو أنَّ الرحمة والشفقة قد فقدتا مكانتهما في المجتمع. وتدعو هذه القصة إلى الوقوف بحزمٍ في وجهِ هذه الجرائم المشينةِ وتعزيزِ دور المرأةِ في المجتمع كرمزٍ للتحرر والمساواة. وهي رسالةٌ تأبى الكتمان، وتنبئُ بالمستقبل الأسودِ الذي ينتظر الأجيالَ الجديدة. ولا بدَّ من العمل الجاد والحثيثِ للحدِّ من هذه الظاهرةِ الخطيرةِ والتي تعدُّ أحدَ أكبرِ التحدياتِ التي يواجهُها المجتمع. وبينما تكشفُ القصة عن حقيقةٍ صادمةٍ حول الانتهاكاتِ الجنسيةِ الشائعةِ، تحذرُ بتصاعُدِ الأصواتِ العنيفةِ المرتبطة بثقافةِ الاستغلال والاستعباد. لذا، فإن تجاهُل هذه المشكلةِ الخطيرةِ يعتبرُ جريمةً في حدِّ ذاتها، ويجبُ أن نتحدَّ جميعًا للقضاءِ عليها والعملِ على تحقيق العدالةِ والمساواةِ للجميع.

***

زكية خيرهم

ختمت الروائيّة ذكرى لعيبي روايتها " غابات الإسمنت " على لسان بطلتها إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، قائلة: (و رغم كلّ ما مرّ... سأعيش وأنسى المرّ).

هناك روايات تجبرنا – كقراء أو نقاد، أن نقرأها أكثر من مرّة. لا لكونها رواية صعبة المنال، أو غامضة في ثنايا السرد والحوار، بل، نظرا لتفرّدها وتمرّدها على السرد العربي المألوف. وما اعتاده القاريء العربي من نصوص سرديّة، تمتّعه فنيّا، ولا تستفزّه عاطفيّا. تدغدغ مشاعره وأحاسيسه، وتزعزع أفكاره، لكنّها لا تزلزلها، ولا تزرع فيها كمّا من الأسئلة الحرجة. وإن كان من بين أدوار الفن ّ عامة، اقتحام المناطق المغلقة في الطبيعة والنفس البشريّة، والتنقيب في أعماقهما عن المكنونات، التي لا تبصرها عيون العامة بعين بصيرة.

أجل، لم تعد الرواية المعاصرة تهادن فلسفة الواقع المعيش، بل أضحت وسيلة لتعريّة هذا الواقع الإنساني، الذي يخفي كثيرا من الطابوهات، ويقمع الحريّات، ويمارس طقوس النفاق السياسي والاجتماعي والثيوقراطي ـ تارة تحت غطاء التقاليد الباليّة والعادات البائدة، وتارة أخرى تحت طائلة الاستبداد بكل ضروبه وأشكاله.

رواية " غابات الإسمنت "، للكاتبة ذكرى لعيبي، وهي كاتبة ميسانية المولد (نسبة إلى ميسان **)، عراقيّة الموطن والهويّة، سندباديّة الترحال. ولدت في زمن العجائب العربيّة. تناولت فيها الكاتبة، بكل جرأة وشجاعة، أحد المجتمعات العربية – جعلت المكان الأول عائمًا – لأسباب نعرفها جميعًا، الذي لا تختلف البلاد العربيّة برمّتها - مازالت فيه الذكورة الفوقيّة، تمارس (قوامتها) ورعونتها على الأنثى (المرأة) الرازحة تحت نير الدونيّة والنصفيّة (من النصف). فأضحى الذكر هو كلّ المجتمع، بينما المرأة هي نصفه، الذي سُلب منها، وحُرمت منه. وقد صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى شهر أفريل 2023 م، عن دار الدراويش للنشر والترجمة / كاوفبويرن - جمهوريّة ألمانيا الاتحادية.

قسّمت الكاتبة الروائيّة ذكرى لعيبي، روايتها " غابات الإسمنت " إلى قسمين؛ عنونت قسمها الأول بـ (الجريمة)، وقد توزّع على أربعة عشر فصلا (هل نلوم القدر؟، رفيقتي، السجن الكبير، نائلة، اللقاء، نافذة أخرى للحياة، وعود، بين الحياة والموت، إرادة الموت، لقاء في المكتب، عالم العطور والعقارب، أناملي والدمى، العودة إلى السجن، المهمة الأولى،) بينا عنونت الفصل الثاني بعنوان (الحريّة)، وقد ضمّ أحد عشر فصلا، هي كالتالي: (الحريّة، عناق، البيت، سكن وعمل، احتفالية، زيارة المقبرة، خبر عن الفرح، حياة جديدة؛ لكن بحدود، لقاء مع العروس، التمرّد، حريّة أخرى). أما عدد صفحاتها فقد ناهزت 218 صفحة.

و قد صدّرت الكاتبة الروائيّة ذكرى لعيبي روايتها، بإهداء إلى بطلة روايتها " أنعام عبد اللطيف الحاير " قائلة لها: " الأقوياء هم من يعاصرون أعوام التبعثر.. من دون أن تتشظّى أرواحهم.. نحن متّفقتان أن أيّ علاقة تجعلنا نتخلّى عن قيّمنا ومبادئنا، لا بد من إعادة النظر فيها...ثم تضيف: جريمتك لا تنحصر في قتل رجل خائن.. بل في تمزيق صورة إنعام؛ الأنثى الجميلة التي كانت بداخلك. "

وقبل الولوج في هذا المتن السردي، المثير لمشاعرنا، المستفز لعواطفنا وقناعاتنا الفكريّة، يستوقفنا، عنوانها الموسوم بـ " غابات الإسمنت ". وإذا كانت الأبواب هي المداخل الشرعيّة القانونيّة للبيوت والمحلاّت، فإنّ العناوين هي عتبات النصوص الروائيّة، لا يمكن إغفالها أو تجازوها أو التهوين من قيمتها الفنيّة والدلالية. إنّ الغابات (مفردها الغابة) في سياقها الرمزي ووظيفتها الإنزياحية، ومفهومها النفسي تدل على الأنوثة غير المستكشفة. فقلب الغابات – غالبا – ما يمثّل الأرض المقطوعة الشجر والطوق المقدّس. ومنها صيغ مصطلح (قانون الغاب)، فهو شريعة تقوم على الفوضى والأنانيّة المطلقة وأخذ الحقوق بأساليب مختلفة ومشبوهة في وجود أمن ضعيف وسلطة سيّئة الذكر. أما في المفهوم السياسي، فهي ترمز إلى مكان لترويض العاطفة والشهوات الحسيّة والانغماس في طقوس رومانسيّة وصوفيّة كما هو الشأن في الأدب الفارسي. أما رمزيّة الإسمنت، فهي تحمل معاني القهر والتضييق والخنق والقسوة والاستبداد.

بطلة الرواية (الراوية)، هي إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، امرأة مثيرة للجدل، متمرّدة عن مجتمع (القطيع) وضحيّته في آن واحد. أمرأة باحثة عن حريّتها وكيانها ودورها ومكانتها في مجتمع شرقيّ ـ تقبض على زمامه فلسفة ذكوريّة فوقيّة متخلّفة. تناسى متعاطوها مبدأ (النساء شقائق الرجال)، وتتعامل معهنّ بمباديء مغلوطة ومزيّفة عقليّا ودينيّا وإنسانيّا. قتلت زوجها، الذي خانها مع عشيقته، وانتقمت لشرفها وعزّة أنوثتها، ولسان حالها يردّد في سرّها قول أبي الطيّب المتنبّي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم.

لكنّها بالمقابل، سعت إلى ترسيم وجودها، وتأمين حريّتها بوسائل غير شريفة، وبمبدأ ميكيافيلّي بحت (الغاية تبرّر الوسيلة). وهذا ما أدّى إلى سقوطها في المحظور، قبل السجن وأثناءه وبعد مغادرته.

حكم القضاء عليها بـ (8) سنوات سجنا نافذا، كعقوبة لها على جريمتها الشنعاء تلك، قضت منها ثلاث سنوات، بفضل عشيقتها و(حبيبتها) النقيب ابتسام علام، مديرة السجن، ثم استفادت من الإفراج المسبق، نظير حسن سيرتها وسلوكها، كما كُتب في تقرير الإفراج، وانتهى بها المطاف حرّة، طليقة في بريطانيا، منتحلة شخصيّة سيّدة مجتمع وأعمال.

ثنائيّة الصراع بين الذكورة والأنوثة:

يكتشف القاري، من خلال تتابع فصول الرواية، أنّ الكاتبة ذكرى لعيبي، تثير أزمة العلاقة بين الرجل والمرأة، أو لنقل بين الذكر والأنثى، في المجتمعات العربية المحافظة خاصة، والمجتمع العربي برمّته، من المحيط إلى الخليج. وهي أزمة اجتماعيّة ونفسيّة وثيوقراطيّة متوارثة أبا عن جدّ، قائمة على نظرة الرجل الشرقي إلى المرأة الشرقيّة، تسندها – بقوة – منظومة العادات الخرافيّة البالية والتقاليد الأسطوريّة البائدة، وتغذيها الفتاوي الدينيّة الباطلة. أزمة إلغاء وجود المرأة وتموضعها في المجتمع الشرقي، وإنزالها منزلة القطيع السائر خلف الرجل، والكائن الثانوي. رغم أنّ كلّ الشرائع السماويّة، كرّمت المرأة؛ أمّا وزوجة وأختا وابنة وعمّة وخالة، وهلّم جرّا. لكنّ الرجل (الذكر) الشرقي أبى إلاّ أن يهينها ويحجر عليها حقوقها الفطريّة، ويغتصب – سرّا وعلانيّة – أنوثتها وحرّيتها وكرامها، وبحجّم دورها في المجتمع الشرقي، ويحصره في العمليّة الجنسيّة، الشرعيّة واللاشرعيّة، ويحوّلها إلى آلة نسل وخادمة بيت، هو سيّدها، منتحلا شخصيّة (سي السيّد) كما جاء في ثلاثية نجيب محفوظ الخالدة.

ترصد هذه الرواية صراعا عميقا بين الرجل الشرقي الأرعن، الظالم والمرأة الشرقيّة المظلومة، المحرومة من حقوقها الفطريّة. وهو صراع قديم ومتجدّد، متوارث عبر التاريخ، جذوره تمتدّ إلى الجاهليّة الظلاميّة، ويستمر في النمو في المجتمع الشرقي، مجتمع الإماء والحريم وما ملكت الأيمان، حين كانت المرأة سلعة رخيصة، تباع وتشترى في أسواق النخاسة، في المجتمعات البائدة – دون استثناء - حتى في أوربا، التي انعقد فيه مؤتمر يشكّك ويبحث ويسأل: هل المرأة إنسان أم حيوان؟.

صراع متطرّف، علّته الجهل بالمباديء الإنسانية المتعارف عليها شرقا وغربا. لكنّ ما بلفت انتباه القاريء في رواية الكاتبة العراقيّة المتميّزة " غابات الإسمنت "، هو تحميل الرجل مسؤوليّة جرائم المرأة كلّها، وتبرئة هذه الأخيرة منها. فكلّ السجينات اللائي لقيتهنّ في السجن وموظفات السجن، وعلى رأسهنّ المسؤولة النقيب إبتسام علاّم، هنّ ضحايا سلوكات الرجل ومعاملاته الشائنة.

الخيانة والجريمة والابتزاز في الرواية:

منحت الكاتبة ذكرى لعيبي في روايتها (جريمة الخيانة) دور المركز؛ فهي فوهة البركان وبؤرته التي ينفث منها حممه الحارقة، وفي الاتّجاهات كلّها؛ خيانة الزوج لزوجته، خيانة رجل السياسة لبلده، خيانة رجل الأمن لمهمّته، خيانة رجل الدين لعقيدته وشريعته، خيانة الفرد لذاته وقناعاته، خيانة الحبيب لحبيبته، خيانة الذكورة للأنوثة، وهلّم جرّا.. لقد عمدت الكاتبة إلى تبرير جرائم النساء السجينات، وتبرئتهنّ منها، وأرجعت مسؤوليّة تلك الجرائم إلى الرجل. الذي وصفته على لسان السجينة نجاح قائلة: " تبّا ما أتعسنا...هناك فرق كبير بين رجل حقيقي، وشبه رجل، نحن وقعنا في وكر أشباه الرجال " ص 62. فظلم الرجل الشرقي ورعونتهم وجرمه - في نظر النقيب ابتسام علاّم – صنعا مأساة المرأة الشرفيّة. " الرجال مجرمون والدليل وجودكنّ بالسجن، أو على المشانق، نحن نقدر أن نكون رجالا ونساء في الوقت نفسه، كل واحدة هي رجل وأنثى، فما حاجتنا لهم؟ " ص 55.

فالخيانة - في نظر السجينات والسجّانات، وعلى رأسهنّ النقيب ابتسام علاّم – سلوك ذكوري بحت، وكأنّ المرأة معصومة منها. وهي نظرة نابعة من نفسيّة مريضة وشاذة. إنّ خوف النقيب ابتسام من فقدان حبّها الجديد إنعام، أو خيانتها لها، ولو بمجرّد التفكير في الزواج من رجل، جعلها تصوّر لها عالم الرجال جحيما لا يطاق، بينما صوّرت لها علاقتها بها جنّة ستنسيها (بحيرة الدم). وليتأمل معي القارىء الكريم قول الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير. " أمامي ثلاث سنوات أروّض نفسي خلالها على الحياة الجديدة، لقد خانني رجل... فهل تخونني امرأة؟ وقد هتفت الليلة، وهي ترتعش فوقي: أحبّك.. أهيم بك.. إنّك لي إلى الأبد " ص 53. وفي موضع آخر تصفها، قائلة: " أجدها تلعب دور الإثنين وفق تتابع زمني: الرجل أو المرأة، فأصبح أنا رجلا أو امرأة وفق هواها " ص 54.

هذا الحوار الذي دار بين إنعام عبد اللطيف الحاير والنقيب ابتسام علاّم:

- (ابتسام): أووه صغيرتي الجميلة، أنت أجمل منّي، لذلك إذا خنتني مع واحدة سأقتلك

- (إنعام): محال.

- (ابتسام): تقسمين.

- (إنعام): أقسم.

- (ابتسام): إذن دعيني أخطط لك مستقبلك، سأريه صورتك.. ستكونين محظيته..طبعا ذلك مقابل شيء، لن تمنحيه نفسك مجانا، بالمقابل سأتحدّث مع سيادة الوزير، لتدخلي دورة أمنيّة في الأيام القادمة، حتى إذا خرجت فتحت صالون حلاقة، فتأتي إليك النساء، يجب أن نعرف كلّ شيء، زوجات موظفين كبار.. مديرين عامين.. مسؤولين.. ستكونين أكبر من مخبرة.. سيّدة أمن، وستملكين صالونا، وتبقى علاقتي بك، لا يهمني مع من تكونين من الرجال، أريدك أن تستغلّيهم، أو تستغلّي المسؤول الذي ستصبحين محظيته بشطارتك؛ لكنّك ستكونين لي وحدي " ص 55 /56.

يعكس هذا المقطع من الحوار، الذي دار بين النقيب أبتسام علاّم وإنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، ذروة الابتزاز الشنيع بجميع صوره. فمقابل حريّتها (الإفراج المسبق)، تتنازل البطلة (الراوية) عن مباديء شخصيّتها، وشرفها، وقيّم مجتمعها الدينيّة والأخلاقيّة والعرفيّة. أمّا النقيب ابتسام علاّم، فعلاقتها بابتسام لا تتعدّى تحقيق غرضين هما: امتلاك انعام نفسيّا وجسديّا وليبيديا لإشباع رغبتها الجنسيّة الشاذة، (السحاق)، وتوظيف (في صورة عبوديّة) لمهمّات التجسّس القذرة على حياة أسر المسؤولين والمدراء والموظفين الكبار وجمع معلومات عنهم لابتزازهم بها في حالات عزمت السلطة عزلهم من مناصبهم أو رفضوا طاعة أوامر رؤوس منتفعة ونافذة ومتنفّذة في مفاصل المجتمع. وهي من أرخص الوسائل التي تستعملها منظومة المخابرات ورجال الأمن في البلاد العربيّة وغيرها من بلدان العالم الثالث والرابع ووو.

لم يرحم المجتمع – بكل أطيافه - البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، ولا زميلاتها السجينات. لم يرأف لحالتها. رغم أنّها، كانت في موضع الدفاع عن شرف الزوجيّة. " الناس والصحف رأوني مجرمة أستحقّ القصاص، مشفقين على زوجي " ص 19. " أمّا أهلي الذين تخلّيت عنهم وتخلّوا عنّي منذ دخلت السجن، فقد لاموني على فعلتي، وحجتّهم، مادام زوجي وفّر لي السكن والعيش والعمل، فلأدعه يفعل ما يشاء، لم يعلق بأذهان الجميع سوى بركة الدم ومشهد القتل الشنيع " ص 19.

هذه إذن هي معايير التعايش الأسري، وبناء الحياة الزوجيّة، عند هؤلاء الناس المعتوهين. وهي معايير تفضح النفاق الأخلاقي والتناقض الثيوقراطي والظلم الاجتماعي المسلّط على المرأة الشرقيّة. شرعوا للرجل حقّ خيانة زوجته، مادام يوفّر لها الغذاء (العلف) والسكن (الزريبة) والعمل. وفي دستور أعرافهم وتقاليدهم الميّتة والمميتة، فإنّه من حقّ امرأة (القطيع)، أن تحاسب زوجها على أفعاله الشنيعة، ولو زنا بامرأة أمام عينيها. " لأنّ الأفضل للمرأة وفق العادات والتقاليد والعرف السائد، أن تلتزم الصمت أمام زوجها في كلّ الأحوال؛ حين يهينها تصمت، وإن ضربها تصمت، أمّا إذا رأته متلبسا بالخيانة والزنا فما عليها، قبل كل شيء، إلاّ أن تكبت بنفسها وتستر كأنّها هي المذنبة، وإلاّ ستكون مضغة للأفواه " ص 27.

ما أغرب هذا المنطق الجاهليّ، وقد كان الرجل الجاهلي أشرف من رجل هذا العصر، بغض النظر عن الذكر الجاهلي الذي كان يئد ابنته، خوفا عليها من السبي. أقول، ما أغربه من منطق لا تستسيغه النفس الأبيّة، ولا يتحمّله عقل العاقل.

فبأيّ شريعة سماويّة، وبأيّ قانون وضعيّ، حُقّ للزوج الشرقي، أن يعامل زوجته الشرقيّة بأسلوب الغاب الإسمنتي؟ فهل زوجته لو كانت غربيّة، أجنبيّة، بهذا الأسلوب الفجّ؟ كلا، لقد رأينا رجالا شرقيين متزوجين بأجنبيات غربيّات، يدبّون وراء زوجاتهم كالكلاب الأليفة، المنزوعة السلاسل. ومنهم من ارتدّوا عن دينهم، أو ضيّعوا طقوسه العباديّة اليوميّة، وتركوا الصلاة والزكاة ولا الصوم ولا الحج، امتثالا لرغبات زوجاتهم الغربيّات. فما بال، هذا الرجل الشرقي يصول أمام زوجته الشرقيّة الطيّبة، الشريفة، الأصيلة، صولة الأسد خارج عرينه، ويخفي رأسه أمام زوجته الغربيّة، الأجنبيّة في الرمل مثل النعامة. وقياس الحال، أنّه هزبر هصور على زوجته الشرقيّة، وهرّ أجرب أمام زوجته الغربيّة. لقد أسست الكاتبة معمارها الروائي " غابات الإسمنت " وأقامته على تيمتي الكذب الأكبر والخيانة (لأنّ الخيانة أصلها الكذب)، (خيانة الأمانة، خيانة الزوج لزوجته، خيانة الزوجة لزوجها، خيانة البلد، خيانة الوظيفة، خيانة الذات، خيانة الدين، خيانة الأخلاق، الخ....). فكان أن انتقلت الخيانة من سلوك فرديّ غير نمطيّ، إلى ظاهرة اجتماعيّة، نمطيّة في دواليب المجتمع الشرقي. وقد عبّرت عن ذلك مديحة لصديقتها إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء) قائلة: " بعد مضيّ سنوات حبسي، ومن خبرة تواجدي فوق منصّة الحياة، اكتشفت أنّنا نعيش في مواجهة تسونامي الكذب الأكبر، رجل الدين المزيف يكذب.. والسياسي الموالي لغير بلده يكذب..و المثقف الذي لا يحترم نفسه.. وغير المثقف الذي يتّخذ من الكذب باب سخرية.. والفقير والصغير والكبير..حتى أنا وأنت نكذب على بعضنا، في بعض التفاصيل الخاصة " ص 133.

في السجن: تحوّل مفهوم السجن في هذا المعمار السردي، من صورته التقليديّة، المتعارف عليها لدى العام والخاص؛ مؤسسة عقابيّة تأديبية لإعادة التربيّة والإصلاح وتقويم السلوك المنحرف، إلى عالم آخر أكثر خطورة على الفرد والمجتمع. مكان لصناعة الفساد (شذوذ جنسي (السحاق)، استهلاك المخدّرات، التجسس، الابتزاز، المتاجرة بالجسد، استغلال الجنس..). وهو – لعمري – انحراف عن الرسالة التربويّة المنوطة بها. فما فائدة السجن، إذا خرج منه الفرد أكثر خطورة على المجتمع؟ ما جدواه إذا لم يقوّم الفاسدين والمجرمين والمنحرفين والخائنين للأمانات، ليقي المجتمع من شرورهم؟

سيميائية السجن في رواية " غابات الإسمنت " أخذت بعدا نفسيّا، وتعدّت جغرافيّة المكان. فالسجينات والسجّانات كلهنّ، يعانين من وطاة السجن النفسي. فمثلا: الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) سجينة ضميرها الغافي تارة واليقظ تارة أخرى، سجينة جريمتها (قتل الزوج وعشيقته)، تلاحقها ليل نهار، في اليقظة والأحلام، سجينة ذاكرتها الملأى بالأحلام المعسولة، سجينة شذوذها الجنسي (السحاق) مع النقيب ابتسام علاّم وتعلّقها الشديد بها، سجينة الابتزاز، سجينة كرهها للرجل، سجينة عالم التجسس الذي أولتها إليه (حبيبتها) ابتسام علاّم. سجينة اللاإرادة. أمّا النقيب ابتسام علاّم، فهي السجّانة والسجينة في آن واحد. ذات شخصيّة مريضة، متناقضة؛ فهي في نظر السجينات (داخل السجن) امرأة القانون والمسؤوليّة والاستقامة، هي الآمرة الناهيّة، الساعيّة لخدمة السجينات والتعاطف معهن ومساعدتهنّ، هي بمثابة الأخت الكبيرة والمربيّة. لكنّ الحقيقة غير، وما خفيّ من شخصيتها لا تعرفه إلاّ إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) وأمثالها. النقيب ابتسام علاّم سجينة شذوذها وهيامها ببنات جنسها منذ طفولتها. هي، كما قالت عن نفسها: " إنسانة مشوّهة من الداخل " ص 67. وتروي أيضا عن تجاربها الشذوذية السابقة قائلة: " منذ الصغر أحسست بميول لجارتنا التي كانت رفيقتي، كنت أشتهي أن أقبّلها وفي يوم اكتشفت أنّها.. ارتاحت للأمر " ص 66. ثم تسألها حبيبتها إنعام: " أطنّ أنّك بقيت طويلا معها؟ " ص 66. فتجيبها النقيب ابتسام: " فترة، ثم مارست سنة مع صديقتي في الثانوية التي انتقل أهلها الى مقاطعة، ثم مع طالبة أخرى. استمرت علاقتنا ثلاث سنوات وانتهت بزواجها " ص 66.

في غيهب السجن التقت إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) مجموعة من النسوة السجينات (المعلّمة مديحة نعمان، نائلة العاصي، أم محمد العجوز، قارئة الكفّ، أم كامل، نجاة النشالة، سليطة اللسان، أشواق، أم نظيم، أم جبّار، كريمة المحكومة بالإعدام، رهام سهيل، ذات شموخ، وأخريات)، كلّ امرأة من هذه النسوة تحمل مأساتها الاجتماعيّة ومعاناتها النفسيّة، لكنّهنّ تجمعهنّ هموم متشابهة، ظلم المجتمع الذكوري لهنّ. قضاياهن مختلفة، (جرائم قتل للأزواج الخائنين، والاختلاس، والمتاجرة بالمخدرات، والبغاء وغيرها). وهذه رهام سهيل، السيّدة الجميلة، الشامخة، ذات الثلاثين من عمرها، مثلا، سُجنت في قضيّة اختلاس. " كانت تهمتها الاختلاس، سيّدة ذات موقع مهم.. مديرة أحد الأقسام في بنك، راودتها نفسها أن تصبح مليونيرة بين عشيّة وضحاها، فوقعت في الخطيئة بتحريض من هيئة مستشارين فاسدين " ص 124. وهاهي إنعام عيد اللطيف الحاير (ميساء)، تعود إلى وعيها، لحظة، وتسأل نفسها، وهي تشاهد تلك الطقوس الشيطانيّة (قبائح بطقوس ومعتقدات غريبة) التي مارستها طائفة من بنات ذوات، قائلة: " ورجعت إلى نفسي أحدّثها: وأنت ما تفسيرك للقبائح التي تمارسينها مع سيّدة مثلك؟ " ص 154. فتجب وتبرّر ذلك بقولها: " لكنّهن يمارسن معصيّة وشركا...بينما أنا أمارس حقّي في الحب دون خوف " ص 154. وتضيف، وقد صحا ضميرها فجأة وأنّبها: " لا تختلفين عنهن بشيء، ولا تختلفين عن أخريات يبعن أجسادهنّ وقلوبهنّ مقابل المال، أو اللائي يقنعن أنفسهنّ بالشرف بعلاقات مشبوهة تحت مبدأ التضحيّة من أجل الغير جميعكنّ بنات هوى وعتمة وضلال. " ص 154. وتواصل إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم)، تلقّي ضربات صحوة الضمير في لحظة صفاء النفس، فتعترف لنفسها أنّها غارقة في عالم الرذيلة من رأسها إلى أخمص قدميها. فتردّد بنفس نادمة، ضامئة إلى الانعتاق من ظلمة الشذوذ الجنسي، قائلة: " يا ربّي، كيف أقحمت نفسي في جريمة ضد الطبيعة؟ سلوك يدينه مجتمعي وديني؟ هل أنا مريضة؟ ربّما مريضة لأنني أشعر أنّ علاقتي مع ابتسام شيء لا مفر منه، علاقتي تولّدت من مخاوف الفشل والخيانة، خيار جنسي متاح دون عواقب وخيمة، وبغض النظر عن المحرّمات، فأنا اخترت الخيار الأكثر إرضاء بالنسبة لي بعد جريمة قتل وسجن وسمعة فرضها عليّ المجتمع. من دون ابتسام ماذا كنت أعمل؟ كيف أواجه الحياة؟ ص 160.

أمّا مديحة، فقد كانت ضحيّة زوجها السياسي المعارض، وضحيّة نظام سياسيّ استبدادي. تخرج من السجن بريئة من تهمة المخدّرات، لتصيح سيّدة اعمال، وصاحبة " معمل خياطة ينبض بالحياة ويصب في عصب البلد.. مديحة هي المديرة، وهي التي تروّض خياطات ومهندسات مكائن ليرافقن مسؤولين كبار ويدخلن البيوت بمهام أخرى.. مربيات.. سكرتيرات. " ص 134. أما كريمة، الأم لولدين فقد نفّذ فيها حكم الإعدام، ولم يُقبل طعنها لتخفيف حكمها، ولعبت الاعتبارات العشائريّة والأسباب غير القانونيّة دورا في إعدامها. " في قضية كريمة اعتبارات قانونيّة وعشائريّة، الدولة نفسها لا تتحكّم بها، ألم تري أنّي لم أخرجها بحجة المرض أو التحقيق لتبيت مع مسؤول له سلطة على القضاء، لقد هان عليّ أن تقضي ليلة مع رجل من دون مقابل وهو حياتها " ص 81. إنّ ما يؤكّد استشراء الفساد في جميع مفاصل السلطة الحاكمة، وخصوصا جهاز القضاء، هو غياب الأحكام العادلة. والغريب – فعلا – هو حكم الإعدام على السجينة كريمة، بسبب تهمة ملفّقة من زوجها.

و هذه ضحيّة أخرى من ضحايا الذكورة الشرقيّة، إنّها السجينة نجاح، التي اتّهمت بالنشوز والزواج برجل ثان، وهي في عصمة زوجها الأول الذي طلّقها قبل سنة، وادّعى أنّه أعادها قبل انتهاء مدّة العدّة. " كانت ضحيّة لؤم زوج احترف الكذب والنفاق " ص59. " طلّقها وتركها مدّة فتزوجت بعد سنة من الطلاق. لكن زوجها أرجعها قبل انتهاء مدّة العدّة من دون أن تدري، ودون أن يخبرها أنّه أعادها. فأقام عليها دعوى فحوكمت بقضية الزواج من اثنين بوقت واحد. " ص 59.

إذن، كلّهنّ ضحايا ثقافة شرقيّة تقليديّة ظلاميّة، ونظرة دونيّة، وتأويل ظلامي للدين. تتساءل الراوي إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء) متعجّبة، ومحتجّة وبحنق وغرابة. " أي دين هذا الذي يسمح للرجل أن يطلّق زوجته ثم يعيدها لعصمته دون سؤالها؟ دون علمها. دون رضاها ربّما. هل نحن نعيش بمعزل عن العالم أم نسكن كوكبا آخر؟ " ص 59.

ثقافة باليّة الأفكار، ميّتة، مميتة، لا تصلح لتسيير قطيع من النعاج، ثقافة لا تعترف بالمرأة ككائن مساو للرجل، في الجزاء، خيره وشرّه. فإذا خان الرجل زوجته وزنا، فلا يحقّ للمرأة أن تحتجّ، بل من واجبها الصمت والكتمان والرضا. أمّا إذا خانت هي زوجها ووقعت في جريمة الزنا، فمن حقّ الرجل وواجبه أن يقتلها دفعا للعار ودفاعا عن الشرف، أو يطلّقها او يشتكيها للقضاء في أحسن الأحوال. وكأنّ العار لصيق بالمرأة فقط، والشرف للرجل دونها. والسجن، في حقيقة غاية وجوده، هو مؤسسة عقابيّة وردعيّة وتربويّة. لأنّه بُني ليحمي المجتمع المدني من المجرمين والفاسدين والخارجين عن القانون والمتمرّدين على النسيج الاجتماعي السليم. وبالتالي فهو وسيلة وليس غاية. هدفه إعادة السجين إلى وعيه واستقامته وتقويم سلوكه، لدمجه في المجتمع، لأداء رسالته الانسانيّة في جوّ من الأمن والطمأنينة والصدق والقناعة. غير أنّنا نلاحظ - كما روت لنا البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير - أنّ السجن قد تحوّل إلى بؤرة فساد، وليس عالم إصلاح. فيه وقعت البطلة إنعام عبد اللطيف الحاير، ضحيّة شذوذ جنسي شنيع (السحاق)، بسبب جمالها الذي أبهر النقيب ابتسام علاّم، مسؤولة السجن. ولم تمانع في ممارسة السحاق مع الضابطة، في بيتها. حيث كانت تأخذها إليه، وتمارس معها شذوذها الجنسي. إنّ هذا السلوك المقزز، سببه، كما تقول البطلة إنعام والضابطة ابتسام، كرههما للرجال. وهكذا تقع الضابطة ابتسام في حمأة الخيانة. حيث تخون وظيفتها ومركزها، من كونها امرأة تمثل القانون والدولة، وتحرص على تنفيذه وحمايته. إلى امرأة خائنة. لكنّ خيانتها للقانون والأخلاق سببه الرجل الشرقي، وبالتالي فهي بريئة من سلوكاتها وأفعالها الشاذة. " ماذا نفعل؟ أنا عاطفتي معك، مشاعري دلتني على نساء مثلي. وعندما تحرّكت نحو رجل أحببته وغدر بي، تيقنت أنّهم وباء، وثبت لدي أنّ مشاعري الحقيقية لا بد أن تكون مع بنات جنسي، حتى وصلت إليك. " ص 158.

السياسة والخيانة والجنس:

و في الرواية، ارتبطت السياسة بالخيانة. فالمسؤولون يسوسن البلد، ويتحكّمون في مصيره وخيراته انطلاقا من الغرف المظلمة، لصالحهم ولمصلحة أزواجهم وأبنائهم وعشيقاتهم. لهذا السبب زرع جهاز الأمن جواسيسه في كلّ مكان، وخاصة أماكن تواجد المسؤولين الكبار. تقول الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) عن وظيفتها الجديدة، التي كلّفتها بها النقيب إبتسام علاّم وعن منزل رئيس غرفة التجارة: " هذا المنزل للعهر وعمل الصفقات، وظيفتي أن أنقل للسيّدة النقيب ما بداخله " ص 118. وتصف النقيب ابتسام علاّم رئيس غرفة التجارة بقولها: " الوقح يعقد صفقات لدول أخرى بأرباح من الطرفين " ص 120.

انتحلت الراوية إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) - وهي المرأة القاتلة لزوجها وعشيقته والعاهرة والشاذة جنسيّا - دور الجاسوسة والمخبرة. وهو دور حرّكته نزوات الابتزاز، " لا تظني أنّك جاسوسة أو مخبرة.. أنت مثلما نقول رجل أمن، سيّدة أمن، وقد جعلت شعبة الأمن الوطني تتطلع على أسرار كثيرة، غير العري، سيفاجئون السيّد رئيس غرفة التجارة بها حين يشعرون أنّهم لا بد من أن يزيحوه " ص 120. " عليّ ان أثبت كفاءتي؛ أنا السجينة الموظفة " ص 107. هكذا تحوّلت إنعام عبد اللطيف الحاير (ميساء أدهم عبد الرحيم) بسبب الابتزاز المالي والجنسي والوعد بالإفراج المسبق، من أجل الحريّة، " حريّة مغمّسة بتجسس وزنا ومحرّمات " ص 211، بعد تخفيض المدّة إلى ثلاث سنوات سجنا فقط، بدل ثماني سنوات. إلى عنصر من عناصر الأمن لحماية البلد من الخيانة والفساد السياسيين. وهي لا تكاد تصدّق. (حاميها حراميها). إنّ البلد، أي بلد، في حاجة إلى أناس شرفاء لحمايته؛ شرفاء في الوطنيّة والعرض والدين والفكر والثقافة. أمّا أمثال النقيب ابتسام علاّم وإنعام عبد اللطيف الحاير ومثيلاتهما من عناصر الأمن والمخبرين والمخبرات، فهم شخصيات مريضة، في حاجة ماسة إلى من يحميهم من ذواتهم، ويعالجهم من أمراضهم النفسيّة الخطيرة. هل من المعقول، أن تدير امرأة (ضابطة) (كابتسام علاّم)، سحاقيّة (من السحاق)، شاذة جنسيّا، مؤسسة عقابية لإعادة التربيّة؟ هل من المنطق أن تتحوّل امرأة – كإنعام - من مجرمة، قاتلة، عاهرة، شاذة جنسيّا (سحاقيّة) – بين عشيّة وضحاها – إلى جاسوسة أو مخبرة لمصلحة البلد؟ إنّه لأمر عجاب يشيب له الولدان.

خاتمة:

تقّول الكاتبة الروائية ذكرى لعيبي، بعد الإهداء مباشرة: " من يعتقدون أنّ الأدب الجريء إثارة للغرائز؛ وابتذال وخدش لحياء مصطنع؛ والمتطرّفون، المتشدّدون، القريبون من ديناميت السياسة؛ أنصحهم بعدم قراءة هذه الرواية ". وقد ذكّرتني هذه النصيحة، التي أسدتها الكاتبة ببعض القنوات التلفزيّة، التي تعرض أفلاما سينمائيّة، على الجمهور، وتضع ملاحظة {ممنوع على أقل من 10 أو من 18 سنة). وهي تعتقد – واهمة - أنّ نصيحتها ستطاع ويؤخذ بها. إنّ الأدب الجريء، لا ينحصر في الجنس فقط، رغبة في إثارة الغزائز (الليبيدو)، بل إن الكتابة الإبداعيّة في حدّ ذاته عمليّة جريئة، عندما يمارسها المبدع بعيدا عن خيانة ضميره ومجتمعه وأحلامه. أمّا الذين يضعون القيود والأغلال في معصميّ الكاتب، فإنّهم يحرمون أنفسهم – قبل الكاتب – من الحياة الإنسانيّة الحرّة، الصادقة.

وختام القول، فإنّ رواية " غابات الإسمنت "، من بنات أنامل كاتبة عراقيّة شرقيّة، عاشت طفولتها وشبابها في خضمّ مجتمع شرقيّ، أنهكه الجهل والتخلّف وأدمته التقاليد البائدة، والعادات البالية، والأزمات النفسيّة والاجتماعيّة ومزقت نسيجه الأزمات السياسيّة والحروب الأهليّة والإقليميّة والإثنيّة. (و شهدت شاهدة من أهله). رواية، جمعت فيها الكاتبة بين، المعقول واللامعقول. بين الجرأة والحريّة، بين المسكوت عنه والمفصَح عنه في واقع المعيش، غلب عليه السواد. هي رواية فضحت زوايا مظلمة، جدرانها الاستبداد، وسقفها الفساد، وأرضيتها الاستعباد، وحرّاسها الخونة والمال القذر والجنس الحرام. لكنّها، بالمقابل، ليست مرآة للمجتمع الشرقي بكل أطيافه وأعماقه وأزماته المختلفة (رواية نمطيّة) - فكم في الشرق من مساحات مضيئة، يغار منها الغرب - وإنّما هي غوص (جريء) في بعض أدغاله الاجتماعيّة والنفسيّة الخفيّة، وتعريّة لبعض الطابوهات المسكوت عنها خجلا أو خوفا أو لامبالاة. وهي، وإن كانت في المجتمع الشرقي من الطابوهات الممنوع الجهر بها، فهي في المجتمعات الغربيّة أشدّ استفحالا، وقد انفلتت من قيود الخفاء والتحفّظ، وخرجت إلى الشارع والعلن، ولعلّ تنامي ظاهرة المثليّة الجنسيّة خير دليل على الانهيار الأخلاقي عند طائفة من الغربيين، الخارجين عن الفطرة الإنسانيّة السليمة. إنّ الحريّة مكسب إنسانيّ عظيم، لا غنى عنه، في مسار الحياة البشريّة. حتى الطبيعة لا يمكنها الاستغناء عنها. ولكنّ الحريّة دون ضوابط أخلاقيّة وقيّم إيجابيّة ومسؤوليّة راشدة، تفضي إلى عوالم الفوضى، وتقود البشريّة إلى الفناء عاجلا أم آجلا.

ومن إيجابيات هذه الرواية، كشفها للمستور والخفيّ. فإنّ قصص السجون في العالم العربي، وفي العوالم الشرقيّة والغربيّة، أغرب من حكايات ألف ليلة وليلة، قصص منحطة، لا يكاد العاقل تقبّلها وتصديقها، لكونها ترتقي إلى عالم الخرافات والأساطير وأحلام اليقظة. وحسب، علمي، فإنّ رواية " غابات الإسمنت " لذكرى لعيبي لها فضل السبق الأدبيّ والإبداعيّ في ساحة الرواية العربيّة المعاصرة، لتناول (طابوهات السجن) في مجتمع عربي لايقترب منه الإعلام أو بشكل أدق " يخشاه".

إنّها رواية اتّسمت كاتبتها بالجرأة الأدبيّة والفكريّة والأخلاقيّة، انطلاقا من التزامها بالشجاعة الأدبيّة، في قول الحقيقة، وعدم خيانة مجتمعها وقرّائها، من مختلف القناعات الايديولوجيّة.

و إذا تفحصنا أسلوب الروائيّة ذكرى لعيبي، في هذه الرواية، التي بين أيدينا، وجدناها أسلوبا أقرب إلى أسلوب التحقيق الصحفي، أسلوب سهل ممتنع، فيه من السلاسة والإنسيابيّة ما يدفع القاريء ويغريه لمواصلة قراءة الرواية، وربّما، يدفعه شغفه بها إلى إعادة قراءتها.

ومهما قيل أو كُتب عن رواية " غابات الإسمنت " للكاتبة العراقيّة ذكرى لعيبي، من نقد، سواء أكان مدحا أم ذمّا. ومهما تعرّضت إلى النقد اللاذع، فإنّ هذه الرواية، المتخمة بالرموز والأحداث (المدهشة)، قد باحت للمتلقي العربي، بكلّ توجّهاته الإيديولوجيّة، بما لم تبح به شهرزادُ لشهريارَ. ولم تطق السكوت عن الكلام المباح واللا مباح في هذا الزمن العربي المترهّل.

***

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر 

......................

هامش:

* ذكرى لعيبي: كاتبة وروائيّة وقاصة وشاعرة عراقيّة لامعة وغزيرة الإنتاج الإبداعي. من مواليد ميسان. هاجرت من العراق عام 2000 م، وهي تقيم بين ألمانيا ودبي. عضو في كل من: إتحاد كتاب وأدباء العراق، واتحاد كتاب وأدباء الإمارات، واتحاد الصحفيين العراقيين واتحاد الصحفيين والكتّاب العرب في أوربا. ودارة الشعر المغربي ومؤسسة حميد بن راشد النعيمي لجنة الطفولة والشباب(عضو سابق) مؤسسة المثقف العربي/ سيدني – أستراليا، مؤسسة وشبكة صدانا الثقافية / نائب رئيس إدارة مجلس المؤسسة لجنة دعم كتاب الطفل / القيادة العامة لشرطة الشارقة / عضو مؤسس نادي دبي للصحافة. بيت الشعر في الشارقة.

من إصداراتها: لقد جاوزت إصدارتها 36 منجزا أدبيا، توزّع بين مجموعات قصصيّة للكبار وللأطفال وروايات ودواوين شعريّة ونصوص مفتوحة، وكتب مشتركة). نذكر على سبيل المثال، لا الحصر، مجموعات قصصيّة (الضيف، حبّ أخرص، ثامن بنات نعش، رسائل حنين، للخبز طعم آخر)، إضافة إلى مجموعة من الروايات (خطى في الضباب، يوميات ميريت، غابات الإسمنت،) كما لها إسهامات كثيرة في أدب الطفل (شمس ورحلة الأمس، حكاية الطاووس والثعلب، اللصوص والقلم المعطّر، قطرة الماء السعيدة)، أما إسهاماتها الشعرية، فنذكر لها ما يلي: (امرأة من كوز وعسل، يمامة تتهجّى النهار، بوح في خاصرة الغياب).أما الكتب المشتركة، فنذكر: ترانيم سومريّة المشتركة، العبور إلى أزمنة التيه، حكايات ميشا) وغيرها من الكتب.

لها لقاءات وأمسيات أدبيّة وشعريّة في كل من:

معرض الشارقة الدولي للكتاب.

مهرجان الشارقة القرائي للطفل.

إتحاد كتاب وأدباء الإمارات.

جمعية المثقفين العراقية / مالمو- السويد

النادي الثقافي العربي / الشارقة

قناة الشارقة الفضائية.

قناة الاتجاه العراقية.

قناة الشرقية من كلباء – هيئة الشارقة للإذاعة والتلفزيون.

** ميسان: إحدى محافظات العراق في شرق البلاد على الحدود الإيرانية، عاصمتها العمارة، الواقعة على نهر دجلة. وقبل عام 1976 م، كانت تُعرف بمحافظة العمارة.

(دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

رأينا في المقال السابق كيف كان الشُّعراء يتنافسون في تصوير حركة (الذِّئب)، أيُّهم أدقُّ اختيارًا لما يُمثِّلها من لفظ أو تشبيه.  أمَّا إقدامه وجرأة إقباله، فـ(البُحتري)(1) يصفهما إذ يقول:

... فَأَقْبَلَ مِثْلَ البَرْقِ يَتْبَعُهُ الرَّعْدُ

في سرعةٍ، وتصميمٍ حازمٍ حاسم، يتمثَّل حيًّا باستحضار صورة البرق يتبعه الرعد.  وفي أصوات هذا الشطر ما يخدم الصورة، بتعاقب (القاف) من بَعده (العين)، متجاوبَين بين جناحَيها، مع هذه (الباء) الانفجاريَّة، و(الراء) التردُّديَّة، تتخلَّلان الأنغام فيها، إضافةً إلى هذا التوازن في (أقبل/ مثل/ البرق)، الذي يبعث حيويَّةً موسيقيَّةً تصويريَّةً تمثِّل إيقاع ذلك الإقبال المتدفِّق.

وصفة سرعته مرتبطة عند الشُّعراء بمعنى الجرأة؛ ولهذا فهو (مُجَلِّح)؛ كما قال (امرؤ القيس)(2):

... وأَجْرَأُ من مُجَلِّحَةِ الذِّئابِ

والمُجَلِّح: الجريء من الذِّئاب، وقيل: كلُّ ماردٍ مُقْدِمٍ على شيءٍ مُجَلِّحٌ.(3)

وهو (ذو اهتماط)، كما وصفه بعضهم، والاهتماط: ركوب الشيء والإقدام عليه.(4)

ولِـما رأوه فيه من الدَّهاء والمخاتلة اشتقُّوا من اسمه ألفاظًا، مثل: تَذَأَّب، وتذاءب، وأصله من الذِّئب إذا حُذِر من وجهٍ جاء من آخَر، والمتذئِّبة، والمتذائبة، من الرياح، التي تجيء من هاهنا مرَّةً ومن هاهنا مرَّةً، أُخِذَ من فعل الذِّئب؛ لأنَّه كذلك يأتي.(5)  قال (ذو الرُّمَّة)(6)، يصف ثورًا وحشيًّا:

فـبـاتَ  يُـشْـــئِـزُهُ  ثَـأْدٌ  ، ويُـسْـهِـرُهُ

          تَذَاؤُبُ الرِّيحِ، والوَسْواسُ، والهَضَبُ

وإذا كان لنا أن نقف مقارِنين تصوير العَرَب حركةَ (الذِّئب) بشيءٍ ممَّا عند غيرهم من ذلك، فإنَّنا سنَجِد في إحدى قصائد الشاعر الفرنسي الرواقي (ألفرِد دي فيني Alfred de Vigny)(7) أنَّه لا يُعنَى من حركة الذِّئب بِسِوَى ما يشير إلى معنى التصميم والحِدَّة فيه؛ حيث يقول: 

أَقْبَلَ الذِّئبُ فأقعَى ناصبًا يدَيه

اللتين غرزَهما في الرَّمل بأظافرهما المقوَّسة. (8)

وهو هنا إنَّما يومئ إلى ثبات الذِّئب بهذه الصُّورة الشكليَّة؛ فصفته تلك هي ما يلفته من الذِّئب.  وقبله اتَّخذَ (البُحتريُّ)(9) من حركة الذِّئب هذه، من الإقبال والإقعاء، المعنى نفسه، غير أنَّه يُقدِّم إقعاءه على إقباله، ويضيف إلى الصُّورة ملامح أخرى، في قوله:

عَوَى، ثُمَّ أَقْعَى، فارتجزتُ، فهِجتُهُ، 

        فأَقْبَلَ مِثْلَ البَرْقِ يَتْبَعُهُ الرَّعْدُ

و(البُحتري) يُضفي هاهنا على صورة الذِّئب، في إقعائه وإقباله، أبعادًا دراميَّة تختلف عن صورته لدَى الشاعر الفرنسي؛ وذلك في قوله: «عَوَى»، ثمَّ تقديمه الإقعاء على الإقبال، ممَّا يزيد صورته صدقًا فنِّـيًّا وواقعيًّا، بخلاف (دي فيني) الذي جعله يُقبِل ثمَّ يُقعي.  ذلك لأنَّ البُحتري كان يصوِّر الذِّئب في حالة هجوم، على حين كان يصوِّره دي فيني في حالة دفاع.  ثمَّ يصوِّر البُحتريُّ موقفه هو، ساعة فوجئ بالذِّئب، ويصوِّر موقف الذِّئب منه: «فارتجزتُ.. فهِجتُه»، بما ينطوي عليه هذا البناء من تصويرٍ لعوامل المواقف النفسيَّة، المشتركة بين الشاعر والذِّئب.  إضافةً إلى تمثيل البُحتريِّ إقبالَ الذِّئب الصاعق، بقوله: «فأَقْبَلَ مِثْلَ البَرْقِ يَتْبَعُهُ الرَّعْدُ».

[ولحديث الذئاب بقيَّة تحليل].

***

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

........................

(1)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 744.

(2)  (1958)، ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)، 97.

(3)  يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (جلح).

(4)  يُنظَر: الحُطيئة، (1958)، ديوان الحُطيئة، (شرح: ابن السكِّيت، والسكَّري، والسجستاني)، تحقيق: نعمان أمين طه، (مِصْر: مطبعة البابي الحلبي وأولاده)، 65.

(5)  يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (ذأب).

(6)  (1982)، ديوان ذي الرُّمة، (شرح: أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي- صاحب الأصمعي، رواية: أبي العبَّاس ثعلب)، تحقيق: عبدالقدوس أبي صالح، (بيروت: مؤسَّسة الإيمان)، 90.

(7)  يُنظَر: الحمصي، نعيم، (1979)، الرائد في الأدب العَرَبي: بين 132- 1325هـ، (دمشق/ بيروت: دار المأمون للتراث)، 213.

(8)  يُنظَر: م.ن، 214.

(9)  ديوانه، م.ن. 

يستوقفنا هذا النص المنشور في العدد (80) من جريدة أوروك الصادرة عن وزارة الثقافة العراقية، وفي صحيفة المثقف يوم 19 – 4- 2023م. تتراوح لغة النص بين التقريرية المباشرة والمجازية والمزاوجة بينهما بطريقة لا تبعدنا عن الصيغة المقالية ولكنها تجعلنا نقترح على الشاعر لو اعتنى بالمجاز وركز عليه بدلا من الابتعاد عن الشعر نحو النثر. وقد ظهر ذلك جليا ابتداء بعنوان النص ، فكلمة (العدم) الواردة في العنوان هي مفتاح نثري للنص حيث أنه أحد المفردات المهمة في الفلسفة الوجودية  وكتاب (الوجود والعدم) لسارتر يشير لذلك في عنوانه أيضا.

كما أن السطرين الأول والثاني من النص يبدآن بكلمة (عبثا) والتي تشير إلى نفس الموضوع أو المحتوى:

عبثًا أُحاول...

عبثًا أفتّش عنك أيتها المُثل العُليا

لكن المتحدث في النص يوحي لنا بثلاث كلمات أنه (جندي) وهي على التوالي في النص (فرار) و(الشجعان) و(إجازة) وهذا المسار المجازي يختلف عن المسار التقريري في بداية النص:

عبثًا أُحاول...

عبثًا أفتّش عنك أيتها المُثل العُليا

يا صنيعة الشجعان

وأول المثل العليا المرتبطة بالحروب هي الشجاعة أو البطولة والتي يبحث عنها عبثا الجندي في هذا النص. ويبدو لنا هذا الجندي مثقفا وكأنه أخذ قسرا إلى ساحة المعركة :

إن كل ما تعلمته من الكتب؛

تعبٌ هي الحياة

تعبٌ هو الموت.

فالجندي المثقف لا يجد نفسه في الحروب وساحات المعارك وهو لم يخلق لها أساسا لذلك يشعر بتعب الحياة إضافة إلى تعب الممات في تلك الساحات وهو يواجه قدره وقدر زملائه في كل لحظة. ويبدأ الجندي بالتساؤل عن قيمة الشجاعة والبطولة في مواجهة المصير وهل هي حقا مبعث للسعادة:

ولكن هل لهذا أكون سعيدًا

هل لهذا رضيّت المجيء؟

ثم يخاطب المتحدث المكان الذي يربض فيه متمثلا بالصخور الشامخات حيث يوحي لنا أن المكان أرض جبلية وعرة مكسوة بالجليد:

أيتها الصخور الشامخات، يا سليلة الرفض الأول

فلنتبادلْ أدوارنا، ولأمتدحنَّ لك الجليد

الذي روى ظمأك.

ويؤنسن المتحدث الصخور أو الجبال ويقترح عليها تبادل الأدوار لأنها تمثل رمز الشجاعة والشموخ والرفض!! لكن عبارة (سليلة الرفض الأول) تبدو مثيرة للجدل وتوحي لنا بمعان عدة منها إن الجبال أو الصخور الشامخات شكلت دائما الملاذ الآمن للمتمردين والرافضين وربما تشير كلمة (الأول) إلى أولوية الصخور بالرفض وكأن مهمتها الأولى هي الرفض. أما عن تبادل الأدوار فالمتحدث يشبه نفسه كجندي يعتمر الخوذة الحديدية القتالية بالصخرة في قمة الجبل وهي تعتمر الخوذة الجليدية ويحسدها على ذلك لأنها ترتوي حين تعطش من تلك الخوذة بينما لا يتوفر له ذلك. والعطش هنا يعني التعطش لكل شيء ويترادف في معناه مع الجوع في النص:

قالت: الطرقات في كل مكان

ولكنك لن تصل.

قلت: غريبٌ أنيَّ لن أصل

قالت: غريبٌ هذا الجوع الدائم إلى شيءٍ لا تعرفه.

الأنبياء صامتون..

والبشريُّ يحمل على ظهره صخرة سيزيف.

آهٍ، ما أثقلها

تلك الحيوات التي تشبه بعضها.

ويسبب التعطش والجوع للمعرفة التغرب والتغريب إذا لم يجد السائل أجوبة وافية لأسئلته المحيرة فيما يتعلق بالحياة والموت وفك ألغاز الكون. وهنا يقارن المتحدث بين تلك الصخور التي يخاطبها وصخرة سيزيف الأسطورية  التي ترمز لعبث الجهود الإنسانية ويشير المتحدث إلى الانسان ب(البشري) الفاني مقارنة ب (الإلهي) الخالد وتلك لب المشكلة. فالمتحدث لن يصل إلى هدفه على الرغم من أن "الطرقات في كل مكان" مثلما تنبأت له تلك الصخور سليلة صخرة سيزيف العبثية. كما أن حيوات البشر متشابهة وتثير الملل ومع كل ذلك فالأنبياء صامتون ولا يدلون بدلوهم لمعرفة الحقيقة حسبما يقول المتحدث. والأنبياء الذين ارتبطوا بالصخور والجبال عديدون في الديانات الثلاث لكن المتحدث على ما يبدو في النص لا يجد في تعليماتهم ما يسد به جوعه المعرفي ويبدون له صامتين وتبقى الغاز الحياة والموت طلاسم لا سبيل إلى تفكيكها:

في أعماق الخير والشر

البوصلة تشير إلى القبور

الخرائط كلّها تشير إلى القبور

يا إلهي، أأنا صنيعة اليوم الثّامن؟

طفلٌ هرول إلى أمه باكيًا، فقابلته بصفعة !

وهنا تتجلى الرؤية العبثية فالخير والشر متساويان ما داما يؤديان إلى مسار معين لا سبيل إلى سواه وهو القبور. أما أن يكون المتحدث "صنيعة اليوم الثامن" فالسياق يشير إلى اليوم الما بعد الأسبوع وهو اليوم الثامن أي خارج مدى الزمن بالمعنى المجازي أو هو غلطة الزمن بمعنى آخر. وتكتمل هذه الصورة العبثية بصورة أشد حيرة وألم وهي صورة الطفل الذي لا يجد ملاذا للمواساة سوى أمه التي تصفعه بدلا من أن تواسيه. والأم هنا ترمز للحياة الصعبة الملغزة أو الأرض القاسية التي تحتضنه. ويعاود المتحدث بنثريته المعهودة ليقرر أنه لا يمكنه فهم قيم البطولة أو الشجاعة في ظل هذه الأجواء اللامنطقية:

آهٍ، أيتها المُثل العُليا، يا صنيعة الشجعان

يصعب على عقلي القياسي أن يتقبل فكرة وجودك

وتصب عبارة "عقلي القياسي" مقابل "الوجود" في السطر أعلاه في جوهر الإشكالية الفلسفية التي يتناولها المتحدث في خطابه. عقل المتحدث القياسي لا يؤمن بالمثاليات أو الميتافيزيقيا التي تجره إلى عالم الوهم:

فأستميحك عذرًا..

أستميحك - أنا متعفّن بالأحلام.

لذلك ينهي المتحدث خطابه ويحسم الأمر بطريقة دراماتيكية بهذه الأمنية التي تشبه محاولة الانتحار:

أتمنى أن أنزع رأسي كما ينزع الطفل حقيبته

وأنامُ.. في إجازة أبدية.

فالإجازة القصيرة من وحدته العسكرية لا تنهي المشكلة لكن الموت هو الحل الذي يطفيء جميع الأسئلة التي تدور في رأسه. 

تنتمي هذه القصيدة إلى ما يسمى بأدب الحرب وإلى الأدب المناهض للحروب الذي مثله بعد الحرب العالمية الأولى الشاعر الانكليزي ولفريد أوين في مقابل الأدب المساند للحرب والذي مثله الشاعر الانكليزي أيضا ريوبرت برووك الذي ساند موقف بلاده في تلك الحرب. وقد شكل هذان الشاعران مدرستين مختلفتين في شعر الحرب انتهجت سبيلهما قوافل عديدة من الشعراء في شتى البلدان. أما هذه القصيدة فتظهر لنا عبثية الحروب بطريقة فلسفية تشربت فيها مفردات الفلسفة الوجودية التي تتلاءم مع طبيعة النص.

***

فيصل عبد الوهاب

استلهام تناص الاسطورة لمديات الواقع الحالي، في المجموعة الشعرية (فراديس إينانا) للشاعر يحيى السماوي

يتألق الشاعر السماوي في براعة مدهشة، في توظيف الأسطورة السومرية، فى الحب والعشق، ويغرد بهما في قيثارته الشعرية، لصالح الوطن والناس، يستلهم البعد الأسطوري لمجريات الواقع والأحداث الجارية على أرض أوروك الحالية. يحلق في النص الشعري الى السماء العالية، يخفق في جناحي البلاغة الراقية وقوة الصياغة الشعرية، كأنها عجينة بيد فنان تشكيلي محترف، يشبعها بزخم من المفاهيم التي تمتلك وفرة الإيحاءات والترميز الشعري، يغرف من ينابيعها الرؤية الفكرية والتعبيرية عميقة الدلالات، بما يملك من قدرة فائقة في توظيف محسنات البلاغة، وقوة الإلهام في خياله الفني، هذه المقومات الزاهية، تعطي الدلالات البليغة في المفاهيم المستخرجة من عمق الاسطورة السومرية، يضعنا في حالة الإبهار، في براعة الشعر في الاسطورة، أو براعة الاسطورة في الشعر، وهي ليست عملية سهلة الانقياد، إذ تتطلب مقومات اساسية لاغنى عنها، في الاستلهام والتناص من داخل الاسطورة، يعني ماهية الأسباب والدوافع والغاية والمرام في الانزياح الشعري في الأسطورة، الانزياح في الرؤية الفكرية والفلسفية، في حالة اسقاط الاسطورة على مجريات الواقع الحالي، وكذلك حالة الاستلهام والتناص برؤية حديثة تمتك تداعيات الوقائع الجاري، بالظروف والمستجدات والتغيرات الطافحة على السطح، ويجند مخزونه الثقافي والمعرفي والادبي والشعري، في تجربته الشعرية الخلاقة، التي تربعت على قمة الشعر العربي الحديث والمعاصر، يعطيها نكهة ومذاق حلو في طراوة الحبكة الشعرية. مشعة بالتناص في الاسطورة والدين وخاصة آيات القرآن الكريم والتراث والتاريخ، بحلم التغيير والتجديد في بناء أوروك الجديدة، نحو بناء المدينة الفاضلة حارستها أله الحب (إينانا). بعدما انحرفت أوروك الحالية من رحم الاسطورة السومرية وابتعدت عنها، وتجاهلت ان الاسطورة السومرية، التي أقامت صرح حضاري عريق وشامخ، لذلك السماوي يسعى في الاعادة الصرح الى الاصل، وازالة الشوائب والعيوب في اوروك الحالية، لترجع الى مهدها الحضاري التليد، لا يمكن أن يتم إلا بالحب في إنشاء المدينة الفاضلة وفلاحها اله العشق (اينانا). بدون شك أن النص الشعري عند السماوي يملك نفس عميق وطويل، وكذلك يملك ضوئية مشعة في الامتداد والاتساع من الحضارة السومرية إلى المجريات اليوم الحالي، أي أن النص الشعري يملك رحلة طويلة يخترق امتدادات الازمنة ليصل الى محطته الحالية، حتى يبرر دوافع اقامة صرح المدينة الفاضلة، هي من صلب الضرورة القصوى، وحاجة ملحة من اجل انقاذ اوروك من التبعثر والتشتت. بما يملك السماوي من نزاهة في التربية والثقافة الوطنية الزاهية، التي زكتها الأعوام الطويلة من النضال والكفاح الوطني، فقد جند كل مشاعره في الدفاع عن المظلومين والمحرومين، وعن آلام الوطن. وعانى من الاهوال والصعاب الشاقة من نهج النظام الشمولي في الارهاب والاضطهاد، وما عانى من الغربة والاغتراب، ورغم الاعوام الطويلة أكثر من نصف قرن. لكنه ظل وفياً على العهد، كأنه مطبوع في أعماق قلبه واحساسه الوجداني الصادق. ان الحكمة من توظيف الاسطورة السومرية. كي يدلل بالبرهان الساطع، ان صرح الحضاري تم بناءه بالحب، ولهذا يدلل بأن الحضارات القديمة، أعطت للحب مكاناً بارزاً، ضد الثقافة والعقلية المتزمتة بالتعصب الأعمى والكراهية، بالحب يقتل الوحش الضاري داخل الانسان، وهذا ما أكدته الاديان السماوية والرسل والانبياء. ومثال (انكيدوا) بطل ملحمة جلجامش تحول من الوحش إلى الإنسان بواسطة الحب، ليصبح ملاك الحب والانسانية، هذه الرحلة الطويلة لقصائد المجموعة (فراديس إينانا)، ترسم كل مؤشرات قوام الصراع الأزلي القائم منذ ذلك العصر وحتى يومنا هذا، هو صراع بين قوى الخير وقوى الشر، الصراع بين بناء الحب في المدينة الفاضلة، أو بناء مدينة الشر والكراهية حارسها الوحش (خمبابا) أو احفاده، أو باختصار هو صراع بين (انكيدو) بطل الحب، ضد المدينة (الديستوبيا / المدينة الفاسدة) وحراسها احفاد (خمبابا) في المنطقة الخضراء. هو صراع من أجل اعادة خيرات أوروك إلى أصحابها الشرعيين.

لنأخذ شذرات من المجموعة الشعرية (فراديس إينانا):

×× التمرد على ارباب الالهة:

ليس بالغريب والعجيب، الخروج بكسر عصا الطاعة للالهة. كما حدث في الميثولوجيا الاغريقية، في حالة (بروميثيوس) على رب الالهة (زيوس) عندما لاحظ ان الالهة تعيش في نور باذخ، وعامة الشعب تعيش في ظلام دامس، فسرق النار أو النور ومنحها الى عامة الناس. وكذلك في حالة (سيزيف) تمرد واحتج على رب الارباب (زيوس) عندما لاحظ ان الالهة تتاجر بالزيف وخداع الناس، وغياب العدل الإلهي، فكشف زيف رب الأرباب لعامة الناس في بيع الأوهام بالمجان. والسماوي اقتنص هذه الفكرة التمرد على الالهة في الخلق والابتكار بالرؤية الفكرية الناضجة. في هبوط آلهة الحب (إينانا) من عرشها الإلهي العلوي، الى العالم السفلي الى عامة الناس. احتجاجاً على رب الأرباب (أنليل) الذي يكنز الذهب والفضة والتبر، ويكسو الريش الناعم والحرير المطرز بخيوط الذهب، رحاب المعبد الأخضر أو (المنطقة الخضراء) وترك عامة الناس في الظلم والحرمان في وادي اليتامى، والالهة الزور في (المنطقة الخضراء) يكنزون الذهب والدولار على شقاء ومعاناة عامة الناس. الاحتجاج على عهد السلاطين السمان، النائمون في العسل، وعامة الناس حصتهم الكاملة من العجاج والغبار.    

هَبَطتْ من بُرجِها العلويِّ إينانا

احتِجاجاً

ضدَّ أنليلَ وما يكنزُ من تِبرٍ

ومالٍ وقِيانْ

*

ورياشٍ في رِحابِ "المعبدِ الأخضرِ"

في وادي اليَتامى..

والمُرائينَ المُصَلِّينَ أمامَ الناسِ

جَهراً..

××

جـابَـتِ الأحـيـاءَ

تَـسـتـقـرئُ حـالَ الـنـاسِ فـي أوروكَ

فـي عـهـدِ الـسـلاطـيـن الــسِّــمـانْ

*

فـرأتْ ما لـمْ يَـرَ الآلـهـةُ الأعـلـونَ:

أكـواخـاً مـن الـبـرديِّ والـطـيـنِ..

قـصـوراً..

وقـلاعـاً ومَـغـانْ

/ من قصيدة: هبوط إينانا من عالمها العلوي.

×× فردوس مدينة العشق الفاضلة:

هذا الفردوس هو اعادة معايير العدل الإلهي والحق الشرعي المفقودة. في هذا الفردوس الذي سيقام على جنة الأرض، ليس مباحاً بالدخول اليه، لكل من هب ودب، ومن فج عميق، وليس هو كسفينة نوح، حملت الشريف والفاسد، والنزيه واللص، والجلاد والضحية، والوطني والخائن، والقاتل والمقتول، فمنْ الذي يمنع من الدخول لهذا الفردوس ؟.

وأنـنـا

سـوفَ نـقـيـمُ لـلـهـوى مـديـنـةً فـاضِـلـةً

نـمـنـعُ مـن دخـولِـهـا الـمُـلـثَّـمـيـنَ الـمِـسْـخَ..

والـمُـجـاهـديـنَ الـزُّورَ..

لا مـكـانَ فـيـهـا لـلـمُـضـاربـيـنَ فـي سـوقِ الـمـحـاصـصـاتِ

أو لـسـاسـةِ الـصـدفـةِ بـاعـةِ الـشـعـاراتِ

ومَـنْ جـاءَ بـهِ الـمـحـتـلُّ مَـأمـوراً

فـأضـحـى بَـيـدقـا

*

فـي لُـعـبَـةِ الـنـهـبِ

وفـي تـحـويـلِ أوروكَ شـتـاتـاً مِـزَقـا

*

مـديـنـةً فـاضـلـةً

يـدخـلـهـا الأطـفـالُ والـعـشـاقُ والـغـزلانُ والـظِـبـاءُ

لا يُـعـرَفُ فـيـهــا الـفـرقُ بـيـنَ حـاكـمِ الـقـصـرِ ومـحـكـومٍ

وبـيـن عـازفِ الـقـيـثـارِ فـي الـشـارعِ

والـنـاسِـكِ فـي مـحـرابـهِ تـخـنـدَقـا

من قصيدة: مدينة العشق الفاضلة

×× لست بكافر وإنما الجوع كافر: حينما تبدل العمامة الدينية بعمامة الشيطان، وعندما يكون كاهن المعبد دجال، وولي الامر لص، والعاهر يلبس ثوب الشرف والعفة، ومجاهدي الزور يطمغون جبينهم بالذهب والدولار، عندما يسرق رغيف الفقير، وعندما يلطخ الدولار بدماء شهداء الوطن، فما هي شرعية هذا الدين؟، وما مدى صلاحيته امام رب العباد؟

لـسـتُ بـالـكـافـرِ

لـكـنْ

كَـثُـرَ الأربـابُ فـي أوروكَ..

كـلٌّ ولـهُ فـي سُـورةِ " الـكـرسـيِّ " تـفـسـيـرٌ وزعـمٌ

ولـهُ مـالٌ وجـنـدٌ..

لـسـتُ أدري أيُّ ربٍّ أتَّـقـيـهْ

*

كـاهـنُ الـمـعـبـدِ لـصٌّ..

وولـيٌّ الأمـرِ دجّـالٌ..

وكـلٌّ يـطـلـبُ الـبَـيـعـةَ فـي أوروكَ..

كـلـكـامِـشُ بـاعَ الـسـورَ واسْــتـوزرَ أصْـهـارَاً

وأضـحـى قـارئُ الـفـنـجـانِ والـكـفِّ فـقـيـهْ

*

فـإذا الـسـارقُ قـاضٍ

وإذا الـنُّـكْـرُ وجـيـهْ

من قصيدة: الإمتلاء فراغا

×× اعترافات أنكيدو في الوقت الضائع:

حالة أنكيدو هي تجسيد لحالة العراق، الذي يسير من السيء الى الاسوأ، ومعاناة انكيدو هي معاناة العراق الكاملة، ولكن لم يكمل رسالته في إنقاذ اوروك من الغرق، ان شخصية أنكيدو، تتجسد في روح كل عراقي يحلم بالوطن والخبز والحرية والعطاء الانساني، لذلك نشعر بالاسف والندم والاسى، بإجهاض حلم الأصوات الوطنية التي تحمل الحب والوفاء إلى اوروك الحالية، لم تحصد شيئاً من تعب السنين سوى الغبار والسموم، فقد سرق الحقل والبيدر احفاد (خمبابا)، ونهبوا الجمل بما حمل.

أنـا مَـنْ جـنـحـتُ عـن الـصـراطِ الـسـومـريِّ..

بـريـئـةٌ " شـامـاتُ " مـن إثـمـي

فُـحُـقَّ عـلـيَّ أنْ أحـيـا الـحـيـاةَ

شَــقِــيّــا

*

أزِفَ الـرحـيـلُ

وهـا أنـا

يـقـتـاتـنـي نـدمي ـ ولاتَ نـدامـةٍ ـ (3)

أبـكـي عـلـى غـيـري غـدوتُ

ولـم أعــدْ أبـكـي مـن الـنـدمِ الـمـريـرِ

عـلـيّـا   / من قصيدة: اعتراف أنكيدو

×× أنكيدو الشهيد الحي والحي الشهيد:

واهم ويحرث في وهم الخيال والسراب، منْ يعتقد النوم في العسل و (دار السيد مأمونة) وانتهى المطاف وترملت اوروك وشطبت الأعياد وحلت الأحزان، وماتت انتفاضة تشرين تحت حوافر احفاد (خمبابا) وسلمت الامارة الى سلاطين السمان، خطأ والف كلا، تبقى منارة أنكيدو تشتعل تحت الرماد، هي الشرارة التي تشعل بركان الغضب. في ولادة ملحمة جديدة، ويظل انكيدو الرمز والبطل، الشهيد الحي والحي الشهيد.

مـات أنـكـيـدو

و" إيـنـانـا " غـدتْ أرمـلـةَ الأعـيـادِ فـي أوروكَ

والـثـكـلـى بـ " مـشـحـوفٍ يـطـرُّ الـهـورَ "

أنـكـيـدو الـشـهـيـدُ الـحـيُّ

والـحـيُّ الـشـهـيـدْ   

من قصيدة: انكيدو الشهيد الحي والحي الشهيد.

***

جمعة عبدالله

أمام خسائرنا العربية وواقعنا المتصدع وفكرنا المأزوم، خرجت فاطمة هلالات ب 77 خريفا من الحنق والحزن، من إصدارات دار وائل للنشر والتوزيع/ عمان/2021. حاولت تجربة تقنيات جديدة تعبر عن هذه الواقع وعن فئات مجتمعه المهمش المحبط فانتقدت الفساد، الواسطات، المحسوبيات وسياسة القطيع التي تطبق على الشعوب والسياسات المضللة وقامت بمساءلتها جميعا وفق نظرية جدلية مكنتها من تحقيق إنجازات فنية وفكرية جديدة رافضة من خلالها حدود سايكس بيكو والضعف العربي، معترضة على ضياع فلسطين وما حدث في دول الخريف العربي.

والمتلقي لرواية 77 خريفا يجد بأن الكاتبة قد خرجت عن المألوف عن طريق إعادة تأسيس معايير بديلة ونظرية جمالية مخالفة، نابعة من رؤيتها ونمط وعيها بالعالم على أمل إنتاج يرفض النمطية وينشد الجمال ويقوض الثوابت الساكنة الجامدة وخصوصاً أن الحراك المستمر للواقع لا بد أن يوازيه تحول دائم في بنى الفنون بأنواعها وخاصة الفنون الأدبية. فالعالم يتغير من حولنا ويتبدل، فلم لا تتغير النظم الشكلية والجمالية للرواية؟.

والرواية كما يرى باختين "النوع الأدبي الوحيد الذي لا يزال في طور التكوين، والنوع الوحيد الذي لم يكتمل".

وما لم تطوع الرواية تقنيات السرد فإنها لن تمسك بنبض الحياة الفائق السرعة.وبالذات أنها الشكل الأدبي الأكثر تكيفا وتأقلما مع مظاهر التغير والتحول. والمجال مفتوح أمام الروائيين لارتياد مختلف السبل وتجريب الأشكال وأرى بأن فاطمة هلالات سعت إلى مثل هذا التجريب في روايتها 77 خريفا. والتجريب كما يرى صلاح فضل هو قرين الإبداع لأنه يتمثل في ابتكار طرائق وأساليب جديدة.

وأرى بأن ما قامت به فاطمة هلالات في 77 خريفا كانت قد ظهرت بوادره في مرحلة الستينات عندما عمد الروائيون إلى المزاوجة بين السرد والشعر ضمن ما يعرف ب "بتراسل الأجناس الأدبية" وهذا ما جسده إدوار الخراط من خلال كتابه "الكتابة عبر النوعية" من خلال دعوته إلى تجربة نوع جديد (القصة/ القصيدة).

كما ذهب "محمد سالم الأمين" في كتابه "مستويات اللغة في السرد العربي المعاصر" أن عدول الرواية إلى لغة الشعر انزياح فني الهدف منه تكثيف الدلالة ومنح الأصوات مساحات ملائمة لكي يعرض كل منها وجهة نظره. كما ويضاف إلى ذلك أن كتابة الرواية بلغة شعرية يسم هذه اللغة المعبر عنها بطابع الإشكالية ويحطم التراتبية الكلاسيكية في الأنساق التعبيرية.

وقد دخلت الكاتبة هلالات بكل جسارة في هذه المجازفة الأدبية بالرغم مما تعرضت له مما يسمى "إرهاب نقدي" مع أن هذه المجازفة كانت يجب أن تحسب لها لا عليها.

والمتلقي لرواية هلالات يجد بأن امتزاج اللغة السردية باللغة الشعرية شكل إيقاعا جديدا للنص، عكس اغتراب الذات الكاتبة وما يرافقها من إحباط ويأس. وفاطمة تبحث عن الهوية الضائعة التي غيبتها سايكس بيكو فنجدها على لسان البطل ص103 تقول (وما عدت أريدك أن تكف عن منفى من الهروب من الخطوط التي سجنتني بها منذ مئة عام). ولا تكف عن الشعور باغتراب الذات في أوطان ضاعت كرامتها، أوطان اعتزلت الحضارة ولم تعرف منها شيئا.أوطان تبحث عند فاطمة عن تلك الكرامة المغيبة عند كل غروب على مقاعد مهملة على هوامش التاريخ.

في رواية 77 خريفا غابت أسماء بطليها.

رجل وامرأة كلاهما متشظي ويحمل بداخله هما يتجه بالرواية نحو كلمات كابوسية تعكس واقعنا العربي. يلتقيان في حديقة مجهولة المكان، هي تأتي كل غروب تجلس على مقعد مهمل وهو ينزل من كهفه أو صومعته المزمعة إلى تلك الحديقة. جسدان لا نعرف ماهيتهما أو رمزيتهما لدى الكاتبة، يلتقيان، يتحدثان ويديران أحداث الرواية ويبحثان تارة في أمور كبرى عن أوطان مزقها الاستعمار ودسائس لا زالت تدار وتارة أخرى يخوضان في طبائع البشر والقيم الإنسانية لما يرقبانه من حولهما. اثنان لكن كأنهما واحد لا ينفصل وبنفس الوقت يبحث عن الآخر ويفتقده ولا يكتمل إلا به. في أماكن مجهولة وهذا بحد ذاته اغتراب،، لزمن قد يكون أحيانا معلوما وهو زمن جائحة كورونا.

رواية تسائل المسكوت عنه عن طريق لغة تدفع بالقارئ إلى جو من الدهشة بسبب اختراقها للمألوف عن طريق لغة انزياحية فالطابع الشعري يلف الرواية وهذا التداخل بين البنية الشعرية والسردية ينتج لغة مغايرة يصعب القبض على مدلولاتها، تنفتح على رؤى جمالية متعددة وهي بهذا من النوع الذي تتداخل فيه الأجناس الأدبية كما ذكرنا سابقا.

ومن هنا أدعو الكاتبة أن تتبع جبران خليل حينما قال لمن استهجن إبداعه" لي رواياتي ولكم روايتكم".

ومن هنا أدعو النقاد إلى دراسة موضوعية وعلمية للرواية لما فيها من محاور لا زالت بحاجة للكثير من التمحيص.

***

قراءة بديعة النعيمي

(يقول الكاتب والمخرج والممثل البريطاني السير بيتر أوستينوف: "المسرح هو المؤسسة الوحيدة في العالم التي تحتضر منذ أربعة آلاف عام ولم تستسلم أبدًا").

تمتاز معظم العروض المسرحية في المنطقة العربية بكثير من المشهدية والإبهار، كما تمتاز بغموض المعنى، وهو إلتباس يزيده تعقيداً بعض المحسوبين على النقد المسرحي، كما يُوهم عشاق المسرح بآفاقٍ لن تتفتح إطلاقاً. حيث إن ذلك يتأتى من غموضٍ يوحي بفهم معقد، لا يستند الي فكر، أو منطق، ولكنه يشي، بكثير من الصراحة والوضوح، بالتعالي على الشخص المخاطب، أي الجمهور. لا شك أن هذه أفضل وصفة لإبعاد الجمهور وتنفيره من التجربة المسرحية، لإنعدام المشاركة الفكرية والوجدانية بينه وبين العرض المسرحي. هذا الغموض لا يُمثل مدرسة فكرية قابلة للمحاورة والنقاش، وهو ليس بزلّة في ترتيبات العرض المسرحي، بل هو خطيئة أساسية تشترك فيها كثير من الاعمال المسرحية سواء كانت داخل او خارج المهرجانات العربية التي تتكاثر طردياً مع غياب المحتوى، أي غياب الغايات من العمل، وإنعدام المعنى.

مالمقصود بالمحتوى؟ من النص المسرحي تتدحرج الكلمة، وتتبعها أخريات لتشكيل "رؤى" غير منظورة، متفجرة من بطن النص المجرد، هذه "الرؤى" تشكل القفزة الأولى من دفتي النص المكتوب الى مخيال المخرج المسرحي الذي يقوم بتفكيك تلك الرؤى ثم تجميعها وتوحيدها بمضمون تنقله رؤيةٌ واحدة.  الإخراج المسرحي هو هذه "الرؤيا" غير المكتوبة في النص المسرحي، أو التي لم يلّمح الكاتب اليها ضمن النص المسرحي، أو تغافل عن تهجئة حروفها، أو ربما رسم نقيضها. فضلاً عن أن النص ذاته يشكّل قاعدة إنطلاق لمخيال المخرج ورؤاه.  و"الرؤيا" هنا هي مجموع العناصر التي تتوافر على المسرح، والتي تُشكل العرض المسرحي النهائي، من لغة وأفعال، ومن مشهدية مادية جمالية، ومن ديناميكية متفجرة عبر الممثلين، ومن إيقاعات وموسيقى تلّون الفضاءات، ومن ملابس ومكياج تؤسس لبيئة العرض، ومن الاستخدام الفعّال لفضاءات "مكان" خشبة المسرح ذاته الذي يتحول الى كاشف لأسرار أزمنة قيد الإنشاء. عناصر هذه الرؤيا مجتمعة تكوّن "المحتوى" المراد توصيله. حيث أن الإخراج المسرحي، ببساطة، (ولكنها بساطة تنطوي على مفاهيم بالغة الصعوبة وشديدة التعقيد) هو رحلة تنطلق من النص المكتوب الي خشبة المسرح، ومن الكلمة الصامتة الى الفعل المتفجر، عبر مخيال يتجاوز النص الذي ينطلق منه الى ميتافيزيقيا جمالية متصالحة مع الواقع. 

وفي هذا الصدد يتساءل الفيلسوف (وعالم الدلالات اللغوية) "رولاند بارت" عن ماهية معنى التمسرح؟ فيجيب " إنه المسرح بدون النص، إنه طبقة ثخينة من العلامات والأحاسيس التي بنيت على المسرح انطلاقا من الحجة المكتوبة ". هناك إذن نوعان من النصوص المسرحية، الأول يحتوي على مضمون متعدد الرؤى، وباستدامة تتجدد مع الزمان، والثاني يقترب من مفهوم Prêt à Porter  أي جاهز للبس. وهذا النوع الأخير هو الاسهل وهو الشائع بين المخرجين المتمكنين من فنية حرفة الإخراج. في النوع الأخير يُمارس المخرج تطبيق "قواعد" أساسية في الحركة وإدارة الممثلين وفي التعامل مع "مكان" خشبة المسرح، والفضآءات التي تنحدر عنه، دون الإلتجاء الى المخيال المسرحي أو بالحدّ الأدنى منه. أي أنه سيحمل "رؤيا النص" كما هي، الى حد ما، دون أن يكون له تدخل حقيقي بها، أي أن يكون العمل بدون "رؤيا إخراجية" خاصة أو ذاتية.  أما الجوانب الإبهارية والجمالية فتترك "للسينوجراف"، وهو الفنان الذي يخطط ويرسم المشهد. أي أن السينوجرافيا ، أو المشهدية الجمالية، ستكون، في هذه الحالة، مستقلة، الى حدّ ما، وأحيانا منفصلة، الى حدّ بعيد، عن المضمون المراد، سواء من خلال النص أو من خلال العمل الروتيني للمخرج. وفي هذه الحالة، حصراً، فإن المشهدية الجمالية "السينوجرافيا" تقف على الشاطئ البعيد من "الرؤيا" الإخراجية، والسبب الأساسي هو غياب المحتوى الذي يشدّد على الربط فيما بينهما كنتيجة لغياب الرؤيا الإخراجية.  

وقبل الخوض بعلاقة السينوجراف بالمخرج، أعود الى النصوص ذات المضمون متعدد الرؤى، وهي النصوص الموجودة في كل الاعمال المسرحية التي تناقلتها الأجيال، وبقيت خالدة، أو على الأقل صامدة الى حين. نصوص من شكسبير وموليير الى ألفريد جاري ولويجي بيرانديللو ومنهما الى هنريك أبسن وسارتر وبرخت وكامو ويونسكو ومارجريت دورا وجورج شحادة، وغيرهم الكثير على مدى العصور، قُدّمت نصوص هؤلاء الكتاب على مختلف المسارح بالعالم بقراءات ثقافية متغايرة ورؤى متنوعة ومختلفة. هذه الديناميكية في تفسير وتشكيل الرؤى الجديدة هي ما يُميز النص الإنساني الأصيل كما يُميز الفن الحي المتواصل الذي هو المسرح. وهذه هي فرادة المخرج المسرحي في فهم النص وتفسيره، وفي تشكيل رؤاه الخاصة به والمغايرة أو التي قد لا تتطابق كلياً مع رؤيا النص الأساسي.

إن النصوص التي لا تحمل في بواطنها رؤى وتفسيرات متعددة تكون نصوص أفقيه، مسطحة، وجامدة ولا يُنتج عنها إبداع وخلق فني وفكري وجمالي، لأنها نصوص ذات البعد الواحد، ولذلك لا تُتيح التعدد في التفاسير والرؤى. هذه النصوص، وهي نصوص مسرحية أدبية، سهلة النقل الى خشبة المسرح عن طريق المخرج المتمكن، الى حدّ ما، من حرفية مهنة الإخراج، وهي عادة، لا تستدعي المخرج المبدع الخلاق الذي يبحث في رؤى مغايرة وجديدة يتحدى بها النص الأصيل. حيث إن الخلق والإبداع في تشكيل رؤى مسرحية مغايرة لما "يتظاهر" به النص الأصلي هو الشرط الأساسي للرؤية الإخراجية بل ولعمل المخرج في كلَيته.

إن تعدد التفسيرات والرؤى لنص معين يُؤكد مدى حيويته، ومدى إمكانية عبوره في الزمن عبر الأجيال وعبر العصور. هذه التفسيرات هي التي تنتقل عبر رؤى المخرج المسرحي "كمحتوى" أساسي للعرض المسرحي والذي سيتلبس محتوى النص الأصلي. قد تكون رؤيا المخرج المسرحي مطابقة أو قريبة مما يُبيح به النص علانية، أو يكون مغاير أو ربما متناقض، حيث إن الرؤيا المسرحية هي نص جديد يكتبه المخرج بالضوء وبزمان و مكان خشبة المسرح وديناميكية الممثلين. ولأنّ المسرحية تفترض، عبر النص، بأن "الكلمات" هي الوسيط الأكثر نجاعةً، فإن ما يحدث على المسرح هو استخدام متتالي ومتكرر للكلمات، وقد يكون لهذه الكلمات معنى كالذي تتظاهر فيه، وقد لا يكون (مسرح العبث مثالاً). فإذا كان لهذه الكلمات أي معنى ما، فسيكون هذا المعنى جزءًا من التكوين غير اللفظي لمجمل العرض المسرحي، عبر عناصر كالصوت، والفعل المباشر، والمادة المرئية. وفي هذا المعنى، يؤكد يوجين أونيسكو "بأن كل شيء في المسرح يمثل لغة بذاته، الكلمات، والإيماءات، ومختلف الأشياء التي تجعل من الحوار مجرد كلام".  في هذا المعنى أيضاً، يوضّح أنتونين آرتو في كتابه "المسرح وقرينه" في الفصل الخاص بالتعامل مع النص (في المسرح الشرقي والمسرح الغربي) " Le Théâtre et son double  " إن المسألة لا تعني الغاء الكلام في المسرح ، بل جعله يغير وجهته ، وبشكل خاص اختزال مكانه، واعتباره شيئًا آخر غير كونه مجرد وسيلة لقيادة الشخصيات البشرية إلى غاياتها النهائية". هذا يعني إعادة كتابة النص الجامد وغير المتحرك، الى نص يُستند اليه، حتى وإن كان متغايرا عنه، مشحوناً بمخيال ورؤيا المخرج، ليُنتج نصاً جديداً، قوامه العرض المسرحي برمته، في المجالين المكاني والمحسوس.

غير أن هناك صراعاً، يبدو خفياً، بين السينوجرافيا (وأفضّل، شخصياً، إستخدام تعبير "المشهدية الجمالية") والإخراج المسرحي، فمنذ تموضع الأخير بالمكانة المذكورة أعلاه، وإدراكه مكانة أساسية في فن المسرح، فقدت "المشهدية الجمالية" قوتها المهيمنة والمكتسبة خلال عصر النهضة بشكل قطعي، وأصبحت في موقف دفاعي وغالبًا ما يتوجب عليها أن تتماهى مع الرؤيا الفنية للمخرج المسرحي. ولكن ما لذي يعنيه بإختصار مصطلح "المشهدية الجمالية"، إنه فن تصميم وتنفيذ العروض المسرحية، وهو تخصص فني وتقني يهتم بالفضاء والضوء واللون والموسيقى، ويعزز من الفعل الدرامي على خشبة المسرح.

إنه يعني برسم وتخطيط المشهد، وهو منتج للمشهدية الجمالية الإبهارية التي تساعد في تعميق رؤيا المخرج في مجمل العرض المسرحي.

والآن لنلاحظ التداخل في الوظائف الأساسية بين السينوجراف والمخرج المسرحي. في الوقت الذي فقدت فيه "المشهدية الجمالية" إحتكارها للعرض الجمالي الإبهاري بسبب قيادة المخرج الحديث والمعاصر لكافة عناصر المشروع المسرحي، نتيجة التغيير المستمر في أفكار وآليات الإخراج المسرحي، وتتأثر بعوامل مثل التقنيات المتاحة، والاتجاهات الثقافية المهيمنة، وميول الجمهور وتطلّعه نحو الجديد. فغالبًا ما تكون العروض المسرحية الحديثة تفاعلية، وقد تتضمن عناصر مثل عروض الفيديو والمؤثرات الخاصة، وتقنيات مسرح الظل والدمى، وحركات جمالية مبنية على إلتواءات جسد الممثل لإنشاء تأثيرات بصرية وسردية فريدة.

يتضح من هذه الخصومة المبطنة بين الإخراج المسرحي والمشهدية الجمالية "السينوجرافيا"، أن هناك كثير من العناصر المشتركة فيما بينهما، علماً بأن مجموع كل تلك العناصر يؤدي الى السحر الذي يُفشي به العرض المسرحي. فالسينوجرافيا هي الجزء المرئي والمادي والمحسوس من عملية الإخراج المسرحي، ومع ذلك فإن المشهدية الجمالية لا تُمثل الاّ عنصراً واحدآً فقط من بين عناصر الإخراج المسرحي الأخرى. مع التشديد بأن جزءًا كبيرًا من البحث عن الإبداع المسرحي، والمذهل، اليوم يتركز على إستخدامات مستحدثة للفضاء المسرحي، كمقياس للإبهار والسحر الذي يمنحه المسرح لجمهوره. وبذا أصبحت السينوغرافيا، واحدة من أرقى جواهر الإبداع المسرحي الداعم للرؤية الإخراجية، وإبراز قيمة الآليات التي يستخدمها الممثل في أدائه. وبالتالي فإن السينوجرافيا، إن كانت متوافقة تماماً مع الرؤية الإخراجية، فهي الإسلوب الفني والمبدع والمبهر والخلاب لفهم المشروع المسرحي. لذلك فإن العلاقة بين السينوغرافيا والعملية الاخراجية هي علاقة سائلة وانسيابية، ويجب ان تكون كذلك.

أعود الى المخرج والنص في المسرح الحديث والمعاصر، حيث أخذت وظيفة ومكانة المخرج في المسرح موقعا قياديا كبيراً. إذ ظهر "المخرج المؤلف"، وهذا لا يعني المخرج الذي يكتب نصاً له، أو يعيد كتابة نص موجود، بل يعني المخرج ذو الرؤيا الخاصة به وقد لاتنسجم كلياً مع الرؤيا الأساسية في النص الاصلي. يذكر "مايرهولد" في كتابه  " Écrits sur le théâtre,tome 1" (كتابات حول المسرح، الجزء الأول). " أنه في المسرح، تحدّد الإيماءات، والوقوف، والنظرات، والصمت، حقيقة العلاقات المتبادلة بين الناس. فالكلمات لا تقول كل شيء. وما يميز المسرح القديم عن الجديد هو أنه في المسرح الجديد تخضع الجماليات والكلمات، كل واحدة منهم، لإيقاعها الخاص". إن ما يُنظر إليه من إيماءة، ولعبة درامية، وديكور، وغير ذلك يجب ألاّ يتحدد في أن يعكس النص المجرد.  لأنه لكي تصبح مخرجًا كما يقول مايرهولد "عليك أن تتوقف عن كونك رسامًا"، لأنه يجب أن يتم وضع لعبة الممثلين، والأشياء ، والفضاء ، مقابل النص، أي إنشاء نص فرعي أو نص مضاد.  الإخراج المسرحي، هو إذن تحويل النص الأدبي المكتوب من "فقه اللغة" الى "فقه المشهد" عبر آليات العرض المسرحي المختلفة التي تحمّل المحتوى كاملاً بالأفكار والجماليات المتنوعة والسحر وشدّة الإبهار.   

يبقى السؤال المركزي والذي يتعلق بالجمهور، أي حين يتم العرض المسرحي المتكامل للنص: ما الذي تبقّى، في هذا العرض المسرحي، من المحتوى الأساسي للنص، أي من الرؤيا الأساسية للنص الأصلي، وما مدى إنعكاس ذلك على الجمهور، وكيف يفسّر هذا المحتوى؟ يقول الكاتب المسرحي جان أنويّ: ” لا يزال النص في المسرح هو الشيء الأقل أهمية. فالجمهور يسمع فقط جملة واحدة من كل جملتين". لعل ذلك يقود الى تفكيك وتحليل العرض المسرحي بإعتباره لغة، ودلالات، ورؤيا، وفكر متوحدين بإنسجام، بالإضافة الى الجمالية التي يفرضها العرض المسرحي. وهنا أعود الى الإشارة الى التغيّرات الأساسية التي حولت "وظيفة" المخرج المسرحي بشكل جذري من حرفي فني، الى مبدع وخالق للعرض المسرحي في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك بوضع رؤيته الشخصية وتشكيل هويته الخاصة على النص أولا، ثم على مجمل العرض المسرحي. وقد سمح هذا بظهور وبلورة "المخرج المؤلف" المذكور سابقاً.  فالإخراج المسرحي هو المنتج الأساسي لجميع عناصر العرض المسرحي النهائي أو " الرؤية المسرحية النهائية". حيث أن المخرج هو المسؤول عن كيفية تقديم النص على المسرح، وكيف يُفسّر ويَعرض الممثلون أدوارهم. وهو كذلك، المسؤول عن كيفية إستيعاب وإدراك الجمهور للنص وكيفية عرض المحتوى وفهمه. ولإن المخرج هو ما يجعل النص ينبض بالحياة، ويسمح للمشاهدين بالتعرف على الشخصيات والتسلسل الدرامي للرواية. فهو الذي يُسهّل على المشاهدين فهم طبيعة ونوايا الشخصيات، وفهم معنى ومحتوى النص، وفق رؤياه الإبداعية الفنية، مما يتيح للمشاهدين الانغماس في العمل الدرامي وعيش التجربة بالكامل.

وأخيراً يقول أورسون ويلز: "أنا مخرج مسرحي، ومصمم ديكور، ورسام، وروائي، ومعلم للوهم، وممثل، ومخرج سينمائي: أنا مندهش لوجودي هكذا بأعداد كبيرة". ذلك لإن المخرج المسرحي بإعتباره قائد المشروع المسرحي والمسؤول الأول عنه، هو الذي ينفخ الروح في النص الجامد ليتشكل على المسرح بكامل مقومات الحياة. وهو الذي يصوغ "المحتوى" النهائي الذي يُراد منه أن ينعكس على الجمهور فهماً وتشاركاً وإنسجاماً. وفي هذا الصدد أيضاً، يؤكد المسرحي الطليعي يوجين أونيسكو بأن "المسرح هو مكان الحرية الأكبر والأكثر جنونًا في الخيال."  ولعل أحد أهم مؤشرات النجاح للعرض المسرحي هو الكيفية التي يتفهم بها الجمهور المحتوى المُراد ويتقّبله. "فالمحتوى" المقصود هو مجموع المعاني والمقاصد والرؤى التي تخلف (تعقب) العرض المسرحي وتستقر في ذهن وذاكرة المشاهد.  لإن ذلك سيكون مؤشراً إيجابياً على تشارك وتفاعل الجمهور مع الرؤيا المسرحية الجديدة للنص المسرحي.

***

علي ماجد شبو

نوازع وأهواء المرأة موضوعا للرواية؟

توطئة: يفرض تحويل المعنى الآفاقي في جملة متواليات النص الروائي، تعددا أفعاليا، كنواة انحراف المعنى الأفعالي إلى مستوى صفات موضوعة ذاتية لها دلالاتها الضمنية الموغلة في أهواء الأنا التأليفية عبر مساحة تشكيل المعلن من الأحوال في صوغ مواطن العلاقة السردية ضمن مرتكزات تدريجية في معنى (المنتج الزمني). ولو تعاملنا من جهة ما مع مؤشرات الأفعال والأحداث والزمكانية في محتوى المتصدر الروائي من جهتي (زمن الحكاية ـ زمن الخطاب) لوجدنا ثمة ذلك الامتداد داخل الاحساس القرائي بأن الرواية تنازع حضورها بين (الذات ـ منظورها). لعلنا ونحن نقرأ أحداث تجربة رواية العمانية هدى حمد عبر روايتها (التي تعد السلالم) لما تأخرنا في القول كون هذه الرواية يتم إنتاجها بمؤشرات خاصة من (حالات امرأة) والتي تندفع فيها شتى متعلقات زمن الذات كلفة واحدة في خطية نزوعها الذاتي والموضوعي:فهل بإمكاننا عد رواية هدى حمد تحت سياق المصنف كونها رواية سير ذاتية يتباين من عندها المغاير والمختلف في تجربة الرواية السير ذاتية شكلا وموضوعا ودلالة؟

- الخلفية الشخوصية بين وساوس الخاصية ومسرود الأنا المهيمن

إن المسار التشخيصي لرواية (التي تعد السلالم) مؤسسا على فرضية المرأة المتحفزة في جنسها المرتهن بأقصى حالات (السطوة ـ الهيمنة ـ الرقيب ـ الإسراف في العنصر الفئوي) وكم من هذه النماذج ما عاينا لمثلها في الدراما الخليجية التلفزيونية، والآن تواجهنا محمولاتها في مستوى الظاهر من الأدب الروائي استكمالا في تصيير تأريخ سطوة الطبقات النبيلة في نوعها الذي انتخبته لذاتها ـ قناعا غاشيا ـ بالقسوة واحباط العاملين لديهم في منازلهم بصفة (الشغالة؟!) أو في نظرهم تلك الأجساد الهشة التي خلقت لخدمتهم وإذلالهم بطرائق موجبة: (بين خروج دارشين السيريلانكية المفاجىء من بيتي ودخول فانيش الأثيوبية إليه، لاأدري ما الذي حصل لي - كنت كمن يقع في شرك الفوضى، في شماتة الغبار - كنت في ركض مستمر للأختباء في الزوايا الأكثر نظافة ونقاء وأمانا. /ص9)

1ــ تواصيف من الكيفية الذواتية العلائقية:

يمكننا تعيين بصورة أو بأخرى بأن موضوعة الرواية قد حلت في الذات الشخوصية الساردة ــ زهية ــ المتمكنة من وصف مثيرات قلقها الاكتئابي القادم من تداعيات الأوساخ والقذارة التي لم تحسن الشغالة السيريلانكية التي فرت بجلدها من عملها، وذلك نظرا لكون صاحبة المنزل لم تنفك عنها كرقيبا وراصدا راح يتابع أدق خطواتها، بدءا من تنظيف الأطباق وحتى إزالة غبار الزجاج وتلميع الأرضية البيت. وبالإضافة إلى كل هذه الأعمال ينتظر هذه المسكينة الشغالة تحمل مزاجية الشخصية زهية المغالية إطلاقا في عوالم منظفاتها وسوائل مطهراتها التي شكلت في المقصد السردي عملية كفائية ذاتية تجاوزت حدود المعقول إلى حالة من حالات سادية صاحبة المنزل التي تلتذ في رؤية مخططاتها الحجوبية بينها وبين الخادمة، توقيرا لها ولجنسها السيادي الذي وضعت له منظومة ايدلوجيات قاهرة من مما تسميه (السجن المربعي؟!) ومهما تحدثنا طويلا عن حالات ومواقف هذه الشخصية، لربما افلتنا جوانبا هامة وعديدة من وقائع الحرب النفسية التي تدير زمهمها الشخصية زهية إزاء الخادمات اللاتي عملن تحت سيطرتها كصاحبة المنزل. وعند الإمعان الوحداتي في مسرود الأفعال الوصفية، ننتبه إلى أن هذه السيدة المتزوجة من رجل يدعى عامر، حنون، وطيب القلب، وقد أنجبى يوسف وراية. نتعرف أيضا على أن للسيدة زهية هواية الرسم على الجدران والملابس، خصوصا تلك الأنواع من الأحجبة التي يطلق عليها في الخليج (الشيل) فيما كان الزوج عامر يمارس فعل الكتابة الروائية حول سيرة حياة والده العماني حمدان وأمه الأثيوبية التي افترق عنها منذ صغره. ورغم أن السيدة امرأة ذا حساسية شديدة ومأهولة من نظرتها وإحساسها بدونية هذه الطبقات، غير إنها عاشت مع عامر حياة متماسكة ترفل بجمال حضور يوسف وراية وبعض صديقاتها العمانيات. ولو أيضا راجعنا سياق حياة طفولة زهية، لعثرنا عليها مضطربة البال والحال من خلال ممارسات الأب القامعة، فكانت زهية عند طفولتها تضرب وتسب وتضطهد من قبل سلطة ذلك الأب والأم التي لا تتذكر منها سوى كشوفات من العلاقة اللاودية بين البنت وأمها: (فأنا لم أنس بعد وجه المرأة السمينة والمبرقعة وخدعة التمر، عندما دخلت الزطية بيتنا بعينيها الخبيثتين وطلب مني أن أحضر لها التمر إلى مجلس النساء - بخفة وحسن نية أخذت لها التمر، فأغلقت الباب الخلفي، ونبشت عدتها، وأكلني الخوف، صرخت أنادي أمي فلم أجدها.. صرخت وصرخت ولم يستجيب لي أحد. /ص24 الرواية) يتعالق هذا الحادث في ذاكرة الشخصية زهية، وخصوصا وأن الأمر من طرف أمها كاد أن يتكرر مع البنت راية وهي ما تزال وليدا في لفافة القماط، فقد اقترحت علينا عليها أمها الذهاب وإياها مع الوليدة إلى العيادة لغرض ثقب حلق الأذن ولأجل عملية الاقتصاص الختانية في موضع عضو الوليدة. طبعا هذا الأمر ما كان يولد كابوسا بدوره في ذاكرة زهية، فكيف لها قبوله على أن يجرى لطفلتها. يتبين أيضا أن عمليات إقامة الختان للبنت لا تشمل كل الدول العربية، ولا أريد الخوض قليلا في هذا الموضوع خوفا من الخروج عن سياق دراستنا للرواية.

2 ــ ما قبل الرواية: وقائع وتداعيات:

هناك آليات من المصاحبات المتضمنة في مراحل زمن (ما قبل الرواية) أي أنها قد لا تحدث في سياق حاضر من مادة المسرود المباشر، بل أنها تجد لذاتها مكانا في حدود الاسترجاع أو الاستعادة الذاكراتية من قبل الشخصية زهية. وبناء على هذا الشأن ومنه نتعرف على علامات اخبارية واردة من خلال الوعي الداخلي للشخصية زهية وهي تنقل لنا أسباب رفض عائلتها بالزواج من عامر، وقد نقلت لنا تلك الجمل الصادرة من الوعي الذاكراتي بطريقة المسرود، كيف كان فعل الاستحالة في عدم قبول عامرا كزوجا: (لم يسامحني أبي، بالرغم من أنه زوجني بموافقته، خوفا على سمعته من دخول أبنته الراشدة إلى المحاكم... أقسم أمام أمي وأخوتي أنه لن يسامحني مدى الحياة. /ص21 الرواية) من هنا كانت حتمية الأب الرافضة لتزويج بنته إلى عامر أبن تلك المرأة الأثيوبية التي فارقته منذ ولادته، ولكن الشخصية حمدان والد عامر رغم كل ما تقدمه له زوجته اللاحقة جوخة من خدمات ورباطة جأش مثلى، لا تفارق ذاكرته تلك المرأة الأفريقية التي تدعى (بي سورا).

3 ــ العامل الحلمي وميراث رؤيا الذاكرة المعادلة:

تتصرف القابلية المعتقدية لدى الشخصية زهية دورا بالغا في بث الدلالات في الجسد الروائي، وتتوجه هذه الجملة من الارسالات المعتقدية عاملا حاسما في استيعاب جل واردات وشاردات الأحلام المنامية في بناء سلوكياتها ووعيها، ولا أقول أن من جهتي رجما بأن الروائية ترزح تحت عبء مثل هكذا معتقدات، بقدر ما أعزز دور موضوعة الرواية في ترسيخ مثل هذا الدور من بلاغة رؤيا الأحلام: (أنا امرأة تصدق أحلامها كثيرا. حدقت المرأة الغامضة التي زارتني مرتين في الحلم ولم أتبين وجهها.. وضعت المرأة اللامرئية في المرة الأولى بنتا جميلة بين ذراعي وقالت لي: صلي على النبي وشلي راية. /ص25 الرواية) وعلى ما يبدو أن هذه الزائرة الطيفية قد عاودت زيارتها مجددا عندما أنجبت زهية يوسف. وعلى هذا النحو نعاين أن حقيقة الشخصية زهية تشكل بذاتها ذلك الخليط الغريب الذي يحددها تارة بـ (امرأة جلادة) وتارة أخرى تلك المرأة التي لم تحتط حدود أحلامها ومعتقداتها القبلية، وزيادة على هذا وذاك كونها امرأة متغطرسة لا تلاقي منها الخادمات سوى ذلك العلو المفعم بالحس الطبقي المفارق والغارق. ولم تكد تقدم الخادمة الجديدة الأثيوبية إلى دار زهية وزوجها، حتى باشرتها بطرائقها الحكرية والمتعالية، على حين غرة كان زوجها عامر على العكس منها تماما، فهو كان بدوره يعامل - فانيش - بكل اللياقة والفراسة الودية، لدرجة إنه غدا يدعمها بالكتب والروايات، ما جعل هذا الأمر زهية تثور ثائرتها الضمنية في قرارتها المتغطرسة: (أتابع كل صغيرة وكبيرة إلى أن ينمو الحقد في صدورهن، فلا مجال لخطأ صغير.. لا مجال لهفوة عابرة، كل واحدة تدخل بيتي تعي اللحظة الأولى أن بقاءها لن يطول.. يقول لي عامر دائما: خليهن يتنفسن ؟لكن لا أحد يتنفس خارج المربع. /ص28 الرواية) ورغم كل هذه المقادير التقتيرية والمحافظة من قبل الشخصية زهية على حياة منزلها وحياتها الزوجية، راحت تفتقد خادمتها السابقة السيريلانكية دارشين في كل أوقاتها الحيوية التي كانت تروق كثيرا لزهية: (احتملت دارشين ثورات غضبي.. احتملت صوتي المرتفع.. احتملت صداعي النصفي وضيقي ـــ شاهدتها بأم عيني تقطع البصل دونما قفازات.. رفعت رأسها وأنا أشتمها.. وضعت عينيها في عيني لأول مرة منذ تسع سنوات، لدرجة أني خفضت رأسي، ارتبكت نبرة صوتي وهي تقول بعربيتها المكسرة: مدام. خلاص؟. / ص31 الرواية) تشير متواليات الرواية من جهة الموضوعة، ثمة تفاصيل حياتية تجمعها زهية بعامر وصديقاتها والرسم على الشيل، أو عن حكاية العم حمدان وذاكرته المعلقة عن زوجته الأفريقية.

ــ تعليق القراءة:

بأختصار شديد أن مشروع رواية (التي تعد السلالم) من الروايات الخاصة بالأدب الاجتماعي الخليجي، حيث لا يشغلها سوى هموم وقضايا من البداهة والعابرية والاخبارية وأحيانا الانشائية التصويرية. ربما أنا شخصيا عندما قرأت رواية (التي تعد السلالم) ولم أغب عن أدب المرأة الخليجية في روايات كمثال بثينة العيسى وأخريات من كاتبات السرد، لو لا أن مستوى هدى حمد يتجاوز مستوى رواية بثينة العيسى بمراحل كثيرة (فنية ــ تقنية ــ جمالية) ولكن المشكلة تبقى في روايات الأدب النسوي الخليجي مكررا في موضوعة وعقدة (الخادمة ـــ الطباخ ـــ الحب الخرافي ـــ الفتاة المضطهدة ـــ سلطة الأب الجبار أو الأخ الأكبر) كل هذه المحاور هي من التكرار والمط في تفاصيل الرواية الخليجية، كما الحال مع أفلام والدراما الهندية عندما تتحول أتفه الأسباب إلى موضوعة روائية أو درامية مضخمة ودون أي اعتبار للتفرد والفردية في صناعة الفن الروائي، مجرد امرأة تشكو من واقع نفساني ــ اكتئابي، يجعلها تنظر إلى ما دون مستواها، بأقصى درجات التحقير والاستخفاف والعنصرية. ولربما قد لا تعلم الكاتبة (هدى حمد) بأن معطيات موضوعة روايتها هذه تشكل علامة سلبية في حقها كونها أديبة عمانية، أما في ما يتعلق بباقي أحداث الرواية، وذلك الرسم لذاتها دون شعورها الحسي والزمني، فما هو إلا ذلك الترميز المعادل بأن الشخصية زهية تتجاوز وتصعد السلالم الزمنية والنفسية ضمن مواقع إحباط وتحفيز تجربتها العمرية والسلوكية إزاء واقعها القديم والجديد عبر رؤيتها الخارجية والداخلية من كينونة الذات بذاتها، وعندما ننظر إلى الرواية في شكلها الكلي والجزئي والكيفي النوعي والاحداثي والأفعالي، لا نجد فيها سوى معادلات موضوعية دالة على كون هواجس المرأة فيها هو المدلول الروائي عبر مواقعها الشخوصية ومنظورها عبر أزمنة وأمكنة تراتبية في أحوالها وخطوطها البنائية الأكثر ذاتية وغورا في الانطباع السير ذاتي والبيئي من عوالم دلالات موضوعة روائية اتخذت من الذات الأنثوية محورا لتشعبات نوازعها وأمزجتها وعاطفتها النفسية المضطربة، ولعل الكاتبة في خاتمة روايتها تصل إلى حدود مضمونية باردة دلاليا وموضوعيا ونمطيا: (دمعت عينا فانيش. قالت لي إنها المرة الأولى التي تدخل فيها إلى السينما في حياتها كلها. كانت عاجزة عن شكري. شاهدت انفعالاتها.. فرحها الجديد ـــ وعندما تحركت طاقة الكلام لديها وتحرر صوتها، تذكرت ما كتبته في دفتر مذكراتها - أنا أشبهك يا باي، أروض نمور أفكاري قبل أن تلتهمني.. أروض هشاشة روحي.. أروض أسبابا أكثر جدارة لأعيش. /ص272 الرواية) على هذا النحو من تحولات السرد والمحكي في الرواية ونوازع شخصيتها المشاركة، تتشكل لنا منظومة سحب خيوط الخاتمة الروائية كمحصلة خطابية راحت تتبنى التحيينات الذاتية في مساحة صوت المسرود، لتقدم للقارىء ونصها ذلك المعنى النوازعي المستحضر في مبنى ومتن صياغة الأفعال والأحوال الروائية بطريقة الوقائع المنطلقة من أشكال وبنيات مخيلة المرأة في محافل وحداتها الحكائية الذاتية في الكتابة. ولعل أهم خصيصة تلفت الانتباه في تجربة رواية هدى حمد، كونها تشييد الرواية كحكاية ذاتية في نمذجتها النسقية والموضوعية، إذ لا تتعدى عملية حكي امرأة عن حياتها النوازعية في التذكر والتشخيص، فالسرد فيها يبدأ بأخبار وتواصيف امرأة عن حالاتها اليومية وعن حكاية زوجها عامر أبن تلك المرأة الأفريقية، وصولا إلى مهاراتها في تـأسيس جمهوريتها الفئوية مع عذابات الخدم المساكين، على حين غرة تلعب تلك المرأة التي تود الانتحار، بما يقارب المعادلة الذاتية والنفسانية من وجودها الزمني والعمري وذلك ما بدا يشكل في مكنون ذاتها ترويجا لصراعها النفسي مع (الماقبل - المابعد) وأخيرا إلى استقرارها فوق فراشها إلى جانب زوجها: (نام عامر يديه حول خاصرتي وضمني إليه، شعرت بنبضات قلبه المتصاعدة - نام عامر ملتصقا بي كعادته. لم أتحرك بقيت أرقب السقف والأفكار تأخذني يمينا وشمالا.. سكنتني الطمأنينة فأغلقت عيني ونمت. /ص273 الرواية: الخاتمة) وإذا شأنا القول الأخير حول رؤية هدى حمد في منظور موضوعاتها الروائية وآلياتها البنائية والأسلوبية، فلا ننكر ما للروائية من جدارة البناء والأسلوب في مستوى نصها، وبالموازاة من ذلك فنحن لا نغبط من مجرى موضوعة الرواية، خصوصا وأن مغامرة الذات في محاور تجربتها، أنطلقت من أولية فضاء (البيت -الزوجة - الأم)، فما يخمن أن تكون عليه حالات الموضوعة سوى سرد نوازع وأهواء امرأة أتخذت من ذاتها موضوعا للرواية أولا وأخيرا.

***

حيدر عبد الرضا 

العشق ما العشق؟ تراه تلك اللحظة الخالدة لالتقاء توأميّ الرّوح، حين يأتي كلّ من طريق ويذهبُ كلّ من طريق، أسير ذاكرة من رحيق، انّما حرّ طليق.

هكذا تفتتح الكاتبة ريتا عودة روايتها «إلى أن يزهر الصّبّار» الصّادرة عن مركز الحضارة العربية في القاهرة. في مركز الرّواية، التي تقع في 176 صفحة، ثلاث شخصيّات رئيسيّة: رجل وامرأتان. كلّ فصلٍ من فصولها الثلاثة مكتوبٌ على لسان شخصيّة من هذه الشّخصيّات الثّلاث: آدم، حياة وحواء.

تبدأ الرّواية بالحكاية كما رواها بطل الرّواية، آدم، الذي يحكي قصة حبّه لحوّاء بلغة شعريّة عالية، كأنّها قصيدة روائية:

ذات قدر..

رأيتها..

وقعتُ أسير الدّلال في خطواتها..

غرقتُ في بحر أنوثتها..

لكنّ الحبّ أتى أكبر من كلّ القوالب، فاندلق..

كلّما كان الحبّ أكبر.. كانت الغيرة أعنف..

تبادلنا الاتّهامات المعلّبة..

أكلنا من أرغفة الحيرة وشربنا من مياه الغيرة، فأُصبنا بلوثة عاطفيّة انتهت بقرار أبي طردنا من القصر.. ثمّ ألقى بنا كلّ في بقعة لا يعرف واحدنا أين الآخر.

تستلهم الكاتبة قصّة حبّ آدم وحوّاء من الموروثات الدّينية، وتحكي على لسان آدم كيف راح يبحث عن حوّاء في كلّ بقاع الأرض، لكنّها اختفت تماما ولم يعثر لها على أثر. فظلّ يحلم بها إلى أن التقى بحياة، التي بزغت كما الشمس في حياته فأنارت كل خلايا اليأس بشحنات من الأمل.

بذلت حياة كلّ جهدها كي لا تعاتبه على حبّه الأول ولم تستفسر عن حوّاء يومًا، كي تتفادى الوقوع في ذات الوساوس القهرية التي وقعت فيها حواء. خمّنت أن الزّمن كفيلٌ بأن يجعل حبّه لها يمضي من قلبه. لكن، ظلّ هاجسٌ يؤرّقها: ماذا لو عادت حوّاء فظهرت في حياة آدم من جديد؟ سؤالٌ يبقى معلّقًا في ذهنها وفي أذهاننا نحن القرّاء، يثير الشّوق والفضول لمعرفة الإجابة.

إلى جانب قصة الحبّ بين آدم وحوّاء وآدم وحياة، تتطرّق الرّواية إلى مواضيع أخرى، منها سياسيّة واجتماعيّة، حبّ الوطن، الصّراع على الأرض، التّمييز العنصري والدّيني، النّفاق الاجتماعي، قضيّة الهويّة والقوميّة وغيرها. لكن، بالأساس، هذه رواية عن الحقّ والعدل والحرّيّة، محاولة التّمسّك بالحقّ والدّفاع عن الحرّيّة الشّخصيّة.

عندما تقرأ الحكاية كما روتها حياة، وهي تشكّل الفصل الثاني والأطول بين الفصول الثّلاثة، تبدو لك حياة، للوهلة الأولى، أنّها صورة للمرأة القويّة التي تنتفض على القيود، تدافع بشدّة عن كيانها، مشاعرها وقناعاتها، ترفض الانحناء للنفاق الاجتماعي والحبّ في العتمة، تناضل من أجل حرّيّة الاختيار في الحياة كي تحيا بسلام وتصالح مع نفسها ومع الآخرين، إلّا أنّني حين فكّرتُ فيها كثيرًا، وربّما رأيتُ فيها الكثير من ريتا، لكن، تساءلتُ: هل فعلت كلّ ما فعلت وضحّت بكلّ ما ضحّت من أجل آدم أم من أجل نفسها؟ هل كان ذلك دفاعًا عن مبادئها وقناعاتها أم دفاعًا عن الرّجل؟ وهل كان الحبّ يستحقُّ كلّ ما فعلت؟

آدم، الذي يمثّل الرّجل الذي لم ينكسر ولم ينهزم أمام الفقدان، بل نهض من حزنه واستمرّ في حياته، وفي سعيه لتحقيق طموحاته، فالتحق بالجامعة وقاد النشاطات والنّضال السياسيّ من أجل الوطن والحرّيّة الذين يؤمن بهما، وهناك يلتقي بحبيبته الجديدة، حياة، يتزوّجها وتولد لهما ابنتان.

أما حوّاء فهي تمثّل المرأة العاشقة، الغيورة، الحمقاء، التي تنذر نفسها لحبيبها مهما ضاع واختفت آثاره، ومهما فقدته تبقى في بحثٍ دائمٍ عنه وتعيش على أمل الّلقاء به. طوال هذا الوقت تحاول أن تبقى متمسّكة بحلمها، أن تبقى على قيد الحبّ وتجد الرّجل الذي سكن قلبها وروحها، تحيا لأنها تحبّ آدم، لا تهتمّ بمصلحتها ولا راحتها الشّخصية، لا يشغلها ذلك، انّما تستحوذ عليها فقط فكرة أن تكون بالقرب من آدم، وأن يدرك أنها بحثت عنه وأنّها حاربت من أجل الوصول إليه، كي تكون له عونًا، وهي مستعدّة في كلّ لحظة أن تضحّي بنفسها من أجله. والسّؤال الذي يراود الذهن: هل يستحقّ الرّجل كلّ هذه التّضحية؟

الرواية، كما ذكرت، مكتوبة بضمير المتكلّم، على لسان الشّخصيّات الثّلاث التي تروي الحكاية من وجهة نظرها. هذه التّقنيّة التي تسمح طوال الوقت بوجود فجوة بين ما تعرفه الشّخصية الرّاوية وما نعرفه نحن القرّاء. لذلك، حين قرّرت حوّاء ترك دير الرّاهبات الذي لجأت إليه، بحثًا عن آدم من جديد، دون القدرة على العودة إلى ذلك المكان الذي كان مأوى آمنًا لها على مدى سنوات وحدتها ووحشتها، احتواها وساعدها كما لم يفعل أحدٌ من قبل، ذهبت لتجد آدم وتكون له عونًا في مأزقه، دون أن تعرف ما نعرفه نحن القرّاء عن مدى حبّه لزوجته الجديدة، والتّضحية التي قامت بها حياة لتكون مع آدم. في تلك اللحظة، يشعر المرء برغبة في إمساكها من كتفيها وصدّها عن فعل ذلك، وإفهامها بأن آدم لم يعُد يحتاجها، لم يعُد يحتاج عودتها، لأنّ ذلك سيربكه هو وعائلته. لكنّ لحظة عودة حوّاء للقائه من بعيد، لحظة التقاء العيون في قاعة المحكمة، لا شكّ كانت من أكثر اللحظات تأثيرًا في الرّواية.

الرّواية مليئة بكميّة كبيرة من الاقتباسات والمقولات الفلسفية، التي أشارت الكاتبة إلى مصادرها أحيانا، وأحيانا أخرى لم تُشر، كما تحفل بمقاطع من قصائد وأغنيات واقتباسات من الكتب المقدّسة إلى حدّ المبالغة، وربما تكاد تُثقل أحيانا على القارئ، وليس من المؤكّد أنّ لها دائما مبرّرًا في سياق القصة، انّما واضح أنّه نهجٌ اتّبعته الكاتبة. لكنّ القارئ يدرك أن بإمكانه ببساطة أن يمرّ على هذه المقاطع بتصفّح سريع ويفهم القصة دون قراءتها. أحيانا كنتُ أتمنى التّخلّي عن الكثير منها، لكن محبّي الشعر والنثر لا بد سيجدون المتعة في قراءتها.

ما يميّز هذه الرواية هي لغتها الشعريّة العالية، خاصّة في بداياتها، ثم تبدأ الكاتبة بالانتقال منها إلى لغة السّرد الرّوائي وتتحوّل إلى لغة تقريريّة في بعض المقاطع، خاصّة حين تتطرّق إلى المواضيع السّياسية، فتشعر كأنّك تقرأ خبرًا في جريدة، وذلك ما يُضعف الرّواية. لكنّ الرّواية جاءت في معظم أجزائها جميلةً وممتعة بشاعريّتها ولغتها الشّعريّة الجميلة التي تبرز شغف ريتا وعشقها للّغة العربية، وفي كل مرحلة من مراحل الرّواية، لا يمكن إلا أن تقدّر تلك اللغة وتلك الجدّيّة، الحكمة، والعمق الذي كُتبت به الرواية، وذلك الالتزام الأخلاقي والاجتماعي العميق في كتابة ريتا.

ريتا، التي قرأت غسّان كنفاني، غادة السّمان، نزار قبّاني، توفيق زيّاد، محمود درويش وسميح القاسم منذ صغرها، شدّتها كتاباتهم وتأثّرت بهم، صنعت صوتها الخاص بها، ونسيجها الخاص بها، لا شكّ تركت في هذه الرّواية بصمتها الخاصّة التي لا تشبه بها أحدًا، تميّزها هي دون غيرها، وأثبتت أنّها كاتبة وشاعرة قديرة ومتمكّنة من أدواتها وصاحبة مشروع أدبيّ خاصّ، مخطّط له جيّدًا وجدير بالقراءة والمتابعة.

***

بقلم: حوا بطواش - كفر كما

2023/4/29

تدور أحداث الحوارات السردية في مصح عقلي، أو مشفى المجانين، والمرضى بحجة العلاج الطبي يتعرضون الى منهجية التعذيب النفسي والجسدي، في سبيل انتزاع اعترافات منهم، تكشف عن مكنون دواخيلهم، وخاصة تلوح حولهم شبهات بعدم الولاء للقائد المفدى والحزب والثورة، تعمدوا التخلف عن الذهاب الى جبهات الحرب، بحيلة الجنون أو الاعاقة الجسدية والعقلية، والمصح العقلي هو عبارة عن دائرة أمنية يحمل صفات اساليب البطش في التعذيب، وانتهاك حرمة وحقوق الإنسان في أبسط شروطها، بذريعة كل شيء من اجل القائد المفدى، وكل شيء من أجل المعركة، بهذا الشكل تنخرط منظمات الحزب الحاكم، في المراقبة والرصد والتصيد، الذين يتخلفون عن الولاء والطاعة للنظام، واعلام النظام، ينتهج نهج المغالطات في التشويه والتضليل والخداع. في تسمية حروب النظام العبثية، بالحروب الدفاع عن الوطن، وبذلك يحرقون الأخضر واليابس فدى للقائد والقيادة الحكيمة (من أجل الدفاع عن الوطن والحزب والقيادة الحكيمة لقائد النصر المظفر) ومنْ يتخلف عن الخدمة الوطنية، ولم يسهم في الذهاب الى جبهات الحرب، يستحق الموت والاعدام، حتى لو تعلل بالجنون أو الإعاقة الجسدية، فهم خونة وعملاء (- أنا اعرفكم يا اولاد الكلب، لا ينفع معكم، إلا الضرب والاهانة، فلتذهبوا الى جهنم) ص58. و(- هؤلاء خونة وعملاء، صدقيني يريدون القيام بثورة ضد السيد القائد والقيادة الحكيمة والحزب والثورة.

- الله ينتقم منهم) ص63. لكن احد المجانين يتهكم بسخرية اللاذعة ضد هذا التشويه الاعلامي المنافق (- (احنه مشينه للحرب). أخوات القحبة، الحزبيون، جماعة (الرئيس) المجرم، ذهبوا للحرب حتى يدمروا الوطن) ص74. بهذه الوحشية السادية يتم التعامل الاجهزة الطبية في المشفى، مع المجانين في المصح العقلي (- أولاد الكلب، تريدون أن تعبثوا بأمن البلد؟!.

- لولا كونك مجنوناً، لكان مصيرك (حوض التيزاب) يأكل جسمك العفن.

- ربما (التيزاب) أرحم من آلة ثرم اللحم) ص39.

×× أكثر الشخصيات الحوارية في المسرح المصح العقلي:

1 - شخصية مجهول الاسم:

ادعى الجنون بعدما أتهم بالتهجم على القائد المفدى، يتعرض بالقسوة في جلسات التعذيب القاسية والمتكررة، بحجة العلاج الطبي، كان يلوذ بالصمت ويتحمل القسوة الخشنة، فمرة يطلق على نفسه أسم (سقراط) ومرة أخرى يطلق على نفسه أسم (فاتن) ويتقمص الانوثة في التصرف والسلوك، لكن حوارته تصب في إيقاظ الوعي النائم، والسخرية من عقلية وهذيانات الحزب الحاكم وشعاراته الحزبية المزيفة والمخادعة (- دكتور هذا مجنون (فاقد)

- ما يعني فاقد؟؟ !!.

- أنه لا يدري بنفسه، ولا يعرف أين هو، ولا حتى لا يعرف أسمه، يعني مثل الحمار، الذي لا يعرف أي شيء) ص234. يرقد في المصح العقلي ويهذي بتهكماته الساخرة ضد ازلام الحزب، ولا يكف ويتوقف رغم التهديدات بالقتل، فلم يجد منهم سوى الخشونة والسب والشتم والاهانة والاذلال، لكن شعر بوجوده الانساني من المعاملة الطيبة والرقيقة من طبيبة الأسنان (اسراء) تختلف عن خشونة ومعاملة  الكل، كما تعود عليهم (- تعال (عيني) أجلس هنا) ص235. أن كلمة (عيني) ايقظت حواسه، وجعلت البريق يعود الى عينيه المتعبتين من السهر والالام، لم يصدق ما سمعه برقة وعذوبة كلمة (عيني). (- هل تسمعني، أنا قلت لك تعال اجلس على هذا الكرسي؟!.

- هل تقصدني أنا؟؟!!.) ص235. وحين سألته عن أسمه، فأجاب بأسم جديد (جمال)، كأن الجمال استيقظ في نوازع روحه، وازاح وحش القبح والبذاءة، وصار كل يوم يتردد على غرفة الطبيبة الاسنان، يجد العاطفة والرقة والاحترام، وراح يبني صرح الحب في أحلامه، واخذ يعتني بسلوكه وهندامه، واعتقد ان غرفة طبيبة الأسنان أصبحت بمثابة المحراب المقدس للحب، يعوضه عن سنواته التالفة والمتعبة. ويتوهم بأن طبيبة الأسنان (اسراء) هي ايضاً تبادله نفس الشعور بالحب، حتى أنه بقرارة نفسه ان يهدي إليها باقة ورد ويصارحها بحبه وعشقه، عسى أن يحظى بها، لتنقله إلى حياة جديدة. لكن أحد الأيام دخل الدكتور (علي) بعد غياب طويل وكان يرتبط مع (اسراء) بعلاقة الحب القديمة، ووجدت (اسراء) ان حضوره ينعش الحب القديم، ففرحت بهذا اللقاء الموعود، الذي أضاء أزهار الحب في داخلها، وخرجت معه من الغرفة، كأنهما عاشقان، وتعود لهما الحياة بعد الغربة، ومجهول الاسم (جمال) في صدمة وذهول، لم يصدق ما يجرى حوله، لقد شعر بأنه يعود الى مستنقع الوحل العفن، والحب ذهب مع الريح ولن يعود، فلم يتحمل الصدمة النفسية وانهى حياته بالانتحار.

2 - الممرضة (نوال) أو (الرفيقة نوال) يجندها الحزب في استدراج المشبوهين بعدم ولائهم للقائد والحزب. فكان سلاحها الغواية والإغراء بالشبق الجنسي الرخيص أو الايروتيكية  المبتذلة، في سبيل كشف اسرار الضحية، الذي ينجرف الى الشبق الجنسي، ليكشف حقيقة ما يحمل من أسرار، كما فعلت مع المضمد (جواد) في احدى الليالي وقع في شراكها المنصوب له، وقاده هذا الفخ والمصيدة إلى مقصلة الإعدام (- كل ما عندي لك (يا جوادي) اركب مركبي، وخذني الى فردوسك، أنا أعلم بأن فردوسك لا يشبه أي فردوس آخر) ص161.

(- أنني أحترق (يا جوادي) أطفيء النيران التي أشعلتها بي، خذ كل فاكهتي الناضجة، أقضم ما تشاء فيها، مزق أشرعتي التي كانت وستظل ترفرف لك وحدك، حطم حصوني التي كانت دائماً ألوذ تحت صمتها المسكون فيك) ص119. ولكن بعد التغيير وسقوط الحزب الحاكم، فقد اشتدت عمليات التصفية والانتقام من ازلام الحزب الساقط. فكان نصيبها القتل (- لقد قتلوا الممرضة (نوال الحزبية) (نوال القحبة) (نوال الفاجرة)، هذا مصير الخونة والعملاء) ص258.

×× التغيير بعد الاحتلال:

كان يوماً عاصفاً ومشهوداً ما آلت اليه الامور عشية سقوط النظام والحزب الحاكم، ودخل العراق في التدهور نحو البلبة والاضطرابات الساخنة، نحو الفوضى والانفلات، نحو عمليات النهب والسرقة والفرهود حتى مؤسسات الدولة الصغيرة، انعدام الامن والامان، واصبح الشارع ملكاً للجماعات الدينية المتطرفة وعصابات النهب والسلب، ودخل العراق في نظام هجين، لبس العمامة وجبة الدين والمذهب، حتى ازلام الحزب الساقط، اصبحوا متدينين وأصحاب الإيمان والتقوى، واختلطت المعايير نحو الاسوأ (لمَ تحول اللصوص الى شرفاء؟؟!! وكيف تحول المفسدون الى صلحاء؟؟!! ولمَ تحول الفاسقون الى مؤمنين؟! وما الذي دعا الرفاق الحزبيين إلى متدينين؟؟) 226. فعم الخراب واستيقظت الطائفية من كهوفها النائمة، في اشعال الفتن وشق اللحمة الوطنية والشقاق والكراهية والحقد (- أخي الصابئة واليهود والمسيحيون، هم الذين نعتهم القرآن الكريم بالضالين، هؤلاء مشركون يجب ان يقتلوا، أو يطردون من البلاد، أو يدفعوا الجزية رغماً عن أنفهم) ص270.

فدخل العراق في مرحلة الفوضى الخلاقة.

***

جمعة عبدالله

رواية" مدن الحلم والدم" للروائية المغربية راضية العمري نموذجا

توطئة: تسرد لنا رواية "مدن الحلم والدم" للروائية المغربية راضية العمري معاناة الإنسان في الحياة المعاصرة من خلال الساردة زهرة صابر، التي تكشف لنا معاناتها ومعاناة والديها مع الفقر والمرض. فوالدتها تشتغل كخادمة في البيوت ووالدها يعاني من مرض نفسي  تحول مع الوقت إلى جنون. كما سوف تعمل الروائية  راضية عبر الساردة زهرة على إضاءة ما ستخلفه هذه المعاناة  من أثر نفسي على نفسية الساردة على الخصوص. فكيف تناولت رواية "مدن الحلم والدم " للروائية راضية العمري كرواية معاصرة إبداعيا أزمة المرأة العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة؟ وهل نجحت في ذلك؟.تبنت رواية "مدن الحلم والدم "التوجه الواقعي في الكتابة الروائية الذي عمل على القطع مع الرواية الكلاسيكية التي اهتمت بالبطل الأسطوري الخارق ومجدته وكانت أقرب إلى الملحمة منها للرواية بالتعبير الحديث. كما عمل هذا التوجه على الثورة على الرواية التاريخية التي كانت تحتفل بالرموز والأبطال التاريخيين والأحداث التي ارتبطت بهم سواء من أجل تخليدهم أو من أجل التعريف بهم كما كان معروفا في روايات جرجي زيدان، هذا التوجه الواقعي هو الذي نقل الرواية من الاحتفال بالبطل الأسطوري الذي لايقهر إلى الاحتفال بالبطل الانسان العادي  بهمومه ومعاناته وأحلامه.فصارت الرواية بهذا المعنى مرآة تجوب الشوارع تعكس هموم الناس وآمالهم وطموحاتهم. والكاتبة الروائية راضية العمري اختارت الكتابة من منطلق هذا الفهم ويمكن القبض على ذلك بدءا بالغلاف وانتهاء بنهاية الرواية. وقد قسمت الروائية  المغربية راضية العمري ابنة مدينة القصر الكبير روايتها "مدن الحلم والدم" الصادرة عن دار السليكي أخوين بطنجة  إلى أربعة فصول معنونة كالتالي :الضفة الأخرى - النور - بسمة ماكرة – الرحيل.  وهي فصول مترابطة  يجمع بينها زمن تعاقبي وأحداث وأمكنة وشخصيات واقعية ساهمت في ابراز أزمة ومعاناة الشخصية الرئيسة زهرة صابر.

I. أزمة الفرد من خلال غلاف وعنوان رواية "مدن الحلم والدم ":

إن أي قارئ لروايات منيف وهو يقرأ عنوان رواية راضية العمري سوف يستحضر مباشرة خماسية مدن الملح  وسوف يذهب بتأويله إلى الإعجاب الشديد للروائية بهذا الكاتب ويمكن القبض على ذلك من اعتراف الساردة التي تنوب عن الروائية في سرد أحداث الرواية، فمدن الحلم والدم ومن خلال قراء تنا للرواية تحيلنا مباشرة على مدن اسبانية لأن اسبانيا كانت تمثل للساردة زهرة صابر حلم التخلص من معاناتها وفقرها.وقد كتب العنوان باللون الأحمر في دلالة على  أن هذه المدن التي هي أمكنة لتحقيق أحلام الساردة لطخت بالدماء.فيما اختارت الروائية أن تدون اسمها باللون الأسود دلالة على الحزن والمعاناة.  وتضمنت لوحة الغلاف  صورة لفتاة في مقتبل العمل تتوسط  أفقا أزرقا مشرعا على البحر والأمل وهي تودع من على ظهر مركب السفينة مدينتها متوجهة لمدن الحلم مدن اسبانيا. وهي الصورة التي  تختزل أحداث الرواية بشكل مكثف تحيل على البحث عن الخلاص من مدن متعبة قاسية لمدن رحبة حالمة تصون كرامة الإنسان وتخلصه من معاناته.فهل تحققت أحلام الساردة زهرة  بعد هجرتها إلى مدن الحلم أم العكس هو الذي حصل؟ هذا ماسوف تجيب عنه الفصول الأربعة للرواية.

II. الضفة الأخرى وشغف تحقيق حلم الخلاص من الفقر:

استهلت الكاتبة راضية  العامري الفصل الأول المعنون (بالضفة الأخرى )بعبارة شاعرية تكشف عن شغف الساردة  بالهجرة إلى  ضفة اسبانيا وهو الشغف الذي جاء نتيجة معاناة الساردة وأسرتها مع الفقر وجنون الأب. فالروائية من خلال الساردة ومن خلال هذا الفصل ركزت على معاناة الفرد وأزمته  في وطنه وفي أسرته نتيجة الفقر والمرض والحرمان من أبسط ظروف العيش التي تحقق له كرامته فعناق الساردة  للأحلام ومنها حلم الرحيل والهجرة إلى أروبا هو راجع لمعاناتها. وهكذا يجسد لنا هذا الفصل من الرواية صراع حلم الساردة في الهجرة ضد واقع الفقر الذي تعاني منه أم الساردة التي تشتغل كخادمة في البيوت من أجل اطعام أطفالها وعلاج زوجها المريض نفسيا  بالدهان والذي تحول مع الوقت إلى جنون. تقول الساردة زهرة في هذا الفصل "كانت الأحلام ملاذي وترياقي الذي أرد به سموم الحياة"1. وهكذا سوف يكون خلاصها من هذا الفقر وما ينتج عنه من ألم ومعاناة هو سلوكها طريق الهجرة السرية  بمساعدة صديقتها مريم عبر مركب متوجه من مدينة سبتة إلى مدينة برشلونة وانطلاقا من بداية رحلتها على المركب  ومع اعتماد أسلوب الاسترجاع سوف تكتشف الساردة  مدى الفرق ما بين حياتها التي كانت تعيشها في ظل الفقر بالمغرب وحياة الناس فعبر عملية الاستذكار والاسترجاع  نكتشف حجم معاناة الساردة فهي كانت تسكن  في غرفة حقيرة وتبيع الأعشاب على الرصيف وهي طفلة. وبالتالي فهجرتها إلى أروبا كانت بداية تحول حياة الساردة  من المعاناة إلى السعادة وذلك بمساعدة صديقتها عزيزة خاصة بعد أن وجدت لها عملا كخادمة عند العجوز الإسبانية ايزابيل التي من خلالها ومن خلال عزيزة سوف تتحول من فتاة لا تجيد القراءة والكتابة إلا فتاة شغوفة  بالأدب العربي والإسباني وهذا ما سيبدو جليا في الفصل الثاني المعنون بالنور لكن سعادتها  لم تدم طويلا فكيف حصل ذلك؟

III. معاناة الساردة مابين الأمل واليأس:

يكشف حسن اختيار الروائية  راضية العامري لعناوين  فصولها ولأسماء شخصيات روايتها عن معرفتها النظرية بكيفية اشتغال الرواية، وطريقة بنائها، وبوظيفة الأسماء كعلامات بتعبير فليب هامون في بناء دلالة النص وجماليته.فالأسماء تعرف بهوية شخصياتها، وصفاتهم.فاسم الشخصية الرئيسة زهرة في هذه الرواية يرمز لزهرة الحياة  وأريجها لأمها وأسرتها، ويرمز كذلك لرومانسية الساردة  وإنسانيتها ولتحولهاعبر أحداث الرواية لزهرة لكل من كمال والمتقي. فلم يكن اختيار الكاتبة لأسماء شخصياتها اختيارا اعتباطيا وإنما كان اختيارا مقصودا. فالبناء الفني لرواية مدن "الحلم والدم "   يعبر عن براعة التخييل عند الروائية، ويعبر أكثر عن فهمها العميق لمكونات الرواية المعاصرة. فعند قراءتنا للفصل الموسوم (بالنور) نرصد استثمارها لمجموعة من تقنيات السرد وأساليبه  من وصف واسترجاع وحذف وتكثيف وحوار وهي أساليب وتقنيات حديثة  ساهمت في إبراز معاناة الساردة وأزمتها النفسية. وقد اختارت الروائية راضية لهذا الفصل اسم النور كعنوان لهذا الفصل لما يختزله من  تحول الساردة زهرة من ظلمات الجهل والمعاناة والفقر والحرمان إلى أنوار العلم والحرية والاستقرار والأمل. وكل ذلك بفضل صديقتها عزيزة والعجوز ايزابيل تقول الساردة: "كنت عندما أنتهي من عملي وتنام ايزابيل أظل أقرأ وأقرأ إلى أن أنام"2 فقد أعجبت الساردة بايزابيل، وأطالت الوصف في مدحها لأنها ساهمت في تشكيل الوعي عندها بنفسها وبالآخر وبالعالم وقضاياه الإنسانية والسياسية خاصة القضية الفلسطينية. فهل استمرت سعادة الساردة بالديارالإسبانية؟ هذا ما سوف يكشف عنه الفصل الثالث من الرواية المعنون ببسمة ماكرة.

IV. انكسار أمل الساردة وتجدد معاناتها:

في هذا الفصل المعنون (ببسمة ماكرة) سوف تتجدد معاناة الساردة بموت العجوز إيزابيل وهي المعاناة التي لم تستمر طويلا بفضل مساعدة صديقتها أمل التي وجدت لها عملا بمتجر ابن عمها كمال ببرشلونة وهو رجل في الخمسينيات من عمره شغوف بالأدب والشعر الصوفي تقول الساردة  مادحة خصال كمال: "مع كمال تعرفت على جلال الدين الرومي وكان عالما مدهشا ادخله أول مرة عالم الشعر الصوفي"3  لكن هذه السعادة التي غمرتها رفقة كمال سرعان ماتلاشت كالضباب تحت شمس المعاناة، حيث قتل حبيبها كمال في عملية ارهابية غادرة بمدينة مدريد مما أدى إلى انهيار الساردة ودخولها إلى المستشفى، وتفكيرها في العودة من جديد إلى وطنها هروبا من كل ما يذكرها بكمال وهذا ما نكتشفه في الفصل الرابع المعنون بالرحيل.

V. علاقة الموت بأزمة الساردة وقرار الرحيل:

تستهل الروائية راضية العمري فصلها الأخير من الرواية والمعنون (بالرحيل) بقول الساردة  في جملة تلخص كل شيء "كان قرار عودتي إلى المغرب محاولة أخيرة لترميم مالايرمم"4 وهوالقرار الذي شجعتها عليه صديقتها عزيزة بعد انهيارها بسبب مقتل كمال في الحادث الإرهابي. وأثناء عودتها سوف تبتسم لها الحياة مرة أخرى وتعطيها فرصة مؤقتة للنسيان بتعرفها في الطائرة أثناء عودتها على الأستاذ الجامعي سعيد المتقي.ورغم الود الذي جمعها به وإعجابها بطريقة تفكيره إلا أن العلاقة بينهما  ظلت باردة، وربما كانت فقط محاولة لنسيان جراح الماضي.وفي هذا الفصل سوف تتحول زهرة من قارئة شغوفة إلى كاتبة مبدعة بحيث ستجعل من الكتابة وسيلة للنسيان خاصة بعدما تعمقت أزمتها بمقتل حبيبها الثاني سعيد المتقي الذي كانت تستعد للزواج منه بسبب صراع ما بين طلبة اليسار والطلبة الأصوليين تقول الساردة زهرة واصفة هذه اللحظة المدمرة التي  أتت على ما تبقى من آمالها :"تسمرت عيناي عند قراءة العنوان الكبير بجريدتي المعتادة مقتل الدكتور سعيد متقي أستاذ السوسيولوجيا على إثر معركة دامية بين طلبة اليسار والطلبة الاصوليين"5  وبعد أن استنفدت كل الوسائل بما فيها علاقات الصداقة والحب اختارت الساردة  زهرة الكتابة الإبداعية طريقا للتعبير والتخفيف عن معاناتها.

خاتمة:

وختاما استطاعت الروائية راضية العمري من خلال روايتها  "مدن الحلم والدم "أن تكشف لنا عن الأزمة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للفرد في المجتمع المعاصر وهي أزمة جسدتها بكل صدق الساردة زهرة صابر التي ماهي إلا نموذجا للمرأة التي تعيش صراعا مريرا ضد الفقر والحرمان والتهميش، والتي كلما ظنت أنها نجت منهم ظهروا لها من جديد على  خشبة مسرح حياتها بشكل أمر من الأول.

***

عبدالرزاق اسطيطو

........................

الهوامش

1- راضية العمري رواية "مدن الحلم والدم" دار سليكي اخوان  طنجة  الطبعة الأولى ص7

2- نفس المصدر  ص46

3- نفس المصدر ص67

4- نفس المصدر ص81

5 -نفس المصدر  صص95

يُصَوِّر الشُّعراء الذِّئب وهو «يَعْتَسُّ»، أي يطلب الصَّيْد تحت جُنْح الظَّلام، مطوِّفًا في سبيله، حتى سُمِّي: «العَسوس»، و«العَسيس» و«العَسْعَس»، و«العَسْعاس»(1). قال (الحُطيئة)(2):

ويُمْسِي الغُرَابُ الأَعْوَرُ العَيْنِ وَاقِعًا

مَعَ الذِّئْبِ يَعْتَسَّانِ نَارِي ومِفْأَدِي

و«يَعْتَسَّان» عبارة موحية بما أراده الشاعر من تصوير خِفَّة الذِّئب؛ إذ يَتَحيَّن سانحةً ما ليقتنص ما أمكنه اقتناصه ثمَّ يُولِّي. وقد زادتها تعبيرًا صيغة الافتعال هذه التي استخدمها الشاعر.

والشَّاعر إذ يرى الذِّئب فإنَّما يَلمحه لمحًا، يلوح سريعًا، كأنما هو شَبَحٌ؛ لِضَواهُ وخِفَّة مروره، أو كأنَّه ثوبٌ يَرِفُّ فجأةً فيختفي. فيُصوِّر (غيلان بن سلمة) حركته تلك بقوله:

بِتَنُوْفَةٍ جَرْدَاءَ يَجْزَعُها

لَـحِبٌ يَلُوْحُ كأنَّهُ سَحْلُ (3)

راصدًا كلَّ العناصر لرسم هذه اللوحة؛ فـ(الذِّئب) في «تنوفة»: (مفازة متباعدة الأطراف، لا ماء بها ولا أنيس)(4)، يؤكِّد ذلك بوصفها بـ«جرداء»، والذِّئب «يجزعها» جَزْعًا: (يقطعها عَرْضًا لا طُولًا) (5)، وهو «لَـحِب»: (قد انحسر لحمه)، يوازي في اللوحة «التنوفةَ الجرداء»، وهو «يلوح» للشاعر، كما يلوح الآلُ في تلك المفازة، وكأنَّه «سحل»: (نوعٌ من الثياب اليمانيَّة).(6) حتى إنَّ هذه (الحاءات) المتوالية تُعمِّق الإحساس بتفاصيل الصُّورة، في ازدواجٍ بين عنصُرَي الشَّفافيَّة والخِفَّة. ومع أنَّه يبدأ البيت بوصف الصحراء فإنها لا تهمُّه في شيءٍ من الصُّورة، إلَّا من حيث كونها خلفيَّةً تخدم تصويره الذِّئب وحركته الخاطفة؛ ولهذا جاءت (الباء) في قوله: «بتنوفة»؛ لتربط وصف الذِّئب، الذي سبق في أبياتٍ من قبل، بوصف حركته في هذا البيت، بظرفٍ مكانيٍّ يُضفي على قلب الصُّورة المتمثِّل في (الذِّئب)، وعلى حركته، أبعادًا ضوئيَّةً وتموُّجات لَونيَّة، تُحقِّق تنوُّعًا فنِّـيًّا، يُوظَّف أساسًا في سبيل وَحْدَة اللوحة.

والشُّعراء- في إعجابهم بحركة الذِّئب ورشاقتها– يُعْنَون بانتخاب أقرب الألفاظ تصويرًا لتلك الحركة، فتتعدَّد صور التعبير عندهم. منهم مَن يقول: إنَّ عَدْوَه إرخاء، وإنَّه يَعْتَسُّ، وإنَّه يَلُوْح لوحانًا، كما مرَّ، ومنهم من يقول: إنه «يُزَجِّي»، كـ(ابن مُقْبِل)(7)، إذْ قال في وصف الأطلال:

سَخَاخًا يُزَجِّي الذِّئبُ بينَ سُهُوْبِها

وفَحْـلُ النَّعَـامِ رِزُّهُ وأَزامِلُـهْ

أي: يتمشَّى في خِفَّةٍ ورِفق، ويَعدو بين سُهوب سَخاخ تلك الأطلال. والسَّخاخ: الأرض اللَّينة الحُـرَّة(8)، وكأنما (الذِّئب) يتدافع ليِّنًا في تدفُّق سَيره. وفي صورة سهوب السَّخاخ، الموصوفة باللِّين، خَلْفيَّة كتلك التي سبقت في صورة (غيلان بن سلمة). ويُلحَظ فيها التناسب بين مختلف العناصر: من اللِّين، وخفَّة الحركة، والاضطراب، والتموُّج، مع تسخير الأصوات والأشكال البنائيَّة في المفرد والمركَّب لتمثيل حركة الذِّئب.

وكثيرًا ما وصفوا (الذِّئب) بالعسَّال؛ لاضطرابه في عَدْوه واهتزاز رأسه. قال (الفرزدق)(9):

وأَطْلَسَ عَسَّالٍ، وما كانَ صاحبًا،

دَعَوْتُ بـناري مَـوْهِـنًـا فأَتانـي

وقال (أعرابي):

أَوْدَى بِوَرْدَةَ أُمِّ الوَرْدِ ذو عَسَلٍ

مِنَ الذِّئابِ إذا ما راحَ أو بَكَرَا(10)

وبعَسلان الذِّئب شبَّهوا عَسلان الرُّمح؛ فقال (ابن مُقْبِل)(11)، مثلًا:

وذِيْ عَسَلانٍ لم تُهَضَّمْ كُعُوْبُـهُ

كما خَبَّ ذِئْبُ الرَّدْهَةِ المُتَأَوِّبُ

أو قد يشبِّهون بعَسلان الرُّمح عَسلان الذِّئب، كما وصفَه الشاعر نفسه بقوله:

كالرُّمْحِ أَرْقَلَ في الكَفَّيْنِ واطَّرَدَتْ

مِنْهُ القَـنَـاةُ، وفيها لَـهْذَمٌ غُوْلُ(12)

وهكذا يتنافس الشُّعراء في تصوير حركة (الذِّئب)، أيُّهم أدقُّ اختيارًا لما يُمثِّلها من لفظ أو تشبيه.

(وللحديث بقيَّة).

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

......................

(1) يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، والجوهري، الصِّحاح، (عسس).

(2) (1958)، ديوان الحُطيئة، بشرح: ابن السكِّيت والسكَّري والسجستاني، تحقيق: نعمان أمين طه، (مِصْر: مطبعة البابي الحلبي وأولاده)، 155.

(3) الجاحظ، (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1: 378.

(4) يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (تنف).

(5) يُنظَر: م.ن، (جزع).

(6) يُنظَر: م.ن، (سحل).

(7) (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم)، 241/ 12.

(8) يُنظَر: ابن فارس، مُجمل اللُّغة، (سخ)؛ ابن منظور، لسان العَرَب، (زجا).

(9) (1983)، ديوان الفرزدق، بعناية: إيليا الحاوي، (بيروت: دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة)، 2: 590/1.

(10) الجاحظ، الحيوان، 2: 203، 277.

(11) ديوانه، 16/ 23.

(12) ذيل ديوان ابن مُقْبِل، 386/ 39.

"كل يوم هو رحلة، والرحلة ذاتها وطن"

"ماتسو باشو" (Matsuo Basho)

الهايكو شكل شعري ياباني غير مقفى، يتكون من سبعة عشر مقطعًا صوتيا (5/7/5)، ترجع نشأته الأولى إلى القرن الثاني عشر  (1127م) كجزء افتتاحي من شعر "الرنجا"[1] الذي كان يتألف من مائة وصلة، يتناوب على كتابتها مجموعة من الشعراء. اشتق الهايكو من "الهايكاي  haikai))، المقطع الأول للرنجا؛ وهو عبارة عن شكل فكاهي والمقطع الثاني، الهوكو (hokku) وهو المقطع الأخير للرنجا. في القرن السادس عشر أصبح الهوكو فنا شعريا قائما بذاته، وظل يحمل نفس الاسم حتى بداية القرن التاسع عشر حين بدأ الشاعر والناقد "ماسوكا شيكي" (Masoka Shiki 1867-1920)  حركة الإصلاح فى الهوكو وأطلق عليه مُسمى الهايكو.

يرجع الفضل للشاعر "ماتسو باشو Matsuo Bashō 1644- 1694) في الارتقاء بالهوكو - الذي كان يغلب عليه روح الدعابة - إلى نصوص تأملية عميقة تتناول تفاصيل العالم الطبيعي المدهش. كان لتعاليم الزن [2]، أثر كبير في تجربة باشو الشعرية وصفاء لغته؛ ذلك ما جعل أشعاره تستدعي حالات ذهنية وتأملات روحية خاصة لدى القارئ.

يعكس اهتمام باشو بالطبيعة وتبدُّل فصولها فكرة التغيير التي تنادي بها الزن، لذا أتى شعره تعبيرا عن لحظة جمالية عابرة. يقول ماتسو باشو:

بتلات الورد الصفراء

رعد-

شلال [3]

يبتدئ هذا النص الموجز بفصل الربيع المفعم بالجمال والحياة عبر تفتح (بتلات الورد الصفراء)، ثم ينتقل إلى فصل الشتاء (رعد)، وأخيرا  ترمز كلمة "شلال" إلى فصل الصيف، أحيانا يخلّف هذا التغير الدائم في الفصول إحساسا بالفجيعة، لكنه أيضًا يجعل لكل لحظة قيمة ومعنى، أليس الإحساس بقصر الحياة هو الذي يدعونا إلى التماهي مع العالم والابتعاد عن [4]تصوير كل ما هو ذاتي، يؤدي هذا التوحد مع الطبيعة إلى حالة من الصفاء الذهني والكمال الروحي"ساتوري" (Satori)[5]، كما يعكس هذا النص المكثف والمختزل أيضا جمالية "سابي- وابي" ([6] (Sabi wabi التي ترمز إلى جمال الأشياء غير المكتمل وتقبٌّل الأشياء على علاتها وشوائبها وترهلاتها، فباشو من خلال وثباته بين الفصول يدعونا للاستمتاع باللحظة الجمالية الهاربة عند رؤية بتلات الورد الصفراء وسماع دوي الرعد وتأمل تدفق مياه الشلال؛ كل هذه المشاهد تخفف وطأة تقلبات الحياة السريعة والمفجعة.

أصبح شعر باشو شائعا ومتاحا لقطاع عريض من المجتمع الياباني، وساعد على هذا الانتشار عدة عوامل منها: ثراء تجربته الشعرية نتيجة رحلاته وسط الطبيعة اليابانية، وتصويره الحسي لجمالها وتماهيه مع تفاصيلها الفاتنة المدهشة، أيضا اتسام شعره بالبساطة التي كان لها بالغ الأثر في النفاذ إلى روح القارئ وإذكاء حالة الاستنارة بداخله، بالإضافة إلى جماليات فنه وعذوبة قصائده التي ساعدت على ترسيخ شكل الهوكو باعتباره الشكل الأكثر شيوعًا في الشعر الياباني آنذاك.

وعلى الرغم من الانتقاد الذي وجهه الشاعر والناقد (ماسوكا شيكي) لشعر باشو لخلوه من الصفاء الشعري واحتوائه على الوصف والجمل النثرية المُملة على حد تعبيره، فقد اعتبره أول شاعر واقعي تتسمُ قصائده بـ"السمو والعظمة".

في القرن الثامن عشر برز الشاعران  "يوسا بوسون" (1784-  1716   (Yusa Buson  و"كوباياشي إيسا" (Kobayashi Issa   (1763-1828، فقد تأثر بوسون بباشو، وقام بإحياء شعره، الذي وجد فيه روح البساطة، عن طريق الرسم؛ لذا قدَّم كتابه النثري "الطريق الضيق إلى عمق الشمال" مصحوبا بلوحات تصويرية تهدف إلى إيصال فنه لأكبر عدد ممكن من الجمهور، وقد انعكست براعة بوسون في الفن التشكيلي على طريقته في الكتابة الإبداعية، لذا فأغلب نصوصه غنية بالمشاهد البصرية والأساليب التصويرية التي تُعبّر عن حس فني فريد.

فيما عُرِف َ"كوباياشي إيسا" بجنوحه العاطفي تجاه الكائنات المُهَمًشة كالذباب والحشرات الأخرى، تلك العاطفة كان مبعثها شعور داخلي بالمعاناة الذاتية في هذا العالم، وكأنه يرى نفسه حاضرة في روح تلك الكائنات، لذلك أَضْفَتْ هذه الأحاسيس الدافقة على شعره ميزتي الرقة والبساطة اللتين بدتا جليتين في مجموعته الشعرية "الربيع" الصادرة (1819م) والمشتملة على مذكراته الشعرية التي صورت حياته أثناء الطفولة، وهو يعاني مرارة العزلة والوحدة:

تعال والعب

معي ...

أيها العصفور اليتيم[7]

حاول إيسا هنا أن يُخفّف من وطأة عزلته، فلجأ إلى مخاطبة العصفور ودعوته لمشاركته اللعب؛ تعكس هذه الدعوة حالة اليتم التي يعاني منها كل من الشاعر والعصفور ومدى تعاطف الهايكست مع الكائنات البسيطة من حوله وحبه لها.

في القرن التاسع عشر انفتحت اليابان على الغرب واطّلع شعراؤها على الواقعية الأوروبية التي أحدثت ثورة في شعر الهايكو الذي بدأ يتخلى عن بعض خصائصه الكلاسيكية، وتوسع نطاق موضوعاته إلى ما وراء الطبيعة، وأصبح فنًا يتناول الكثير من التفاصيل الجديدة والصور المبتكرة، ونتيجة لهذا التطلع الجديد نحو التجريب نشأ ما يسمى بالـ"موكي" هايكو الذي تنحى تماما عن الكلمة الموسمية التي تُعدّ أساسا جوهريا في كتابة الهايكو التقليدي، كما بدأ الشعراء يكتبون الهايكو الحر دون تقيد بالمقاطع السبعة عشر (5-7-5).

الهايكو الحداثي:

ارتكزت رؤية الشعراء للهايكو حينئذ على منظور حداثي مغاير للأنماط والمواضيع السائدة في القرن السابع عشر؛ فقد استوحوا  كتاباتهم من التجارب الذاتية والتأملات الفردية في عالم الطبيعة، غير أن هذا المنظور الحداثي للهايكو جاء نتيجة حتمية للواقعية الأوروبية السائدة في هذه الحقبة التي أعيد تصديرها لاحقا إلى الغرب كـ"شيء ياباني خالص".

من أهم هؤلاء الشعراء الحداثيين الذين تأثروا بالواقعية الأوروبية "ماسوكا شيكي"، - أحد الأربعة الكبار في تاريخ الهايكو الياباني (باشو، يوسا بوسن كوباياشي إيسا) - والذي أدى تأثره بالكتاب والرسَامين الأوروبيين إلى تبنيه طريقة جديدة في الكتابة أطلق عليها” (Shasi) الرسم من الحياة “التي يهدف من خلالها إلى تصوير التجربة الواقعية والابتعاد عن الخيال والزخرفة اللغوية، وبهذا يمكن للقارئ معايشة المشهد والغوص في تفاصيله بناء على واقعيته ومصداقية "الهايجن"[8] في نقل ذلك المشهد الآني كما هو، في حين لم ينكر استخدام الخيال كلية، بل دعا إلى تناوله بعد أن يتمكن الشعراء من تكوين تصور حقيقي للعالم؛ هكذا انتقل شيكي من المناداة بـ" الرسم من الحياة" التي خص بها الشعراء المبتدئين إلى " الواقعية الانتقائية"" وكان يعني بها أصحاب الخبرة في الكتابة الإبداعية .

الحركة التصويرية:

أسس الشاعر"توماس إرنست هولم" (Thomas Ernest) Hulme 1883-1917 ) ما يسمى بالحركة التصويرية التي أخذت عن الهايكو الياباني الكثير من خصائصه، وهي في ذلك تهدف إلى تجديد الشعر من خلال التركيز على الصورة المبتكرة وبساطة اللغة، والابتعاد عن اللبس والغموض، والقيام بتوثيق التجارب الحسية، والكتابة الشعرية الواعية التي تبتعد عن سذاجةِ الرؤيةِ والمفاهيم.

كتب شعراء الحركة التصويرية نصوصا أشبه بالهايكو خاصة في المراحل الأولى التي تولى زمامها "إزرا باوند"، ثم تخلَوا بعد ذلك عن الخصائص التقليدية لقصيدة الهايكو كالالتزام بالثلاثة أسطر والموضوعة الموسمية وخاصية التنحّي في الفترة التي تولَّت الشاعرة "آمي لويل " (1925 - 1874 Amy Lowell ) أمور الحركة، ودعت إلى التحرر من الأنساق التقليدية لقصيدة الهايكو اليابانية والكتابة بطريقة تتيح للشعراء التعبيرَ عن تجاربهم ومشاعرهم الخاصة.

الهايكو العربي:

انتقل الهايكو إلى عالمنا العربي مؤخرا في النصف الثاني من القرن العشرين، وطبيعي أن يفتتن المبدعون العرب - شأنهم شأن بقية المبدعين في الأقطار الأخرى من العالم - بكل ما هو جديد في فن الشعر، وقد ساعد على سرعة انتشار هذا الفن الجديد والافتتان به بساطتُه التي تنأى بالنص الإبداعي عن  التكلف في التعبير والإفراط في استخدام المجاز.

ومع التطور الحالي في مجال التكنولوجيا نشأ العديد من المواقع الإلكترونية والنوادي المختصة بالهايكو مثل "عشاق الهايكو"، "هايكو سوريا"، "هايكو مصر"، "نبض الهايكو"، "الهايكو العربي"، "الهايكو الحر" وغيرها من المنتديات التي تحرص على نشر مقالات ودراسات وترجمات ونماذج من شأنها التعريف بهذا اللون الشعري الموجز وكذا خصائصه وجمالياته.

وقد يتساءل القارئ: هل تشكلت بالفعل معالم الهايكو العربي؛ بحيث يمكن للمتلقي عند قراءة نص ما لشاعر عربي أن يستكشف خصوصية البيئة العربية المتنوعة الآسرة؟ ومما لا شك فيه أنَه قد بدأت تتشكل هوية للهايكو في عالمنا العربي وأصبح له سمتٌ خاص ومميز، على الرغم من ندرة الأصوات القادرة على التجريب والإبداع، واستمرار معاول الهدم الممَثلة في بعض المواقع الالكترونية غير المكترثة بقيمة وجماليات الهايكو في نشر النصوص الرديئة وتقديمها على أنها نماذج للهايكو الفريد.

يُعدّ الهايكو إضافة جمالية إلى المشهد الشعري العربي جنبا إلى جنب مع القصيدة الكلاسيكية والتفعيلية وقصيدة النثر، والإبيجرام[9] وغيرها من الأشكال الشعرية المختزلة، وهو - بلا شك- يخطو خُطى حثيثة نحو التفرد والكمال؛ فإلى جانب سعي الشعراء إلى تبْيئة الهايكو من خلال نقل أحداث الشارع وتفاصيله المتشابكة، استطاعت اللغة العربيةُ خلق هايكو عربي أصيل، وذلك "بعبقريتِها وخصوصيتِها وتنوع إيقاعاتها وبميزة الاشتقاق التي تهبها تفردا عن بقية اللغات"، كما أمْكن لهذه اللغة الفتية "أن تستوعبَ جماليات قصيدةِ الهايكو، بل وتُضفي عليها طابعاً عربيا آسراً ومميزاً، تلك اللغة المعروفة بقوتها وثراء مفرداتها - والتي مكّنت الشاعر العربي من أن يكتب نصوصا طويلة مفعمة بالخيال وأساليب البلاغة الجامحة- قادرة على أن تروض نفسها وتكبح جماح المجاز المفرط الذي يحول دون بساطة الهايكو." [10]

يبقى أن نشير إلى جمود الحركة النقدية في عالمنا العربي ومدى قصور الأكاديميين بشكل أساسي وغيرهم من القائمين على المؤسسات الثقافية والإعلامية في أداء مهمتهم الأساسية، وتتبَع ما يُقدّم من إبداع وتحليله وتقييمه كي يتسنى للقارئ أن يطّلع على تجربة الهايكو العربية الوليدة، وعلى الرغم من قتامة المشهد النقدي، يبدو أن بارقة أمل لاحت في الأفق كان من شأنها أن تبدد بعضا من العتمة؛ فقد تم نقاش أطروحة الدكتوراه للباحثة الجزائرية "آمال بو لحمام" في (جامعة باتنة1) بعنوان " الحداثة الشعرية وبلاغة الإيجاز – الهايكو العربي بين الخصوصية والغيرية"، يُعدّ هذا البحث الأكاديمي أول مغامرة جسورة تخوض غِمار تجربة الهايكو العربية عبر مقاربة وتحليل العديد من النصوص لشعراء الهايكو من شتى الأقطار العربية: (مصر، فلسطين، المغرب، ليبيا، تونس، سوريا، الأردن، العراق، الجزائر، لبنان) والذين لهم إسهامات واضحة في تشكيل هذه التجربة الناشئة، وعلى الرغم من أن ما قُدّمَ من تجارب نقدية وأبحاث حول الهايكو غير كاف، إلا أننا نأمل أن يرتقي المشهد النقدي ليسير بموازاة مع هذا التراكم الإبداعي الهائل الذي يستحق الدراسة والتحليل.

***

حسني التهامي

................... 

1- الرنجا نوع من الشعر كان يتناوب على كتابته عدة شعراء، يكتب أحدهم المقطع الأول الذي يتكون من ثلاثة أسطر بإجمالي سبعة عشر مقطعًا، ثم يضيف الشاعر التالي مقطعا آخر يتكون من زوج من سبعة مقاطع لفظية في كل سطر، ويكرر المقطع الثالث الشكل الأول والرابع يكرر النمط الثاني، ويستمر الشعراء بالتناوب على هذه الوتيرة حتى نهاية القصيدة.

[2]- الزن هي مزيج من البوذية الهندية والطاوية، بدأت في الصين، وامتدت إلى كوريا واليابان، وذاع صيتها في الغرب في منتصف القرن العشرين. يرتكز جوهر الزن على الفهم المباشر لمعنى الحياة دون أن ينخدع بالفكر المنطقي أو اللغة.

[3] Matsuo Bashō’s haiku poems in romanized Japanese with English translations

[4]الساتوري: من أهم جماليات الهايكو، وهي لحظة تأملية من خلالها يتماهى الهايكست مع الأشياء من حوله فيدرك كنهها وطبائعها ويكوّن رؤية جديدة للعالم.

[5] "سابي وابي" مصطلح ياباني يرمز لفلسفة جمالية نشأت في اليابان وتركز على رؤية الجمال وسط كل شيء، وتعرف على أنها "" إيجاد الجمال في عدم الكمال" أو "الاكتفاء بعدم الاكتمال". 

[7]Kobayashi Issa, HaikuPedia, The haiku Foundation Encyclopedia of Haiku

[8] الهايجن هو كاتب الهايكو

[9] الإبيجراما هي نوع شعري قديم عرف في الآداب اليونانية القديمة والأوروبية والعربية؛، كانت تعني في الآداب اليونانية الكتابة المنقوشة؛ أما في الآداب الأوربية فقد تحولت في القرن السابع عشر من قبل جون دن، وأسكار وايلد إلى فن شعري قائم بذاته له سماته ومعاييره التي يمكن أن يتم الاحتكام إليها، عرفها  الشاعر الرومانسي الإنجليزي كولردج بقوله: «إنها كيان مكتمل وصغير.. جسده الإيجاز، والمفارقة روحه»، كما عرفت الإبيجراما في الشعر العربي باسم "التوقيعة".

[10] حسني التهامي – مزار الهايكو 

 

دراسة في الأعمال الشعرية للشاعر حسين عبد اللطيف.. وقفات مبحثية مع ديوان (لم يعد يجدي النظر) أنموذجا، الفصل الثالث المبحث (2)من إجرائية النواة الدلالية إلى متتالية الأفق التأويلي

توطئة:

تتشكل هواجس مقاربة الواقع النصي في مشروعية الشاعر الكبير (حسين عبد اللطيف) في حدود آليات تجربة نواتية ـ فعلية، شأنها شأن التجارب الرائدة في شجرة الشعرية العربية، وعند المعاينة في مسار هذه الأيقونة الإبداعية الفذة، نلاحظ ذلك التراكم النوعي في ممكنات (إجرائية النواة ـ الفاعل الدوالي) ـ حضورا متصلا ـ ومديات المنظور الآفاقي المرتبط أساسا مع نمو ذلك المركب في وحدات متتالية من التوهج الأفعالي والصفاتي والدلالي في مظاهر (المعنى المتعدد) والذي لا يمكن الإحاطة لنا بحاصلية متوقعاته إلا في كشوفات تأويلية من لدن الناقد أو الباحث الشعري. 

ـ إمكانيات الملفوظ في شواغل الذائقة المؤولة:

تتضافر إمكانيات الملفوظ في قصيدة الشاعر حسين عبد اللطيف تلازما مع طاقة إيحائية متداخلة ومتنافذة على خطاب صياغة الحالات الذواتية في حدود كيانات لغوية تمتلك مساحات شاسعة في (الانزياح ـ اللاممكن التصويري ـ التحليق خارج الحواجز الأحوالية) وهذه الاحتمالات والمعطيات لها جانبية خاصة من تجربة الشاعر في شعره.فالدال الشعري بمستواه النواتي والجمالي يرتاد المجاهيل في دينامية قولية بوصفها تجربة موضوعية ـ ذاتية، لأنه من جهة ما أكثر بلوغا في مكامن أدوات التخييل الحر، ليخلق من ذاته الكيانية انطباعا لدى القراءة بأن الدال ذاته متغيرا ومتحولا بمختلف وسائل حساسية المعنى المضمر.نعاين هنا على سبيل دراسة الأنموذج دلالات قصيدة (هكذا دائما):

في بلدة آمالي

لا توجد

أطلاقاً

شجرة

في الأيام

لم أتمكّن

من إيجاد الباب./ص228

قد تؤسس شفرات المخيلة وتشعباتها الاسلوبية، ذلك الدال الخبروي، الذي يتندر في وسائل اتصاله وحواره مع بنية (الدلالة ـ الرؤية) ففي جملة العنونة (هكذا دائما) تتجسد القابلية الزمنية على كينونة الحالات من تراتيبية وعلاقة ولغة، لتتضح من خلالها منطقة الزمن كديمومة احتواء للأنا المتوقعة داخل سياقها الاحتفاظي بالمسار نفسه من العادات والمقادير والأمزجة الاحوالية، لذا فإن جملة المفتتح (في بلدة آمالي) لا تشكل تحققا يقودنا إلى معطيات مستقرة من الذات وحالها، بل هو الضد من النوع الذي يبلغ تعقيدة حلول جملة اللاحق (لا توجد إطلاقا شجرة) وهذا المراد المتمثل باليباب والجدب، يعاكس ويناقض دلالة المفتتح وما تحمله من خطوط الآمال المحظورة في مستوى الصدور الدلالي (بلدة آمالي ـ اللاتحقق الفعلي بالأداء الممكن) بل أن المعطى الفقداني في تمظهرات الدوال، جعل يؤلف في ذاته ذلك الإيقاع التفعيلي الممتد نحو توافقية الدوال السابقة في النص، لتعكس محاولة غائبة في محاولة النجاة من هذه البلدة، ولكن الصورة بدت أكثر افتقادا للواصلة النقلية من عالم البلدة إلى الخروج منها، وكانت النتيجة المنشودة غياب حتى أبسط ملاءمات التحرر (لم أتمكن.. من إيجاد الباب) وقبلها كان عدم وجود الدال (الشجرة) هو بمثابة الإيعاز الاستنكاري على رفض الذات وجودها في هذه البلدة التي هي بالنتيجة القصوى وطنه المحكم بإغلاق معابر النجاة.

ـ إرساليات التتابع القسري المعاش:

يستغرق (المونولوج التبئيري) في دلالات المقاطع الأخيرة من النص.كحوارية تقابلية تستند في نموذجها على ملامح ضدية من الصفات والأسماء والمواضع الأكثر سوداوية في شواغلها الزمنية والأحوالية:

طوع العين: الليل

طوع الليل: الرمل

طوع الرمل: النسيان

ما أرحب هذه الصحراء

ما أكثر ما تبصره هذه العين!./ص228

وتتلخص آليات رحلة الذات المصفدة في شروعها الواصف، لأجل تبيين مدى ما عليه الجهات التي تحيا فيها الذات الشعرية، فهي تضعنا إزاء شرنقة ملغمة بوسائل حجبية مكينة (طوع العين = الليل / طوع الليل = الرمل /طوع الرمل = النسيان) فبهذا التمكين الوصفي الآسر كم يحتاج المرء من أشواط وأشواطا إلى تجاوز مصيرية الأقفال، بل أنه محتاج إلى جوامع قوى ملكوتية حتى تسير عليه ما اعتادة العين على أن تراه هكذا دائما.والراوي الشعري أمام كل هذا وذاك نراه ماضيا وحاضرا وغائبا في إعلانية أحواله المرهونة في جملة العنونة المركزية (هكذا دائما) .

ـ معادلات دال الشجرة وتقاويم الملابسات الشبكية:

إن حياة الشاعر ظاهر مزامنة بين محاور (بيولوجية ـ حسية ذاكرة وصفية ــ عنفوان التخييل) وطالما هي بالمعنى المشار إليه (حركة تأثير / تأثير انجذاب) تبقى معانقة لدليلها الشعوري في فهم الأشياء بالتأويل وخليط الكلام وصيرورة الممارسة. وعندما يتعامل هذا (الكائن الشعري) مع الظواهر الخارجية والداخلية في كينونته الأبجدية، يسعى إلى مجال التفاعل بشيئية ومادية الأحوال من حوله، فلا ينفك من الانتقال من الشعوري إلى الصور المتخيلة، لذا فهو يسعى إلى ربط العالم البراني للأشياء إلى حدود حيوية داخلية متحولة من الوصف الداخلي الذي يصل غالبا إلى دلالات ترميزية أو توليدية من فعاليات ماثلة بوجودها الحلولي كمصادر مادية لا غير.وبما أن اللغة تتأول عند الشاعر بالصورة الشعرية، فهذا دليل على أن الخطاب الشعري تأويليا يتمحور عبر ممارسة (الوجود الآخر في المعنى الآخر؟) من هنا تواجهنا قصيدة (أعطية الشجرة) حيث الوسائل الأداتية فيها تتراءى من بؤرة العين المؤولة:

آه ، يا لهباً أقتمَ من قصدير أتلفه المطر

يا حبّاً أحمرَ كالثمرة

يا لُبّ الماء حيث العتمةُ

تعمل سيفها الطويل في الأحشاء./ص229

تقودنا الجمل الاستهلالية في النص، إلى علاقات محكومة بـ (التشبيه ـ المشبه به) غير أن الاحساس الأدراكي في القراءة للنص، يمنحنا كل المسارية الكامنة بالوظائف الإجرائية، على النحو الذي يجعل من الصورة الشعرية بكواملها واجزاءها، تبدو معاينة في المتخيل المجسد بالإمكان التصويري.فالجملة العنوانية (اعطية الشجرة) ذات محددات سيميائية (واصلة ـ فاصلة) بل ربما هي الفضاء الذي تتوزع منه اشتغالات الفروع الكلية والجزئية.فالمراد هو بالمعنى المباشر هو عطاء الأغصان في الفسيل الشجري، ونفهم منه تصورا، إنها السلالة الأمومية والحضن الذي يمنح الأبناء (الثمار) جدوى أهمية التواصل في العطاء لها حتى تكن فيها أسباب الحياة.ولكننا نقديا لا نتعامل مع النص الشعري بهذه المفردات الأخبارية الباردة، بل نقول أن خطاب الدوال الأولى تتركز في علاقة مبعثها (الرؤية ـ الوصف ـ المجاز) وهذا الأمر ما تلخصت به الطائفة من هذه الجمل (آه، يا لهبا أقتم من قصدير أتلفه المطر .. يا حبا أحمر كالثمرة .. يا لب الماء حيث العتمة) وهذا الإخضاب في محامل الأوصاف، يطال بالبؤرة الصورية وبالإمكان الاستعاري، فمن خلال الجملة الأولى تتضح لنا مدى مستويات الموصوف، وهو يتعامل مع وظائف العاطفة كحالة (يا لهبا) وهذه العاطفة بدورها تحددها كينونة (الأنا = الكائن الشجري) فهي على لسان حال الراوي، تصف مدى عمق ذلك التعلق الوجداني داخل كينونة الفسيل الذي يتلقى الماء بحدود دفعات شافية، لأجل وصولها إلى بقية الأجزاء في الشجرة، فهذا الماء المتخلخل في المتن النباتي هو من أكثر الصفات بلوغا إلى الأغصان، وإلى درجة (أقتم من قصدير أتلفه المطر) أي بمعنى أن أهمية العنصر المائي داخل شرايين الشجرة، أسمى من ذلك الإشعاع القصديري الذي أتلفته سقوطات غيث الماء: (يا لب الماء حيث العتمة .. تعمل سيفها الطويل في الأحشاء) وهذا أيضا ما يكشف لنا عن العلاقة الكامنة في الوظائف داخل أشكال وتفرعات البنية المائية داخل الشجرة، ومدلولها الواضح بتركيز وتعادل في هذه الجمل الكاشفة للمعنى:

لأبنائنا وبناتنا

منهكة وقصيّة هي الطريق

كيف يصل المسافر حدود الضوء؟

الأكاذيب تربط الأيدي

الطائر يحط ويحلّق

ومن ثم لا يحلّق أبداً ./ص229

تتأكد لنا صورة الأحوال ضمن قابلية تأويلية مؤثرة، راح يسخرها الشاعر من أجل الإشارة إلى حيوات وحساسية الذوات التي تتصف بها جملة (لأبنائنا وبناتنا) ولو راجعنا بذلك المعطى التقويمي في بدايات القصيدة، للاحظنا كم من التشكيل والاندماج والتشابهية قد صرفها الشاعر، لأجل تقديم شجرته العائلية، فهو أعتى من ذلك القصدير الذي (أتلفه المطر) بل وأكثر وجدانا من ذلك الحب (أحمر كالثمرة) فهو بمثابة الطاقة التي تتجلى فيضا في الحيوات الغصنية (يا لب الماء حيث العتمة) فالشاعر تتابعا عبر جمله الشعرية، راح يجسد معادلة توصيفية استثنائية، قد تكون مكامنها متعلقة من خلاله الذاتي كدلالته الأبوية (أبنائنا؟) أو ربما من جهة أخرى فهو يلوح نحو مزالق دروب الأوطان وتيه الفرد والأفراد فيها (كيف يصل المسافر حدود الضوء؟) فيما تبقى مهمة المعادلة الموضوعية متعالقة في مواطن لاحقة من الترميز أو التشبيه (الأكاذيب تربط الأيدي) أو ما يصادفنا في جملة (الطائر يحط ويحلق) ثم في سياق الانفلات من الأوطان قد لا يبدو أن دال الفرد راغبا في العودة والإقامة على عشه المشيد على أغصان هذه الشجرة، كونها ملاذا غير موصوفا بأدنى درجة من الوثوقية ومحط الآمان (حراسنا في السهر .. باتوا كالخبز البائت في السهر) وفي جملة إطار هذه الدلالات التصويبية الهائلة تقدم لنا قصيدة (أعطية الشجرة) مدلولا ناجعا في مرايا التأويل الكاشف عن ذلك المعنى الآخر في السياق الآخر، وللقصيدة متواليات شيقة ورؤية لا تغادرها ضمائرية المخطاب والإظهاريات الدلالية المركزة.

ـ تعليق القراءة:

أقول لا يخفى على ذي بصيرة شعرية ما الحجم والمستوى في بنيات الشاعر حسين عبد اللطيف في مجموعته الشعرية (لم يعد يجدى النظر) موضع بحثنا.فالقصيدة في مشروع هذه المجموعة تتعدى أنماط المشهد الشعري عبر زمن الشاعر المرحلي والتحقيبي.لذا فإننا حاولنا بنصف أدوات الدارس أو المتذوق الشعري، مقاربة بعض من النماذج الشعرية في تجربة هذه المجموعة والأعمال الأخرى للشاعر الفذ، ولا أظن بدورنا بأن تجربة الشاعر حسين عبد اللطيف تتطلب دلالات ووظيفة ولغة أسمى مما عثرنا عليه من تجارب أعماله الشعرية الكاملة، دون مستوى مجموعته في الهايكو، فسوف لا نتعامل وإياها إطلاقا، وذلك لكونها لا تمثل هوية وأصالة وأنتماء الشاعر إلى مسكونية الشعرية التي تتحلى بها كل عوالمه ذات القيمة الابداعية الرائدة في الشعر والشعرية التي تجاوزت الممارسة الإجرائية المقولبة للقصيدة بلوغا نحو متتاليات قصيدة الأفق التأويلي والمعنى المجرد تجريدا محسوسا وعذبا.

***

حيدر عبد الرضا

 

تعددت مظاهر النقد السياسي في المقامات، فقد انتقد الأدباء سياسة الإهمال المقصود التي مارسها حكام المماليك والعثمانيين بحق العلماء، ومنها إهمالهم في أرزاقهم، ومحاربتهم فيها، وباعوهم المناصب بالرشوة، وجعلوهم فضلة عند توزيع الأرزاق. وانتقد الأدباء سياسة التهميش والاحتقار والاستبعاد التي مارسها ساسة المماليك، وبيّنوا أن الموقّر عندهم الذي يريق ماء وجهه على أبوابهم، وصوروا سعادتهم وهم يذلّون المثقفين. وكشفت المقامات عن سياسات التنكيل التي اقترفها الحكام بحق بعض العلماء، وتراوحت بين التوبيخ، والتعذيب، والسجن، والقتل.

تناول السيوطي هذا الموضوع في ثلاثة من مقاماته هي (مقامة الرياحين، والمقامة المسكية، والمقامة الياقوتية)، ولكن السيوطي لم يتناول الموضوع بطريقة تصريحية، بل عمد إلى الطريقة الرمزية، ولم يكن السبب خوف السيوطي من بطش السلطان ولكن ليكسب مقاماته نوعًا من الطرافة والجدة.

ففي مقامة الرياحين بعد أنْ يقدم الكاتب وصفًا للمكان وهو حديقة نضرة، يسأل الريان عن الخبر، فيرد عليه بعض مَن عَبَر بأنَّ عساكر الرياحين قد اجتمعت لاختيار مَن هو أحق بالملك، ومَن تكون له الإمرة على البوادي والحواضر، فجلس الريان لحضور فصل الخطاب، فكان الورد أول المتحدثين فنوه بمكانته بأنه نديم الخلفاء والسلاطين، والمرفوع على الأشرة، وأبان عن منافعه الطبية ومحاسنه الأدبية، وما ورد فيه من طريف الأشعار، واعتز بأنَّ أمير المؤمنين قد حماه وأنَّ له تقليدًا من الخلافة على سائر الرياحين، وله ابن يخلفه في الحكم عند الحاجة، وبعد أنْ ينهي الورد حديثه يقوم النرجس فيغض من قيمة الورد، ويذكر محاسن النرجس ومميزاته، ثم يفتخر بنفسه قائلًا: "لقد تجبست يا جبس، وأكثرك رجس نجس، وأنت قليل الحرمة، واسمك مشمول بالعجمة، وكيف تطلب الملك وأنت بعد قائم مشدود الوسط في الخدمة"(1).

تستمر المناظرة فيتحدث البان ويهاجم الياسمين، ثم يأتي دور النسرين فينتصر لأخيه الياسمين على البان، ثم يقوم البنفسج ملتهبًا قد بدت عليه زرقة الغضب، فيحط من شأن النسرين ويفتخر بنفسه وبما له من فائدة، ثم يقوم النيلوفر ويحشد الجيوش قائلًا للبنفسج: "بأي شيء تدعي الإمارة وتطاوع نفسك والنفس أمارة"(2).

تستمر المناظرة بين الآس والريحان وكل منهما يدعي بأنه أهل للملك، وتنتهي المناقشة بين الرياحين، فيتفق أهل الرأي على اختيار حكم عدل، فيختارون رجلًا عالمًا بالأصول والفروع، محيطًا بأغلب الفنون، ويذكرون له قضية النزاع، فكان جوابه: "ليس أحد منكم مستحقًا عندي للملك"(3)، ويرى أنَّ الفاغية (الحناء) هي الصالحة لهذا الأمر؛ لأنها كانت أحب الرياحين إلى سيد البشر محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويشير بذلك إلى أنَّ اختيار الأمير يجب أنْ يقوم على أساس ديني، وأنَّ هؤلاء الأمراء لا يصلحون لهذا الأمر، ولعلّه يشير إلى أحقيته بهذا الأمر؛ لأنه مجدد الدين على رأس المائة التاسعة كما يقول.

وقد اختار في المقامة المسكية أربعة من أمراء الطيب وهم: المسك، والعنبر، والزعفران، والزّباد، ولعلّه يرمز بهذه الأربعة إلى أربعة من أمراء المماليك الذين تنازعوا على الحكم بعد وفاة قاتيباي أي من سنة 902 ـ 906 هـ، ونجد السيوطي، يقول لرابعهم الزّباد: "فلست تعد مع هؤلاء من الأقران،... ومتى ادعيت أنك رابعهم قيل لك: اخسا، ومتى جاريتهم في ميدان السبق فكبا لك وتعسا..."(4)، ولعله يقصد به طومان باي المتوفى سنة 906 ه، وهو الذي تطلب لقتله.

أما المقامة الياقوتية فقد أجرى فيها المفاخرة بين سبعة من اليواقيت وهي (الياقوت، والؤلؤ، والمرجان، والزبرجد، والعقيق، والفيروزج) ومضمونها هو مضمون المقامات السابقة.

أما شهاب الدين الخفاجي فيخصص مقاماته في وصف رحلته في طلب العلم والبحث عمن يعطيه حقه من المكانة التي تليق به، لذلك فإنه ينتقد بعض الحكام والوزراء، ويخصص مقامة في ذم المولى يحيى بن زكريا فينتقده ويذمه وينتقص من مكانته، يقول: "فإنه مما صب من المصائب أنْ حمل على كاهل الدهر عيبة المعائب، نسخة القبائح، مسودة الفحش والفضائح، جريدة العيوب، تمثال السيئات والذنوب، إكسير الفساد، وشماته الأعداء والحساد، أنموذج الهوم، أظلم من ليل المرض والغموم، قحط الرجال، قائد جيش الدجال، قبيح الفعل والقول، إذا اعتذر عن إساءته غسل البول بالغائط، ..."(5).

ثم يستطرد في الكلام على هذا الرجل وينتقي ما أسعفه به قاموسه اللغوي من ألوان الذم والهجاء، فيقول: "ريقه الزقوم، وأنفاسه السَّموم، فهو لعَين الدهر قذىً، ولا ينطق بغير فحش وأذى، الجهل رداؤه، والجذام حليته وبهاؤه،... أقبح من النقم، وأسوأ من زوال النعم، أزنى من ظلمه، وأمد من غمه على غمة،... لا خير فيه إلا أنه لا يأثم له مغتاب، بل يحمد ويجازى بجزيل الثواب"(6).

فالشهاب ينتقد علماء الدولة العثمانية، لما رآه من تفشي للظلم بين أمراء الدولة وحكامها وعلمائها، إذ يقول في سبب إنشائه هذه المقامة: "فما حدث بها ـ أي الروم ـ لما سجد الزمان فارتفع كل أسفل، واتبعت نتيجة هذه الدولة الأخس الأرذل أن فوضت صدارة العلماء، ووجهت قيادة الفضلاء لشخص ملقب بأسود الخص، يُغْني دون عدد معائبه الرمل والحصى، فجرت بيني وبينه مخاصمة، أدت إلى المكابرة والمحاكمة فقلت في وصفه مقامة"(7).

ولأحمد البوني مقامة بعنوان (إعلام الأحبار بغرائب الوقائع والأخبار)، وكان البوني قد كتبها سنة 1106ه، وموضوعها هو علاقة العلماء بالسلطة والاستنجاد بصديقه مصطفى العنابي، والشكوى من وشايات العصر، ويبدأها بالحمد، يقول: "الحمد لله الذي جعل المصائب وسائل لمغفرة الذنوب، والنوائب فضائل لذوي الأقدار والخطوب، وسلط سبحانه وتعالى على الأشراف، أرباب الزور والفجور والإسراف،... وبعد،"(8). ثم يحذر العلماء ويدعوهم لسماع ما سيلقيه عليهم، يقول: "وبعد أيها العلماء الفضلا، النبلاء الكملا، فرغوا أذهانكم، وألقوا آذانكم، وتأملوا ما يلقى إليكم من الخبر الغريب، وما يرسله الله تعالى على كل عاقل أريب، فقد ارتفعت الأشرار، واتضعت أربات المعارف والأسرار، وانقلبت الأعيان، وفشا في الناس الزور والبهتان، وأهملت أحكام الشريعة، وتصدى لها كل ذي نفس للشر سريعة، بينما نحن في عيشٍ ظله وريف، وفي أهنى لذة بقراءة العلم الشريف،... إذ سعى في تشتيت أحوالنا وقلوبنا، وهتك أستارنا وعيوبنا، من لا يخاف الله ولا يتقيه، فرمى كل صالح وفقيه بما هو لاقيه، واعتد في ذلك بقوم يظنون أنهم أفاضل، وهم والله أوباش أراذل،... وما كفاه بث ذلك في كل ميدان لأنه يسر الشيطان، حتى أوصله لمسامع السلطان، فلم نشعر إلا ومكاتب واردة علينا من جانب الأمير بعزل صديقنا الشهير، من خطة الفتوى، مع أنه ذو علم وتقوى، تحيرنا من ذلك أشد التحير، وتغيرنا بسببه أعظم التغير ثم نادى منادي السرور، وقال ابشروا برفع السوء عنكم ودفع الشرور،... فقلنا يا هذا أصدقًا..."(9) فالكاتب في هذه المقامة يتحدث عن وشايات السلطة والحكام وأثرها على المفتين، إذ قام الحاكم بعزل صديق له يعمل مفتيًا، وذلك لرفضه مثل تلك الأعمال.

كما مرَّ سابقًا فإنَّ كتاب العصرين المملوكي والعثماني كتبوا مقامات في نقد المجتمع والسلطة الحاكمة، وذلك ينم عن ذائقة رفيعة لهؤلاء الكتاب، وأنهم عاشوا في المجتمع وناضلوا بالكلمة في توضيح هذه الإشكاليات وإبداء رأيهم فيها.

***

د. سحر ماهر أحمد

........................

(1) مقامات جلال الدين السيوطي:1/ 444.

(2) السابق: 1/ 472 ـ 473.

(3) السابق: 1/ 473.

(4) مقامات جلال الدين السيوطي: 2/ 1109.

(5) ريحانة الألبا: 284.

(6) السابق: 286 ـ 287.

(7) السابق: 284.

(8) أبو القاسم سعد الله: تجارب في الأدب والرحلة، المؤسسة الوطنية للكتاب، (د.ط)، شارع زيروت يوسف ـ الجزائر، 1983م، 91.

(9) السابق: 91 ـ 96.

للأديب ناصر الحلواني من دولة مصر الشقيقة

البحار والمحيطات من معجزات الكون بأسرارها وتفاعلاتها. أمام طبيعة مائها بملوحته الشديدة وكائناته وثرواته، وما حكي عنها من أساطير وحكايات، وما أثير بشأنها من قصص دينية عبر العصور، تنقشع أمام الإنسان حقيقة مؤرقة مفادها كون حياة الإنسان بلا علم تحمل في كنفها مخاطر الزوال. الحقائق المطلقة لا حدود لها ولا يمكن وصفها ومرتبطة بالذات الإلهية الخارقة. الحرية والتنشئة على الغوص في بحار العلم هو السبيل الوحيد لكسب هوامش العيش أرضا جغرافيا وزمانيا. العلم كالماء في ارتباطه بحياة المخلوقات والنباتات.

أمام الحقيقة هاته، يطل علينا الكاتب بهذا النص بدلالاته ورموزه. وضعنا أمام بحر صامت، يخيم عليه الهدوء حتى الأفق. هكذا يكون الأمر في موسم الصهد المشمس. تقوقع الإنسان في الأماكن الضيقة. قبل بواقع يزداد مرارة متواكلا على الآخر أو مؤجلا المتعة إلى ما بعد النهاية. تمر الأيام ويزداد مكان العيش اختناقا وصعوبة. ضراوة الأمكنة لاذعة محبطة. عدد المستسلمين لليأس واللامبالاة يزداد عددهم على مدى الساعة. حركية مفرطة بأنشطة غير منتجة. شيدت الأسوار بين البحار والمحيطات، مرتع التأملات وفضاء الكشوفات العلمية، واليابسة. الرأسمال الداهية فعل فعلته. شيد المعتقلات والتجهيزات غير النافعة التي أصابت التعليم والصحة العمومية والثقافة والخصوصيات التاريخية في مقتلها. حول الأرض إلى سجن كبير محاط بسور أزمان الوحشة والوَحدة. انعزل المعتقلون داخله. لا أفق لرؤاهم سوى السماء المفتوحة على المجهول. عجز نفسي للتفكير في الفضاء الكوني وانصياع وراء التماهي مع فضاء أرضي بنزاعات قاتلة وانشغالات بأدران أمانة الاستخلاف أرضا.

الاعتداء على البيئة يزداد حدة، وندرة المياه، سر استمرار الحياة، في تفاقم. تعددت مصادر تلويثها إلى درجة الاستسلام لاستهلاكها بموادها الضارة (تميل إلى السواد، لطحالب مجهدة، ترعى خيوط الماء الهارب .. تغيب جنباته المتعرجة (الدلو) في قتامة الماء... ما يحمل من أشياء لا يعلمون كنهها).

بعنوانه غير الفاضح يزرع القاص الأمل مجددا في النفوس. هناك فعلا "رؤيا خروج" من السجن الذي اكتسح بمطباته مخيال الجماهير. يمكن للإنسانية أن تكسر الأغلال وأن تحترف العلم والفكر في العلن. يمكن أن تشيد لنفسها عالما جديدا ينسيها مآسي التضييق السياسي والثقافي على العلم والمعرفة. باستطاعتها أن تتجاوز الفخاخ والفرامل وأن تنجح في بناء قصور الإبداع المعنوية بفتح المجال على مصراعيه أمام الناس لترطيب نفوسهم، وعقولهم، وأرواحهم، حتى لا تؤدي شدة الوحشة إلى تيبس وجودهم.

تجاوز اكراهات الحاضر برأسماله اللعين أمر ممكن. تذكر الزمن الماضي بإنجازاته قد يتحول إلى محفز للتفكير في المستقبل. فما أحوج إنسان اليوم للكائنات المخضوضرة النابتة في صرامة الأرض، لتصارع سواد العفن، وجفاف الريح.

رفع تحدي الإنعتاق والنجاة صعب للغاية. تساؤل الكاتب بشخصياته المبهمة أمر مشروع: "كيف يمكن لها أن تحملنا!"، “كيف ستخرج بنا". علينا فعلا أن نطرح على أذهاننا الأسئلة، ونغامر بقبول وجودها.

تشبث المعتقلون برؤيا الخروج إلى حين وعادوا إلى المعتقلات بنفس جديد مترقبين الفجر بأمل تكسير القيود.

في الأخير دفع بنا الكاتب في دهاليز الممكن المتعسر وكأنه يرسم لنا سبيلا واحدا ووحيدا للاستمرار في الحياة الدنيا. فتح لنا باب الأمل بتحقيق مراد كينونة الإنسان، فختم قصته الرائعة بالفقرة التالية "لم يبق سوى زنازين خاوية، وحراس يمسحون غبار الدهشة عن عيونهم الخشنة".

***

الحسين بوخرطة

......................

رؤيا خروج

قصة قصيرة لناصر الحلواني | مصر

- البحر صامت، يخيم عليه الهدوء حتى الأفق. هكذا يكون الأمر في موسم الصهد المشمس.

وفي قلب المحيط الرملي، المترامي الأطراف، بين المدن الصاخبة بهمومها، ووشيش البحر اللاهي، يقبع السور المغبَّر بأزمان الوحشة والوَحدة، يرتفع فوق المار حيث يلامس السماء، ويمتد حتى يكون كذؤابة نصل يطعن في الأفق، ويرسم تخوم سجن، ملقى في فضاء رملي متماهي الحدود.

وفي جوفه لم يكن صوت، سوى رقرقة ماء يتساقط بطيئا، من صنبور وحيد متعلق بالجدار الصلد، تهبط القطرات في ثقل، تغيب كتلتها في البركة الصغيرة المشكولة من قطرات سابقة، فتنشط موجات ماء تبدأ دائرية، ثم لا تلبث أن تنكسر هرمونيتها بالاصطدام بجوانب الحوض الإسمنتي الممتلئ إلى حافته، فتفر إلى شقوقه حيث تجبرها الخدوش على الاستسلام فتتماهى في خضوع إلى سائر الماء.

تنشق الأرض، ذات الصفرة الترابية المكتومة، حول الحوض، عن خضرة شاحبة، تميل إلى السواد، لطحالب مجهدة، ترعى خيوط الماء الهاربة.

ومن الزنازين، التي تنغرس قضبان نوافذها في صلادة الجدران، يخرج كل رجل في دوره، يحمل دلوه المعدني الصدئ، يفتح الصنبور لآخره، يضع دلوه في الحوض، يتأرجح لبرهة، طافيا على سطح بركة الماء القاتمة، وما إن يسكن ممتلئا، وتغيب جنباته المتعرجة في قتامة الماء، حتى يحمله صاحبه، ويمضي، ويجيء آخر، وآخر، وآخرون.

بعدما تنتهي نوبة النظافة، ويأفل نهار آخر، يعودون ليملأوا لحياتهم، نفس الدلاء، ونفس الماء، الذي لا يعلم أحد من أين يجيء، ويعجبون لسيولته برغم كل ما يحمل من أشياء لا يعلمون كنهها.

ويذهب كل إلى زنزانته، يضعون الدلاء في الزوايا، كذخائر ثمينة، ويبدأون نشاطهم المسائي، الذي يحفظون به بعض ما لديهم من وجود إنساني، فيستخرجون الأوراق المخبأة في فراغات الأبواب السفلية، والأقلام المدسوسة في أرغفة الخبز المركونة بإهمال، وكتبا يحفظونها في صدورهم، ويشرعون في مجاهدة النسيان والغربة، حتى لا ينحت الموت المحيط صخور صبرهم، وفي ترطيب نفوسهم، وعقولهم، وأرواحهم، حتى لا تؤدي شدة الوحشة إلى تيبس وجودهم، ويتهيأون ليوم الخروج، سواء إلى أرض، أو إلى سماء.

وتبقى القطرات الثقيلة مستمرة، تملأ الحوض بإصرار، يسمعونها في عمق الليل، تُذكرهم بالزمن الماضي فيهم، وبالكائنات المخضوضرة النابتة في صرامة الأرض، تصارع سواد العفن، وجفاف الريح.

وذات ليل، رآها الجميع، ناشرة أشرعة لها لون غريب عن ألوان حياتهم، قاموا، وكل يرمق عين صاحبه، فعرفوا، دون أن ينطق أحدهم، كانت رؤياهم جميعا.

وذات صباح، كان يمكن لكل من يذهب إلى الحوض أن يراها، مثل زهرة ليلك، تطفو في ماء الحوض، ومشرعة للشمس الجهورة، ولعيونهم.

رأى جميعهم شراعها الكتاني مرفرفا، متألقا، في رمادية الأفق الإسمنتي، بادية كالحلم الهائل في عقل طفل صغير، لم يتحدث أحد، لم يكن أحد يقدر على الكلام، كان لعيونهم الصوت الأعلى، وقالت كل عين كل شيء، لكل واحد.

ملأوا دلاءهم في حرص، وملأت التساؤلات رؤوسهم:

” كيف يمكن لها أن تحملنا!”، “كيف ستخرج بنا”.

ثم طرحوا عن أذهانهم الأسئلة، وغامروا بقبول وجودها.

وغادر كل في دوره، إلى زنزانته، لمُّوا أوراقهم المخطوطة، شروحهم، أذكارهم، كتبهم، وخطابات لم تُرسل بعد، وما كانت، وبضعة أشياء، ورؤيا واحدة، تطوف بالأنفس جميعها، الكامنة في معاقلها، ترقب الفجر، ولا تنام.

وفي غداة اليوم التالي، كانت قد غادرت الحوض.

وفي قلب السور البعيد، في الصحراء البعيدة، لم يبق سوى زنازين خاوية، وحراس يمسحون غبار الدهشة عن عيونهم الخشنة، وبضعة أقلام متناثرة، وورقات بيضاء تحملها هبات ريح هادئة، وصوت قطرات ماء، تهبط كثيفة، كزمان يمر، إلى طحالب الصحراء.

حر بن يقظان تحت المجهر

رواية حر بن يقظان لصاحبها الدكتور أمين الزاوي هي أم روايات المؤلف التي سبقت والتي ألفها بعد ذلك لأنها تعكس شخصية المؤلف المخزونة في علبته السوداء، حاولت أن انجز قراءة بنائية على منوال صاحب المنهجية البنائية العالم السويسري فرديناند دو سوسير 1857/1913 محاولا إيجاد مدلولا لعلامات جاء بها نص الرواية غير مبال بالمؤلف

لكن التلاحم الشديد بين المؤلف ونصه نفسيا وتاريخيا وإجتماعيا جعلني أفرض على نفسي نقد النص من خلال مؤلفه ونقد المؤلف من خلال نصه لأن النص مرآت تظهر فيها الصورة الداخلية والخارجية وهي في غاية التعقيد تدفعك مرة أخرى بأن تتخلى عن الأدوات السابقة لتفكك الخطاب تماما بعد تعريضه إلى تشظية تماما كما تفعل الشرطة العلمية في تفكيك النسيج العضوي للوصول الى معرفة الرسالة المحمولة على جنات الضحية كالجنس والنسب وغيرها من المعلومات تماما كما صاغ الفكرة التفكيكية جاك دريدا 1930/2004 ثم إحالة هذا المنتوج مرة أخرى على تحقيق آخر نقدا ثقافيا على أساس أنه منتوج ثقافي ذا بعد فكري يريد إقناع القاريء على حمل هذه الأراء، هنا أصبح الأمر مهما جدا لمعرفة الجزء الواعي للكاتب من خلال كتابته والجزء اللاوعي للكاتب من خلال الأنساق التي يخفيها النص المسرود عفويا من خلال عقله الباطني الذي صنعته الجراح والضروف، أو الحيلة في تمرير خطاب ما بعد الكولونيالية أي نفس الخطاب الغربي الإستشراقي المسموم الذي وضحه المنظر الفلسطيني إدوار سعيد 1935/2003 في كتابه الإستشراق.

قبل ان أدلج في دهاليز حر بن يقظان ينبغي أن نتعرف على بيئة وشخصية الروائي أمين الزاوي.

أمين الزاوي:

روائي وكاتب جزائري ولد في 25 نوفمبر 1956 ب بباب العسلة المنطقة الحدودية التي تقع على الشريط الحدودي الجزائري المغربي، تحيط بها الجبال من كل جانب، وقد كانت أثناء الثورة التحريرية قلعة منيعة للمجاهدين الذين خاضوا في جبالها المعارك الطاحنة، ثم لتصبح منطقة للتهريب بين المغرب والجزائر لكل السلع وحتى المخدرات...

سكن المنطقة خليط من البربر، شلوح وعرب، ولد أديبنا من أسرة متوسطة الحال من أب كان إماما خطيبا وأم بربرية

أخ لسبعة بناة، عرف عن الروائي كما ذكر ذلك في أكثر من مناسبة بأن ليس للمثقف خطوط حمراء، يقول الخطوط الحمراء هي الجهل، متحرر لا يخفي شيء في كلامه وحواراته حتى أتهم بالتطرف.

سيمائية العنوان:

حر بن يقظان هذه العلامة المركبة يمكن إدراك دلالاتها بمعرفة ذلك التشابه الفلسفي بين حي بن يقظان لإبن طفيل الذي كان حيا بحريته في البحث عن الله عز وجل خالق الوجود، تعتبر هذه الرواية أقدم رواية عربية ألفت من طرف إبن سينا 980م/1037م ثم اشتهرت عن طريق الفيلسوف ابن طفيل الاندلسي 1110م/1185م، ترتبط الشهرة السريعة التي حققتها قصة حي بن يقظان وتأثيرها المستمر بما تقوله القصة عن الإنسانية، وكيف تنشأ أفكارنا وكيف نصل إلى مفاهيم مثل السببية والدين والأخلاق والله، وهي تقدم نظرة جديدة عن العلاقة بين الحس السليم والملاحظة والتجربة والتفكير المجرد.

وفي هذا الصدد نجد أطروحة جون جاك روسو 1712م/1778م التربوية إميل حيث شبه روسو الطفل في هذه المرحلة 12-15من عمره بالمتوحش النبيل في العقد الاجتماعي، تزداد قوة الطفل بسرعة أكبر بكثير من احتياجاته، أما النشاط لدى الطفل في هذه المرحلة فيأخذ شكلاً عقلياً، لذلك هناك قدرة على الاهتمام المستمر، وفي هذه الحالة يجب على المربي أن يستجيب وفقاً لذلك.

كما نجد نفس الفلسفة في التحرر والبحث عن الذات والحقيقة في أقدم رواية إنجلزية 1719م روبنسن كروز وهي قصة كتبها دانيال ديفو وهي سيرة خيالية لشاب انعزل في جزيرة لضروف خاصة ثم بعد سنوات يقابل أحد المتوحشين ويعلمه بالتدرج بعض ما وصلت إليه الحضارة وفي النهاية يعود روبنسون كروزو ومعه خادمه الذي علمه إلى أوربا.

نفس الفكرة البحث عن الحل الفلسفي للحياة الصحيحة في ظل الصراع والتعصب لمختلف مذاهب الكنيسة وإستباحة دم ومال وعرض الآخرين في أشهر رواية ألفها المفكر والفيلسوف التنويري جان جاك روسو 1712م/1778م والمسمات الكنديد أو المتفائل والتي كانت من مسببات الثورة الفرنسية مع رسائله الأخرى وفي هذه الرواية بالذات يصرح أمين الزاوي أنه تأثر بروسو وروايته الكنديد.

القضايا الكبرى التي خاضها المؤلف في روايته ونقدها:

بدأ المؤلف سرده للرواية على لسان حر بن يقظان قائلا: أنا حربن يقظان، أنا الروخو إبن أمه، يحملني جرح على جنحيه منذ الصغر فلماذا أنا حر بن يقظان؟ ولماذا أنا إبن أمه؟ وماهو هذا الجرح الذي يحمله؟

هو حر بن يقظان لأنه وجد نفسه في بيئة فقيرة لم تحقق له ما يطمح إليه بسبب الضروف الاجتماعية التي تعرفها منطقته المعزولة، تقيده أفكار الأب العربي المتدين حيث تتحكم فيه أعراف بعضها صحيح وبعضها الآخر جهل متكلس بسبب ضروف الإستعمار والتخلف والصغير لا يستطع التمييز بين الغث والسمين فيجعل كل شيء في سلة واحدة ثم يزيحه ليصل بمغامرة التحرر الى مبتغاه من خير أوشر

من حكمة وتعقل أو شهوات ونزوات وخاصة إذا كان قد تعرض هذا الأخير الى ظلم واغتصاب وغيرها كما صرح المؤلف بذلك في روايته منه:

* قوله أتردد على المدرسة القرآنية التي لم أكن ارتاح فيها إلى دروس ذلك الفقيه الذي تخيفني نظرات عينيه العميقتين كبئر جاف، كنت أخاف من لحيته ومن تلك العصا التي لا تفارق قبضة يده اليسرى، ذراعه اليمنى كانت مبتورة، بوترت بسبب انفجار لغم فيها حين كان يبحث عن بقايا النحاس بين اسلاك شائكة من أيام الاستعمار ليبيعها في سوق الخردة، أكثر من ذلك كنت أخشى لمساته المتكررة لفخذي وأليتي، كان يحملني ويضعني في حجره، يجلسني بعنف على شيء منتصب كالعمود بين ساقيه ويطلب من إستظهار سورة الفاتحة.

*** يوم إنقطعت عن المدرسة القرآنية شعرت بالسعادة، ومن يومها قررت أن أتعلم الفرنسية، كي أشفى من جرح، تعلم لغة غريبة أخرى هو نسيان لغة ارتبطت في ذهني بحجر الفقيه، وبملامسته، وبأنفاسه المتقطعة وهو يعصر جسدي الصغير وأنا ساكت لا أجد سوى كلام الله أشد فيه، لم أصرح بذلك لأبي.

وهكذا يستعمل الكاتب لغة مابعد الكوليانية في تشويه الدين الإسلامي بتشويه معلميه ولغة معلميه وتحويلهم الى مجانين لا يصلحون لشيء

غير الحيوانية كما جاء ذلك في كتاب تاريخ الجنون ل ميشيل فوكو والذي يبرر الإستعمار كما جاء ذلك في كتاب الإستشراق للمنظر الفلسطيني إدوار سعيد فهوى لا يرى الإستشراق إلا خطاب إقصاء وإعادة تمثيل المشرق العربي ومغربه طبعا من أجل الهيمنة عليه وأخذ ثرواته لخدمة شبكة معقدة من المصالح الاستعمارية عن طريق المجتمع السياسي في السيطرةعلى العلم والأدب والأنثروبولوجيا واللغة، المجتمع المدني، وهو استعمال نظرية جرامتشي على الهيمنة.

* يصف أحد أقاربه الذي كفله في الجزائر العاصمة ليكمل دراسته بعد أن جيء به من منطقته المنعزلة لكونه متدينا وينتمي للإخوان المسلمين، لم يشفع الاطعام واللباس والاواء إلا أن يقول عنه بتهكم:

*** هكذا جاء بي سيدي مولاي الى العاصمة لمواصلة دراستي الثانوية، كان يخيفني خاصة في الليل أو عند القيلولة.

*أما شيخه محمود مرسي القنادسي يعتبر الفرنسية لغة الكفار والطريق الذي يوصل الى جهنم.

* أما زوجة سيدي مولاي فهي أصغر منه بنصف عمره وكأن مشكلة المتدينين الإسلاميين الزواج من الصغيرات أي يجرون خلف شهواتهم ولديهم شبقية زيادة عن خلق الله في هذا الكون مع أن الغرب يكاد يعبد الجنس بما لديهم من إباحية لا حد لها، ولها قنواة ومواقع تقدم الخدمة بلا انقطاع نهيك عن اللواط والسفاح بل حتى الجنس مع الحيوان، كل هذا يتم فيغض الطرف عنه ليبقى العربي والمسلم وحده الموسوم بهذه الحالة المرضية.

* الكلام في هذا لا ينتهي عند المؤلف في جميع رواياته يصف في موقف آخر لالا مولاتي زوجة قريبه الذي أواه أنها مرة تبادل النظر المريب مع الداعية ومرة تلاحق حر بن يقظان في السرير وهو نصف عار قال فتحتضنني بعنف وهي تتابع إقاع القراءة، وتارة يريد تخليصها من عيون الازهري الشرسة، وهو يبيت مع بنتيها في فراش واحد عاريتين ليمارس الجنس، وكأن كل من إعتنق الإسلام صار في عقدة من الكبت والجنس لا حد لها.

العلامة الثانية التي أعطت مدلولات وأنساق كثيرة تختفي بشكل خفي مستعملا الحيلة والدهاء السردي لتخرج من كهوف هذا الروائي المظلمة لا لتنوير بل خدمة أجندة ما بعد الكولونيالية في الجزائر بضرب اللغة العربية والإشادة بالفرنسية لتكون المهيمنة نهيك عن ضرب الوحدة الوطنية بخدمة القضية الفرنكوبربرية قوله إبن أمه أي بمفهوم المخالفة يتنصل من الإنتماء الى أبيه العربي يؤيد هذا الكلام علامات أخرى في بنية النص الروائي منها:

* قال: افكر جهة الأم والأخوال اكثر ما افكر جهة شجرة الأب والأعمام... امي أسافو وهو اسم أمازيغي يعني الشعلة... مربي الخيل يعقوب عسل الزمن اليهودي علمها الكتابة والقراءة بالفرنسية وتعلمت منه الحساب ولعبة الورق الاسبانية الكارطا هذا الرجل دوخ أمي كانت تحبه يساعدها على ركوب الفرس، الوحيد الذي كان يحتضنها ويشد خصرها.. حرب على حدود مصر تؤدي الى اختفاء اليهودي يعقوب عسل الزمن لتدخل امه حالة الحزن بينما المرأة العربية النايلية عشيقة ابيه والتي كانت سببا في انجابه المثيرة للشبق غواية الجسد.

* ثم يثير قضية أن المغرب العربي الذي هو امتداد لهجرات يمنية وفنقية قديمة زد عليها الفتح الإسلامي والهجرات الكبرى لبني هلال زد المقاومة للاستعمار ثم ثورة التحديد التي زادت من لحمة الوطن كما هو في بيان أول نوفمبر حيث يقول هذا الأخير أن المغرب بجميع اقطاره أمازيغ لما يقول:كما يقول العلامة عبد الرحمن بن خلدون: تنتهي حدود بلاد تمزغة حيث لا يرتدي الرجال البرنوس، ولا يتناول الناس الكسكسي كأكلة تعود تكون يومية وهذا تعليق بمحال وهذا لم يقله المؤرخ ابن خلدون اطلاقا، لكن كما قلنا هو الادب ما بعد الكولونيالية وأقلام مسمومة تخدم الغرب المستعمر، الكذب عن المؤرخ وتضليل القاريء لتشويه هوية المغرب العربي...........

*** يتحدث عن النضال الفلسطيني بشيء من الإزدراء بنقده أحد الطلبة الفلسطينيين في الجامعة يشاركه الغرفة ياسر البرغوثي من قطاع غزة الذي يشرب الوسكي الباهظ الثمن بينما هو يشرب البيرة، يقول عنه غادر الجزائر الى الولايات المتحدة الامريكية وانه سجل بجامعة لوس انجلس ويشتغل مع ابن عمه في مطعم لبناني كأنه يقول هل هؤلاء الفلسطنيين يستحقون المساعدة من طرف الجزائر.

* يحكي عن السلطة الجزائرية بوصفه للهواري ابن من كفله في العاصمة والذي إنخرط في الحركة الطلابية، اختار اقوى الحركات وأكثرها قربا من مركز القرار، كان دائما يتحسس الريح حيث مالت يميل خلف التصفيق والقفز على المنصات والتمسح بالشخصيات التي تزور المدرسة الوطنية للإدارة.والتي يتخرج منها الولاة والوزراء ورؤساء الحكومات والسفراء والمدراء العامون للشركات والمؤسسات الحساسة إنها المدرسة التي فرخت وتفرخ رجالات الدولة منذ تأسيسها 1964 دلالة كلمة فرخت وتفرخ تدل على الكثير من الأنساق نلخصها في لاحقا.

يحكي أيضا قصة حصوله على الاعفاء من الخدمة الوطنية، بعد ان سجل في مستشفى المجانين، وهذا يدل على ما وصلت اليه الدولة الجزائرية من الإنحطاط برغم وجود هياكل واطارات وانجازات بعد تشكل الدولة الجزائرية الحديثة، والتي مورست ضدها مخططات الاستعمار مثل الإرهاب والعشرية السوداء ثم بعدها نشاط المنظمة الإرهابية الماك.

خلاصة القراءة يقول جانبول سارتر الفيلسوف الوجودي إن القاريء للرواية لا يهتم بالمؤلف نفسه بل يريد أن يصنع ماهيته من خلال هذا الخطاب فماهي الماهية التي تتشكل من رواية حر بن يقظان وكل روايات المؤلف التي تحمل نفس الانساق التي تمس بثوابت الأمة الجزائرية في دينها ولغتها ووحدتها وأخلاقها وفكرها،وتقبل الغزو الثقافي ومن ورائه قابلية الاستعمار مرة أخرى كما قال مفكر العصر مالك بن نبي عليه رحمة الله.

وفي خاتمة هذه الدراسة النقدية والثقافية أأكد أن كل روايات المؤلف جميلة السرد بديعة الخيال الا انها تخدم أدب ما بعد الكوليانية وتخدم فكرة الاستشراق.

نفس الانساق في رواية شارع ابليس. عطر الخطيئة. الساق فوق الساق.معاهدة افيان.ففي رواية الباش كاتب يظهر رد فعل سلبي اتجاه بناء الجامع الأعظم فيقول:هذا الجامع الأعظم افسد جزءا من منظر المدينة لقد بني بشكل نافر وبعقلية بدوية شاذة.أقاموه على بضعة امتار من شاطيء الصابلات، الذي يعد من أجمل شواطيء المتوسط وهو المكان الذي كان يجيئه راجلا ألبير كامو للخلوة والسباحة والقراءة وتأمل جمال المدينة بحرا وسماء وهندسة.حيث كان يقيم في حي بلكور الشعبي علما أن ألبار كامو هو أديب عبثي لا يرى للوجود غاية أو هدف كما يظهر ذلك في روايته الطاعون، الغريب فهو يبكي عن المكان الذي كان يتفسح فيه كأنه نبيه المرسل.

هذا هو أمين الزاوي الروائي يعيد نفس الأغنية المسمومة معادات العربية، الدين والدعوة إلى تمزيغ الكبرى بكل الوسائل الإبداعية والإعلامية إلى أن يثبت غير ذلك في روايات أخرى نتمنى أن يرفق بوطنه وأمته وخاصة بعد إنكشاف الغرب عن حقيقته في الأحداث الأخيرة والتي أخرجت الشعوب الأوربية الى الشارع في مظاهرات وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه.

***

الأستاذ الشاعر رابح بلحمدي - البليدة الجزائر 

رواية حوارية متعددة الأصوات (بوليفونية) والحوارات الدرامية صيغت في ابتكار خلاق، غير مألوف في فن الرواية الحديثة، من حيث سياق الأحداث بالصيغة الحوارية أو ثنائية (السرد والحوار) وهي تؤدي ادوار مسرحية على المشهد العراقي الواقعي، بتقمص المسرح السياسي عبر تاريخ العراق السياسي، في عهد نظام البعث، وعهد التغيير بضمانة المحتل الامريكي، في مسائل حياتية بالغة الاهمية في العهدين، من حيث: السياسة والدين، والوعي الأيديولوجي، والحب والجنس، والحرب، وفي حرية الرأي والمعتقد، أو خنق حرية التعبير وتكميم الافواه، من حيث الانتقام والعنف الدموي. والجريمة والإرهاب، من حيث التجسس والترصد والمراقبة، وحتى توظيف الايروتيكية المبتذلة في الإغواء والاغراء لصيد الضحية، لكشف ما يحمل في داخله من اسرار، وهي جزء من المراقبة وجس النبض، في التفريق بين من الذي يدين بالولاء التام للقائد المفدى، ومنْ هو المشكوك بالولاء. من حيث البحث عن المصير الإنسان المعلق، والبحث عن الحقيقة من وسط الركام الفوضى الخلاقة.3110 كريم عبد الله

وفي مسائل الشك واليقين في وسط غياب العدالة الضائعة في ركام التيه، والبحث في مسألة الوجود واللاوجود، شخصيات تؤدي أدوارها المسرحية في المشاهد والحوارات، تترجم الواقع العراقي الحقيقي في العهدين، شخصيات حوارية تمتلك مساحات واسعة من الحرية والاستقلالية عن السارد العليم، او من (الكاتب) نفسه، الذي وضعهم في أدوار غير عادلة في اختلال التوازن. شخصيات ظلمها (الكاتب) بحجة اطلاق حرية العنان والحرية لها لتؤدي ادوارها بصدق على المسرح، لكنها اتضحت انها مؤامرة من الكاتب نفسه، حتى لا يشفع له تبريراته وذرائعه وتنصله من المسؤولية، لأنه وضعهم الى مصيرهم المحتوم، ينتهي أما، القتل، الإعدام، الانتحار. ليقول صراحة الكاتب (كريم عبدالله) في اعترافاته الصريحة وجهاً لوجه (وعندما أختفى كل شيء، وجب عليَّ أنا (كريم عبدالله)، أن انهي هذا الحلم الطويل، نعم كان حلماً راودني في الليلة الماضية) و(لكن هل عشت فيه كان هو الحقيقة، أم ظلال الحقيقية، هل كنت في حياة سابقة، هل أفكاري وتصاويري موجودة في كل مكان ما، وحدي سأحمل هذه الا آآآآآآآآآآه، ربما لأن الحياة هي الخدعة الكبيرة، التي نحتمي بها في زمن الحقيقة، التي لن تستر عورة الزمن) ص309. رغم هذا الاعتراف لكنه لن يسكت أصوات الاحتجاج المدوية من الشخصيات الحوارية، الذين قادهم الى هاوية جهنم. ولن يسكت تذمرهم وتمردهم عليه، ولا يمكن ان يختفي المؤلف وسط الظلام الثقيل، لأنه سبب لهم شرخاً عميقاً لا يضمد بالتبريرات، في زمن ضياع الحقيقة والمصير والقلق (لا وقت لديَّ للتسويغ، لقد خلقت لكم جميعاً الحياة عالماً جدلياً، كان بامكانكم عن طريق هذا الجدل، أن تتوصلوا إلى الحقيقة، أنني من خلالكم حاولت أن أكتشف أفضل طريقة لتفسير الظواهر، لقد كنتم جدلاً فكرياً في رأسي، اقلقني كثيراً) ص308. وكنوع من الرحمة والتعاطف تجاه هذا التمرد من الشخصيات الحوارية ضد المؤلف، لأنه قادهم في النهاية الى العالم السفلي، وحرمهم من حق الحياة، نتيجة اعمالهم الاجرامية، وهم يؤدون أدوارهم في مسرح الحياة والواقع. ولكن كل شيء محتمل ومتوقع عندما تنحرف الحياة عن مساراتها الساكة، عندما تفتقد العدالة والمعايير وسط الغبار الكثيف، يبقى قانون براقش وهو الفاعل والمفعول (ما جنت براقش إلا على نفسها) و(وسبق السيف العذل) ولكن هل المؤلف ارتكب جريمة ؟ أم أن الواقع هو الذي سبب أو هو من يتحمل وزر الجريمة، وليس الكاتب ؟، هذا القلق الذي ساور المؤلف لانه استنطق موجودات الواقع، ربما في غفوة منه ارتكب هذه حالة التأزم (ربما في أثناء غفوتي هذه حدث مالم يكن بالحسبان، لقد خلقت هذه الشخصيات من بنات افكاري، وساعدني كثيراً خيالي الجامح، فهي عزيزة عندي، وجميعهم أبنائي ونتاج فكري، هل كنت عادلاً معهم جميعاً؟؟!! وهل كنت عادلاً في توزيع الالم والاحزان عليهم؟؟!! أخشى أن يكون قد حدث اختلال التوازن، هذا الاختلال قد يسبب ثورة عارمة، لم أخطط لنتائجها المستقبلية!!) ص302.

لكن هذه الحقيقة المرة، في زمن جرائم البعث، الزمن الذي وضع الإنسان داخل شاشة كبيرة للمراقبة والترصد والتصيد، وكذلك في زمن التغيير، الدم / قراطية، وفي زمن كليبوكراتيا (دولة اللصوص)، الذي جاء بهذا النظام الهجين في ثوب الدين والمذهب، والانسان العراقي يظل يبحث عن مصره ووجوده في الحياة.

يتبع في القسم الثاني

***

جمعة عبدالله

في المثقف اليوم