قراءات نقدية

قراءات نقدية

كان في العشرين  من عمره عندما وصل الى باريس قادما من العاصمة الاسبانية مدريد، لم يكن يحمل الكثير من امتعة السفر باستثناء حزمة اوراق كان يحرص عليها بشدة، كانت مخطوطة روايته الاولى " المدينة والكلاب " التي بدأ الكتابة فيها في منتصف عام 1958، عندما كان يقيم في مدريد، وجد شقة صغيرة جدا بالقرب من حدائق اللكسمبورغ، كان قد انتبه بوضوح إلى ميله ان يصبح كاتبا، لكن عليه في هذه المدينة أن يبحث عن عمل يؤمن عيشته، فوجد وظيفة في وكالة فرانس برس، واخذ يعطي دروسا في اللغة الاسبانية ..يتذكر ماريو فارغاس يوسا انه ذهب ذات يوم إلى احدى مكتبات الحي اللاتيني تدعى "مكتبة متعة القراءة" ليشتري نسخة من رواية " مدام بوفاري " :" أمضيت الليل بكامله في قراءتها، أدركت عند طلوع الفجر أي نوع من الكتّاب أريد أن أكون، وأني، بفضل فلوبير، بدأت أتبين جميع أسرار فن الرواية " – يوسا جريدة الشرق الاوسط -.

بعد الانتهاء من الصفحة الاخيرة من " مدام بوفاري ادرك يوسا " ان لا أحد يرقى إلى مصاف الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير من حيث فضله على الرواية :" فمعه وحده ولدت الرواية الحديثة، فهو الذي الذي أرسى القواعد التي تحولت، بعد سنوات، إلى الأشكال والتراكمات اللامتناهية التي تفتقت عنها عبقرية جيمس جويس ليميزها نهائياً عن الرواية الكلاسيكية"، بعدهما سيأتي رجل خشن الطباع يعيش  في أقاصي ميسيسيبي، يعطي للرواية مرونة في الزمان والمكان مكنته من كل التجاوزات،  إنه ويليام فولكنر، هكذا يعلن يوسا، الذي وجد ان أكثر ما يذهل عند الامريكي ويليام فولكنر لم تكن جرأته الرائعة التي أتاحت له أن يكتب روايات مثل " الصخب والعنف" أو "بينما أرقد محتضرة"، بل :" الحيل التي كان يخدع بها الصحافيين عندما يعرّف عن نفسه بأنه مزارع يحب الخيول، ويرفض الحديث عن تقنيات الرواية "وبضيف يوسا:" يعود الفضل إلى فلوبير، وجويس، وفولكنر، في نشوء الرواية الحديثة ".

في أحد الصباحات، وفيما كان يحدّق في الأشكال التي خلفتها بقايا القهوة في الفنجان الذي تّقدمه له أمه كل يوم منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، لمح المخطوط الذي انتهى من كتابته (إغواء القديس أنطونيوس)، كان قد انتهى أمس من قراءته على عدد من الأصحاب الذين أجمعوا أن الحكاية مملة ولا تستحق أن تُخصص لها هذه الكمية من الورق، لمح على الصحيفة بزاوية عينه خبراً مثيراً، عن امرأة انتحرت بعد أن خانت زوجها، قال لأمه التي كانت تجلس على أريكة قريبة: "يا له من خبر تافه".. كانت الأم قد قرأت الخبر وهي تعرف تفاصيل الحادثة جيداً، فزوج المرأة التي انتحرت، وهو (أوجين دالامار)، كان تلميذاً عند والدة فلوبير في كلية الطب.

ظلت الأم تُراعي حالة ابنها الذي أصيب بمرض الصرع عندما أصبح في العشرين من عمره، وكان هو يكره الضجة التي يثيرها زوار البيت: «تمرضني، تدوخني. فأنا أشتاق إلى صمت الأسماك الذي عشت فيه حتى الآن».

كان في الثامنة والعشرين من عمره، يسعى لأن يكتب كتاباً يتفوق فيه على (فاوست) لـ (يوهان غوته). كتب في إحدى رسائله: "إن على الفنان أن يقدم نفسه عبر عمله من دون أن يوجد" .

سببت له الضجة التي أحدثتها روايته (مداوم بوفاري) الضجر، وجعلته أكثر عزلة، ووصفها «بالمرض» الذي يلاحقه، تعرف على (جورج صاند) عندما كانت في الستين من عمرها وقال ساخراً إنها أرادت اغتصابه. كتبت له في إحدى رسائلها: «إنك ولد رائع لطيف، على كونك رجل عظيم، وأنا أحبك من كل قلبي». خاف الزواج والأبوة وأفاده مرضه بإتاحته الفرصة له بالخيار.

في سنواته الأخيرة كان يخاف من الجنس بعد أن أصيب بمرض الصرع، كتب في إحدى رسائله أنه كاره لنفاق البشر، لكنه محبّ للأطعمة والملابس الفاخرة. يعشق الكتابة، قال إن القلم لا يقل أهمية عن مشرط الجراح، ولهذا قرّر أن يثخن الطبقة البرجوازية بجراح عميقة.. عاش في ظل عائلة برجوازية، إلا أنه لم يكن برجوازياً، وكانت نافذته على الحياة تطلّ على مجتمع تسوده المادة ويغلب عليه طابع الجشع، لذلك قرر أن يبتعد عن المجتمع واتُّهم بالمكوث في برج عاجي، لكنه كان يصف عزلته بأنها تحدّ وانفراد، ولم تكن انفصاماً عن المجتمع، إنها عزلة الفنان التي تزوّده بصور الحياة ليتفحّصها جيداً، قال ذات يوم: "لقد آن الأوان لأن أفتح عيني أكثر على هذا المجتمع، لقد رفضته لمعرفتي بعيوبه، سأفضحه، سأجعله محلّ اهتمامي وموضوعي في كتاباتي، سأحرّكه". لقد حاول فلوبير العيش مع العالم في أصعب مواقفه والكتابة عنه: "يجب أن لا نتوقّف عن الكتابة والتأليف، لأننا حين نتوقف ولا نفعل شيئاً، نفكّر في أنفسنا، وانطلاقاً من ذلك فنحن مرضى"، ولهذا جاءت معظم أعماله الروائية مليئة بالواقع وتدور حول الناس، وكانت الكتابة بالنسبة له مغامرة يمارس من خلالها حبّه وكرهه للأشياء، ونوعاً من الدفاع عن نفسه من الضياع، ونداء إلى شيء خالد، كبير أعظم من الحياة، فهي مهمة سامية، ولهذا ظل يردد: "لكم يحتقر الإنسان نفسه عندما يرفع عينيه أكثر نحو الأدباء العظماء، نحو المطلق، نحو الحلم". لقد قرّر أن يكتب الحقيقة مهما كانت قاسية، يقول في إحدى رسائله: " إذا كان لا بدّ لي من اتخاذ موقف فعلي من هذا العالم، فستكون مهمتي كمفكّر وكمثبّط للمعنويات. لن أقول إلّا الحقيقة، لكنها ستكون رهيبة، قاسية، وعارية".

  في حوار معه قال يوسا ان اكتشاف فلوبير بالنسبة له كان امرا أساسيا،ونجده يصف الكاتب الفرنسي بأنه حالة فريدة :" كان في بدايته، كاتبا عديم الموهبة. كان ينقل، يقلد، ثمة رغو كلامي وبدون شخصية. لقد أبدع نفسه عبر الانتظام والعمل والتحفظ والتقشف والالتزام المتعصب وفي النهاية أصبح عبقريا. كان الأمر مشجعا كثيرا لشخص مثلي، كان يفكر بأنه غير عبقري. لذلك قلت: ها هو المثال أمامك ".

غوستاف فلوبير المولود عام 1821 وتوفي عام 1880،جرّب الكتابة وهو في الثامنة من عمره حين بدأ يكتب عن الموت الذي يُطارده، وهو يتجول بين أروقة المستشفى الذي يملكه والده الجراح الشهير، كان أول ما تفتّحت عيناه عليه هو صراع الناس مع وحش خفي اسمه الموت، يقول: "كان مدرج المستشفى يشرف على حديقتنا، وكم مرة تلصصت عبر الأبواب لكي أرى الجثث المددة على الأسِرَّة". أراد فلوبير أن يرسم منظراً أدبياً لهذه الجثث، فكتب أولى قصصه التي سخر منها والدهُ، فمزّقها وجعلها طعاماً لنار مدفأة غرفة مكتبه مؤنِّباً إياه: "الكتابة مهنة الضعفاء والمجانين، أنت خُلقت لتمسك المشرط، لا القلم". بعد سنوات يكتب إلى عشيقته لويزا كوليه: "كنتُ ذلك الإنسان الذي بلا هويّة، والذي يريد الآخرون أن يشكلوا له حياته". هذه الحياة التي تأرجحت بين جديّة الأب وقسوته، وعطف الأم التي كانت تعشق القراءة، كان سريرها مزدحماً بالروايات والقصص الخيالية، ثمة كتب في كل مكان. في المساء كانت تنتابني رغبتان: حضن أمي، وكتبها التي تتحدث عن العشق".

في العاشرة من عمره حاول أن يقلّد كاتبه المفضل فكتور هيجو فكتب رواية قصيرة متأثراً برواية هوجو الشهيرة "أحدب نوتردام"، وحين قُدِّر له بعد سنوات أن يزور صاحب (البؤساء) في بيته، كتب لوالدته فرحاً: "أخيراً استمتعت برؤيته عن قرب، فحدَّقت به مشدوهاً، كما أحدق في إناء مملوء بملايين الجواهر الكريمة".

في الخامسة عشرة من عمره يلتقي بالمرأة التي سيحبّها طوال حياته، وقد خلّدها في روايته التي حملت عنوان (التربية العاطفية)، كانت تكبره بثلاثة عشر عاماً، وكانت زوجة لأحد كبار رجال الأعمال، حين كانت تنظر إليه، يصاب بالتعرق والارتباك. ويخبرنا سارتر في كتابه (أبله العائلة)، أن فلوبير كان يرى فيها بعضاً من ملامح أمه التي عشقها منذ الصغر، ونراه يكتب في (يوميات مجنون) أنه لم يحب في حياته سوى أمه وهذه المرأة التي تدعى (ماري شيزنجر).

بعد عام يكتب لأحد أصدقائه: "لا تتوهم أني حائر ومتردّد في ما يخص اختيار مهنتي في المستقبل.. في الواقع أنه لن تكون لي أية مهنة! إني عاجز عن العمل. وذلك لأني أحتقر البشر إلى درجة أني لا أستطيع أن أفعل لهم خيراً أو شراً. وعلى أية حال فسوف أدرس في كلية الحقوق وأتخرج كمحام. ولكني لن أشتغل في مهنة المحاماة إلا إذا طلبوا مني الدفاع عن مجرم كبير. وأما في ما يخص الكتابة، فإني أراهنك على أني لن أصبح كاتباً ولن أطبع حرفاً واحداً».

لم تكن الوظيفة تشغله ولا المستقبل، فقد كان مشغولاً بتتبع حكايات النساء، يتخيل صديقات والدته، ويسرح في صور النساء اللواتي شاهدهن في الشارع، إلى أن يعثر على (لويز كوليه) التي كانت مغرمة بالأدباء، حتى أن حكايتها مع فكتور هيجو كانت حديث الصالونات الأدبية، ويبدو أن فلوبير البالغ من العمر الآن خمسة وعشرين عاماً قد أحبها بإفراط، فلم تمض على لقائهما سوى ساعات قليلة حتى كتب لها خطاباً نارياً: "إنكِ المرأة الوحيدة التي أحببتها، باستثناء امرأتين: الأولى أمي، والثانية كنت عشقتها قبل عشرة أعوام، من دون أن أفاتحها أو ألمسها، لكنكِ الوحيدة التي أحيت في قلبي الأمل في أن أحظى بإعجابها، بل لعلك الوحيدة التي حظيت بإعجابها فعلاً".

وقد سخر فلوبير في ما بعد من هذه العبارات التي كتبها، وسرعان ما بدأت قصة الحب تفقد بريقها تدريجياً حتى كتب لها ذات يوم: «يبدو أنك لا تفهمينني على حقيقتي، فأنت أحياناً ترفعينني إلى مرتبة أسمى مني، وأحياناً أخرى تهبطين بي إلى درك أدنى مما أستحق، وهذا هو داء النساء منذ القدم، فهن لا يعرفن الاعتدال، ولا يُردن أن يفهمن المخلوقات المعقدة التي هي الغالبية العظمى بين البشر، ولقد تبيّنتُ منذ زمن أن من يريد أن يعيش حياة هادئة لا بد أن يعيش وحيداً ويحكم إغلاق نوافذه لئلا يتسرب إليه هواء المجتمع، وهذا هو السبب في أني عشت سنوات عديدة أتجنب رفقة النساء"، وتصف لويزا فلوبير بأنه كان قاسياً سريع الغضب فريسة للانفعالات والتقلبات العاطفية فتكتب بعد وفاته: «كان شخصية وحشية دائمة السخط".

على أن لويزا كان لها تأثير آخر على فلوبير غير قصة الحب العاصفة التي عاشها، فقد استمد منها ملامح بطلة روايته الشهيرة (مدام بوفاري) التي تفرّغ لها منذ أن كان في الثلاثين حتى السنوات الأخيرة من عمره.

بعد أن اشترى والده قصراً كبيراً يطلُّ على نهر السين، قرر الابن فلوبير أن يتخذ منه مسكناً، كان يكتب طوال ست ساعات في اليوم، لكنه يمزق ما كتبه في اليوم التالي، في ذلك الوقت يلتقي بالشاعرة (لويز كوليت)، التي سرعان ما أصبحت عشيقته، حدثها عن حيرته في الكتابة، كان قد قرأ عليها قصة بعنوان (البائسون) وما أن انتهى من القراءة حتى قذف بالأوراق من النافذة وصاح: "هراء.. كل ما أكتبه هراء، متى تبدأ يا فلوبير بدايتك الحقيقية؟".

قالت له كوليت: "يجب أن تعدل تماماً عن كتابة موضوعات غامضة، خذ موضوعاً من الواقع، ألم تقرأ في الصحف عن حكاية مدام (دلفين ديلمار)، إنها تستحق عملاً ممتازاً بشرط أن لا تقول لي أنك كنت أحد عشاقها». فأجاب: "للأسف لم أكن في قائمتها». قالت: "حسناً اكتب عنها إذن، لو كنتُ أمتلك موهبتك لما ضيّعت هذه الفرصة ". فقال لها: "وماذا لو تعرضتُ لمضايقة عشاقها، هل تريدينني أن أقضي بقية عمري بالسجن بتهمة التشهير بمواطنين شرفاء؟". وهنا ضحكت كوليت على عبارة المواطنين الشرفاء، وكانت تدرك في قرارة نفسها أن الموضوع استهوى فلوبير وسيكتب عنه.

أخذ فلوبير يبحث عن حكاية المدام ديلمار فماذا وجد؟ كان الزوج يوجين ديلمار، طالبَ طب يدرس الجراحة على يد والد فلوبير، وكان طالباً عادياً فشل في العديد من الاختبارات الجامعية ولم يستطع نيل دبلوم الطب، فأصبح مأموراً في إحدى دوائر الصحة. في ذلك الوقت تزوّج من أرملة تكبره بالعمر لكنها توفيت بعد سنوات، فأصبح وحيداً، وراح يبحث عن رفيقة لحياته، عندئذ قابل فتاة في السابعة عشرة من عمرها، جميلة ذات شعر أشقر وجسد متناسق كانت ابنة لواحد من مرضى ديلمار، تعلمت في دير وقد امتلأ رأسها بالأحلام التي تثيرها قراءة الروايات الرومانسية، في البدء كانت تعتقد أنها تزوجت من فارس أحلامها، لكنها سرعات ما اكتشفت أن ديلمار إنسان فاشل وثقيل الظل ولا يملك الطموح، كانت تحلم برجل مندفع مثير، لكنها بدلاً من ذلك تزوجت بإنسان غبي يصفه فلوبير بدقة: "كان حديثه مسطحاً مثل رصيف الشارع، إنه لا يستطيع السباحة، لا يستطيع المبارزة والإمساك بسلاح ناري، مشاعره عادية، يعانقها في أوقات محددة، وأصبح الجلوس معه غير محتمل، يحلو له أن يلتهم الطعام الذي أمامه بشراهة ثم يذهب إلى الفراش ليستلقي على ظهرة ويشخر".

ونجدها كثيراً ما تُردّد حين تكون لوحدها: "يا إلهي لماذا تزوجت"، وتحاول أن تتخيل ذلك الزوج الذي لم تعرف، رجلاً وسيماً وفطناً ومتميزاً وجذاباً، وتسأل في نفسها ما العمل؟ هل سيدوم هذا البؤس للأبد، كانت تتوق إلى الحياة الصاخبة، تبحث عن الحب، عن رجل يختطفها ويطير بها بعيداً، لقد قررت أن تفتح الباب المظلم، ففي مقابل احتقارها لزوجها وللحياة السخيفة التي تعيشها معه، نظرت في المرآة إلى جمالها وأيقنت أن بإمكانها أن تحوِّل أحلام اليقظة إلى واقع، وقررت أن تكتشف عالماً أكثر إثارة يحقق لها وجودها، فبدأت تبالغ في إنفاق الأموال على الألبسة والحفلات دون أن يعلم زوجها، وسرعان ما تراكمت عليها الديون، وبعد أن فقدت الرغبة في الملابس والحفلات، تقرر أن تغوي الرجال. في البداية كان العشيق جاراً لها يدعى لويس كامبيون، ثم عامل المزرعة، ثم كاتب العدل، ثم العديد من الموظفين الشباب. ويكتب فلوبير في الرواية: "لقد بدأَت تعيد إلى ذهنها بطلات الروايات التي قرأَتها، وبدأ هذا الفيلق من النساء العاشقات يغرد في رأسها ".

أهملَت زوجها وابنتها الصغيرة وأقاربها وجيرانها، لكنها في النهاية بدأت تشعر بالملل، كل هؤلاء العشاق الذين مارست الجنس معهم مخيبون للآمال، وأخيراً في فجر السادس من مارس عام 1848 بدأت المشاكل تحاصرها: زوجها أفلس، العشاق تبخروا، وهنا تقرر أن تتناول جرعة مميتة من الزرنيخ لتنهي حياة بلا طعم ولا أمل.

كان فلوبير مقتنعاً أن قصة ديلمار هي وسيلته الوحيدة لإثبات موهبته الأدبية، ولإسكات الأصوات التي كانت تقول إن هذا الشاب الذي دخل عامه الثلاثين سيظلّ مجرد مراهق أبله طائش يزحف وراء رائحة النساء. إلّا أن هناك مشكلة يجب أن يجد لها حلاً، فالقصة سوقيّة وقد نشرتها معظم الصحف، لكنه لم يستطع مقاومة سحر السيدة ديلمار وإصرارها على أن تتمتع بكل ذرة من جسدها، بقيت مشكلة مستعصية هي رفض أمه القاطع، أن يكتب عن موضوع هذه السيدة خوفاً من مقاضاته، وأيضاً لأنّ الموضوع مبتذل، لكنه في النهاية استطاع إقناعها، بعد أن قرر تغيير أسماء الشخصيات لتتحول السيدة ديلمار إلى (مدام بوفاري).

سارت الرواية ببطء شديد، ستّ صفحات في الأسبوع، قال لأمه: "يا لها من مهنة صعبة مهنة الكتابة، القلم أشبه بمجذاف ثقيل"، وظل يعمل سبع ساعات في اليوم على مدى أكثر من خمس سنوات، درس خلالها كل ما يتعلق بالروايات الرومانسية التي ربما قرأتها السيدة ديلمار أو مدام بوفاري، وحاول دراسة تأثير مادة الزرنيخ على وظائف الجسم، ومن حين لآخر كانت الكتابة تصيبه بالمرض: "عندما كنت أصفُ تسمّم إيما بوفاري، كنت أحس بطعم الزرنيخ في فمي، وقد عرّضني ذلك إلى آلام في المعدة وسوء في الهضم رافقني طوال حياتي. ويكتب إلى صديقة: «لقد توقفتُ عن الكتابة، لا أستطيع مغالبة دموعي"، ولم يكتف بشهادات الجيران ومعارف السيدة ديلمار، بل ذهب إلى القرية يستطلع مجريات الأحداث التي تتعلق بتفاصيل حياة البطلة، وفي الدوائر الرسمية ومراكز الشرطة اطلع على التقرير التالي: «يوم السادس من مارس 1848 انتحرت في قرية ري نورمانديا، سيدة في السادسة والعشرين من عمرها بتعاطي كمية كبيرة من الزرنيخ" . في النهاية يجد نفسه قد كتب أكثر من 1800صفحة من القطع الكبير.

لم يحاول فلوبير أن يقرأ الرواية على المقربين منه، ويكتب إلى أمه: "أشعر بأنني كتبت عملاً كبيراً، لا أريد أن أعرضه على هواة تحطيم الأدباء وحفاري قبور الأعمال الفنية، سأذهب بالمخطوطة إلى الناشر" . 

لكنه ما أن يسلّم هذه الحزمة الكبيرة من الأوراق إلى أحد الناشرين المعروفين الذي وجد صعوبة في قراءة خطه الرديء، وأيضاً لم يستهوه الاسم، فمن يشتري رواية اسمها (مدام بوفاري)، كما أن الرواية تحتاج إلى تعديلات سيقوم بها الناشر نفسه بدءاً من الاسم الذي سيتغير إلى (قلوب في العاصفة)، وانتهاء بمشهد الموت حيث اقترح الناشر أن تُقتل على يد زوجها بعد أن يضبطها متلبسة بالخيانة، لم يُرد فلوبير أن يصفع الناشر، لكنه طلب منه بكل هدوء أن يعيد إليه المخطوطة.

عشية اعياد الميلاد وفي تمام الساعة الثانية عشر من ليلة السبت 31/12/2022 كتب ألفارو فارغاس يوسا على صفحته في تويتر: "والدي يقول  وداعا للعام وهو في حالة جيدة يقرا الطبعة الأولى من رواية الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير (مدام بوفاري) التي يعود تاريخها إلى عام 1857 ". 

يكتب يوسا :" مضى أكثر من مائتي عام على ولادة فلوبير، وما زال الأسلوب الذي ابتدعه لكتابة الرواية حياً ونضراً. وفي ظني أنه سيبقى يافعاً ومتجدداً طوال المائتي عام المقبلة " .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

أشرنا في المقال السابق- من هذه الدراسة النقديَّة المقارنة في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)- إلى أنَّ البطل قد جمع بين الصفات النبيلة التي يتحلَّى بها الفُرسان، وبين كونه عاشِقًا وفِيًّا مخلِصًا لمن يُحِب.  وإلى أنَّ شجاعة (صادق) وفُروسيَّته تتأكَّدان في المواقف الحاسمة، التي تُمتحَن فيها فروسيَّة الأبطال.  ومنها إنقاذه الفتاة المِصْريَّة (ميسوف) من قبضة مُحِبِّها الثائر.  ومنها فوزه في المبارزة التي أُقيمت للترشيح لعرش (بابل)؛ فقد أثبت في تلك المبارزة بطولةً نادرةً وتفوُّقًا كبيرًا على خصمه (إيتوباد)، سواء في المرَّة الأُولَى، حين كان يرتدي لَأْمَتَه البيضاء، أو في المرَّة الأخرى، حين لم يكن عليه إلَّا ثوبٌ وقلنسوة؛ فتأهَّل بذلك ليُصبِح ملِك (بابل) وزوج ملِكة بابل.

ومن معاني الفروسيَّة في شخصيَّة (صادق) الحِكمة والفِطنة والحِيلة.  ومن الأدلَّة على ذلك فطنته في مجال القيافة.(1)  ومنها أحكامه الذكيَّة العادلة التي كان يُصدِرها في بعض القضايا المعروضة عليه في فترة وزارته في مملكة (بابل).(2)  وكذلك الطريقة التي استخرج بها من اليهوديِّ أموال سيِّده العَرَبي.(3)  إلى غير هذا.  وبذا فقد انتهت به حكمته وأريحيَّته، وانتهى به ذكاؤه وفروسيَّته النبيلة، إلى تولِّي مقاليد الحُكم في (بابل)، بعد أن تقاذفته صروف الدهر دهرًا طويلًا، وعلى الرغم من المعوقات التي وقفت في طريقه، ومنها (الحسد)، الذي يمكن أن يُعَدُّ محورًا فرعيًّا من محاور هذه القِصَّة، والذي كان محرِّكًا من محرِّكات أعظم الأمور فيها.(4)

حتى إذا أردنا معرفة بعض المؤثِّرات على حياة (فولتير)، وسبر علاقاته التاريخيَّة بالشرق الإسلامي- وفق المدرسة التقليديَّة الفرنسيَّة في الأدب المقارن- فسنعرف أوَّلًا أنه كان أحبَّ سيِّدةً مثقَّفة، تُدعَى (مدام دوشتاليه Madame du Châtelet)، وتعلَّقتْ به.  وفي سنة 1746م سعت (دوشاتليه) إلى ضمِّه عضوًا في المجمع اللُّغوي الفرنسي.  وقد أصبح (فولتير) وحبيبته من المقرَّبين إلى (الدوقة دومين)، زوج الابن غير الشَّرعي لـ(لويس الرابع عشر)، ومن أجل تلك الأميرة ألَّف بعض قِصصه، كـ«زديج أو صادق»، و«ميكرو ميجاس».  وهاتان القِصَّتان ساهمتا كثيرًا في مجد فولتير، وإنْ كان قد ألَّفهما لاهيًا.(5)

ولقد كانت صِلات الغرب بالشرق الإسلامي وثيقةً في القرن الثامن عشر، وكانت (فرنسا) بخاصَّة ذات صلةٍ كبيرةٍ بهذا الشرق؛ وذلك لقربها من منافذ حضارته في (الأندلس).  وما يعنينا هنا: الأدب القصصيُّ العَرَبيُّ، الذي عرفتْه (فرنسا)، شفويًّا ومكتوبًا، في القرون الوسطَى الأوربيَّة، من خلال «كليلة ودمنة»، و«ألف ليلة وليلة»، و”كتاب السندباد»، وغيرها من الآثار القصصيَّة.

ولعلَّ القرن الثامن عشر كان بداية التفاعل الحقيقيَّة بين الشرق والغرب، وبخاصة في (فرنسا).  وكأنَّه لم يكن لأدب القرن الثامن عشر منجًى من أن يعكس الاستشراق الفرنسي.  فرأينا آثار ذلك عند (فولتير)، الذي كسا كتبه الخُلُقيَّة قالبًا شرقيًّا.  واقتفى أثره، في (ألمانيا)، (لسّنغ).(6)    حتى لقد كان يُعاب على بعض الأدباء عدم تناول الأدب العَرَبيَّ ببعض الكتابات؛ كما فعل (فولتير) مع (بوسييه)، إذ عاب عليه تقاعسه عن أن يخصَّ العَرَب ببعض أدبه.(7) 

وكان “القُرآن الكريم» قد تُرجِم إلى بعض اللُّغات الأوربيَّة، ومنها الفرنسيَّة، في القرن الثامن عشر، فلم تعدم الآداب هناك بعض الآثار القُرآنيَّة.  وتُرجِمت قصص «ألف ليلة وليلة»، لأوَّل مرَّة، على يد (أنطوان جالان Antoine Galland)، في أوائل القرن الثامن عشر، 1704- 1717م.  فكان لها أثرٌ واضح، وبخاصَّةٍ في أواخر القرن الثامن عشر؛ لأنها كانت تحمل بعض القضايا الرومانسيَّة.  واستمرَّ تأثيرها طوال العصر الرومانسي.(7)  بل لقد ساهمت «ألف ليلة وليلة» في اندحار الكلاسيكيَّة، وقيام الرومانسيَّة في (فرنسا)؛ إذ استفاد كتَّاب الثورة الفرنسيَّة، ومنهم (فولتير)، أساليبَ جديدةً يتخفَّون خلفها لنقد المجتمع أو السياسة الفرنسيَّة.(9) 

ولنا مع هذه الآثار والعلاقات جولة أخرى في مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

..................

(1)  يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 22- 27.

(2)  يُنظَر: م.ن، 39- 44. 

(3)  يُنظَر: م.ن، 65- 66. 

(4)  يُنظَر: م.ن، 31- 34، وغيرها. 

(5) يُنظَر في هذا مثلًا: موروا، أندريه، (د.ت)، نصوص مختارة من فولتير، ترجمة: محمَّد غلاب، مراجعة: محمَّد القصِّاص، (القاهرة: المؤسَّسة العَرَبيَّة الحديثة)؛ زعيتر، عادل، (1955)، مقدِّمة ترجمته لـ«كنديد أو التفاؤل» لـ(فولتير)، (القاهرة: دار المعارف)؛ غصُّوب، يوسف، (1961)، مقدِّمة ترجمته لـ«صادق أو القَدَر» لـ(فولتير)، (بيروت: اللجنة الدوليَّة لترجمة الروائع).

(6)  يُنظَر: كبّ، هاملتون، (1954)، الأدب: (ضِمن تراث الإسلام، لجمهرة من المستشرقين، بإشراف: توماس أرنولد)، عَرَّبه وعلَّق عليه: جرجيس فتح الله المحامي، (الموصل: المطبعة العصريَّة)، 294.

(7)  يُنظَر: العقيقي، نجيب، (1947)، المستشرقون، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 168.

(8)  يُنظَر: هلال، محمَّد غنيمي،  (د.ت)، الأدب المقارن، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 216- 217.

(9)  يُنظَر: السامرائي، عبد الجبار، (1982)، أثر ألف ليلة وليلة في الآداب الأوربيَّة، (بغداد: دار الحُرِّيَّة)، 9- 10.

 

يسرد الكتّاب الفيتناميون الظروف التي أحاطت بزعيمهم هوشي منه ليكتب الشعر، تقول القصة انه كان موفداً إلى الصين أثناء الحرب العالمية الثانية ليتفاوض مع زعيمها في ذلك الوقت (شان كاي شيك)، حول صيغة التعاون بينهما ضد القوات اليابانية التي كانت قد اجتاحت حوالي نصف فيتنام، أُلقي القبض على هوشي منه بعد فشل المفاوضات، وأودع السجون الصينية لمدة عام ونصف.

أتاحت له تلك المدة الهرب من الفراغ المحيط به وما يثقل على قلبه ونفسه، من برودة جدران السجن الرطبة في الليالي الباردة التي يمر فيها الزمن بتثاقل، فلجأ الى الشعر، هنا توهجت باللمعان موهبته الشعرية الكامنة فيه، ووجد في طاقته الفرصة بعد طول حرمان ليتفجر ابداعه الخصب دفعة واحدة، كانت المحصلة أكثر من مائة قصيدة ضمّها ديوانه(ذكريات السجن)، نضجت في لهيب الصراع بين الحرية والعبودية.

الشعب الفيتنامي بطبيعته يحب الشعر ويحترم الشعراء، للشعر في نفوسهم تأثير سحري يبلغ أقصى مداه بمروياتهم التي تقول : ان الشعر هو الوسيلة لازاحة التعب، إذا ردده المسافر والحزين، هو كفيل ان يبعث الراحة لهما، الشعر والاغاني هما تسلية الليالي في فيتنام، حيث عادة الترنم بالشعر متأصلة في نفوس الفيتناميين منذ الأزل، يرددونه في مزارع حقول الرز ويحفظونه، فليس غريباً أن يكون هوشي منه شاعراً يكتب القصائد مثل سائر مواطنيه.

ولد هوشي منه عام 1890 في قرية جبلية شمال فيتنام ذات طبيعة قاسية طبعت أهلها على قوة الاحتمال والصبر ومغالبة الشدائد، وأنبتت في دا4695 هوشي منهخلهم الاستعداد للتمرد والنزوع الى الحرية، نهل هوشي منه منذ طفولته من نبع الاساطير، وشغف بقراءة الادب الفيتنامي والصيني القديم، يتذوقه باحساسه الغض، ومما يزيد من عمق هذا الاتجاه ان والده كان اديباً ومثقفاً، مطلعاً على المعرفة، مشاركاً في انتفاضات الشعب الفيتنامي.

كبر هوشي منه ونما معه اهتمامه بالأدب حتى اصبح شغله الشاغل، ومنه دخل عالم السياسة التي صاغت منه فيما بعد المناضل الثوري القائد لحرب التحرير من الاستعمارالفرنسي، ثم الرئيس الأول لفيتنام حتى عام 1969.

البساطة والتواضع صفتان مميزتان في شخصيته، كان يرفض أن ينسب إلى نفسه صفة الشاعر المحترف الذي تقتصر مهمته على أن يعيش في عوالم الخيال الجميلة، الشعر لديه معاناة حقيقة دائماً لنفس شاعرة تخوض بالكلمة تخوم المجهول والواقع تستخرج جوهره وتفتش عن كنهه اذ يقول:

لكنني في دجى السجن لم ألق رفيقاً أفضل/

يعزيني ويعينني على احتمال الوقت/

فنظمت الاشعار أملاً في الحرية

الشاعر يحاول أن يبرر الدافع الرئيس لكتابة القصيدة، فيجده في الفراغ المحيط به، لكنه ينتقل بالقارئ الى خيار آخر فليس أمامه الا أن يكون مقاتلاً أو شاعراً، فاختار الثورة:

انساب ضوء القمر من زجاج نافذتي

تسألني أن اكتب فيها شعراً

لكنني كنت في شغل عنها اذ كنت احمل سلاحي

دفاعاً عن بلادي

فلم استطع ان ألبي الطلب

لم يخمد الشعر في روح الشاعر، انما نضجت ينابيعه في اعماقه ونضجت تجربته وازدادت عمقاً وثراء بعد أن عمّدتها النار وأصقلتها الخبرات القتالية:

كان القدماء يطربون وهم يتغنون بالطبيعة

بالنهار والجبال والدخان والثلج

بالزهور والقمر والرياح

لكننا سندرع بالصلب اشعار هذا الزمان

ونعلم الشعراء كيف يقاتلون

يكاد القارئ يلمس بوضوح الطابع الانساني في قصائد هوشي منه، الانسان موضوعه، والتأمل في المواقف والاحداث المرتبطه بصراعه اليومي، كانت مهمته الاولى  أن يعيد المعاني القديمة ليصبح شعره دفاعاً عن الروح الفيتنامية وحماية لغته من السقوط في هستيريا بل الجنون الذي اراده المحتل الفرنسي والامريكي وكتب في إحدى قصائده:

دفعت العيون بالمعاني

من قبل أن ينطق اللسان

وملأت الدموع الأجفان

ياللعذاب......

اذا كانت صورة البطولة في شعر هوشي منه هي صورة فيتنام، فان هذا لا ينفي التجارب الخاصة التي اتخذت صورها من ميدان المواجهة:

هو.. خلف القضبان/وهي... امامه، قريبان غاية القرب/لا يفصلهما سوى شبر واحد/ وعلى البعد تبدو زرقة السماء/فلتخشع كل الأصوات....

كان هوشي منه نفسه مقاتلاً، ومن هذه المعاناة الخصبة لمعنى المقاومة، ومعنى الوطن، جاء شعره بمثابة خط الدفاع الأول عن الروح الفيتنامية، كان يعتقد ان مهمة الشاعر مترادفة مع مهمة المقاتل، كلاهما يمضيان الى آخر الشوط، أهميته ترجع الى انه عبّر عن الانفعال بالتجربة الانسانية العميقة، في محاولة اقتلاع الشاعر عن ارضه، هذه المحاولة تكون في النهاية هي المادة الشعرية التي تأخذ المكان الأول في شعره، المكان يصبح قوة تطالب بتعابير جديدة، يتسع فيها مفهوم الوطن كفكرة، يتسع مع اتساع الشعر، المكان له عمق في قصائد هوشي منه:

تحت ضربات المدّق تئن حبات الأرز/ لكن بعد انقضاء المحنة تعجب لبياضها/وهكذا الناس في هذا العالم/لا يصقلون رجالاً الا تحت ضربات المحن.

في هذا المقطع يبتعد الشاعر عن الخطابية والمباشرة،  بمقدار ما يحرص  على الوفاء بمضمون العمل الشعري، يحرص في الوقت ذاته على الوفاء بفنية الشعر، في توظيف الرمز، واستدعاء التاريخ، والحقيقة ان هوشي منه وفق في  لغته الخاصة ومفردات شعره الذي يتميز بتعدد الصور الجزئية المتناثرة، واللمسات السريعة والاقتراب من اليومي بما يضفي عليه تدفقاً وحيوية يعمقان احساسه الدرامي في الحياة.

في 2 أيلول 1969 توفي الشاعر، وهناك قول يردده أبناء دول جنوب وشرق آسيا التي تنتشر فيها نبتة البامبو: (في سهول البامبو ليس أبهى من زهرة اللوتس)، وفي فيتنام ليس هناك من لا يعرف الأغنية الجميلة التي تقول: في فيتنام كلها ليس أبهى من اسم هوشي منه.

***

جمال العتّابي...

تستأثر القصة القصيرة الاهتمام الاستثنائي على مستوى الخلق الفني والمعاينة النقدية واستجابة التلّقي كونها تنطوي على خطاب ليس من السهل الإمساك به بيسر وسهولة فهو أقرب إلى ما يصطلح عليه بـ(الفن الأصعب) و(السهل الممتنع)، فلا إغراء اطلاقاً بالاختزال والقصر فلا يمكن قياس الأفكار والثيمات (الوجودية) الكبيرة بالحجم والمساحة والتراكم الاستطرادي، وتبقى أسرار الكتابة للقصة القصيرة لدى القاصة تماضر كريم مرهونة بعوالمها السريّة وشفراتها المختزلة وهي تتوغل في سحر اللحظة الهاربة وتجسيد الومضة الدالّة ومن خلال انتقاء الشخصيّات المأزومة والملتبسة، شخصيات تتسم بروح الفردانية المتوّهجة وهي في خضمّ الصراع مع المحيط (السيوسيولوجي) والمكاني اللّحظوي الذي تكابده وهي تكشف عن فداحة التناقض عبر استبصار المفارقة التي تكشف التناقض بين الذات والموضوع، والشخصيّة والموقف، والإستهلال والخاتمة والمغزى أو المحتوى الإنساني وبين أنساق الشكل التعبيري التي تتشكل منها تلك الاطلالة الذكية على واقع متّسع إنَّه اختزال للحظة تعكس أفقاً شاسعاً وموقفاً وجودياً ولذا نجد أن نمط الشخصيّات في القصة القصيرة تختلف عنها في أجناس السرد الأخرى كونها تكوينات وإشارات وعوالم ثريّة وهي عبارة عن سؤال وجودي ولحظة تجلّ عميقة وثرية ولقد وجدنا ضرورة هذا الإستهلال القصدي لتأسيس قصديّة المقاربة النقدية لمجموعة القاصة الواعدة تماضر كريم (هذا ما حدث في مطار بغداد) الصادرة عن (دار أبجد للترجمة والنشر- الحلّة 2023) ومنذ الدلالة المكانية وتأطير الحدث (المفارقة) يضعنا العنوان إزاء عوالم قصصيّة ترصد نماذج من الأبطال الحالمين، العالقين والمتمركزين حول ذاتهم وعوالمهم الخفيّة وهم يقاومون (الخارج) بالتطلّع ومحاولة التواصل والتماهي مع الواقع أو بالابتعاد والرفض والانكفاء على خيارهم وتكوينهم الداخلي؛ لذا نجد معظم القصص تشتغل على هذه الثنائية من صراع الذات مع نفسها أولاً ومن ثمّ صراعها مع الخارج، وبما يفضي إلى نوع من الصراع (السايكولوجي) وغالباً ما يتوّج هذا التناقض بحدوث المفارقة، نظراً للمسافة التي تفصل بين حلميّة و (نوستالوجيا) الشخصيّات وبين تعقيدات الواقع واشتراطاته اليوميّة.

وأغلب شخصيّات المجموعة تعاني وضعاً قلقاً وهي تنشطر باتجاه (فعل وقناعات الذات) وبين الانجراف أو الميل إلى ما يتطلبه (الموقف) الخارجي الذي يميله الواقع في حركيته وتحوّلاته التي قد تشكّل نقطة الصدام والافتراق بين العالم الذاتي والعالم الموضوعي وغالباً ما كان أبطال المجموعة يعبرّون عن صورة هذه المفارقة عبر تمثّلات متباينة ومختلفة بالرفض أحياناً أو التمرد أو القبول أو الاكتفاء بالتأمل والعودة إلى الذات.

وقبل أن نتناول نماذج رئيسية في هذه المجموعة نجد من موضوعية التحليل الإشارة إلى بعض الظواهر الفنيّة منها، إتصّاف القصص بالاختزال الشديد والرشاقة والتكثيف السردي والابتعاد عن الاطناب والاسترسال المخلّ بحركة التتابع، وهذا ما جعل النصوص تنطوي على ايقاع – صوري سريع – يُعنى بتوصيل الفكرة من دون إطناب أو فائضيه أو ترّهل سردي، إلى جانب سيل العناوين إلى استخدام كلمة أو اشارة أو مفردة موصوفة واحدة أو أحياناً جملة اسمية واتَّسم القص أيضاً ببراعة الاستهلال ومحاولة الاشتباك المبكّر مع الحدث من دون لفّ ودوران إلى جانب العناية بوضع النهايات التي تعمّق روح المفارقة التي تعكسه وتتمركز حولها نصوص المجموعة فالقاصة تماضر تتقن فن النهايات القصصية ففي قصة (قرار) نرى الحبيبة مترددة للسفر مع الحبيب المهاجر وهي (عالقة) بالعناية بأمّها المريضة وأختها وتنشطر في لحظة تجلّ بين اللجوء إلى حقيبة السفر التي طالما أعدّتها، وبين رفض فكرة ترك عالمها القديم، وهذا هو خلاصة الصراع في هذه القصة... إنَّه صراع داخلي متصاعد، "أنا وأمّي وشقيقتي وحفنة من الحزن المتراكم وأشجار الحديقة الكالحة والكتب المهجورة، لم يتغيّر شيء البتة عدا أنّي أفكر الآن في اللّحاق بك، لا يمكن أن أسحق رغبات هذه الأرواح للأبد، كل يوم أعدّ حقيبتي هل تدري؟... وأتفقد جواز سفري ثم ألقي نظرة على أمي وشقيقتي وهما نائمتان، أنهما في حاجة إلى من يغطّيهما، إذا صرت إلى جانبك لا أعلم من سيفعل ذلك". (المجموعة: 6). ومن ثمّ فإنّها كانت مشدودة إلى عالمها الداخلي ولم تستطع أن تحسم الأمر، وهي قصّة تشير بطرف خفي إلى ما فعلته الهجرة من تبعثر الواقع وانشطار الذات والمفارقة. أنّ عنوان القصة (قرار) غير أنّ (التردد) هو الذي يشيع فيها وتلك مفارقة أخرى، والجميل أن القصة اكتفت بالساردة بلا اسم لتدل على كل النساء وبضمير المتكلم والسرد الذاتي وهي تتحدّث عن رجل بضمير المخاطب لحضوره الروحي على الرغم من هجرته.

أما قصة (الحالمة ورجل الدين) فهي من النصوص الثرية والحاذقة في تجسيد روح المفارقة عبر تمثّل أحداثها، فالبطلة (حالمة) و (عالقة) بفكرة الزواج من (رجل دين) كونه يمثّل لها صورة للمثالية والتصالح والصدق الذي ينادي به دوماً، ويتحقق حلمها هذه المرّة وتتنامى روح المفارقة حين تكشف بعد زمن أنه أقدم على الزواج (المؤقت) من امرأة أخرى ويجن جنونها وتكتشف حجم الخديعة، ويبدأ الصراع بين الذات والآخر أو بين داخل الشخصيّة وخارجها أو بين الحلميّة والكابوس وندرك أن المفارقة بوصفها فعلاً تناقضياً تشتغل أو تستثمر هذه الثنائيات وغيرها التي أوصلت البطلة إلى حافة التأرجح: "لقد اشتد دوار الأرض بيّ وغلبني الغثيان، لا أتذكر أنه كان احساساً بالغيرة أو الغضب أو الألم، كان ثمة احساس بالخذلان والخجل، لا أعرف مم كنت أخجل... من نفسي... من حلم الطفولة؟ لم يكن بحوزتي الوقت الكافي للنسيان، فقد تكررت لحظات صدقه القاتلة، وتكررت الأسباب، كان يتزوجهن بدافع الشفقة أو الحب أو صيانة لهن من الوقوع في المحرّم أحياناً، لأنه يرغب بذلك فقط هكذا كان يأخذ كفي ويقبلها ويخبرني أني المرأة الأغلى". (المجموعة: 13- 14). والساردة المشاركة أيضاً بلا اسم وكذلك الزوج لأن القاصة أرادتها مشكلة إنسانية وليست خاصة وتجسد في قصة (دعوات ضائعة) حالة انسانية متقدمة حين تقف الزوجة مع زوجها الذي أصيب بداء السرطان وتبقى معه تعينه وتساعده وتقدّم له العلاج وكان سّر عذابها أنّه يذوي أمامها وهذه المفارقة بين حبّها له ووقوعه بهذه المحنة هي مفارقة قدريّة ذات معنى (فسيولوجي) بينما نجد المفارقات الأخرى قد يكون سببها الدافع الاجتماعي أو النفسي أو الاقتصادي (أو المصادفاتي)، كما سنرى "وجدته جالساً بهدوء كانت كفاه مفتوحتين بطريقة ما، وعيناه نحو السماء.. متى تفهم أن لا شيء سوف يتغير، الأمور تمضي لحالها هنا، هل تعرف حسبتك ميتاً، تعال معي إلى الداخل، تعال ننتظر المعجزة يا عزيزي، لن أصدّق الأطباء الذين قالوا: أيّامك معدودة، وجميع الأطباء كاذبون ستشفى وسنخرج معاً من جديد، اضطررت إلى جرّه نحو الغرفة كان ساكناً تماماً مثل جثّة، وضعت الوسادة تحت رأسه"(المجموعة: 20- 21)، والقصة أيضاً بلا اسماء للشخصيّات والقص بضمير المتكلم في (سرد ذاتي) والنهاية رغم قساوتها فيها تعاطف انساني مؤثر. من النصوص المتميزة بعمق الفكرة وجمال المفارقة، ما نجده في قصة (حدث عند النهر) وتلك العلاقة الإشكالية بين المرأة والرجل الذي يقودها إلى حافات المغامرة والخوض في المخاطر واقتحام الحياة بسبب أن طبيعة الحياة وطقوسها وقواعدها تتطلب من الإنسان أن يكون شرساً متماهياً مع الصخب والمخاطر وتعلّم كل أنواع المغامرة بكل شيء لكي يكون (انساناً سوياً)، والقصّة بالسرد الموضوعي أيضاً بضمير الغائب والمخاطب "ستحتاجين أن تكوني ذات قبضة حديدية ذات يوم، العالم ليس آمناً، تحتاجين حتّى أن تبصقي وتشتمي وتركضي من الخطر وتقفزي نحن بلد متوحّش واعداؤنا كثيرون وأنا لن أكون بجانبك دائماً". (المجموعة: 28)، ويقودها الى كل مغامرة حتى استعمال السلاح وقتل الطيور بضراوة لم تتوقعها وهي مستسلمة لتوجيهاته، وهنا نجد الذات المتصالحة مع عالمها وهي تخرج تحت سطوة المفارقة التي يفرضها الواقع، تخرج باتجاه عوالم أخرى متناقضة مع قناعاتها ورسوخها الذاتي، والقصة تطرح بنسق فكري واقعي القيمة التي تكمن في الاضطرار لخلق كينونة متماهية مع الواقع، ونحن نرفض هذا الواقع ولكن المنطق الغريب يفرض علينا السير معه والانغمار فيه ونجد هنا افرازات هذه المفارقة الفادحة والوضع الإشكالي الذي ينتج عنها الاضرار التي تحدث بسبب بؤر الصراع والتناقض سواء أكانت اضراراً ذاتية أم موضوعية، واتسمت القصة بالاختزال والتكثيف وعمق المعالجة ورصانة الفكرة واختيار زاوية الصراع وتناميه، وبقيت بلا ذكر لأي اسم للشخصيتين.

وفي قصة (ارتطام) هناك تمثّل لمفارقة (قدريّة) حين يتعرض الشاب الحالم بلقاء أمّه التي رحلت من أجل جلب الزهور لها، يتعرض إلى حادث ارتطام لم يتضح سببه يحرمه من هذا الحلم ونرى أغلب الشخصيّات تعاني هذا الارتكاس بين الحلميّة والكابوسيّة بين رسوخ الذات وصخب الآخر أو المحيط أو الصراع الناشب بين الداخل والخارج، بأسلوب موحٍ ومؤثر، تجعل القاصّة الشاب يسرد ما في نفسه ويحس بحاضره وهو ميت تلك مفارقة فانتازية، إذ نجد معاناته مع زوجة أبيه وحلمه الأثير بزيارة الأم التي أحرقت نفسها ورحلت، والقصة عبارة عن شفرات متتالية وكأنّها عبارة عن (ارتطام) لا هوادة فيه عبر سرد (موضوعي) بضمير الغائب أو سرد (ذاتي) بضمير المتكلم ومتخيل سردي وعمق مؤثر. "كنت أريد أن أصمت، لم أمت... أنا هنا... بخير لكن الصمت بدأ يخيّم على المكان، كأنّه غياب أمي الطويل". (المجموعة: 33)، هذه قصّة تعدّ انموذجاً لإبداع قصصي واعد للقاصة (تماضر) قصّة تنطوي على بعد إنساني ومفارقة قدريّة وتكشف عن الخلل بين الذات والمحيط الآخر. بين الحلم والكابوس وهي أيضاً تخلو من أسماء الشخصيّات التي تغيب كثيراً لدى القاصّة لتركز على الحدث عبر شخصيّات إنسانية عامة.

ونجد في قصة (الألم) تجربة في القصة التي تعتمد المفارقة المؤطرة برمزية الإدانة واقع السياسة وكأنّ العملية السياسية وتعثراتها وقبحها يشبه وجع وتسوس ونخر الأسنان وهي تعاني أشد وأشرس انواع الألم، "لم تنتبه لدموع أمّها ولا لصوتها وهي تصفها بالجنون كانت تستمع إلى الأخبار ويدها على خدّها المتوجع آه: هل سمعت يا أمّي.. إنهم يشكلّون الكتلة الأكبر.. تعالي وأنظري إليهم أنهم يتحالفون، لم تلحظ انكفاء أمّها وسكونها العميق في زاوية الغرفة". (المجموعة:36)، وقد هيمن على القصة (السرد الموضوعي) بضمير الغائب وبتقنيات المفارقة الساخرة من الوضع السياسي وألم الفراق.

أمّا قصّة (منشان الله) فهي تصوير لمفارقة مهنة الاستجداء التي انتشرت من قبل النساء والأطفال العرب والعراقيين في بغداد وما يحدث من المفارقة بين الحاجة والخداع والصدق والكذب، وهي قصّة تسلّط الضوء على اليومي والمهمل في الواقع الاجتماعي، إذ عادت القاصة للسرد المحبب إليها أعني (السرد الذاتي) بضمير المتكلم مع غياب اسماء الساردة والشخصيات، وفي قصة (خواكين فينيكس) نجد تماهياً أو تعالقاً بين البطل (الأستاذ الجامعي) أو بين هذه الشخصيّة الغريبة من فلم (الجوكر) وما يعانيه البطل من تقمص هذه الشخصيّة وما يثيره سلوكه من غرابة أمام الطلاب، والقصة اشتغال على البعد (السايكولوجي) والجدل بين الذات والآخر والذات مع نفسها بسرد ذاتي نفهم منه أنَّ السارد رجل متزوج جاهل.

أمَّا في قصة (أم) فنجد المفارقة بين موقف الأم والأبناء والمعاناة الأزلية بين التضحية والإيثار وبين الأبناء الذين تأخذهم الحياة بعيداً، ولأول مرة تقوم القاصّة بذكر اسمي ابناء الأم وهما (فرح) و(أحمد) وفي سرد مختلط بين الذاتي والموضوعي ولعله يعزى إلى دلالة الاسمين سيميائياً بالنسبة للأم، ومن نصوص المجموعة التي تركز بشكل استثنائي ومتقدم بالتقاطة ذكية لمفارقة المسكوت عنه ما نجده في قصة (طبق المقبلاّت بالدموع) تلك المفارقة التي تبدأ بالعنوان وتجسّد ما يقوم به عمال المطاعم من عدم الاهتمام بالطعام ونظافته بل نجد كثيراً منهم يعبث بحياة الآخرين مع أنّ الزبائن يتوجهون بشراهة لتناول أطباق الدموع وربّما الموت. "تلك الفتاة ذات الشعر الأشقر المرفوع مثلاً تلك التي تبدو مثل ملكة اسكندنافية تمدّ يدها آمنة إلى صحن المقبلاّت وتأكل بشغف وتدير فكّها بنعومة". (المجموعة: 75). وحين يعترض أو يتحسس بطل القصة ممثلاً بالطالب الجامعي فهو لا يجد سوى إهانة وشتيمة من صاحب المطعم وطرده خارج العمل وتلك هي المفارقة المؤذية.

ونلحظ في هذا النص تكرار لنمط الصراع (السايكولوجي) والحياتي بين الشخصية الرئيسية والواقع الذي يحاصرها وأساس هذا الصراع قائم على التناقض القيمي بين رسوخ الذات ومتغيرات المحيط ويتفجّر الموقف بحدوث المفارقة التي تحرك مصير الشخصيّة وتقرر نهايتها أو التاثير في (فعلها الذاتي) فمن المؤكد أن قوّة الفضاء الاجتماعي الخارجي وموروثاته ونظمه وقواعده أقوى من تأملات أحلام وتطلعات الروح الفردانية التي تجسدها أغلب نصوص المجموعة، وهذه القصّة فيها عنصر الحوار الرشيق مع تنوع أساليب السرد ونعثر على روح المفارقة تتجلّى باتجاه حدوث (فوبيا) لبطلة قصّة (مجانين) التي تصاب بمفارقة الخوف من شخصية المجنون على الرغم من أنها تسكن قرب أربعة منهم وتظل تكابد هذه (الفوبيا) وكأنّها ترفض واقعاً لا يتساوق مع توجهها الداخلي وهي مفارقة تنتمي إلى نمط الاختلال العقلي والبيولوجي الذي يؤدي إلى صراع سايكولوجي اجتماعي.

ويتموقع نص (هذا ما حدث في مطار بغداد) في بؤرة متصدرة ومتميزة لما انطوى عليه من مفارقة فادحة وتجسيد يقترب من المسحة الغرائبية التي تضمنّت انتقال الحدث من الواقعي والحلمي إلى النسق الغرائبي وهذه المرّة تتدخل المصادفة الطبيعية في تحقيق حلميّة البطل، ولكن على حساب واختلال الواقع المحيط وهذا إيحاء بأنّ هيمنة الذات وتفعيل الحلم أو الفعل الذاتي لا يأتي إلاّ بخلل يصيب الواقع أو المحيط الخارجي وبهذا نجد الشخصيّة ذات الانكفاء الذاتي وقد حققت بعض وجودها أو حلمها أو تطلّعها وكانت الفكرة قد صيغت على منوال النسق الغرائبي وصولاً إلى هذه النتيجة أو الكشف عن أبعاد الصراع بين شاب يحلم بفتاة يلتقيها في المطار وتحدث علاقة حب ويتفقان على كل التفاصيل، أي تفاصيل الحلم الذي أرّقه كثيراً وهو يدرك بأنّه حلم عصي وأمنية تقترب من الإستحالة، ولكنه يتحقق بصدفة رومانسية، "وأنا هنا وحيد مع حقيبة سفر، وحلم جامع ورغبة في الحديث والضحك والمشاركة في الطعام معها، تلك التي ستأتي، كما رسمها كتاب الروايات والقصص، ربّما في البدء ستمرّ بشكل عابر تسألني عن مكان ما في هذا المطار الكبير، بعدها تتشكل الكلمات والأفكار لتنتج حديثاً، انبهر بعينها السوداوين ويديها وصوتها وألمح حزناً وحكايات خلق حديثها المقتضب وصوتها ذي البحّة العذبة". (المجموعة: 105)، ويردد البطل بؤس حالته في هذه الحلميّة ويشبّه نفسه بأحد أبطال كافكا، وهنا يتم زج طاقة (المفارقة) التي تأتي بفعل الطبيعة والحدث الخارجي والأقرب إلى القدر الرومانسي ليجتمع الشاب مع الفتاة من دون أن تسافر في طائرة أخرى فلقد حدث في المطار حريق كبير التهم جوانب وأمكنة وصالات كبيرة مما أربك الوضع وتأجّل كل شيء، ولكن المهم حدثت المفارقة غير المتوقعة بلقاء الشاب مع فتاة حلمه العصي بعد أن أنتهى كلّ شيء إلى الحريق والرماد والتبعثر، "كان الدخان كثيفاً وسقط كثيرون وارتبكت حركة الطائرات وتناثرت بعض الحقائب من دون أصوات سيارات الدفاع المدني والاسعاف.. لكني كنت مطمئناً، هادئاً جداً أمسك بيدها الصغيرة وأخبرها أنّ كل شيء سيكون بخير"(المجموعة: 109)، وقد أجادت القاصّة تماضر اختيار عنوان القصة حين جعلته عنوان المجموعة لأنّه يثير تداعيات ما حدث في المطار عند احتلال بغداد، فالعنوان حقق دواعي الدلالة والإغراء وإن كان يوحي بكتاب تاريخي يرصد أحداث المطار في يوم احتلال بغداد، لكنّ القاصة بلعبتها السردية أبعدت المتلقي عن كل ما توّقعه حينما خيبت أفق توّقعه لصالح النص.

ونجد انموذجاً آخر ينطوي على فكرة المفارقة الغرائبية في قصة (بقعة ضوء) وحضور تلك الفتاة في جلسة شعريّة وتجد نفسها قد عبثت بهدوء الجلسة واربكت كلّ شيء.. "لم استطع السيطرة على نبضات قلبي المتسارعة فقد كانت النظرات الغاضبة تجلدني كلّما ارتفع صوت الشاعر لقد عزموا على طلب سيارة الاسعاف، بدا الأمر خطيراً، قال احدهم قد يفقد نظره، ياللهول.. سيحاكمونني ويزجّون بيّ في السجن كانوا لا يزالون حوله يتكلمون بصوت عال وقد تباينت الآراء". (المجموعة: 117)، وهيمن السرد الذاتي بضمير المتكلم على القصّة مع شعور بالصراع بين الذات والواقع. ووفق هذه المقاربة النقدية نقول إنَّ هذه المجموعة تؤشر على تجربة واعدة وطريفة لاسيما في حقل القصة القصيرة التي شهدت بعض الانحسار بسبب المدّ (الكمي) الذي حققته الرواية ولكن الحقيقة والمنطق يثبتان أنّ لكل نوع أو جنس أدبي مساحته ومجال تألقه وانبعاثه على يد مبدعيه ومساحات اشتغاله وبراعة هذه المجموعة وجماليتها تكمن في توظيف المتخيل السردي ودمجه بالواقع وتمركزها حول استثمار المفارقة بطريقة فنية عالية وتجسيد تمثيلاتها في تناول كثير من الأزمات والمواقف الحياتية وتفحصّ دلالة الصراع الناشئ بين الذات أو الفرد الذي يتميّز برسوخ (الأنا) والتصالح مع أحلامه وباتجاه صراع يكشف الخلل والقطيعة والتناقض بين إرادة (الذات) والموروث التراكمي للواقع الاجتماعي وصيرورته المتواترة وجمالية التناول، تمركزت أيضاً حول تنويع تجارب هذه المفارقات التي كشفت عن أزمة البطل إزاء واقع محتدم وملتبس، عن تغييب اسماء الشخصيّات في مجمل قصصها وتكاد تكون ظاهرة عامة لديها في القصص التي ترصد ظواهر اجتماعية وتفسيري لذلك أنّها تجعل منها ظاهرة إنسانية وليست خاصة ببيئة محددة، وتنوعت أساليب السرد لديها غير أن (السرد الذاتي) بضمير الأنا هو المهيمن.

***

د. سمير الخليل

أشرنا في المقال السابق إلى أنَّ قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، يدخل فيها (الدِّين) محورًا من محاورها.  ففي الفصل الثاني عشر، يجتمع جماعة- فيهم المِصْري، والهِندي، والنازح، واليوناني، والكلتي، وآخرون- على مائدة العشاء في حديثٍ عن أوطانهم ودياناتهم.  وفي حديثهم ذاك خير مثالٍ على هذا المحور في القِصَّة، مصوِّرًا مقدار ما قد يؤجِّجه الدِّين بين الشعوب من عدم التعارف، بل من المفاخرات والصراعات الدمويَّة.  فقد عرضَ كلُّ واحدٍ منهم مذهب قومه الدِّيني في فخر، مُسَفِّهًا مذاهب الآخَرين وأديانهم، حتى كاد يقع بينهم اللجاج في الخصومة، ولولا أنَّ العَرَبيَّ (سيتوك) و(صادق) هدَّآ الموقف لصُبِغت المائدة بالدَّم.(1)

وكان الدِّين هو أهم شاغل شغلَ (صادقًا) في بلاد العَرَب؛ حيث رأى سيِّدَه العَربيَّ يعبد جيش السَّماء، أي الشمس والقمر والنجوم، كما جرت بذلك عادة العَرَب؛ فاحتال في سبيل صرف سيِّده عن تلك العبادة بشتَّى الوسائل، حتى أعرض العَرَبيُّ آخرَ الأمر عن عبادة المخلوقات وعَبَدَ الخالقَ الخالدَ الذي فَطَرَها.

كما اهتمَّ (صادق) بالعادة البراهميَّة في تحريق النِّساء- التي يزعم (فولتير) أنها كانت تتحكَّم في نساء العَرَب!- فصرف (المُنَى) عن تحريق نفسها، واستطاع أخيرًا أن يُلغي هذه العادة التي مضت عليها القرون، بالرغم من الخطر الذي تحدَّاه في سبيل هذه المهمَّة.(2)

وفي الرحلة التي قام بها (صادق) مع الناسك تظهر معالجةٌ لبعض القضايا المتعلِّقة بالقُدرة الإلهيَّة، وعِلم المخلوق مقارنةً بعِلم الخالق العظيم.  فقد رأى صادق من الناسك، الذي اتضح له أخيرًا أنَّه مَلَكٌ كريم، تصرُّفاتٍ أنكرها منه؛ لأنَّه لم يُحِط بما أحاط الناسك به عِلمًا، ولم يُدرِك أسرار ما يفعل.  لكنَّه حين أخبره بأسباب ما فعل أدرك قُدرة الله وعِلمه، وجهْل الإنسان واستكانته، وتأكَّدَ له أن "كلَّ شيءٍ إمَّا امتحان، وإمَّا عقاب، وإمَّا مكافأة، وإمَّا احتياط"، فجثا ورفع إلى القُدرة الإلهيَّة عبادته وإذعانه. (3)

ولعلَّ فكرة «القَدَر»، التي تدور القِصَّة حولها، هي أبرز محورٍ دِينيٍّ يمكن أن يُلحَظ فيها.  وكأنَّ المؤلِّف قد راعى تلك القُدرة الإلهيَّة التي تُسيِّر حياة الناس وتُعِدُّ لهم مصائرهم المختلفة، كما حدث لبطل القِصَّة (صادق).

هذا، وللفروسيَّة مكانةٌ ظاهرةٌ في القِصَّة أيضًا.  فـ(صادق) نفسه يتَّصِف بصفات البطل الفروسي؛ يصفه الكاتب بأنَّه كان فتًى في ريعان شبابه، فُطِرَ على طبعٍ كريمٍ، زادته التربية كَرَمًا.  وكان غنيًّا، لكنَّه كان عَفًّا، يكبح شهواته، على الرغم من مغامراته الغراميَّة!  ويصفه كذلك بأنَّه كان ذكيًّا مثقَّفًا.  "وكان جيِّد الصِّحَّة، رائق الوجه، مستقيم العقل، معتدل المزاج، له قلبٌ مخلصٌ نبيل."(5)  وإلى ذلك كان شجاعًا فارسًا.

وقد جمع بين هذه الصفات النبيلة، التي يتحلَّى بها الفُرسان، وبين كونه عاشِقًا وفِيًّا مخلِصًا لمن يُحِب.  وشجاعة (صادق) وفُروسيَّته تتأكَّدان في المواقف الحاسمة، التي تُمتحَن فيها فروسيَّة الأبطال.  ومنها إنقاذه الفتاة المِصْريَّة (ميسوف) من قبضة مُحِبِّها الثائر.  ومنها فوزه في المبارزة التي أُقيمت للترشيح لعرش (بابل)؛ فقد أثبت في تلك المبارزة بطولةً نادرةً وتفوُّقًا كبيرًا على خصمه (إيتوباد)، سواء في المرَّة الأُولَى، حين كان يرتدي لَأْمَتَه البيضاء، أو في المرَّة الأخرى، حين لم يكن عليه إلَّا ثوبٌ وقلنسوة؛ فتأهَّل بذلك ليُصبِح ملِك (بابل) وزوج ملِكة بابل.

وهو محورٌ سنناقشه في مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

................

(1)  يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 71- 76.

(2)  يُنظَر: م.ن، 67- 70، 77- 81.  وقد جاء في مقالٍ سابقٍ تفنيد هذا الزعم، من رجلٍ غربيٍّ اختلطت عليه جغرافيا الثقافات، بين بلاد (العَرَب) وبلاد البراهمة الهندوس في (الهند)!

(3)  يُنظَر: م.ن، 120- 128.

(4)  يُنظَر: م.ن، 14- 15.

مقدمة: يقول صبري حافظ: "ما أصعب الحديث النظري عن فنّ الأقصوصة"[1]، ولكنّه عندما يجد ألا مفر من أن يعرِّفها يكتفي بأن يقول إنّها فقط ذلك "الفن البسيط المراوغ المليء بطاقة شعريّة مرهفة وقدرة فائقة على تقطير التجربة الإنسانية"[2]. وهو إذ يعرِّفها بهذا الشّكل، يبوِّئها مرتبة عالية في سلَّم النّصوص القصصيّة، في وقتٍ اِستحوذت فيه الرِّواية على المرتبة الأولى، بينما كان ينظر إلى الأقصوصة على أنها أدب من الدّرجة الثّانية، من جهة أنّها غير قادرة على الإلمام بالتّجربة الإنسانيّة، وأنّها مهما بلغت من اِكتمال، تبقى عاجزة عن بلوغ المرتبة العظيمة التي بلغتها الرِّواية. أما الحال فهو أنّ الحجم ليس هو المحدِّدَ للعمق القصصيّ، ذلك أنّ التوهج والتكثيف في الأقصوصة قد يمكِّنها من التّعبير عن أعمق التّجارب الإنسانيّة.

ومن جهة ثانية كان يُنظر إلى الأقصوصة على أنّ ما يميزها عن الرّواية هو القصر، بينما هي جنس مستقلّ بذاته من جهة خصائصه الفنيّة.

وعندما نستعد لقراءة أقصوصة يجب أن نضع في اِعتبارنا أنّنا سنقرأ نصًّا مخصوصا مختلفا عن الرّواية بمفهومها التّقليديّ المعروف. فإذا كانت الرّواية نصّا يقوم على المثلّث الأرسطي المعروف، فينطلق هادئا وتتأزّم فيه الأحداث شيئا فشيئا في اِتّجاه العقدة لينحدر شيئا فشيئا في اِتجاه النهاية، فإن الأقصوصة تنطلق مأزومة مشحونة بالتّوتّر. إن بداية الأقصوصة بؤرة تتجمّع فيها خيوط اللّعبة القصصيّة وترتسم الفكرة التي يكون على القارئ تتبُّعها وتبيّنُ مآلها من خلال كلّ التّفاصيلِ الآتية. وتكون النّهايةُ البديلَ البنائيَّ للعقدة الرّوائيّة، فهي البؤرة التي تتجمّع فيها كلّ عناصر الحبكة. هي لحظة الكشف والتكشف على حد تعبير صبري حافظ. وهي "كالقنبلة التي تلقى من طائرة يكون هدفها الأساسي هو المسارعة بإصابة الهدف بكل طاقتها الاِنفجارية"[3]. ويفسر فرانك أوكونور غياب الذروة تفسيرا ماديا جدليا إذ يرى الأقصوصة صورة الجماعات المقهورة التي تتحرك من البداية إلى الكارثة[4].

ولا وجود لموضوعات كثيرة متشعّبة، فالأقصوصة تتميّز بما أسماه "إدغار ألان بو" بـ"وحدة الأثر"[5]، التي تتحكّم في القارئ من بداية الأقصوصة إلى نهايتها. وقد بدا لنا أنّ وحدة الأثر تتحقّق من خلال وحدة المكان ووحدة الزّمان ووحدة الشّخصياّت ووحدة الأحداث من جهة، ومن خلال طرائق إجراء السّرد والوصف والحوار من جهة أخرى. واِنطلاقا مما ذكرناه آنفا، سنحاول قراءة أقصوصة "زغدة" لنستجلي بعض خصائصها الشّكليّة.

بنية الأقصوصة

تتضمّن "زغدة"[6] ثمانية مقاطعَ سرديّةٍ، والحكاية فيها بسيطة جدا، مفادُها أنّ جدّة تخرج لحضور عرس في الصّحراء لكن يضيع حفيدها الشّقيّ فينقلب العرس إلى مأتم وفي النّهاية يقع العثور على الصّبيّ التّائه.

ولم يُضع المتكلّم وقته في التّمهيد للأحداث. فقد اِنطلقت "زُغدة" ببداية متوتّرة، فمنذ السّطر الثّاني نجد عباراتٍ تنذر بـ"الكارثة"، فإضافة إلى أنّ الجّدّة رفضت صحبة حفيدها لما آنست فيه "من شقاء غريب لا ينتهي عادة إلا بمكروه"(ص1)، تشدُّ اِنتباهَنا عبارتان، أولاهُما عبارةُ "شقاء غريب" وهي تُعِدّ القارئ لتلقّي أحداث غيرِ مألوفةٍ وتشدُّه كي يبحث عن موطن الغرابة، وثانيتهما عبارة "مكروه". وهي عبارة لم توضع عبثا ففي قانون الكتابة الأقصوصيّة تُعَدُّ مثل هذه العبارات قرائنَ، على القارئ أن يأخذها بعين الاِعتبار ويتَتَبّعها لأنّها هي مدار القول كلِّه، لا سيَّما أنّ جملة أخرى أشدَّ إيحاء ستلفت الاِنتباه إذ ستكتشف الجدّة أنّ المحظورَ قد وقع، فحفيدها خرج فعلا مع القافلة. تقول: "فلما اِقتربنا من المضارب برز لي وعلى وجهه اِبتسامة شيطان"(ص1)، ثم نجد في الصفحة نفسها حديثا عن "بئر عميقة ضرب حولها سور قصير من الحجارة والطين"(ص1). وبما أنّه يفترض أنّ الأقصوصة يجب أن تكون خالية من الزوائد وأن تكون مكثفة، يتوقع القارئ أن البئر عنصر قصصيّ سيساهم في تطوير الحبكة لولا أنّ المتكلمة وهي الجدّة تقضي على هذا التوقّع بقولها معلّقة على البئر "سرت في خاطري صورة حفيدي وهو مدقوق العنق في قعرها" (ص1). ويبتعد هذا القول بالقارئ عن تصوُّر إمكانيّة أن تكون للبئر تلك القيمة الفاعلة في الحدث، لكنّه يضعه على درب الخطر، ومن ثمَّ على طريق البحث عن إمكانيّات أخرى أو أخطار أخرى، فيولِّي وجهه شطرَ قرائنَ أخرى قد تقوده نحو اِكتشاف لغز النّصّ.

وعلى هذا النّحو تسير الأحداث بسرعة وتوحي بأنّها تتجِّه نحو مصيرٍ فاجعٍ سيلقاه الصّبيّ الشّقيّ الذي تاه في الصّحراء وأشرف على الهلاك، فنجده وقد أحاطت به مجموعة من الكلاب تستعدّ لاِفتراسه. وفي لحظة النّهاية، وهي اللّحظة التي تنحلّ فيها العقدة، تلتقي عناصر الحبكة كلُّها فتعثر الجدّة على حفيدها التّائه ويكون الاِنفراج. وهكذا نرى أنّه لا أثر للبناء الثلاثيِّ لأنّ الأزمة اِنطلقت مع البداية، ولأنّ النهاية هي في ذاتها لحظة تأزم واِنفراج في آن واحد. وإضافة إلى هذه البنية الغريبة تتميّز الأقصوصة بخصائص بنائية أخرى منها وحدة الأثر.

2- وحدة الأثر

هي أحد أهمّ مقوّمات الأقصوصة، التي بلورها إدغار ألان بو، باِعتبارها تحقّق خاصيّة القصر في هذا الجنس القصصيّ الذي، على حدّ تعبير صبري حافظ، "لا يسمح بأي حال من الأحوال بالتراخي أو الاِستطراد أو تعدد المسارات ويتطلب قدرا كبيرا من التكثيف والتركيز واِستئصال أي زوائد مشتتة. ولا يسمح بجملة زائدة أو عبارة مكرورة أو حتى إيضاح مقبول"[7]. إنها تتعامل مع قارئ ذكي، منتج لا مستهلك، وهي تعوّل على القارئ كي يفكّ شفرات القول ويفهم ما بين طيّات السطور. وتتحقّق وحدة الأثر من خلال المضمون الحكائيّ وكذلك من خلال القصّة[8]. فمن جهة الحكاية تتسم الأقصوصة بوحدة المكان والزمان والشخصيات ووحدة الموضوع.

فعندما ننظر في المكان نجده واحدا غير متعدد فهو صحراء. فلم يخرج بنا السرد نحو أماكن أخرى كما يقع في الروايات. لقد اِنطلقت الأحداث في الصّحراء واِنتهت في الصّحراء. أما الزّمان فغيْر ممتدٍّ إذ لم يتجاوز اليومين، فقد خرج الموكب صباحا ثم جنّ الليل(ص1) ثم نجد "الشمس تطل على الكون في اِستحياء"(ص2). وإن هذا الحيز القصير يساعد على تقليص المساحة النّصيّة كلِّها فلا مجال للتّمديد والإطالة.

ولا نكاد نجد شخصيّات كثيرة، فما عدا الجدّة والحفيد اللّذين يمثّلان الشّخصيّتين الرّئيسيّتين، نجد شخصيات أخرى، بعضها مفرد وبعضها جمع. أمّا الشّخصيّات المفردة فهي رفيق الصّبيِّ، والرجل الذي اِلتقى به في الصّحراء، وهما شخصيّتان تدوران في فلك الشّخصيّة الرّئيسيّة ولا وجود لهما خارج مسارها. أما باقي الشّخصيّات فتظهر في شكل جمعيّ مثل "الرعاة" "النسوة" "الصبية" "الرجال" وهم يفعلون بشكل جمعيّ كقوله "تحلق الرجال أولا حول جفان كبيرة"(ص2) أو قوله "جعلت النسوة شيئا من الأدم على فضلتهم"(ص2). وبهذا لا تؤثر كثرة هذه الشّخصيّات في حجم الأحداث واِتّساعها واِمتدادها، تلك الأحداث التي نرى أنّها لا تعدو أن تكون حدثا واحدا يتمطّط على مدى النّص حتى أنّه يمكن تلخيصه في سطرين أو ثلاثة. فالأقصوصة تدور حول جدّة يضيع منها حفيدها في الصّحراء فتلتاع وتبحث عنه إلى أن تعثر عليه في النهاية. وجلي أنّ كل الأعمال التي قامت بها الشّخصيّات إنّما تتعلّق بهذا الحدث الرّئيسيّ.

ومن جهة القصّة نجد أنّ وحدة الأثر تتحقّق عن طريق أنماط الخطاب. فبالنّسبة إلى السّرد نجد أنّ الحكاية وردت على ألسنة مجموعة من السّردة، منهم سردة بضمير الأنا ومنهم سارد مجهول (Anonyme). ونلاحظ أنّ السردة بضمير الأنا شخصيّات تنتمي إلى العالم القصصيّ وهي متجانسة الحكي (Homodiégétiques) وهي أطراف في القصّة فاعلة فيها. وقد دشّنت الجدّة السّرد في المقطع الأوّل وواصلته في المقطع الخامس وختمته في المقطع الثامن، وفي الأثناء تناوب سردة آخرون على الكلام، فنجد الحفيد يسرد المقطع الثاني، وعابر الصّحراء يسرد المقطع الرّابع، والصّبيّ يسرد المقطع السّادس، واِمرأة أعرابيّة تسرد المقطع السّابع. أما السّارد المجهول فهو سارد غير متجانس الحكي (Hétérodiégétique) لا علاقة له بما يجدّ من أحداث ولا أثر له داخل العالم القصصيّ وإنما هو يسرد من موقع متعال. وقد تولَّى هذا السّارد السّرد في المقطع الثّالث بقوله مثلا "وجد نفسه في ركبهم دون أن يعود إلى جدته أو يستأنس برأيها..كانت نفسه منفلتة من كل قيد، حاملة بين أقطارها طاقة من الحركة والصخب لا تستوعبهما إلاّ الصّحراء.."(ص2).

وقد يتبادر إلى الذّهن أنّ تعدّد السّردة قد يفضي إلى كثرة الأحداث وتنوعّها وتشعّبها وترهّلها، لكن الواقع ينفي ذلك، ذلك أنّ السّردة ينخرطون في السّرد بكلّ اِنسجام حتى لكأنّهم واحد، فكل سارد يواصل السّرد من النّقطة التي بدأها سابقه لكن تتغيّر فقط زاوية الرؤية. والسّردة، رغم تعدّد وجهات نظرهم ملتزمون بالخطّ السّرديّ، فلا أثر لمعلومة مكرّرة مُعادة ولا لحدث جانبيٍّ يخرج عن مسار القصّ. وقد يبدو طبيعيا أنّ الجدّة ستحكي فقط قصّة حفيدها التّائه، لأنّ هذه القصّة استقطبت كلّ مشاعرها واِستنفدت كلّ طاقتها، كما قد يبدو طبيعيّا أنّ الحفيد سيقتصر على أن يحكي قصّة توهانه في الصّحراء، لأنّها حكاية مصيريّة كادت تفضي به إلى الهلاك، ومن الطبيعي أنّ السارد المجهول يحكي قصة الصّبيّ الذي "وجد نفسه في ركبهم إلخ..."(ص2)، لأنّه وهو ملتبس بكيان آخرَ، له بعض خصائص المؤلّف، ملتزم بالعقد الأقصوصيّ الذي لا مجال فيه للتّراخي، ولكن من غير الطّبيعيّ أنّ بقيّة السّردة الذين لا علاقة لهم بالصّبيّ ولا بالجدّة اِلتزموا بدورهم بهذا الخطّ السّرديّ ولم يخرجوا عنه، فاِتّفقت الرّؤية السّرديّة مع الحكاية، وتمّ التّبئير على المكوّنات الأساسيّة للقصّة وتحديدا الصبيّ. فنجد سارد المقطع الرّابع، وهو عابر السبيل، يدشّن السّرد بالحديث عن عثوره على الصّبيّ بقوله "أطل علي من بين ثنايا السراب(...)حسبته حيوانا في البداية"(ص3). ونجد الأعرابيّة تتحدّث في مطلع حكايتها عن كلاب "تضرب حصارها حول صبي يحاول إحاشتها بالحجارة وبإثارة الغبار في وجوهها"(ص5).

وخلال السّرد يبدو أنّ كلّ الجوانب الأخرى المحيطة بالسّردة غائبة وكلّ شواغلها باِعتبارها شخصيّات بقيت غامضة بالنّسبة إلى القارئ، فلا شاغل عدا الصّبيّ التّائه.

ولا عجب فهذا العالم التّخييليّ يصدر عن كيان أكبر هو الذي يحرّك خيوط اللعبة السردية، والذي يحاول أن يحكم الإمساك بها من خلال أولئك السردة الخاضعين كلّهم لسيطرته. وهو يبدو واعيا تمام الوعي بما تتطلّبه الأقصوصة من وحدة أثر.

وعندما ننظر في الوصف نجد أنّه وظيفي يتناول الموصوف في بعد واحد من أبعاده ذلك الذي يرتبط بالحدث الرئيسيّ. فإضافة إلى اِختيار الصّحراء مكانا للأحداث، وهذا يساعد على تأزّم الأحداث بما أنّ الصّحراء ترتبط في المخيال الجمعي بالضياع والموت، فإن هذا المكان بدا واقعيا وتخييليًّا في آن واحد لأنّه اصطبغ بوجهة نظر السّارد، فلم يهتم المتكلّم بتحديدها جغرافيّا وتوبوغرافيّا بقدر ما اِهتمّ بتحديد الصّفات التي تساعد على تنامي الأزمة، فقد وصف اِتّساعها بقوله: "الأرض هنا بلون واحد، يقصر الطرف عن أرجائها..عند آفاقها البعيدة سلسلة جبال محيطة.."(ص1). وهذه العبارات "لون واحد، يقصر الطرف عن أرجائها، آفاقها البعيدة، سلسلة جبال" ترسِّخ في ذهن القارئ فكرة أساسيّة يسعى المتكلّم إلى جعل القارئ يسير على وحيها عند القراءة، حتى إذا جاء الحدث المهمّ وهو ضياع الصّبيّ، وجد له فيها مبررا، فاِتّساع المكان يسهل الضّياع. ومن الأوصاف التي تزيد المكان تأثيرا في الأحداث أنّه بدا مرتعا للذئاب المفترسة و"الهوام"(ص1)، كما نجد أسماء أخرى نُعتت بها الصّحراء من قبيل "الخلاء (وردت مرتين)، والمتاهة (وردت 4 مرات)، واِرتبط وصفها أيضا بالضّياع والقيظ والجحيم(ص3)، فالصّحراء غادرة فيها جرف هار عميق الغور (ص5). وهي ترتبط بالرّمضاء والموت(ص7). فالوصف إذن لم يخصَّ من هذه الأمكنة سوى ما يمكن أن يخدم الأزمة، حتى لكأنّنا بالمكان، على حد تعبير صبري حافظ، "قد حدد جماليا وأسر في قبضة مجموعة من الكلمات واِنتقيت مكوناته بعد أن اُستبعدت منها مكونات أخرى" (ص29).

وذلك هو شأن الزمان، فالوصف كله اِنصب على الظواهر المثيرة فيه. فنجد أنّ "الليلة كانت قمراء يرقص في أرجائها النسيم"(ص1). فهذا الليل الجميل سيغري الصبي بالخروج للّعب مع أقرانه، ومن ثم سيكون مؤديا إلى حدث ضياعه. ويعمد السارد بعد ذلك إلى تصوير طلوع الشمس "التي أخذت ترتفع منذرة الكون بالجحيم"(ص2). وهو يفصل القول فيها تفصيلا ذا دلالة فيقول:"السماء عليها ثوب رمادي ينذر بالقيظ"(ص2). ثم يتحدث السّارد عن الهاجرة(ص5) وعن الرّمضاء(ص6)، فهو يوظّف الزّمان في تطوير الحبكة، فالشّمس الحارقة اِرتبطت بحدث الضّياع والخوف، أما وصف الشّمس وهي في طريقها نحو الغياب في قوله: "الشمس بدأت تنزل عن عرشها"، فيتزامن مع حلّ العقدة ومع الاِنفراج، ذلك أنّ الجدة ستلتقي أخيرا بحفيدها في تلك الفترة من اليوم. فالزّمان إذن عنصر بنائي في الأقصوصة يرتبط بها أيّما اِرتباط ويساهم في تطوير الحركة القصصيّة، ولا أثر فيه لعناصر زائدة.

وإذا أمعنّا النظر في الشّخصيّات، وجدنا أنّ السّردة لم يحيطونا علما إلا بصفاتها التي لها علاقة بالأزمة، فالصّبي لأول مرة يزور الصّحراء(ص1)، وهذا سيبرر عدم خبرته بمسالكها وضياعه بها، وهو أيضا "لما يبلغ الثامنة"(ص1)، وهذا سنّ يحيل على حبّ اللّهو مع نقص الوعي وعدم النّضج، وهو أيضا يتّسم بـ"شقاء غريب" واِبتسامته "اِبتسامة شيطان". هذه الصّفات التي ميّزت الصّبيّ تفسِّر ما سيقوم به من أعمال. ثم إنّ الوصف الذي ظهرت به شخصيّة الجدّة منذ البداية يتماشى مع ما ستعيشه من أحداث مقلقة، فقد بدت منذ البداية في حالة اِرتياع تامّ من صحبة حفيدها فهي تصوّر مشاعرها قائلة:" فتوجست خيفة". ثم تصف الجدّة حالتها بعد ذلك مؤكدة حلول هذا التوجّس فتقول بعد أن عاد الرّعاة دون حفيدها: "فهوى قلبي وركبتني فاجعة أفقدتني الوعي"(ص4). لا أثر إذن لوصف هامشيّ، مجانيّ. وكلّ جزئية تخدم ذلك السّير الحثيث نحو النّهاية.

وعلى هذا النّحو نفسه كان السّرد وظيفيّا. وقد نعثر على أحداث تبدو لنا زائدة من قبيل قول الجدّة: "وجدناهم نصبوا خمس خيام في ساحة فيحاء"(ص1)، لكن عندما نتأمّلها نجد أنّها في الحقيقة تبني رؤية للعالم المنقول على أساسها سيتمّ تلقِّي الأثر، كما تبرر سهو الجدة عن حفيدها فقد تشتت اِنتباهها وتركيزها بفعل حركة نصب الخيام حتى لم تعد تقدر على وضع حفيدها تحت رقابتها. وكذلك شأن تلك الأحداث التي وردت على لسان الصّبيّ مثل قوله: "نحن الصبية لم نكف عن الركض واللعب بأرجل حافية رغم تحذير الكبار مخافة أن نلدغ أو نلسع..لكننا كنا نمضي على شريعتنا إلخ.."(ص2) أو قوله: "العشاء طبخته النسوة على أحطاب الصّحراء فاَستغرق منهن وقتا طويلا، سيما وأنّ اللحم كان قاسيا كالمطاط، اِقتطعنه من ذبائح "قارحة""(ص2)، أو قوله: "تحلق الرجال أولا حول جفان كبيرة، تكدس فيها اللحم والكسكس(...) وراحوا يعبون منها عبا(...) في الوقت الذي كنا نحاش فيه نحن معشر الصبية عن الطعام كما تحاش الكلاب"(ص2). مثل هذه التّفصيلات هي التي شكّلت المعنى، لأنّها بيّنت أنّ العلاقة بين الصّبيان وبين الكبار بدت مقطوعة، فالصّبيان بدَوا مهمّشين وغير مرغوب فيهم ومجتثّين من عالم الكبار، لذلك عمدوا إلى بناء عالمهم الخاصّ الذي لا يكون عادة إلا مفارقا لعالم الكبار، ناشزا عن نظامه وتقاليده، صادما لهم وغامضا لا يمكن فهمه. فالصّبيان يجدون الأفق ضيّقا مع أهاليهم فينظرون إلى السّماء التي تبدو لهم أوسع مما كانوا يرونه في المدينة(ص1)، فينساقون وراء هذا الاِتّساع لعلّه يقودهم إلى عالم أفضل.

وإذا كان السّرد يركز على مثل هذه التّفاصيل، فإنّ السّردةَ في المقابل يتغاضون عن تفاصيل غير ذات قيمة، اِنطلاقا من أن "الفن اِختيار، وعلى الفنان أن ينتقي فيغضي عن كل ما لا يفيد موضوعه" حسب ما يراه موباسان[9]. لذلك بدا النّصّ عموما خاليا من الزّوائد مليئا بالفجوات والفراغات من خلال اِعتماد الإضمار (Ellypse)، والسّرد المؤلف(itératif) لا سيّما في بيان التّحول في الزّمان كما في قوله: "وعندما جنّ الليل"(ص1)، فقد تمّ السّكوت عن الأحداث التي وقعت بين الغروب واِشتداد الظّلمة. ويتجلّى ذلك أيضا في قوله: "فلما مرّ من الزّمن زهاء الساعة إلخ"(ص6). ومن النّماذج عن السّرد المؤلّف ما نجده في المثال التّالي: "نحن الصبية لم نكف عن الركض واللعب بأرجل حافية، رغم تحذير الكبار مخافة أن نلدغ أو نلسع.. لكننا كنا نمضي على شريعتنا، لا نسمع لهم قولا، ولا نبالي منهم زجرا.."(ص3). إن ما ورد في المثال يسرد أحداثا تكرّرت وامتدت على زمن طويل لكنّ السّارد أجملَ القول فيها. وقد اِختزل السارد كذلك، بواسطة السّرد المؤلَّف، ما وقع على مدى ليلة كاملة في فقرة صغيرة هي التّالية: "ولا أذكر كيف بت تلك الليلة..لعلي لم أنم مع جملة الصبيان..أو لعلي اِفترشت معهم الأرض في العراء، ولم نصب من الكرى إلا نزرا قليلا..بعد أن ركضنا طويلا إلخ"(ص2). ويبدو هذا طبيعيّا لأنّه، على حدّ تعبير موباسان، "يلزمك مجلد كامل لكي تروي ما يحدث لشخص واحد في يوم واحد"[10].

ويمكن القول إن تعدّد السّردة ساهم في تحقيق الاِختزال، فالسّارد يجد نفسه محصورا ضمن مساحة نصّيّة قصيرة عليه أن يسرد خلالها كلّ ما لديه، لذلك لا يتوسّع في السّرد. إنّه يكتفي بالأحداث المهمّة البارزة، لأنّ ساردا آخر سرعان ما يحلّ محله ليواصل السّرد عوضا عنه.

ومن الأشياء التي لا يتوسّع السردة في عرضها كذلك، أقوالُ الشّخصيّات، فيتولّون الحديث عوضا عنها، وذلك بتسريد خطاباتها، فكثُرت الخطابات المسرّدة(Narrativisés) كما في قول الجدّة "رفضت صحبته في البداية"(ص1)، فهذا الذي يبدو حدثا ليس سوى حوارٍ جرى بين الجدّة والصّبيّ، فالصّبيّ يطلب والجدّة ترفض فيعيد الكرّة وتجدِّد هي رفضَها مرّاتٍ، لكنّ السّاردة قدّمته مسرودا. ومثل هذه الحوارات كثيرة في "زُغدة" من قبيل ذاك الذي دار بين عابر السّبيل وبين الصّبيّ الذي وجده تائها في الصّحراء. يقول: "فسألته عن أصله وفصله وسبب خروجه وحيدا في مثل هذا الحر، فأخبرني أنّه جاء من المدينة، يشهد عرسا مع جدته، وما لبث أن تاه وسط الصّحراء الغادرة"(ص4)، أو قوله :"وكنت عرضت عليه الركوب فأبى"(ص4).

بل إن ثمّة خطابات تمّ حذفها كلّيّا ولم تقع الإشارة إليها لكنّها تتجلّى من خلال الأحداث حين تقول الجدّة مثلا عندما برز لها حفيدها فجأة عند بلوغ المضارب في الصحراء:" فتوجست خيفة لكني غالبت مخاوفي وضممته إلى صدري"(ص1). لقد وجدت الجدّة نفسها فجأة أمام حفيدها الذي رفضت أن تصطحبه. وهذا الموقف المفاجئ يفترض أن الجدة توجهت بكلام ما، إلى حفيدها ولا يمكن أبدا أن تضمّه إلى صدرها دون أن تنحوَ عليه باللاّئمة.

إن الأقصوصة إذن تسير بصمت فلا نكاد نسمع سوى أصوات السّردة أمّا الشّخصيّات فقلّما تتكلّم عدا في بعض الخطابات المباشرة(directs) القليلة جدّا، إذ نجد حوارا بين الصّبيّ وأقرانه(ص3)، ثم آخرَ بين جمع من النّاس وبين الجدّة(ص4) ثم نجد خطابا أحاديّا بين إحدى الشّخصيّات وبين الصّبيّ حين تمّ العثور عليه(ص6)، وحوارا أخيرا بين الصّبيّ وجدّته، فالصّبيّ قال: "جدّتي !!"، والجدّة أجابت: "أيّها الشقي...". وهي كلّها حوارات تتّسم بصفتين، فهي مقتضبة من جهة، وهي أيضا غير مجانيّة، بمعنى أنّ لكلٍّ منها وظيفة في الحبكة القصصيّة. ويبدو أنّ هذا يندرج ضمن الخطّة السّرديّة التي وُضعت على أساس الوعي بخاصيّة القصر في النّص الأقصوصيِّ.

خاتمة

بدا لنا إذن كيف اِقتطعت هذه الأقصوصة جانبا من حياة، وكيف عرضته عرضا صادما منذ البداية ثم تدرجت به برفق نحو النّهاية التي بدت مجمعا لكلِّ التوتّرات. ولا يحسّ القارئ بأنّ النّصّ يتشعّب أو يتعاود، فالمكان واحد والزّمان واحد والأحداث واحدة والشّخصيّات قليلة، ولا أثر لزوائد في الوصف أو الحوار أو السرد تعطِّل مسار القصة. لكلّ التفاصيل قيمة في تحقيق الهدف الذي رسم منذ البداية. وكلّ جزئيّة محسوبةٌ تخدم مسارَ القصّ.

***

بقلم: الدكتورة سهيرة شبشوب: أستاذة مساعدة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس/ تونس.

..................

المصادر والمراجع

"زغدة"، ضمن المجموعة القصصيّة "زُغدة " صادرة عن دار الاتحاد للّنشر والتوزيع سنة 2016.

المراجع

أوكونور (فرانك): الصوت المنفرد، مقالات في الأقصوصة، ترجمة محمود الربيعي، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993.

مجلة فصول، مج 2، العدد الرابع، 1982:

-حافظ صبري: مقال "الخصائص البنائية للأقصوصة"

- نادية كامل: مقال"الموباسانية في القصة القصيرة".

Allan Poe (Edgar): Review of Hawthorne's Twice-Told Tales.

https://commapress.co.uk/resources/online-short-stories/review-of-hawthornes-twice-told-tales/

Allan Poe (Edgar): The Philosophy of Composition, 1848, (publié en Octobre, 2009).

https://www.poetryfoundation.org/articles/69390/

هوامش

[1] صبري حافظ، "الخصائص البنائية للأقصوصة، مجلة فصول، مج 2، العدد الرابع، 1982، ص19.

[2]  نفسه.

[3] صبري حافظ، "الخصائص البنائية للأقصوصة"، مجلة فصول، مرجع مذكور، ص 24.

[4] اُنظر: فرانك أوكونور، الصوت المنفرد، مقالات في الأقصوصة، ترجمة محمود الربيعي، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص 16.

[5] اُنظر:

Allan Poe (Edgar): Review of Hawthorne's Twice-Told Tales.

https://commapress.co.uk/resources/online-short-stories/review-of-hawthornes-twice-told-tales/

Allan Poe (Edgar): The Philosophy of Composition, 1848, (publié en Octobre, 2009).

https://www.poetryfoundation.org/articles/69390/

[6] زغدة، ضمن المجموعة القصصيّة "زُغدة "، دار الاتحاد للّنشر والتوزيع ، 2016.

[7] صبري حافظ، "الخصائص البنائية للأقصوصة"، مجلة فصول، مرجع مذكور ص27.

[8] إن ما قدمه صبري حافظ في دراسته الآنف ذكرها حول خصائص الأقصوصة بدا لنا مجرد محاولة لتعريف هذا الجنس القصصي، لكنه لم يقدم آليات محددة وواضحة لتحليل الأقصوصة، لذلك حاولنا أن نستغل تلك التعريفات لنستخرج طريقة تمكننا من مقاربة هذا النوع من النصوص، واِرتأينا أن كل تلك الخصائص تتجلى أولا في المحتوى الحكائي الذي قام عليه النص، كما يظهر في طرائق إجراء تلك الحكاية.

[9]  نادية كامل، "الموباسانية في القصة القصيرة" فصول، مصدر مذكور، ص 188.

[10]  نادية كامل، "الموباسانية في القصة القصيرة" فصول، مرجع مذكور، ص 187.

 

تحفل قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787) بسلسلة من الخيانات العاطفيَّة، التي تؤدِّي بالقارئ إلى انطباعٍ عامٍّ حول المرأة، هو أنَّها قليلة الوفاء، سريعة الغدر بالرَّجُل، تضعف أمام المغريات بسهولة.  وتلك ثقافة تقليديَّة، لا أصل لها من الواقع الاجتماعي، سِوَى نظرةٍ ظالمةٍ تمييزيَّةٍ ضِد المرأة، سبق التعليق على منابتها في مقال سابق.  ومن هنا بدت (الخيانات) محورًا من محاورة هذه القِصَّة/ الرواية.

فهذه (سمير) تغدِر بحبيبها (صادق) في أوَّل القِصَّة، وتتركه لتقترن بعدوِّه (أوركان).  ثمَّ تأتي (أزورا)- المرأة الثانية في حياة صادق- فتغدِر به هي الأخرى، وتوشك أن تجدع أنفه لتشفي (كادور)، الذي تظاهر بحُبِّها ليكشف أمرها.  هذا على الرغم من أن أزورا كانت قد ثارت ثائرتها لمَّا رأت خيانة إحدى النساء: وهي تلك الأرملة الشابة (خسرو)، التي عاهدت إلاهها، أثناء حزنها على فقد زوجها، على أن تقيم على قبره ما جرَى ماء الجدول قريبًا منه، غير أنَّها ما لبثت أن أخذت تحاول تحويل الجدول عن مجراه؛ كيلا تفي بما عاهدت ربَّها عليه!  فإذا أزورا نفسها- الثائرة على خيانة خسرو-  ترتكب من الخيانة ما هو أكبر.(1)

وصولًا إلى زوجات ملِك (سرنديب) المئة، اللاتي اكتشف خياناتهن جميعًا، عدا واحدة فقط.  وتختلف التسع والتسعون امرأةً من زوجات الملِك في دوافعهن إلى الخيانة؛ فمنهنَّ مَن تخون حُبًّا في الجَمال والفُتوَّة، ومنهنَّ مَن تخون حُبًّا في المال، وإنْ عَدِم صاحبُه الجَمال، ومنهنَّ مَن تخون حُبًّا في حلاوة البَيان وعنفوان البَدَن، وإنْ عَدِم صاحبُهما المالَ والجَمالَ معًا.(2)

وتُعَدُّ (الحِيلة) من المحاور التي تدور حولها القِصَّة.  فقد استطاع (صادق) أن يكتشف مدَى إخلاص زوجه (أزورا) بحِيلةٍ اختلقها مع صديقه (كادور).  إذ تظاهر (صادق) بالموت، فأجهشت زوجُه بالبكاء، وانتزعت شَعرها في اليوم الأوَّل، ثمَّ بكت أقلَّ من ذلك في يومها الثاني.  وعندئذٍ أَسَرَّ إليها (كادور) بأنَّ صادقًا قد أوصَى له بالثروة، وعرضَ عليها أن يقاسمها إيَّاها؛ وشيئًا فشيئًا اكتسب ثقتها، فاعترفتْ بأنَّ "الفقيد" لم يَخْلُ من بعض العيوب، التي برئ منها كادور!  ولمَّا شكا كادور إلى أزورا أَلَـمًا عنيفًا في الطحال، وزعمَ أنْ ليس له إلَّا دواء واحد، هو أن يوضع على جنبه أنف رجُلٍ مات من أمسه، همَّت– رغم استغرابها- بجدع أنف زوجها صادق لعلاج كادور!  وبذا تبيَّنَ صادق مدَى حُبِّ زوجه إيَّاه ووفائها له.(3)

وبحِيلة (صادق) اكتشف ملِك (سرنديب) خيانة المرشَّحين لمنصب خازن المال وفسادهم.  فقد قال صادق للملِك: "إنَّما هي أن تدعو المرشَّحين لهذا المنصب جميعًا إلى الرقص، وأيُّهم كان رقصه خفيفًا نشيطًا فائتمنه على بيت مالك."  وكان صادق قد أعدَّ للرقص حُجرةً يسلك إليها المرشَّح ممرًّا ضيقًا مظلمًا، عرضَ فيه الملِك كنزه، فكان مَن مرَّ منهم يملأ جيوبه حتى يثقله ما حملَ، فلا يرقص إلَّا بعناءٍ شديد!  وبذلك رأَى الملِك بين أربعة وستين راقصًا ثلاثة وستين سارقًا؛ فعاقب أولئك السَّرَقة وأكرمَ الأمين الوحيد منهم وجعله على خزائنه.(4)

وبشِبه تلك الحِيلة امتحن ملِك (سرنديب) أزواجه ليتبيَّن خياناتهن جميعًا، إلَّا واحدة اصطفاها زوجًا من دونهن.

ويدخل (الدِّين) محورًا من محاور قِصَّة "صادق" لـ(فولتير).  ففي الفصل الثاني عشر، يجتمع جماعة- فيهم المِصْري، والهِندي من (جنجاريد)، والنازح من أرض (كتاي)، واليوناني، والكلتي، وآخرون- على مائدة العشاء في حديثٍ عن أوطانهم ودياناتهم.  وفي حديثهم ذاك خير مثالٍ على هذا المحور في القِصَّة، مصوِّرًا مقدار ما قد يؤجِّجه الدِّين بين الشعوب من عدم التعارف، بل من المفاخرات والصراعات الدمويَّة.

وهو ما سنناقشه في مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

......................

(1)  يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 19- 21.

(2)  يُنظَر: م.ن، 87- 88.

(3)  يُنظَر: م.ن، 19- 21.

(4)  يُنظَر: م.ن، 83- 84.

تُعدّ المرأة عنصرا أساسيا في المجتمع منذ القدم فهي صورة ورمزا للبطولة والتضحية. وهي في الرواية أيقونة يصعب الاستغناء عنها. وقد أصبحت محورا من المحاور التي استخدمها الأدباء في رسم صورتها للتعبير عن مختلف أفكارهم وتصوراتهم . كما أنها تمثل لهم منطلقا فكريا للبوح عن مختلف همومهم وواقعهم الاجتماعي والاقتصادي وعلى هذا فإن المرأة قد أصبحت بمثابة رمز فني، يحمل العديد من المعاني والدلالات. فحركة المرأة ترتبط بحركة المجتمع من جهة ومن جهة أخرى تمثل دلالة ورمزا ثريا موحيا عن الوطن.

وتكمن مهمة الصورة في الخصوصية التي تنفرد بها عن غيرها. وفي معالجتها لموضوع ما. وكذلك طريقة إيصال الفكرة المراد إيصالها للمتلقي.

وصورة المرأة عند علي فضيل العربي في رواية جوهرة والبيت الكبير من إصدارات دار الكلمات للنشر والتوزيع/2019 لا تعبر عن أزمة عائلة بعينها او بيتا عاديا طارئا إنما هي أزمة وطن قد يتخطى الجزائر والمغرب العربي ليمتد إلى الوطن العربي.وهذا يظهر لنا في آخر أحداث الرواية حينما أزال الأبناء والأحفاد من آل الهواري الجدران التي قسمت البيت الكبير والأبواب التي فرقتهم. وكأن علي فضيل العربي يزيل حدود سايكس بيكو ويعيد الوطن العربي كبيرا مثلما كان لا تفصله حدود ولا جوازات أو تأشيرات مستحدثة، فرقت الأجساد والقلوب.

ففي صفحة 262 ما ورد على لسان معمر أحد اولاد جوهرة بنت حمداد بطلة الرواية (هدمنا الجدران، جدارا، جدارا). وقد كان هذا بفضل جوهرة بنت حمداد التي ما فتئت تذكر الأبناء والأحفاد بالمحافظة على إرث الأجداد والحفاظ على وحدة البيت الكبير وإزالة الجدران والأبواب. وبهذا فإن صورة المرأة عند علي فضيل تتحرك في إطار وطني يعطيها القدرة على مواصلة رحلتها وسط عائلة ادعى أفرادها المدنية، فقسموا إرث الأجداد وتفرقت القلوب وتناحر الأبناء لكنها تنجح في النهاية بحكمتها وحنكتها في إعادة البيت كما كان ولم الشمل كما سابق عهده.

والمتلقي لجوهرة والبيت الكبير يستطيع التقاط الصور المتعددة التي عالجها الكاتب من خلال تصوره وعاداته وتقاليده التي تربى عليها. فنجد صورة المرأة المناضلة التي تكافح من أجل الوطن متمثلة بجوهرة بنت حمداد وحالها بعد استشهاد زوجها خالد الهواري. ومما جاء على لسان ابنها معمر صفحة 43 (أقسمت ألا ترفع الراية البيضاء، فهي تعلم أن الاستسلام من طبع الضعفاء والجبناء...رغم كل المحن صمدت صمود الأبطال في معركة التحرير. مازالت قصتها مع جنود الاحتلال الفرنسي والحركي، تثير آيات الإعجاب.. لم تكن تخشى الموت أو العذاب.. كانت تطحن، تبيت الليل وهي تدير الرحى، تخبز، تحضر الأكل للثوار، وتحمله لهم) وفي نفس الصفحة (كانت تحمل السلاح والذخيرة للمجاهدين).

كما ظهرت صورة المرأة الواعية سياسيا من خلال شخصية جوهرة بنت حمداد في أكثر من حدث من أحداث الرواية من خلال إدراكها لأهمية القتال من أجل الحرية التي لن نحصل عليها مالم يتحرر الوطن ففي صفحة 44 على لسان معمر (لقد كانت الثورة في حاجة ماسة لكل فلس أو درهم. وكانت أمي تردد وهي تلفنا في ذلك القماش الأصفر الرث كما روت: عندما نشرب ماء الاستقلال وننال الحرية ستلبسون الثياب الجديدة يا أبنائي).

كما تمثلت صورة الوعي السياسي من خلال ما ورد على لسان الجدة ياقوت صفحة 59 (فرنسا غدارة يا أولادي. لم ترحم أسلافكم، ملأت سفنها بهم ورمت بهم في البحر الخالي. ذنبهم الوحيد، أنهم ثاروا ضدها وعلى ظلمها).

كما تظهر لنا صورة الأم جلية واضحة في رواية جوهرة والبيت الكبير فقد كانت هي الصورة المركزية المضيئة في أركان البيت الكبير متمثلة في جوهرة التي ظلت تمنح الطاقة للأبناء والأحفاد. فمما جاء على لسانها صفحة 53 وهي تحثهم على الاتحاد (آه، لو تلعنون الشيطان وأراكم يدا واحدة). والأم هي العطاء ففي صفحة 9 عن جوهرة على لسان معمر (عاشت أمي جوهرة بنت حمداد لنا، نحن الأخوة الخمسة). وفي صفحة 6 على لسان معمر أيضا (كنا الأرض العطشى وكانت أمي مزنا تمطر علينا بسخاء لا مثيل له).

وفي صفحة 88 يتضح دور الأم الحازمة التي تحمي أولادها من أنفسهم.فعن جوهرة على لسان معمر (كانت امراة صموتا لا تحب لغو الكلام، كلامها ما قل ودل وكأنه فرض كفاية.لكنها عندما تشرق في سمائها ملاحم الأجداد الكرام أو ينحرف الأبناء والأحفاد....فإن الكلام لحظتها يصبح فرض عين لديها. لا أحد يجرؤ على إخماده).

كما ظهرت صفحة 4 عن جوهرة على لسان معمر صورة الأم القوية الصلبة المربية والموجهة للأبناء والأحفاد (كانت أمي تختم حديث الأمجاد والبطولات قائلة بحسرة : النار تلد الرماد يا أولادي، اشربوا نبع الجدود ترتووا) وفي صفحة 5 على لسان جوهرة لأولادها (ربّوا أولادكم على الوفاء والأمانة).

كما ظهرت لنا في رواية جوهرة والبيت الكبير صورة المرأة المقهورة ويمثل هذا النمط واقع المرأة المتأزم الذي ينظر إليها نظرة مادية فقط، يفقدها حريتها الإنسانية مجرد ملكية، قيمتها في الانصياع لرغبات الأهل ونجد هذه الصورة في شخصية فاطمة الزهراء عمة معمر حيث زوجها أبوها من ابن عمها دون علمها ففي صفحة 11 عنها ما جاء على لسان معمر (كانت عمتي فاطمة الزهراء امراة طيبة. تزوجها ابن عمها.. وهي ما زالت في سن الرعي. يومها رجع جدي من سوق الاثنين وأخبر جدتي_طيب الله ثراها_ بموعد زواجها) وهنا يظهر عدم استشارة البنت بالموافقة على الزواج بل عوضا عن ذلك يزوجها الأب في السوق ويحدد مهرها وموعد زواجها. وفي صفحة 112 يذكر معمر قصة طلاق عمته فاطمة الزهراء (هي كلمة واحدة يقولها فقط، أنت طالق بالثلاث. تضع الزوجة حايكها وعجارها وتتأبط رزمتها وتعود إلى بيت أهلها).

كما يستطيع المتلقي التقاط صورة أخرى من صور علي فضيل العربي للمرأة وهي صورة المرأة المظلومة ومنها ما جاء على لسان معمر عما جرى لجارتهم حليمة ليلة دخلتها صفحة 166(شاع سرّ عدم عذريتها بين الرجال...قتلها أخوها البكر بإيعاز من والدها...وحليمة التي لم تتجاوز مرحلة الرعي بقليل، مستسلمة لقدرها المحتوم وهي لم تعرف معنى الحرام ولم تقربه).

ونجد أيضاً صورة المرأة النرجسية تلك التي تتعالى على زوجها وتعامله كأداة لتحقيق ما تريد من مصالح وتتمثل في رواية جوهرة والبيت الكبير في شخصية زوجة محمود الهواري الذي سافر إلى فرنسا وتزوج قشتالية بعد أن أنقذها من محاولة انتحار، طلبت منه الزواج وعندما أنجبت منه البنين تخلت عنه فعاد إلى بلاده خالي الوفاض. ففي صفحة 16 ما جاء عن زوجة محمود على لسان معمر (ولم يكن يقوى على رد الصاع ولو بمثله، أدرك أنها امرأة عنيدة كقومها ناكرة للفضل مثلهم).

كما كانت صورة المرأة الحكيمة تتجلى كالبدر في رواية جوهرة والبيت الكبير في شخصيتي الياقوت وجوهرة وقد استاطعت كلتاهما الحفاظ على إرث الأجداد من الضياع ففي صفحة 181مما جاء عن الجدة الياقوت على لسان معمر (لم تدخل مدرسة أو جامعة. فقد أخذت دروسها وحكمتها من كلية الحياة). وعلى لسان جوهرة لولدها معمر صفحة 79 (أمك يا عالم الدين علمتها مدرسة الحياة دروسا ربما ام تعلمكم أياخا مدارس الحكومة).

كما ظهرت لنا صور كثيرة للمرأة تمثلت في شخصية جوهرة كصورة ربة البيت الناجحة التي تطعم بيتها مما تربي وتزرع.

وصورة المرأة التي تقف جنبا إلى جنب مع زوجها في أعماله اليومية والكثير من الصور التي تحمل معاني حضور المرأة الإنساني وتفردها الأنثوي.وقد قامت بنية الرواية على هذا الحضور.

وقد الكاتب نجح في تناول موضوع المرأة في أبعادها المختلفة، النفسية والاجتماعية والفكرية بطرق فنية تتباين وطبيعة الموقف.

كما تناول الكاتب الكثير من الإسقاطات المهمة التي يحتاج كل منها إلى دراسة مطولة.مثل تناوله لطقوس مهمة شملت طقوس الزواج وزيارة مقامات الصالحين ومواسم فرط الزيتون وعصره وغيرها الكثير من الطقوس الأصيلة التي تعتبر من الموروثات المهمة لدى الأمم. كما وأتى على ذكر الكثير من الأحداث التاريخية المهمة في فترات عدة من تاريخ لا يقتصر على تاريخ الجزائر فقط بل تعداه إلى عدد من البلدان العربية ما يدل على سعة ثقافة الكاتب واطلاعه وإيمانه ببلاد العرب أوطاني وإثبات عبارة كلنا في الهمّ عرب.

***

قراءة بديعة النعيمي

لما كانت الحقيقة، هي القيمة الفورية للفكر بوصف الفكر مرآة ضرورية للحقيقة الخارجية والطبيعية، ذلك ما يدرك ويعكس العلاقات أو الصلات بين الأشياء، إذ يُرى كل شيء بالعلاقة أو القرينة، ويبدو أنَّ وليم جيمس يرى أن المعنى والنظام موجودان، وينكر على من يدعي أنَّ الترابط والتداعي من تأليف الفكر، بل يرى أن الظواهر الفكرية تجري في تيار متصل، ويبدو أنَّ البراجماتزم هو في ذاته يتساءل عن نتائج الشيء، وبذلك تحول وجه الفكر إلى العمل والمستقبل(1)، كما أنَّ عوالم الشعر والفكر عناصر إثارة وطرافة وجِدَّة تقودنا إلى الدهشة العميقة بالجديد والطريف والمبتكر على مستوى الأفكار والأساليب بوصف الفنان الشاعر ذا إحساس عميق بالأشياء وانفعاله بها، فالشاعر يغوص في أعماق الأشياء من أجل استنباط مدلولاتها ومعانيها الغامضة، وهذا يتطلب ملكات عقلية ما يجعل منها تقترب أرضها بأرض الفكر ومن ذلك المعرفة العميقة التي نعدها جسراً يوصل بين الأفق الشعري والأفق الفلسفي (2). وحين نتأمل في المخيلة الخلاقة نجد الشاعر والفيلسوف يمتلكان معيناً ثراً؛ لاتقاد الفكر الفلسفي والشعري، ومن ثم تتشابك الرؤى وتفترق بوصف الشعر شعور إنساني يؤسس لسلوك قويم، بينما الفلسفة تدرس الظاهرة علمياً ولايعنيها ما تتجه بها النتائج.

ويبدو أنَّ الشاعر الواسطي حسن سالم الدباغ في كثير من نصوصه في مجموعته الشعرية (مثلي لايكتفي القمر بنجمته) ونحن نستقرئ فيها رؤاه نجدها تطرق أفكاراً براغماتيةً (عملية) إذ نراه يدين بعض مظاهرها ؛ كونها لاتنسجم مع ما تربى عليها مجتمعنا إلا أننا نجدها سائدة فيه، وهذا ما يطلعنا عليه الشاعر ومن ذلك في قصيدته (خشية) التي يقول فيها:

فراغ

وأحصنةٌ في المرابط

لم تعد تستسيغ

الصهيل

أو الجري مأخوذة بالطريق

تجرجرُ أذنابها

إنَّها تضع الآن أعرافها

على أسطح العربات

تنام

وتحلم أن سوف تفقد حدواتها

ولا تشتهي لذة الجري في الطرقات

إذا لم تُشد إلى همرات .ص38

فالتقاعس والفراغ صنوان متلازمان، إذ صارت في العصر الحديث الغلبة للمنفعة المادية بوجهها المُسلَّم به، فليس من اعتماد اليوم على النفس والكدح الذي فطرت عليه الأجيال، كما كانت بالأمس تتصبب عرقاً أزاء لقمة العيش، فصارت  اليوم تعيش فراغاً، بعدما شاع لدى بعضهم من انتزاع قيمه ومبادئه وراح يتصيد عسى سلعةً تتأتى من دون بذل جهد ؛ فلاشيء يخسره سوى التهافت على المادة دون الاحتراز للقيم التي أُودعت فيه، ويبدو أنَّ الحصان الذي كان يسحب العربة في النص الآن يقطن المرابط، بيد أنَّه يشكو الفراغ، فصار لايألف عيشته في الزمن الماضي طالما الهمرات هي ما تسحب العربة في إشارة إلى دواعي الاحتلال   التي دعت الكثيرين للكسب غير الشرعي من أجل الرفاهية لقاء الانسلاخ من الجذور طالما أنَّ هناك مظلة تحمي موبقاتهم، فلا حاجة للكد والكدح إزاء ما تمنحهم الوفرة ومن دون محاسبة للذات أو الاسترشاد بالقيم أوحتى من صحوة الضمير، ولعل البراجماتزم التي ترى أنْ لاسؤال عن مصدر المنفعة أو "من أين جاءت أو استمدت أو ماهي مقدماتها، فإن البراجماتزم تفحص نتائجها، وهي تبتعد عن كنه الشيء ومصدره، وتتجه إلى نتيجة الشيء وثمرته وعقباه" (3) فهي في كثير من أحوالها ما تغوي وتحطَّ من يلجأ إلى مساربها وسلوكها المقذع .

وفي صورة أخرى يطلعنا عليها الشاعر وهو في تماس مع الواقع، فحين لايرى الإنسان بُد ممن يهواه، يغادره لعالم آخر، فيغلق الأبواب أمامه لنفاد المنفعة،   يقول الدباغ في قصيدته (باب على الغياب):

ألقيتِني في الظلِّ

ثمَّ رجعتِ تحتطبين

ذاكرتي

وأطلقتِ السراب

زُمراً على القلبِ الخراب

وجعلتِ بينكِ والوصول إليكِ باب

حتى إذا ابتدرت خطاي

صفقتِهِ

كالريح في وجهي

وقلتِ لوحشةِ الأبواب

...

غابْ .ص68

ويبدو أنَّ الشاعر ينكر على من يناديها ما صنعت به، إذ ألقته في ظل قارعة الطريق، ومن يُلقى على هذه الشاكلة ليس إلا  العاجز الذي نفدت قوته، وما عاد ينفع وهذا أسلوب المجتمعات المادية التي لاتستعذب إلا المنتج والمعطاء، ولعل  احتطابها ذاكرته، ثم إغلاقها الباب عليه ؛ كي لايصل إليها في إشارة إلى نهاية المطاف بينهما، فلا طريق بات يوصل بينهما، ويبدو أنَّ الشاعر يلومها على فعلتها، فهو يشير بصفقها للباب بوجهه تعبيراً عن حالة نفورها منه بيد أنه يشير إلى وداعته معها بأسلوب عتب الهادئ المُحب الذي استوحشت غيابه حتى الأبواب  في إشارة بأنه ليس السبب، إنما هي من أنهت كلَّ شيء .

أما في قصيدة سابلة في مقطعها الأول(عزلة) التي يقول فيها:

يشاركهم صمتهم

يضحكون

يشاكسهم يضجرون .ص90

إذ نرى أنَّ الإنسان بات يجامل ويحابي من هو يرضي سريرته، ويتوافق مع رغباته، بيد أنَّه يضجر حين يُخالَف في الرأي حتى وإن كان مُخطئاً، فتراه ضجراً لايقبل المشاكسه أو الاختلاف، وكثير هم في هذا العصر الذي تسيدت فيه الأفكار المغلوطة، فباتت تمشي على قدمين ؛ لفقدان القانون ما جعل الأصوات حتى الناشزة منها لها مركب في عصرنا الحاضر بما يطلق عليه العصر الديمقراطي فمن أراه من توجهي صار يضاحكني وأضاحكه، ومن تحزَّب بما يضيِّق على مصلحتي ومنفعتي فهو ضدي، ثم يقول:

لهُ حكمةٌ

ولهم حكمةٌ يرتضونها

وما كان يعرفه:

أنَّهم

كلما انفضَّ عنهم

إلى جدثٍ واحدٍ

يدخلون . ص 90

فهم سابلة يبحثون عن غاياتهم، وحتى المقابر صار لهم فيها شأن لايتركون ما فيها من منافع، وهذا حال بعضهم ولاسيما في عصر ما بعد الحداثة الذي أقصى المثال والقيم وراح يشيع المنفعة التي ما أبقت للقيم من مكان يجانب إنسانية الإنسان، ويبدو أنَّ الشاعر يرفض ما يشيع اليوم بعد رؤيته الكشفية بوصفه أكثر إشراقاً بحدسه استناداً إلى الوظيفة الجوهرية في قدرته على رفع الأقنعة وفضحه المستور بالخيال المنخرط في دائرتي المكان واللامكان ؛ لتجسيد فعل التوقع وما يضمره الواقع من استبطان للفعل الذي صار يشيع بأقنعة يمكن أن يسلط الضوء عليها كموضوعات فبات الشعر ينتقد ظواهر المجتمع حتى صار في كثير من الأحيان يميل إلى التفلسف فيها وتقديمها كموضوع معرفي بوصف الشاعر هو إحساس الإنسانية،إذ لا إنسانية بغير إحساس  (3) لذلك فإنَّ الشعر مايزال وسيلة نقد وإرشاد وتوجيه .

***

بقلم د. رحيم الغرباوي

.................

الهوامش:

(1) ينظر:قصة الفلسفة من افلاطون الى جون ديوي، ول ديورانت دار المرتضى، بغداد شارع المتنبي، 2018م: 617- 618

(2) ينظر: دراسات في الشعر والفلسفة، د. سلام الأوسي، دار نيبور للطباعة والنشر، الديوانية، ط1، 2013م: 86 .

 

ضمن سلسلة اصدارات منتدى شواطئ الأدب – بشامون – 2023 بيروت صدر للأديب علي أبي رعد مجموعته النصية ( وطني هبةُ ريح ونطير) . قراءة أولية للعنوان ستجده يتكون من محورين محور الوطن ومحور الهجرة، هذين المحورين المتعاكسين يحملان بين طياتهما صراع ما بين التجذر والانفلات ويكون بهذا قد اختزل الشاعر علي أبي رعد المتن من خلال عتبته هذه كي يضيء الدرب للغوص في أعماق النص ومتعرجاته .

وكما في مجموعته الاولى (ابحار على متن الكلمات) وهكذا في مجموعته الثانية (وطني هبةُ ريح ونطير) الشاعر يكشف عن القلق الذي رافقه طويلاً وهو يتأمل مستقبل وطنه وشعبه، لذا جاءت عتبته (العنوان) للكشف عن ما يمكن أنْ يتوافر عليه الكاتب من قلق وجرأة في التعرّف على مايجري في الوطن، اذ جعل كلماته تمور في أسفاره البعيدة، والتي هي مجموعة من التناصات اليومية التي واكبها الأديب"علي أبي رعد" فتراءت له على شكل محورين متنافرين ومتضادين، محور مفهوم الوطن والوطنية ومحور الآلام التي يتركها سوط قادة الوطن في كيان المواطن كي يفكر بالتخلي عن هذه الهبة التي منحها له الله (الوطن وشعور الانتماء) مما أفضت بنا إلى الاندفاع للخوض فيما تحمله نصوص مجموعته الثانية والتي هي عبارة عن كلمات تشبه الصواريخ العابرة للقارات،  حيث تخترق الهيكل لتستقر في القلب والفكير مجسدة لدى القارئ بأن ما يمور في الأعماق يتجسد مثل البصمة فيكشف عن معناه الحقيقي . فبالرغم من القلق الذي رافقه طويلاً، جعل كلماته تمور في أسفاره البعيدة، إلا أن الفرق بين المجموعتين في الثانية ركز الشاعر كثيرا على العمق الفلسفي والسياسي مبتعداً بعض الشئ عن الشعرية الذي اتكأ عليها في مجموعته الآولى بعد أن تيقن إن القارئ وبسبب تراكمات مخلفات الصراع وكمية ما استنشقه من هواء مخدر  جعل المواطن مخدرا وكما يقول:

كم مؤلم أن تكون بنصف موتك

ويقنعونك ...

بأنك ما زلت على قيد الحياة

 مما دفع الشاعر التخلي بعض الشئ عن الشعرية ليقدم للقارئ طبقته الدسمة بطريقة أكثر سلسة وسهلة لتقريب وجهة نظره الى القارئ .

ففي المجموعة الاولى كان الشاعر يتكئ على فضاء من الاستعارات التي تصنع المشهد الشعري وفي الثانية يرسم الصورة بشكلها الواقعي ليوجه صواريخه مباشرة الى الهدف:

سأرمي بأحلامي ...

على الأ رصفة تحت أقدام الليل ...

أتسكع في شوارع المنفى

وأعلق ضجري على جدار الوقت

تاركاً أشرعة القلق

في مهب الريح

وأمضي بقطار الفراغ

الى عتمة اللامكان

هناك في البعيد ...

حيث يموت الزمان وتتلاشى الصور

نراه بعد تجربة شاقة من العمل على أرض الواقع في الساحة الثقافية والاجتماعية وربما السياسية ايضا، يهجس بما أختزنته تجربته عبر رؤية وهو ينتخب زوايا النظر للمَشاهد التي تخصّه وشعبه، ويقارن بين ما كان الواقع في تجربته الشعرية الاولى والثانية لذا جاءت نصوصه وكأنها مرايا، تعكس لمرآى أناه المنطوية، القلقة، والباحثة عن المُضمر والغائب وغير الآمن وهو يقول:

عندما ننام تسافر أطيافنا

تشارك الآخرين أحلامهم

وتقول لهم أشياء ..

لا نجرؤ نحن على البوح بها

نصوص كهذه تعكس بشدة ما تحمله الذات الشاعرة في نصوصها لتبوح لنا مدى القدرة على الاستقصائية عن الذات، ومدى القدرة على النحت فوق أسطح مخيلة القارئ للتخفيف من شدَّةِ غلواء الصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر والقارئ، والتقليل من آثار جيشانِ إرهاصاته النفسيَّة واحتدام تداعياته الشعورية التي يواجهها في حياته الشخصية سواءٌ أكانت تتعلّق بواقعه الذاتي الاجتماعي أم بواقعه البيئي الجمعي - الراهن والحاضر. إنها تعبير عن الانفعالات والمشاعر، أو لنقل إنها جواز سفر تنقل بمقتضاها الأحاسيس والصراع الداخلي، الغامض والمشوش إلى عالم خارجي واضح جلي، وهذا ما يتجسده نص كهذا:

قد لا تكون الريح مؤاتية

لكن علينا بالإبحار

ما دامت كل الجهات مقصدنا ...

من هنا يتيقن الشاعر، لم يبقى لديه وشريحة كبيرة من شعبه من سبيل إلا الطيران والرحيل الى عالم آخر وهذا ما عكسه المحور الثاني من العنونة (... ونطير) .

في مجموعته هذه تيقن الشاعر بأنه ليس بحاجة الى الاستعارات والرموز لذا سار على طريقة الشاعر الامريكي والت وايتمان في مجموعته (أوراق العشب) جاهداً على تفعيل حواسه كلها، كاشفاً عن حضور الذات الفاعلة لعكس الصورة الحقيقة للواقع بصورة مرئية واضحة كي يدغدغ مشاعر القارئ وخصوصا الطبقة الحاكمة والمؤثرة من خلال الصور التي يستحضرها ويحولها إلى عناصر فاعلة تذوب في جسد النص بعد أن تيقن أن الكتابة هي تفجير لأوجاع / أوضاع / مخاضات / الناس في الحالة الراهنة وفق شروطها المناخية فيقول:

لستُ مهزوماً كي أُنكس رايتي

ولست منتصراً كي أرفع شارة النصر

أنا الآن ...

كلما مُتُ أعود وأجمع أشلائي

نصوص  حسية كهذه تتشكل داخل بنية يومية في أوطاننا تراها  متوهجة بتكثيف جملها المقتصدة في ألفاظها والمشحونة بتموجات الذات المهمومة باعتماد الكثافة اللفظية، حيث يستأصل الأشياء من بيئتها ليعكسها على شكل صواريخ عابرة محملة بهمومه وانكساراته وصلابته للتحدي أمام الواقع وهي تخترق الوجدان كونها كاشفاً ضوئياً بصوته المحكي عن صدى تجلِّياته التعبيرية المؤثِّرة باستنطاقها الصوري والحركي التي تجذبه إليها وتستأثر بثقافة اهتمامه الآسر في تواصله معها .

دائماً نجد الشاعر يقدم لنا مشاهد تضادية تُسهم في تنمية المسارات الإيحائية وهي تسبح في دلالاتها المباشرة حيث تنساب صوره بشكل سلس من أجل كشف الرؤيا والمضامين الموحية ويضع صور مشاهد الواقع التصويرية على حقيقتها، دون رتوش أو تجميل كقوله:

يمشون دونك خفافاً ...

وكلما حاولت لمسهم تجد نفسك في السراب ...

ما أصعب أن تبقى معلقا في الفراغ ...

لا الأرض تحتضنك وليس بمقدورك أن تطال السماء ..

إن ما تحمله نصوصه من شحنات توترية تكون أساسها محور الذات الشاعرة، والتي لها القدرة على اصطياد الصور  من ذوات العلاقة الوطيدة بحياته اليومية، خصوصاً عندما يتعلق الامر بمصير شعبه حيث تتولد الرؤى، وتنبثق المواقف، فكانت وقائع (مَرايانا) مرآةً عاكسةً لِمَا في الرُّوح الذاتية الشاعرة، الظاهرة المتجلِّية والخفيَّة المُضمرة، إنها مرآة لحال واقعنا في الماضي والحاضر وربما المستقبل .

رصده لبعض الظواهر السلبية في واقعه عكست ملامح القصيد بعمق والمتجسدة في كينونته الناشطة في الحراك الإنساني / الثقافي / الفكري، لتعكس لنا تحورات الأنا داخل تمخضَّات الروح، فالذات الشاعرة هنا تتحرك بتلقائية، وتضع يدها على الجرح بجرأة كبيرة، وتحدد ببساطة كيفية سريان هذا التيار …

ستبدو لنا عيناته هذه هي التي ترصد المكان أو الحدث، وسيترجم لنا الحراك الواقع على مرآة الحقيقة وفق معايير العين الشاعرة والذات المفكرة التي كتبت نصوصها إزاء تلقائية اللحظة الشعرية .

تعالي نلتحق بالثورة

ونرجئ فكرة النصر للصدفة

أو إلى زمن يكون

البحر أكثر إصغاءً

والريح أكثر عطفاً

والثلج أكثر دفئاً

والموت أقل انشغالاً عنا

الشاعر علي يستمد خاماته الشعرية، من معطيات الواقع وافرازاته الدالة، في عمق الاحساس الصادق ليزيل الغطاء عن صيرورة الواقع بظواهره المحسوسة واللامحسوسة، فحال اصطياده للحدث يقدح ذهنه بشحنات من التفكير والتأمل وهذا مرتبط بما تقدّمه مخيلته من قدرات تصويريّة تساعده في نقل تجربته وإحساسه إلى الآخر . كقوله:

أيها العابرون فوق جثثنا ..

ألا تتعبون من طحن عظامنا

أرغفة لجوعكم الأبدي ...

وفي مكان آخر يقول:

وأنتم توقدون عظامنا

لطهي ولائم جشعكم ..

ألا تتعبون من بيع جثثنا

في أسواق مصالح الدول؟

بأثمان لا تكفي لحفر القبور

وختاما نقول:

أن كل نص من نصوص الشاعر علي أبي رعد الدسمة تلتحم فضاءاتها الرؤيوية بتشكيلاتها البنائية، وفق ما تضمره من أبعاد دلالية واسعة، بل مترامية الأطراف، فكل تجل تشكيلي للداخل النصي ومكنوناته، لا يعدو إلا أن يكون مدار التجربة الداخلية والخارجية لذاته الشاعرة فهو يخوض في تلك المناطق العميقة من الذات في تقاطعاتها وتوازياتها وتماساتها مع العالم الخارجي والداخلي من خلال المحورين الداخلي (الوطن) والخارجي (الهجرة) عن طريق طاقة التجريب التي تتوجه نحو التشكيل لما لهُ من ملكة شعرية فائقة في الرصد والتقاط من اليومي المعاصر استنباطا، استقراءاً للأحداث التي ستحصل . فألف تحية لانجازه الجميل هذا وما يقدمه دوما من نصوص ناضجة لها قدرة التشظي والاختراق .

***

نزار حنا الديراني

توطئة: ثمة دوافع ذاتية تدفعني مغمورة بالأعجاب يعظماء وطني العراق المفدى أخزن في ذاكرتي (أرخنة) مولد ووفاة قادة الفكر العلمي والثقافي، ربما هي من أرهاصات كاتب يعشق رموز موطنه، فكان يوم 24ديسمبر كانون أول أستلمتُ أشارة من أعماق الذا ت المتعبة جراء  شتاء العمر الثقيل تقول: قم يا هذا وأقف أجلالاً (اليوم 24 ديسمبر كانون أول عام 1964 ذكرى الغياب الأبدي لأهم وأكبر شعراء العرب في القرن العشرين، هو الشاعر العراقي الكبير " بدرشاكر السياب "، يعتبر السياب أحد مؤسسي الشعر الحر في الأدب العربي، تعايش مع مزيج من المؤثرات البيئية والأجتماعية السوسيولوجية والتي أثرت في تشكيل الذات عند الشاعر التي هي: 

-الطبيعة الساحرة لأرياف جيكور الخلابة .

- مزاجاته المتغيرة في تغيير المكان .

- لم يصل لتجربة ناجعة مع حواء .

- أضطراب قراراته السياسية في تغيير المواقف الفكرية.

بيد أنهُ أباح عنها بأعظم القصائد دقة ورصانة وواقعية أبهرت العالم في أربعينيات القرن الماضي في كتابه المشهور" أنشودة مطر" التي تضم مجموعة من قصائد رائعة مثل: قصيدة غريب على الخليج، وأزاهير ذابلة، المومس العمياء، ومنزل الأقنان، وشناشيل أبنة الجلبي وقصائد أخرى تعتبر من ألمع الدرر في الشعر العربي الحديث منها: نهر الموت، جيكور، وبورسعيد، وكتبت عنهُ بعض وسائل الأعلام المنصفة: {إن السياب لا ينازع في عراقيتهِ الصميمة مع إنهُ لم يأخذ شيئاً من وطنهِ أثناء حياته من تكريم وتقييم . 

موضوع البحث:

محطات في حياة الشاعر السياب:

المحطة الأولى في حياة السياب المبكرة حين أواضحا أظهر أهتماماً واضحاً بالمذهب الرومانطيقي أحد المذاهب الأدبية الذي يولي أهتماماً كبيراً بالأنسان متأثرا بمفهومه الماركسي (الأنسان آثمن رأسمال) حيث تبنى النزعة اليسارية حيث أمتاز بها في هذه المرحلة المبكرة من حياتهِ وهو يعايش الصراع الطبقي في قريته جيكور البائسة وشظف العيش للفلاحين والشغيلة في عموم البصرة المحرومة التي عايشت النظام الشمولي والأستبداد وكم الأفواه لكن مع الأسف أتجه إلى النضال السلبي حيث الأحباط والقنوط وكره الحياة وعقد صداقة مع الموت في الهروب إلى الأمام كقصيدة حفار القبور، وقصيدة الموت يقول فيها:

يمدون أعناقهم من ألوف القبور يصيحون بي !

أن تعال

نداءَ يشقُ العروق، يهزُ المُشاش، يبعثرُ قلبي رماداً

أصيلَ هنا مُشعلَ في، الظلال

تعال أشتعل فيهِ حتى الزوال!

ولا شيء إلا إلى الموت يدعو ويصرخ، فما يزول

خريفَ، شتاءَ، أصيلَ، أفول

وباقٍ هو الموت، أبقى وأخلد من كل ما في الحياة

- المحطة الثانية: في هذه المرحلة حدث للسياب تحولا (فكري) بأتجاه قومي عروبي في ستينيات القرن الماضي حيث  المد القومي بزعامة الزعيم المصري عبدالناصر، فكانت قصائدهُ تقنع المتتبع الثقافي أن يقرأ هويتهُ القومية قصائدهُ عن الجزائر وفلسطين وقصيدة بور سعيد عام 1956الذي يقول: 

حييت بور سعيد من مسيل دمٍ

لولا أفتداءَ لما يغليه ما هانا

إن العيون التي طفأت أنجمها

عجلن بالشمس أن تختار دنيانا

وأمتد كالنور في أعماق تربتنا

عرسَ لنا من دمٍ وأخضل موتانا

- المحطة الثالثة: جل قصائده الأخيرة تحمل صوت أوجاعهِ ومعاناته حيث أصيب بمرض التدرن الرئوي والشلل النصفي وهو بعمر شبابي مبكر، أضافة لمعاناته المادية  في نفاذ أجازاته المرضية  وأجازة نصف راتب  بدت عليه المعاناة الأليمة وحمل تلك الرزايا صابراً محتسباً فأشعرهُ  (جن الشعر)  بقصيدة " سفر أيوب " المشهورة يقول: 

أأصرخُ في شوارع لندن الصماء

هاتوا لي أحبائي!؟

ولو إني صرختُ فمن يجيب صراخ منتحر

تمرُ عليهِ طول الليل آلاف من القُطرِ

لندن 28-12-19

أسلوب السياب الشعري ومدى تأثرهِ بأليوت وأبي تمام؟!

وقبل هذا أقول أن للسياب الأثرالأهم للتحوّلْ النوعي في خارطة الشعر العربي الحديث المعاصر وفي تيار الحركة الحداثوية الشعرية في تضاريسها وأدوارها:

-هو رائد الشعر الحر، بدأ بكتابة الشعر الكلاسيكي منتقلا إلى الشعر الحر لشعوره أن القديم لا يحقق مساعيه في أرهاصاته الداخلية في أعلان الحرب على الحرمان والفقر والموت، ولآنّهُ رأى في فلسفة الحياة مختصر الكلام (الصراع بين الفناء والوجود)، وأني أرى أنهُ ليس سوداوياً كما يزعم بعض النقاد لأنهُ بدأ بقصائد غلبت عليها الرومانسية متأثراً بطبيعة جيكور الخلابة ومفاهيم الحب وهو يقول في هذا المجال: 

أشاهدت يا غاب رقص الضياء

على قطرةٍ بين أهدابها؟

ترى أهي تبكي بدمع السماء

أساها وأحزان أترابها

وأفراح كل العصافير فيها

وكل الفراشات في غابها

- السياب أكثر رغبة في توظيف الأسطورة والرمز في النسيج الشعري للواقعية الجديدة، وبانت جلية في " أنشودة المطر " التي وظّف فيها أسطورة عشتار، يقول:

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق الكروم

وترقص الأضواء كالأقمار في نهر

وعندما نقرأ للشاعر الأنكليزي (أليوت)هو توماس ستيرنز 1888 -1965 هو شاعر وناقد ومسرحي وفيلسوف أنكليزي أظهر في نصيتهِ الشعرية الرمزية والأسطورية  ببعضٍ من الغموض والصعوبة، ويعكس التهاتف النفسي والحضاري لدى الأنسان الأوربي، وتوضحت فلسفتهُ الشعرية في قصيدته المشهورة (الأرض اليباب) The Wasta Land فالشعر الجيد في نظر أليوت هو قد يبلغ القلب قبل تمام الفهم، فهو من رواد الشعر الحر الأنكليزي، وقد تأثر به عدد كبير من الأدباء والشعراء والنقاد العرب، منهم على سبيل المثال لا الحصر: بدر شاكرؤ السياب ونازك الملائكة ولميعه عباس عماره ولويس عوض وصلاح عبد الصبور وجبرا خليل جبرا وأدونيس ويوسف الخال ومحمود درويش، فأصبحت القصيدة المعاصرة أكثر وأغزرها في تناول الأنسان المعاصر في تراثهِ وحضارتهِ وأحداثهِ التأريخية وقضاياه الآنية: هنا مفترق الحديث حيث يأخذ الشاعر الأوربي بأتجاه حضارته الأوربية كاليونانية  والرومانية والآخر في فضاءات الأدب العربي يتحه نحو جذوره التأريخية في بابل ووادي النيل، فشاعرنا السياب في الأربعينات كان واضحاً بمقارباتٍ نصية شعرية بما لدى(أليوت) من تركيز على التراث وأستخدام الأسطورة والرمز والأيحاء والأشارة التظمينية .

-وصراعات تغيرات المكان وأزماته الفكرية وشظف العيش وأفتقاده لحب أمرأة ضاعفت أشكالاته وتحولت إلى أزمة مزمنة نفّس عنها بقصيدة حنين لجيكور تعكس أستلابات المنفى والغربة والضبابية واليأس وبعضٍ من الشجون والأسى، ولكنه على العموم يطفح بالحنان والرقة ويتجه بها ألى (الرومانطيقية) تلك النزعة الأدبية السائدة في الأدب الغربي الأوربي وهذه بعض أبياتها:

{أه جيكور جيكور ما للضحى كالأصيل

يسحب النور مثل الجناح الكليل

جيكور ديوان شعري

موعد بين ألواح نعشي وقبري

وفي قصيدة أخرى يقول:

لا تزيديه لوعة فهو بلقاك

لينسى لديك بعض أكتئابه

قربي مقلتيكي من قلبي الذاوي

تري في الشحوب سرّ أنتحابهِ  . وأخرى:

ليت السفائن لا تقاضي راكبها عن سفار

أو ليت الأرض كالأفق العريض بلا بحار

متى أعود ؟ متى أعود؟

وا حسرتاه --- لن أعود إلى العراق ! .

- السياب رائد الحداثة الشعرية حيث لا يختلف أثنان في مدى شاعريته وجدارته في الأبداع الشعري بتعدد المستويات والمحاور، وكما تقول عنهُ الدكتوره ناديه هناوي في المنجز النقدي حول شعر السياب: (--- وكأنهُ متحف لكل ما عرفهُ النقد من مذاهب وأتجاهات أبتداءاً من التأريخية وأنتهاءاً بالبنيوية)أنتهى، حتى أصبح المنجز النقدي عن شعر السياب حالة نموذجية عصية الأستنساخ أطرتْ شخصنة السياب بالذات ويمكن أن يصطلح عليه أسم (نقد النقد) أو ما بعد النقد، وان رأي الناقد العربي أسعد رزوقي في كتابه الموسوم (الأسطورة في الشعر العربي المعاصر)الصادر عن دار مجلة الشعر اللبنانية: هو أنهُ يمكن الجمع بين خمسة من الشعراء العرب هم جبرا أبراهيم جبرا وأدونيس، وخليل حاوي، ويوسف الخال وشاعرنا بدر شاكر السياب، وأني أثني على رأي الناقد، لأن الأسطورة والرمزية تشكلان محور البناء النصي السردي لكينونة وصيرورة القصيدة السيابية والتي جاءت واضحة ومتماثلة مع الشاعر أليوت في توظيفه للأسطورة .

وهذه بعض أبيات من قصيدة (الأرض اليباب) لأليوت نرى واضحاً أستعماله تلك الأدوات الأدبية في الرمز والأسطورة وفوبيا المجهول الذي يسيرهُ الموت فتبدو متطابقة مع النصية الشعرية عند السياب:

دفن الموتى

نيسان أقسى الشهور، يتناسل الليلك في البريّة الميّتة، وتمتزج الرغبة في الذكرى، وتهتاج الجذور الشاحبة عطر الربيع، أية جذورٍ متشبثة هذه ؟ أية أغصان ؟ تنبتْ من هذه النفاية الحجرية، أخافُ من الموت بالماء، أرى حشوداً من البشر يسيرون في دائرة .

أنظر إلى السياب كيف يملي على شعره الرمزية التصويرية بالأستعانة (بالميثولوجيا) والأشارات التأريخية وهذه مطلع قصيدتهُ أنشودة المطر التي تعتبر أيقونة بارزة في الأرث الثقافي العراقي والعربي، وعليك أن تكتشف تلك المقاربات الفكرية في سير السرد النصي في شعر السياب وأليوت وأبي تمام:

أنشودة المطر 

عيناك غابتا نخيل ساعة السحرْ

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ

عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ

وترقصُ الأضواء كالأقمار في نهرْ

أتعلمين أي حزنٍ يبعثُ المطرْ

وكيف يشعرُ الوحيد فيهِ بالضياع

بلا أنتهاء كالدمُ المراق، كالجياع

كالحبِ كالأطفال، كالموتى هو المطر

- وأن بدر شاكر السياب متأثر بالشاعر "أبي تمام" في نصيّة المفردات الشعرية بأستعمال الرمزية والأسطورة، وهذه بعض من بائية أبي تمام المشهورة، الذي ربما تأثر بها السياب وهي  قصيدة عموريا بالحقيقة  هي ملحمة شعرية أكبر من أن تكون قصيدة:

السيفُ أصدقُ أنباءاً من الكتبِ

في حدهِ  الحد بين الجد واللعبِ

بيضُ الصفائح لا سود الصفائح

متونهن جلاء الشك والريب

وأشعر أبو تمام في الحنين للوطن وقال:

نقّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحبُ ألا للحبيب الأولِ

كم منزلٍ في الأرض يألفهُ الفتى

وحنينهُ أبداً لأول منزلِ .

أخيرا/ ربما قد تقارب الشاعر بدر شاكر السياب مع أليوت وأبي تمام في الرمز والاسطورة والحنين للوطن، بيد أن السياب تمكن من رسم شخصنته الشعرية المميزة وخاصة بأقتحامه للمنجز الأدبي العربي بنقلة نوعية من الرومانسية القديمة إلى عالم الشعر (الحر) الذي يلبي طموحات الأنسان في آماله وتأملاته الحياتية فالمجد لشاعر جيكور المجدد الحداثوي " بدر شاكر السياب " .

***

عبد الجبار نوري

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

في كانون ثاني 2023

....................

الهوامش والمصادر/

- عبد الواحد لؤلؤة –اليوت أرض اليباب 1980  

- عبدالجبارداود البصري –بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر

- أسعد رزوقي –كتابة الأسطورة في الشعر العربي المعاصر

- بدرشاكر  السياب – قراءة أخرى – د/علي حداد 1998

- بدر شاكرالسياب –عبدالحسين شعبان –بيروت 1999

قراءة في القصة الوجيزة: شبّاك الليل للكاتبة اللبنانية خديجة كنعان

النص:

"شبّاك الليل

أمامَ شباكِ اللّيل، تجلسُ لتقضمَ قلبها قبلَ التّفاحة".

القراءة

إذا كان التكثيف هو الشرط الأهمّ الذي يعطي للسّرد الوجيز (القصة القصيرة جداّ) تمايزه عن الأجناس السردية الأخرى، فإن التكثيف ليس عملية اختصار بعدد الكلمات، ولا الإكثار من نقاط الحذف، والوقفات التي تقطّع الحدث، تجعل الحبكة عبارة عن مجموعة من القفزات الموزّعة بتباعدات كبيرة في الزمن السردي.

التكثيف هو ضغط الحكاية بأقصى طاقة، من خلال آلياتٍ وتقنياتٍ وأساليبَ إبداعيةٍ يبتكرها الكاتب لهذا باستخدام لغةٍ إيحائيةٍ مرنةٍ ومطواعة.

من هذه الأساليب: المشهدية، والترميز والإحالات الانزياحيّة المتنوّعة من التناصّ أو الاستعارة، وكل ذلك يتطلب مهارةً عاليةً من الكاتب، ودرايةً بأساليب البلاغة، والأهمّ من ذلك، فكرٌ شموليٌّ يجعل الكاتب في حالة همٍّ دائمٍ بقضايا كونيّة أو فلسفيّة، أكثر اتساعاً وأشدّ عمقاً، تتجاوز السطحيّ والمبتذل، ولديه من الثقافة الموسوعية في الفلسفة والأسطورة والفنون المختلفة، ما يجعله يطوّع اللغة ويضغط الموضوعات الكبيرة بجمل قليلةٍ مشحونةٍ بالدلالات.

تفكيك الرموز:

"أمامَ شباكِ اللّيل، تجلسُ لتقضمَ قلبها قبلَ التّفاحة."

بجملتين صغيرتين، تعرض الكاتبة قصةً وجيزةً جداً، بشكل صورة مشهدية التقطها خيالها من نهر الحياة، لتحمّلها أفكاراً عميقة، تصل، في بعدها الزمني، إلى بداية الخلق، إلى الزمن الأول الذي تمايز فيه الذكر عن الأنثى، آدم وحواء، وفي بعدها الدلالي إلى آفاق تأويليةٍ لا تنتهي.

من خلال فكّ رموز النص، وتفكيك تناصّاته للوصول إلى دلالاتها، وبالتالي

شباك الليل:

شباك، أو نافذة، هي الفرجة الصغيرة في الجدار، ينفتح على المحيط الخارجي، وهي كلمة ذات أبعاد دلالية كثيرة.

الشبّاك هو الحاجز الشفّاف، يفصل بين ما هو داخليّ وما هو خارجي.

الشباك هو نافذة السّجن، رمز للتوق إلى الحرية، ليكون من الأجدى أن تدعى نافذة الحريّة؛  شبّاك الحلم.

هو البرزخ الصغير يفصل بين حياتين، حالتين، زمنين....

أما الليل، فله دلالاتٌ تصل إلى زمن الأسطورة، الليل في الأسطورة الفرعونية يرمز إلى الموت... العدم.

الليل هو السكون، الصورة النقيضة للنهار الذي هو الحياة، بكل ما فيها، من صخبٍ ومشاعرَ متناقضة، وألم { وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً} (سورة النبأ، الآيتان 10ـ 11 ). ليكتمل المشهد في الجملة التالية: تقضم قلبها قبل التفاحة.

"تقضم قلبها"، انزياح استعاري مهمّ جداً؛ يقضم المرء قلبه، صورةٌ تدلّ على أقصى الألم، أو أقصى الندم، أو انتقاماً منه لطيبته وحبّه لمن لا يستحق؛ ولكن أن تربط ذلك بالتفاحة، فهي إشارة تزيده أهمّيّةً، تجعل الأسئلة تتوارد ليكمل القارئ إكمال النص حسب تجربته...

تفاحة حوّاء التي تقول القصص أنها أنزلتها وزوجها من الجنة، وبسببها وُصمَت حواء بالإغواء،  وحمل آدم الخطيئة، وبها بدأ تاريخ البشر، تاريخ الرجل والمرأة، وصراع الأخوين الذي أودى بحياة هابيل بسبب حبّ امرأة.

هل تنتقم البطلة من حواء الطيبة التي بداخلها، والتي حمّلتها الأسطورة وزر الخطيئة الأولى؟

هل تحاكم حوّاء التي بداخلها، التي خضعت لإغواء شيطانها، كما فعلت حوّاء الأولى؟

هل؟ وهل وهل....

بذلك تكتمل المشهدية وينتهي النص، وبانتهائه تبدأ الحكاية/ الحكايات، التي يولّدها كلّ قارئ، بتأويله الخاص لدلالات النص وإيحاءاته.

***

منذر فالح الغزالي

بون 23/12/2022

التبئير الصفري وتمثيلات ما وراء المفترض العجائبي

الفصل الأول ـ المبحث (1)

توطئة:

أن آليات الحد الفاصل ما بين المتخيل المفرط والواقع المتخيل عن طريق وسائل المحاكاة لأجل بلوغ علاقات الأحوال الذاتية والموضوعية بوسائط مقاربة في مشتركات دينامية وتواترية وتمثيلية على نوح ما من جوهر المنظور التقاربي ما بين ثنائية (المتخيل المفرط ـ الواقع المتخيل) قد تبدو لنا من المحفزات الموضوعية والوظائفية الجادة التي تصب في حصيلة الإمكان المفترض بطريقة ما يمكننا عدها مسافة متسعة من إحالة الأحوال الموضوعية إلى أوضاع عكسية من الرؤية والمنظور المتخيل الذي يهم لذاته قراءة ورسم عوامل وعناصر الواقع المتخيل الذي إلى نزعة ترفارقية وغرائبية من معالم رؤية وثيقة الصلة بنزعة الأشكال المتخيلة المتخيلة في الإقرار العجائبي في اللامعقول أو اللامحسوس.تواجهنا وقائع رواية (انقطاعات الموت) للروائي البرتغالي القدير جوزيه ساراماغو ـ ترجمة صالح علماني، بذلك النوع من الاختلاف المتخيل، وإذا أردنا تصنيف هذا النوع من الروايات، فحتما سوف نضعها في قائمة (المتخيل: المفرط ـــ العجائبي ــ ما وراء المفترض) ولعل من أكثر السمات الجمالية اقترانا بهذه الرواية، هو ذلك الفضاء وقدراته على تكثيف المساحات من اللازمن في تفاصيل مكوناته التراتيبية المنقادة نحو خلق الأسباب والعلل المفترضة من خلال درجات متماهية بالدقة والانتقاء بمثيرات البناء والأسلوب ذات البعد التمثيلي المحبوك.

ـ التبئير الصفري والارتداد بالزمن ما قبل النص:

منذ بداية المستهل السردي، ونحن نعاين بأن هناك حالة من الاشارة إلى (السابق الزمني) أي بما يعادل وجود السرد في درجة صفرية من قبل بدء الأحداث في الرواية: (في اليوم التالي لم يمت أحد./ص9 الرواية) هذه الوحدة من شأنها الإحالة إلى ذلك الزمن الدائر خارج حدود مؤشرات وتعيينات تمثيلات المشاهد والوحدات في الزمن الروائي، فلا أدري هل كان شريط الذاكرة الحكائية هو من التداخل في سابقية النص باللاحق منه أم أنها حالة من حالات التبئير الصفرية في مستعاد ذاكرة الراوي.نفهم من ذلك ربما أن ساراماغو أراد من خلفيات زمن نصه، خلق حالة الامتداد الموضوعي للظاهرة الروائية في محددات نصه، وما قصدية الاسترجاع الزمني بالملفوظ، إلا كعلامة أو إحالة ظرفية تحقق للنمو الحدثي ــ شكلا وإطارا - من الإسناد الموضوعي، الذي كان يوضح لمركزية العلاقة بين السابق واللاحق من حكاية غياب الموت دليلا.

1 - الفناء العضوي للموت: رؤى مقترنة بالزمن والفضاء:

ان حالات موضوعة (غياب الموت) في دلالات رواية ساراماغو، هي من الإثارة اللاذعة في معايير المنطق للوحدة الوجودية، فما دام هناك ولادة فلابد من أن تكون بالمقابل منها حالة موت. طبعا لا نود هنا إثارة حزمة من المغالطات الموضوعية في حق الرواية ودلالاتها التي كان الغرض من ورائها هو التجربة الفنية الجمالية ومعانيها التي تلتقي مع فردية الفكرة والتجربة معا.خصوصا وان حال لسان السارد العليم كان بمثابة الحاكي والراوي لجل أحداث البدايات في النص الروائي. أردت أن أقول ان حالات (الفناء العضوي للموت) في دالات المساحة النصية، هي جملة مقومات صورية ـ شكلية، وليس لها من علاقة سياقية ثابتة في حدوث انقطاعات الموت، أي بمعنى ما ليس هناك معايير استثنائية في حصيلة الحياة دون حلول الموت فيها، خاصة وأن الأمر كان متعلقا بأرض دون سواها.إذن الفكرة هنا جاءت في حدود نسبية وغير مستقرة على كافة الأمكنة في وجه العالم، وبما أن حدود المنظور نسبيا، فلا يمكننا عد الفكرة كرواية بمثابة الولادة التفردية في خلق حياة دون موتا ما، حتى وان كانت مجرد حالة انطباعية الغرض منها تجديد ممارسة خاصة في الرؤية الروائية.وعلى هذا النحو جاءتنا الأحداث السردية من خلال صوت ضمير السارد العليم، كوجهة نظر مبأرة تسعى إلى خلق إمكانية ما في استحداث جملة تمثيلات في الصور والمكونات والأطر التأملية في حالة غياب الموت وانقطاعاته عن بيئة تلك المدينة: (إذ يكفي تذكر أنه لا وجود في مجلدات التاريخ الكوني الأربعين لخبر واحد، ولو عن حالة واحدة، بأن ظاهرة مشابهة قد وقعت ذات مرة، وأن يوما كاملا قد انقضى، بساعاته الأربع والعشرين العجيبة كلها، محسوبة بين نهارية وليلية، صباحية ومسائية، دون أن تحدث وفاة واحدة بمرض، أو سقطة قاتلة، أو انتحار مكتمل حتى النهاية./ص9 الرواية) يتضافر مع صوت مسرودات السارد العليم، ذلك التوتر المفترض على مستوى البحث والتقصي على مواقف مشابهة في بطون مجلدات التاريخ، وهذا الأمر حل بصورة جعلت تستنطق حتى أرباب الأساطير اليونانية القديمة، التي كانت الإلهة الوثنية مسؤولة عنها في الممارسة واللإثبات المفترضان.قلنا سابقا أن حالات انقطاعات الموت، هي بمثابة الرؤية المخالفة للرواية النمطية في أسلوبها الموضوعي السائد، لذا فإن مؤشرات دلالات رواية ساراماغو جاءت في حدود قولية مستحدثة في ابتكار الموضوعة الروائية المتفردة، وهذا الأمر لا يخولنا إلى الاعتقاد من أن مشاهد الرواية قد لا تصل إلى الحدود القصوى من تعليل هذه الظاهرة الكونية الملفتة، بقدر ما جاءت المشاهد الشخوصية تعبر عن أحوال تنقلاتها وكيفية إخفاء ترحيل المرضى نهائيين عبر الحدود الدولية، حتى يشملهم الموت هناك بحسن أخذه إلى أرواحهم المعذبة: (كانت الأسرة المالكة تقف بتراتيبها حول السرير منتظرة باستسلام إطلاق الأم الكبيرة زفرتها الأخيرة، ربما بضع كلمات ــ فالملكة الأم لم تتحسن ولم تزدد سوءا بل ظلت كالمعلقة، جسدها الهش يتأرجح على حافة الحياة./ص11 الرواية) .

2 ــ رؤية الأشياء من منظور الراوي المضطرب:

يعتقد الروائي أن بمقدور سارده العليم، من خلق الحساسية والانطباعية، مقابل ما يجري من تصوير المروي عنه بالملاحظة والتعقيب وإبداء وجهة النظر.ولكننا لاحظنا بأن أغلب مسرودات السارد قد غلبت عليها مظاهر القسرية والاضطراب في بعض مواقف الوحدات، فهو مقيدا بوسائل الإيصال من خلال حالات الملكة المشارفة بمرضها إلى حافة آمنة من اللاموت، وثمة أخبار راح يتندر بكشفها حول هيئات حكومية تسعى إلى الأخذ بزمام شواذ ظاهرة انقطاع الموت عن الناس.أقول أن الوقائع في الرواية تحدث على مسرح من المباغتة والغبطة، كما وتتميز بالطابع المباشر للعرض المسرودي.إذ إن الحكاية الروائية هي تمثل خلاصة عجائبية من فكرة تذكرنا بأدب الملاحم و الأساطير والفنتازيا، لذا فإن المسند الواقعي لها يكمن في إشكالية خاصة من الإيهام الكثيف بالواقع اللامصدق دلاليا.

3 ـ عزوف الموتى وعطل آلية الموت:

تتميز مشاهد وأخبار وأوصاف رواية (انقطاعات الموت) بأسبابها اللامعللة، أو تلك الأحداث الممسرحة ـ إخبارا ـ دون مواجهة حقيقية من ذلك الحدث الكوني المفترض ومبرراته الفجائية.تطالعنا أغلب مشاهد الرواية بنقل جملة التوترات الحاصلة في دائرة الطبقة السياسية من درجة الوزراء وحتى رئيس الوزراء، وكيفية تداولهم لهذا الأمر الشائك، الذي أصبح يشكل هزة اقتصادية قبل أن نقول أزمة سياسية ما نادرة من نوعها: (في البيان الرسمي الذي بث أخيرا، بعد أن تقدم الليل، أقر رئيس الحكومة بأنه لم تسجل حالة وفاة واحدة في كل أنحاء البلاد منذ بدء السنة الجديدة، وطالب بالاتزان والاحساس بالمسؤولية في التحاليل والتفسيرات./ص16 الرواية) هكذا تبعا تحيلنا وحدات المسرود إلى مشاهد غاية في التضعيف والآهلية إلى أن أمر هذه الانقطاعات للموت، قد أحدثت بلبلة سياسية واقتصادية ساحقة، ولكن يبقى السؤال مطروحا حول مدى مسببات انقاطع الموت هذا؟فهل أراد ساراماغو من خلال عقدة هذا الموت الكشف عن درجات سياسية ما قد اشتد لغطها في عدم حدوث الموت لأفراد البلاد مثلا؟أم أن الروائي أراد اقتناص لنفسه تفاصيل حركة موضوعة عجائبية تتصل بأقصى مستويات المصير الجماهيري مثلا؟.نلاحظ أن هناك ثيمات خاصة تتعلق بالجانب السياسي بأمتياز ومنها ما يتعلق بالجانب الديني للكنيسة: (فبدون انبعاث لا وجود للكنيسة ــ تأكيد ذلك فكرة مدنسة للمقدسات - تقبلت إمكانية أن يكون خلود الجسد مشيئة من الرب ./ص17 الرواية) ان عملية تعقب وتفحص وملاحقة مثل هذه الواردات، يعكس لدينا شعورا بأن الحكاية الروائية تتقصى حقائق عديدة وجهات مختلفة فيما تعنيه ذلك الإقرار الاعتقادي من رئيس الحكومة بأن توقف الموت له عدة مآخذ في سقوط العديد من قيم الكنيسة والحكومة في ذاتها أيضا.إذا نكتشف من وراء هذا أن عملية توقف الموت هي عملية تصب في الخسران الاعتقادي لأولئك الساسة في الحكومة، وهذا الأمر بدوره ما سوف يلحق الدولة أجلا.

4 - أطروحة الموت المؤجل وفرضية الحياة إلى الجسد مدادا:

اللافت للنظر في مداليل بنية رواية (انقطاعات الموت) أن الرواية تكشف المخارج التي تتعلق بالطبقة السياسية، وذلك ما يكشفها لنا حال وأحوال الحوارات المطولة بين رئيس الحكومة وذلك الوزير للصحة.حوارات على مستوى استحالة أن يكون الموت مؤجلا أو معطلا حتى، وما يهمنا أكثر هو الغائية التي نستشفها من فحوى هذا النوع الجدلي من الحوارية.فالاستباقات في أغلب تحفظات النوع الحواري بين طرفي (رئيس الحكومة ـ الوزير) يكشفان لنا النوايا والمقصديات السياسية في حسابات الدولة لو قدر أن الموت قد توقف فعلا عن هذه البلاد فما حال مصيرنا الاقتصادي؟ببساطة شديدة أن هذا النوع من الأسئلة والمداخلات تسلط الضوء على حقيقة أن الساسة في الدولة لا تعنيهم مقدرات المشاعر والاحساس بفقد الأحبة من الناس، بقدر ما تتكاثر لديهم مقادير الخسران والربح: (لاحظ كيف يكون لأسئلتنا في آن واحد، هدف ظاهر للعيان ونية مخبأة في الخلف./ص19) وعلى هذا النحو وغيره، تنكشف لنا ثمة علامات حماسية مبعثها الأول الصوت السياسي في أحسن الأحوال، كما اعتبرها البعض الآخر من أفراد الشعب صيحة وطنية في نحو الاستقامة مع طول الحياة دون موت، الأمر الذي جعل العديد من شرفات ونوافذ البيوت مزحومة برفع الرايات الوطنية عاليا، وكأن الأمر أضحى متعلقا بحرب ضد خصم سياسي، وهذا ما لم أجد له أدنى تفسيرا أو تأويلا في بعض الأحداث الروائية، لعل الروائي كان يتقصد عملية انتقال الفرد من مخاوفه للموت الطويلة إلى أحياء حياة منتصرة على ذلك الموت المؤجل في البلاد، ودون معرفة الأسباب الكونية حتى.

5ـ نسبة المصنف الشخوصي في عوالم خلود الحياة:

إن من الحالات الأشد التفاتا وملحوظية في مسار التكوين الروائي، هو عدم وجود العناصر الشخوصية المحورية في خط بدايات النص الروائي، كما أنه ليس هناك أية إشارة واضحة تتعلق بأفعال شخوصية لها من العلاقة السردية في مكونات زمن الحكاية وزمن الخطاب، فقط هناك اقتصارا على بعض من الشخوص القائمين في سياق عابر ونسبي، كحال الأشارة حول نقل المرضى النهائيين إلى المواطن الحدودية لأجل اكتسابهم علاقة تنفيذية مع الموت، وعندما ازدادت الأمورأكثر تعقيدا أمام الوكالات الخاصة بالجنائز ودفن الموتى، توصلوا بعض القائمين عليها بعد فقدانهم أجساد الموتى الآدميين بـ (اجبارية دفن أو إحراق جثث كافة الحيوانات المنزلية التي تموت موتا طبيعيا أو بحادث، وأن يكون انجاز أعمال الدفن تلك إجباريا./ص26 الرواية) كما ولم يختلف الأمر مع مصالح إدارات المستشفيات فقد أصبحوا يضعون في الأماكن المكشوفة في ردهات وممرات المستشفيات بعض المرضى، نظرا إلى تضخم أعداد المرضى ودون إمكانية معافاتهم أو موتهم، لذا قررت الجهات الوزارية إلى نقل كبار السن إلى ذويهم: (ما الذي سنفعله بالمسنين إذا لم يعد الموت موجودا ليقطع عليهم ولعهم المفرط بالحياة المديدة./ص29 الرواية) .

6 ـ بيوت الأفول المديدة:

لعل أهم ما يمكننا إعادة ذكره، حتى لا نكرر كل ما قلناه في مباحثنا الفرعية السابقة، هو أن ما دار بين رئيس الحكومة وذلك الوزير حول شركات التأمين التي تتقاضى بدورها أجورا في رعاية كبار السن: (الوصول إلى اتفاق بالتراضي، اتفاق جنتلمان،  يتمثل في تضمين البوالص بندا موجزا، يقر فيه سن الثمانين للموت الإجباري، بالمعنى المجازي طبعا./ص34 الرواية) من اللافت أن الروائي كان يسعى إلى تقديم حقيقة مرة حول مصائد الحكومات وحتى في أشد الظروف عسرا، فهو من خلال ثيمة انقطاعات الموت، راح يكشف لنا عن أقنعة الحكومات ولسانها المعسول بالسم.ومن شأن مثل هذا التصور تنقلنا تصورات أخرى في مجلس اللجنة المختلفة التي تضم جل الأديان والمذاهب والفلسفات المتشائمة والمتفائلة وحقيقة ما دار من الجدل والشجب في مجلس هذه اللجنة بين الآراء المتضادة في بعضها البعض،  ما هو خلاصته بأن الموت أفضل من هذا المصير الذي عليه حال مناقشات هذه اللجنة.

ـ الموت ومرسلات الأمكنة بإرادة الأداء المفترض:

تتخذ الأسلبة التثاقفية في مسار الفصول الأولية من رواية (انقطاعات الموت) ذلك اللبوس الحجاجي المموه بأشد مؤثرات الحوارية الشكلانية التي تتم من فوق طاولتها مستويات عسيرة من المقادير المتصلة بشتى آفاق استراتيجية الخطابات الحوارية الانجذابية في الملفوظ والتلفظ.ومن بين كل الأطر والتأشيرات في مسار الزمن الروائي، تبرز لنا تلك الأسرة الفلاحية التي أختارها الروائي لأجل أن تكون بمثابة الواقعة المحفوفة بضمائر المتكلم والمفرد والمخاطب: (ففي قرية لا على التعيين، على بعد كيلو مترات قليلة من الحدود مع أحد البلدان المجاورة، كانت تعيش أسرة فلاحين فقراء، لديهم لسوء خطاياهم، ليس قريبا واحدا، وأنما قريبان أثنان./ص39 الرواية) لا يحاول الاسلوب الروائي أن يفرض ثمة محددات من التوصيف الفردي حول عوامل ومصنفات الوحدات الشخوصية في السرد، بل أن أوجه التبئيرات حلت في احياز جزئية، يخال لمن يتعرف عليها وكأنها جملة صور عابرة ومبعثرة في زوايا تفاصيل هامشية ونسبية، هذا حتى وأن يتسع أمر التوصيف في بعض الذوات الشخوصية نجدها لا تشكل أكثر من وقفات إحالية نحو مسألة خاضعة للضمير الجمعي اللامحدد في الكينونة والمكان والزمن.

-الملامح الشخوصية ومصيرها في فضاء المدافن الحدودية:

يبدو أن آليات توظيف العوامل الشخوصية عبر أبعادها التفعيلية (الفاعل المنفذ ـ فاعل حالة ـ فاعل مرسل) تعد من الأسس في بنية محاور الأداء السيميائي، غير أننا واجهنا في متون الفصول الأولى للرواية (انقطاعات الموت) ذلك التخصيص النسبي أن لن نقل الهامشي إلى دور الأفعال الشخوصية.فالروائي ساراماغو يعول على ضمير المتكلم للراوي في متونه السردية، وإلى درجة إشكالية من وحدات العلاقة بين خصائص البنية الشكلية في النص، فهو يتبع صوت السارد في التدرج في أعماق الأحداث وعرضها المتواشج بروح وجهة النظر لذلك السارد، وصولا إلى تشييد الأحداث ضمن حدود متقاربة ومتباعدة عن نقطة وقائع النص نفسه: (رفع عينيه إلى السماء، ولم يجد كلمات يرد بها إلا القول أننا جميعنا بين يدي الرب وإن الرحمة الإلهية لا متناهية:أجل، يمكن لها أن تكون لا متناهية، ولكن ليس بما يكفي لمساعدة أبينا وجدنا على الموت بسلام ولا لإنقاذ الطفل البريء المسكين./ص39 الرواية) .

1ـ تبئير داخلي معدول بصيغة الخارج الخطابي:

أن الملاحظ في هذا النوع من وحدات الرواية، عندما ينفصل صوت الشخصية إتصالا بصوت الراوي، يلتفت إلى صوت الخطاب الذي بدا منقولا عن حضور مستوى المسافة الواقعة بين وعي (السارد ـ الشخصية) وقد ينوب صوت الخطاب عن الشخصية ذاتها في نقل تصوراتها وملفوظها الموصول بمنطوق صوت الخطاب على نحو غير مباشر وصولا به بالواقع والاقتناع بأنه صادرا عن صيغة مضارع الشخصية وليس بضمير المتكلم عبر زمن الشخصية.ومن الجدير بالذكر أن نوعية مثل هكذا خطاب يكون في مجمله قصيرا يقتصد فيه الكلام على سمات قولية واحدة في الوحدة والعلاقة والدلالة.وبما أن الزمن الشخوصية في سياق الرواية مشكلا في منطوق وحدة معبرة عن حركية محددة، وجدنا تسلسل الأحداث الزمنية كحالة متداعية في التركيز والأرتكاز، أي بمعنى ما فعالية العامل الشخوصي تشكل معلما في ترتيب الصيغة الجمعية للزمن والمكان واحساس الراوي، وبسبب هذا وذاك عاينا طبيعة التوظيف للشخوص في الفصول الأولى من الرواية حيث بدت وكأنها ملامح مطموسة في بيئة مشخصات الراوي وسلطته الكلية.

ـ تعليق القراءة:

أن القارىء إلى مداليل وآليات وثيمات وحبكة ودلالات رواية (انقطاعات الموت) عبر فصولها الأولى ربما يترسخ لديه الاعتقاد الأولي بأن الراوي جوزيه ساراماغو يوغل ذاته التأليفية في نمط موضوعة متصلة إلى حيز الأدب العجائبي أو الفنتازيا المستحدثة في أطر مفتوحة من التصورات والتخييل المتجذر بمحاولة الكشف أو التمويه عن منظومة سياسية أخذت تمارس أفعالا برغماتية في ظل خرافة مضللة من مفهوم ودلالة انقطاع الموت. طبعا أن الروائي يمتلك حرية اختيار موضوعته الفنية متى شاء لذلك مرادا، ولكن الحلم بالموت لا يؤهل أحداثا روائية في حضورها الإمكاني كتجربة خاصة ومتميزة، وذلك لأن دال الموت لا يمكن الفسح إليه بمساحات موحدة من الظروف والأوضاع الزمنية والمكانية والذواتية حتى وإن كان الأمر في صناعة رواية، بل بالعكس لو كان الأمر في بناء قصة قصيرة لكان الأمر قد هان نظرا لسقفها الزمني المضغوط بالإيجاز والإيحاء.ولكن عندما تكون فكرة الموت وعبر زمنها اللامعلوم دليلا على ثيمات الحكي في مجال الرواية، فلا أتصور من جهتي أن تكون هذه الرواية إلا محض كابوس للراوي وصوته الجماعي المقرون بمصادفات العجائبي.

***

حيدر عبد الرضا

الرواية توثّق ما جرى من أحداثٍ ومعاناة داخل فلسطين ومخيمات اللجوء، بدءاً من زمن النكبة وبداية الإحتلال والتهجير، وصولاً الى زمن نكسة العام 67، فأتت على شكل بقايا صور عالقة في الذاكرة، أوردها الكاتب على لسان عدّة رواة بدءاً من الجدّ والجدّة مروراً بالأب والأم وإنتهاءً بما عايشه الراوي الشاب، والمُلفت في هذه الرواية أنّ الكاتب تَفَلتَ من ذكر الأسماء لهؤلاء الرواة، وكأنه بذلك يقول أن ما ورد على ألسنتهم هو لسان حال كلّ فلسطينيّ وفلسطينيّة عايش تلك المرحلة، فالمعاناة واحدة، وقد طالت شظاياها كلّ نسيج المجتمع الفلسطينيّ آنذاك..

"مفاتيح البهجة" وإن كانت تشير إلى الواقع الفلسطيني إبّان النكبة وما تلاها، إلّا أنّ ما يُسجّل للكاتب، أنّه بالرغم من تلك المآسي والعذابات التي وقعت على الشعب الفلسطيني، فقد جاءت كتابته لها بأسلوبٍ ولغةٍ رصينةٍ هادئةٍ وهادفة في آنٍ معاً،ّ بحيث تستفزّ القارىء وتحثّه على الإيمان بالأمل وبغدٍ أفضل، وتدعو الى ضرورة التمسّك بحقّ العودة مهما طال الزمن ومهما أُسيء التعامل مع تداعيات الأزمة. فقد تضمّنت فيما تضمّنت ما يشبه القراءة الموضوعيّة وشبه السياسيّة لمُسبِبَات هذهِ النكبّة وما تمّ التعامل مع تداعياتها بما هو دون المرتجى.

من المسلّم به أنّ الأدب هو وليد بيئته أو هكذا يجب أن يكون، فللأدباء والمثقّفين دورٌ مهم وأساسيّ في الإضاءة على قضايا المجتمع، وهذا حال معظم الأدباء الفلسطينين الذين كتبوا عن الحرب والنزوح وآلام اللجوء والشتات،وأيضاً عن الأمل والصمود والوعد بانتصارٍ قادم. وبهذا يكون الأديب محارباً ومناضلاً ثقافيّاً يعمل على نشر الأفكار الإيجابيّة والبنّاءة، وتكون الأعمال الروائيّة والأدبيّة الفلسطينيّة عبارةً عن ما يُسمّى "النضال بالأدب"، ورزاية مفاتيح البهجة تندرج ضمن هذا الإطار.

هي ليست مجرّد رواية تضيء على الهَمّ المجتمعيّ المقهور، وألم المعاناة في مخيمات التهجير، بل إنّها روايةٌ تناضل بالكلمة، وتواجه بالأدب. وإن كان القلم والخيال يبدوان أسلحةً ضعيفةً وهشَّةً في مواجهة آلات التدمير ووسائل الفتك، إلّا أنّهما حتماً سيكونان الأصلبُ والأقوى، ففي البدء كانت الكلمة والبقاء حتماً سيكون لها.

بإستذكار الماضي الجميل قبل النكبة، تبدأ الرواية لتصف لنا الأمّ مواسم الزرع في مجدل عسقلان، حيث المواسم كانت تُفرح الكبيرَ قبل الصغير، وكيف أن من بين الطقوس والعادات في عسقلان  تسمية أسابيع شهر نيسان الأربعة بأسماء ودلالات معينة، فالجمعة الأولى منه  تُسمّى التائهة، كونها تمثل بداية الشهر، والثانية النبات، وفيها تكون الأرض قد استكملت زينتها، والثالثة مُخصّصة لزيارة القبور والتّرحُم على ألأموات، واستجداء عطف الخالق في شأن مخلوقاته، أما الرابعة والأخيرة فسُمّيت بالحلوات، نسبة لما يجري من ابتهاج، ولما يُصرف فيه على صناعة الحلويّات.

كثيرةٌ هي المحاور والمفاصل التي تطرّق إليها الكاتب، ولو بإشاراتٍ مختصرةٍ أو عابرة، فقد تحدّث عن مسألة النزوح واللجوء وعمليّات التهجير، وكيف لم يغِب عن الفلسطينيّ الشعور بالأمل، وأنّه سيعود يوماً إلى موطنه، لذا فقد كان حريصاً على الإحتفاظ بأوراق الطابو ومفاتيح البيوت. وأيضاً كان للمجازر والإنتهاكات التي مارسها المحتّل حيّزا لا بأس به، ولكي لا ننسى ما تعرّض له شعب فلسطين من نكبات، يُعيدنا الكاتب إلى وصف بعض ما جرى وما ارتكبَهُ المُحتلّ من مجازر، ففي مجزرة خان يونس مثلاً كانوا يدفعون الأبواب ويُسمَع صوت الرصاص، وصراخ من يهوون خلف الجدار لتنجلي هذه المجزرة عن أكوام من الشهداء والجرحى.

هذه النكبة التي تعرّض لها الشعب كان لها تداعياتها المُرّة على ظروف حياته اليوميّة والمعيشيّة اضطرّته للإنتظام في طوابيرَ أمام مكاتب الاونروا طلباً للحصص الغذائيّة وبطاقات التموين، وقد إستفاض الكاتب في توثيق عذابات العيش في مخيّمات اللجوء، والفُتات الذي تقدّمه وكالة الاونروا المعنيّة ببرنامج غوث وتشغيل اللاجئين التابع للامم المتحدة، فتحدّث عن الطوابير التي تنتظر أن يُكال لها الإعاشات، أو أن تُمنح صُرّة من صُرر الملابس المستعملة.

لقد أثبتت الأيّام ماضياً وحاضراً، أنّه عند تفلّت الأوضاع وانعدام الأمن والطمأنينة، عادةً ما نجد بروز ظاهرة الإنتهازيّين والمستفيدين، الذين يخفون حقيقة وضاعَتهم خلف قناع الثورة والإدّعاء بمساندة القضية، كما تبرز ظاهرة الخيانة والتعامل مع المحتلّ وإستغلال الظروف، وهذا ما جسّده الهوّاري الذي نعم بظروفٍ معيشيّةٍ أفضل من بقية جيرانه، وما حفلة طهور ولده ومظاهر البذخ والترف، سوى دليل على ذلك، وقد إستطاع هذا الهوّاري أن يُقنع الجميع ويوهمَهم بأنه الفدائيّ المغوار، وما هو بالحقيقة سوى سارق البرتقال الذي  يبيعه من خلال شبكة توزيع متمثّلة بكمال الخبّاز والمرأة ربيحة، هذا الهوّاري مع رفقته، كانوا أول الذين إرتموا في الماء وتعلّقوا بحافّة المركب للهرب من المواجهة، وأيضا نجد السلّال المغربيّ الفقير الذي زرعه المحتلّ ليكون عيناً له لمراقبة سكان الحيّ، عاش وسطهم، وبعد دخول المحتلّ وإقتياد الشباب وإعتقالهم، إختفى ولم يُعرف مكانه، هذه النماذج التي يمثّلها الهوّاري والسلّال وممارساتهم هي التي أدخلت الشكّ قي نفوس الناس وجعلت والدة الحنتوت تُمسك بخصلةٍ بيضاء من مقدّمة شعرها وتهزّها، وتصيح: - أقصّ شيبتي إن رجعتوا للبلاد.

غالبا ما نجد أن  معظم الكتابات الفلسطينيّة تقارب بشكل أو بآخر ظاهرة العمل الفدائيّ، وفي روايتنا هذه إشارة ولو بشكلٍ عابرٍ إلى بداية العمل الفدائيّ الذي جسّده كلٌّ من الفدائيّ سرحان الذي أستشهد وهو يقاوم، وأيضاً معلّم اللّغة العربيّة الذي أسس لبداية التظاهرات وواجه المُحتلّ وإستطاع النجاة من قبضته، ولم يجد الإحتلال وسيلةً للإنتقام منه سوى بهدم كوخه وتشريد عائلته، أضف إلى هذا، الإعلان عن تأسيس جيش التحرير وتدريب الأفراد وتوزيعهم إلى كتائب، لكن غياب التنظيم وسوء التواصل بين المجموعات كان ظاهراً للعيان وهذا ما عبّر عنه الضابط وهو ينادي يا قيادة يا قيادة ولا من مجيب، فألقى بالهاتف أرضاً، هذا الضابط الذي إستشهد لاحقاً بعد أن نصب وسط الشارع رشاشه، وهو يُقسِم  ألا يمّروا، ولما جاءت الدبابات ظلَّ يُطلق النار حتى اخترقت القذيفةُ صدرَه.

ويبقى الأمل والإتّكال على الذات هو الدافع والمُحفِّز للبقاء والتشبّث بالحقوق، ووحده والد الراوي الشاب من كان يملك رؤيةً ثاقبة وواضحة لما يجري، ولم تكن تقنعه الظواهر والبيانات الإعلاميّة الآتية من صوت العرب، حيث كان المذيع  يفاخر بأنّ طائرات العدّو تتساقط كالذباب، أخفض صوته ونكّس رأسه  وقال إنتهينا، وأكملَ عندما هجّرونا كانت ذات اللّغة، لتلتقط زوجته  جهاز الراديو متوجهةً إلى ابنها قائلة: خذه إلى مُجَمّع الزبالة.

أمام هذا التخاذل الذي ظهر في عدم النصرة الحقيقيّة للفلسطينيّ، يبقى الأمل معقوداً على هذا الشعب نفسه، فما حكَّ جلدك مثل ضفرك، ولذا فإنّ والد الراوي يدعو للإعتماد على النفس وعدم انتظار المعونة من أحد، يقول:" لا تنتظروا أحداً خارج حدودنا .. تناسلوا فقط .. املؤوها من البحر إلى النهر .. زوّجوا بناتِكم بصبيانِكم ،وسلّموهم الطابو والمفاتيح، إلى يوٍم يقضي فيه الله بيننا".

لم يغفل الكاتب عن ذكر بعض مشاهد الحرب، وكيف أن كلّ طائرات مصر قد دُمّرت وهي على مدارجها، ووصل جيش الإحتلال إلى قناة السويس. أمّا في الأراضي الفلسطينيّة فقد  جاءت الطائرات وألقَت براميلها  وقتلَت الكثيرين، حتى أنّهم استهدفوا الجنازات فوق القبور، وتشتّت عسكر مصر بعد محاصرته في الفالوجا؛ فسارعتْ الناسُ للهرب وكلّ ما أخذوه شهادات الطابو، ومفاتيح بيوتهم، والتحقوا بالعسكر الهاربة غرباً، ومن على تلال الشاطئ، كان الكبار يحملون الصغار والعجائز، ويتوجهون جنوباّ إلى غزّة.

وينتقل الكاتب بعد ذلك لوصف ممارسات الإحتلال وكيف أنّ من بقي من السكان، إرتضوا بالعيش داخل السياج، وقبلوا أن يكونوا عمال قطافٍ في بساتينهم المصادرة، ناهيك عن عمليّات الدهم والإعتقال، فكان المحتلّ يتوجّه بالنداء لأهالي المخيّم : على الرجال  من سنّ ١٤ إلى سنّ ٦٠ الخروج إلى ساحة بركة المجاري، أو " يا أهالي مخيّم جباليا  إنذار، إنذار .. الجيش يُفتّش بيوتكم، وسيقتل كلّ من تخلّف فيه".

كذلك وفي سبيل محاولة  طمس الهويّة الفلسطينيّة، يورد الكاتب كيف أنّ المحتلّ يأمر كل من تجاوز عمره الستّة عشر بالتوجّه إلى مبنى الجوازات في غزّة  ليغيّر بطاقته، بأخرى جديدة، تتوسّطها نجمة داوود.

ختاماً، مفاتيح البهجة رواية جديرة بالقراءة، وإن كانت قد وصفت الواقع كما هو، إلّا أنّ الكاتب ترك للقارىء مهمّة وضع النهاية المرتجاة والتي تتناسب وحجم القضيّة وقدسيّتها.

***

عفيف قاووق – لبنان

أشرنا في المقال السابق إلى أنَّ الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، في عمله القصصي، المعنون بـ"صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، كان يردِّد- كغيره من قَبله ومن بَعده- ثقافة المَثَل الفرنسيِّ «فتِّشْ عن المرأة Cherchez la femme».  وهو مَثَلٌ ينحدر من ثقافةٍ عالميَّةٍ قديمةٍ جِدًّا، تَنسِب كلَّ الخطايا إلى (حوَّاء).  تعود إلى القِصَّة التوراتيَّة العتيقة حول حكاية (حوَّاء وآدم) في الفردوس، كما وردت في «العهد القديم»، وقبل ذلك في الأساطير السومريَّة.(1)  ويظلُّ آدم- وَفق صورته في تلك الثقافة الذكوريَّة الظالمة- حمَلًا بريئًا، وغبيًّا في الوقت نفسه، تعبث به المرأة، إنْ في الأرض أو حتى في السماء!

في تلك القِصَّة الطويلة تَرِد حكاية الفتاة الزاهرة الشباب المشرقة الجمال في (سرنديب)، التي اختارها الملِك، بمساعدة (صادق)؛ وذلك بعد أن دبَّر حيلةً اكتشف بها مدَى وفاء نسائه، فلم يجد وفيَّة إلَّا هذه الفتاة، المسمَّاة (فاليد)، ذات العينين الزرقاوين، التي أمست مليكة الملِك.  إلَّا أنَّ زعيم الكهنة هناك كان قد شرَّع قانونًا يحظر على الملِك أن يُحِبُّ امرأةً من ذوات عيون المها الزُّرق؛ ليستأثر بهنَّ هو!  فحيكت مؤامرة ضِدَّ صادق؛ الأمر الذي دفعه إلى الهرب.(2)

ثمَّ يُقابل (صادقًا)، في الفصل السابع عشر من القِصَّة، صائدٌ بائس، كان زوجًا لامرأة: «لم يكن إشراق الأرجوان الذي تُصدره مدينة (صُوْر) أشدَّ بهجةً ممَّا كان يشرب بياضها من الحُمرة»(3)، وقد اختطفها راضيةً (أوركانُ)، الذي اختطف من قبل (سميرًا)، زوجَ صادق، راضيةً أيضًا.

وفي (سُوريَّة) يلتقي (صادق) في مرجٍ جميلٍ بأولئك النِّسوة اللاتي يبحثن للأمير (أوجول) عن (الباسليك) ليتداوى به من عِلَّةٍ أصابته.  وكانت أولاء النِّسوةُ إماءَ الأمير، كما أفهمتْ السُّوريَّةُ منهنَّ صادقًا.  وثَمَّةَ التقَى صادق المَلِكةَ (أستارتيه)، وقد أصبحت أَمَةً من أولئك الإماء.  ودارَ بينهما حديث الحنان والدهش والفرح، لتعود إليه السيِّدة التي قاسَى في ذِكراها آلام البَين والأشواق.  فحكَتْ ملِكة (بابل) لصادق ما حدث لها من بَعده، وكيف أنَّ الملِك، زوجها، جُنَّ من غيرته، ولولا مساعدة (القزم الأخرس) ما نجت من قتلها بسُمِّ الملِك، ولا نجا صادقٌ من شنقه، وكيف ساعدها (كادور)، صديق صادق، على الذهاب إلى معبد (أورزماد) لتختبئ فيه، حتى أخذها جند (أركانيا)، مع (ميسوف) المِصْريَّة المختطفة، لكنَّه لم يُنَل منها.  وأخبرته بقِصَّة هربها، حتى وقعت في يد الأمير أوجول.  عندها حاول صادق أن يتقرَّب إلى الأمير بعلاجه من مرضه، مقابل عِتق أستارتيه، فكان له ذلك.  وتطوَّرت الأحداث حتى اختير صادق ملِكًا لبابل وزوجًا لأستارتيه.(4)

وإلى هٰذه المواقف العاطفيَّة، تبرز في القِصَّة بعض الهفوات الأخلاقيَّة، كتلك الهفوة التي هفاها (صادق) مع إحدى وصيفات الملِكة (أستارتيه)(5)، وكالحيلة التي قامت بها الأرملة العَرَبيَّة مع رئيس كهنة النجوم؛ في سعيها لإمضائه على عفوٍ عن صادق، الذي كان قد حَرَّض نساء العَرَب على عصيان قانون التحريق المفروض عليهن.(6)  وكذاك الاختبار الذي أعدَّه ملِك (سرنديب) لأزواجه بمساعدة صادق؛ لتتعرَّى أمامه خياناتُهن، إلَّا واحدة منهنَّ أثبتت وفاءها وإخلاصها له، فاصطفاها لنفسه من دونهن.(7)

إنَّها قِصَّةٌ مليئةٌ بسلسلةٍ من الخيانات، تؤدِّي بالقارئ إلى انطباعٍ عامٍّ حول المرأة، هو أنَّها قليلة الوفاء، سريعة الغدر بالرَّجُل، تضعف أمام المغريات بسهولة.  وما علينا، إذن، سوى أن "نُفَتِّشْ عن المرأة"، حسب المَثَل الفرنسيِّ الجاهلي المشار إليه!

وهذا ما سنزيده نقاشًا في مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

.......................

(1) يُنظَر: سِفر التكوين، الإصحاح الثالث؛ وكريمر، صمويل نوح، (1980)، من ألواح سُومَر، ترجمة: طه باقر، مراجعة: أحمد فخري (بغداد: مكتبة المثنَّى)، 242- 249.

(2) يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)،  القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 86- 90.

(3)  يُنظَر: م.ن، 98.

(4) يُنظَر: م.ن، 102- 000.

(5) يُنظَر: م.ن، 48.

(6) يُنظَر: م.ن، 79. سبق، في المقال الماضي، تفنيد هذا الزعم، من رجلٍ غربيٍّ اختلطت عليه جغرافيا الثقافات، بين بلاد (العَرَب) وبلاد البراهمة الهندوس في (الهند)!

(7) يُنظَر: م.ن، 87- 88.

النزعة الإنسانية هي تلك المنتزعة من التجربة الإنسانية من أجل إقامة علاقات تقوم على العدل والتآلف وقيل أيضا في تعريفها بأنها الفلسفة التي تؤكد قيمة الإنسان وقدرته على تحقيق ذاته بالاعتماد على الفعل. وأهم ما يميز النزعة الإنسانية سمو القيمة الروحية والنفسية على القيمة البيولوجية وتسعى دائما إلى إعلاء الفكر الإنساني والذي يُعدّ جزءا من تلك النزعة.

وقد عملت رواية سافوي، الصادرة عن دار اليازوري العلمية/عمان/2022، على استكناه وحدة الجوهر الإنساني الثابتة عبر التاريخ من أجل التقاط الإنساني والأصيل في أعماق النفس البشرية من خلال علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة وعلم النفس. ويبدو بأن مهند الأخرس كأنه عاش التجربة وعمّر نفسه بأحداثها فامتلأت مشاعره واندفعت للتعبير عن أحاسيسه ورؤاه بصورة صادقة. وقد استطاع ترتيب خيوط الحقيقي مع المتخيل ليضع عملية سافوي تكون نواتها التجربة الإنسانية.

وقد جاء عنوان الرواية الموسوم ب سافوي دلالة على عملية قامت بها مجموعة فدائية بتاريخ 6/آذار/1975 مكانها العمق (الإسرائيلي) / تل الربيع في فندق سافوي الذي يحمل رمزية بالنسبة للقائد المسؤول عن العملية أبو جهاد كما ذكر مهند الأخرس ص143 من الرواية وهي أن الفندق كان خلال فترة الانتداب مقرا للزعيم الإرهابي والمجرم مناحم بيغن مرتكب عدة مجازر في حق الشعب الفلسطيني أشهرها مجزرة دير ياسين. ومن هنا نرى بأن رواية سافوي عالجت هذه العملية بكل تفاصيلها بدقة لكن هناك حبال قد تخفى على المتلقي وهي النزعة الإنسانية التي ساهمت بقدر كبير في شد أركان هذه العملية فتداخل العمل الفدائي وأهدافه النبيلة مع تلك الحبال في خلطة طفى فيها العمل الفدائي على السطح بحيث كان سهل الالتقاط ولكن بقيت تلك النزعة التي يتطلب وجودها من الروائي لتكتمل الرواية مغمورة في الأسفل تنتظر من المتلقي أن يخرجها ليدرك حنكة الكاتب بهذا التلاعب المقصود الذي يسجل له ،ذلك لأن الكاتب ليس ملزما بأن يجهز وجبته في الملعقة للمتلقي بل يجب على المتلقي أن يبحث ويستشكف ما أخفاه الكاتب من إبداع أسفل الظاهر من الفكرة.وأبطال سافوي هم أبطال حقيقيون حملوا مشاعل الحرية على رؤوس بنادقهم وقنابلهم الموقوتة ،خاضوا البحر وتجاهلوا غدره، قطعوا ظهره بمشاعرهم وإنسانيتهم لا بهدف القتل بل بهدف الحصول على رهائن من الآخر ومبادلتهم بأخوة لهم وأخوات في معتقلات خلت من الإنسانية.

وصلوا فلسطينهم والتي طالما تخيلوها أمامهم كعروس أسطورية يسعى إليها الجميع ،يذيلوا رسالة عشقهم لها بدمائهم وهي بدورها تحجز لهم مكانا في السماء.

إذن لقد أوصل مهند الأخرس رسالة مزدوجة إلى المتلقي بأن الهدف الأساسي من عملية سافوي هو الحصول على رهائن والتفاوض مع العدو لإتمام عملية المبادلة برهائن فلسطينيين في سجون الاحتلال بحضور الصليب الأحمر والسفير الفرنسي والفاتيكان وهذا الشق الأول من أهداف الرسالة وهو الشق الفدائي. أما الشق الثاني فهو عدم التعرض للرهائن بالقتل أو امتهان إنسانيتهم بأي شكل من الأشكال لأن الفدائيين ليسوا بإرهابيين ولا قتلة ويتمثل لنا هذا ص140 بما جاء على لسان أبو جهاد للفدائيين قبل العملية (يا خضر ،تلك الرسالة عندما يحتجز الرهائن وتبدأ عملية التفاوض..اطلبوا مندوب الصليب الأحمر وسفيري فرنسا والفاتيكان...) هذا هو الشق الفدائي.

أما الشق الإنساني فجاء في نفس الصفحة على لسان أبو جهاد أيضا (نحن لا نقاتل لأجل الدم أو العبث، نحن مناضلون من أجل الحرية). وهنا يكمن الشق الإنساني.

جميعنا يعلم بأن كرامة الأسير في سجون الاحتلال منتهكة ومعاملتهم له لا إنسانية. لذلك كثيرا ما كان هدف العمليات الفدائية سابقا سواء في الداخل أو في الخارج هو مبادلة الرهائن وقد تطرق مهند الأخرس إلى إحدى هذه العمليات بقيادة محمد مصالحة وهي عملية ميونخ عام 1972 ص20 (فمصالحة هذا كان قائد مجموعة الكوماندوز الثمانية في عملية ميونخ).

ومن الأمور التي تلفت النظر في رواية سافوي من حضور النزعة الإنسانية استحضار الكاتب لنماذج قديمة عبر ما يسمى توظيفا أو تناصا كاستحضاره لشخصيات كان لها أثرا كبيرا في قضية فلسطين مثل شخصية باجس أبو عطوان الشهيرة تلك الشخصية التي شكلت رعبا للاحتلال ومنه ما جاء ص62 (ذاك الباجس المتجدد دوما فينا ذلك الباجس الذي شكل رعبا للاحتلال وهاجسا يقض مضاجعه بالليل والنهار ذلك الباجس).

ومن الأمور التي تلفت انتباه المتلقي إلى حضور النزعة الإنسانية في الرواية السعي إلى ترسيخ القيم التي تصب في خدمة الإنسان مثل نبذ الظلم والسعي إلى لفت العالم لقضية فلسطين ففي ص139 ما جاء على لسان أبو جهاد (يجب مخاطبة العالم ودق الأجراس إلى أن تستفيق ضمائرهم).

كما نتلمس خيوط النزعة الإنسانية في رواية سافوي من خلال الحديث عن التهميش الذي حصل مع الشعب الفلسطيني ففي ص179 على لسان موسى (أصبحنا لاجئين مشردين في مدن الدنيا..).

وفي ص68 نلحظ وجود النزعة الإنسانية من خلال إشادة أبو جهاد بشخصيات أخذت مواقف معلنة من القضية الفلسطينية وهي من القضايا الإنسانية العامة (تلك التجربة التي تشرفنا بها وبروادها باكرا كماو تسي تونغ وشوإن لاي وكذلك الأمر مع هوشي منه وكذلك الحال مع جيفارا وزيارته الشهيرة لغزة).

كذلك امتزجت النزعة الإنسانية عند أبطال مهند الأخرس بمرارة الحرمان وعذاب المنفى والحنين للوطن وقد تجلى بالشوق لفلسطين ففي ص31 (في المعسكر وأثناء التدريبات تقترب منك فلسطين كل يوم أكثر). وتظهر النزعة الإنسانية بكل معانيها عندما تخلى أبو جهاد عن أحد مقاتليه ذيب وقدمه لأمه الحاجة سرحانة التي جاءت باحثة عنه وكانت قد فقدت زوجها في حرب الكرامة وابنها البكر في أحداث أيلول واعتقل الآخر ولم يتبقى لها سوى ذيب وأخواته ..ففي غرفة الميس وجه كلاما لذيب يحمل من معاني الإنسانية الشيء الكثير ص46 (أمك وأخواتك أولى بك يا ذيب، بهما فجاهد).

وقد تمتع مهند الأخرس بمعرفة تحريضية تكشف المفارقة بين الظالم والمظلوم، القاتل والمقتول وذلك عندما رسم لنا مشهد مجموعة الفدائيين في الفندق فعلى لسان خديجة الفتاة التي رافقتهم من شارع جؤولة بعد أن تركها صديقها هناك فكانت المتحدثة بلسانهم مع العدو (نحن مناضلون من أجل الحرية، لسنا قتلة،نحن حريصون على سلامة الرهائن ،نريد مبادلة سريعة).

ثم ص200 (الأمور لا تبشر بالخير.. وهؤلاء لا يسعون إلى التفاوض فالقوات والحشود تزداد). وهنا يتضح الفرق بين الفدائيين وأهدافهم والعدو وأهدافه الدموية حيث أنهم لم يهتموا لرهائنهم مقابل القضاء على مجموعة الفدائيين فركلوا بذلك إنسانيتهم حتى مع بني جلدتهم.

بقي أن نقول وانتهينا حيث بدأنا فقد جمعت الرواية بين السيرة الذاتية والحكاية التاريخية والحوارات والحلم، ذلك الحلم الذي يكسر البناء المنطقي ويضفي على النص نوعا من الحوار الداخلي قوامه التأويل كحلم الغضنفر الذي ورد في بداية أحداث الرواية وهو في المعتقل ص 6(حلم واحد اختلف فيه أبو جهاد عن البقية ،حرت كثيرا في تفسيرة). هذا الحلم الذي يفسر لا شعور الغضنفر ،ففي لا وعيه سكن البدر (أبو جهاد) الذي ظل يوصيه بأن يواصل العمل الفدائي ولا يتوقف.

***

قراءة بديعة النعيمي

 

عندما اقرأ للكاتب والباحث باسم عبد الحميد حمودي في مجال الفولكلور والتراث الشعبي؛ أجد في جميع كتاباته الخصوبة في التنوع بسبب التنقل في معيشته مع عائلته في مناطق الفرات الأوسط، وهي رحلة صولاته وجولاته في المدن العراقية التي زادته خبرة في مجال التاريخ والتراث، ودراسة المجتمع العراقي وحقول البحث الإنساني، وقد نشر حمودي تلك الخبرة العديد من الدراسات في المجلات العراقية والعربية في هذا المجال.

وقبل عدة سنوات قرأت مؤلفه الأخير (سحر الحقيقة... شخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي)، إلاّ أن ما صدر لهُ أخيراً من رواية تحمل عنوانها الموسوم (الباشا وفيصل والزعيم) قد سرق انتباهي بعد وصوله هدية لي عن طريق الأديب شكر حاجم الصالحي، والرواية صادرة عن دار دجلة في عمان وتقع بواقع (104) صفحات من الحجم المتوسط، ذات غلاف جميل تحمل صور الباشا، وفيصل الثاني ملك العراق، والزعيم عبد الكريم قاسم.

كان إهداء الكاتب للرواية إلى روح الأستاذ الدكتور (نجم عبد الله كاظم اعترافاً بفضله)، والرواية تتحدث عن أحداث يوم 14 تموز 1958م، التي اطاحت بالعهد الملكي وكانت بداية لعهد الجمهورية الأولى، والرواية عبارة عن محاكمة تاريخية في ملكوت العالم الآخر وبحراسة (الحرس السماوي) لزعماء العهد الملكي والجمهوري بالتغيير الذي حدث يوم 14 تموز وهما عبد الكرم قاسم وعبد السلام عارف، وذكر مأساة ما حَلَّ بالعائلة المالكة من قتل وسحل وتقطيع وتعليق على واجهات المحال التجارية.mde

وتأتي الرواية بروح فنتازيا التاريخ الحديث، وأحداث تلك الحقبة الزمنية تحليلاً واستنتاجاً بمهارة الكاتب من حبك الأحداث وتسلسلها وجمع ابطالها وكُتّاب التاريخ وأعلامهم في حنكة السرد من خلال تقنية المخيال الواسع في أهم مواقع بغداد التاريخية (باب وزارة الدفاع، شارع الرشيد، قاعة الشعب)، فقد جمع الكاتب والروائي حمودي قائدا التغيير للعهد الجمهوري الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف مع رجال العهد الملكي (الملك فيصل الثاني، الباشا نوري السعيد، الأمير عبد الإله، نعيمة العسكري)، ومن وثّقَ تلك الحقبة الزمنية وهم: (حنا بطاطو، السيد عبد الرزاق الحسني، الإعلامية نعيمة الوكيل، الأديب مهدي عيسى الصقر، الروائي فؤاد التكرلي، الروائي عبد الملك نوي).

وتبدأ محاكمة التاريخ لقادة العهدين (الملكي والجمهوري) في قاعة العرش عندما يوجه الملك فيصل الثاني كلامه للزعيم عبد الكريم قاسم في ص11: (لماذا فعلت ذلك؟ هل نستحق ميتة كالتي حدثت؟)، فكان جواب قاسم بعد جدال على المحاكمات الوجاهية في العهد الملكي والجمهوري (ألست الملك؟ أم ما زال خالك يحكم بمجرى الأحداث حتى ونحن في الآخرة؟)، وهو جواب شافي لتدخل الأمير عبد الإله في حكم العهد الملكي كونه الوصي على العرش بسبب صغر عمر فيصل الثاني.

ثم يبدأ الكاتب حمودي بسرد الأحداث قبل يوم 14 تموز 1958 بأشهر من خلال الأمير عبد الإله المتحدث قائلاً: (قبل أشهر من يوم الإنقلاب أرسل شاه إيران محمد رضا بهلوي صحفياً سورياً يعمل في طهران اسمه نذير فنصة، كان يعمل لدى الشاه محمد رضا بهلوي)، وكان جواب عبد السلام: (ماذا أتى بهذا الشاه) ويرد عليه عبد الإله (اسكتوه فهو لا يعرف إلاّ الصراخ والقتل). من خلال هذا الحوار يدلل على تحليل الكاتب لشخصية عبد السلام عارف وكل من ورد اسمه في جريدة إطلاعات والمخابرات الإيرانية أيامها وتحذير الصحفي فنصة لعبد الإله من أن إنقلاباً سيحدث ضد العرش في العراق، واعطاه اسماء الضباط وفي مقدمتهم رفعت الحاج سري وعبد الكريم قاسم وآخرين، ومن هذا يستدل القارئ من خلال الرواية أن زعماء العهد الملكي كانوا يعلمون بالإنقلاب والقائمين عليه، إلاّ أن رئيس الأركان محمد رفيق عارف والباشا نوري السعيد رئيس الوزراء قد انكرا ذلك، فضلاً عن تقرير بهجت العطية مدير الأمن العام وقتذاك كان قد أخبرهم بالتحرك للإنقلاب.

ويحضّر الكاتب في المشهد الروائي الكاتب حنا بطاطو، والأخير يوجه سؤاله الأول لعبد السلام محمد عارف قائلاً: (ألمّ تصبح رئيساً للجمهورية بفضل شعار الوحدة العربية الذي رفعته دوماً؟)، وكان جواب عبد السلام (نعم ولكن لم يتم الأمر بمجرد رفع الشعار)، ويرد عليه بطاطو (أعلم ذلك فقد اخترت أن تنقلب على عبد الكريم ثم على البعثيين الذين أتوا بكَ إلى كرسي الرئاسة). ويستمر الحوار حتى يتدخل الأمير عبد الإله قائلاً في ص21: (الواضح أن أحلام السيد عبد الناصر التي كان العقيد يتبناها لم تتحقق في العراق بعد قتلنا وإعدام عبد الكريم لسبب بسيط... الجميع يكذبون... عبد السلام يكذب على عبد الكريم وقتلهُ، وكذب على عبد الناصر ولم يسلمه أرض العراق، وعبد الكريم كذب على الناس عندما أدّعى الديمقراطية وأعدم الضباط المعارضين لحكمه، ومنع من أدعى الديمقراطية من العمل السياسي)، وهكذا يستمر الجدال والحوار بين بطاطو وعبد الإله وعبد السلام وعبد الكريم قاسم ليوضح لنا الكاتب أن زعماء العهد الجمهوري الأول هم قد كذّبوا على بعضهم البعض وعلى الشعب العراقي لمكاسبهم الخاصة.

ثم يستحضر الكاتب في ص23 المؤرخ السيد عبد الرزاق الحسني كشاهد على التاريخ وحواره مع قادة العهد الملكي والعهد الجمهوري قرب قاعة الشعب، ويشير الحسني من خلال اللقاء إلى بوابة وزارة الدفاع وقوسها العالي قائلاً (هنا وضعوا جثة صلاح الدين الصباغ بعد إعدامه ليشاهدها عبد الإله، وهنا علق رجالكم ما تبقى من جسد الوصي)، لكن عبد الكريم قاسم يرد على الحسني في ص26 قائلاً (لم نكن نريد أن يمثل أحد بجثث القتلى لكنها إرادة الجماهير). ويستمر السجاال بين الحسني وقاسم بين مدافع ومتهم عن ما حصلت من أحداث صباح 14 تموز 1958 وما بعده، حتى يستدل الحسني في بداية باب المعظم (تكون قاعة الملك فيصل التي سميتموها قاعة الشعب، بعدها يبدأ سور جامع الأزبك وبوابته، ولم تبقيا للجامع سوى بوابة صغيرة... هنا قبل أن نصل إلى بوابة وزارة الدفاع كانت هناك عدة دكاكين للباعة ومنها دكان للمصور عباس القمري)، والذي يؤكد الحسني أنه المنسب للقوة الجوية ويدعى (عباس جميل) اشهر مطرب وعازف وملحن فيما بعد.

ويتسابق عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف في الحوار للرد على الحسني الذي اسكتهما موضحاً لهما بالوثائق خونة الشعب أمثال طارق عزيز الذي سمح لمؤرخ أمريكي (حنا بطاطو) بنبش سجلات الأمن العام، وذكر مرافق الزعيم جبار حمزة، وتستمر محاكمة التاريخ بحضور (الحرس السماوي)، واحضار الصحفية نعيمة الوكيل والروائي فؤاد التكرلي، والأخير يؤكد أيام الانقلاب في 8 شباط 1963 الحزينة التي قادها قادة حزب البعث وعبد السلام عارف والمعارضين لحكومة الزعيم قاسم في ص42 قائلاً (أيام 8 شباط 1963 الحزينة التي قتلوا فيها آلاف العراقيين بطريقة وحشية غريبة، وما حدث بعد إنقلاب 17 تموز لا يقل وحشية أيضاً). وتلك فقرة في الرواية لإدانة نظام البعث في الجمهورية الثانية والرابعة.

ويستذكر الروائي حمودي عن لسان الحسني تاريخ شارع الرشيد والعلامات الدالة على أهمية هذا الشارع ورمزيته للعاصمة بغداد واعلامها، منها (الخط الجميل للراحل هاشم محمد البغدادي الذي يعلوا جامع الحيدر خانة، ومحل شربت الحاج زبالة، ومقهى حسن عجمي ورواده من الأدباء والمؤرخين والاعلاميين، ومقهى البرلمان ورواده الشعراء: كالشاعر الجواهري، وعبد القادر البراك، وسليم البصون، وشاكر الجاكري ومنير رزوق وحميد رشيد)، وعشرات الأدباء والصحفيين... ويستمر الروائي ينقلنا عبر سياحته اليقظة لأستذكار جريدتا اليقظة والحرية، وأحداث الموصل عام 1959م، والصراع بين القوميين والبعثيين والشيوعيين، وسرد الأحداث التاريخية في عهد الجمهورية الأولى حتى يصل إلى الموقف الدولي من الجمهورية وعلاقة الزعيم عبد الكريم قاسم بالجانب البريطاني ودور الأخير في دعم ومساندة الانقلاب ودعم الزعيم في تحرك قواته لاحتلال الكويت عام 1960م وتراجعه عن موقفه هذا حتى يكون جواب نوري السعيد للسفير البريطاني هنري تريفليان في ص59 قائلاً: (الذي فهمته وأنا في دار الخلود بعد الإنقلاب، أن الأصدقاء البريطانيين قد تنكروا للصداقة معي ومع الهاشميين وبنوا علاقة سرية مع الضباط المتمردين قبل قيامهم بانقلابهم)، فكان جواب عبد السلام عارف والزعيم قاسم في ص60 : (هذا كذب).

فمن خلال السرد الجميل والمتسلسل والسلس للأحداث وما مرَّ به العراق من مآسي وويلات وكوارث أستدل كقارئ أن جميع الثورات والإنقلابات التي حدثت في العراق والوطن العربي تتم بدعم ومساندة الأجنبي لغرض تغيير أعوان النظام بعملاء آخرين لتنفيذ مطالبهم وفق إرادتهم ومصالحهم.

لذلك يدعونا الروائي باسم عبد الحميد حمودي من خلال هذه الرواية وسرد أحداثها الواقعية إلى أن ظاهرة إعادة انتاج مقدمات اسباب الفشل التاريخي الهائل الذي حدث في العراق على مر العصور، منذُ أن ظهر العراق بصورته وكيانه الجديد الفاشل في بداية القرن العشرين، هو بدعم أجنبي، وأكثر الداعمين هم البريطانيين للنظام الملكي ونظام الزعيم قاسم أثر إنقلاب 14 تموز 1958، ونظام عبد السلام عارف ونظام البعث في 17 تموز 1968، وإلى منظومته المتراكمة في انتاج الأحداث وإعادة إنتاج هذا الخلل الجوهري في استمرار الإنقلابات و(الثورات) وما يسمى (التحرير) البريطاني والأمريكي الأخير 2003م، واستمرار عدم الثبات والاستقرار.

فقد كان إنقلاب 14 تموز بداية الإنحراف التاريخي الكبير عن المجرى الطبيعي والشرعي لتطور الدولة ومؤسساتها، وتناقض المصطلحات (التحرير) و(الاحتلال) للعراق، فقد كان (تحريره) و(احتلاله) وجهان لعملة واحدة هي انهيار الدولة العراقية، ولم يكن التحرير سوى استبدال نخبة بأخرى، أي استبدال نخبة تقتل الهوية العراقية بأخرى مقتولة الهوية. أما الاحتلال الأمريكي للعراق فقد كان مجرد استبدال نخبة خارجة عن التاريخ بأخرى لا تاريخ لها ن احزاب وحركات اسلامية وقومية وعلمانية.

وهي فكرة سبق وأن صورها (ابن عربي) قبل قرون عديدة عندما قال بأن (ما يجري هو استعداد لما فينا، فما أثّر فينا غيرّنا)، أي ما حدث بداية القرن الحادي والعشرين هو (استعدادنا لما فينا)، ومن ثم (فما أثّرَ فينا غيّرنا). بعبارة أخرى، إن الأحداث الدامية والمأساة الذي اصابت نوعية ابتعاد العراق عن مرجعياته الذاتية الكبرى، فـ(التحرير) البريطاني لم يكن سوى (تحريره) من السيطرة التركية ووقوعه تحت (الانتداب) البريطاني في بداية القرن العشرين، ثم (تحريره) من السيطرة الصدامية ووقوعه تحت (الاحتلال) الأمريكي. فكل ما جرى ويجري في العراق هو نتاج لما فيه وفينا.

مع هذا وكل ما ذكره المؤرخين والكتّاب والأدباء عن تاريخ العراق وأحداثه أجد أن العراق لا يسقط ولن يسقط، بل تنهار فيه السلطات حالما تخرج عن منطق إرادته المتراكمة في الذاتية الكبرى، وتشكل هذه الذاتية العصب الروحي لوجوده التاريخي وكينوته الثقافية، أي لمضمون هويته العامة والخاصة. فالأمم الكبرى تكبو! وفي كبوتها عادة ما تثير غبار الزمن وتستفز الإرادة من أجل امتطاء جوادها من جديد. وليس هناك من جواد عراقي أصيل غير ما تجود به مكوناته الذاتية. فالخلل التاريخي الهائل الذي مسّ مختلف جوانبه بحيث تحول (الاحتلال) إلى (تحرير)، والذي أدخل في دهاليزه مختلف القوى السياسية المنتفعة وهو خلل تتحمل مسؤوليته جميع القوى السياسية في العراق، كلٌ بمقدار ما فيه من استعداد للخيانة والإنحراف، مما أدى الرجوع القهقري إلى مختلف نماذج وأشكال البنية التقليدية إلى تنظيم البؤس والانحطاط والتخلف في مقدمتها انهيار الدولة ومؤسساتها ومنظومة المجتمع وقواه الحَيّة، والثقافة ورصيدها العقلاني والإنساني، وبهذا المعنى لم يكن خراب وانهيار الدولة العراقية إلا بسبب التدخل الأجنبي ولغاية هذا اليوم، وهذا ما اعتقد ما يرغب الروائي أن يوضحه للقارئ من خلال روايته (الباشا وفيصل والزعيم).

فقد رمت القوى السياسية المجتمع في أتون المغامرات والانقلابات والخيانة وغيرها من الأساليب أموراً مقبولة ومعقولة للشرعية الثورية، حيث حولت العراق إلى كيان رثّ، واسلوباً لتصنيع، شامل للرثّاثة الاجتماعية.

ولا ننسى أن مؤلفات الكاتب والأديب باسم عبد الحميد حمودي، فمن أبرزها:

- عادات وتقاليد الحياة الشعبية العراقية (إعداد وتقديم).

- كتاب التراث الشعبي. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد 1986م.

- الزير سالم. سلسلة الموسوعة الصغيرة. بغداد 1989م.

- تغريبة الخفاجي عامر العراقي. دار الشؤون الثقافية. بغداد 1989 (الطبعة الأولى)

- التراث الشعبي والرواية العربية الحديثة. الموسوعة الصغيرة. بغداد 1998م.

- تغريبة الخفاجي عامر العراقي. هيئة قصور الثقافة. القاهرة عام 2000م. (الطبعة الثانية).

أما الكتب المشتركة:

- أبحاث في التراث الشعبي. كتاب التراث الشعبي رقم 2. بالاشتراك مع د. أحمد مرسي/ د. حصة الرفاعي/ د. محمد رجب النجار وغيرهم عام 1986م. بغداد.

- سحر الحقيقة. شخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي. دار ميزوبوتاميا. بغداد. الطبعة الثانية عام 2014م.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

عرفنا الاستاذ باسم عبد الحميد حمودي ناقدا وباحثا في حقل التراث قدم عددا كبيرا من الدراسات والكتب التراثية والنقدية ورأس تحرير مجلات ثقافية وصفحات للتراث الشعبي في عدد من الصحف العراقية ولكن اليوم يفاجئنا بالانتقال من حقل النقد الى الابداع في مجال السرد التاريخي وذلك بروايته (الباشا وفيصل والزعيم) الصادرة عن دار دجلة في عمان 2022 الذي تناول فيها حدثا عراقيا اشكاليا اذ تعددت الآراء وانقسم الجمهور العراقي بشأن ما حدث صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958، فريق اعتبر ما قام به العسكر صباح ذلك اليوم هو ثورة تحررية أطاحت بالحكم الملكي وارتباطه بالاستعمار البريطاني واعادت للعراق سيادته وتخلصه من قيود حلف بغداد المشبوه، بينما فريق اخر رأى الحدث انقلابا فتح بوابة الدم على العراق وعصف باستقراره وجريمة بحق الاسرة الهاشمية المسالمة وكان صدى هذين الرأيين صدور كم كبير من الدراسات والمقالات والكتب جسدت اتساع الفجوة بين مؤيد ومبرر وبين ورافض وساخط على أحداث وتداعيات ذلك اليوم .

بعد اكثر من ستة عقود مرت على ذلك الحدث يعود الناقد باسم عبد الحميد حمودي ليذكي جمرة الاختلاف القابعة تحت رماد الحرائق التي تلاحقت على العراق بعد احداث الرابع عشر من تموز 1958 ويسترجع في روايته احداث ذلك اليوم الدامي حيث يستحضر من خارج الحياة الدنيا شخوص ذلك الحدث (الباشا نوري السعيد رئيس الوزراء آنذاك ومهندس السياسة الملكية والملك فيصل الثاني ملك العراق الذي قضى نحبه صبيحة ذلك اليوم وكذلك الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الضباط الاحرار والعقيد عبد السلام عارف الرجل الثاني المساعد للزعيم) ليجعل منهم متهمين وقضاة وشهودا في آن واحد، فعبر ثمانية فصول اشتملت عليها الرواية حاول المؤلف ببناء درامي جديد اعادة محكمة التاريخ والكشف عن اسرار وتفاصيل لم يسبق لمن كتب عن ذلك الحدث ان تناولها او أشار اليها ولكن المؤلف حرص على تسريبها وتأكيدها على لسان ابطال روايته وفي مواقع متعددة من الرواية .mde

يستهل الكاتب روايته بفصل (قاعة العرش) التي اراد لها ان تكون بمثابة قاعة لمحاكمة الأطراف المشاركة فيأتي بأطراف الصراع من الدنيا الاخرة بملابسهم التي كانوا عليها صبيحة يوم الحادث لكي يلغي المسافة الزمنية في ذهن القارئ ويزيد من واقعية الجلسة ويبدأ بنشر غسيل الاطراف من خلال حواراتهم وتراشقهم بالاتهامات والتنصل عن المسؤوليات جاعلا من شخصية المؤرخ " عبد الرزاق الحسني " التاريخ الشاهد على اقوالهم وبحضور المؤرخ (حنا بطاطو) صاحب كتاب تاريخ العراق الذي جاء تعريف المؤلف له (مؤرخ امريكي سمح له طارق عزيز بنبش سجلات الأمن العام ص 22) واخطر ما تضمنه هذا الفصل من اتهامات هو تعاون الزعيم قاسم مع الحكومة البريطانية ودعم بريطانيا للثورة وهذا أمر لا يخلو من مفارقة ويزيد من تأكيد هذه المعلومة في ما أورده على لسان الباشا نوري السعيد مخاطبا الحسني ومشيرا الى علاقة الزعيم بالسفير تريفليان سفير بريطانيا في العراق عام 1958 بقوله (اسمع سيدنا الحسني وانت يا استاذ حنا ان الرجل تريفليان سفير بريطانيا ببغداد أيامها كان شخصية متآمرة على العرش الهاشمي ويتمتع بصداقة قديمة مع عبد الكريم ص 56) و(ان عبد الكريم كان مرتبطا بالسفارة البريطانية في بغداد قبل قيامه بحركته ص61) وهي اشارة يراد منها التشكيك بنزاهة واستقلالية ما حدث صبيحة 14 تموز كما انها مفارقة اخرى يصعب تصديقها فمجريات الاحداث بعد الرابع عشر من تموز تقول غير ذلك، كما نخرج من هذا الفصل بمعلومة جديدة اخرى هي ان شاه ايران كان على علم بالحدث وقد ارسل مبعوثه الصحفي السوري والمبعد ايامها في ايران " نذير فنصة " الى النظام الملكي يعلمه ان انقلابا سيحدث ضد العرش .

جاء الفصل الثاني (شارع الرشيد) ليكون بمثابة كشف دلالة حيث تخرج اطراف الحدث وهي مطوقة برجال الحرس السماوي في جولة شملت الاماكن التي لها علاقة بأحداث الرابع عشر من تموز ومن بينها بناية وزارة الدفاع وكذلك قاعة الشعب التي شهدت محاكمة اقطاب النظام الملكي وكعادته حرص المؤلف على تمرير عدد من المعلومات التي لم يسبق الاشارة اليها من قبل المؤرخين ومنها شخصية الفنان عباس جميل الذي كان من منتسبي القوة الجوية العراقية باختصاص التصوير الجوي وكذلك شخصية القاص عبد الملك نوري الذي شارك والده في انقلاب بكر صدقي وقتل في الموصل والصحفية المقربة من الزعيم نعيمة الوكيل ومحاكمة الجواهري خلال عهد الزعيم واطلاق سراحه بكفالة مهينة كما انه رفع غطاء الحياد عن المؤرخ الحسني وجعله من المنحازين لأحد اطراف الصراع من خلال توجيه الاتهامات للزعيم والعقيد في مواضع عدة من الحوارات ومنها رده على الزعيم في وصف احداث الموصل عام 1959 بانها (كانت فوضى مجنونة وانتما من شجعها ص26) او رأيه في سياسة الزعيم (الزعيم والعقيد لم يتركا للناس حرية الابداع ص 45) اوفي رده على العقيد (كان عبد الكريم سقيفة الحكم التي انهارت مع صورة ديمقراطية كاذبة ص 47)

لقد اظهر المؤلف صورة الزعيم والعقيد مهزومين امام خصومهم وعاجزين عن الرد على كيل الاتهامات الموجهة اليهما سواء من الذين صورهم ضحايا او من المثقفين الذين مثلهم التكرلي وعبد الملك والصقر والذي استحضرهم في المشهد ليزيد من اظهار سلبيات الشخصيتين وليبرئ النظام الملكي من اية سيئة رافقت اداءه واقتصرت ــ على لسان ابطال روايته ــ مسؤولية ما حدث صبيحة ذلك اليوم على الزعيم لوحده .

في الفصل الرابع من الرواية نتعرف على شخصيتين جديدتين هما نعيمة العسكري شقيقة جعفر العسكري وحرم الباشا نوري السعيد والملكة نفيسة والدة الوصي عبد الاله وجدة الملك فيصل ويبدو ان المؤلف زج بهما في مجريات الاحداث لزيادة التنكيل بالضباط الاحرار ولزيادة شعبية المتعاطفين مع ضحايا الاسرة الهاشمية حيث يخلق المؤلف جواً دراميا عندما يترك الملكة نفيسة تروي للجالسين (لم اكن اصدق انهم سيقومون بقتلنا .. وضعت القران الكريم على رأس فيصل وانا امشي خلفه مرددة آيات من الذكر الحكيم وكل ظني انهم سينقلوننا بسيارات الى خارج العراق .. تماما مثلما فعل المصريون مع فاروق ص 88) .

وجاء الفصل قبل الاخير من الرواية الذي اطلق عليه المؤلف عنوان " المواجهة " ليكون الجلسة الاخيرة للمحاكمة واطلاق قرار الحكم عندما يجمع الاطراف في صالة فندق بغداد وتتولى الملكة عالية والدة الملك بتوجيه السؤال الى الزعيم عن الاسباب الذي دعته لقتل الملك فيجيبها الزعيم بكلمات لا تخلو من اعتراف وندم (يا سيدتي .. ما حدث قد حدث .. انها مشيئة الله ص 99) ويقر عبد السلام بعذاب الضمير الذي نالاه جراء جريمتهما (ولم نهنئ لا بقتل من قتل ولا بحياة آمنة ص 100) ويختتم المؤلف روايته بمشهد خروج موكب الضحايا وقاتليهم من بوابة فندق بابل في اشارة الى نهاية عهد دامي وكان في توديع الموكب عهد دامي جديد يمثل صدام حسين وسلام عادل وكامل الجادرجي وصولا الى عهد دامي اخر ابطاله عمائم مختلفة الالوان .

لقد حاول المؤلف ان يقف على الحياد والنأي بنفسه عن الانحياز الى احد اطراف ذلك اليوم الدامي الا انه لم يتمكن من اخفاء تعاطفه مع محنة الاسرة الهاشمية عندما لم يتعرض الى سيرتها السياسية ولم ُيظهر من خلال حوارات ابطال روايته الاسباب والتراكمات التي ادت الى احداث صبيحة يوم الرابع عشر تموز لذا ظهر المؤلف في روايته ناقدا اكثر منه روائيا .

***

ثامر الحاج امين

جواد غلوم شاعر لا يكشف عن هويته العمرية لكي يُفلت من سجن التجييل، لاسيما أنّ النقاد والكتبة درجوا على اعتبار سنوات العمر هي أبعاد هذا السجن وقضبانه، وقلما كان للملامح الجمالية والإبداعية أثر في تحديد تلك الأبعاد. إنّ إفلات جواد غلوم من قيود التجييل مكّن قصائده من أن تمتح من أجيال الشعر في كلّ عصوره بحرية شاعر لا يتبنى مدرسة، أو اتجاهاً شعرياً محدداً، ولا يقيّد انتماءه سوى للشعر بمفهومه الذاتي النقي المتجرّد من أية مؤثرات موضوعية مفروضة عليه من خارجه، تُعقلنه، وتُحرّفه عن عفويته الغنائية. أما (سهول وتضاريس شعرية) فهي مطوّلة جواد غلوم، وهي بيانه الشعري الذي على خلاف البيانات الشعرية المعهودة أصرّ على صياغته شعراً. فبالرغم من قدرته على تطويع النثر في معالجاته التي لا تغلب عليها في العادة قضايا الشعر وإشكاليات صراعاته المزمنة، بل تغلب عليها قضايا الشأن العام، إلا أنّ معالجات الشأن الخاص تفرض عليه آليه تعبيرية تتوافق مع صوته الداخلي، وتضمن لذلك الصوت محاوراً مفترضاً يُكمل معه متطلبات مونولوجاته الذاتية، إنها آلية الشعر.

لقد رسم جواد غلوم بهذا البيان الإستثنائي اللغة ظروف تشكل تجربته الشعرية، والعوامل الخارجية – تحديداً – التي أثّرتْ فيها، وساهمت في نموّها، مع ملاحظة أنه في رصده لتلك التأثيرات عادة ما يتناولها من جانبها الحياتي كموجّه لحياة الشاعر - الإنسان، وليس كمفتاح لتجربة الشاعر - اللغة، مما يوحي بأنّ هناك حالة تماهي ما بين خارج القصيدة وداخلها ربما نجم عن عفوية النظر لتحولات كليهما (الخارج – الحياة)  و(الداخل – الشعر) من قبل الشاعر بدليل أنّ الوقوف على محطات مسيرة الشاعر المثقلة بتجارب الألم والمعاناة لم تكتنفه أية محاولة لتبيان مدى انعكاسها جمالياً على مغامراته التجريبية في الكتابة الشعرية، ولم تخض في تحديد أبعاد طموحات التجديد والابتكار، فهو يكتفي بتناول خريطته الحياتية ببعدها الإنساني، وليس ببعدها الجمالي، رابطاً ما بين التأثيرات التي طرأت عليها وبين الشعر دون أن يكون لهذا الربط من تفسير.

ربما يفترض المنطق الجمالي أن يكون اتجاه التأثير الإبداعي من الشاعر على الشعر، وليس من الحياة على الشعر، وذلك من أجل أن تتحدد أبعاد التجربة بقصديتها وبوعيها، أما أن تكون الحياة، أو الشعر - بمفهومه الذوقي المجرّد والمكتفي بعفوية السليقة  هما محركا التجربة، ففي الحالين سيبقى الشاعر يدور حول خلية العسل، مستمتعاً بمذاقه الذي سيصرفه عن التفكير في تنقيته وتحسينه. ومهما كانت التخريجات المنطقية والجمالية للعلاقة ما بين أطراف ثلاثية الشاعر والحياة والشعر، أو مهما كانت اتجاهات التأثر والتأثير بين تلك الأطراف فجواد غلوم ما زال يُصغي لصوته الداخلي، مشغولاً بعذوبته عما تدور في الوسط الثقافي من جدالات المتحاورين والمتخاصمين حول تحولات الشعر، فصوته الداخلي هو خلاصة إرثه القديم، يحرص على إبقائه نقياً، صافياً من التزويقات اللفظية، والشكلانيات الحداثية. إنه يعود بشعره إلى مرحلة الرواد، بل إنه ينزلق أحياناً حتى إلى ما قبل تلك المرحلة مازجاً في بوتقة واحدة ما بين آليات الكتابة الجديدة، وطرائق التعبير التقليدية، متمسكاً بتقاليد القصيدة العربية في رصانتها الأولى، ليُبقي لها روحها الغنائية ذات الصوت الواحد، مكتفياً باستبدال الثوب الإيقاعي القديم بثوب إيقاعيّ جديد، هذه الطريقة الإنتقائية توفر للشاعر من الجدّة حرية اللعب بالإيقاعات الوزنية، وعدا ذلك ستبقى اللغة مرهونة بمحدداتها البلاغية، ولغتها الوصفية المتماسكة ذات الطبقات المتراكبة على وفق علاقات سببية، يؤدي ضمنها السابق منطقياً إلى اللاحق، بحيث أنّ إيّ إخلال بهذه الهندسة يُربك معادلة المعنى، وهي معادلة تتوخى الفهم قبل كلّ شيء على طريقة التطابق القاموسي ما بين الكلمة ومعناها، أو ما بين الدال والمدلول.

هذه الطريقة في الكتابة الشعرية تمثل القالب الشعري الثابت لجواد غلوم حتى فيما يكتب من قصائد النثر، حيث أن ما يطرأ عندئذ على هذه الخرسانة البنائية هو التخلي عن قشرة الإيقاعات الوزنية، وعدا ذلك فاللغة الوصفية الرصينة ذات الطبقات المتراكبة سببيّاً هي التي تحكم بنائية القصيدة، وهي التي توجه القراءة توجيهاً تسلسلياً من السابق إلى اللاحق، وتنازلياً من الأعلى إلى الأسفل من دون انحراف أو تقطّع.

تتكون قصيدة (سهول وتضاريس شعرية) من خمسة مقاطع، ويمكن عدّ المفردات الثلاث التي تتشكّل منها العنونة هي المفاتيح لكل مقطع من المقاطع الخمسة، فالظل الذي تلقيه بعدّها تركيبة نصية متجانسة واحدة يغطّي كلّ القصيدة، على الرغم من أن كل واحد من تلك المقاطع يمكن عدّه قصيدة مكتملة ومنفصلة بذاتها عن الأخريات، فهو يمثّل نموذجاً إنعكاسياً جزئياً للموضوع العام، إضافة لذلك ليس هناك من مفصل تصوري ناقص في مقطع ما ويُرجأ اكتماله إلى المقطع التالي، وليس هناك من رابط محدد يشدّ المقاطع إلى بعضها، وأن الروابط التي تشكلها أضلاع المثلث البنائي (الجغرافيا / الشعر / المرأة) التي سنأتي عليها لاحقاً، لا تساهم في توحيد بنية القصيدة بقدر ما تساهم في بناء مقاطع متماسكة بشكل انفرادي بحيث يمكن عدّ كل مقطع جملة شعرية مكتملة بحدّ ذاتها.

إنّ حصر العنونة للشعر بهذين البعدين الجغرافيين (ألسهول والتضاريس) جعل منها تركيب استعارية من مجالين متقابلين مجازياً ومتباعدين واقعياً، ومهّد للانفتاح داخل القصيدة على أبعاد جغرافية أخرى، وكل بعد منها غير مقصور على حدود جغرافيته الأرضية، بل يمتد على وفق متطلبات التشبيه أو الإستعارة أو المجاز ليقترن بأبعاد أخرى تمتدّ إلى مجالين من عالمين آخرين هما (الشعر) و (المرأة). وبذلك يكتمل مثلث الدلالة بأبعاده البنائية الثلاثة التي يحيل كل منها إلى عالم مستقل ومنفصل عن العالمين الآخرين، ولكنها تتّحد معاً في مثلث واحد يمثل الوحدة البنائية للقصيدة:

- ضلع المثلث البنائي الأول = ألجغرافيا مجازاً

- ضلع المثلث البنائي الثاني = ألشعر

- ضلع المثلث البنائي الثالث = ألمرأة

وسيتمخض كل ضلع من الأضلاع الثلاثة عن مجموعة من الإشارات، تترابط مع بعضها سيميولوجياً لتشكّل معاً بنية القصيدة، وليس من العسير تبيّن العلاقات ما بين الدوال والمدلولات ضمن عناصر تلك المنظومة، والتي تغلب عليها العلاقة السببية، كما في النموذج المثالي التالي من المقطع الأول:

- (ألوسادة × ألنوم):

  (يستلّ مني الوسادة كي لا أنام)

- (ألعوم × " ألثلج والزمهرير "):

  (أعوم مع الثلج والزمهرير)

- (ألجمال × ألشهوات):

-  (يُريني من الشقر والبيض والسمر والسود

  كي يُشعل القلب جمراً من الشهوات)

وتلك العلاقات ما بين الدوال تؤدي لتشكيل مجموعة من الثنائيات الضدية التي قد لا يقتصر  الكشف أحياناً عن ضديتها البحث داخل اللغة، بل يتجاوزه إلى خارجها كالثنائية ما بين (صدور العذارى)، أو ما يمكن أن نطلق عليه إغراء الجمال من جهة، وما بين (العجز) أو العجز عن تلبية دعوة الشهوة التي يُحفّزها أو يُهيّجها هذا الإغراء من جهة أخرى. فبدون البحث داخل وخارج اللغة لن نتبيّن دواعي هذه العلاقة ما بين طرفي الثنائية، فالداخل اقتصر على التلميح بالعجز والهوان، أما الخارج فيقودنا إلى شعاب أخرى ليس من الضروري الكشف عن تفاصيليها الدقيقة، ولكن لا بدّ من الوقوف على أطرافها البعيدة، أو التلميح لها بعمر الشاعر والذي يمكن تخمينه من سيرة حياة الشاعر، ومن الواضح أن التخمين هو أحد معطيات القراءة الخارجية، ولكنه اضطر للإشارة إليه:

(غدونا كبارا

أحسّ الحياة مزارا

والأماني صخوراً عثارا)

أما القراءة الداخلية الممكنة لتبيّن سر العلاقة الضدية لثنائية (الإغراء × العجز) فتقدمه تجربتة الشاعر الإغترابية خارج الوطن (مبطئاً طاعناً مزقته المنافي)، وكذلك تجربة  الإغتراب الأقسى داخل الوطن:

(هنا عثرتي عند باب الأغا

هروباً من الأمن والسافلين)

وفيما يلي ما يرشح عن العلاقة ما بين الدوال في المقطع الأول من ثنائيات ضدية:

- صدور العذارى (الإغراء) × ألعجز

 (يُريني صدور العذارى

  أقول له: إنني قد عجزتُ، وهنتُ)

- (ألارتقاء × ألجبال):

  (فيرقى أعالي الجبال)

- (ألدحرجة × ألسفوح):

  (يُدحرجني مرّة إثر أخرى

  لمرعى السهول وسفح التلال)

- (ألعهر × ألرعشة):

  (فأغرق في عهر غانية علّمتني

  رعاشَ الغرام ووهج الوصال)

تتشكّل بنية القصيدة من التداعيات الصورية التي تتمخض عن كل ضلع من أضلاع المثلث البنائي المشار إليها سابقاً، ولنبدأ بالعنونة التي تحدد ثنائية الضلع الأول من كيانين ماديين مستلين مجازاً من الفضاء الجغرافي  (سهول + تضاريس) وكلا الكيانين منسوبان وبصيغة استعارية إلى فضاء الشعر (سهول وتضاريس شعرية). وما تلك الثنائية إلا من قبيل القصر اضطراراً، لأن إطلاق كامل المفردات القاموسية لمكونات هذا الضلع سيُخرج العنونة من مقطعيتها اللغوية المكثفة كنص موازٍ يُدلل ولا يُفصّل، ولكنه سيُمهّد للمتلقي تلقي ما تطلقه القصيدة من بقية تجليات هذا الضلع والتي سنأتي عليها فيما بعد.

قد يبدو الضلع البنائي الأول خروجاً عن الشعرية وشروطها الجمالية باعتبار أن الجغرافيا فضاء مستقلاً ومغايراً عن فضاءاتها المفتوحة، بحكم انغلاقه على نظامه المعرفي غير اللغوي، وعدم تقبله لتعدد المعاني والتأويلات. وقد أدرك الشاعر ما يمكن أن يوحيه ذلك للمتلقي، ولذلك جاء الربط ما بين المعاني الغائبة للضلعين الأول والثاني بعد تحرير القاموس الجغرافي من انغلاقه، وتمكين مفرداته من تلبس طاقة الإيحاء، ومن ثمّ الإنحراف أو التفجر ضمن حركة إبداعية شاملة لاستبدال دلالاته الموضعية المقيدة بمدلولات مفتوحة على معان متغيرة ومفاجئة. وستمتد آلية الربط ما بين المعاني الغائبة إلى مكونات الأضلاع الثلاثة مع بعضها على امتداد القصيدة بما يُخرج كل ضلع منها عن استقلاليته الدلالية مولداً نوعاً من الإستعارات المفتوحة التي تنبسط لتشمل جملاً شعرية بكاملها، ولتفارق بهذه الآلية نمطية الإستعارات  التقليدية المقصورة عادة على مفردتين تمثل كل منهما مجالاً تصورياً مقابلاً ومستقلاً عن الآخر.

تجليات أضلاع المثلث البنائي:

ألضلع البنائي الأول – ألجغرافيا مجازاً لغوياً:

تتجلى أضلاع هذا المثلث البنائي من خلال عدة مظاهر، فالضلع الجغرافي ألمحرف معرفياً سواء بالانزياح أو بالإيحاء ليتواءم مع مقصديات الشاعر وغائية الشعر يتجلى:

1 - من خلال المظاهر المناخية (ألجغرافيا المناخية):

   - (ألثلج والزمهرير): (أعوم مع الثلج والزمهرير)

   - الهجير: (أحتمي هرباً من هجير)

   - ألصيف: (عرق الصيف والحيف والمنهكات)

   - ألغيم: (أمتطي غيمة من دخان السكائر)

   - ألفصول: (... وترجع مثل الفصول)

2 - من خلال التضاريس الطبوغرافية:

   - ألجبال: (... فيرقى أعالي الجبال)

   - ألسهول وألسفوح والتلال: (... لمرعى السهول وسفح التلال)

   - البيد والشِعاب: (إلى أين تزحف بي أيها الشعر؟ / في السهل والبيد بين الشِعاب)

   - ألوديان: (وتخشى سقوط الصخور / بين واد وواد)

   - البحار: (بين بحر العيون)

   - ألانهار: (سِدارته أبحرت عبرَ دجلة) أو (ما بين دجلة والكرخ...) أو (هنا كبوتي / على سفح دجلة لما سبحتُ بها)

   - الموانيء: (بميناء قلبي شراعاً عتيق)

   - ألشواطيء: (لعلي أحطّ على شاطيء) أو (وتلك القباب على شاطيء النهر)

   - ألقفار: (أبوسُ القفار)

3 - من خلال الأماكن:

  - ألعراق: (... أو أرى محفلاً ضائعاً للعراق) أو (سأبقى مكبّاً أديم صلاة العراق)

  - بغداد: (وتعشق بغداد منذ المهاد لحد الرقاد) أو (وبغداد كرخانة للزناة)

  - ألمسيّب: (فجسر المسيب أضحى خيالاً بعيد المنال)

  - شارع الرشيد: (إلى حانة في الرشيد)

  - باب الأغا: (هنا عثرتي عند باب الأغا)

  - ألأزقة: (لساني مذاق الأزقة)

  - ألكرخ: (ما بين دجلة والكرخ والقشلة الصامتة)

  - عقد النصارى: (أدخل عقد النصارى)

  - ألبصرة: (من بصرة الشوق).

  - خان مرجان: (إلى خان مرجان حيث المقامات دانية)

  - شارع النهر: (إلى شارع النهر والسحر والعطر والغانيات)

ألضلع البنائي الثاني – ألشعر:

هذا الضلع لا يتجلى سوى بذاته، والقصيدة – البيان بأغلبها تقريباً هي خطاب موجه إليه، ولذلك ينفتح على خبايا التجربة الحياتية للشاعر، ولكنه، وتلك مفارقة لا ينفتح على نظامه الداخلي، والمقاطع (1، 3، 4، 5) تستهلّ به، باستثناء المقطع الثاني فهو موجه عبر الإستهلال إلى الذات من خلال قرينها الزمني العمر (أيها العُمر، مرماكَ أقربُ مما تظنّ) وهو مقطع استذكاري لمسيرة حياتية خالصة، ولكنه سرعان ما يعدل عن انحرافه الإستهلالي بمخاطبة الذات – العُمر وذلك بالعودة بدءاً من السطر الخامس لهذا المقطع إلى مخاطبة الشعر عبر الإستفهام المكاني مقروناً بالنداء (إلى أين تزحف بي أيها الشعر).

وقبل إكمال الخوض في أثر هذا الضلع البنائي – ألشعر في توجيه المعنى العام للقصيدة، لا بدّ من الإقرار بأهمية المقطع الثاني في فتح خزانة التاريخ الشخصي للشاعر، وهي خزانة متخمة بإرث غني بالأصوات والمذاقات والروائح وطُرُز الأزياء والألوان والعلاقات الإنسانية، تمثل باجتماعها معاً فردوساً مفقوداً في الواقع، لكنه ما زال حيّاً باقياً في ذاكرة من عاش فيه، ويتجلى هذا البقاء في الحنين والشوق إليه، لكنه ليس كما يبدو على سطح التداعيات حنيناً لماضي المدينة بقدر ما هو حنين الذات إلى المراحل الأولى لتشكل وعيها بنفسها، وبما حولها، بدليل أنّ تاريخ الأمكنة المُستَذكرة لا يمتدّ إلى مرحلة أبعد من طفولة وفتوة وشباب الشاعر، أي أن الماضي لديه لم يعد رمزاً كونياً أو قناعاً أسطورياً كما كان يراه جيل الرواد، بل أنّ الماضي توحّد بالشاعر حتى صارا كياناً واحداً من الصعب إعادة فصلهما عن بعضهما. وأنّ حنين الشاعر لماضيه هو حنينه إلى طفولة الذات وبراءتها.  

هذا، ويمكن القول أنّ كل المقاطع الخمسة موجهة إلى  الشعر سواء بصيغته كمخاطب أو بصيغته كغائب، مع ملاحظة أن حضوره في المقاطع (1، 2، 3، 4) جاء مقروناً باستفهام مكاني تدليلاً على ضياع الشاعر، وفقدانه الإتجاه، باستثناء المقطع الأخير الخامس حيث جاء حضور الشعر مبدوءاً بأداة نداء مقرونة بالاستعطاف والتوسل:

 - المقطع الأول: إلى أين يأخذني الشعر؟

- ألمقطع الثاني: إلى أين تزحف بي أيها الشعر؟

- ألمقطع الثالث: إلى أين يدفعني الشعر؟

- ألمقطع الرابع: إلى أين يركلني الشعر في رجله؟

- ألمقطع الخامس: أيها الشعر هوناً على شيخك المستكين

ألضلع البنائي الثالث – ألمرأة:

تقدم القصيدة أربعة مظاهر واضحة للمرأة، وعداها فيمكن تبيّن أثرها في طيف واسع من التداعيات التي يستحضرها إلى ذهن المتلقي حديث الشاعر عن الجمال أو (إشعال القلب بجمر الشهوات) أو (الرغبة الماجنة)، أو من خلال التشبيه البعيد الذي يشدّه إلى عالم المرأة فيقرن انزواءَها بحانة في الرشيد (إلى حانة في الرشيد انزوت مثل بلهاء ساكنة). أو حتى من خلال تلمّس أثر المرأة في التناص الذي يُقارب ما بين قول شاعرنا (أمرّغ هذا الجدار وذاك المزار) وما بين قول الشاعر قيس بن الملوّح:

أمرّ على الديار ديارِ ليلى      أقبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

أما المظاهر الجلية لهذا الضلع البنائي فيمكن تبينها من خلال: 

1 - تتجلى المرأة في القصيدة بلوازمها، وتلك اللوازم قد تكون أعضاء الجسم:

  - ألصدور: (يُريني صدور العذارى)

  - ألعيون: (بين بحر العيون)

  - ألجفون: (بين نعس الجفون)

  - ألغدائر: (أنفثها خصلة من غدائر محبوبتي)

  - ألخصور: (ونقذف شهوتنا حول تلك الخصور)

2 - وقد تكون تلك اللوازم الجسدية عبارة عن إسقاطات لونية تحيل إلى المرأة :

  - (يُريني من الشُقر والبيض والسُمر والسود).

3 – أما المرأة بكيانها الإنساني، فقد جاء حضورها سلبياً عبر مظهرها الشهواني كمصدر للرغبات المحرمة من خلال الغواني والعواهر:

  - (فأغرق في عري غانية علمتني

     رعاش الغرام ووهج الوصال)

  - (... إلى " شارع النهر " والسحر والعطر والغانيات

     إلى غرفة

    في " جبهة النهر "

    نعرى مع الموبقات

    تجيءُ العواهر تقتاتُ أرواحنا علكة بين أسنانهنّ

    ونقذفُ شهوتنا حول تلك الخصور)

4 – وعدا تلك الصورة السلبية، فالصورة الإيجابية الوحيدة للمرأة هي صورة في غاية القتامة، وهي صورة مزدوجة، إحداهما للحبيبة، والثانية للأم، وقد اقترنتا معاً من خلال الموت، فالأولى ماتت في ربيع عمرها، بينما الثانية ليست سوى أطلال قبر، وإنه لمن المفارقة أن يرسم الشاعر الصورة الإيجابية للمرأة بهذه الصورة المزدوجة، والمعتمة الألوان. 

وبالعودة إلى العنونة، فأن ألمثلث البنائي الناقص الذي تمثله لا يخلو من التلميح إلى الضلع الناقص / المرأة، إذ أن المظهرين الطبوغرافيين مجازاً اللذين نُسبا في صيغة إستعارية للشعر يعودان في متن القصيدة ليُلمّحا إلى علاقة تشبيهية مع جسد المرأة، أي إلى جسد الضلع الغائب:

(يدحرجني مرة إثر أخرى

لمرعى السهول، وسفح الجبال

فأغرق في عهر غانية...)

لكننا لن نضطر دائماً لهذا التأويل بحثاً عن الضلع الغائب، حيث يتجلى المثلث البنائي بكامل أضلاعه بدءاً من المقطع الأول من دون أن يكون لتداخل الأضلاع ببعضها، وتكررها أثر في الإخلال بالبنية الثلاثية. فمع الاستهلال بالشعر يكون هذا المقطع قد أحضر ضلع بنيته الثلاثية الأول، ويبدو حضوره أستفهامياً مقروناً بفعلين ذواتي دلالتين متقاربتين تدل كلتيهما على الإنتزاع، وقد يكون المعنى المجاور الآخر هو الخُسران، وهذان الفعلان هما فعل الأخذ (يأخذني) وفعل الإستلال (يستلّ) وفي الحالتين فالفاعل هو الغائب، بينما الخاسر أو المُستلب هو المتكلم:

(إلى أين يأخذني الشعر

يستلّ مني الوسادة كي لا أنام)

إلا أن الطبقة العميقة من البوح والتي يمكن تبينها من رضا المشتكي المُستَلَب (بفتح التاء) – المتكلّم عن المستِلب (بكسر التاء) الغائب يوحي بأنّ هذا الأخير يُعطي بقدر ما يأخذ، بل إنّ ما يُعطيه لا يقلّ جمالاً ووفرة عما ينتزعه، وحسب عطاياه أنها تخنق الشاعر المشتكي من فرط وفرتها (إنه يخنقني بالجمال) أو بمعنى آخر أنّ ما يرشح عن هذا الضلع البنائي من العطايا تترك المشتكي غارقاً إلى درجة الإختناق في محمولات ضلع مثلث البناء الثالث / المرأة  في تدرجية بنائية توصل الأخير بالضلع التالي، أي الجغرافيا بتضاريسها المجازية.

ألمرفق

(سهول وتضاريس شعرية)

الى أين يأخذني الشعرُ

يستلّ مني الوسادةَ كي لا أنام

أعومُ مع الثلج والزمهرير

يُريني صدورَ العذارى

أقول لهُ: إنني قد عجزتُ، وهنْتُ

يسامرني ضاحكا هازئا

ويخنقني بالجمال.

يُريني من الشقر والبيض والسمرِ والسودِ

كي يشعلَ القلبَ جمرا من الشهَوات

فيرقى أعالي الجبال

يدحرجني مرةً إثر أخرى

لمرعى السهول وسفح التلال

فأغرق في عهْرِ غانيةٍ علّمتني

رعاشَ الغرام ووهج الوصال

***

أيها العمر، مرماك أقربُ مما تظنّ

غدونا كبارا

أحسُّ الحياة مزارا

والطريق حصىً راجما

والأماني صخورا عثارا

الى اين تزحف بي أيّها الشعرُ؟

في السهل والبيد بين الشِعاب

وتخشى سقوط الصخور

بين وادٍ ووَاد

تمهّلْ ؛ خطاي ارتعاش السقامِ المرير

لساني مذاق الازقّـة في حيِّنا

حين كنّا حفاةً صغار

حين نلتمّ بيتا فبيتا

نكاد نلامس كل القلوب التي عايشتنا

فتعصرني رعْدةٌ ماجنة

تعيد رفات حياتي

مُبْطئاً طاعناً مزّقته المنافي

أعودُ بحنّاء أهلي

أمرّغ هذا الجدار وذاك المزار

وتلك القباب على شاطئ النهرِ

مابين دجلة والكرخ و" القشلة " الصامتة

أعود وأنهك من تعبٍ يستريح بعظميَ

أدخل " عقد النصارى "

وأرشيف أهلي الغيارى

أرى محفلا ضائعاً للعراق

قلنسوة الراهب الموصليّ يقبّل وجهي

وكوفيّةً تحتمي بالعقال تؤازرني

وسروال جدّي من الكرد أمسحُ في ثوبهِ

عرَقَ الصيفِ والحيفِ والمنهكات

أحتمي، هرَبا من هجير

فألمحُ عمّي الافنديَّ " صبري "

"سدارتهُ" أبحرتْ عبر دجلة

من بصرة الشوقِ حتى رستْ

بميناء قلبي، شراعا عتيق

يميل كأعوامنا الماسخات

أمتطي غيمةً من دخان السجائرِ

أنفثها خصْلةً من غدائرِ محبوبتي

يومَ قبّلْتها في الوداع الاخير

وأقبرتها جنب أمي الرؤوم

أناشدُ ذاكرتي ان تحلّق في جنحها

لعلّي أحطّ على شاطئٍ

بين بحر العيون

بين نعْس الجفون

أنام هنيئا وأصطاد رؤياك في الحلْمِ كي أستريح

فهيهات هيهات ان أستريح

***

الى اين يدفعني الشعرُ!؟

خارت قواي

أريد الوصول الى غايتي ومناي

الى "خان مرجان " حيث المقامات دانيةٌ

لِنقطفَ ألحانها في النهاوند والرسْت حتى السحور

الى " شارع النهر" والسحر والعطر والغانيات

الى غرفةٍ

في "جبهة النهرِ"

نعْرى مع الموبقات

تجيء العواهر تقتاتُ أرواحنا علكةً بين أسنانهن

ونقذفُ شهواتنا حول تلك الخصورْ

وترجع مثل الفصول

كأيامنا الحالكات

***

الى أين يركلني الشعر في رِجْلهِ

الى حانةٍ في "الرشيد" انزوتْ مثل بلهاء ساكنة

تستحي أن تعبئ من خمرة الأمس دِنّاً وزِقَّا

تخاف اللحى الخادعة

عاقرت قتل من يحتسي لذّةً

حرّم الله نشوتها هاهنا

أباح لنا نهرَها في الجنان

هكذا دخلوا عقلنا

وسّخوا باحةَ البيت والروحِ

بأحذيةٍ قَــذْرةٍ موحلة

{جوادٌ جوادْ

أمازلت تسبي الهوى والجوى

وتبكي النوى والبعاد؟؟!

أجبني، كفاك العناد

كفاك تبوس تراب البلاد

وتعشقُ بغداد منذ المهادِ لحدّ الرقاد

كفاك بكاءً على الرائحين

كفاك كلاما على اللائمين

فجِـسْرُ " المسيّبِ " أضحى خيالاً بعيد المنال

خراباً يداسُ بهذا المداسِ وذاك النعال

نطاردهُ في أغاني الزمان المحال

وهشَّ الحديد بأركانهِ ناخراً

بقايا الجمال

وبغداد " كرخانةٌ " للزناةِ شبيه الرجال

وناعورةٌ تحتويها البغال

علامَ تدور، وتهوى الوصال؟

إلامَ تغني وتشدو: " أمانٌ..أمانْ "؟!

فهلاّ سكَـتَّ، خرسْتَ اللسان

فما من مجيبٍ وما من أذانْ

أإنصافُ منك تطيلُ الغياب؟!

وتنسى المباهج وسط الصحاب

فماذا أقول لمن شاقني في السؤال؟

وكيف أردّ الجواب؟

***

أيها الشِّعرُ هونا على شيخِك المستكين

هنا عثرتي عند " باب الأغا " أثقلت مشيتي

هنا كبوتي

على سفح دجلةَ لمّا سبحتُ بها

هروباً من الأمن والسافلين

سأبقى مكبّاً أديمُ صلاة العراق

وأصدحُ بين الركام

أبوسُ القفارْ

الى أنْ تلوّحَ كفيَّ يوم الغياب

***

ليث الصندوق

 

يأتي مصطلح الأنطولوجيا بِعدَّة معانٍ ، والذي يهمنا منها هنا هو معنى الوجود بوصفه فعل الظهور وخروج الذات أو ما فيها إلى العالم، ويبدو أنَّ معجم لالاند يرى أنَّ كلمة الوجود مشتقة من وجد يجد وجوداً بمعنى ظهر للعيان، أي أنَّها مقولة ظواهرية، وعليه، فإنَّ الوجود يرتبط بحسب دلالته اللغوية بما بدا في الخارج للعيان، وهناك من يرى أنَّ الوجود ينقسم على قسمين "وجود خارجي، ووجود ذهني، فالوجود الخارجي عبارة عن كون الشيء في الأعيان وهو الوجود المادي، أما الوجود الذهني، فهو عبارة عن كون الشيء في الأذهان، وهو الوجود يقابل الماهية" (1) ، ولعلِّي أجد في النتاجات الأدبية ما يمكن أنْ أعدّه من الوجود، ولما كان الإنسان هو مصدر من مصادر الكون، وهو المُنتج والباعث لإبراز ماهية هذا الكون، فهو موجد أشياءً جمَّة، لذا يمكن عدُّ النتاجات الفكرية والأدبية هي من  الوجود الخارجي.

وحين نقرأ مجموعة الدكتور صالح الطائي (تنهّدات على عتبة السبعين) التي صدرت في بداية عام 2023م ، وقد بلغ من العمر بضعة وسبعين عاماً نجده جسَّد فيها حنيناً لما يضمره قلبه من مشاعر دافئة، فبرَقَ بعضَها وفاءً لرفيقة عمره، إذ عبَّر عن شعوره تجاهها أنقى الكلام وأورف الصور، علماً أنَّ القصائد التي وجهها للمرأة بصورة عامة حملت في نسيجها عاطفةً جياشة على الرغم من أنها صدرت من مفكِّر أفنى عمره في التأليف، ولم نر له نتاجات رومانسية كما في مجموعته التي بين أيدينا، إذ كان جُلّ اهتمامه بالبحث والنتاجات العلمية، فقد ألَّف كتباً بعدد سني عمره أو يزيد، لكننا نراه في نصوصه الشعرية يفيض إحساساً دافئاً للحبيبة، فمن قوله في ذلك من قصيدته (يا ابنة السبعين): ص9

امسحي فوقَ تجاعيد المشــيبِ

وجراح القلبِ والأمـــسِ وأوبي

*

قبلةٌ منكِ تعيـــد الحبَّ لحنـــــاً

مثلما الفجرُ يُعتَّقُ بالغــــــروبِ

*

يا ابنةَ السبعين ما زالَ الهـوى

رعشةً والقلبُ يعلــــو بالوجيبِ

*

يا ابنةَ السـبعين يا طيف المُنى

يزدهي بالحبِّ والعيشِ الرغيبِ

*

أنا أشــــــريكِ بعمري كلِّـــــهِ

لثــــوانٍ كي أناديـــــــكِ حبيبي4674 صالح الطائي

فهو، ولكونه بعمر الشيخوخة، يظنُّ أنَّه يعيش مرحلة الذبول، ما يجعله يستعيد الحياة بحبٍّ أظهره وبكل عنف تجاه الحبيبة (الزوجة) التي سَقت هذا الحب منذ شبابه حتى هذه الأيام، فهو يلتمسها أن تمسح فوق تجاعيد المشيب؛ كون أصابعها هي ما تحمل الحنان، فحريّ بها أن تطفئ تلك التجاعيد؛ لتبحر به إلى أيام الشباب حيث الهوى والأحلام المفاضة بالجمال والحياة السعيدة. كما أنَّه يرى أنَّ قُبلةً منها يمكِّنها أن تجعل من الحبِّ لحناً، واللحن رمز الطرب والهيام، مشبهاً حاله في ذلك مثلما الفجر حين يُعتَّق بالغروب، مومئاً إلى العيش بين الواقع والخيال، ممازجاً بين الضياء والظلام، ليعبِّر عن اختطاط ثمالته بنشوة الغرام.

أما البيت الثالث، فيصف فيه أنه يعيش الهوى، والمُحبُّ عادة حين يلتقي الحبيب تتسارع نبضات قلبه، ما يجعله لا يستطيع أن يسيطر على ثبات جوارحه، لكن في الوقت ذاته أنَّ قلبه يعيش الحزن؛ لما بلغَ من خواتيم عمره.

والبيت الخامس ولشدة وفائه للحبيبة والتمسك بها، نراه مستعداً للتضحية بعمره كلِّه من أجلها - والجود بالنفس أقصى غاية الجود - فهو الباذل العمر من أجل أن يناديها بالحبيبة. وهذا البوح العاطفي يمثل نتاجاً وجودياً فاحتْ به قريحته، مختاراً صومعة الحُبِّ حين ضاقت به سني العمر؛ فاستأسدَ؛ ليقول مالم يقله لو كان في وضعه النفسي الطبيعي، هكذا هو بناء الوجود ونفحاته التي تظهرها القوى الخارقة من دواخل الذوات الإنسانية؛ ولكون الإنسان مثل الجوهر الخالق فهو خالق لوجود عَرَضي اسمه الإبداع، ممثلاً للنفحات الإنسانية الصادرة من الشعور والعقل الإنساني معاً.

إنَّ "فقدان الحياة لضيائها وحرارتها ودفئها يعني انعدام القيمة الإنسانية المثلى، والمعنى الإنساني العظيم، وتحول العالم الى خيبة كبرى تجر في إثرها وجعاً كالموت ثقلا وبشاعة، وكالغربة تشردا ويتما " (2)، ولعل الطائي ليس كغيره، فهو يحاول التمسك بصور الحياة المفعمة بالأمل؛ ما يجعله يطلب الحُبَّ؛ لإنارة دروبه المدلهمة التي لو تركها من دون أمل لصار الروح والجسد عليلين.

أما في قصيدته (شيخ وصبيَّة)، فنراه يعبِّر أصدق تعبير عن خلجات قلبه المفعم بالحُبِّ؛ نتيجة اغترابه واختناقاته من الروتين المُمل الذي يكاد يقضي عليه، فيهرب حيث لمسات الحنين والعواطف التي تمنحه الهدوء والسكينة فيقول:

لا أجيدُ نظم الشعر، فأنا لستُ بشاعر

لا أحسن السبك أو رصف القوافي

والقوافي، هي أيضاً قد تثور، وقد تجافي

لكنني يا حلوتي أملكُ قلباً عاشقاً

والعشق في بعض النفوس نهرٌ صافٍ

قد دلني الشوقُ إليكِ غيلةً.

سأسرقُ بعضاً من قصائد الغزل

وقصص العشاق والآهات والقُبل

وأحفظها على ظهر قلبي

وأنسبها لنفسي، ثم أقرؤها حينما تمرِّين بقربي

علَّكِ يا حلوتي ستشعرين فقري وتنظرين جدبي

علَّكِ أن تعشقي شيخاً تصابى

ولا في ركام عمري بعدٌ يريني القهر والحرمان

حبِّيني أيا مهجة عمري. (ص 97)

يبدو أنَّ الشعر "ليس زينة وتجسيماً للحياة، وإنما هو كشف عن عالمٍ مجهول" (3) ما نراه في هذا النص محاولته تقمص روح الشباب للعودة إلى يوتوبيا تجعله يتجاوز حالة اليأس والقلق، ونهاية المطاف، فنراه يطمح للعيش مع ترف الحياة، فهو يأمل أن يعيش مع شابَّة تخرجه من هذا السجن الذي أثقل كاهله، وكأنه في النص يحاول أن لايلتزم بالبديهية التي يحملها قول الشاعر:

ذهب الشباب فمـــا له من عودةٍ

وأتى المشيب فأين منه المهربُ

مسلياً نفسه بهذا الوهم؛ كي يسلو القهر والحرمان، طالباً الحُبَّ من فتاته التي يحفظ الأشعار لأجلها؛ ليلفت انتباهها إليه، متوسلاً بها أن تمنحه رشفات حُبِّ هو بحاجةٍ لها؛ ما يدعونا أن نستشعر الحالة التي يعيشها، ومثلما قلنا سلفاً أنَّه يتهرب مما يعانيه من قلق تجاه واقع مأزوم وخوفٍ من النهاية الحتمية التي يخشاها معظم البشر.

***

بقلم: د. رحيم الغرباوي

.................

الهوامش:

(1) الأنطولوجيا في المصطلح والمفهوم، ياسين حسين الويسي، العتبة العباسية المقدسة، بيروت، ط1، 2019م: 17

(2) معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، د. عبد القادر فيدوح، دار الزمان للدراسات والنشر، سورية، ط1، 2012م: 175

(3) آليات الشعرية الحداثية عند أدونيس، د. بشير تاوريريت، عالم الكتب، القاهرة، 2009م.

 

مقدمة: لعل رواية عروس الفرات انعطافة مميزة في نمط مؤلفات المؤرخ والباحث الكبير الدكتور علي المؤمن، ذلك أننا تعودنا منه البحث في طيات التاريخ السياسي، وفي الفكر الإسلامي والفكر السياسي، وهو ما أعطى لمؤلفاته سمة البحث العقلائي المدعم بالأسانيد من جهة، ومن جهة أخرى عدّت مصدراً موثوقاً لمن يقتفي المعلومة النقية والتحليل الموضوعي.

وبذات النكهة الجميلة كانت روايته هذه؛ فأنت حين تقرأ، تتنقل بهدوء بين مشاهدها، غير مرتاب من مبالغة أو اختلاق لما لم يكن، سيما وأنه يتحدث عن بيئة نشأ وترعرع فيها، وأبدع في أن يجعل حواسنا تسمع وتشم وتعيش نفحات مشاهدها السعيدة، ونحزن وتنقبض قلوبنا وهو ينقلنا الى مشاهد الهمجية البعثية، وقد عشناها لحظة بلحظة، نعم؛ وصلتنا في هذه الرواية رسائل عديدة، ستبقى تتنقل من جيل الى جيل دون عناء، ممتطية صهوة قلمه المبدع في هذا النوع من التأليف غير النمطي للدكتور علي المؤمن، الباحث في شؤون الدين والسياسة.

رأت رواية "عروس الفرات" النور في العام 2016، بعد عقود مرّت على أحداثها، وطبعت في مرحلة مهمة من تاريخ المجتمع العراقي، حيث غابت أو غيبت تلك الحقائق، بكل ما فيها من ألم وتحد، وآيات من صمود لشبيبة متعلمة قل نظيرها، سلاحهم العلم ومدادهم الأدب وقدوتهم نبيهم وأئمتهم من ولده، فتحوا قلوبهم لكل إنسان عايشهم، حاملين شعاراً مقولة مولاهم أمير المؤمنين (عليه السلام): (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)؛ فما أحوجنا لمثل هذه النماذج الفريدة من نوعها لجيل جديد كاد أن يفقد قدوات حسنة، وتجذبه وسائل التواصل؛ لتحرف مساره بعيد عن إرثه الديني والحضاري.

لقد اعتمدت في دراستي هذه بتناول رواية "عروس الفرات" من محاور عديدة، أزعم أني تصفحت عبرها أغلب ما جرى من أحداث ومشاهد اجتماعية سياسية عراقية خلال الأعوام 1979 ـــ 1982. وعلى الرغم من أنني سبق أن قرأت الرواية، إلّا أن القراءة بقصد الدراسة البحثية هي شيئ مختلف، فتح لي آفاقا لم ألتفت اليها من قبل.

المحور الاجتماعي في رواية عروس الفرات

جسّد علي المؤمن في روايته تفاصيل دقيقة لحياة الأسر العراقية الأصيلة، ووصفتها وصفاً جميلاً يجعل المرء يستشعر المكان استشعاراً حياً، ويكاد يشم عبق زهوره عند الحديقة، ويدخل الدفء الى نفسه عندما يصف اجتماع أفراد عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي حول المدفأة تجنباً لبرد الشتاء القارص في تلك السنوات، وتكاد رائحة الشاي وراتنجات قشور البرتقال تلامس أنف القارئ لهذا المشهد، ومن هنا يمكننا القول:

1- إن الرواية تعد مصدراً يؤرخ للتراث الشعبي السائد في القرن العشرين، وخاصة عقود الستينات وحتى التسعينات، حيث عرضت البيئة عراقية، بما فيها سلوك العائلة اليومي، عبر قيم متوارثة من الآباء الى الأبناء، بكل مصداقية وحرفية، وبينت كيف كان المجتمع العراقي مجتمعاً متماسكاً، انطلاقاً من الأسرة ذات العلاقات الحميمة، ونقول بحق: إن ما وصفته الرواية هو عراق ما قبل الغزو الفكري العلماني المتجسد بسلطة البعث وماتلاها.

2- أبدع المؤلف في مشهد عقد القران، والتمازج الاجتماعي بين عائلتين، يرأس إحداهما  سيدٌ معممٌ وأخرى يرأسها رجلٌ معّقلٌ، وما بينهما رجال من مختلف الأزياء السائدة آنذاك. وحفظ المؤلف الذاكرة الاجتماعية عندما وصف لحظات عقد القران، وما جرت عليه عادات الأسر الكريمة من حشمة ووقار، ونمط الأفراح المحافظة، حيث فصلت تواجد الحاضرين الرجال في حديقة الدار، بينما النساء يحطن بالعروس، يزغردن ويهزجن من مورثات شعبية جميلة، نكاد نفتقدها، عبر ما يحدث في حفلات زواج مختلطة تأثراً بثقافة دخيلة على العراق، مهد الحضارات ومهبط الرسالات ومثوى الأنبياء والأئمة الأطهار.

3- وثق لنا المؤلف ظاهرة الأسر المركبة في بيت واحد، مهما كانت مساحته، حين يتزوج الأبناء الذكور ويبقون في ذات مسكنهم الأصلي، ويعيشون بسلام ومحبة، ويتربى الأحفاد في أحضان الأجداد، هذه الظاهرة كانت سبباً رئيساً في توارث القيم النبيلة والسلوك الصالح، فضلاً عن فيض من الحنان الذي يناله الأطفال من الأجداد كل يوم ولحظة، بينما نرى اليوم الأمهات يعانين من صعوبة التربية والعصبية، وقلة الخبرة في التعاطي مع الأطفال، في حياة تزيد من ضغوطها عليهن، ولا سيما بالنسبة للمرأة العاملة، حيث يفتقر الأبناء الى مصدر نقي للتربية وإثراء الروح بتلك القيم، ولعل أحب طريقة لزرعها وانجحها هي قصة ما قبل النوم أو جلسات الليل في الشتاء، وهم يحيطون بالمدفأة النفطية وابريق الشاي يعتليها. كما أن المعيشة المشتركة تجعل الجميع يعيش بقواسم المصير الواحد والهدف المشترك وتتوحد التربية وتتوطد علاقاتهم مع الأقارب وليس كأيامنا صار الجيل الجديد يجد ضالته في الغرباء ولا يمت بصلة حميمة لأقاربه من أبناء الأعمام والأخوال.

المحور السياسي

أبدع المؤلف علي المؤمن في إيصال رسائل متعددة عن الواقع السياسي في العراق آنذاك، فضلاً عن الاجتماع السياسي للنجف الأشرف مدينة إمام المتقين؛ فعلى الرغم من أن يوم  17 تموز 1968 يعد يوماً اسوداً في تاريخ العراق لوصول البعثيين لسدة الحكم، إلّا أن الرواية بيّنت أن صدام حسين كان أشد إجراماً من سابقه أحمد حسن البكر، إذ كان صدام هو الجانب المنفذ لكل مخططات الاستكبار بكل طواعية، ولكونه مدعوماً منهم؛ فقد كان القرار بيده حتى حين كان نائباً للبكر. أما تاريخ 17 تموز 1979 فهو بداية علنية لسلطة الفرد الواحد المستبد، والمواجهه الحقيقية بين "الدعاة" والبعثيين ورئيسهم المحب للدماء صدام:

1- سلطت الرواية الضوء على العمل التنظيمي لحزب الدعوة الإسلامية، حيث أبدع المؤلف في وصف مشاهد عاشها "الدعاة" في العمل الحزبي السري، حيث كانت الأنفاس تعد من قبل أزلام البعث، وتكاد تطبق على كيان الفرد العراقي من خلال إشاعة (للحيطان آذان)، هذه العبارة التي جعلت المواطن العراقي في حالة اغتراب نفسي واجتماعي، واستلاب لكل معنى للحرية، كما أبدع الكاتب في التعريف بالعمل التنظيمي من خلال السرد السلس الممتع، وليس الشرح المباشر، وبيّن حقيقة أن خيرة الشباب المتعلم والمتدين ومن ينتمي لأصول اجتماعية عريقة، هو "الداعية" المتفاني في خدمة عيال الله، فضلاً عن الإقدام والشجاعة وحصافة الرأي في اتخاذ القرار الشرعي، مهما كانت نتائجه، وقد تجسد هذا النموذج ببطل الرواية الداعية أحمد عبد الرزاق، الموظف النزيه المحبوب من جميع زملائه في العمل، كما بيّنت الرواية تعامل أبناء عبد الرزاق مع أبيهم بطريقة الأخوة والصداقة، وهذا يدل على وعي وحرص في تربيتهم وتنشئتهم الدينية والسياسية.

2- وضحت الرواية في بعدها السياسي، همجية السلطة الحاكمة التي كان أعضاؤها والعاملون معهم من شراذم الخلق، وعندما تسلطوا على رقاب الشرفاء من العراقيين أساؤا استخدام السلطة وطغوا بكل معنى للطغيان، وأظهروا كل ما لايمكن وصفه من خسة ودناءة، كما كشفت الرواية عن غياب وانعدام مبدأ (المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، والتي وردت في مواد كل دساتير العراق، ومنها الدستور المؤقت لعام 1972، والذي استمر العمل به لما يقارب ثلاثين عاماً دستوراً رسمياً للعراق، بينما كان المتهم لدى النظام البعثي مجرماً وإن ثبتت براءته. ولم يكتفوا بهذا القدر من الطغيان، وإنما عاقبوا العائلة فرداً فرداً على ما لم يفعلوه، متجاهرين بالتحدي بقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، حين كانوا يعتقلون عائلة المتهم صغاراً  وكباراً، دون أن يكون لأي منهم تهمة محددة، وهو مافعلوه بالضبط مع عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي، حين قتلوا الصبي في الشارع، وهشموا رأس الطفل في المعتقل، وبقروا بطن الحامل، واغتصبوا الشابة، وأعدموا الرجل العجوز، وعذبوا المرأة الكبيرة، كل ذلك بسبب أنهم أقارب متهم هارب، لإجباره على تسليم نفسه!!.

ومن المؤكد في هكذا ممارسات عشنا تقاصيلها، كوني معتقلة سياسية، أن يتم  إعتقال عائلة المتهم جميعهاً، دون مذكرات قبض قانونية؛ إذ كان الطاغية صدام فوق القانون الذي شرّعه هو، وأعطى لقراراته وقرارات ما كان يسمى بمجلس قيادة الثورة، الذي كان يترأسه، قوة القانون، وبذلك انتهك الدستور علانية، ووصل به الحال ان يتجرأ  باختصار العراق بشخصه، عندما قال عبارته الشهيرة: (اذا قال صدام قال العراق).

المحور العسكري

وصف مؤلف "عروس الفرات" الحرب المفروضة على بلدين مسلمين بطريقة من عاش أحداثها أولا بأول، وعلى الرغم من الإسهاب والتفصيل الدقيق، لكنه لم يكن مملاً، بل نقَلنا لتلك الأجواء المؤلمة نقلاً سلساً، خاصة أننا عشنا كل لحظة فيها. ونتناول هذا المحور عبر:

1- أثر الحرب على الأسر العراقية؛ إذ بيّن الكاتب في مفاصل من روايته كيف عاش العراقيون حياة التعتيم، وقضوا لياليهم تحت ضوء الفانوس، فضلاً عن الشعور بالهلع من تداعيات الحرب. وبيّن الشعور بالمسؤولية الشرعية من المشاركة في الحرب من قبل عائلة السيد عبد الرزاق، وتجسيد مشهد القلق الذي انتاب العائلة جميعاً، عندما علموا بأن مواليد ولدهم أحمد مطلوبة للالتحاق بالخدمة العسكرية، وكان خوفهم من اقتتال المسلمين (مسلم يقتل مسلما)، وليس الخوف من الموت، وكيف كانت قرارات الطغمة الحاكمة جائرة في كل من لايلتحق بالجيش، وكيف هجموا على الدار الآمنة بكل همجية، وعاثوا فيها، ونشروا الخوف في قلوب  كل أفرادها، وكأنّ ولدهم قاتلاً أو مجرماً، وليس مجرد متخلف عن الالتحاق بالخدمة العسكرية. وكان قرار أحمد بأن يعتزل العالم ويبقى حبيس الدار، قراراً شجاعاً، ودلّ على مدى التزامه الديني بعدم مقاتلة أخوانه في العقيدة، على الرغم من القلق الذي شعر به والداه.

2- كشفت الرواية، دون أفصاح، عن مدى الخرق الذي اخترق به الطاغية بنى المجتمع، وزرع أعينه وجواسيسه بين الجيران، في الحي والزقاق الواحد، وعلى الرغم من التزام احمد بعدم الخروج من البيت؛ فقد استدل أزلام السلطة عليه، وعلموا أنه هارب من الجيش؛ فمن أعانهم على ذلك!.

3- أثر الحرب في سلوك أزلام السلطة تجاه الهاربين من الجيش، حيث وصف الكاتب كيفية تعاملهم القاسي جداً مع الهارب من الخدمة العسكرية، وتعذيبه بشتى انواع التعذيب الجسدي والنفسي، وكان هذا ديدنهم مع كل من يخالف نهجهم العدواني .وركّز الرواي على نوع من السلوك تميز به النظام القمعي، ألا وهو (التطويع) القسري، حيث يجبر المعتقل السياسي وأبناء العوائل المهجرة، وعموم الرجال من غير العسكريين، على (التطوع) للالتحاق بجبهة الحرب، من خلال ما يسمى بــ (الجيش الشعبي )، الذي يشمل الذكور من عمر (15- 55) عاماً، وهي القوات الايديولوجية الشعبية الرديفة للجيش الرسمي. كما يصف الكاتب إجراءات عناصر الجيش الشعبي التي يرعبون من خلالها العوائل باقتحام البيوت الأمنة بحثاً عن الرجال، ليسقوهم الى جبهات الموت، وهي الإجراءات القمعية التي سيق من خلالها أحمد الى الجبهة، وعدد كبير من المعتقلين، دون أن يخبروا أهاليهم بذلك.

4- أثر الحرب في سلوك منتسبي الجيش العراقي، إذ أبدع المؤلف في وصف مشاعر الجنود العراقيين وهم يجدون أنفسهم قد زجّوا في حرب دامية لاناقة لهم ولا جمل، ولايعرفون أي هدف مطلوب منهم تحقيقه!. وكان أحدهم يشعر أنه وقود لهذه النار المستعرة، دون اعتقاد أو إيمان بها، وأنه يكره وجوده في الميدان، ويترقب أية فرصة للهرب، وإن كان فيها موته المحتم. ولعل المشهد الذي وصف فيه المؤلف تصرف مراقب الفصيل العسكري عندنا لمح أحمد وزميله عباس وهم يهربون باتجاه ايران؛ دليل على انعدام العقيدة لدى الجيش بهذه الحرب.

5- المشهد المؤلم لوفاة عباس في الصحراء خلال هروبه من الجبهة؛ فإن الكاتب قد أبدع فيه؛ فهو ينقل مشاعرنا بين الطرافة التي كانت تجري بين هذين المظلومين أيام دراستهما وأيام شبابهما، وبين الأسى الذي يعيشونه وهم يسيرون بين حقول الألغام، مجازفين بأرواحهم، كي ينجوان من التورط في دم المسلم. وما أروع ما كتب عن لسان عباس الداعية، الذي لم يوص بأهله بقدر ما ناجي السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وخاطب الدعاة الشهداء الذين سبقوه، نعم؛ بقي على عقيدته حتى آخر أنفاسه .

6- يمضي أحمد في طريقة اللاهب، يعين جسده المتعب بقوة الايمان والعقيدة، يتنفس الصعداء عند وصوله الجبهة الأخرى، وليصف لنا المؤلف كيف هي مشاعر المجاهدين الذين فارقوا الأهل والاوطان، وكيف يتوجهون بأنفسهم باذلين دماءهم للتحرير من ربقة الاستبداد .

القمع والقسوة البعثية

جسّدت رواية "عروس الفرات" مشاهد متعددة للقمع البعثي في كل فصولها:

1- خارج المعتقل؛ بدءاً بممارسات اقتحام الدور والاعتقال بدون إبداء مذكرة اعتقال، وانتهاءً بممارسات التعذيب وانتهاك أبسط حقوق الإنسان في دهاليز المخابرات وأقبية دوائر الأمن، التي سلبت أمان الأسر الأصيلة ولم ترع حرمة لأحد.

2- تجسّدت قسوة عناصر النظام البعثي وجرأتهم على الدماء، في مشهد قتل الفتى الطالب ياسر في الشارع؛ فمن أعطاهم هذه الصلاحية في إراقة الماء؟ إذ بين المؤلف أن أزلام الطاغية لا رادع قانوني لهم، وان مبدأهم هو أن قريب كل متهم هو مجرم وإن تثبت براءته.(1)

3- أما داخل المعتقلات؛ فقد أظهر المؤلف الصورة الحقيقية لانسلاخ جلادو الطاغية من انسانيتهم، ووحشية تعاملهم مع عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي، حيث لم يراعوا حرمة امرأة مسنة كأم عادل، ولا شيخاً وقوراً كالسيد عبد الرزاق، ولا امرأة حامل، وحتى الطفولة؛ إذ لم يبالغ المؤلف في مشهد قتل الطفل البرئ علي، وإزهاق روحه خنقاً بيد ضابط التحقيق، نعم؛ نقل لنا المؤلف مشاهد بسيطة لقسوة ما عهده العراقيون من نظام البعث.

4- أوضح مؤلف الرواية المبدع، بطريقة مقنعة، مشهد انهيار ياسمين واعترافها على هروب زوجها أحمد، وهي ترى طفلها الوحيد يلفظ أنفاسه خنقاً حتى الموت، ذلك أن قلب الأم لا يمكن أن يقاوم رأفته بأطفاله، ولا سيما أن ياسمين كانت حاملاً؛ فهي ــ إذاً ــ كانت تتعرض لضغوط نفسية موجعة جداً، قد تفوق ضغوط غيرها، ولا يمكن لأي أم أن تكون أما إن قاومت ماجرى لصغيرها الوحيد.

التهجير القسري

شابهت مشاهد محور التهجير (التسفير)، لدرجة ما، مشهد هروب أحمد ورفيقة عباس، من حيث وصف المنطقة الحدودية بين العراق وجاره اللصيق ايران، إلّا أن المأساة كانت متجسدة أكثر في هذا المشهد الذي يخص ما أسماه النظام البعثي العراقيون من ذوي الأصول الإيرانية (التبعية):

1- حنين المهجرين (المسفرين) الى الوطن، وهم بعد لم يغادروه، وما أعمق عبارة الرجل المسن الذي فارق وطنه، وهو ينادي نهر الفرات، وكيف أنه سيفارقه الى الأبد، بسبب سياسات البعث الهمجية.

2- مآسي الأمهات والأخوات والزوجات المهجرات، اللائي اعتقل رجالهن الذين هم بعمر 18 ـــ 38 سنة، دون سبب، سوى أنهم من أبناء المسفرين، وكيف تركوهن يواجهن مصيراً مجهولاً على أيدي هؤلاء الطغاة، نعم؛ لم يتم الإشارة سوى الى الرجال الكهول بين المسفرين، وهنا؛ تعددت أوجه البلوى على المهجرين قسراً (المسفرين)، فهي ليست سفرة عائلية ترفيهيه، بل تهجير قسري، شتت شمل الأسرة، ونهب كل ما تملك، ليجعلها بين عشية وضحاها لاتملك سوى ماترتديه من ملابس فقط!.

3- في هذا المفصل من الرواية، تحدث المؤلف بطريقة السرد الضمني، ليصف لنا تحالفاً مشؤوماً بين أكراد منشقين عن الجمهورية الاسلامية وبين سلطة الطاغية صدام،  وكيف أن هؤلاء المرتزقة الذين جمعهم بنظام البعث عداوة الإسلام، وقد فسح لهم مجال التعدي على حرائر العراق من تلك العوائل التي سلبت كل حقوقها، وسيقت الى مجهول، بعد أن فقدت الأحبة، بين معتقل وبين فاقد للحياة في طريق التهجير.

4- لم يرحم نظام البعث العوائل المهجرة، حتى الطريق الذي خصصه لهم هو من مناطق الأراضي الحرام التي زرعت فيها الألغام، وكانهم قاصدين فيها أن يموت المسفرون، ولا يصلوا الى الجانب الأخر، إذن؛ هو حكم بالإعدام مؤجل التنفيذ؛ فأي حقد هذا؟!. ويتعجب المرء كيف تناسى هؤلاء الجلادون تلك القواسم المشتركة بينهم وبين هؤلاء المسفرين!؟، ألم يكونوا يوماً جيرانههم ومعارفهم وزملاؤهم في العمل؟!

5- جسّد المؤلف كيفية قيام حكم البعث وحقبته المظلمة بدق إسفين التفرقة وزرع العداء في قلوب بين أبناء الشعب الواحد، إذ لم يكن متوقعاً أن يحصل كل هذا الشذوذ بين أبناء الشعب المتكافل المتراحم، حتى ابتلاهم الله بنظام البعث.

خاتمة الرواية

ختم الدكتور علي المؤمن روايته بأجمل ما يكون، حيث تجسّدت العقيدة الحقة في قلب ومواقف الداعية أحمد عبد الرزاق، وعلى الرغم من إيمانه بأحقية عقيدته، إلّا أنه أتاح لعينيه ذرف الدموع، وتوجّع قلبه المكلوم وارتجف لفقد أحبته واحداً بعد الآخر، وقد أبدع المؤلف في هذا المحور حين جعل نقل الأحداث على لسان ياسمين، زوجة أحمد، وبأسلوب الـ (فلاش باك)، وهي المرأة التي ثكلت بفقد طفلها وجنينها في ذات الوقت، ولكنها صبرت وتخطت الصعاب، ووصلت الى زوجها عبر رحلة مميتة؛ إذ أراد المؤلف أن يبقي ياسمين حية، لتكون شاهد العيان الوحيد على نكبة عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي، وليحفظ عبرها هذا الجزء المهم من التاريخ.

وبهذه الخاتمة الذكية، المتعارضة في مشاعرها، بين فرحة تجدد اللقاء بالحبيب، ورقة حديث أحمد مع زوجته ياسمين، وتراجيديا الأحداث القاسية؛ يلملم الكاتب أطراف الرواية وشخوصها العديدين، بنهاية اختصرت معادلة تنازع الأكف البيضاء مع الأكف السوداء، منذ ملحمة الطف الخالدة، لتبثّ رسالة الى الأجيال على لسان السيد أحمد عبد الرزاق، الذي قال عبارة مؤثرة: بأنه (بقية السيف). نعم؛ فقد فنيت العائلة، إلا أن الله أبقاه وياسمين، في دلالة أراد بها المؤلف أن العمل الاسلامي ماض على يد أبنائه، مهما سالت دماؤهم في بقاع الأرض، وأن الشهيد لم يمت قط، كما أراد الطغاة، بل هو ممتد، وببركة دامائه يحيا من سار على دربه أينما كان، وكما قال الشاعر (فحبوب سنبلة تجف.. تملأ الوادي سنابل).

نقد للرواية

لا يمكن أن ننقد رواية "عروس الفرات" بكل ما فيها، إلّا نقداً داعماً، من حريص يسعى الى سد ثغرات جمال مشاهدها، وإضفاء رتوش تزيدها كمالاً، ولست هنا في مقام النقد الأدبي المجرد لهذا السفر العابر للعقود الزمنية، والمادّ أواصر الماضي البعيد بالأمس القريب، ولكن من منطلق كوني صاحبة تجربة في العمل الإسلامي المعارض، وفي الملاحقة والاعتقال والتعذيب والسجن في زمن نظام البعث؛ فقد دوّنت بضع ملاحظات، لا تنقص من قيمة الرواية، وإنما وجهة نظر ارتأيتها:

1- افتقرت الرواية استخدام اللهجة العامية، مما جعل بعض العبارات الواردة فيها لاتعبر عن المشاعر في المشهد، وخاصة في حالات لاتترجمها اللغة الفصحى ترجمة مؤثرة.

2- يبدو أن المؤلف لم يخض تجربة الاعتقال أو السجن، لذلك؛ لم يكن وصفه كمن عاش التجربة، وإنما كانت وصفاً سماعياً. وعلى الرغم من أنه قد أبدع في الوصف لكل مشهد من مشاهد تعامل الجلادين مع عائلة السيد عبد الرزاق، ولكن لم يكن بعضها واقعي لدرجة ما، وكمثال؛ فقد ذكر أن أم عادل قد زارت ابنتها شيماء في معتقلها، وهذا لم يكن متاحاً إطلاقاً، بل كانوا يعمدون لتفريق أبناء الأسرة الواحدة والقضية المشتركة.

3- لم تكن أساليب الجلادين الملتوية في تلك الدوائر المرعبة، بوتيرة واحدة، وإنما كانت بين الترغيب والترهيب، بحسب دورات تدريبية لإعدادهم للقمع والاجرام، وهذا لم يرد في الرواية.

4- أبدع المؤلف في وصف شخصية ضابط التحقيق وقسوته وخسته وعدم تورعه عن أي جرم، من خلال مشاهد ضغطة على السيد عبد الرزاق، بطريقة افتقرت الى أي نوع من الإنسانية، لكن حواراته مع السيد عبد الرزاق لم تكن واقعية، لأن الجلادين لم يكونوا يسمحون بأي حوار مع المعتقلين، وخاصة بمثل عبارات الرواية.

5- على الرغم من أن التعذيب الوحشي هي سمة لكل أزلام الطاغية وجلاديه في أقبية المخابرات ودهاليز الأمن المتعددة في كل العراق؛ فإنه من المعتاد أن يموت المعتقل على أيديهم خلال جولات التعذيب الجسدي، وحتى النفسي، لذلك؛ لم يكن مشهد إعدام شيماء واقعياً؛ إذ أن دوائر التحقيق لايوجد فيها مقاصل إعدام وأعواد مشانق، فإذا لم يقتل المعتقل أثناء التحقيق؛ فإنه يحال على محكمة الثورة سيئة الصيت، ليتم الحكم عليه بالاعدام شنقاً حتى الموت، كما تحال النساء المحكومات بالاعدام من الى سجن الرشاد، القسم السياسي الثالث، الذي يحتوي غرفة مخصصة لانتظار تاريخ تنفيذ حكم الاعدام، والذي لاتتجاوز شهراً واحداً غالباً،(2) أو تساق المعتقلة مباشرةً الى المقابر الجماعية أو ساحات الاعدام بإطلاق الرصاص، أو أية وسيلة أخرى، ومن ثم يعد لها مقتبس حكم صادر من محكمة الثورة، وهو ماحدث في العام 1982 مع عشرات المعتقلات الشابات اللواتي ساقوهن الى المقابر الجماعية من معتقل مديرية أمن الثورة (مديرية أمن صدام فيما بعد)، وصادف ذلك في وقت السحر من إحدى ليالي شهر رمضان، حيت عاد الجلادون الذين ساقوهن صباح اليوم التالي وهم يحملون معاول الدفن وعبائات المعدومات. ثم بعد سقوط نظام البعث في العام 2003، وجد أهاليهن مقتبسات الأحكام التي تنص على أن محكمة الثورة حكمت عليهن بالاعدام(3). لذلك؛ كان الأجدر بالمؤلف أن يختم قصة شيماء بإطلاق النار عليها خلال التعذيب، أو خنقها كابن أخيها علي، أو أذابتها في التيزاب (حامض النتريك المركز) كالشهيد عبد الصاحب دخيل، أو سوقها الى المقابر الجماعية.

***

إعداد: د. عطور الموسوي

...................

(1) منح صدام حسين صلاحيات القتل حتى لرجال المرور، فضلاً عن المحققين في دوائر المخابرات والأمن المتعددة؛ إذ صرح المحقق فراس التكريتي في مديرية أمن الثورة جهاراً: (إن الريس أعطانا صلاحية قتل من 6 الى 7 أثناء التحقيق، نقلاً عن السجينة السياسية باسمة عبد الأمير، التي حكم عليها بالسجن المؤبد وفق المادة 156 ب، الخاصة بالدعاة، وهو ما عرف بقرار إعدام الدعاة (شاهد عيان).

(2) ينظر: د.عطور الموسوي، "وتلك الأيام: مذكرات طالبة جامعية تحكي قصص القمع والارهاب في سجون صدام"، ص309، دار العارف للمطبوعات، بيروت، 2021.

(3) المصدر السابق نفسه، "عند السحر رحيل دون وداع "، ص231.

 

تقديم: تروم هذه المقالة تأويل مفهوم التخيل داخل منظومة السرد الروائي المتكئ على فكرة التاريخ، من خلال رواية (الحدقي) للمبدع الموريتاني أحمد فال ولد الدين، الصادرة في طبعتها الأولى عام 2018 عن مسكيلياني للنشر والتوزيع بتونس. والصادرة أيضاً هذا العام 2022 عن المجلس الأوروعربي للفكر والدراسات والترجمة ببلجيكا.

نسطرأولاً احترازاً منهجيا ومركزياً يسري على كل خيوط التخيل الآتية في غضون المقاربة مفاده أنّ عملية التحليل هنا لا تهتم بتتبع الأحداث بتاتاً، ومن ثمة فكل قارئ راغب في الاستمتاع بالوقائع لن يجد ضالته هنا. وإنما همّنا الاجتهاد في رصد خيوط المتخيل التي اشتغل عليها لاوعي السارد، واشتغل عليها وعينا لتقريب المتلقي من بنيات التشكل الروائي وهو يراوح بين زمنين مختلفين بل متباعدين في مقولات التحقيب أشد البعد: زمن الجاحظ في العصر العباسي وزمن محمد القروي المعاصر لنستقرئ كيف تمّ هذا التداخل وفي أيّ جمالية سردية.

- في المفاهيم

لا نروم بحثا في إطار المفاهيم ولا في إشكالاتها المتعلقة بالاختلاف أو التعدد أو الخصومة أو حتى الخصوبة في هذا التعدد بقدر ما نهدف إلى طرح المتفق عليه والمتواضَع في المجال. ومن ثمّة فمقالتنا لا ترمي إلى الجدل في هذه المفاهيم لأن غرضنا لصيق أولا بإمكان تأويل بعض مقاطع رواية الحدقي وثانيا بما يخدم الرواية من آليات نشتغل عليها لتقريب التأويل الممكن من متنها واحتمالات فائض سردها.

تقريب السرد:

نعتبر السرد قبل كل شيء فعلا سيميائيا لا يقدم حدثا في الزمن فحسب وإنما يعيد ترتيبه في الزمن. ومن ثمة فالسرد نشاط إنساني غير مشروط بزمن دون آخر. كما أنه يخرج من تحديده المرتبط بفعل الحكي إلى المستوى النظري الذي يجعل منه منتَجا متغيرا في عمليات بناء الأحداث الحقيقية أو المتخيلة، مقدَّمةً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في وسائط مختلفة منها الشفوي ومنها المكتوب وغيرهما...

تقريب المتخيل:

و نعتبر المتخيل الذي أشرنا إليه في عنوان المقالة بمفردة (الورقي) باعتبار الورق مساحة من المخيال الحاضن للكتابة السردية المتخيلة. والتخيّل هو التصور في ظنٍّ وشبَهٍ مصداقا لقوله تعالى (قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى)1.

والمتخيّل في نظري هو ذلكم الموجود الورقي2، الذي ينتجه السارد متخطياً لحظة الواقع متعاليا عليها في وضع إبداعي خاص. وفي هذا الإطار يتجاوزالمتخيّلُ (الموجودَ ويتخطاه ولكنه يتمثل في كل لحظةٍ ذلك المعنى الضمني للواقع)3 انطلاقا من قدرة المبدع على استدعاء ملكاته الذهنية في شرطين اثنين هما إعادة الصور الماضوية من جهة وإبداع صور جديدة من جهة ثانية.

تقريب التأويل:

و أما التأويل فهو في نظري حضور القارئ أو المتلقي الفاعل بمكر فنّيّ في عذرية المتن الروائي. على اعتبار أن التأويل هنا يرتبط بإعادة إنتاج النص من قِبل ذات أخرى خارج الذات المؤلفة، تحمل القيمة المضافة إلى المعنى، وتحوّل هذا القارئ إلى كائن يعقل الخطاب خارج الخطاب ذاته من خلال قدرته على ممارسة عمليتيْ التفكيك والتأويل (إنه كينونة مفكرة خارج الخطاب وعوالمه، وليس في يده الا التفكيك والتأويل والإحالة، قبل أن يقوم بتحويل النص من وهم لمعنى ما إلى وعي بأن المعنى لا حدود له لأنه ينبغي على القارئ أن يشك في أن كل سطر في النص يمكن أن يخفي معنى سرّيا)4   

والتأويل هو نظرٌ عميق في الوحدات الكلامية التي تحمل معرفة قبلية محكومة في سياق معين يضبط عمليات التفسير والتخريجات حتى لا تشط بعيداً خارج الشرط المنهجي.

من هنا فرواية الحدقي نص سردي متخيّل ومتخلّق في رحم مناخ اجتماعي وثقافي خاص يلقي بنا في أتون سياقات متعددة من التشكيل الفني لقضايا عصرين متباعدين في الزمن. إن النص الإبداعي سيرورة فنية تتخلّق في (مناخ سوسيولغوي يتفاعل معه الأديب بوصفه منظومة لغات جماعية إيديولوجية، تتفاعل مع الموروث الحضاري، وتستحدث تقنيات جديدة، تخترق الفضاء، وتختزل الزمن، وتنفتح على طاقات من التخييل يصعب الإمساك بتلابيبها)5.

- في متن الرواية:

في تصور فنّي إبداعي يرسم الكاتب الموريتاني أحمد فال ولد الدين جسوراً سردية بين الراهن والماضي يقلّص فيها المسافات التاريخية بين لحظتين واحدة في قلب التراث وثانية في صميم المعاصرة. وفي هذا المتن يرصد الراوي سيرةَ أبي عثمان محمد بن بحر الجاحظ متتبعاً تفاصيل حياة هذ العلَم التاريخي منذ صباه حتى أفوله تحت أثر داء الفالج. بموازاة لذلك قدّم صورة البصرة في العصر العباسي عبر سيروراتها الثقافية العربية والإسلامية. وقد اختار الراوي تقنية السرد المتخيل بإدماج سيرورة أخرى ترتبط بالمعاصرة في شخص مدينة الدوحة وفي شخص قوة فاعلة هي محمد القروي الشنقيطي الذي يعمل في قناة العروبة مدققًا لغويًا في سياق مهني غارق في كساح اللهجات العربيّة، مما سيدفعه إلى الذود عن حمى اللغة العربية شانّاً حربه الهوجاء على كل من يلحن أو يعبث بقواعدها . والنتيجة ستكون إبعاده من هذا المنبر إلى آخرهو الكتابة الوثائقية لإنتاج شريط وثائقي عن شخصية الجاحظ. ومن ثمة ستنقسم الرواية إلى عالمين روائيين أحدهما في الحاضر والآخر في الماضي في إطارحبكة فنية تتيح لنا الانتقال بين زمن الخلافة العباسية والزمن الحالي. وفيها يكون محمد القروي في الدوحة مرآة للجاحظ في البصرة وبغداد سواء على مستوى شروط الوجود الموضوعية ومثالها الحراك الثقافي والفكري في الزمنين معاً أو الذاتية ومثالها العلاقات العاطفية لدى كل من الجاحظ ومحمد القروي.

- المتخيل السردي في رواية الحدقي:

تضعنا رواية الحدقي للكاتب الموريتاني أحمد فال ولد الدين في صميم العالم وفي التاريخ. وهي عندما تلقي بنا في الذاكرة وفي الشهادة معاً فإنها لا تقحمنا في كون لا نعيش فيه، بقدر ما تورطنا في المعنى المتعلق بتاريخية متعينة في الواقع وفي المتخيل.

و هذا المتخيل هو ما يهمنا تأويله بالدرجة الأولى على اعتبار أن رواية الحدقي هي فضاء مكاني تتداخل فيه الأزمنة وتتقاطع داخل رؤيا خاصة للوجود تتغيّى اللغة لا كشبكة من الترميز الواصل للمعنى فحسب وإنما كتصور يعقل الوجود والعالم والتاريخ.

فكيف مارس السارد لعبة التخييل السردي بين زمنين: واحد يتجذر بعيدا في العصر العباسي وثانٍ يتمثل لنا حاضرا معاصرا بكل الثقل الحضاري فيه. وما شكل هذه المراوحة بين فضاءيْن محتلفين في الأبعاد الثقافية وفي التشكيل الفكري لهذه الثقافة وتلك؟

1 – خيوطُ المتخيّل:

الخيط المتخيّل الأول: مساحة في التوتّر السردي

دأب السارد منذ مطلع السرد على ربط المكان بالمكان والزمان بالزمان والقوى الفاعلة بنظيراتها، في وعيٍ فنّي بقدرة المتخيل الورقي على تحويل المعنى من الواقع إلى درجة أعلى من الواقع دون احتمال التعالي الفلسفي على هذا الواقع. ولنستوعب جيدا خيط المتخيل في سرده نطرح السؤال: ما المركبة الفنية التي امتطاها السارد وأردفنا خلفه كي نعبر من الدوحة إلى البصرة ومن العصر الحديث إلى العصر العباسي ومن ظلال محمد القروي إلى ظلال الأديب الجهبذ أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ؟

صنع السارد مساحة من التوتّر بين محمد القروي وبين العاملين في قناة العروبة الذين استاءوا من سلطة القروي المعنوية ورقابته اللغوية على تقاريرهم المكتظة بالخطأ واللحن. مما دفعهم إلى توقيع شجب جماعي كي تنقله الإدارة من هذا المنبر إلى منبر آخر يتعلق بالقسم الوثائقي.

و قد فوجئ القروي بطلبٍ من رئيسه في العمل كي يكتب رواية عن الجاحظ تكون موضوع شريط سينمائي لاحقا، وارتاح إلى هذا القرار وانتقل معه المتلقي بمكر السارد من الدوحة إلى البصرة ومن القروي إلى الجاحظ. (وخلال دقائق، كان في شقته بمنطقة السد. رمى مفتاح سيارته جانبا وتوجه إلى المطبخ. أعدّ كأسا من الشاي الأخضر، ووضعه على مكتبه، ثم فتح حاسوبه وهو يتّقد حماساً مشوباً بخوف وكتب: البصرة 168 – 170 هـ) 7

و فجأة يجد المتلقي ذاته في قلب مدينة البصرة زمن 168 هـ، داخل عوالم سردية أخرى بفضاءات مختلفة تشي بعبق الماضي وأحيانا بلغة أخرى تنضح بالأصالة من مثل (صاح جنديّ أشقر ضخم الكراديس – شاهد كلبا هرِيتَ الشدق...) ويجد مع هذا وذاك شخصية الجاحظِ طفلاً بصحبة أمه، يشاهد مأساة جلدِ الشاعر الشاعر بشار بن برد حتى الموت بحضور الخليفة المهدي وإشرافه بدعوى الزندقة وشق عصا الطاعة.

و المسألة في خيط المتخيل لا ترتبط بجمالية التلقي وبتفاعلاتها عند القارئ فحسب، وإنما وأساساً ترتبط بسؤال فلسفي يطرح في الميزان تلكم العلاقة بين الواقع والخيال والتاريخ. والأجوبة هنا هامشيةٌ إذا رامت المعنى الروائي في تجليه الحدثي القريب، لأنها أجوبة تختمر داخل بؤر التأويل الممكن في احتمال فائض السرد. من هنا عمق التماهي بين الواقع حيث تقبع مقولات الذوات في حضورها المتعدد:

* حضور الذات المؤلفة (الكاتب المنتمي إلى بلاد شنقيط)

* حضور الذات الساردة (الموجود الورقي الممارس للعبة السرد المتخيل)

* حضور الذات المحكي عنها (محمد القروي باعتباره جسراً يمد الأسباب لقراءة الرواية في عمقها التخييلي)

و كذا حضورالزمن الموسوم بالمعاصرة التي تنزل بكل ثقلها الحضاري الموسوم بالتملص من قبضة المكان الأول مقرِّ قناة العروبة.

و بين الخيال حيث اللقاء الورقي بين محمد القروي والجاحظ على مستوى الافتراض الحامل لأكثر من قراءة.

وبين التاريخ حيث يتحول المحكي عنه من قوة فاعلة في سيرورة الحكي إلى مرايا تنقل للقارئ أجواء التاريخ القديم، ومنه مأساة الشاعر العباسي بشار بن برد حتى لكأننا نحن القراءَ واحدٌ من المشاهدين لهذه المأساة والمتتبعين لها لا في فرجة سطحية خاوية أو محايدة وإنما في اندماج يقود إلى الموقف أو ما يشبه الموقف في أضعف صورة من الإيمان والتي نسميها التعاطف السلبي.

ناهيك عن التاريخ في تجليه الجزئي المرتبط بشخصية الجاحظ، والذي يلقي بالقارئ في سردية مخيالية تتبع الجاحظ صبيا يشاهد مأساة الشاعر بشار بن برد وتؤثر عليه وتقضّ مضاجع نومه وتنتقل به من أثرٍ في اللحظة إلى أثر في الاستقبال (تخيل نفسه ناظما قصائد طوالا في مدح يحيى البرمكي وهارون الرشيد، لكنه ما لبث أن شعر بوخز بين أضلاعه. غاب عنه حديث الوراق وذهب خياله إلى صورة شاعر يئن تحت الجلْد، ونظارةٍ يصفقون، وسيا ط تعلو وتهبط في مقدمة سفينة.)8

يتمثل لنا هذا الثالوث بين الواقع والخيال والتاريخ في أول الأمر تماهيا يتبادل الأدوار بشكل آلي، إلا أن السارد أبى إلا أن يقحمنا في جدل الثالوث. وهو جدل خفيّ يصم الرواية من أولها إلى آخرها بالتوتّر والصراع، داخل عمليات سردية مضفورة بدقة وإتقان. حتى لا إمكان للفصل بين أقانيم هذا الثالوث إلا في حالات التفكيك الإجرائي لفهم العمل الروائي.

الخيط المتخيّل الثاني: في التناسل السردي

من زقاقٍ في البصرة 168 هـ، مزدحمٍ بالمارّة حيث الجاحظُ يتأمله مفكرا في صورة المبدع المفارِقة، إلى فضاء معاصر في الدوحة، في كافتريا مكتظة بروائح البن والطعام والدخان، حيث المحكي عنه محمد القروي يحتسي قهوته مهموماً بشأن إبداعه لسيناريوا رواية الجاحظ.

و المشترك المتخيل هو الإبداع في شرطين هما شرط الخوف من قدر الجلد، وشرط الفشل في الكتابة مع قاسم مشترك هو تمكن الجاحظ قديما من ناصية القول، وتمكن القروي حاضراً من نواصي اللغة.

هذا الخيط المتخيل في عملية السرد يأتي لاحقا في غضون حوار عابر في الكافتريا بين القروي والموظفة السعودية حصّة إبراهيم، والتي أشارت في عبور ماكر أوغير ماكر متسائلة عن منطقة شنقيط ماذا كان يسميها الجاحظ. ويبقى السؤال: لِمَ يُفترضُ أن يكون الجاحظ عارفا بمنطقة شنقيط وهي البعيدة عنه والنائية؟

هنا مكر السارد الذي يُعوّمُ الأحداث تعويما ذكيا حتى يحدث ما أسميه بوحدة السرد. فنظفر بعد ذلك بمؤشرات التخييل المتوارية خلف ثالوث آخر هو:

* الجاحظ في خوفه من الشعر

* المحكي عنه في احتمال الفشل في مشروع الفلم الوثائقي

* المكان أي شنقيط في مفكرة الجاحظ

و نظفر بعد هذا وذاك بشيء من التأويل القاضي باندماغ المكان المرتبط بالمؤلف في ذاكرة الرواية وفي متخيلها، في قصدية تداولية تريد أن تقول بحرية تجول الذوات في تاريخانية المحكي. وكأننا الآن مقحمون بفعل فاعل هو السارد اللبق، داخل ممرات سردية تروم تجميع المتشظيات في بؤرة واحدة قادرة على التناسل السردي. وقادرة على مكافحة التنميط الحكائي عبر الحفر الأدبي في المتعدد:

المكان (البصرة والدوحة وشنقيط)

والإنسان (القروي والجاحظ وبشار بن برد والمهدي وهارون الرشيد والبرامكة و...)

والزمان (الماضي والحاضر والتاريخ).

و كأنني بالسارد يريد القول إننا لا نعيش في العالم الرمزي إلا من خلال عالمنا الموجود حقا وحقيقة، وهذا يسيّج المخيال النوعيّ أن يقارب الرواية خارج الاحتمال المنهجي حتى لا تشط بنا التفسيرات خارج النص باعتباره تبادلاً تأويليا بين المؤلّف وبين المتلقي.

و هنا يصبح القارئ منتجاً حتميا لمقولات المعنى الذي نعيش فيه لا بأمر السارد وإنما بأمر مقتضيات التأويل الممكن. ومنه تصور الجاحظ أديبا يهتم بمنطقة شنقيط كما جاء على لسان حصة إبراهيم. وبالاستدعاء التبادلي يمكن القول إن متخيل السارد يذهب إلى تمجيد البلاد الولّادة لرمزين من رموز الإبداع، واحد متخيل بامتياز هو محمد القروي وثانٍ واقعي بامتياز هو المؤلّف، على اعتبار أن هذا الأخير جزء من المنظومة الجاحظية مادام قد تخصص في دراستها وتعمق في البحث عنها حتى النخاع مما جعل الكتابة عن هذه العلامة الفكرية العباسية أمرا مستساغا بمنسوب نجاح أكبر في الإنجاز. وفي تماهٍ سابقٍ لاحتمال التأويل نقول إن الجاحظ المتلبس في لازمنية السرد هو العارف ببلاد شنقيط لا الجاحظ القابع في تمثلاتنا الأدبية التي رسمها لنا وفينا الوجدان العربي في قراءاتنا الذاتية لتاريخ الأدب العربي. ومن ثمة فوعي السارد بالأحداث والقضايا الماثلة في سياق الرواية هو وعيٌ متعدٍّ إلى الموضوع بوساطة اللغة الماكرة بالمعنى المطروح في الطريق إلى المعنى الثاوي في سديم التماس بين النص وصاحبه والمتلقي أولاً بأول. هكذا يكون وعي السارد فعلاً ثقافيا يفهم العلامات فهماً خاصّاً، وبالمقابل يكون وعيُ المتلقي فعلاً ثقافيا شخصياً يخترق صميم العمل الروائي بوساطة التأويل مدمّراً كل إمكانات المسافة التي تحول دون استقراء الدلالة داخل ما يسميه بورل ريكور بالتأمل الهيرمنيوطيقي.

الخيط المتخيّل الثالث: تبئير السرد الواصف

(جلس وفتح حاسوبه، محاولاً طرَد صورتها من ذهنه)9 ويتعلق الأمر بالمحكي عنه محمد القروي وهو يودع جليسته في الكافتريا حصة إبراهيم، يروم طرد صورتها العالقة بذهنه فيما ينفتح المشهد في زمن استرجاعي في البصرة 175 هـ، على شخصية الجاحظ (مستلقيا على بطنه واضعا مرفقيه على الأرض ويديه تحت ذقنه وهو يتأمل مدينة البصرة من ربوة عالية) 10

لا يهمنا التناسب والاختلاف بين فضاء البيت وفضاء الربوة، كما لا يهمنا وجود الجاحظ في هذه الوضعية المنسجمة مع عمره الشبابي، ويهمنا من ذلك وجود موضوع التأمل أي تلكم الشاشة المفتوحة على زاويتين متداخلتين هما:

- تأمل محمد القروي لشاشة حاسوبه كي ينظر ما يكتب عن الجاحظ في مشروع الفلم الوثائقي

- تأمل الجاحظ نفسه لفضاء البصرة من على الربوة.

والدلالة في التخييل واضحة تنفتح على المتأمَّل يصبح متأمِّلا. الجاحظ المفعول به في عالم القروي الحاضر يصبح فاعلا في عالمه الماضوي. إن تبادل الأدوار بهذه الطريقة السردية المختلفة ليس لعبة تغري بالقراءة والتتبع لمسار الأحداث في الرواية، وإنما هو نسغٌ فنّي يتجذّر عميقاً في التجربة الروائية للكاتب أحمد فال ولد الدين. ويملي عليه اختيار النقطة المضيئة في عمليات التبئير السردي الذي لا ينطلق من الصفر بقدر ما يسافر بنا في تجربة الجاحظ سفرا عارفاً يضعنا في تفاصيل المحكي عنه وهو يبحث عن وجوده الفكري في أول خطوات بحثه حيث صاحبته أمه كي يلتقيا بالعالم الكبير الخليل بن أحمد الفراهيدي قصد التعلم بين يديه.

وفي هذه الرؤية ركز السارد على مشاهد ماضوية من عمق تاريخ الجاحظ، تتسم بالمشهدية الإخراجية القريبة من الصناعة السينمائية والمغترفة مادتها المتحركة من الوصف الدقيق والبعيد والوظيفي (أحكمت المرأ ة لفّ خمارها على جانب طرزته الغضون رغم ميعة الشباب الباقية. أمسكت بطرف خمارها وأمرّتْ طرفه لتمسح به حبّات العرق المتجمعة تحت حدقتي عينيها وشفتها السفلى، ودخلت مرتبكة) 11 وفي مثالٍ آخرأكثر تعبيراً عن هذه المشهدية نذكر (دلف إلى الخص، كانت أرضيته مفروشة بحُصُرٍ من جريد النخل، والكتب والوسائد متناثرة في أطرافه. ارتبك قليلا غير أن النظّام دعاه للجلوس في الركن المرتب من الخص، حيث يجلس شاب ذو ذؤابتيْن تتدليان على كتفيه...) 12

يقدم هذان النموذجان في غيرحصر ما يسمى بالتشكيل الوصفي القائم على رصد الأشياء من زاوية عدسة لا تكتفي ببناء ديكور الصورة بقدر ما تهتم مركزيا بدينامية الصورة معدّةً في طبق (تشكيلي يمكن تصوره دلالياً يسم الموصوف أو الموجود بطابع التميز والفرادة ويجعل من الصورة الروائية إمكانا قادرا على صوغ المعمار السردي) 13

خيط المتخيل الرابع: سردية المناخ الثقافي

نسجل في هذا التقاطع حركية عادية في زمن الجاحظ حيت ترصده عين السارد خارجا في اتجاه مدرسة الخليل يتضور جوعا ويفكر فيما سيسد به رمقه، فيما المشهد الآخر في الزمن المعاصر يتتبع السارد المحكي عنه محمد القروي في الدوحة عام 1439 هـ، موَرّطاً بعد بضعة اشهر في علاقة عاطفية مع السعودية التي سماها بريدة مطوعة.

يعود بنا السارد إلى جوع الجاحظ في حواري البصرة عبر عين محمد القروي الراصدة عبر الكتابة حركيةَ الجاحظ (ركض إلى مكتبه وخياله يبتعد شيئا فشيئا عن عالمها (الضمير يعود على بريدة مطوعة) وعن عالم الإعلام والصور المعاصرة ليغرق بعيداً في حواري البصرة. التفت الجاحظ بعد أن غزت منخريه رائحة شهية، فرأى الدجاج المشوي الشهي يسيل سمنا أمام دكان فرّان. فازدادت سخونة البخار الحار الذي يكاد يفتت أمعاءه. تخيّل موائد الأثرياء...)14 وهو الوضع البيولوجي الذي لم يمنع الجاحظ من تتبع حركية مجتمع البصرة في تلكم اللحظة حيث سجلت عينه الحدقية اكتظاظ الجامع بالحضور ترقبا لحدث ثقافي وازن ويتعلق الأمر بالمناظرة بين شيخين كبيرين في مقامات العلم، هما صالح الخوزي المنتصر للثنوية وأبو هذيل العلاف الذائد عن التوحيد.

هذا وجه من أوجه المناخ الثقافي الذي ساد العصر العباسي الموسوم في بعض أدبيات البحث التاريخي بالذهبي. يلتقط السارد بعض المشاهد من ذلكم التراكم المعرفي ويقدمه لنا في سردية تحاول أن تشيد جسرا فنياً يلتقي فيه أفق القارئ مع أفق النص، حتى لا يسقط الخطاب الروائي في ثقافة المؤانسة والإمتاع فحسب ويقبع عندها مكتفيا بوظيفتها الأحادية. من هنا تمازج تاريخية القارئ بتاريخية النص، وتصبح الإشارة إلى مناظرة الخوزي للعلاف مجرد مثالٍ لإمكان تكراره في زمن محمد القروي، إذ ليس هناك معنىً دائم ومثالي وبالتالي فالتأويل الممكن هو المعنى المشيّد والذي يفتح أمامنا احتمالات واسعة لقراءة الراهن داخل رحم الاختلاف الثقافي في العصر العباسي أو العكس، أي قراءة الماضي في رحم المعاصرة.

خيط المتخيل الخامس: سردية الهوى

ينتهي بنا السياق في مشهد مغادرة الجاحظ للنظام والأصمعي ممتطيا بغلا بذهن يتنصل من أجواء السوق ليتفرغ إلى التفكير في فتاته، تماضر ابنة الخليل. ليبدأ مشهد القروي جالسا على مكتبه منشغلا باختبار قدرة المحرك غوغل على الترجمة.

يحدث هذا في اطّراد عكسي حيث سبقت الإشارة إلى القروي بمعية بريدة المطوعة موازاة لمشهد جوع الجاحظ. والعكس يحصل في سياقنا الحالي حيث القروي يبدو مهتما بقضية الترجمة فيما الجاحظ يفكر في تماضر. بمعنى أن كل ترتيبات السرد في الرواية مدروسة بدقة تتجه نحو خلق مساحات من التشعب الموضوعاتي المنتهي إلى حالات من الانسجام المركب والذكي والموسوم بالتناسل الغزير.

و يحدث الانسجام في سياق هذه السردية انطلاقا من تساؤل القروي وهو يفتح ملف الجاحظ على حاسوبه (فتح ملف وورد، وهو يبتسم مستغربا أنه يتطلع إلى معرفة مصير حب الجاحظ لتماضر بنت الخليل) 15 فينتقل الحكي إلى حجرة الجاحظ واضعا عشقه لتماضر في الميزان.

و يستمر الحكي في زمن الجاحظ حيث يزوره النظام الذي أدرك عشق صديقه وتيتّمه. وينفتح الفصل في جله وكله على حكاية تماضر بنت الخليل. وتتأخر حكاية القروي مع بريدة المطوعة عن التجلي في هذا الفصل. ولا تطلع علينا إلا في الفصل اللاحق، حيث يعيش المحكي عنه تجربة متوترة في أمر زواجه من حصة إبراهيم الموسومة في ذوقه ببريدة المطوعة، بحكم سلطة الأعراف والتقاليد المتحكمة في مصائر الناس (إن الرجل إذا سافر خارج البلاد وتزوج من غريبة فكأنه مات، بل إن موته أرحم لأهله لأنه يولّد اليأس الحاسم، أما الزواج خارج البلاد فيجعل قلب أهله معلقا بحياة متوهّمة) 16

لا نهتم بمضامين هذه المقاطع لأن قراءة الرواية كافية لسد هذه الحاجة. ونهتم أساسا بعناصر التخييل فيها كجسور تمد الحكي من زمن إلى زمن، ومن فضاء إلى فضاء ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن حالات نفسية إلى أخرى... ذلك أن القارئ يشعر بمسافة التوتر والفجوة في كلٍّ من الحكيين سواء تعلق الأمر بقصة الجاحظ وتماضر، أو تعلق الأمر بقصة القروي بحصّة.

من هنا سيمياء التخييل الارتدادية على مستوى الأهواء حيث تتوارى اللغة الواصفة في انسيابها الخطّي لتحلّ محلها اللغة الواصفة لاشتعال الذوات في حالات نفسية متغيّرة تضع القوى الفاعلة تحت المجهر السردي في عراء تام لكل القوى الفاعلة والمنفعلة في سياق الهوى . وهو العراء الذي سينتهي بفشل البرنامج السردي لكل من الجاحظ والقروي لاحقا في علاقتهما بمشروعهما العاطفي. وقبل ذلك كان المسار الهووي شكلا آخر من التركيب العاطفي عبّرت عنه هذه القوى تعبيرا تلقائيا يكاد ينفلت من قبضة المتلقي لولا رقابة اللغة السردية الواصفة... فقد (تبيّن أن الهوى ذاته يتكوّن، لحظة التحليل من سلسلة من الأفعال: تحريك، إغراء، تعذيب، تَحرّ... ومن زاوية هذا التحليل فإن التركيب الهووي لا يتصرف بشكل مختلف عن التركيب التداولي أو المعرفي. إنه يتخذ شكل برامج سردية) 17

الخيط المتخيل السادس: سرد المتخيّل داخل التراكم

يطرح السارد القوى الفاعلة في شرطين وجوديين يتعلقان باستئذان القروي أمه في شأن زواجه فيما يستحضر الجاحظ يقوم من نومه فزعا بعد أن رأى أمه في المنام بعد وفاتها.

هذا التداعي المرتبط بشخصية الأم كقوة فاعلة في التشكيل الروائي يعطينا انطباعا أوليا عن فكرة التشابة إن لم نقل التماهي بين الزمنيْن. من هنا حضور المتلقي مستعينا بافتراض السيناريوهات المشتركة للحدث أو للأحداث التي سرعان ما يكسر السارد توقعاتها بتحويل مجرى الحكي إلى الموضوع بدل الذات. وهكذا ينبري السرد إلى تتبع حركة الجاحظ خارج سيمياء الهوى ليشركنا في همّه الثقافي وهو انشغاله بمناظرة الحبرالنصراني للعلاف بالبصرة.

لا نشتغل في هذا الإطار على تتبع الأحداث بقدر ما نشتغل على رصد خيوط المتخيل الممكنة والتي تمد جسور الحكي بين مقطع وآخر. أو تدلنا على علامات لسنية قابلة للتأويل في اتجاه معين من الاتجاهات التفسيرية المحتملة والمتعددة من متلقٍّ إلى آخر.

إن الجاحظ في غمرة انتصاره في المجالس وإعجاب الحضور برسالته حول السواد البِشْرِي، يتذكر لون محبوبته تماضر المتردد بين البياض والسواد.

كل هذه الفسيفساء من التداعي السردي تفيدنا في ثلاثة أوجه: الأول هو زخم المحكي، والثاني هو توريط المتلقي في تراكمات الوقائع حتى ليبدو لنا القارئ المسكين في لهاث خلف وفرة المادة الحكائية. والثالث هو قدرة السارد على صناعة مادة التخييل داخل المتعدد لا داخل الأحادي، لأن التجربة الأخيرة توفر للسارد إمكانيات هائلة لممارسة التعالي على الواقع بحكم تركيزة على واقعة واحدة أو حدث واحد. لكن المسألة تتعقد أكثر في مجال التراكمات الوقائعية مثل الذي نجده في رواية الحدقي المركّبة. ومنه تراكم الوقائع بين المناظرة وحديث سهل بن هارون ووصف أبي نواس لمويس ومجالسة هذا الأخير، وجماعة المشيخة في حضرة العلاف، واعتزال ماسرجويه وغير ذلك من التفاصيل التي لا يتسع مقام المقاربة لاحتضانها تبعا لطبيعة البحث المنهجية.

الخيط المتخيل السابع: فشل البرنامج السردي

ينفتح المقطع على محمد القروي في مكتبة بقناة العروبة حيث سجلت عينه استياء رئيس التحرير من مراسل يغطي حدث حريق بلباس أبيض. (والله أيش؟ هذا لا ينبغي، وهو يجرح عين المشاهد، وإذا كان العرب قديما قالوا: إن البلاغة مطابقُة المقال لمقتضى الحال،فإن الأمر كذلك في البلاغة البصرية. هناك بلاغة بصرية وبلاغة لسانية.) 18

كان هذا الحدث كفيلا بخلق لحظة انتشاء وانتصار عند القروي، فيما الهلع كاد أن يستولي على غيره من العاملين في القناة.

ثم تذكّر وجه حصة وتذكر تعليقها له وهي تصفه بالعيش داخل قوقعته اللغوية، فيما هو يصفها بالعيش داخل العنكبوت الإلكتروني.

مفارقة بين حدثين وبين زمنين وبين قناعتين. وهو بيت القصيد في عالمنا المعاصر الذي استسلم لسلطان التكنولوجيا ووسائط التواصل الاجتماعي الذي قلص منسوب الكتاب بشكل خاص والثقافة والفكر بشكل عام.

انقطع حبل الذكرى في سياق القروي على إشعار برسالة في هاتفه من حصة محبوبته قائلة (كلّمتُ أهلي... الأمر معقد جدا. ولابد من اللقيا لنتحدث. ضروري) 19

ثم ينفتح المشهد السردي على الجاحظ وهو يقطع الطريق دون أن يشعر بها منشغلا ومنهمكا جدا في حوار داخلي حول توتر العلاقة بين العقل والقلب. لكن ذهنه شرد في قرار مس كيانه ويتعلق الأمر بتماضر (لقد وافقت الفتاة على الزواج من علي بن المديني) 20

يهمنا في هذا المحكي متخيلُ الربط وهو المتعلق بالتماهي العجيب بين قدريْ القروي والجاحظ في خصوصية العشق وفشل هذا العشق بتواطؤ فنّي بين السارد والمؤلف، أي أن الأمر يتعلق أساسا بفشل البرنامج السردي للقوى الفاعلة. والبرنامج السردي هو (مجموعة من الوضعيات المتحولة وفقا للعلاقات القائمة بين الفاعل والموضوع، كما أنه تتابع الحالات وتحولاتها المتسلسلة على أساس العلاقة بين الفاعل والموضوع) 21

و من خلال تتبع مسارات القروي والجاحظ في وقائعهما الفردية وفي علاقاتهما بالماحول وتحولات هذا الماحول يتبين اتفاق المتخيل في فشل سيرورة هذين العلَميْن على الأقل في اصطدامهما مع الواقع الثقافي في العصر العباسي مع الجاحظ ومحيطه الذي كان يعجّ بالمفارقات. وكذا اصطدام القروي في مشروعه الثقافي النافح عن صفاء اللغة العربية في زمن يصفق للرداءة... وكذا في اصطدامهما على مستوى العشق حيث أخفق كل منهما في تصويب دفة العلاقة العاطفية مع حصّة من جهة ومع تماضر من جهة ثانية.

الختم:

نفهم إذن أن أفق قراءتنا لا يعدو أن يكون دوائر تأويلية يتعذر عليها القول في الإطلاق، وتحتشم القول في نسبية النتائج على اعتبار أن رواية الحدقي هي في الأساس نص حمّال أوجه. ومن ثمّة فتأويلنا للمتخيل السردي هنا لا ينبغي أن يأخذ أكثر من حجمه في التصنيف. إن الأمر لا يخرج عن محاولة لتجميع لاوعي السارد وهو ينظم خيوط الحكي، داخل وعينا نحن القراء المالكين لقيمة مضافة لا يملكها السارد ولا المؤلف، وهي قيمة المسافة والبعد عن الرواية، بمعنى أننا في موقع المتفرج على اللعبة لا المندمج فيها... وشتان بين متفرّج وبين مندمج، فالخارج عن الخطاب الروائي يملك من الدعة والاسترخاء ومساحات التأويل ما لا يملكه المؤلف والسارد باعتبارهما كينونتيْن تحترقان من أجل القول وإبداع النص فيما القارئ كينونة تستمتع في ممارسة التأويل داخل النص وخارجه.

***

نورالدين حنيف – ناقد من المغرب

............................

- إحالات

1- الآية 65 من سورة طه

2- (حتى الشفاهي يصير ورقيا قصد التوثيق)

3- محمد نور الدين أفاية: المتخيل والتواصل، دار المنتخب العربي، بيروت، لبنان، ط1،1993 ص18

4- هايدن وايت، مقالة، قيمة السردية في تمثيل الواقع، ترجمة رمضان مهلهل، مجلة الثقافة الاجنبية، العدد 3 \ 2009، ص 53

5- شادية شقرون، الخطاب السردي في أدب ابراهيم الدرغوثي، دار سحر للنشر، تونس، ط 2008، ص 63

6- عادل مصطفى، مدخل الى الهرمنيوطيقا، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007، ص 13

7- أحمد فال ولد الدين، الحدقي، رواية، الناشر المجلس الأوروعربي للفكر والدراسات والترجمة، ط 2022، ص 28

8- رواية الحدقي ص 43

9- رواية الحدقي ص 49

10- رواية الحدقي ص 51

11- رواية الحدقي ص 52

12- رواية الحدقي ص 55

13- جان ريكاردو، قضايا الرواية الحديثة، ترجمة صباح الجهيم، وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق، ط 1، 1977، ص 40 - بتصرف.

14- رواية الحدقي ص 74

15- رواية الحدقي ص 105

16- رواية الحدقي ص 121

17- غريماس وفونتيني، سيميائيات الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس، ترجمة وتقديم سعيد بنكرد، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 2010، ص 101

18- رواية الحدقي ص 156

19- رواية الحدقي ص 158

20- رواية الحدقي ص 161

21- رشيد بن مالك، قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص، دار الحكمة للنشر، الجزائر، ط 1، 2000، ص 148

 

(سعدي عبد الكريم): هو المبدع المتعدّد الفنون الإبداعية: هو السيناريست، الكاتب المسرحيّ، الناقد الأدبي، الفنان التشكيلي، والشاعر. وقبل كلِّ هذا هو الإنسان في رقيّ تجلياته القيمية.

هذا المزيجُ الفنيّ هو الذي منحهُ إبداعاً مائزاً تتشابك فيه هذه الألوان وتتناغم وتتعالق، لتنتجَ إبداعاً ملوّناً مثلَ قوس وقزح. حين تنظرُ في لوحةٍ مرسومةٍ بريشته كأنّك تقرأ قصيدةً مكتوبة بالخطوط والألوان. وحين تقرأ له نصّاً شعرياً فأنتَ أمام لوحةٍ مرسومةٍ بالكلمات، ومُخرَجةٌ بحركات مسرحية أمامَ النظّارةِ. وكلُّ هذا يمنحُ مُنتجّه الإبداعي غِنىً فنيّاً، ومساحةً من الجمال والحسِّ والخيال، بصنعةٍ مُتقَنةٍ لفنانٍ متعدد المواهب، خلفه تجربة طويلة.

قصيدته (رئةٌ مثقوبة):

قرأتها عدة مرات. وفي كلِّ مرةٍ تمنحُني إحساساً مختلفاً.

أحسسْتُ كأني في النجف الأشرف على مشارفِ مقبرة وادي السلام:

"السّدرةُ الميتةُ في نهايةِ الزقاقِ

تذرفُ الدموعَ كلّما مرّتْ جنازة

*

احببتُكِ من ثلاثينَ عاماً

مذْ كانتْ مراسيمُ الدفن

يتكفلُ بها الشحاذون

والباعة المتجوّلون"

فالموت والدفن: ثنائيةٌ تذكّرنا بوادي السلام في النجف الأشرف، حيثُ اعتدنا دفنَ أحبابنا.

في المرّة الثانية منحتني إحساساً آخرَ: كأنّني في صريفة من صرائفِ  خلف السدة في بغداد أيام زمان، وما كانتْ تحتضنُه تحتَ سقوفها المثقوبة منْ حكايات عن الفقرٍ، والمعاناةِ، والحرمان، والصبرٍ  على ضيم الزمان، وقصص حبٍّ خفيةٍ عن الأعين، والتقلُّبِ منَ الألم على سطح صفيحٍ ساخنٍ منَ القهر:

"أحببتكِ بحجمِ أيامِ الصبرِ

أيامَ كنّا ننتظرُ الشمسَ تطلعُ علينا

من كُوّةٍ في صفيحِ السقفِ

تُظلِّلُ بيتَنا القديمِ

أحببتكِ منذ كنّا حفاةً.. وجِياعاً

نتقاسمُ رغيفَ الخبزِ مع القططِ السائبةِ"

ثمَّ تقلّبْتُ مع إحساسٍ آخر: وهو وطأة الأيام على كتفِ المعاناة، وتشبيهها بوطأة وثِقَل ظلمِ السلطةِ على أكتاف المُستضعَفين الرازحين تحت سوط الجلاد وقضبان السجنِ، وأيامِها الثقيلة على النفس. والشاعر هنا يرومُ أنْ يشيرَ الى دور السلطة في كلِّ ذلك الحرمان والقهر، ونضال الناس كي يخرجوا مِنْ مثل هذه البؤرةِ العميقة والثقب الأسود، والهواء الخانق المسموم؛ ليشمّوا هواءَ الله القريب منهم، وهم يدعونه للتخلّص من تلك الأيام، فهو السميع العليم: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" البقرة 186:

" كانَ اللهُ قريباً..

والدعاءُ مبحوحَ الصوتِ

والأيامُ ثقال !

لم نعدْ نُميّزُ فيها بين سوطِ الجلادِ

وقضبانِ السجنِ"

وكذلك أعادتني القصيدة بما فيها منْ أحاسيس تذكُّرنا بالأماكن والناس والمعاناة والعلاقات الإنسانية، أعادتني الى أزقتنا القديمة في بغداد، أزقة باب الشيخ (مسقط رأسي) ومنشأ طفولتي وشبابي، وتربيتي، وأصحابي . وما كانت تحتضنه من قصص حبٍّ، ما زال بعضُها محفوراً في الذاكرة، تخطرُ بين حينٍ وآخرَ، يومَ تشتدُّ سُحُبُ الأيام. كما أنّها توثّقُ ما كانت تحمله مِنْ ثِقَل الإحساس بضنك العيش والحرمان، والتفاوت الطبقي بين عامةِ الناس الفقراء الجياع وبين الحاكمين الطغاة المُتخمين، الذين يبيتون مِلاءً بطونُهُم، وشعوبُهم يبيتون جياعاً خاويةً بطونُهم، مثلما صرخَ يوماً (الأعشى) في وجوهِ المُتخَمين مالاً وطعاماً، ولم يكونوا يُحسّونَ بتقلُّبِ أقربِ الناسِ إليهم مِنْ جَمْر الجوع والحرمان:

تبيتونَ في المَشتى مِلاءً بطونُكُمْ

وجاراتُكُمْ غَرْثَى يبِتْنَ خَمائِصا

"رئة مثقوبة" قصيدةُ تاريخٍ اجتماعيٍّ جمعيٍّ وفرديٍّ، حسّيّ، سياسيّ، مكانيٍّ وزمانيٍّ. إنها إدانة لنظامٍ قمعيٍّ نشرَ الخوفَ والفقر، كما هي تخليدٌ لنضالِ شعبٍ عانى الاضطهاد سياسيّاً وطبقيّاً، عندما مرّتْ على ذكر السجّان وسوطه وقضبان السجن، الى جانب وَقْعِ الجوعِ الثقيل.

أمّا البوحُ الشجيّ (الحوار الداخلي) مِنْ بطل القصيدة، والألمُ الكامنان خلف مناجاته لحبيبته، فقد منحاها حركةً ديناميكية درامية مسرحية، تُبيّنُ أثرَ الفنّ المسرحيّ ممتزجاً بالشعر، وشاعرُنا مسرحيٌّ محترف، كما نعلم، فلا غرابةَ عندها في هذا المزيج الفنيّ. إضافةً الى أنّها توحي  بأنّنا أمام لوحةٍ مرسومةٍ بريشة الكلماتِ وألوان البلاغةِ:

حبيبان في زقاقٍ، بيوتُهُ سقوفُها منْ صفيح، تدخل الشمسُ من كوّةٍ فيها، قططٌ تقاسمُ الناسَ الخبزَ (الجوع)، قضبان السجن والسجّان (الطغيان والنضال)، سِدرة ميتة في نهاية الزقاق، جنازة تمرّ، طغاة مُتخمون، مراسيم دفن.

هذه لوحة فنيّة، لكنّها بالحروف والألفاظ وألوان اللغة.

فالقصيدةُ، مزيجٌ مركّبٌ، كما ذكرتُ، من ثلاثةٍ منَ الفنون الجميلة، التي احترفها أديبُنا الفنانُ درساً وإبداعاً.

أخيراً، وليسَ آخراً، لقد راودَني الحزنُ عنْ نفسي، وأنا أقرأها، فتمكّنتْ مني، ليجتاحَني احساسٌ، أعادَني حنيناً إلى الأيام الخوالي، والأماكنِ التي عاشرناها عيشاً ومحبّة، رغمَ المعاناة والضنك. وهذا يعني أنَّ عنصرَ المكان فيها أحدُ عناصرها الفنية الأخرى: مِنْ إحساس وعاطفة وبوح، وصور، ولغة، وتقنية فنية، وخيال. فكان كلُّ هذا هو الإطارَ المتكاملَ للوحةٍ شعريةٍ ملونة مرسومة بالكلمات، والمشاعرِ والخيال.

***

قراءة: عبد الستار نورعلي

....................

رئةٌ مثقوبة

بقلم: سعدي عبد الكريم

أحببتكِ بحجمِ أيامِ الصبرِ

أيامَ كنّا ننتظرُ الشمسَ تطلعُ علينا

من كُوّةٍ في صفيحِ السقفِ

تُظلِّلُ بيتَنا القديمِ

أحببتكِ منذ كنّا حفاةً.. وجِياعاً

نتقاسمُ رغيفَ الخبزِ مع القططِ السائبةِ

كانَ اللهُ قريباً..

والدعاءُ مبحوحَ الصوتِ

والأيامُ ثقال !

لم نعدْ نُميّزُ فيها بين سوطِ الجلادِ

وقضبانِ السجنِ

السّدرةُ الميتةُ في نهايةِ الزقاقِ

تذرفُ الدموعَ كلّما مرّتْ جنازة

تفتحُ (زيجها) وتدعو على الطغاةِ

والطغاةُ يأكلونَ لحمَ الضأن

ونحنُ نتقاسمُ ما تأكلُهُ الفئران

احببتُكِ من ثلاثينَ عاماً

مذْ كانتْ مراسيمُ الدفن

يتكفلُ بها الشحاذون

والباعة المتجوّلون

وفقراءُ الحيّ

العمرُ مرَّ سريعاً، يا حبيبَتي

ما بينَ رئةٍ مثقوبةٍ

وقلبٍ عليل

وأعوامٍ موزَّعةٍ بينَ غربةٍ

وحنين ..!

 *** 

 عبد الستار نورعلي

ثمة خطابات سرديّة تنبش في الذّات الانسانيّة، تصقل المعاني المنسيّة، تجعلك تقف طويلًا لتتأمّل، تسأل بشكل جّدي، وتفكّر كثيرًا.

عبر الفكر الإنساني الخلّاق، والمعرفة الإنسانية الثّابتة تتشكل أعظم الحضارات، لا لتتصارع إنّما لترحل تاركة بعدها حصيلة ما جمعت من فكر ومعاني. فقدّم الروائي بهمن شكوهي، بانوراما واسعة ومتشعّبة من الشّخوص والأماكن والمرجعيّات التّاريخيّة والأسطوريّة والثقافيّة، في عالم سردي وفكري من خلال تفصيل رحلة الإمام المعرفيّة للفقيه أبو حامد الغزالي، كان هو الّراوي نفسه، منذ بدأت رحلته في طوس أقصى الشمال الشّرقي لإيران منذ الطفولة مبكّرة، لم تقف عند رحيل والده المرير، بل استمرّت بدافع الشغف لتلّقي المعرفة، في جرجان ونيسابور وحواضر العالم الإسلامي الشّرقي، ما كوّن شخصيّة الطّالب المُجدّ الذي حباه الله ميزة من عناوين الفراسة وهي قراءة أفكار الآخرين من خال أعينهم.

في هذه الرّواية التاريخيّة توضّحت علاقة الإمام بالشّخصيّة المهمّة نظام الملك، وابنه علي، وسفارته بين ملك شاه وخليفة المسلمين المقتدي بالله في بغداد، وتمّ طرح مناظرات حول معنى الحياة جرى معظمها مع الأستاذ الذي يحبّه الغزالي عمر الخيّام، فمن المؤكّد أنّ فهم التّاريخ لا يمكن اكتسابه من خال المنطق والعلم فقط، إنما قد تصنع المعتقدات والعاطفة أدورًا توازيه بالأهمية.4658 الغزالي

إنّ قيمة الإنسان تتكوّن من خلال الأسئلة التّي يطرحها، وليس بمعرفة كلّ الإجابات، فالأسئلة ناطقة أمام خرَس الأجوبة. والحريّة تمنح الكاتب مساحة من إيمانه والدّفاع عنه، لإعادة تأهيل الإنسان ودعم المعاني وتطويرها من خلال تجارب الآخرين، فأعظم مهام الكاتب ليس سرد المعلومات وتسليط الضوء على تجارب الآخرين، بقدر ما هو نبش الجمال الذي في داخلك بينما أنت غافل عنه.

وبخبرة روائي عززّ الكاتب أعظم نتيجة لمفهوم الجدل، قال الغزالي: " كنت سلطان المجادلات، وقد وصلت في هذا الفنّ إلى مكان خشي فيه الجميع مناقشتي، كنت سيّد ميادين المناظرات بلا منازع، لكنّ هذه الشهرة التي جلبت اسمًا ورزقًا وجاهًا، هي في الحقيقة حجاب أقيمُهُ حول قلبي، وآفة تنهش روحي من الدّاخل وتدمّرني من دون أن أعلم، الجدل هو أضعف لغات التّواصل البشري، وأفضل طريقة لإيذاء الآخرين"، وقد بين أن تمرّسه الجدل أقصى الآخرين بعيدًا عنه مدى الحياة، وقد وصل بحكمته بعد التجارب المريرة، " أن الحياة هي من أجل العثور على الأشخاص والصّداقة مع الخلائق، لا من أجل طردهم بأداة النّقاش والجدال".

حتّى تحدّث عن الجدال مع الحكيم عمر الخيّام بأنّه أمر عبثيّ لا طائل منه، بينما ألحق به الهزيمة، لكنّه تعلّم في الوقت ذاته أن لا يؤذي سعادة الآخرين، من خلال قول عمر له"... والآن يا أبا حامد أنت ستشرب من عصير العنب، وأنا سأشرب من خمر العنب، احتسائي الخمر لن يضرّك، وشربك العصير لا يعدّ انتهاكًا لحرمتي، يجب أن لا تؤذي سعادتي الآخرين".

إنّ القارئ لن يُدهش عندما يرى الكاتب كيف مرّ على رسائل الإمام معظمها، وطرح نتاجاته الفكرية بأسلوب التساؤلات الّتي تفتح الآفاق أمام مجالات أخرى عالجت ما يتعلّق بالنّفس الانسانيّة، (المطالبة بمهر البنت قبل الطلاق، الصّلاة مع لبس الجزمة، عقد الزواج المقترن بالوعد، الغناء، الرّقص) على سبيل المثال لا الحصر، وكذلك طرح الرّأي الآخر في كتبه الأهم (تهافت الفلاسفة، المنقذ من الضّلال، فضائح الباطنيّة، كتاب إحياء علوم الدّين، وملخّصه في رسالة كيمياء السّعادة، سوانح العشّاق) ومن أسباب وجود المُبدع في الأصل هو وجود بيئة مناسبة له، وهي المدارس النظاميّة في زمانه، كذلك المناظرة التي عُدّ هنا الخيام خالق بيئتها معه ومناظر شرس له.

في الرواية معاني عظيمة، وكأن الكاتب أودع الدرر في النّص، ليزعم القارئ أنّه مكتشف هذه الجواهر، فيصبح مالكها الحقيقي، إنّ التأويل الذي يمنحه القارئ لكل جملة أو عبارة وردت هنا، هو فعل اكتشاف حقيقي لما وراء النّص السردي. فعلاقة علي بك ابن نظام الملك بالشيخ الغزالي كشفت له جانب عظيم من تبادل الأدوار بين الآباء والأبناء، فكل سلوك غير مقبول للابن يصدر من الأب، بمرور الزمن وعدم اشتغال الابن على تطوير مهاراته الفكريّة، سيجد نفسه مكررّا سلوك والده ومتقمّصا لشخصيته برغم انتقاده هذا في السّابق، توضح هذا الأمر عندما رأينا الخيبة في عين الابن من كون والده رضي تحكّم السلطة به، ليجد علي بك نفسه بعد مرور الزّمن، خاتمًا في إصبع توركان خاتون زوجة الملك، لا إرادة له أمام تنفيذ رغباتها.

ومفارقة أخرى تم طرحها بمنتهى الموضوعيّة وهي شخصيّة أخيه أحمد المثاليّة، التي تطوّرت عبر أمثلة من قبيل (رعاية العصفور وتفقيس بيضة الحمامة تحت رعايته، وإطعام الكلبة وجرائها جزء من طعامه القليل في الأصل، وعنايته بسُعدى، وعدم الالتفاف نحو المنصب والسلطة والبلاط، وصولا إلى تصوّفه) مقابل شخصيّة الشيخ محمد أبو حامد الغزالي العقلانيّة ورحلة بحثه عن المعرفة والحقيقة وأنها أوسع مما يرتبط باعتقاداته وأطره الدّينيّة، من خلال وصوله إلى قناعة أن لا يوجد حقيقة لا يمكن أن يُشكّ بها، ما دعاه إلى الشعور بالثقل أمام أستاذه ومناظره الحكيم عمر الخيّام عندما قال له:" يا أبا حامد، ...كلّ الأحكام والآراء وفتاويك، لا تستند إلى العقل والحقيقة، إن أفكار كل شخص لا تنحصر بالعقل المحض...، وأن الحياة ماتزال لغز، يوم الراحة فيها هو الملل من عدم إثارة التعلّم، فليس الجهل هو الذي يسبب المعاناة، إنّما وهم المعرفة لدى البعض الذي يضلّ النّاس،... وكل ما صنعناه في هذا العالم هو كالسّلاسل والأغلال والقيود في أيدينا، وبهذا زدنا من أحمالنا وأثقالنا، فلا يجب أن نعمل للهروب من العقاب والخطيئة، بينما يجب أن نعمل لنحقق الخير ونتبّع الفضائل".

برغم الإطالة نوعا ما، عن أحداث القرن الخامس الهجري التي قد تورث الملل لقارئ اليوم الّذي اعتاد نمط الحياة الحديثة السّريعة، إلا أنّه لم يتخلل السّرد رتابة، فكانت الحبكة تتصاعد مع الأحداث، فقد بدأت الرّواية بمقتل والده نفسه شنقًا وقد شهد الإمام ذلك كطفل بحرقة وألم؛ ولم يعرف السبب في حينها، لكن الأمر طرح سؤالًا كبيرًا جدّا، تبيّنت له إجابته عندما جهّز كفنه الأبيض ورقد على سرير الموت، لحظة وصوله إلى السّلام الرّوحي، هو ما يحتاجه "فقد القدرة على تحمّل الدّنيا وما فيها من حلال وحرام، ووعود وأمنيات وأحلام ورؤى"، فلا يموت إنسان قبل أن تهدأ روحه. ولكن الحياة تستحق أن نحبّها بشغف، ونعيشها بحب "بدلًا من محاولة فهم شيء ما".

ليخلد هذا الإمام بفكره وكتبه، فالعشق يصقل روح الإنسان، ويهدّئ فوضاها، وأعظم العشق ما كان لله.

***

ريما الكلزلي

 

رواية " قناطر وألوان تعانق السماء" للأديبة المقدسيّة مريم حمد، صدرت عن مكتبة كل شيء-حيفا- ناشرون - العام 2022، المتصفح لهذه الرواية يجد أن مفردات القناطر والألوان تكررت في أكثر من موضع، وكأنها إشارات رمزية يراد بها تأكيد الحق التاريخي للفلسطيني في أرضه، لما تُمثل تلك القناطر الملونة والبيوت الريفية من علاقة عشق وإنجذاب الفلسطيني لها. على عكس تلك العلاقة الباردة التي أبداها شمعون تجاهها فلم نجد هذا التناغم او التآلف بين شمعون اليهودي الدخيل على هذا البيت العريق وبين قناطره وزجاجه الملون.

وأيضا فقد تعمدت الكاتبة أن تعنون فصول الرواية  بأسماء وانواع النباتات والأشجار مثل (سنديان، عُليق،رمَّان،لَوز، لبلاب،زعتر،زنبق،زيتون، مريمية،زيزفون وغيرها من الأسماء). هذه العناوين يُراد بها  التأكيد على أصالة الإنسان الفلسطيني وتعلقة بارضه ومزروعاتها ونباتاتها وخير دليل محاولة المُنتصر أن يحصل ولو على بضع حبات زيتون من كرم زيتون جدّه والمُصادر من قبل المُحتل، وكذلك فعلت النسوة عندما أوقفنّ باص الصليب الأحمر واختفوا داخل بيَّارة حمضيات على مقربة من يافا، لقطف بضعة حبات من الليمون اليافاوي،" شعرت ريم أن عليها أن تخرج عن صمتها وتقطف بضع حبات كرمزية على استعادة حق مسلوب، فقطفت بضع حبات وصعدت للحافلة،259

قراءة الروايات الفلسطينية بشكل عام تُتيحُ للقارىء الذي هو من خارج فلسطين أن ينعم ولو بنذر يسير من السياحة الجغرافية وحتى الدينية في فلسطين لما تتضمنه تلك الروايات من توصيف لبعض الأماكن والعادات، وفي هذه الرواية نتعرف على بعض الأماكن في محيط مدينة القدس وعن تفاصيل الأزقة والحارات، ذاك الزقاق الذي يضم عدة أبواب وخلف كل باب حوش صغير، يتسع لبيتين أو ثلاثة بيوت، وايضا تأخذنا الرواية إلى تلال أبوديس والعيزرية، وبلدات سلوان، ومدن رام الله وبيرزيت وغيرها من الأماكن، ونتعرف على تفاصيل وأشكال البيت الفلسطيني الذي يتخذ شكل المستطيل   وواجهة البناء مزينة بألوان زجاج أحمر وأزرق، وأن كل شباكين من شبابيكه قريبين من بعضهما البعض، وتلك الأقواس النصف دائرية المزينة بالزجاج الملون والتي تُزيد هذه الشبابيك أناقة، وهذا ما يعطي البناء جمالية مميزة رغم بساطة تصاميمه158. 

بالعودة للرواية نلاحظ ان الجانب الإنساني هو الطاغي في معالجة أحداثها بحيث نلحظ ان هناك ما يمكن إعتباره دعوة إلى التسامح وقبول الآخر، وبمعنى آخر الدعوة إلى ما يشبه أنسنة الدين، يصف الراوي العليم أسينات بأنها "كانت كأي إنسان نقيّ تُحب الجميع، وترى بأن كل الناس في أصقاع الأرض متشابهون، ويجب أن يتفق المسلمون مع اليهود وكذلك مع المسيحيين، وكأن الصراع مع المُحتَل هو صراع ديني وليس صراعا سياسيا ووجوديا، فهي تقول لولا تدخل رجال الدين المتعصبون لكانت الدنيا أفضل وأجمل وتتسع للجميع، إن هي خلت من الأنانية والطمع اللذان يُتلفان الحياة والبشر.61 ". وفي موضع آخر تقارن ريم بين التجهيزات المكتملة في مستشفى هداسا العيساوية وبين الوضع المُتردي للمشافي الفلسطينية التي تفتقد حتى لأجهزة ألأوكسجين التي يحتاج لها الجنين، ويصف الراوي العليم اجواء مستشفى هداسا بالنموذجية: " تبدو هذه الممرضة وكأنها ملاكاً، أطباء وطبيبات وممرضات وممرضون، عرب ويهود كل واحد منهم يعمل بجد ونشاط، وكأن العالم الخارجي لا يمت لهذه المنطقة بصلة، 197". أما ريم في وصفها للأطفال حديثي الولادة تقول:" ينام كل هؤلاء الأطفال ولا تعرف منهم من هو المسلم ومن هو الولد النصراني أو اليهودي، وتُكمل: "ليت البشر كلهم يبقون كما هم هنا مسالمون". أيضا فإن في تعامل ريم مع المنتصر وجوناثان الكثير من التسامح وقبول الآخر، تقول:"الإثنان إبناي، وسأحبهما، أنا أمٌ  ولم تُخلق الأمهات إلاّ للحب.و لم يعد لديّ فضول لأعرف أين ومن هو إبني الحقيقي؟ لكني حتما سأحبه، قد  بدأت أدعو له في صلاتي، أنا أرفع كل يوم يديَّ وأدعو للمنتصر وأخيه بالخير".

النقطة الثانية التي نستخلصها من الرواية هي الهوية الضائعة او المُشتتة وهذا ما جسدته أسينات التي  تُمثل المرأة الباحثة عن هويتها، وهي الآتية من مزيج جنسيات وديانات مختلفة كما حدثها جدها الذي كانت أمه عراقية، وأبوه إيراني وهو تزوج من شابة أمها كانت ألمانية، وأبوها بولنديًّا، فأنجبا والدة أسينات،49. ولا بد لنا من تسجيل هذه المفارقة في شخصية أسينات، التي لا يمكن لنا  فهم هذه الإستدارة في حياتها، فبعد ان قدمتها الرواية بكونها الفتاة المتمردة المُمتلئة حماساً للعلم والمعرفة، ولا يعجبها أي شاب تقابله، بل كانت دائمة البحث عن ذاك الذي يحب الفلسفة ويشاركها متعة قراءة الكتب،49  وتوحي بأنها لن تكون تلك المرأة التي ترتق الجوارب، وتعد أشهى المأكولات، ولن يهمها أن تتقن الحب لإرضاء شريكها، بل ستختار من يشاركها الحياة بتناغم ومساواة 53، نجدها فجأة وبعد أن خُيّل للقارىء بداية نشوء علاقة انجذاب ما مع عليّ العراقيّ، نُفاجىء بها وهي تحط في مطار بن غوريون متأبطة ذراع زوجها شمعون دون اي مقدمات. هذا الزوج الذي لا يرى في مؤسسة الزواج ربما سوى مجرد أجساد تلتقي لحظة المغيب بهدف الإنجاب. ويتمنى ان تصبح زوجته حاملا بأسرع وقت خدمة لإسرائيل كما يدعي:" هذه أرض إسرائيل، ليست كأي مكان، نحن بذلنا الغالي والنفيس من أجلها، بنيناها بالدم والدمع والعرق، وما زلنا نتعب ونبني ادعي الله  كي تكوني حاملا، لنرزق بطفل يحمي هذه الأرض ويخدمها، كما  فعل أجدادنا من قبل، عليكِ أن تشعري كباقي الأمهات الإسرائيليات أنك مسؤولة عن بناء ونشأة طفل لخدمة أرض إسرائيل. 187" .

    سعت الرواية لفضح المحتل وممارساته، مُشيرةً الى الإنتفاضة التي اشتعلت شرارتها الأولى من مخيم جباليا في قطاع غزة في عام 1987 بعد دهس أحد المستوطنين لمجموعة من العمال الفلسطينيين على حاجز إيرز، فهبَّ الشعبُ كلُّه معلنا انتفاضة الحجارة في كل المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية.107". كما أشارت الرواية إلى الجدار العازل في عملية توثيق تاريخية لما جرى ويجري داخل الارض المحتلة، وإلى لون الهويات الذي إبتدعه الإحتلال، اللونان الأزرق والأخضر لونا بطاقات الهوية الملعونة، التي دمغ الاحتلال بها البشر، وصنفهم بها إلى أصناف،وبسبب ذلك أصبح التنقل صعبا، فالجميع أصبح مجبرا على الاستدارة حول الجدار، لتصبح مسافة النصف كيلومتر التي كانت على مرمى العين أكثر من عشرين كيلومتر؟. وفي تذكيرنا بالأسرى داخل السجون، وثقت الرواية الأجواء الإحتفالية لعملية من عمليات تبادل الأسرى، وكانت بلدة سلوان على موعد مع تحرير أسيرين، وقد علت أصوات الشباب، وتبعتها زغاريد النساء، والكل ينظر ويتتبع بحب وشغف ذلك الموكب المهيب، والأمهات اللواتي لم يستطعن الخروج، تناقلن الفرحة من الشبابيك وحلقات صغيرة جمعتهن في طريق الزقاق، قرب شجرة الزيتون الكبيرة، وقرب شجرة التين الأقرب لشارع القرية كيف لا والفرحة اليوم فرحة أمة، والنصر اليوم للجميع؟.

كما أثارت الرواية الزيف والتزوير الذي يمارسه الإحتلال ومن يُسانده في محاولته طمس التاريخ الفلسطيني وتزوير الحقائق من خلال حديث شمعون سواء مع زوجته أسينات أو ولده جوناثان فهو دائم التذكير بأن هذه الارض هي أرضهم الموعودة وان هذه البيوت التي يسأل عنها جوناثان دوماً ما هي الا بيوت الرعاة الذين تركوها ليرعوا أغنامهم، ويخاطب زوجته قائلاً: بالله عليك يا أسينات، أنت لم تعرفي بعد كم عانى اليهود لإقامة هذا البلد، الذي هو وعد الربّ لنا، ألا تعلمين بأننا شعب الله المختار، وقد اختار لنا هذه الأرض لنعمرها؟ ويذكرها كيف كان اليهود يسردون القصص لاطفالهم منذ نعومة أظافرهم ليعيشوا على حلم بناء دولتهم، التي سُلبَت منهم، فعملوا جميعا بكدٍ وتعب لبناء هذه الدولة. وشمعون هذا يرفض كل إشارة إلى التاريخ والتراث الفلسطيني لذا نجده دائم التذمر من إهتمام جوناثان بالقناطر والوان زجاجها، هذا الرفض ظهر في اللاوعي عنده أثناء قيامه بالتحقيق مع المنتصر الذي تباهى أمامه بجمال القناطر والبيوت الفلسطينية، حتى خُيَل لشمعون أنه أمام جوناثان فصرخ قائلاً :"عن أية قناطر؟ وأية بيوت يا ابن الزنى تتحدث؟ لا أريد أن أسمع عن  القناطر ولا التماثل، سحقا لك يا جوناثان من أي مكان خرجت لي؟ تبا لتلك القناطر، تبا لتلك الألوان، لقد سئمت رسوماتك وألوانك، أنا سأربيك وسترى مني العجب، أنت ملكي وتحت أمري، 250

كذلك لا تكاد تخلو محاضرة من محاضرات البرفسور شتراوس إلا ويذكر فيها تضحية اليهود، وعملهم الدؤوب لبناء دولتهم، وكيف أنهم اهتموا بنقل العلم والاداب والثقافات المختلفة لدولتهم، وفوق كل ذلك التعايش والسلم الذي غلف المجتمع الإسرائيلي في دولتهم . 

كل هذه الإدعاءات سقطت أمام سؤال أسينات "هل كل هذا الطعام إسرائيلي؟"، كم أحب تعلم وتذوق الطعام الإسرائيلي، كم هو متنوع، لترد والدة شمعون في الحقيقة لقد ساعدتني عمّة شمعون بتحضيرالأصناف المغربية، أما أنا فقد جهزت الكبّة العراقية والحمصية، وهذه إشارة إلى ان المجتمع الإسرائيلي برمته مجتمعا هجينا يعتمد على تراث الآخرين حتى في أنواع الأطعمة.

      خلال الحوار الذي جرى بين البروفسور شتراوس والطالب العراقي علي نلحظ أن الرواية قد خصصت مساحة لا بأس بها على لسان الرواي العليم  للإضاءة على ما يعتقده البروفسور  شتراوس المعروف بحُبه لنصرة ألاقليات في العالم،- كما وصفته !- والذي يتخذ من إسرائيل مثالاً رائعا للتضحية والكفاح، "لقد كان معجبا بولادة دولتهم التي أقاموها بالدم والدمع والعرق، أوجدوا جيشا قويا، زرعوا جبال وتلال إسرائيل، حفروا فوق الأرض وتحت الأرض، كيف لا وكل أثارهم مدفونة هناك؟55". ولم يكن رد الطالب العراقي علي بالمستوى المطلوب حيث اكتفى بتذكير البروفسور بمجازر العصابات الصهيونية التي لعبت دورا كبيرا  في تأسيس الكيان الصهيوني، وإرتكاب المجازر في دير ياسين وكفر قاسم وغيرها من المدن.58 . دون ان يُضَمِن رده بالأدلة الدامغة لإثبات الحق التاريخي لشعب فلسطين بأرضه، وان هذه الأرض هي أرض عربية إغتصبها الإحتلال وليست ارض الميعاد كما يزعم.

  نقطة أخرى لا بد من الإشارة إليها  والتي قد تلتبس على القارىء، حيث  قدمت الرواية بعض النسوة الفلسطينيات بصورة هشّة في ردة أفعالهن وهمساتهن حول ريم التي أصبحت زوجة لأسير:" جلست ريم في باص الصليب الأحمر وبدأت بسماع همسات النساء من حولها، حول الاف السيناريوهات التي قد تحدث في الشهور المقبلة، البعض حزين على شبابها، والبعض يحسب الراتب الذي ستتقاضاه  كون زوجها أسيرا، هل ستطلقه أم ستصبر؟ هل ستبقى في بيت عائلة زوجها أم ترحل؟.256 . هذه الهمسات وإن كانت تحصل في بعض المواقف لكن توثيقها ضمن رواية وإظهار المرأة الفلسطينية وكأنها توظف أسر زوجها للحصول على مرتب او للتخلص من إلتزاماتها الزوجية وطلب الطلاق أجد ان إدراجها في متن الرواية غير موفق ولا يخدمها.

   أما في موضوع الخطأ الذي حصل في المستشفى والذي أدى إلى إستبدال الطفلين المنتصر وجوناثان، فلا بد من الوقوف وطرح السؤال المركزي والبديهي في مثل هذه المواقف: ما هي ردة فعل كل من الأشخاص المعنيين وكيف كان تعاملهم مع الحقيقة المستجدة. وفي تطرقنا إلى هؤلاء الشخصيات نسجل الملاحظات التالية:

- جوناثان: بالرغم من نشأته في بيت يهودي-إسرائيلي، يبدو أن الجينات البيولوجية والوراثية فعلت فعلها في تكوين شخصيته وإهتماماته، لدرجة أن كل من شمعون وأسينات وجدا فيه الطفل المختلف الذي أدمن على رسم قناطر الأبواب والشبابيك، التي كانت تزيّن البيت، رسم الشبابيك والقناطر الزجاجية التي تعلوها. أضف إلى ذلك فقد كان يطرح الكثير من الأسئلة التي كانت تستفز من حوله، يسأل أين ذهب الرعاة؟ من ساعدهم ببناء تلك القناطر؟ من صنع الزجاج الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر؟ أكانوا كثيرين؟ هل نحن رعاة؟ هل بيتنا بيت رعاة؟ لماذا نسكن بيتهم؟وفي أول زيارة له لحائط المبكى اضطرب كثيرا ولم يطيق البقاء.

- المنتصر:  وهو المولود من أبوين يهود،  لم تظهر عليه أي علامات تثير الشكوك حول هويته بل العكس كانت كل تصرفاته تدل على انه فلسطيني المولد والنشأة، مؤمن بحقه وبمناهضة المحتل وهذا ما ظهر من خلال إصراره على إختراق السور لقطف الزيتون من بستان جده رغم كل المحاذير كما ظهرت صلابة موقفه أثناء التحقيق معه والإنتصار لأمه ريم ورفضه التعرض لها.

- شمعون: منذ البدء تولد لديه شعورا بأن جوناثان مختلف، وعندما علم بحقيقة الأمر قال "نعم هو ليس ابني، أنا أستحق الأفضل، كنت دوما أشعر بهذا الشعور، ولم أقدر على البوح به.301" . وهنا لا بد من التساؤل كيف لم يتولد أي شعور غرائزي عندما تقابل شمعون مع ولده(المنتصر) خلال التحقيق. وما كانت ردة فعله عندما عرف انه كان يحقق مع إبنه ويعذبه.

- ريم : كما ذكرنا سابقا فقد تقبلت ريم الوضع بإعلانها ان الولدين هما ولديها، ولكن الملفت انه مع نهاية الرواية وخلال مكالمتها الهاتفية كانت المكالمة مع المنتصر ولم يكن لديها الفضول للتكلم مع إبنها الحقيقي "جميل او جوناثان" إنها مفارقة تدعو للتساؤل.

 كما أن الرواية لم تبين لنا ردة فعل المنتصر عندما عرف بحقيقة نسبه اليهودي.وأيضا لم نعرف ردة فعل جوناثان واسينات عند معرفتهما بالحقيقة وإن كنا نتوقعها أخف وطأة. ولو  تطرقت الرواية لهذا وإستفاضت به لربما كُنَّا أمام فيض من النقاشات والمشاعر التي تولدها الصراعات الداخلية داخل النفس الإنسانية.

ختاما شكرا للرواية مريم حمد على هذه الرواية التي أتاحت لنا فرصة الغوص في محاورها على أمل ان تتحفنا بالمزيد من النتاج الأدبي الهادف.

***

عفيف قاووق – لبنان

أحمد ختاوية يطارد أفعى الغثيان، على منوال جان بول سارتر، بوجودية تقود نحو الإيمان:

عنوان رواية الكاتب أحمد ختاوي المدينة بدم كاذب لما هذا العنوان المكون من المدينة.. بدم.. كاذب

هل يعكس هذا العنوان محتوى النص، هل يجذب إهتمام القارئ؟ أليس هناك خشية من تضليل القاريء إذا كان غير مناسب؟

قبل أن نبحث عن إجابة لهذه التساؤلات ينبغي أن نشير إلى وجود تناص بين هذه العبارة وهي العنوان وما جاء في سورة يوسف وجاءوا على قميصه بدم كذب) أي: بدم هو كذِب، لأنه لم يكن دم يوسف)

إذا كانت المدينة هي القميص فالمدينة التي جاءت في الرواية هي بوسمغون تقع في الجنوب الغربي من الجزائر حيث عانت من ويلات الاستعمار قبل الاستقلال والتهميش وقلة التنمية بعد الإستقلال، أم هي باريس العاصمة الفرنسية مدينة الجن والملائكة  كما قال عنها الأديب المصري طه حسين وهي أيضا كانت مسرحا لعمليات إرهابية عنيفة وهذا لم يمنعها أن تبقى أكبر عامل مؤثر في شخصيات ثقافية وفكرية وإبداعية عربية ومغاربية،بدم كاذب هل هي دماء زَكِيةٍ كدماء ثورة التحرير نوفمبر 1954 لأجل قضية حق،عادلة وهي المطالبة بالاستقلال وخروج الإستعمار فسالت دماء الجزائريين في بوسمغون وغيرها من مدن الجزائر،وسالت في باريس دماء المهاجرين،إنها صفحة من أحلك الصفحات في تاريخ فرنسا. في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961 ومع اقتراب الحرب الجزائرية من نهايتها، قمعت قوات الأمن الفرنسية بعنف مظاهرة نظمتها جمعية "مسلمو الجزائر الفرنسيون" (FMA في العاصمة الفرنسية باريس. فما كانت جريمتهم؟ الاحتجاج والتظاهر السلميان تلبية لدعوة أطلقتها جمعية "جبهة التحرير الوطني" (FLN) في فرنسا للخروج في مسيرات ضد حظر التجول الذي فرضه عليهم موريس بابون مدير أمن العاصمة.

في تلك الليلة وفي الأيام التي تلتها، قامت الشرطة الفرنسية باستخدام القوة في قمع المتظاهرين وضربهم وإعدام بعضهم وإلقاء جثثهم في نهر السين...

لكن وللأسف الدماء التي سالت في التسعينات من القرن الماضي، بما سمي بالعشرية السوداء وهي مرحلة الإرهاب الذي زرعته أيدي الخفاء بإسم الدين وراح ضحيته مئات الألاف من الرجال والنساء والاطفال، من الأجانب السياح والرهبان هنا في أرض الوطن وفي باريس كان دمًا أُهْدِر بغير حق كان دما كاذب بكل معاني الكلمة فمن هذه الحيثية يكون المؤلف قد عبَّر بهذا العنوان عن محتوى النص، وجذب القاريء بصدق إلى قضية إظهار الحقيقة وكشف الزيف والتلفيق ويكون بذلك لم يضلل قاريء الرواية.

يحكي الروائي أحمد ختاوي عن وضعيات تثير الحزن والقلق حتى اليأس والسخرية عن المجتمع البوسمغوني قبل الإستقلال:

كان يسرق المفتاح كلما سنحت له الفرصة من صدر أمه العجوز التي تصلي كل صلواتها بالفاتحة وسورة الإخلاص،ليفتح صندوقا صغيرا تختزن به رغيفا من الشعير

كم كان مملوءا بالنرجسية وباليتم والعوز أيضا.

قالت يعني الطفلة هذا فيتامين لا تمسوه بسوء .....

ولا توزعوه إلا بمقدار كيل كل ثلاثة أيام....

وبينهما كل الناس صيام فهمتم......

ثم يسرد لنا قصة الهجرة والهروب إلى باريس وفرنسا عموما

حيث يبتز المهاجر من طرف أرباب العمل من اليهود وغيرهم

ناوله سيدي كرتول قلنسوة يهودية وثمرا من عرجون متيم بخيام الصالحين وخواء اللحظات......

ثم بعد هذا ينقلنا عبر الزمن كيف يصير حالهم كجيل أول بدأ يتخلى عن ثقافته

كما توضحه الرواية عن شخصيات مثل العربي المدمن على الخمر والحشيش والقمار، محمود صاحب الحانة التي هي مرتع القمار والمخدرات وشوي شرائح لحم الخنزير....

زونة امرأة مغربية مهاجرة تشبه سميرة برودي تعمل في الحانة عشيقة العربي البوسمغوني ....

ثم ينقلنا المؤلف إلى جيل ثاني ولد في هذا الصراع والتفسخ

والضياع وهم أبناء المهاجرين الذي أستدرجوا بمكر في خلايا الارهاب ليجدوا أنفسهم في أفغنستان وجبال الجزائر وفي داعش يقودهم أمثال الزرقاوي.....

لماذا هذا الإنتقاء؟ لأنهم جيل يشده الحنين إلى اوطانهم إلى دينهم وعاداتهم فاستغل هذا الحماس ليخربوا به ما يحبونه من دين واوطان وأهل ووووووو

ينقل السارد هذا الحدث الأليم الذي يضرب الجزائر في أعماقها، وهي الدولة الفتية السائرة في طريق النمو بطريقة جميلة سلسة بين جيل هاجر قبل الاستقلال وابنائهم مع المهاجريين الجدد بعد الإستقلال:

اقترب العربي من شطيرة الخنزير، بصق عليها وهو يتأهب لمغادرة الحانة....

محمود يسأله وشطيرتك؟

العربي أعطيها للقطط يرد بنبرة حادة...

يستوقفه خبر عاجل محطة تي آف 1 الفرنسية مجموعة مسلحة تغتال رهبانا بضواحي البليدة واشتباك في منطقة الاربعاء

تمشيط أدغال الأخضرية بحثا عن معاقل الجماعات الإسلامية......

يرشق التلفاز والمذيع بنظرة ثاقبة..

يتنهد دون أن يعلق، وينصرف.....

يتخلل هذا السرد وصف رائع لحالة من الغثيان يعيشها العالم العربي بمشرقه ومغربه، نجده في أدبيات أمثال

غسان كنفاني، السياب ب والبياتي والجواهري ومعروف الرصافي.....

غناء يردد بكل أنواع الموسيقا الراي، الشعبي، المغربي، الراب

نفس الألم الذي خلق هذا الطوفان من الغثيان

أغاني الشيخة الريميتي، دحمان الحراشي، حسني، خالد، مريم عابد......

ثم يعرج بنا إلى أخطر معانات عانت منها الأمة الفتاوى على بياض من طرف مشايخ في التكفير والتفسيق والتبديع

إن رواية الاستاذ أحمد ختاوي إكتست نمط الرواية الوجودية........

والتي كان رائدها جانبول سارتر وسيمون ديبوفوار وبركامي

وغيرهم لأن لديهم نظرة أخرى للأدب حيث تقدم صور واحداث الرواية كما هي في المجتمع ليسمح للقاريء أن يشكل ماهيته من واقع حقيقي هو يتبناه ويلتزم به دون تدخل المؤلف ذاته وهذا ما لا نجده عند الشكلانيين والبنياويين والذين لم تصل افكارهم إلى تمييز الخطاب الأدبي عما سواه.

يعاني الإنسان أثناء تحقيق وجوده الذاتي من حتمية الاصطدام مع الذّاوات الأخرى ومع العالم الخارجي المليء بالمآسي والعبث واللامعقول، الأمر الذي يخلق عنده حالة من التمزق والقلق والضياع، تفضي به إلى العيش في دوامة من التناقضات والاضطرابات. انعكست هذه الحالات بصدق وعمق مكثّف في أعمال الوجوديين الأدبية، الذين حاولوا من خلالها خلق صور حية وحقيقة لهذا الصراع،فالكاتب أحمد ختاوي بهذا الاسلوب وإختياره لعبارات كعلامات إجتماعية الخاضعة للزمنكان ذات دلالة مشفرة تشير إلى أعمال إجرامية تهدم الدول وتدخلها في حروب أهلية كما نراه اليوم في افغنستان والعراق واليمن،ولا يقوى على مثل هذا إلا أجهزة إستخبارية ودول متمكنة ماديا تمد هؤلاء المجرمين بالمال والسلاح والمعلومات الدقيقة وأيضا يكون المؤلف المتبصر قد منح قرائه "لذة فنية"، يسميها سارتر "طرب فني". وهذا الشعور حين يظهر، يكون العمل قد اكتمل، ويرجع هذا الشعور- في أصله- إلى الانسجام التام، بين "الذاتية" و"الموضوعية"، وهنا، يبدو العالم بمثابة الأفق وراء موقفنا، أو بمثابة المسافة اللانهائية التي تفصلنا عن أنفسنا، فالعالم هو المجموع التركيبي للفكرة، أو جملة العوائق والأدوات على السواء.

ثم تسرتسل رواية المؤلفة كما يفعل الفيلسوف سارتر في روايته الغثيان عن وجود كله ضياع وإن كانت هذه الحالة

اوصلت سارتر ورفاقه إلى الالحاد لأنهم وجدوا تناقض صارخ في ديانتهم الكنيسية، فإنها ستقود غيرهم إلى وجودية إيمانية واستجابة إلى القوة العظمى والتي أقر بها سارتر لما لم يجد تفسيرا مقنعا في السير خلف هذه الماهية التي تسبق الوجود،فنحن نقول ان الإيمان الصادق والاحكام الشرعية الدينية من منقولها الصحيح وبعقل صريح دون تدخل اصحاب الهوى والطمع وفكر الاستعمار عند الآخر، ستوصلنا إلى بر الأمان،إلى السلام والوئام والعدل بين الروح والمادة وبين الفرد والمجتمع، وبين المجتمعات الإنسانية مهما باعد بينها الاختلاف المذهبي أو الديني لأنها ترجع في الأخير إلى القناعة والإقتناع بلا تشدد أو تعصب......

***

تأليف الأستاذ الشاعر رابح بلحمدي الجزائر 

البليدة الجزائر

 

 

توطئة: توفيق الحكيم كاتب روائي مصري ولادة الأسكندرية 1987 -1898 من أكبر كتاب مصر في العصر الحديث، وهومن رواد الأدب الحديث صاحب التيار الأدبي المعروف بالمسرح الذهبي، ويتميّز الحكيم بأسلوبه الخاص الذي يميّز شخصنتهُ الذي حرص المزج بين الواقعية الرمزية والواقع السوسيولوجي المصري المتهالك أصلا حين وضّحها في روايته أهل الكهف، ولهُ القدرة الأسطورية الفذة في تصوير حياة الفلاح الكادح المصري وواقعهُ المزري خلال تعايشه وصراعه الطبقي المرير مع تربة أرض الكنانة وهنا يغوص هذا الروائي البارع في مجمل الدلالات والمعاني بدقة شديدة يرسم على الورق أدوار أبطال روايته بسردية  رمزية بعيدة عن المبالغة كليا حتى تبدوتوجهاته الأدبية تشير للمسار المسرحي، لذا كانت  من أهم  نتاجاتهِ الثرة والثرية. 

كانت بدايات أنتاجه الأدبي في ثلاثينيات القرن العشرين في أبداعاتهِ المتألقة في " أهل الكهف " وعودة الروح، وشهرزاد، وعصفور من الشرق، والطعام لكل فم، ويا طالع الشجرة، ولهُ 100 مسرحية و52 كتاباً وتأثر بالثقافة الأوربية والمصرية فكانت مدوناته الأدبية من وحي التراث المصري بعصورهِ المختلفة ماراً بالتطورات السياسية والأجتماعية، تُرجمتْ اعمالهُ إلى الفرنسية والأنكليزية والأيطالية والأسبانية.

الموضوع: رواية " عصفور من الشرق " للروائي المصري (توفيق الحكيم)1938 جسدت فكرة التباين بين الشرق والغرب، وتعالج موضوع العلاقة بينهما عند توقيت التأريخ التنويري الأوربي ما سمي بعصر النهضة الأوربية التي باتت تعتبر صورة أوربية حديثة ربما صادمة بفجائيتها بالتقدم الأنفجاري بمجالات الحياة اليومية لترقى بالعالم الغربي إلى درجات رفيعة في سلم الحضارة البشرية، بفعل الأستكشافات الجغرافية وحيازة المستعمرات العديدة في أرجاء كوكب الأرض، بينما بقي الشرق قابعاً في مكانهِ مذهولاً من جراء تحسسهِ بالهوة السحيقة بينهُ وبين الغرب، بأعتقادي أن الصدمة الكهربائية شكلت عوامل دفع في فضاءات الشرق حيث أخذ يتحسس مواطن الحضارة الغربية ليفهمها ثُمّ ليستوعبها، وخلال كل هذا الصراع قد يشعر بالدونية ويعيش الجلد الذاتي على تأخرهِ هذا، كان " توفيق الحكيم " سباقاً إلى طرح تلك العلاقة (روائياً) وفتح الأبواب لتجارب أخرى جاءت بعدهُ مثل " قنديل أم هاشم " ل يحي حقي 1940 والحي اللاتيني لسهيل أدريس 1954 ثُمّ  " موسم الهجرة إلى الشمال " للطيب صالح، فكانت رائعة توفيق الحكيم " عصفور من الشرق " موفقاً في توظيف تقنيات الفن الروائي وأبعادها عن الخطابية والتقريرية التي طفت على ما قبلها، ورسم الأحداث والشخصيات بشكلٍ مقنع يدعو القاريء للغوص فيها، وكان الحكيم فناناً محترفاً وواعياً بتقنيات الكتابة الروائية التي تختلف كليا عن الكتابة الخطابية الوعظية، ففي هذه الرواية بالذات أعطى الأولوية للحدث الذي يتحرك ويتطوّرْ ليترك القاريء أستنتاج الدلالات. وكشف الحكيم في الرواية مآخذ تلك الحضارة الغربية في: مادية الحضارة الغربية التي غيّبتْ روحانيتها وخلوها من روح الفن وهنا يتجاوز الحكيم مفهوم الصراع إلى مفهوم أعمق هو التأكيد على فقدان الروحانية في الحضارة الغربية الحديثة، ومن جانبٍ آخر طرح الحكيم في روايتهِ بعض المشتركات والمقاربات التأريخية والحضارية الفنية بين الشرق والغرب، وشكلت الرواية مدخلاً وأساساً لمنظري السلام وحوار الحضارات في القرن العشرين، مؤكداً على غياب (الكمال المطلق) في كليهما الشرق والغرب، والرأي للكاتب الروائي الحكيم يطرح من خلال شخوص المسرحية الروائية: أن الحضارة الغربية لا تسمح للناس ألا أن يعيشوا في عالمٍ واحد فقط بينما الحضارة الشرقية تكمن سر عظمتها أنها جعلت الناس يعيشون في عالمين دنيوي وآخروي أو سماوي وأرضي.

الفروق الجدلية بين الحضارتين وقراءتها حداثوياً!

تعد الدراسة أنعكاساً حقيقياً لحال المجتمع الفرنسي في زمن حياة الحكيم في ثلاثينيات القرن الماضي، وتكمن  مغزى الرواية في صراعات الحضارات والنظريات المطروحة في محاولة الروائي البحث عن الحلم المفقود، وقد قرأتُ الرواية في السبعينات من القرن الماضي وجدتُ فيها من كل زهرة لون بها من الحب ربيعهُ والعمر صحراءهُ ومن الروح شفافيتها، وبعاطفة شبابية متأججة تقمصتُ تأييد الحكيم في كل ما طرح من رؤى عن الغرب والشرق، واليوم ونحن في الألفية الثانية من القرن 21 وأصبح زمن الروائي الحكيم عن بعد أكثر من تسعين عاماً وتحت تأثري بالمعطيات الحداثوية المعصرنة طلقتُ أفكار الحكيم لتأثري بالواقعية والتأمل بدل أحلام اليقظة الغيبية وتمسكتُ بأهل الأرض لتحسسي بأوجاعهم وطموحاتهم المشروعة في الرغيف والحرية، وأهم هذه الفروق هي:

-الفرق الدستوري تعتبر المجتمعات الشرقية على العموم مبتلاة بأنظمة شمولية دكتاتورية قمعية، بينما الأنظمة الغربية محمية بأنظمة وقوانين عادلة في حقوق الأنسان، وهل أطلع الحكيم – وهو في فرنسا – على مباديء روسو في الحرية والمساواة.

- القدرات العلمية عند الغرب متعددة ومتجددة وقابلة للتطور وتولت اختراعات الغرب في كل مجالات الحياة، أما الشرق لم ينتج أي شيءٍ نافع ولم يكملوا ما بدأ الأجداد في حقول الطب في زمن أبن سينا وأبن الهيثم بل أعتمدوا الأتكالية والأستهلاكية الطفيلية.

-الفرق المعماري والبيئي أتجه الغرب في التفنن في ريازة العمارة والحدائق والمنتزهات والنصب التذكارية، بينما العرب ليس فقط أهملوا هذا الجانب بل تفنن المتطرفون الأسلاميون في تخريب وأزالة العمارة والنصب التأريخية وقد فجعونا في الموصل العراقية سنتة الأحتلال 2014في نسف منارة الحدباء التأريخية وأزالة مدينة الحضر التأريخية، فهي أمة بدوية سالبة كما قال العلامة المغربي أبن خلدون في كتابه المقدمة.

- الفروق الفلسفية  في الثقافة الشرقية تعتمد على الأسلامية والبوذية والكونفوشية بعموم شمولية القارة الآسيوية بينما تعتمد المسيحية والتلمودية وتنحو بأتجاه العقلانية المنطقية، الثقافة الشرقية تستند على الأبدية بينما الغربية تستند على الفلسفة المسيحية في كل شيء لهُ بداية ونهاية، والشرقية تستخدم التأمل الروحي من خلال الذات أما الثقافة الغربية تعتمد على المنهج العلمي بمنجز عملي في البحث خارج الذات من خلال البحث والتحليل، تعتمد الثقافة الشرقية على الوسائل الروحية والغيبية في تحليل الظواهرالطبيعية والأجتماعية بينما الثقافة الغربية تعتمد على التحليل المادي الملموس للظواهر السوسيولوجية للمجتمع.

- قابلية الحضارة الأوربية على التطور خلال القرنين السادس عشر والعشرين شملت مجالات الفلسفة وتطوير طرق التربية والتعليم وأزدهار العلوم الأنسانية وأنفتاح العقل الغربي ومشاركته الفعلية والعملية في عصر التنوير، وظهور مباديء ومصطلحات جديدة مثل الديمقراطية، أما الحضارة الشرقية على العموم أنها بدأت في وادي الرافدين ووادي الكنج والسند والأردن منذ أكثر من سبعة آلاف سنة أن شعوبها علمتْ الغرب أبجديات الحروف والكتابة ولكنهم لم يحافظوا عليها وأهملوها ولم يخضعوها للتطوير بفعل التركيبة الذاتية السايكولوجية المتقوقعة للعربي والنظم الأستبدادية الشمولية المستلبة ووقع في المحذور حيث الأنعزال والأتكالية بأخذ قشور الحضارة الغربية وترك جوهرها وأصلها كما قال نزار قباني في هذا الموضوع: (لبسنا ثوب الحضارة والروح جاهلية) 

أخيراً/قد أختلف مع الروائي المتألق وهو من الكبار- ليعذرني – في أنعدام حياديته بين الحضارتين أذ أنحاز بشكلٍ كلي في روايته الرائعة " عصفورٌ من الشرق " ذاكراً سلبيات الحضارة الغربية دون الأشارة إلى أيجابياتها وتنويرها العالم المادي بالمعرفة والتكنلوجيا، وأنتقاده لماركس الذي فك لغز الأنعتاق للطبقات الفقيرة والمسحوقة في الشرق والغرب، وغاب عنهُ أن يذكر مستلبات وسلبيات النظام الرأسمالي المتعدد الرؤوس في أستعمار الشعوب وسلب مقدراتها المادية والأرثية الثقافية، وتكلم عن الفاشية الماركسية وتغافل عن ذكر الفاشية النازية والرأسمالية الجشعة والطفيلية المتوحشة التي أشعلت الحربين الكونيتين التي أبادت الملايين من بني البشر وتخريب البنى التحتية والفوقية لنصف العالم تنازلا لعراب الأقتصاد الرأسمالي (مالثوس)، وللحقيقة لم يكن في طرحهِ عدلاً، وهنا تكمن الهفوّة التي وقع فيها الروائي الحكيم متجرداً ومنحازاً كلياً للشرق مسلفناً أفكارهُ بأثنية قبلية تحامل بطريقة غير موضوعية على الحضارة الغربية بالوقت الذي الغرب هو الذي حقق أحلام البشرية من خلال الأنجازات العلمية، بيد أن الحكيم أصر خلال سرده الروائي على عمق زمكنة الحضارة الشرقيىة.

أي نعم ولكنهم لم يحافظوا عليها أو يطوروها لخدمة البشرية، وهو يقول: على لسان (أيفان) بطل روايته عصفور من الشرق: آه--- آه النور يشرق من بلاد الشرق ليغرب في بلاد الغرب ص180، ليتهُ (حياً) ليرى ماذا أقدم عليه عصابات خارج التأريخ وهم مسلمون من تكفير الغرب والشرق وفرض الجزية على الشعوب ونصب دكات النخاسة لبيع وشراء المرأة، ومعاول وبلدوزرات جيشها أتت على الأخضر واليابس، وهو يعترف بضياع الشرق في متاهات السخافة القشرية لما تسمى بالحضارة الغربية حين يقول في ص186و187: حتى أبطال الشرق قد ماتوا في قلوب الشرقيين /أنتهى --- نعم اليوم لا يوجد شرق !؟ أنما هي غابة بين أشجارها مجموعات متناحرة مفككة تلبس زي العرب على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا أدراك.

وتلك هي رسالة أدعوا الشرقيين – وأنا منهم - إلى الأمام ليجعلوا من شرقهم رمزاً حقيقياً وليس مشوّهاً.

***

عبدالجبارنوري

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

...................

هوامش

* موساوي نعيمه –أثر الثقافة الفرنسية لمسرح توفيق الحكيم – 2010 الجزائر جامعة تلسمان ص15- 14بتصرف

* هدى التميمي – الأدب العربي عبر العصور – بيروت – ص575 بتصرف

يتميز النص المسرحي بصفة الازدواجية في الكتابة والعرض. فهو خطاب نصي يتمتع بميزتين الأولى إمكانية قراءته كنص أدبي كسائر النصوص الأدبية والثانية إمكانية مشاهدته كعرض تمثيلي على خشبة المسرح والانتقال بالمتلقي من المقروء إلى الملفوظ.

مسرحية موتى في إجازة الصادرة عن وزارة الثقافة/2022، تضمنت ثلاث مسرحيات معنونة بالترتيب كالتالي..موتى في إجازة ،السحابة الحمراء ،الجرذان كل واحدة منها تنتمي إلى شكل بناء درامي مختلف يعكس الواقع وكل مسرحية تحتاج إلى دراسة منفصلة وقد ارتأيت بأن أحلل في ورقتي هذه المسرحية الأولى والتي وسم بها الكتاب الذي ضم المسرحيات الثلاثة.

مسرحية موتى في إجازة.

هذا النص مقسم إلى ست مشاهد تقدمتها عبارات إرشادية قدمت وصفا لمكان وزمان الأحداث وأحيانا كانت تكتب خلال الحوار أو في نهاية كل مشهد للتعريف ببعد من أبعاد الشخصيات أو وصف حالة على خشبة المسرح أو وصف لنوع موسيقى أو شيء يتعلق بالإضاءة.

تحليل

-الفكرة..

لا بد لكل مسرحية جيدة من فكرة أساسية واضحة المعالم سليمة التكوين. وفكرة موتى في إجازة هي محاولة التغيير من خلال ثورة على الظلم والمجتمع تؤدي بأبطالها إلى موت آخر بعد فقدانهم حقهم في مساحتهم الصغيرة من التراب.

-الموضوع..

جاء شكل البناء الدرامي الذي اختاره حسام الرشيد لهذه المسرحية درامي تغريبي والتغريب في المسرح استخدام اللفظ أو الموقف في غير مكانها المألوف لتثير الوعي باغترابها. ويرتبط مصطلح التغريب المسرحي بالألماني برتولد بريخت حيث أدخل هذا المصطلح إلى المسرح كأداة فعالة تكشف عن أن الإنسان في أي مجتمع هو ثمرة إفرازات التناقضات الاجتماعية التي تنعكس على حياته فينجم عن ذلك حاجة ماسة إلى التغيير ونبذ الركود بشرط أن يشارك هو نفسه في عملية الاغتراب. وهذا بالفعل ما سعى حسام الرشيد إلى فعله في هذه المسرحية حيث استخدم أبطاله من الموتى ونقلهم إلى غير مكانهم المألوف وهو إخراجهم من قبورهم وإعادتهم إلى الحياة من خلال منحهم إجازة في سعي منهم لتغيير المجتمع من خلال قيامهم بثورة على الظلم والمجتمع معا. وقد قام حسام الرشيد بكسر وحدة المكان وتوظيفها في تقنية الاغتراب. فأحداث المسرحية دارت في أماكن متعددة، المقبرة،مكان حفل التأبين،بيت ناصر،شقة حمدان، الخان المهجور.

كما لجأ إلى توظيف الديكور لإنجاح عملية الاغتراب فاستخدم أدوات بسيطة شواهد قبور متناثرة، صخرة حدباء،صفوف مقاعد بلا مساند،طاولة عريضة،ستارة الدانتيلا وغيرها ربما ليستدعي ذهن المتلقي لكي يكمل ما نقص من الصورة.

كما وظف الكاتب الإضاءة لإنجاح تقنية التغريب فقد استعمل الإضاءة المركزة في مناسبة واحدة عندما خرج الأبطال الثلاثة من قبورهم واستراحوا على صخرة حدباء حيث تم تسليط الضوء عليها وذلك لتبئير المشهد حول قطب الحركة في المسرحية وهم هؤلاء الأبطال.

نستطيع أن نقول بأن حسام الرشيد لجأ إلى تقنية التغريب لأن من وظائفها في المسرح التسييس وإثارة الوعي فقد تبنت هذه المسرحية قضايا الإنسان المسلوب الإرادة وقضايا اجتماعية مثل إدانة السلبية والخنوع والصمت وبيع المبادئ من أجل المال والسعي وراء المراكز العليا كما حصل مع رفاق منيف في الحزب الذين قاموا بوضعه قيد الإقامة الجبرية حتى قضى نحبه.وأدانت المسرحية الطمع والخيانة كما في شخصية شقيق حمدان الذي قتل حمدان أستاذ الجغرافيا وصاحب المبادئ وزوجة ناصر الفنانة التشكيلية التي باعت أيضا مبادئها عندما عرضت لوحات زوجها للبيع بأسعار باهظة طمعا بالمال.

-الشخصيات

إن الشخصيات بما تفعل وبما تظهر من حياة مكونة من عواطف وأفكار وأحلام وبما تشترك فيه من صراع وبما تصفه من مشاكل تقدم لنا المادة الحيوية التي تقوم عليها المسرحية ويرى روجر بسفيلد (إن المسرحيات التي ظفرت بالشهرة الحقيقية في جميع العصور تمتاز عادة بميزة صنع الشخصيات). والشخصيات بتقسيمتها التقليدية تقسم إلى رئيسية وثانوية.لكن هناك أنواع أخرى للشخصية مثل الشخصية المحورية التي يدور حولها الحدث وتتمثل هنا بناصر ومنيف وحمدان.

لكن الشخصية التي ألقت بالحجر في مياه الدراما الراكدة وكسرت وتيرة الأحداث وعملت حراكا دراميا صامتا وأقول صامتا لأن ردة الفعل لم يكن لها ضجيجا بالفعل بل كانت ردة الفعل مشادة كلامية غيرت من مخطط البطل وهدم فكرته بالتغيير مثل شخصية المحامي الذي كشف زوجة ناصر وما خططت له من خلال الدعوى القضائية التي كسبوها لملكية اللوحات هذه الزوجة التي مسحت أول حرفين من شاهد قبره حتى تلغي وجوده فلا يتعرف عليه أحد حتى بعد مماته.والراقصة التي سترقص في شقة حمدان بعد أن تحولت على يد شقيقه إلى ملهى وهذه الحقائق صدمت الأبطال وكانت نقطة تحول جعلتهم ينتقلون من حالة إلى الحالة النقيض فبدلا من الثورة التي أرادوها عادوا أدراجهم إلى المقبرة وهذا التحول دفع التطور الدرامي إلى نقطة أخرى رأى الأبطال من خلالها هزائمهم المحتومة في مجتمع لن يتغير.وهناك شخصية نمطية تمثلت في حارس المقبرة الذي ظهر للأبطال الثلاثة حينما عادوا إلى المقبرة وصدمهم بأن قبورهم لم تعد لهم فقد شغرها أموات أخرون غيرهم لكن هنالك فرصة هي الدفن الجماعي في قبر واحد هو لعاهرة حينما قال لهم قبر عاهرة خير من الموت في العراء وهذه العبارة ربما حملت الكثير من المعاني وهي الرضوخ والخنوع اللذين رفضه أبطالنا فتوقف حينها الزمن وتجمدت حركة الكائنات وتحول الثلاثة إلى تماثيل يستظل بها العابرون والظل هنا هو الحقيقة الحاضرة الغائبة حقيقة التغيير التي ربما يلتفت لها البعض وربما لا يلتفتون بل بدلا من ذلك يتبولون عليها وهذا دليل الرفض، رفض التغيير لمجتمعات جمدت فكرها وظلت متمسكة بالقديم البائد.والحارس يشير إلى قضية عامة وهي تواجد أداة السلطة التي تستعمل القمع لجعل خياراتك محدودة بل كما أرادتها هي للشعوب في كل زمان ومكان.

-الحوار..

من المعروف بأن المسرحية لا تأخذ شكلها النهائي إلا عن طريق الحوار فهو نمط تواصل. والحوار الدرامي كلام ذو حساسية مفرطة ،دائم التحول والتغيير والاختلاف.وهو ينقسم إلى حوار خارجي وداخلي وقد استخدم حسام الرشيد كلا النوعين. فاستخدم الحوار الخارجي بين أبطال المسرحية أما الداخلي فقد لجأ إلى استخدام الحوار الجانبي مثل الذي تحدث به منيف خلال حفل تأبينه حينما قال هذا اللعين لم أره في حياتي...الخ وقد جاء هدفه كتعليق ساخر على كلمة المدعو بالرفيق سالم.

والحوار يعتبر ضابط إيقاع النص وأهم خصائصه التكثيف وقد استخدم الكاتب هذه الخاصية حيث كانت معظم حواراته مكثفة إلا ما استدعى الإطالة في سبيل تحقيق رسالة أراد إرسالها عن طريق هذه الإطالة.

ومن وظائف الحوار التي نجح الكاتب في توظيفها قدرة حواراته التي أجراها على لسان أبطاله على تطوير الحدث ودفعه للامام فلا يبقى الحدث ستاتيكي ثابت في منطقة واحدة.

وحوارات حسام الرشيد خالية من التعقيدات اللغوية فكانت فكرته التي أراد إيصالها واضحة لا لبس فيها.

وقد لاحظنا بأن الحوارات كانت ملائمة لطبيعة الشخصيات وأبعادها المادية والاجتماعية والنفسية فناصر بفكر فنان ومنيف بفكر رئيس حزب وحمدان بفكر أستاذ جغرافية وانعكس هذا الفكر على حواراتهم.

-الصراع..

الصراع ينقسم إلى خارجي وداخلي. أما الخارجي فقد يكون بين الشخصية وبين قوة خارجية أحيانا يكون المجتمع بقوانينه وعاداته أو السلطة القامعة أو بين أشخاص ،ومسرحية موتى في إجازة كان الأبطال يصارعون المجتمع ككل والظلم متمثل ببقية الشخصيات الثانوية..

وقسم آخرون الصراع إلى ساكن ،صاعد،واثب ومرهص.. ونلاحظ بأن الصراع حسب هذه التقسيمة ينتمي إلى القسم الأول وهو الساكن حيث كان رد فعل الأبطال الثلاثة مقابل فعل الأشرار ضدهم أقل وهنا لم نشعر بوجود صراع والسبب في اختيار الكاتب لهذا النوع ربما ليبعث لنا برسالة مبطنة بأن الواقع بظلمه وتخلفه هو أقوى من قدرتنا على التغيير وهذا ما كان في المشهد الأخير حينما تجمد الأبطال وتحولوا إلى تماثيل. وهذه النهاية قد تكون صادمة للمتلقي لكنها نهاية واقعية بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

وأخيرا بقي أن نقول بأن حسام الرشيد نجح في تجسيد إشكالية ممتدة تصلح لكل زمان ومكان وهي إشكالية العجز عن تغيير الواقع لأن كل واقع فيه أشخاص يتسلقون على ظهر الآخرين متخذين منها سلالم للارتقاء إلى أعلى المناصب والوصول إلى المال ولو على حساب كرامتهم وقد عبر حسام الرشيد عن معاناة النخبة أصحاب المبادئ الثابتة التي لا يغيرها الزمن مهما جار.

***

بديعة النعيمي

 

أشرنا في المقال السابق إلى محور المرأة في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée " للأديب الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، وأنها كانت تدير الكثير من الأحداث، أو تدور حولها الأحداث الكثيرة بالأحرى. فهي، منذ بداية القِصَّة، تبدو أوَّل محرِّك للأحداث، وهي أوَّل من يقف معه البطل (صادق) في صراع. أحبَّ (سميرًا) لكنَّها ابتعدت عنه لمَّا علمتْ أنَّ العَوَر سيُصيبه. وكانت السيِّدة سمير نفسها تُوقِع الشِّقاق، بل العِراك، بين صادق و(أوركان)، الذي ينافسه عليها، والذي استطاع أن يخطفها من صادق ليتزوَّجها. ثمَّ لمَّا اقترن (صادق) بفتاةٍ أخرى، هي (أزورا)، لم تكن خيرًا من (سمير)، ولا حظُّ صادق معها خيرًا من حظِّه مع الأُولى؛ وقد انقلبت عليه في التمثيليَّة التي اصطنعها مع صديقه (كادور) ليكشف صدق وفائها، حتى كادت أن تجدع أنفه لتشفي كادور- الذي مثَّل معها دَوْرَ الحُب- من ألمه في الطحال.(1)

ويأتي محور العِشق أيضًا وتأتي المرأة في سياق ما دار بين (صادق) وسيِّدةٍ حسناء، كانت تربطه بها علائق الإعجاب المشوب بعلامات الودِّ والرِّضا، لكنَّ الصروف تقضي عليهما بالسجن، بسبب مكيدة دبَّرها الحسود عند الملِك.(2) غير أنَّ جذوة الودِّ بين (صادق) والسيِّدة الحسناء تخبو، لتشبَّ نار عِشقٍ ملتهبةٍ بينه والملِكة الفاتنة (أستارتيه)، التي كانت أروع جمالًا من (سمير)، وأبرع حُسنًا من (أزورا). وسيُخلِص لها (صادق) وتُخلِص له، إلى أن يحظيا في نهاية القِصَّة بما رغبه أحدهما من الآخَر.

وفي أثناء هذا تظهر المرأة عاشقةً أو معشوقةً في كثير من المَواطِن. فقد عُرِض موقفٌ نبيلٌ في يوم العيد لأحد المحبِّين، ضِمن المواقف النبيلة التي كانت تُمنَح جائزة (بابل) من الملِك. ويحكي ذلك الموقفُ قِصَّة «فتًى كان يُحِبُّ فتاة أشدَّ الحُبِّ، ويريدها زوجًا، لكنَّه عَلِمَ أنَّ لها مُحِبًّا يكاد يُهلِكه الحُبُّ؛ فنزلَ له عنها. ثمَّ لم يكتف بهذه المكرمة وإنَّما أدَّى المهر من ماله الخاص.»(3) ثمَّ عُرِض موقفٌ آخَر: لجنديٍّ اختطفَ الأعداءُ أُمَّه وخليلته، فمال إلى إنقاذ أُمِّه، برغم حُبِّه الجارف لتلك الخليلة.

وكان يَرِد على (صادق) في القصر، كلَّ نهار، سيلٌ من الحسناوات اللاتي يخطبن ودَّه، ويُعرِبن عن إعجابهنَّ وكَلَفهنَّ به. حتى امرأة الحسود سعت في سبيل التقرُّب من صادق ما استطاعت، ثمَّ كادت له وللملِكة عند الملِك حين أحسَّت بما يتجاذبهما من عاطفة، وأحرقتها نيران الغيرة.

وتطالعنا المرأة مرةً أخرى في «المرأة المضروبة»؛ تلك المرأة المِصْريَّة (ميسوف) الجميلة، التي أنقذها (صادق) من يدَي حبيبها، الذي كان يضربها بدافع الغيرة أيضًا.(4)

 وتُطالعنا المرأة كذلك في بلاد العَرَب، في شخصيَّة (المونا)، أو (المُنَى)، تلك الأرملة الشابَّة التي كان القانون يفرض عليها أن تُحرَّق بعد موت زوجها، كما هي عادة العَرَب حينذاك، في زعم (فولتير).(5) وقد استطاع (صادق) أن يُغري الشابَّة بالحياة ويثنيها عن الغرور الذي كان سيدفع بها إلى النار. بل لقد أحبَّته ودعته إلى الزواج بها، لكنَّه كان مشغول القلب بالملِكة (أستارتيه). وقد أنقذت (المُنَى) صادقًا من براثن الكهنة، الذين سخطوا أشد السخط لِـما سمعوه من تحريضه النِّساء على الخروج على هذه العادة الشنيعة. بل استطاعت بذكائها أن تفضح أسرار الكهنة المستفيدين من تحريق النِّساء، وأن تُفسِد هذا القانون في بلاد العَرَب، وتزوَّجت أخيرًا (بسيتوك)، التاجر العَرَبيِّ الذي كان اشترى صادقًا من (مِصْر)، بعد أن حكَمَ عليه المِصريُّون بالرِّق، عقب موقفه الآنف ذكره مع المرأة المِصْريَّة (ميسوف).(6)

وهكذا، كان (فولتير) يردِّد، كغيره من قَبله ومن بَعده، ثقافة المَثَل الفرنسيَّ "فتِّشْ عن المرأة Cherchez la femme". وهو مَثَلٌ ينحدر من ثقافةٍ عالميَّةٍ قديمةٍ جِدًّا، تَنسِب كلَّ الخطايا إلى (حوَّاء). تعود إلى القِصَّة التوراتيَّة العتيقة حول حكاية (حوَّاء وآدم) في الفردوس، كما وردت في "العهد القديم"، وقبل ذلك في الأساطير السومريَّة.(7) ويظلُّ آدم- وَفق صورته في تلك الثقافة الذكوريَّة الظالمة- حمَلًا بريئًا، وغبيًّا في الوقت نفسه، تعبث به المرأة، إنْ في الأرض أو حتى في السماء!

ولحكايتها بقايا مثيرة نتطرَّق إليها في الحلقات الآتية من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

....................

(1) يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 20- 21.

(2) م.ن، 31- 00.

(3) م.ن، 36.

(4) يُنظَر: 58- 00.

(5) هذه العادة البراهميَّة الهنديَّة لم تُعرَف في عادات العَرَب، وإنَّما عُرِف أنَّ بعض أجلافهم كانوا يئدون بناتهم خشيةَ الإملاق أو العار.

(6) يُنظَر: فولتير، 67- 80.

(7) يُنظَر: سِفر التكوين، الإصحاح الثالث؛ وكريمر، صمويل نوح، (1980)، من ألواح سُومَر، ترجمة: طه باقر، مراجعة: أحمد فخري، (بغداد: مكتبة المثنَّى)، ، 242- 249.

 

دراسة في الأعمال الشعرية للشاعر حسين عبد اللطيف.. الفصل الثالث ـ المبحث (1)

مهاد نظري:

العدم أو المعدوم هما صفتان لا يتصف بهما من يجانب (التكون - التغيير) والانتقال بهما إلى عالم من مداليل الشعر.كما هو الحال في صفات (الأضداد)فلا يمكننا وضعهما جنبا إلى جنب في مساحة فضائية موحدة من الاحوال والأنسنة في قرائن الملفوظات الغير عاقلة.فالعدم ليس فيه بذور أو جدوى من أوجه الإمكان في مسار التصور والتكوين النواتي إطلاقا، لذا لا يمكننا إطلاق التسمية العدمية حول شواغل مدلول شعري، وإلا أصبحت القصيدة عبارة عن مجموعة من الغمائم الفارغة.فلابد إذاً من وجود (الممكن ـــ الإمكان ـــ الذات النواتية) فالقضية القائلة من قبل بعض النقاد بأن هناك حالات عدمية، فهذا بالأمر الممكن، ولكن لا يمكن لهذه الحالات اكتساب صبغة عدمية كلية على مجمل تفاصيل النص الشعري.فالممكن هو المعدوم الذي يتهيأ أن يوجد أو لا يوجد؟والمعدوم بدوره ممكنا أيضا ولكن في حدود مؤشرات موضوعية معدومة أيضا.إذن يمكننا القول حول بعض من نماذج شعر مجموعة(لم يعد يجدي النظر)كونها حالات شعرية جعلت تستدعي المعدوم في صفات من يحمل الإمكان، وهذا الأمر من جهة ما جائزا، لأن الفاعل المنفذ - الدوالي، موجودا في تمفصلات الممكن المتخيل، وإذا صار الأخذ بالممكن دون وجود عدمية الفاعل نفسه، فلابد لنا من التوغل في أسباب ذلك الفاعل ومن خلفه المعدوم في اللاجدوى من التكون والتفاعل في تحولات الإمكان الوصفي والقولي في خطاب الدال.

ــ الذات المؤولة وحوادث الممكنات العدمية:

بيد أن من البين من خلال الممكنات الاحوالية حالات الاستدعاء التلفظية في حدود حقيقية معقولة بالقياس إلى كون جوهر حقيقة المادة الذواتية، هي مسمى صوري ووسائطي لا توجد مقاديرها إلا في (الحدوث ــ الحادثة ـــ الزمن) وإذا كان وجود الذات ممكنا كحادثة مسبوقة بالأعراض والكيفيات، فلابد لها من التسليم بضرورة شرائط المصير.الشاعر حسين عبد اللطيف كما صادفنا الأمر المشار إليه تحديدا، هو من أبرز ممكناته شعرا حيث إحداث هذه الأوضاع من موضوعة (اللاجدوى ــ العدم ــ التيه) وصولا إلى جوهر المعنى الكامن في هوية قصيدته (أصرة) ضمن مختارات ديوانه موضع بحثنا:

بين الطريق والطريق

القدم

بين الغصن والشجرة

برعم

أو

ورقة

بين حياتي و ـــ النجف ـــ

خط مستقيم ./ص188

بإمكاننا ملاحظة الاتفاق الضمني والعلني بين عمومية الدوال، وما يترشح منها من خاصية ذاتية ملموسة في إطار حسية الذوبان في المعدوم من خلال دلالة العنونة المركزية الدالة ـ علائقيا ـ ب(أصرة ) ويبدو أن ما تصدرت به الدوال الأولى من النص، كوحدات تجمعها ملمزمات علاقة أفضائية على نحو ما من ملفوظ السياق.في هذا المعنى من مؤديات الدوال، تنحسر عيانية التلفظ بما يخولنا على معرفة أن المشار إليه عبر ضمير المتكلم، هو الشاعر نفسه، ذلك عندما أجاز لذاته العبور المستقيم الذي لا تحد منه العوائق والعلاقات بشكل ما، نحو موضع حتفه المشار إليه بـ (النجف) والمقصود بهذا الدال ليس المدينة ذاتها، وإنما حول وجود المقبرة فيها. إن القراءة المجملة للنص لا تعني لنا بعدا مخصصا حول الحديث عن الأثر النصي من ناحية إبداعية، بقدر ما تحملنا موجهات مبحث دراستنا حول وجود مستوى خاص من الخصوص حول ثيمة(العدم ـ المعدوم)وما جاء به النص موضع نموذجنا القرائي، خير دليل على أن الشاعر ينطلق نحو العدم من زاوية الاتفاق الممكن، إي من منطلق حدوث الأمر أو عدم حدوثه في أي مرحلة زمنية ما، مادام هو مسلما وجوده بالدلالة القاطعة كونه لا يفصله عن الموت أية حاجب ما، حتى وأن اختلفت الأسباب والمواقيت في ذلك الحدوث.

1- المدلول الشعري بين التزامن الممكن والتلائم الدلالي:

من الروابط البديهية في شعر حسين عبد اللطيف، أن تكون المحصلة الإنتاجية ــ النصية، على مستوى من المقايسة المتزامنة بين فاعلية التلفظ والبرهنة القرائية المخصوصة في العلاقة والشكل والحيز.وذلك تحديدا ما وجدنا لمثله في شواهد قصيدة (خطاب إزاء خطاب)والمقصود من وراء هذه العنونة، هو التحقق الامتثالي بين الأوضاع الدلالية:

يطلق البحارة:

لحى غلايينهم

دون أن يفطنوا

إلا أن الدخان ـ هو الآخر ـ

يطلق حكمته الأخيرة

حول المصير . / ص189

نحن هنا حيال ظاهرة شعرية تشتغل على المزامنة في التمثيل والمماثلة، كوظيفة موقعة في مسار المشابهة والمقابلة دلاليا: (يطلق البحارة ــ الدخان ــ المصير) وهذه الوقائع التلفظية ذاتية في المختزل والموجه والتحفيز.غير أنها أيضا تنطلق من ذات (جهات الموضوعة) ولكنها تتعارض من حيث الخاصية في المحكي.أن الكتابة في شكل هذا النص عملية إنتاجية نظرا لوضع المنتج الدوالي في وحدات مقابلة من الوصف والرؤية: ولكن يا ترى هل أن مجمل متعلقات الثيمة العدمية مختزلة في النص نفسه؟الجواب يكون بالتوكيد الممكن من كون شاغلية جمل (الدخان ــ هو الآخر ــ يطلق حكمته الأخيرة ــ حول المصير) إذاً الصفة الملوحة في غاية المحصول (الدخان ـ المصير) غالبا ما يشكل قيمة ممكنة نحو المصير العدمي، لذا فدلالة جملة (لحى غلايينهم)هي بحد ذاتها شكلا نحو تبخر الآمال والأوضاع المؤملة في رؤية البحارة، الأمر الذي جعل خطاب النص يقابل خطابا عدميا مصدره مجهولية المصير.

2 ــ تفكيك الجاذبية ومغامرة إبطاء الاختلاف:

إن في أغلب الأعم من تجارب قصائد ديوان (لم يعد يجدي النظر) ثمة اكتمالات (ميتا حداثوية) في ما يتعلق و مجرى مكونات الدال وشيفرته ووظيفته.وهذا الأمر بدوره أيضا ما ينسحب على أعمال الشاعر الأخرى وخاصة رائعته الكبرى (نار القطرب) التي من خلالها إكتملت تجربة حسين عبد اللطيف كشاعرا على حد تقديري النقدي.أردت أن أقول في هذا الفرع من مركز مبحثنا، إن الأكتمال البنائي (الشكلي ـ الموضوعي ـ الدلالي ) في مشغل قصيدة مجموعة (لم يعد يجدي النظر) كانت اعتمادا على المخيلة الفعالة التي من خلالها، بدا المنتج الدوالي في نص الشاعر، يحتل لذاته مراتب حضورية تتوغل بعيدا في سطوة الآفاق النصية .من خلال قراءتنا إلى قصيدة (إحالة) تعرفننا على موضوعة الإثبات وكينونة التجاوز والانخلاع من منطقة النمط الشعري السائد، لذا وجدنا عبر محاور الدوال ثمة متماهيات في الرؤية الأقرب إلى الفن السريالي، ولو أن الشاعر قد أشار عبر يافطة نصه ب (إحالة) ما يقصد به الاستدعاء في الأمر عينه وليس في شكله.إذ نقرأ هذه المقاطع من النص حتى تتبين لنا أوجه الصورة أكثر سعة وصدورا:

من بين ما يعنيه السلم:

الهرب من الجاذبية

لا مناص من الموضوع

إن لم تصدقوا...

اسألوا الجناح

عن القفص ./ص192

ربما إن التفصيلات في دوال النص، كانت تتطلب من الشاعر نفسه أن يكون أكثر تبحرا من مشاعية هذه المفردات الإخبارية.على أية حال، أقول أن حجم التماهي بين (السلم ـ الجناح ـ القفص)هي ليست بالإحالات تماما، بقدر ما تعنيه حالات العلامة السيميائية من مرمزات ذات أوجه متغايرة، ولكنها من ناحية ما بدت متوافقة في الحضور المعادل.الشاعر ومن خلفه الأنا المتخيلة تسعى إلى رفع القيد عن وجوده الآنوي، لذا فهو يرجح لنا في جملة(إن لم تصدقول..؟)فهو يواجه سطوة أغلال الواقع بمحاولة الاستئثار بذلك ـ الشاهد الغائب ـ في مزاياه ومسمياته، ليتوحد مع جدلية (حرية السلم )من قيود سلطة الأرضي، بما يعادل دليل المقاربة في جملة (أسألوا الجناح ؟)وهذان الموقعان رغم تفاوت المشبه والتشبيه بينهما، فللضرورة بينهما علاقة معادلة ومقارنة على حد ما.

ـ استدراج النص إلى غواية شعرية اللاجدوى:

أنني ميزت من خلال دراسة شعر حسين عبد اللطيف وأدركت بأن الكتابة لدى الشاعر نفسه بوصفها حادثة (هيرمنيوطيقية)يقوم بها زمن الدال عبر هواجس فاصلة بين الأوجه الذاتية ومؤشرات العلامات التي هي بحد ذاتها وقائع أحوالية ولكنها تصب في مجرى فعالية (التأويل ـ المؤول) إذ يرتبط المعنى في أحياز شواغل الدلالات في مرجحات غنية بالمضمر والمرمز وسيكولوجية المنضوي تحت المقاصد والأغراض الأكثر غورا في غواية (العدم ـ اللاجدوى) أو من خلال غائيات مرتبطة بمقادير تمتزج في مساحة تشكيلية متمحورة من بؤرة الأنا الشعرية عبر صوتها المتلفظ تحققا وحضورا متحولا.نقرأ ما حلت بمجال قصيدة (بنا حاجه) حيث الخلفية الصراعية المحتملة في كشوفات أغراض الذات الآنوية:

بنا حاجة

بنا حاجة إلى النوم

إلى نوم طويل ونسيان

إلى عزلة في الجبال وهرب

إلى هرب./ص 204

1 ـ فضاء اللاجدوى وعزلة توطين الحلم:

يعود ـ فضاء اللاجدوى ـ مجددا في مقترحاته الإظهارية في مستهل هذا الفرع المبحثي، لنواجه منه ذلك النموذج الشعري عبر جملة تفعيلات في مواضع ومنازع مرهونة بوعي اغترابي يسعى إلى توطين الماهية الحلمية في منظور الرؤية إلى ثنائية خاصة من(التداخل الذاتي ـ التخارج الذاتي)وعيا تاما يرتقي بدوال الممكن صعودا إلى الالتحام بالإمكاني المعادل، وذلك عبر مفتتح جمل النص (بنا حاجة ـ بنا حاجة إلى النوم ـ إلى نوم طويل ونسيان)وتضع المعادلة الابتدائية من المعلوم الإمكاني، ضوءا في الانتقال من فضاء الاستتار الأحدي في الذات المتلفظة (بنا حاجة) وصولا إلى مسار الدلالة في طبيعة مكونات الحاجة في ذاتها (بنا حاجة: إلى النوم ـ إلى نوم طويل ـ ونسيان ـ إلى عزلة ـ في الجبال ـ وهروب إلى هروب) وهنا تبتدى مقاصد المتن النصي خضوعا شبه تام إلى منظومة فعلية من التلاعب في استدراجات المشهد، ناهيك عن صوغ أحواله ضمن حدود الأداء الفعلي وبالجمع وبالمعطى الدوالي المتكرر في تفعيل دور لفظ (بنا حاجة) امتدادا نحو التغييرات والاستبدالات (النوم ـ النسيان ـ عزلة ـ جبال ـ هروب ـ هروب) إذ تتخلق وحدات الدال عبر مراحل تحول تدريجي، وتفتح لذاتها كشفا أنزوائيا مشيعا في مناخ النص وضوحا عاليا بالمسلمات الذاتية اللامجدية من التواصل النواتي عبر الزمن والمكان والذات التي تحيا في مقتضيات وجودها الداخلي بمعطيات خائبة خارجيا ومسلوبة من آهلية وجودها الحق:

أو

ترك العشب..

ينمو..

على الأثر./ص204

ولعل في هذه الوحدات ما يفسر لنا، مدى انسحاب الذات الشعرية عن محيطها الابتدائي الأولي، بيد إنها لا تعول بهذه النهاية حتى على جدوى أن ينمو العشب بصورته الطبيعية والفطرية، وأنما من خلال فعل الأثر المخلوع عن الذات في جملة موزعة ما بين اللاجدوى والعدم الأقصائي إلى أقصى غاية من الحدود الصفرية.

2ـ تصادفية الأفعال ودينامية اللحظة المفارقة:

يشتغل المنطق الشعري في معادلات الشاعر الكبير حسين عبد اللطيف على النحو الذي تبدو من خلاله معالم الأحوال والتحولات القصدية والغرضية والغيرية، وكأنها خاضعة في سياقات مكتفية بالاستفهام والاستنكار والرفض الوجودي، مما جعل أمر تشكيلات بنياته الدواليةفي مجموعته الشعرية (لم يعد يجدي النظر)موضع مباحثنا، وكأنها أطروحة صورية في حالات اصطياد (الإحالة ـ المفارقة ـ الأضداد ـ اللامتشابه في التشابه) أي أنها كما لو كانت جملة الأحوال اللامتكاملة في شرائح الأفعال والأوضاع التصويرية، أو إنها من جهة ما بدت في ذاتها هبوطا صاعقا بالمختزلات العكسية للزمن وبيان الموضوعة.نقرأ هذه النماذج المقطعية من ذات النص المصنف بهوية الهيئات الرقمية:

لم يعد يتناسل إلا السر

لم يعد يخضر إلا الخريف

لم يعد يستغلق إلا البرهان

لم يعد يتنمر إلا الذهب

المصادفات

وحدها

ما يترتب الآن!./ص205

المراد هنا من خلال أفعال الجمل الشعرية، هو إظهار إن الفعل الأحوالي، إذا أريد منه أن يكون شيئا آخرا، فهو لا يخلو من أحد اعتبارين: أما أن يكون بالفعل شيئا آخرا، أو بعد لم يصير شيئا آخرا، وبالاعتبار الأول يسمى بالفعل الجازم بوصفه تشكلا من تشكلات التفارق، وبالثاني يسمى التلائم في حدود النسبة النقيضة، أي أن يكون لنقيض المحمول بالجملة ما هو مصدق باليقين المفارق، أي إن الرؤية الشعرية بمثل هكذا مقامات وأحوال، تشكل المعرفة بوجود الامتناع، حفظا للمعنى المحمول إمكانا أو نقيضا متماثلا.الشاعر قد أختار هذه الحركية المتشكلة بالإمكان الجازم، حتى يتسنى له ترجيح الواقعة الكونية إلى محض تراتبية تصادفية ليس إلا.

ـ تعلق القراءة:

حاولنا في مبحث دراسة كتابنا في هذا الصدد من الاستدلال والتحويل والتأويل، الكشف عن تضمينات الدالات التي تؤلف بدورها أهمية النص الشعري في عوالم الفذ الكبير حسين عبد اللطيف، وإذا كنا قد سلكنا في مبحثنا هذا جملة دلالات تختص بـ(الممكن المعدوم لا يعد ممكنا بالإمكان؟)فذلك لأن آليات وأحوال ومقاصد قصيدة هذه المجموعة للشاعر، أكثر إيغالا في الأواصر(الميتا شعرية) نظرا لأن محفزات المخيلة لدى الشاعر راحت تصل بصفة الممكن العدمي إلى ملامح جعلت تسعى إلى خلق من المعدم دالا إمكانيا ذات موجهات مدلولية دالة تمثلا وإنجازا.ولكننا عندما قرأنا بعض من نماذج هذه المجموعة، لاحظنا العلاقة القصدية بالمعدوم الممكن، حيث من الصعوبة الإيحاء به كإمكانية محسوسة بالإيهام الإمكاني، ذلك لأن الدلالات الشعرية بوصلتها الاستعارة والمجاز والكناية والتورية والإحالة والتدوير، لا أن تكون مرسلا بالقيم العدمية عبر مداليل زوالية ذاتية مرهونة بالإمكان العدمي الذي لا يجوز الأخذ به كقيمة علائقية موضوعية شعرية خصبة.ولكننا بإمكاننا القول في الوقت نفسه إن بعض من نماذج شعرية المجموعة، قد سعت من جهة ما إلى توطين الذات العدمية في حدود حلمية وضنية وتفارقية فنية، إذ بدت الذات الشاعرة من خلالها تطرح العلامات والرموز والأسئلة في أتون أنساق موفقة من علاقات القرائن والبدائل المتواترة في المعنى والصورة والدلالة الضمنية الأكثر بروزا وتشخيصا في الكشف عن مأدبة الأضداد ومكابدة الواقع المعطى في قشور حياة الشاعر الانطفائية من كل رونق المقدمات الحياتية الهانئة والمبهجة، لهذا الأمر وجدنا أغلب قصائد أعمال الشاعر، تتصف باللوعة الفقدانية والحسية بالمعدوم من كل زوايا حياة الشاعر الضيقة الخناق والضاجة بأسئلة الأعتراضات والشجب والاستنكارات، فيما يبقى التعويض عنها بالمزيد من الأصوات والبنيات الشعرية القادمة من قعور ذاتية تفترض في خطابها المفردة العدمية، وتلحقها بقرائن من الذوبان في فضاءات من اللاجدوى والقنوط والمفارقة الفنية الدالة.

***

حيدر عبد الرضا

 المغزى الدلالي الكامن وراء عنوان المجموعة القصصية «من وجدَ نعل غاندي» للقاص حسين كامل، لا نجده في قصة تحمل هذا العنوان ضمن المجموعة التي صدرت مؤخراً عن دار (بغدادي) منتصف عام 2022، العنوان يحيلنا إلى حادث منسوب الى الزعيم الهندي المهاتما غاندي، ربما تبدو قصة الحادث غير واقعية، إنما نسجتها المخيلة الشعبية لتأكيد زهد غاندي بممتلكاته الشخصية، تروى القصة عن فردة حذاء فقدها غاندي، بعد أن كان مسرعاً فأراد اللحاق بالقطار، وأثناء ذلك رمى الفردة الثانية بعد أن استقل القطار، فتعجب أصدقاؤه عن مغزى ذلك، فقال: أحببت للفقير الذي يجد الحذاء أن يجد فردتين يستطيع الانتفاع بهما.

ثمة أسئلة يضعنا القاص في مواجهتها تبدأ في البحث عن معنى الفقدان، والخسارات، ومكمن السعادة والتضحية، كيف لنا ان نبتكر الفرح للآخر، تلك عناوين تفصح عنها أغلب قصص المجموعة، وإن جاءت بمسميات أخرى، لكنها تعبر عن رؤية فكرية وموقف شمولي من قضايا عدّة، اختزلها القاص في هذا العنوان.

إن تأمل المصير الإنساني، ومراجعة قضايا الموت والعبث واللامعقول وسواها، ما يشير الى تحقيق الاستثارة الذهنية والنفسية المتأتية من الإحساس بالعالم الذي يعيشه القاص، موحياً اليه بالمعاني والدلالات الخفية لمفردات لغته في وصف مشاهد الموت والعذاب وهي تحمل أكثر من معنى، بحكم اختصاصه المهني في الوسط الطبي الذي يشهد فيه عشرات الحالات من الألم اليومي، (قصة: أيقونة زرقاء، وقصة: استراتيجية الجراثيم) فضلاً عن حالة اليتم التي لازمته مذ كان صبياً، لعل هذا الحزن يعبر عنه بالعبارة التي تصدرت المجموعة (إلى أمي التي ماتت بالتدريج، وهي تمحو الحنين من حياتي). حتى كأنها ما تزال الى جانبه، وأن صوتها إذ يرنّ بخاطره، يلقي إليها يديه في صمت، يحس بأنها تستفيق لديه في لهف تملأ وحدته.

يعتمد القاص في تتبعه لأحلام شخصياته على لغة الوصف الموحية، واستخدام ظلال الصور وألوانها، ما جعل من دلالات الحدث القصصي الرمزية أشد وضوحاً من دلالالتها المباشرة. في قصة (الفأر الذي يأكل الكلمات) تحتل الفئران بيته تقرأ الكتب وتقرضها، الفئران تخلع الحروف من الورق، وتأكل اللغة، ليس كل لغة بل اللغة التي تذكر في نهايات الكتب. وقصة (بذور مصرية في بطن عراقية) تحكي عن امرأة تبتكر طريقة في اكتشاف المرأة الحامل، أن تتبول على بذور الحنطة والشعير، فإن نبتت فذا مؤشر للحمل. وفي (أناس المزاريب) مخلوق ينبش مزاريب الناس، كنبّاش في استخراج مخاط الحياة، قصة (ظلمة أديسون) مشحونة بالغرائبية واللامعقول، راضي بائع الكبّة يستيقظ بعد نوم عميق ليجد نفسه رئيساً للوزراء، يطرح أمام وزرائه أزمات نومه المزعجة: الوسادة عالية، أحلامه مليئة بالكوابيس، يدعوهم للتخلص من الليل، يصرخ ليقبضوا على أديسون مكتشف الكهرباء، تبرع أحد حراسه أن ينام بديلاً عنه وهو من يحلم، بينما الحراس يلتهمون ما تبقى من كبّة، ظل السيد راضي نائماً برأس غيره. هذا اللون من التعبير في الفن القصصي العراقي يبدو غير بعيد في تاريخه، إذ شهد العقد السادس من القرن الماضي الانطلاقة الأوسع والأشد إيغالاً وتوسعاً في اعتماد الحلم، أو ما يعرف بالأسلوب السيريالي في السرد، الذي تكاد تكون معالمه واضحة في أغلب قصص حسين كامل، تسوقه إليه ميوله الخاصة، وإحساسه بواقعه وتجربته الحياتية، فهو مطبوع بأسلوبها، لا مؤدلجاً في اتجاهها.

إن قصصا مثل (لوحة لرؤوس كل الحيوانات) تصور عالماً عجائبياً صرفاً: هبطت عليّ حمامة صغيرة، نقرتني، حملت جسدي، وقعت منها. في قصة (أطراف): في الخنادق البعيدة عند الحدود العراقية، يبحث عن ساقه الأولى، عاد بسيارة حمل كبيرة، محملة بالسيقان المنسية والمتضررة، وفي قصة (دار): تحول أبي إثر تعب كثير الى (راء) معكوفة بعد أن كان (ألفاً) واقفة!! وقصة (سارق الأنف) تتحدث عن حشرة عنود ملونة وقفت على أنف امرء، يحاول طردها، أو القبض عليها لكنها سرقت أنفه واختفت في حفرة وجد فيها عشرات الأنوف. هذا الاتجاه يبثه القاص في طيف واسع من قصصه، في استخدامه تقنيات الحلم، والتمازج بين الحلم والواقع أحياناً، بين عالم الأحياء والأموات، وتبادل الأدوار في عرض المشهد القصصي، سواء عن طريق الحوار أم السرد، ثم تتابع الصور، وتداخل الأحداث، والأصوات، وتغريب الواقع ليجعله ماضياً، وبعض صوره تأتي حادة ذات وقع صادم.

قصة (نبؤة الغراف) تنمّ عن موهبة طيبة، وتمكّن فني ضمن لها القاص بناء عالم قصصي نامٍ بعفوية وانسيابية، القصة عن صابر الذي يهدد أمه بالهرب منها، بعد دفع أجور حليب رضاعتها، أو تعويضها بأكياس حليب (المدهش) فغاب عن البيت، وجدوه غريقاً في نهر الغراف، كانت الأم ترقب الضفاف تسمع ضحكات الأسماك التي ترقص تحت سطح الماء، ظهرت جثة صابر، هشّة مكفنة بالعشب، حين كشفت الأم ثديها الأيسر أمام النهر لتعرف أجور حليبها! هذه القصة في اعتقادي من أجمل قصص المجموعة، بلغتها المكثفة، ووسائلها التعبيرية تقدم لنا نموذجاً من القصص ذات المستوى الفني المعبر عن أزمة الإنسان وصراعه ضد كل ما يشوه إنسانيته، فهذا الإحساس الطاغي بالموت يبدو هاجساً يتعدى المظاهر الخارجية، يهيمن على ذات القاص إلى حيث المشاعر المأزومة بمعنى فقدان الأم، هنا يبدو القاص بحسه المرهف وشفافيته، يرتقي عن المستوى المباشر في السرد إلى حيث تصبح القصة مثل نور اليقين المنسل من ظلمات النفس وعتمتها السابقة. ومما يعمق الإحساس بسلبية ذلك الجو الذي تعيشه الشخصيات القصصية، لجوء القاص إلى تصوير مشاعر الضيق الدائم والإحساس بطغيان الخوف من المستقبل،

ما تزال أمام القاص فرصة أكبر لتطوير أدواته السردية، (اللغوية والتقنية) ولكي تنضج تجربته في الكتابة لا بد من مراعاة للسمات الجمالية والفكرية في النص، دون الاستغراق في الغرائبية في انثيالاتها وتداعياتها، والتنوع في أساليب الكتابة.

حسين كامل يمتلك من الصدق والمخيلة والشجاعة، واللغة المفعمة بالايماء، الغنية بالإيحاء الدال، ما يؤهله لأن يكون قاصاً واعداً متميزاً بين زملائه كتاب القصة الشباب.َ

***

جمال العتّابي

صدرت الطّبعة الأولى لهذه الرِّواية في عام 2003، والنُّسخة التي بين يدي هي الطّبعة الثّانية 2006 الصّادرة عن دار الاختلاف – الجزائر. في 151 صفحة من الحجم المتوسط.

"أنتَ رضعتَ من ثدي الذِّئبة، لذلك تستحق أن تتوسَّط التَّوأمين رُومُلُو ورِيمُو في حضن روما يا أَمِدِيُو!". ص 109.

تدور أحداث الرِّواية حول جريمة قتل في مصعد عمارة في ساحة فِيتُورْيُو في روما، القتيل هو الشّاب الإيطالي "لورانزو مانفريدي" المدعو "الغْلادْياتور"، الذي كان دائم الاعتداء على المهاجرين وإهانتهم. والمُتّهم المُشتبه به في هذه الجريمة هو المدعو "أَمِدِيُو"، والذي يكاد يُجمِع على براءته من ارتكاب هذه الجريمة كُلّ من عرفه من سكان العمارة، كانوا يعتقدون أنه إيطالي من الجنوب لإتقانه الحديث باللُّغة الإيطالية أفضل من الكثير من الإيطاليين أنفسهم. حيثيات التَّحقيق في هذه الجريمة تُظهِر الواقع العنصري وصراع الهويات الذي يعيشه المهاجرين - خاصة غير النِّظاميين - في الغرب وفي هذا النَّصّ السَّردي إيطاليا مثالٌ عليه.

في هذه السَّردية الشَّيّقة تتماس حقيقة شخصيات مختلفة الانتماءات والهويات والثَّقافات والمستويات الاجتماعية، يُقابلها "عواءات" الشَّخصية المحورية في الرِّواية "أَمِدِيُو":

* الشَّخصيات والعواءات:

- بارْوِيز منصور صمدي؛ لاجيء سياسي إيراني من شيراز. يعمل طبَّاخاً ويكره البيتزا كُرهاً لا نظير له. هو صديق أَمِدِيُو. يقول: "تعرفتُ عليه في إحدى المدارس المجانية لتعليم الإيطالية للأجانب في ساحة فِيتُورْيُو، كان ذلك عقب وصولي إلى روما بقليل. كان أَمِدِيُو متميزاً عن الجميع بمداومته على دروس سْتِيفَانْيا دون أن يُفوّت درساً واحداً... بعد شهور قليلة قرر أَمِدِيُو الانتقال للعيش مع سْتِيفَانْيا في شقتها المطلة على ساحة فِيتُورْيُو... كنا نلتقي يومياً تقريباً في بار سانْدْرُو لتناول الكَابُوتْشِينُو والشّاي." ص 15. " أَمِدِيُو كالمرفأ الجميل، نُبحر منه لنعود إليه دائماً. عندما أُطرد من العمل أجد نفسي كالغريق،وحده أَمِدِيُو يمد يد المساعدة." ص 18. "هذا مستحيل أَمِدِيُو قاتل! لن أُصدق أبداً ما تقولون... أنا متأكد من براءته. ما علاقة أَمِدِيُو بذلك المنحرف المقتول الذي يبول في المصعد؟ ". ص 22. "أنصحكم بالبحث عن الحقيقة. أَمِدِيُو ليس القاتل، لا يُمكن أن تكون له علاقة بهذه الجريمة. أَمِدِيُو بريء من دم الغْلادْياتُور. أنا حزين لغيابه، لا أعرف ماذا حدث له بالتّحديد لكني متأكد من أمر واحد: من الآن فصاعداً لن ينتبه أحد عندما أبكي في ساحة سانْتا مارِيا ماجُورِي... روما دون أَمِدِيُو لا تساوي شيئاً. أَمِدِيُو هو الملح الذي يُعطي لطعامنا المذاق الطّيب." ص 25.

- عواء أَمِدِيُو...

- بِنِدِتا إِسْبُوزِيتُو؛ نابوليتانية من نابولي، بوابة العِمارة التي اُرتكبت جريمة القتل في مصعدها، "ماذا تقولون؟! السِنْيُور أَمِدِيُو أجنبي! لا أُصدِّق أنّه ليس إيطالياً." ص 34. "حسناً ، إذا كان السِنْيُورأَمِدِيُو أجنبياً كما تدّعون، فمن هو الإيطالي حقّاً؟ بدأتُ أشك في الجميع حتّى في نفسي... إنه يتكلّم الإيطالية خيراً من ابني جِنَارُو بل أحسن من الأستاذ في جامعة روما أنْطُونْيُو مَارِينِي" ص 35. "يجبُ أن تعرفوا أن السِينْيُور أَمِدِيُو هو الوحيد الّذي يمتنع عن استعمال المصعد في هذه العِمارة" ص 36. "جاء للإقامة مع سْتِيفَانْيا. كم كنتُ سعيدةً بهذا السّاكن الجديد. هذه الحياة ليستْ عادلة على الإطلاق. قولوا لي: هل تستحق سْتِيفَانْيا مسّارو شاباً وسيماً مثل السِينْيُور أَمِدِيُو؟! هذه الشّيطانة تكرهني كأنني قتلتُ والديها، أنا أيضاً أكرهها، أتحاشى قدر الاستطاعة التّحدُّث معها." ص 37... "لا! السِينْيُور أَمِدِيُو لا دخل له في هذه الجريمة البشعة. أنا لا أعرف مَن قتل لُورَانْزُو مَانْفرِيدي؟ وجدته في المصعد مقتولاً يسبح في دمه. لم يكن "الغْلادْياتور" شخصاً محبوباً في ساحة فِيتُورْيو، أنا متأكدة أن سبب انحرافه هو البطالة. ما أكثر الشُّبّان الإيطاليين الذين لا يجدون عملاً شريفاً فهم مجبرون على السَّرِقة والكسب غير المشروع. يجب طرد العُمال المهاجرين وتعويضهم بأبنائنا المساكين." ص 38. "أنا متأكدة أن قاتل الشَّاب لُورَانْزُو مَانْفرِيدي هو واحد من المهاجرين." ص 40.

- عواء أَمِدِيُو...

- إِقْبَال أمير الله؛ من بانغلاديش، بائع في محل للمواد الغذائية. "السِّينْيُور أَمِدِيُو من الإيطاليين القلائل الذين يأتون عندي لشراء بعض المواد الغذائية. إنه زبون مثالي يدفع ثمن السِّلع نقداً ولم أسجِّل أبداً اسمه في دفتر المديونين... السِّينْيُور أَمِدِيُو إيطالي متميّز؛ إنه ليس فاشياً أي عنصرياً يكره الأجانب مثل الغْلادْياتور الذي كان يتعدّى على المُهاجرين ويُهينهم بِشتّى الوسائل. لقد نال هذا الحقير جزاءه. البوابة بِنِدِتا عنصرية كذلك، إنها تكرهني بلا سبب ولا تردّ على تحيتي بل تتعمّد إهانتي.." ص 49. "السِّينْيُور أَمِدِيُو الإيطالي الوحيد الذي يمتنع عن إحراجي بالأسئلة المتعلِّقة بالحجاب وحقوق المرأة والمُحرمات." ص 50. "السِّينْيُور أَمِدِيُو مُجرم فار من العدالة؟ لا أستطيع تصديق هذه التُّهمة. الشَّيء الذي يُحيّرني هو الخبر الذي تناقلته نشرات الأخبار: السِّينْيُور أَمِدِيُو ليس إيطالياً وإنما مهاجر." ص 51. "أنا لا أعرف أين هو الآن لكني متأكد من أمر واحد: السِّينْيُور أَمِدِيُو ليس أجنبياً ومجرماً! أنا واثق من براءته من دم الشّاب الإيطالي الذي لا يبتسم أبداً." ص 54.

- عواء أَمِدِيُو...

- إِلِزَابِتَا فَابْيانِي؛ مواطنة إيطالية من روما مُقيمة في العمارة. "إِلِزَابِتَا فَابْيانِي مُدمنة على شيئين إثنين: حُبّ الكلاب والتّعلُّق بالأفلام البوليسية." ص 69. "السِّينْيُور أَمِدِيُو هو الشّخص الوحيد المتسامح في هذه العِمارة. لم يتضايق من فَالِنْتِينُو عندما كان ينبح بل كان يُعامله بعطف وحنان." ص 61. "من قتل المسكين لُورَانْزُو مَانْفرِيدي؟ أنا لا أعرف، اسألوا الشُّرطة. أنا أعرف تمام المعرفة القتيل المأسوف عليه، كان صديقاً لابني ألبرْتو أثناء الطُّفولة والمُراهقة، كانا لا يفترقان كأنهما أخوين. جاء لُورَانْزُو للعيش مع جدّته العجوز بعد طلاق والديه اللذين خاضا صراعات قضائية محمومة من أجل اقتسام الميراث والحصول على حضانة الولد. لم تكن الجدّة قادرة على تربية حفيدها مما دفع لُورَانْزُو إلى التّخلِّي عن الدِّراسة مبكراً ومخالطة بعض المنحرفين. لا شك أنه ذهب ضحية تصفية حسابات بين عصابات المخدّرات." 66.

- عواء أَمِدِيُو...

- ماريا كريستينا غُونْزالِيز؛ مهاجرة دون وثائق قانونية من البيرو، تعمل في شقة السِّنْيورة رُوزَا ذات الثَّمانين عاماً ومصابة بالشَّلل. "السِّنْيُور أَمِدِيُو هو الوحيد الذي يعطف عليَّ ويقف إلى جانبي في أوقات المحن. أنا شقية وغبية لا أنكر ذلك، تدعو حالتي إلى الحيرة والتّعجب: ... أنا أبكي كثيراً من شدّةِ الخوف: الخوف من ضياع العمل، الخوف من الفقر، الخوف من المستقبل، الخوف من الشّرطة، الخوف من كلِّ شيء." ص 73. "أريد أن أشعر بالاطمئنان لكن المصيبة أنَّني بلا وثائق، إنَّني كالقارب الصَّغير الذي تحطم شراعه وصار تحت رحمة الصُّخور والأمواج." ص 76. "السِنْيُور أَمِدِيُو قاتل! هذا شيءٌ لا يقبله العقل. أنا متأكدة من براءته. ثُم كيف يتهمونه بأنه مُهاجر؟ هل الهجرة جريمة؟ أنا لا أفهم لماذا يكرهون المُهاجرين بهذا الشَّكل." ص 78.

- عواء أَمِدِيُو...

- أَنْطُونْيُو مَارِينِي؛ أستاذ جامعي من ميلانو يُدرس في جامعة روما، يُقيم في نفس العِمارة التي وقعت فيها جريمة المصعد. "أنا من ميلانو ولست متعوِّداً على هذه الفوضى... لم يكن ترك ميلانو والقدوم إلى روما قراراً صائباً... قبلت بمنصب معيد في معهد التّاريخ بجامعة روما." ص 84. وهو يجسد صورة النّظرة الدُّونية التي ينظر بها أهل الشّمال إلى أهل الجنوب في إيطاليا: "هكذا أهل الشّمال يعملون ويُنتجون ويدفعون الضّرائب وأهل الجنوب يستغلون هذه الأموال في إنشاء العصابات الإجرامية مثل المافيا في صقلية ولاكامورَّا في نابوليس ولانْدراغِتا في كلابْرِيا وعصابات الاختطاف في سَرْدِينْيا. المصيبة أن الشّمال عملاق اقتصادي وقزم سياسي! هذه هي الحقيقة المُرّة." ص 85. "أَمِدِيُو مُهاجر! بالنِّسبة لي لا فرق بين المهاجرين وأهل الجنوب. لا أفهم علاقة أَمِدِيُو بالجنوب... سمعته مرّة يقول: أنا من جنوب الجنوب!" ص 86. "هناك فضيحة لا يمكن السُّكوت عنها: هل تعرفون أن سكان عمارتنا يبولون في المصعد! إنه أمر مؤسف حقّاً. لم نكتشف الفاعل بعد، الأمر الأكيد أم أَمِدِيُو بريء لأنه لا يستعمل المصعد ويُفضِّل السَّلالم." ص 87. "يجبُ أن أعترف أن امتناع أَمِدِيُو عن استعمال المصعد والأوتوبيس والمترو وتعلُّقه بالمشي جعلني أشك في انتمائه إلى تيار سياسي يفوق النّازية والفاشية والستالينية خطورة ألا وهو تيار "الخضر"." ص 89. "لا تسألوني عن القاتل، أنا أستاذ جامعي ولست المفتش كُولُومْبُو !بالمُناسبة هل تعرفون كيف كان يُلقّب الشّاب المقتول؟ "الغْلَادْياتور"! هذا دليل كاف على تخلف أهل روما وتعلقهم المرضي بالماضي. من المستحيل أن تجد في ميلانو من يُطلق على نفسه هذه الشُّهرة! هذا يحدث في الجنوب فقط." ص 90.

- عواء أَمِدِيُو...

- يُوهان فان مارْتَن؛ شاب هولندي يقيم في نفس العمارة التي وقع بمصعدها جريمة القتل. مولع بالسِّينما الإيطالية ويرغب في تصوير فيلم واقعي عن سكان العمارة: يقول "جئتُ إلى روما لدراسة السِّينما وتحقيق الحلم الجميل الذي راودني منذ الصِّغر. أنا مُعجبٌ بالسِّينما الإيطالية كثيراً، ولا أخفي تعلقي بالواقعية الجديدة التي أحدثتْ قفزة نوعية في صناعة السِّينما وطرحتْ نفسها بديلاً لسينما هوليود. أُحِبُّ أفلام روسِليني ودي سيكا. "روما مدينة مفتوحة" لروبِرْتُو روسِليني و"سارق الدَّراجات" لفيتوريو دي سيكا هُما مِن أحسن الأفلام في تاريخ السِّينما، وقد صوِّرتْ بعض مشاهد الفيلم الثَّاني في ساحة فِيتُورْيو. هذا هو السّبب الذي دفعني إلى اكتراء غرفة في العمارة التي يقيم فيها أَمِدِيُو في ساحة فِيتُورْيو." ص 96. "أَمِدِيُو أجنبي! هل يُعقل أن يكون الشّخص الذي يُمثِّل إيطاليا العظيمة أجنبياً؟ إنه الوحيد الذي يُجيب على أسئلتي المتعلِّقة باللغة الإيطالية والسِّياسة والمافيا والطّبخ والسِّينما، إلخ. ثُمّ لا يمكن أن أفهم اتهامه الغريب بمقتل الغْلادْياتُور. أنا أعرف هذا الأخير معرفة جيدة لأنني كُنتُ أتقاسم معه شُقته. كان يعشق الكلاب كثيراً، يكفي أن تُلقي نظرة على أرجاء بيته لِتشاهد مئات الصُّور الخاصّة بالكلاب. إنّ مَن يُحِبّ الكلاب بهذا الشّكل لا يستحق ميتة الأشرار بطعنة سكين قاتلة. أعرف أنه لم يكن محبوباً من طرف سكان العمارة بسبب تصرفاته الغريبة.كان يقول لي دوماً: "أنا كلب متشرِّد لا سيد لي!"." ص 98. "هل كانت هناك عداوة مسبقة بينه وبين أَمِدِيُو؟ لا أملك الجواب. أنا متأكد من شيء واحد: العثور على القتيل في المصعد يحمل دلالة معينة. أغلب المشاكل بين سكان العمارة سببها المصعد ... المصعد هو أساس المشكلة، ليس ثمَّة إجماع بين سكان العمارة لاستعمال المصعد... هذا المصعد سفينة يقودها أكثر من قُبطان!". ص 99.

- عواء أَمِدِيُو...

- سانْدْرُو دَنْدِينِي؛ صاحب بار دَنْدِينِي في الأربعين من العُمر: "أنا صاحب بار دَنْدِينِي لمقابل لسوق فِيتُورْيُو، أغلبية زبائني أجانب، أنا أعرفهم جيداً،... ليس من السّهل أقناعي أن صديقي أمِدْ (Amed) ليس إيطالياً. أَمِدْ (Amed) هو أَمِدِيُو (Amedo) من عادتنا في روما حذف الحروف الأولى أو الوسطى أو الأخيرة من الأسماء، أنا مثلاً اسمي سانْدْرو لكن اسمي الحقيقي ألِسانْدْرو." ص 105. "أَمِدِيُو بريء من هذه الجريمة البشعة. أَمِدِيُو طيب وكريم، فهو طيب كالخبز كما نقول نحن في روما". ص 108. "أجدُ صعوبة في تصديق ما تقولون! أَمِدِيُو مهاجر مثل بارْوِيز الإيراني وإقْبال البنغالي والخادمة السّمينة ماريا كريستينا وبائع السّمك عَبَدُو والهولندي الأشقر..." ص 108. "أنتم لا تعرفون أَمِدِيُو كما أعرفه أنا، إنه يعرف تاريخ روما وشوارعها أكثر مني بل أكثر من ريكاردو نارْدِي الذي يفتخر بأصول عائلته التي تعود إلى العهد الرُّوماني. ريكاردو سائق تاكسي... ذات مرّة قال له ريكاردو ضَاحِكاً: "أنتَ تعرف روما كما يعرف الرَّجُل ثدي زوجته، بل أنتَ رضعتَ من ثدي الذِّئبة، لذلك تستحق أن تتوسَّط التَّوأمين رُومُلُو ورِيمُو في حضن روما يا أَمِدِيُو!". ص 109. "نعم. لا أنكر أنني تشاجرتُ مع الغْلادْياتُور كما تشاجر معه كُلّ سكان العمارة. كان يستفز الجميع بتصرفاته السّيئة... أنا أقول وأكرّر: لا دخل لأَمِدِيُو بهذه الجريمة. أنا مقتنع تماماً ببراءته ومستعد لأضع يدي على الجمر." ص 112.

- عواء أَمِدِيُو...

- سْتِيفانْيا مسّارو؛ تعمل في وكالة سياحية في روما، ومعلمة للغة الإيطالية، أحبّتْ أَمِدِيُو وأحبّها: "مَن هو أَمِدِيُو الحقيقي؟ يا له من سؤال غريب. لا يوجد أَمِدِيُو حقيقي وأَمِدِيُو مزيّف. هناك أَمِدِيُو واحد فقط: أَمِدِيُو المُدهش الذي عشقني وعشقته. قرأتُ ذات يومٍ تعريفاً قصيراً جِداً للحُبِّ: الحُبّ تضحيّة. لقد ضحى أَمِدِيُو بكُلِّ شيءٍ مِن أجلي، إذ تنازل عن وطنه ولُغته وثقافته واسمه وذاكرته. أراد أَمِدِيُو إسعادي بأيِّ ثمن. تعلّم الإيطالية مِن أجلي وأحبّ الطّبخ الإيطالي مِن أجلي وسمّى نفسه أَمِدِيُو مِن أجلي، باختصار صار إيطالياً لإسعادي." ص 117. "بعد ثلاثة أشهر فقط من تعارفنا قررنا الزّواج، لماذا ننتظر؟ هو يُحِبُّني وأنا أُحِبُّه. قبل الزّواج طلب مِنِّي أَمِدِيُو أن لا أسأله عن ماضيه، لا أزال أذكر كلماته: "حبيبتي، ذاكرتي كالمصعد المُعطّل، بل الماضي كالبركان النّائم، ساعديني على تجنّب إيقاظه الفظيع وحممه الجهنمية"... الآن فقط أفتح عيني على الحقيقة التّالية: لا أعرف من يكون أَمِدِيُو! من هو أَمِدِيُو قبل الاستقرار في روما؟ لماذا غادر بلده الأصلي؟ ماذا يُخفي في ذاكرته؟ ما سِرّ الكوابيس التي تلاحقه؟ هناك غموض يلف حياته السّابقة ربما هذا هو سِرّ عشقي له." ص 120. "لم يكن أَمِدِيُو يُحِبّ الماضي. في إحدى المرات قال لي إن الماضي كالرِّمال المتحركة، إنه فخ لا فكاك منه. أَمِدِيُو مدهش كالصّحراء، من الصّعب الإلمام بأسرار الصّحراء." ص 121. "سمعته مراراً يتمتم أثناء النّوم بكلماتٍ غير مفهومة، في إحدى المرات استيقظ من نومه مفزوعاً وهو يُردِّد: بَجة! بَجة! بَجة! ... في اليوم التّالي لم أقدر على كبت فضولي فسألتُ أَمِدِيُو عن مدلول كلمة "بجة" لكنه لم يرد ونظر إليّ بعتاب كأنه يُريد أن يُذكّرني بالشّرطِ الذي اتفقنا عليه قبل الزّواج: الماضي كالبركان، حذار من رفع الغطاء عن الفوهة!" ص 122. "أنا أقول لا علاقة بين مقتل لُورَانْزو واختفاء أَمِدِيُو. أنا متأكدة من أن أَمِدِيُو بريء من جريمة القتل. لا يوجد دافع واحد للإقدام على هذا الفعل الشّنيع. لم يكن "الغْلادْياتور" شخصاً محبوباً بين سكان العمارة، هذا معروف. لقد أساء للجميع دون أن يطلب العفو من أحد. ليس من العدل أن نُسيء إلى أَمِدِيُو بهذا الشّكل. اسألوا سكان ساحة فِتُورْيو عن أَمِدِيُو، سترون كم كان محبوباً من طرف الجميع. لم يتأخر عن مساعدة المحتاج دون أن ينتظر أجراً من أحد." ص 123. "لا أعرف أين هو الآن، أخشى أن يكون قد أصابه مكروه. لا أزال أبحث عنه في كُلِّ مكان، أتمنى أن يكون بخير. هناك علامات استفهام كثيرة تُحيط باختفاء أَمِدِيُو واتهامه بجريمة قتل بشعة. أنا متفائلة ومقتنعة ببراءته. سأُدافع عنه دون هوادة." ص 124.

- عواء أَمِدِيُو...

- عبد الله بن قدْور؛ "لماذا سمّى نفسه أَمِدِيُو؟ هذا هو السُّؤال الذي يُحيّرني. اسمه الحقيقي أحمد وهو اسم عظيم لأنه اسم الرّسول وقد ذكر في القرآن والإنجيل. بصراحة أنا لا أحترم كُلّ من يُغيّر اسمه أو يتنكّر لأصله." ص 129. "أحمد هو ابن حومتي، أعرفه جيداً كما أعرف كُلّ أفراد عائلته... كان أحمد شخصاً محبوباً ومحترماً في الحومة. لا أذكر أنه تخاصم مع أحد رغم أن الاشتباكات بين أولاد الحومة وأولاد الحومات المجاورة عادة منتشرة بكثرة في أحياء الجزائر العاصمة. بدأت محنة أحمد عندما ماتت خطيبته بَهْجَة بنت الجيران. كان أحمد يُحِبُّها كثيراً منذ الصِّغر، خطبها مُبكراً وأراد أن يتزوجها، لكن حدث ما حدث... ذات يوم ذهبتْ بَهْجَة إلى بوفاريك لتزور أختها، في طريق عودتها أوقف الإرهابيون الحافلة في حاجز مُزيّف وأقدموا على ذبح كُلّ المسافرين ما عدا الفتيات. حاولتْ بَهْجَة الهروب من قبضة المجرمين والنّجاة من الاغتصاب، فأطلقوا عليها وابلاً من الرّصاص. لم يقبل أحمد بالأمر الواقع فقبع في البيت لا يُغادره حتّى اختفى وغاب عن الأنظار، وتكاثرت التّفسيرات في الحومة: هناك من قال إنه تطوّع في الجيش بحثاً عن الانتقام من المسلحين الإسلاميين، وهناك من قال إنه الّتحق بالمسلّحين في الجبل حتّى ينتقم من الدّولة، وهناك من قال إنه اعتزل النّاس وانظم إلى جماعة صوفية في الصّحراء فهو يعيش مُلثّماً كالطّوارق، وهنا من قال إنه فقدَ عقله وصار يمشي عارياً في الشّوارع..." ص 131. "ذات يومٍ سألتُ والدته خالتي فاطمة الزّهراء عن أحمد فأجابتني باختصار: "إنه في الخارج". كلمة "الخارج" تحتمل عدّة معانٍ: خارج العقل أو خارج العاصمة أو خارج القانون أو خارج طاعة الوالدين أو خارج نعمة ربي. فضّلتُ عدم الإلحاح في السُّؤال وترك البئر بغطائه كما يقول المثل الشّعبي..." ص 132. "رأيته في سوق ساحة فِيتُورْيو حيث أشتغِل بائعاً للسمك. ناديته أحمد! أحمد! لكنه لم يردّ، تظاهر بعدم معرفتي، في نهاية المطاف تعرّف عليّ! وحيّاني ببرودة شديدة أمام دهشة السّيدة الإيطالية التي تُرافقه، عرفتُ فيما بعد أنها زوجته. بعدها التقينا مرات عديدة في بار دَنْدِينِي، لم يكن مُتحمساً لمعرفة أخبار الجزائر. كان أحمد أو أَمِدِيُو يعمل في المحكمة العُليا بالجزائر العاصمة مُترجِماً من الفرنسية إلى العربية. كان قد اشترى شقة في باب الزوار كي يعيش فيها مع بَهْجَة بعد الزّواج لكن المكتوب أراد شيئاً آخر. كما ترون قصة أحمد سالمي بسيطة ولا تحمل التّعقيدات... ليست هناك أسراراً خفية عن حياته الماضية قبل الاستقرار في روما." ص 132. "لا أزال أذكر المخاوف التي استبدت بي عندما سمعت النّاس يُنادونه "أَمِدِيُو"، خشيتُ أن يكون قد ارتدّ عن الإسلام، لم أطق الصّبر والانتظار، فسألته بقلق وتوجّس: "هل اعتنقت المسيحية يا أحمد؟"، فأجابني بنبرة صادقة: "لا"." ص 134. "ألا ترون ماذا تقول الصُّحف عن أحمد من أكاذيب، عندما اكتشفوا أنه مهاجر وليس إيطالياً، لم يتأخروا في اتهامه بجريمة القتل. لقد أخطأ احمد عندما سبح خارج الحوض. اختفاؤه هذا يُثير التّساؤل القديم الذي حيّر أولاد الحومة كثيراً: أين ذهب أحمد أو أَمِدِيُو كما تُسمونه أنتم؟" ص 135.

- عواء أَمِدِيُو...

- ماوْرُو بِتارِينِي؛ مفتش الشّرطة الذي يُحقق في جريمة قتل "الغْلادْياتور" في مصعد العمارة والمُتهم فيها "أَمِدِيُو". "لقد تعلّمتُ من عملي كمفتش الشّرطة أن الحقيقة مثل قطعة نقود، تتألف من وجهين مختلفين، الوّجه الأوّل يُكمِّل دائماً الوجه الثَّاني". ص 143.

الوجه الأول للحقيقة: "بالنّسبة لي التّحقيق انتهى والقاتل هو أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو. اختفاؤه المفاجئ يُثبت ضلوعه في مقتل الشّاب لُورانْزو مانْفْرِيدِي المدعو الغْلادْياتور... كُلِّفتُ بالتّحقيق في هذه الجريمة لأنني أعرف هذه المنطقة معرفة جيدة. قضيتُ سنوات طويلة في مركز الشّرطة في شارع بَيتْرارْكا مما أتاح لي الإطلاع عن قرب على مشاكل المواطنين المُقيمين في ساحة فِيتُورْيو وما جاورها. تعرفتُ على أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو عندما توسط لِحلِّ مشكلة حَمَام ساحة سانْتا مارِيا ماجُورِي التي تسبَّب فيها صديقه الإيراني." ص 143. "كان اعتقادي أن أَمِدِيُو هو متطوِّع إيطالي يُساند المهاجرين ويُلبِّي بعض خدماتهم المُتعلقة بالصّحة والعمل." ص 144. "ليس هناك صدفة بين الجريمة والاختفاء المفاجئ، عقب العثور على جثّة الشّاب لُورانْزو مانْفْرِيدي في المصعد، بدأنا التّحريات الأوّلية فاكتشفنا اختفاء أو بالأحرى هروب المتهم أَمِدِيُو. السُّؤال الذي طرحناه على أنفسنا: إذا كان أَمِدِيُو بريئاً كما يقول جيرانه في العمارة، فلماذا لم يظهر ليبرِّئ نفسه؟ المعلومات التي استقيناها من مختلف المصادر والشُّهود زادت من شكوكنا وجعلتنا نُدقِّق في هوية المتهم. لم يمض وقت طويل حتّى اكتشفنا أنه مهاجر واسمه الحقيقي أحمد سالمي..." ص 145. "لم يُزوِّر أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو وثيقة رسمية واحدة. لماذا اختفى؟ هل هي مجرد صدفة أم هروب من القضاء؟ هناك شهود عيان رأوه يتشاجر مع الضّحية في الليلة التي سبقت الجريمة. لا أحد يعرف السّبب. كما سمعوه وهو يقول للضحية: "سأقتلك إذا فعلتها مرة أخرى!". بالنسبة لي التّحقيق انتهى، أَمِدِيُو هو القاتل، فهو مجرم فارّ من العدالة." ص 146.

الوجه الثّاني للحقيقة: "التّحقيق لم ينته وأحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو ليس هو قاتل لُورانْزو مانْفْرِيدِي المدعو الغْلادْياتور. بعدما قامت إحدى الجرائد في صفحات الحوادث بنشر حوار معي مرفق بصورتي وبصورة أَمِدِيُو، اتصلت بي الطّبيبة سِيمونيتي من مستشفى سان كاميلو وطلبت مِنِّي الحضور على عجل، ذهبتُ على وجه السُّرعة إلى المستشفى، أخذتني إلى قسم الإنعاش حيث رأيتُ أَمِدِيُو مُمدّداً على السَّرير. قالت لي الطّبيبة أن صباح الأربعاء 21 مارس أي اليوم الذي قُتِل فيه لُورَانْزو، تعرّض المريض إلى حادث مرور بينما كان يَعبُر الطّريق قريباً من الكُولُوسِيُو، تمّ نقله على عجل إلى المستشفى. لحد الآن لا يزال في حالة غيبوبة بعد أن أُصيب بجروح خطيرة في رأسه قد تُعرِّضه إلى فقدان الذّاكرة. سألتُها عن الوقت المحدّد للحادث، فقالت إنّ سيارة الإسعاف وصلت إلى مكان الحادث في حدود الثّامنة والنّصف، وهذا يعني أنّ الحادث الأليم قد وقع قبل ذلك بعشر دقائق تقريباً." ص 146. "أَمِدِيُو ليس هو القاتل! قال الطّبيب الشّرعي إنّ الجريمة وقعت بعد الواحدة زوالاً كما أكّد شهود عيان أنهم شاهدوا الضّحية في صبيحة ذلك اليوم ما بين التّاسعة ومنتصف النّهار. إذاً ليس هناك أدنى شك: أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو بريء." ص 147. "بعد ذلك أعدنا النّظر في طريقة التّحقيق، تركنا جانباً السُّؤال: مَن هو أَمِدِيُو؟ ورُحنا نبحثُ في حياة الضّحية.مَن يكون "الغْلادْياتور"؟... كنيته "الغْلادْياتور" ساعدتنا للوصول إلى القاتل أو القاتلة. التّحريات التي أجريناها عن الضّحية قادتنا إلى اكتشاف سرّ الكُنية "الغْلادْياتور". كان لُورانْزو مولعاً بالمبارزات القاتلة التي تنتهي بموت أحد المتصارعين. في عهد الرُّومان كان "الغْلادْياتور" أسيراً أو عبداً يُقاتل حيواناً مفترساً كالأسد أو النّمر أمام آلاف من المتفرجين في الكُولُوسِيُو بينمكا اهتدى لُورانْزو وبعض أصدقائه إلى لعبة قمار جديدة تقوم على مبارزات سرية بين الكلاب. هل تذكرون اختفاء الكلب الصّغير فالِنْتِينُو قبل أسابيع من حدوث الجريمة؟ كان لُورانْزو وراء هذه العملية. بعد تحريات طويلة تمكنت إِلِزابِتا فابْيانِي من اكتشاف المسّؤول عن اختطاف كلبها وقررتْ الانتقام منه شرّ انتقام إثر تأكدها من العذاب الشّنيع الذي ذاقه الكلب الصّغير قبل موته. لقد وضعت خطة قتل مُتقنة إلى أبعد الحدود حيث استفادت كثيراً من حيل المسلسلات البوليسية التي تتابعها يومياً على التلفزيون. اختارت المصعد لأنه مصدر النِّزاعات بين سكان العمارة ثم وقع اختيارها على السّكين لأنه أداة قتل رجالية مما يُبعد عنها الشُّبُهات. ثم راحت تسير حافية القدمين في ساحة فِيتُورْيو حتى تظهر للجميع أنها فقدت عقلها بسبب فقدان أو اختطاف كلبها. استطاعت أن تنفِّذ خطتها بمهارة فائقة دون أن تترك أي أثر. الخطأ الوحيد الذي ارتكبته هو عدم تخلصها من أداة الجريمة... بعد بحث دقيق عثرنا على السّكين وعليه بصماتها ودم الضّحية. التّحقيق انتهى، وإِلِزابِتا فَابْيانِي هي التي قتلتْ لُورانْزو ملنْفْرِيدِي المدعو الغْلادْياتُور." ص 147. 148.

- عواء أَمِدِيُو...

* نقاط على هامش قراءة رواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضّك) لـ عمارة لخوص:

- رمزية العنوان: أولى عتبات النّصّ العنوان (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضُّك)، جاء العنوان لافتاً محدثاً الدَّهشة والانفعال المطّلوبين لانجذاب القارئ إلى الرِّواية، والعارف بأسطورة تأسيس روما المجسَّدة في الأخوين الرَّضيعين رومولوس وروموس - أبناء الذِّئبة - يكاد يقبضّ على سِرّ العنوان وأنّ أحداث الرِّواية تدور في روما عاصمة إيطاليا: "أليست الذِّئبة هي رمزُ روما! أنا لا أثق أبداً في أبناء الذِّئبة لأنهم حيوانات مفترسة متوحشة. إن الحيلة الخبيثة هي وسيلتهم المفضَّلة في استغلال عرق الآخرين!". ص 85.

- بحكم كون الكاتب الدكتور "عمارة لخوص" متخصص في الأنثروبولوجيا وكونه عاش في روما حقبة من الزّمن فقد استغل تلك الثّقافة المعرفية المتعددة الفلسفية والأنثروبولوجية في كتابة هذه الرِّواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضُّك) فجاء النّصّ محبكاً محكماً متقناً متنوعاً ثريّاً مشوِّقاً رائعاً.

- الحيّز المكاني للرِّواية هو مصعد العمارة حيث كانت جريمة القتل. يتمدد هذا الحيّز في كُل الاتجاهات المحيطة بالمكان: شقق العمارة، ساحة فِيتُورْيُو في روما، مطعم كابري القريب من ساحة نافُونا لصاحبه السِنْيُور بِنَارْدِي...

- الحيِّز الزماني للرِّواية يستمر لبضعة أيام، لكنه يتمدد ويتجذر تاريخياً بالبحث في الماضي للشخصيات المركبة للرِّواية.

- تبدو الرِّواية في ظاهرياً أنها تدور حول جريمة قتل في مصعد عمارة يقطنها عدد من المهاجرين والأوربيين غير أنها في عمقها تطرح مشاكل الهجرة غير القانونية ومشاكل المهاجرين في أوربا وكعينة عنهم جاءت أحداث الرِّواية في روما عاصمة إيطاليا. ومن خلال ذلك نكتشف مدى تّنافر وتقارب شخصيات الرِّواية القاطنين في العمارة ثقافياً وحضارياً. تتقلص حيناً وتتباعد أحياناً المسافة الفاصلة بين انتماءاتهم العرقية والثّقافية والاجتماعية والحضارية.

- النّص يُبرز مشاكل المهاجرين دون وثائق قانونية من العالم الثّالث وشرق أوربا إلى الغرب وهنا إيطاليا كمثال على ذلك. مشاكل العنصرية وازدراء ثقافة الأخر والاستغلال الجنسي. معاناة المهاجرين من العنصرية: "سألني إِقْبَال هذا الصَّباح: هل تعرف ما هو الفرق بين العُنصري والمُتسامح؟ قلت له: العُنصري في عداء مع الآخرين لأنه يعتقد أنّهم ليسوا في مستواه بينما المُتسامح يتعامل مع الآخرين دون تكبُّر واحتقار". ص 57.

- عطفاً على كُلِّ ما سبق فإن كُلّ قراءة لا تزيدك معرفة لا يُعوَّلُ عليها، وكُلَّ معرفةٍ لا تتنوع لا يُعوَّلُ عليها. وهذه الرِّواية يُعولُ عليها فهي تزيد القارئ معرفةً وتنوعاً.

* قالوا عن رواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضّك) لـ عمارة لخوص:

- يقول عنها الكاتب نصر حامد أبو زيد: «إنّ إعجابي بهذه الرِّواية إعجاب نابع من متعة عالية وفرتها لي إلى جانب معرفة حقيقة هذه المتعة. هذه سمة الفنّ الحقيقي الذي يُجسد متعة المعرفة من خلال الجميل. توظيف الكاتب للرموز (رمز الذِّئبة والرَّضيعين) وثالثهما المهاجر الذي تشرّب المدينة والثَّقافة بالكامل توظيف يتسم بدرجة عالية من الدِّقّة والرّهافة. ما أروع الأمثولة. ليت الكاتب يكتبها بالإيطالية لتترجم إلى اللُّغات الأوربية الأخرى؛ - وهو ما قام به الكاتب فعلاً - لأنها تقول الكثير عن المُهاجرين مِمّا لا يستطيع البحث أن يقوله بنفس الكثافة والمتعة».

- ويقول عنها الكاتب الرِّوائي التُّونسي كمال الرَّياحي: «شيّد عمارة لخوص نصّه هذا بكثيرٍ من المكر والمراوغة والوعي الفنّي حتّى يكون نصّاً مختلفاً يحكي سيرة المنفى وواقع المهاجر في إيطاليا. إنها رواية الهروب من الذَّاكرة الجريحة ومأساة العيش دونها بين أحضان الذِّئبة الضَّارية روما... رواية ترضع الفلسفة والأدب والتَّاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسِّياسة دون أن تسقط في مزالق الإيديولوجيا أو في الخطابية الفجّة ولا عضّتها التّعليمية السّاذجة».

* اقتباسات من رواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضّك) لـ عمارة لخوص:

- "رُباعيات الشَّاعر الكبير عُمر الخيام، تحتاج إلى سنوات طويلة لإدراك مغزاها، عندئذ ينفتح قلبك على العالم وتفيض دموعك لتدفئ خديك الباردين." ص 11.

- "أنا أعشق المصعد، لا أستعمله بدافع الكسل وإنما مِن أجل التَّأمل. تضع إصبعك على الزِّرّ دون أي جهد، تصعد إلى الأعلى أو تنزل إلى الأسفل، قد يتعطّل وأنتَ قابعٌ فيه، إنه كالحياة تماماً لا يخلو من العطب؛ تارةً أنتَ في الأعلى وتارةً أخرى في الأسفل." ص 14.

- "العشق كالشّمس السَّاطعة، يستحيل تجاهل أشعته الحارقة، العشق توأم الشّباب، صدق المثل الفارسي القائل: سكر الشّباب أقوى من سكر الخمر". ص 15.

- "يحتاج الإنسان إلى الحُلُم كحاجة السمكة للماء". ص 23.

- "الغراب الذي دلّ القاتل قابيل على كيفية التّخلُّص من جُثة أخيه هابيل. يُقال أنّه القاتل الأول على الأرض، إذاً الغُراب هو أول خبير في دفنِ الأموات في التَّاريخ. أنا غُرابٌ مِن نوعٍ خاص: مُهِمّتي هي دفنُ الذِّكريات الملوّثة بالدّمّ". ص 46.

- "إنّ الأقارب مثل الأحذية الضَّيِّقة التي تسبب لأصحابها الكثير مِن الإزعاج". ص 47.

- "البقاءُ في الكهف أفضل مِن الخُرُوجِ منه. لا فائدة مِن معرفة الحقيقة. العزاء الوحيد هو هذا العواء اللَّيلي". ص 48.

- "الحقيقة في أعماق بئر: تنظُّر في بئرٍ فترى الشَّمس أو القمر، لكنَّك إذا ألّقيتَ نفسك فيه، فإنَّكَ لن تجد الشَّمس ولا القمر، هناك الحقيقة فحسب". ص 48.

- "يا أطبَّاء العالم اتحدوا! اخترعوا دواءً جديداً يشفي العنصريين من الحقد والكراهية". ص 59.

- "عندما أرى تفاحة فاسدة، فإنِّي أُسرع إلى عزلها عن بقية التُّفاح لأنِّي لو تركتها في مكانها، فإنّ كُلّ التُّفاح سيفسد! لماذا لا تتصرّف الشّرطة بحزمٍ مع المهاجرين المنحرفين؟ ما ذنب المهاجرين الشُّرفاء الذين يكِدُّون من أجل لُقمة العيش؟!". ص 59.

- "هذا المساء استوقفني طويلاً هذا المقطع الوارد في كتاب سيغْموند فرُويْد "الطّوطم المُحرَّم": إن الاسم الذي يحمله الإنسان هو عنصر أساسي من كيانه، بل قد يسكون جزءاً من روحه". ص 60.

- "للمهاجر وجهٌ واحد عبر التَّاريخ رغم اختلاف لسانه ودينه ولون جلّده". ص 81.

- "أنا أقول أن هذا البلد غارق في بحر من الغرائب، كأس العالم في كرة القدم على سبيل المثال هي مناسبة يكتشف فيها الإيطاليون أنهم إيطاليون. يضعون الأعلام الوطنية على النَّوافذ وفي الشُّرُفات وعند مداخل المحلات. يا للعجب كرة القدم تصنع الهوية! لا فائدة من الدِّين الواحد واللُّغة الواحدة والتَّاريخ المشترك والمستقبل المشترك". ص 89.

- "ما يهمُّني حقّاً هو أن أرضع من الذِّئبة دون أن تعضَّني وأن أُمارس هوايتي المفضَّلة: العواء!". ص 93.

- "روما هي ذاكرة الإنسانية، إنّها المدينة التي تعلّمنا كُلّ صباح أن الحياة ربيع أبدي وإنّ الموت سحابة صيف عابرة، لقد هزمت روما الموت! لهذا السّبب يُطّلق عليها اسم المدينة الخالدة". ص 113.

- "صِرتُ أعرف روما كأنِّي ولِدتُ فيها ولم أُغادرها أبداً. من حقِّي أن أتساءل: هل أنا لقيط مثل التَّوأمين رُومُولُو ورِيمُو أم ابنٌ بالتّبنِّي؟ السُّؤال الجوهري هو كيف أرضع من الذِّئبة دون أن تعضّني؟ الآن على الأقل يجب أن أُتقن العواء كذئبٍ أصيل: أووووووووووووو...". ص 115.

- "إنّ أجمل مراحل الحُبّ هي مرحلة التًّعارف والغطس الجميل في بحر العشق دون الاهتمام بالتَّفاصيل وطرح التَّساؤلات المُمِلّة." ص 120.

- "العشق هو صندوق المفاجآت... إن عيب بعض العُشَّاق هو مُحاولة معرفة كُلَّ شيء عن المعشوق، هذا هو سبب السَّأم وانطِفاء شمّعة الحُبّ بسُرعة. العاشق الحقيقي لا يكشف عن نفسه كُلِّياً. هل تعرفون لماذا يُثير الطَّوارق الإعجاب والدَّهشة؟ لأنهم مُلثّمون. الغُمُوض سِرّ الآلهة! الأشياء المُدهشة غامضة بالضَّرورة." ص 120.

- "أَمِدِيُو مُدهش كالصَّحراء، مِن الصَّعب الإلمام بأسرار الصَّحراء... لا تثقي أبداً في دليل الصَّحراء، فهو كإبليس ملعونٌ إلى الأبد لأن الصَّحراء لا تُحِبّ المُتكبِّرين، مَن يَدّعي معرفة خبايا الصَّحراء، فلينتظر العقاب القادم أي الموت عطشاً، التَّواضع هي اللُّغة الوحيدة التي تعرفها الصَّحراء!." ص 121.

- "الرِّحلة الجميلة لا تنتهي أبداً لأنها تحمل في طياتها وعداً ببداية جديدة لرِحلة قادمة. إنها كحكايات شهرزاد لا تنتهي أبداً وإنَّما تبدأ باستمرار." ص 122.

- "الكابوس هو نافذة يتسلل منها الماضي في ثوب السَّارق". ص 122.

- "الكلام مُفيد جِدّاً للتَّنفيس عن الحُزن والقلق والحَنين وغياب الأَحِبّة". ص 123.

- "التَّرجمة هي رِحلةٌ بحرية مُمّتعة مِن مرفأ إلى آخر". ص 125.

- "ما أجمل أن نتحرر مِن قيود الهوية التي تقودنا إلى الهاوية!" ص 126.

- "ذاكرتي جريحة تنزف، يجب أن أُضمِّد جراح الماضي في عزلة" ص 127.

- "هناك مثل يُردِّده الإيطاليون كثيراً: الضَّيف مثل السمك بعد ثلاثة أيام يتعفّن" ص 133.

- "العواء نوعان: عواء الألم وعواء الفرح. الكثير من المهاجرين المهمّشين الذين يتوسَّدون زجاجات البيرة والخمر في حديقة ساحة فِتُورْيو لا يكفون عن العواء الحزين لأن عضَّة الذِّئبة قاسية ومؤلمة. أعتقد أن العواء في بعض الأحيان كالبُكاء. أمّا أنا فأعوي من شدّةِ الفرح، أنا أرضع من ثدي الذِّئبة برفقة اللَّقيطين رُمُولُو ورِيمُو. أنا أعشق الذِّئبة ولا أستطيع الاستغناء عن حليبها". ص 137.

- "المرض يوقظ شيطان الحنين أو "الوحش".. إنه الخوف من الموت: الموت بعيداً عن أنظار الأحبة، الموت وحيداً، الموت بيعيداً عن الأُمّ". ص 139.

- "يا بني اذا كنت سائراً واعترض طريقك مسلحون، وأجبروك على التَّحكيم: مَن على الحق ومَن على الباطل، قابيل أم هابيل؟ إياك أن تقول: إنّ قابيل على الحق وهابيل على الباطل، قد يكون المسلحون هابليين فتهلك وإياك ثم إياك أن تقول: أنّ قابيل على الباطل وهابيل على الحق، قد يكون المسلحون قابليين فتهلك، يا بني إياك ثم إياك ثم إياك أن تقول: لا قابيل ولا هابيل على الباطل فتهلك، فصدر هذا الزَّمن ضيِّق لا يتسع للحياد، يا بني اقطع لسانك و ابلعه. يا بني اهرب! اهرب! اهرب! إياك من نار الفتنة فهي أخطر من أنياب الذِّئاب" ص 142.

- "الحقيقة مثل قطعة نقود، تتألف من وجهين مختلفين، الوّجه الأوّل يُكمِّل دائماً الوجه الثَّاني". ص 143.

- "الحقيقة مُرّة كالدواء! ينبغي تناول الدَّواء على جُرُعات، قد يُؤدِّي الدَّواء إلى الموت إذا تناوله المريض دُفعة واحدة". ص 149.

- "الذَّاكرة صخرة سيزيف اللَّعينة" ص 150.

* التّعريف بالكاتب عمارة لخوص:

كاتب جزائري من مواليد الجزائر العاصمة، 1970. يكتب بالعربية والإيطالية. تخرج من معهد الفلسفة بجامعة الجزائر عام 1994. أقام في إيطاليا 18 عاما، وحصل على دكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة روما. يقيم في نيويورك منذ 2014. صدر له: "البقّ والقرصان" (1999)، و"كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تَعُضّك" (2003) التي ترجمت إلى ثماني لغات وتحولت إلى فيلم سينمائي عام 2010 من إخراج إيزوتا توزو. حازت الرواية على جائزة فلايانو الأدبية الدولية وجائزة راكلماري – ليوناردو شاشه عام 2006، إضافة إلى جائزة المكتبيين الجزائريين عام 2008. صدر له روايات أخرى هي: "القاهرة الصّغيرة" (2010)، "فتنة الخنزير الصّغير في سان سالفاريو" (2012)، "مزحة العذراء الصّغيرة في شارع أورميا" (2014) التي ترجمت إلى عدة لغات، ورواية رابعة بالعربية، "طير اللّيل" (2019).

***

 قراءة: السعيد بوشلالق

الدليل الثيماتي بين طفل الشيطان وإظهارية خفايا التوظيف

مهاد نظري:

تتداخل في بنيات النص الروائي عدة عناصر هي: (المرسل ـ المرسل إليه ـ الثيمة ـ المعلن الإظهاري ـ دليل النص) ولكل واحدة من هذه المحاور دورها الكبير في نمو وظيفة (السارد ـ الشخصية ـ الحبكة) وبما أن دراستنا في مجال هذا النحو من المعنى تتناول تجربة روائية ذات أهمية كبرى، وتلتزم في منحى بناءاتها بهذا النوع من المحاور التي أشرنا إليها، لذا وجب علينا التوسع في استخدام أكثر المحاور تلفظا وتداولا في رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) للروائي والسيناريست البرازيلي (خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس) وقد أتفق مع النقاد من جهة نسبية وأختلف معهم من ناحية إجمالية، في كون أن هذه الرواية من صنيع المخيلة المنتخبة في مجال توطين أدب فئة الناشئة أو الأطفال.ولا يخفى على القارىء ـ احتمال ـ كوني أجد في تجربة هذه الرواية من البساطة والتعقيد والإحالة والعلامة الأكثر تجاوزا لوعي القارىء اللاروائي حتما.ومن هذا المنطلق أصررت على قراءة هذه الرواية وعشت مع دواخل شخصيتها المحورية (زيزا) وأخوته ووالداه وذلك السائق البرتغالي وجذع البرتقال الذي هو محط المعادل الموضوعي الذي من خلاله يمكننا فهم هذه الشخصية وطبيعة أنسنتها لحالات عوالمها اللامعقولة في أفضية التصديق والاستدلال المنطقي، إلا من جهة تقنية تتعاضد من خلالها عدة محاور (إظهارية ـ معلنة) امتدادا بها نحو مجموعة شرائط تلك المخيلة التي أرتضت بأن تكون أرادة العامل الشخوصي ـ المحور ـ فيها معادلا متجاذبا إلى جل جهات البطولة والمغامرة أو الشيطنة والملائكية أو الطيبة والشرور في الآن نفسه.

ـ حوارية أنسنة الأشياء في كينونة الوعي المضمر:

تستدعي حفريات دلالات رواية (شجرتي..شجرة البرتقال الرائعة) لخوسيه فاسكونسيلوس إلى ذهن التلقي، تلك التشاكلية المنتجة بين قطبي (الفاعل بالموضوع ـ الفاعل عن الموضوع) أي أن للمحور الشخوصي كامل التوطينية في لعبة طرفي العلاقة من ناحية كونه وليدا عن الموضوعة ومندمجا فيها، وتارة عن حضوره الامتثالي في علامة ملازمة للفعل السردي والعاملي.أما كونه فاعلا عن الموضوع فبالإمكان النظر في أبعاد الموضوعة من خلاله كمتتالية فعلية مستشرفة تارة ومنصوصة بأكثر المواضع تناقضا واعتدالا مستورا تارة أي عبر مجمل أفعال السردية.وإذا كان في موضع الفاعل بالموضوع، فهو يشكل دليلا على أن الشخصية مترسخة في مادة محورها الوقائعي.وهناك عدة أمثلة سوف نقوم بدراستها في حينها حتى تبدو للقارىء أكثر كشفا إزاء وحدة سردها أو مسرودها.

1 - الفاعل بالموضوع بين حساسية المخيلة وترجيح المعادلة الفقدانية:

في الخلفية النصية تندرج مهام الفعل النواتي كحالة استباقية بالسرد.إذا أن تمظهرات فعل الشخصية حيال مساحة مؤشرات (دليل الموضوعة) تكشف لنا بأن مجمل الأفعال والأحوال، حلت في حدود كون الفاعل الشخوصي هو بذاته ما راح يظهر تداولية الوقائع والاحساس بها ما جعلها تخوله إلى أن يكون السارد المشارك الذي تتصل كل المهام في صوته، فهو من يقدم ويؤخر، ولكنه كحالة عاملية يبقى يبث خطواته في سياق منشطر بين (حساسية المخيلة ـ وترجيح المعادلة الفقدانية) وهذه المعادلة الأخيرة هي الممثلة في إطارها العاملي المنصوص في علاقة المحور المركزي مع جذع البرتقال أو أحد أشقائه الأثنان (لويس ـ توتوكا) وعلى هذا النحو فالانبعاث مصدره الحسي والأفعالي هو الشخصية الأكثر بروزا (زيزا) وما يقوله وما يفكر به وما يتخيله هو الميثاق على اتساع حوارية المدار الشخوصي كأفعال كلامية تربطها خواص من المكان والزمن وسياق السرد: (على مهل كنا نقطع الطريق يدا بيد..كان ـ توتوكا ـ يعلمني الحياة، وكنت سعيدا جدا لأن أخي الأكبر يعطيني يده ويعلمني الحياة./ص7 الرواية) بهذا النوع من الفاعل بالموضوع، نتعرف على مجال التحول في حركة طبيعة الشخوص، وخاصة زيزا، كونه ـ ساردا مشاركا ـ ولهذا يلزم تبني سلطة المسرود والسرد إجمالا.وقد وظف الكاتب خوسيه ماورودي من شخوصه الروائية ما جعلها الأكثر بؤسا وكدحا في حيواتها الفعلية، لذا ظل زيزا العامل والفاعل يقارب حياة الموغل في حرمانه الطفولي، وهذا الشظف في حياته الخاصة هو الذي صنع منه مؤولا إظهاريا في حوارية مخيالية واهمة مع طائر الخفاش وجذع الشجرة، ما يوضح لنا كفائية معادلة الفقدان، أي بما يفسر لنا أن الشخصية زيزا ذات ملامح تندرج في تفاصيل استثنائية، كونه المتصل مع حالات تصويرية عاشها بمتعة بالغة وقسوة صارمة مع محيطه المتشيء.

2 ـ الفاعل عن الموضوع وأدائية العامل المحكي:

نجد هنا الفاعل عن الموضوع، سببا مباشرا ينبغي الاحتفاظ به بالطابع الذي يخولنا على أن نراه (كفاءة فاعل ـ مرسل ـ جهات موضوعة) ولكنه على الصعيد ذاته كفاعل منفذ، يبدو أكثر دقة بالمعطى الموضوعي، خاصة وأن الشخصية كان هو نفسه من يصنع موضوعته بذاته، وهذا لا يعني أن الجانب الذاتي للمحور قد غطى على وقائع أحوال ومعينات النص كوسائل موضوعية وأدوات في الأداء، لا أبدا فخاصية الاتصال بين (فاعل ـ موضوعة) كانت قائمة على تدرج (فاعل ـ لفاعل سلوك) وهو الأمر الذي جعل من قيمة الموضوعة في موصلات النص، تبدو ككفاءة الفعل المكتسب افتراضيا من حيث نقطة ومجال الخطاب النصي, كمصدرا موصولا للاتصال السردي في الرواية إجمالا.

3 ـ كينونة فاعل السلوك وحيثيات الاتصال السردي:

قبل الخوض في أدوار المحاور الأفعال الشخوصية في أفضية الحكاية الروائية، نود الاشارة حول مفهوم (كينونة فاعل السلوك) الذي أوردناه هنا كقيمة فردية وفردانية تخص وظائف (الفاعل ـ العامل ـ الممثل) والمقصود بهيئة هذه التفعيلات، هو الحضور في الاتصال الفعلي للعامل المحوري حيال مجسداته السردية و الأبعاد الوقائعية في موضوعة الرواية.وهذه الوظائف الثلاثة لا تمثل إنقطاعا عن حوارية الوقائع الخطية، بقدر ما تسهم في تفعيل الخوض في جزيئات وكليات النص دليلا ومدلولا.يواجه المحور الفاعل ـ زيزا ـ وهو الطفل الذي لم يبلغ عقده السادس من العمر، ثمة منغصات عقدية في حيز اندفاعاته الطفولية التي كانت رغم بذاءتها الظاهرة غالبا، إلا إنها طفولة مميزة على حين غرة : (في السابق لم يكن يضربني أحد..لكنهم أكتشفوا الأمر لاحقا، وبدؤوا يقضون وقتهم وهم ينعتوني بالشيطان، وبالطاعون وبقط المزاريب اللعين..لم يكن ذلك يشغل بالي حينما لا أكون في الشارع أنهمك في الغناء./ص7 الرواية) المقصود من وراء هذه الوحدات، إن ـ كينونة الفاعل ـ مهما بلغت من الخطورة حيال تصاعد أفعالها المحكاية لهمزات الشيطنة، فإنها من جهة ما تلاقي حضورها في ممارسة دورها التأثيري في أمكنة أخرى، خارج حدود المنزل حيث وجود ذلك الأب العاطل عن العمل، إلى جانب وجود دور تلك الأم الشاقة التي تعمل بالنيابة عن الأب، مما جعلها تتحمل كافة مشاق ومتاعب العمل كخياطة في الطاحونة الانكليزية، إلى جانب دورها في توفير كافة مستلزمات الحياة في مرابع ذلك المنزل القديم.حاولنا في بدء فرعنا المبحثي الحديث حول الفاعل الشخوصي، كعاملية ممسرحة في بنية السرد، إذ تبدأ الحكاية الروائية منه وتنتهي به، وكأنها حكاية إطارية في الاعمال الروائية.ولكننا عندما نتابع مجرى المسرود أحيانا، نلاحظ ثمة حكاية ذات رؤية تقترب من الواقعية السحرية إلى جانب استثمار تقانة الفنتازيا التي تعد في محددات أفعال المحور، كمعادلة موضوعية في غاية التأطير الدلالي، وإذا أحببنا تسميتها من جهة أخرى كحكاية واقعية، ذلك لكونها تصب في الكشف عن أشد العلاقات الشخصية بواقعها الحياتي المصور بؤسا وحرمانا.أما إذا أردنا وسمها بالفنتازيا، فلا بأس، لأن أغلب متصورات الفاعل الشخوصي تصب لذاتها واقعا بعيدا كل البعد عن مسار صحة وتصديق الواقع الموضوعي الروائي لها.ولهذا ظلت أغلب حوادث الزمن الروائي، تمتاح بتلك الأجواء الواهمة بين جهة حوارية زيزا مع ذلك الغصن من شجرته الخاصة بالبرتقال الحل.فهو عادة ما يصنع لذاته مع ذلك الجذع جملة حوارية تمتد إلى أجواء حكايات فرعية تختص بحكم كونها ناتجة عن مقدرات مدارك الوعي الطفولي وحده، بذلك العالم المحفوف بالاظهارية المعادلة ـ اكتمالا تعويضيا ـ عن نواقص حياة الطفل زيزا، فهو تارة يجعل من جذع شجرة البرتقال جوادا فيمتطيه مسافرا نحو عوالم متأثرة بالخيال السينمائي، وتارة أخرى يجد فيها خلاصاته وملذاته المقموعة في بيت الأب العاطل عن العمل، أو حتى إشباع رمقه من خلال مأكولات يتخيلها متواجدة في واصلات رحلته فوق ذلك الحصان المتمثل بجذع شجرة البرتقال.

ـ التخاطر الزمني والانتقال الضمني بين أحوال الأشياء.

تتجلى مظاهر الزمن في تحقيقات روايةخوسيه ماورو دي، ببناء الوحدات الزمنية من خلال أوجه اندماجية في نسق المحمول السردي التحقيبي، أو ذلك اللازمن الفاصل بين الوحدات بصورة مشخصة.وقد يرتبط الزمن أحيانا داخل تنقلات ملفوظة وليس فعلية.الأمر الذي جعل من وحدات تراسل الزمن داخل حيثيات المواضع في السرد، وكأنها (حالات تخاطرية مع الذات) تلح في إبراز تلك الملامح الأكثر حوارية، بالشكل الذي يخولنا إلى الاعتقاد بأن الزمن جاريا بخطوات المتلفظ في دائرة المحاورة السردية.وليس في حقيقة المواقع الزمنية المؤشرة، اعتمادا على وحدة الزمن: (: ـ يوم تحامقت، فقد أرسلتني ـ غلوريا ـ إلى ـ ديندينيا ـ هو كان يريد قراءة الجريدة، لكنه لم يجد نظارته، كان يبحث عنها في كل مكان ساخطا./ص11 الرواية) لاحظ إن الاستحالة على معرفة الزمن عبر هذه الوحدات، كانت مرهونة بمقدرات التلفظ الحواري والاخباري، لذا بدت مرسومية الملفوظ وكأنها غائرة في ما كانت يينقل الأحداث ـ اخبارا ـ تارة والوصف تارة أخرى.أنا لا أقصد ربما من وراء كلامي هذا، إن السمات البنائية للسرد خالية من الزمن الفيزيائي جدلا؟بل أود التنويه إلى إن الزمن في النص الروائي موضع بحثنا، يشكل بذاته ذلك الحدوث اللامؤشر عليه في حساب الوحدات الزمنية، ما جعل أغلب الأحداث في سيرها بادية كما لو كانت اعتمادا على وحدة السارد في أخباره وتواصيفه ـ تكثيفا ـ في نمو وبناء الوقائع في مسرود الرواية تحديدا.

1 ـ الوقائع المتصلة في فضاء الحيز الارتباطي من الزمن:

ولا تتوقف أهمية مرحلة دون أخرى في رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) إذ كانت مجمل المراحل المتكونة من (بداية ـ وسط ـ خاتمة) ذات القيمة من الأهمية وخاصة من حيث الصياغة وكيفية عملية التبئير الحادثة، وذلك الاحساس القرائي بتزايد التأثير الجمالي والدلالي في مسافة تشويقات أسباب الحبكة المضمرة رغم إن حجم علانيتها المحبوكة في طرائق أكثر دقة وجزالة من المعنى الظاهر في النص.ولو حاولنا تتبع تجليات الوقائع المجملة في النسيج السردي، لواجهتنا مسارات كيفية ومحتدمة من سمات الاحياز الأكثر ترابطية ومفعول المفترض الزمني، كحال هذه المقتبسات من وحدات السرد، التي يظهر من خلالها مستوى من (الوقائع المتصلة؟) عبر مقتضيات الارتباط بالممكنات المعينية: (أنت الذي يريد معرفة كل شيء، ألم تكتشف الدراما التي تحدث في البيت؟أبي من دون عمل، أوليس كذلك؟تشاجر مع السيد ـ سكوتفليد ـ منذ ستة أشهر وطردوه.ألم تلاحظ بأن ـ لالا ـ قد بدأت العمل في المصنع؟ألا تعرف بأن أمي ستنتقل للعمل في المدينة، في تلك المطحنة الانكليزية؟./ص12 الرواية) كان ذلك هو الجزء الحواري الدائر بين الشقيقين زيزا وتوتوكا، إذ كان هذا الأخير بدوره يطلق الملفوظ في صيغة جمل استفهامية، وكأنه يذكر شقيقه الأصغر زيزا بما عليه حال الأسرة في البيت.بيد إن هذه الوحدات الاستفهامية أخذت تشتغل على جعل الوقائع المنصرمة في حدود مشاهدات واقعية زمنية ذات ارتباطات استرجاعية ما، وكأن الغاية منها كانت حصر الماهية السردية في حدود حلقات من الزمن التعاقبي أو الطردي أحيانا عبر سلسلة من الأفعال والمشاهد.لعلنا عاينا أيضا من جهة أخرى كيفية وضع ضمير السارد المشارك لوحدات وعناصر الزمن، ومنذ بداية الرواية، على إن ما يجري فيها من السرد والمسرود أخذ يتبنى أبعادا حسية خاصة من دوافع ونزوعات النفوس المحرومة والمقهورة في درجة قصوى من واقع حياتها..وهذا الأمر بدوره يعد بذاته تجسيدا في مسار إن الزمن ما زال جاريا بالتأزم والتضخم الحرماني السائر في مفاصل هذه الأسرة، وخصوصا ما بدا واضحا عند معاناة الطفل زيزا على وجه من التحديد: (أجل ، أن الأمر يبعث على الحزن، كنت حزينا جدا ومحبطا جدا إلى درجة أنني فضلت أن أموت./ص42 الرواية).

ـ التداعيات السردية بين الفاعل الداخلي والمعطى في زمن الخارج النصي.

تتحدد مع حجم التداعيات في محاور العلاقة السردية بين جهة موقع السارد المشارك وما يرويه الواقع المتداعى في موجهات أكثر أنسنة مع أشياء ومقتنيات الشخصية زيزا.فهذه الشخصية كما أسلفنا سابقا في مبحث فرع أولي أكثر اندغاما وحدود علاقة مؤنسنة بين ذات المحور والأشياء المحيطة من حوله. وتبعا لهذا نقول بأن الطفل زيزا هو ما كان يقيم لنفسه تلك اللغات والتصورات والرؤى الواهمة مع الخفاش مثلا، الذي كان يقطن في أحدى زوايا سقوف منزل العائلة القديم، أو في ما يخص تلك العلاقة الثيماتية التي تتشكلها مقتضيات وهمية مصدرها هوية المعادل الموضوعي أو الترميزي أحيانا: (عندما عرضت المشكلة على العم إدموندو، فكر في الموضوع بجدية ـ إذن هذا ما يشغل بالك؟ ـ أجل، سيدي أخشى بأن لا يأتي لوسيانو معنا إذ ما أنتقلنا إلى المنزل الجديد ـ هل تعتقد إن هذا الخفاش يحبك كثيرا؟ ـ أجل أنه يحبني.. من صميم قلبه؟ـ هذا أكيد؟ ـ إذن تأكد من أنه سيتبعك..من المحتمل أن يتأخر في الظهور، لكنه سيجدك ذات يوم./ص34 الرواية) ولا يعنينا هنا مستوى الملفوظ اطلاقا، بقدر ما يهمنا مستوى الإحالة المرسلة في دواخل أسرار حياة زيزا.فلهذه المتداعيات السردية، ثمة بؤرة ظنية خاصة بمشاهدات الطفل مع نفسه تخيلا.فهو يقربنا بذلك من حادثة تعلقه العاطفي بمعلمته في المدرسة، حيث كان يسرق لها الزهرة البيضاء كل صباح من قصور الأثرياء، لأجل وضع تلك الزهرة في كأس يملأ نصفه الماء ليضع فيه هذه الزهرة كل صباح، إجلالا لتلك المعلمة التي تقوم برعايته بطريقة مختلفة عن أقرانه في حصة الدرس.وعندما واجهته المعلمة برفضها فكرة أن يسرق الأزهار من أجلها، شعر بالحزن والإحباط الوجع مع نفسه لوهلة، وكي لا يصاب بالحزن مرارا، اقترحت عليه المعلمة بأن يبقى كأس زهورها فارغا، ما دام هناك من يود أن يضع فيه كل صباح وردة.فإذا هناك وردة رمزية تبقى كحالة مقابلة لعدم وجودها الحقيقي. هذا المكون المعادل هو بمثابة الشيفرة أو الخاصية الرمزية بحد ذاتها، ذلك لأجل أن يبقى زيزا غير سارقا، ولأجل أن تزع فيه المعلمة تلك القيم اللامرئية في معادلات عالمه الطفولي الخصب.وبهذا النوع من الوعي نعاين ما تركه فيه ذلك الرجل البرتغالي عندما كان سابقاممن كانوا يوبخونه ضربا على مؤخرته ـ أي زيزا ـ ، عندما كان زيزا بأفكاره الشيطانية سابقا، ذلك عندما يبقى متشقلبا بطريقة ساخرة ومشاغبة في الجزء من مؤخرة سيارة ذلك الرجل البرتغالي، وعندما كان يحظى به متلبسا بفعلته، يسارع هذا الرجل البرتغالي في ضربه وتوبيخه.ولكن مع حادث تعرف البرتغالي على زيزا مثقلا من جراء جرح أصاب قدمه، قرر أن يحادثه بلطف ويحمله بسيارته إلى المشفى. إذ راح الطبيب هناك يقوم بمعالجة الجرح ولفه بالضماد وهكذا مع الوقت أصبح طفل الشيطان ـ زيزا ـ يعتبر ذلك الرجل البرتغالي بمقدار أشد من أحبه في هذا العالم. ويرتبط أيضا بذات العلاقة مع بائع الأغاني الذي كان يمنحه القدر الكاف من العناية والرعاية والعاطفة، مما جعل زيزا يعده في مصاف الصدر الحنون له.أقول أردنا من كل هذه الأمثلة الواردة في مفاصل السرد من الرواية، إظهار الطفل زيزا الذي كان يعد في منظور من لا يعرفه حقا بمثابة (طفل الشيطان؟) ولكن من يتعرف عليه عن كثب، يكتشف فيه ذلك الملاك السماوي الذي يسكن قلوب كل من أحبوه وفهموه، وليس في صدور من كانوا يمقتوه.

ـ الانفصال المحوري الشخوصي من المتخيل إلى الواقع.

نكتشف عندما نتقدم في مسار النص الروائي، ذلك بعد سلسلة من الصدمات الموجعة التي تلقاها الطفل زيزا ألما أثر موت الرجل البرتغالي في حادث دهس القطار لسيارته، وصولا إلى محاولة البلدية في المدينة إلى توسيع الشوارع، فقرر مدير البلدية قلع صفوف أشجار البرتقال التي كانت تغطي من امتداد عرض الشوارع، وقد شمل هذا الأمر شجرة برتقال الشخصية زيزا.نكتشف إن هناك وظائف زمنية وظرفية ونفسية جعلت من زيزا يتفهم ما كان عليه حاله من أوهام سحيقة، كان قد أختلقها لنفسه وأدمن عليها ردحا من زمن طفولته: (عند ئذ تحدث إلى قلبي صوت في منتهى العذوبة والحنان..لا شك أنه الصوت الحنون للشجرة./ص175 الرواية) إن حالات الانفصال عن المخيلة بدت في أوج فقدان الشخصية زيزا لذلك الرجل البرتغالي العجوز : ولها من صدمة ؟ فعلا أجاد الروائي خوسيه ماورو دي في صياغتها وسبكها إلى درجة شعور من يقوم بقراءتها بالاختناق والرغبة الطويلة في البكاء الموجع.

ـ تعليق القراءة:

في الحقيقة تثير فينا رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) للمبدع البرازيلي القدير خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس روائيا وكاتبا سيناريويا بارعا بارعا للعديد من الأفلام في البرازيل، ذلك الاحساس العميق للطفولة وسحرها، رغم ما أظهر الروائي نفسه عبر شخصية محوره الروائي زيزا من تفاصيل مؤلمة وقاهرة من حياة عائلة أكتنفها العوز إلى حد الإشباع والتخمة المأساوية. أود القول إن تحليلات وتوظيفات الروائي إلى عالم شخصيته الروائية قد فاقت كل حدود المتوقع والمنتظر من وراء زمن قراءتنا للرواية.فهو عاش مرحلة طفولة زيزا ـ روائيا ـ ثم بالتالي زرع فيها شقاوة الطفولة لدرجة أصبح يقارب أن يكون مثلا لطفل الشيطان ثم أخيرا جعل فيه حب الخير للناس والأشياء، فأحب جذع شجرة البرتقال والرجل البرتغالي والمعلمة وذلك الرجل بائع الأغاني وأما كل هذا هل لنا من الممكن عد هذه المشخصات والمعينات والإمكانيات التي حملها هذا النص الروائي الكبير بأدب الناشئة أو أدب الأطفال كما توهما بعض النقاد في الغرب: لا أبدا ؟ فهذا النص الروائي فيه من الوظائف التأثيرية والتقنية الأدائية ما راح يتعدى أعمالا حائزة على جوائز كبرى بالجزاف.وعلى الرغم من المساحة المحدودة التي حاولنا فيها في دراسة مقالنا هذا للرواية، فلا أكيل لنفسي إلا باللوم واللائمة لأنني لم أكتب عن هذه الرواية والروائي والمترجمة الرائعة الأستاذة أيناس العباسي، إلا ما لا تستحقه منزلة ومقام هذه الدلالات الكبرى الناتجة عن تعالقات ومضمرات وجماليات هذا النص الروائي الفذ.

***

حيدر عبد الرضا

في المجموعة الشعرية (فراديس إينانا) للشاعر يحيى السماوي، سنطوف ونحلق عالياً في فضاءات شعرية الى فراديس الملحمة الخالدة (كلكامش)، تلك التي ثبتت في الأرض، ليستلهم منها الشعراء، عالمهم الرحب، ونكون مع إينانا إلهة المطر والخصب والحكمة والحب والجنس في ملحمة (كلكامش)، ومع أنكيدو، وأنليل وخمبابا، بل إننا سنكون مع حضارة اوروك، ومعالمها البهية، حيث يغوص الشاعر عميقاً، في هذه الفراديس، مع نفحات إيمانية من وحي القرآن الكريم، ومع الحياة بكل تقلباتها، على أرض الحب والجمال، بلدنا الحبيب وهو ينوء يثقل كاهله بحمل كبير، فقد تمكن الشاعر ومن خلال هذه المجموعة، أن يتفاعل مع هذه الرؤى الفنية، فيصنع لنا قصائده الشعرية، وهو يستمد من لغة القرآن الكريم، ولغة الملحمة الشعرية، ودورة الحياة في البلد وما يحدث، والحب الخالد، وسني العمر التي ترحل سريعاً، ليجعلها مفردة شعرية مركبة، ثم صورة استعارية تنتمي لهذه التفاعلات، لتكون قصيدة شعرية ملونة تدور وتتمحور مع حضارة البلد، وكأنه يسحبنا من عالمنا الى عوالم تلك الفراديس، ونطوف في اوروك، وشخصيات الملحمة، كل حسب دوره ومكانه وما قدم فيها، لكنه يستحضرهم ليؤازروه ويساندوه ويكونوا  معه، وهو ينوء بالكثير من الأحمال التي تدفعه لرسم ملامح قصيدة شعرية، ذات أكثر من بعد وأكثر من رؤية وأكثر من صورة، فلم يكن الطواف في مدينة أوروك  إلا صرخة احتجاج لواقع فقد الكثير من الجمال، والخير والأمان والحب والطمأنينة والسلام والأمن، وهو يذكرهم ويذكرنا بأن العمر عبر السبعين، وبات يرى كل شيء بشكل أنضج، وغدا الحس الشعري الذي يمتلكه يحلق في الفضاء الى أعمق ما يحتاجه الشاعر من معانٍ تلهب النفوس، وتثير المشاعر، وتشحن الذهن بقصائد ناضجة مشحونة بسحر الكلمة التي انطلقت من شاعر خبر الكثير من خباياها، ولم يعد يكتب  إلآ الشعر ولا يعيش  إلآ له، وهو يقدم لنا هذه التجربة الجديدة والحديثة، بكل ألوانها، وعملية بنائها المغاير والمختلف، وهو يستمد جمالها من كل شيء مكث في الأرض، وظل خالداً ولا تمحوه الازمنة، ويظهر التأثير واضحاً في تلك القصائد، في تكوينها وتشكيلها، كونها طوافاً  في هذه الفراديس، وهو يقدمها بروحها ولغتها وسر خلودها.3758 فرتيس اينانا

في قصيدة (هبوط إينانا من عالمها العلوي) يقدم لنا الشاعر هذا التفاعل الذي يضفي على جمال القصيدة سحرها الأخاذ، إذ أن إينانا تهبط لترى وجه الأرض المتناقض القبيح، وتبوح بسر جمال فردوسها الازلي، وانوثتها المبهرة:

هَبَطت من بُرجها العلويّ إينانا

احتجاجاً

ضد أنليل وما يكنز من تبرٍ

ومالٍ وقيانْ

*

ورياشٍ في رحابِ " المعبد الأخضر"

في وادي اليتامى..

والمُرائين المُصَلْينَ أمامَ الناسِ

جهراً

ووراءَ السورِ مانال امرؤ القيس من اللذاتِ

زادًا وكؤوسًا وقصورًا وغوانْ

وتستمر القصيدة في انثيالاتها الشعرية الحالمة الشفيفة لتأخذنا الى جمال اوروك وسحر النساء فيها، وفي نهاية القصيدة، تشير الى وجه الاختلاف:

فلماذا أصبحوا الآن كأسنان التماسيحِ

وقد كانوا كما أسنانُ مِشطٍ

ما الذي صَيَّرَ أوروكَ جحيماً

بعدما ما كانت جنانً؟

*

حانَ وقتُ الفصلِ بينَ الصدقِ والزيفِ

وبين اللهِ والاصنامِ

حانْ

وفي قصيدة (الماء أحرقني فأطفئيني بلظاك) يقدم لنا الشاعر طوافاً آخر في فراديس أوروك، وغاباتها ومتاهاتها، وسط الضياع الذي يكسوه، وهو يناجي معشوقته متلهفاً لرؤيتها، مشتاقاً لكل ما فيها:

مُتعثّراً بخطايَ جئتُكِ

هارباً مني إليكِ

دخلت ليلَ الغابة الحجريةِ الأشجار

أبحثُ عنكِ

لكنْ

ليس من أثر يقودُ إليكِ

فالليل البهيمُ

أضاع خطوي عن خُطاكْ

وتستمر القصيدة نحو هذا المحتوى حتى نهايتها، وفي قصيدة (الامتلاء فراغاً) نجد هذه التراكيب الفنية المستحدثة تتفاعل وتنصهر في بوتقة واحدة، لتعطينا صورة مغايرة لحياة اوروك، وتنقل لنا الحياة الجديدة وانقلابها:

لستُ أدري

أيًّ ربٍّ أتّقيهْ

كاهنُ المعبدِ لصِّ

ووليُّ  الأمرِ دجّالٌ..

وكلًّ يطلبُ البَيعةَ في أوروكَ..

كلكامش باعَ السور أصهاراً

وأضحى قارئُ الفنجانُ والكفِّ فقيهْ

//

فإذا السارقُ قاضٍ

وإذا النُّكْرُ وجيهْ

//

وإذا بالشمسِ تستجدي من الفانوس ضوءاً

ليس ما يملؤني إلآ فراغُ القلبِ

ممن يَسْتبيهْ

ونكون مع رحلة السبعين عاماً في قصيدة (جفاف بعد سبعة أنهار وسبع سواقٍ) ويكشف لنا الشاعر في هذه القصيدة تداعيات الرجل الذي تجاوز السبعين، وآثار السنين على رحلة عمره، ونقرأ في موطن من هذه القصيدة:

كل ما أعرفهُ

أني أخيذُ الغابةِ

الصَّبُّ الفراتيُّ الذي جاوز سبعينَ

ولا زال غريراً

عَقَدَ الألفة بين الظبيِ والذئبِ

وبينَ الماءِ والنارِ

المُصَلَّي الرافعُ الكفَّينِ يدعو

للعصافيرِ بقمحٍٍ

وبوردٍ للفراشاتِ وبالأطفالِ للعاقرِ

والجائعِ بالخبزِ وبالأمنِ لقومي

والصحارى بالمطرْ

أما قصيدة (كُنا... فصرنا) نكون برحلة مع العمر حين يمضي، تغدو الذكريات اطلالاً وماضيا، ولا شيء سوى المناجاة والتداعيات:

مضى ما كانَ يَجمَعُنا فأمسى

بمقبرةِ المُنى والعشقِ رمسا

*

فما عُدت المُطلَّ عليَّ بدراً

ولا عُدتُ المُطِلَّ عليكَ شمسا

*

وكنا في الوئام ندىً وورداً

وكنا في اللقاء فماً وكأسا

وفي قصيدة (عتمة) نكون مع هذه التفاعلات، وهو يقدم لنا مدينة اوروك بقصيدة قصيرة، اوروك الآن وكيف أضحت، وليس اوروك الحضارة:

أوروك لا شمسٌ ولا نجمٌ..

وكهفي دونَ نافذةٍ..

وبستاني بلا شجَرٍ..

ولا من سامرٍ فيشدُّ من أزري

//

أما لليلِ في أوروكَ

من فجرِ!

وهكذا نكون قد طفنا بعالم الشعر الحديث، للشاعر يحيى السماوي، ونحن نختار جزءًا  يسيرًا من مجموعته الشعرية (فراديس إينانا) التي ضمت العديد من القصائد بكل أنماطها، وأنا أشعر بغبطة إذ شعرت بأن الشعر لازال عراقياً.

***

يوسف عبود جويعد

....................

* من اصدارات دار الينابيع – طباعة ، نشر، توزيع لعام 2022

للقاص السوري د. محمد ياسين صبيح

خروج

(كلّما خرجتُ إلى فضائي متسلّحًا بفكرةٍ ومعطفٍ ضدّ المطر، كنتُ أفقدُ بعضًا منّي، وبعضَ جيوبي..

وكلّما كنتُ أخبّئُ فكرةً جديدةً، أفقد رداءً..

مؤخّرًا.. عدتُ إلى البيت عاريًا...)

***

1- ديباجة النص:

هناك عدد من الدلالات السيمائية التي ألقاها القاص في نصّه، منها:

فعل الخروج، الفضاء، الفكرة، المعطف أو الرداء، المطر، الجسد (بعضًا مني)، الجيوب، فعل التخبئة، فكرة جديدة، فعل العودة، البيت، العري..

في هذا النص يشير الكاتب، في فعل الخروج إلى الفضاء والعودة إلى البيت، إلى الإنسان كمخلوق سجين بين الولادة والموت، فالخروج ولادة، والفضاء حياة حرة، والعودة إلى البيت والعري موت في قبر.

الجيوب هي عقلُه الذي يحوي بنات أفكاره، ومخبأُ كل ابتكار يبدعه هذا العقل، ويستهلكه الجسد، فالجيوب عندما تمتلئ بالأفكار، تثقل رداء الجسد الذي يواكب الإنسان، في لبسه كلما خرج، وخلعه كلّما عاد، بمعادلة معروفة:

لبس الرداء - خروج

خلع الرداء – رجوع

والخلع واللبس يشير إلى العمر الإنسان الذي يملك عقلًا وجسدًا، يخبئ أفكاره بجيوب ردائه، يخرج نهارًا يرتدي معطفًا يظن أنه يقيه مطر الأفكار الخارجية، ولكن جيوب معطفه تمتلئ بها رغمًا عنه تزاحم أفكاره الجديدة، وعندما يعود ليلًا إلى داره يستجدي الراحة ينزع عنه رداءه، ويضيع منه، كما تضيع الفكرة الوليدة حينما نخفيها ونعجز عن تذكّرها وتذكّر مكانها، فيغدو عاريًا من كل فكرة كما جسده العاري المتخفّف من كل حمل.

وكلّما كان الإنسان في مقتبل العمر، كلّما كان قويَّ الجسد حرَّ التفكير، ثريًّا قادرًا على شراء أردية كثيرة، تلائم الأفكار المنهارة عليه كالمطر، ومع تقدّمه بالعمر يتكرّر فعل الخروج والعودة، اللبس والخلع، الكسب والفقد، الثراء والفقر، إلى أن يصل إلى مرحلة يفقد فيها القدرات الإيجابية جميعها، ولا يملك إلّا الضدّ السلبي وقبر يلجه بجسد ضعيف زالت أرديته إلا من كفن، وعقل ذاهل تبدّدت منه الذاكرة والعلوم والأفكار، وتعرّى من الوعي والإدراك.

2- التحليل الدلالي الإيحائي:

- الدلالة الأولى: ( كلّما خرجت إلى فضائي متسلّحًا بفكرة )

يشير القاص بفعل الخروج إيحائيًّا إلى أن الإنسان حينما يخرج إلى العالم الخارجي يرتدي ملابس، فما هي هذه الملابس؟ هل هي الملابس التقليدية؟ لم يقصد القاص هذا المعنى إطلاقًا، وإنما قصد المعنى الإيحائي الذي يذهب إلى اعتبار ملابس الإنسان هي عقله، الزينة التي زيّنه بها رب العالمين، فإن كانت الملابس زينة البدن فإن العقل هو زينة الإنسان ككينونة مكرّمة عن سائر مخلوقات الله، هذا العقل هو جيب ووعاء الأفكار التي تنزل إليه كمخلوق مكرّم، فيها يقاوم أفكار الغير، بمعاندة كبيرة، وحرص أكبر على الاحتفاظ بملكية فكرته.

- الدلالة الثانية: ( ومعطفٍ ضدّ المطر، كنتُ أفقدُ بعضًا منّي، وبعضَ جيوبي..)

هنا يشير الكاتب إيحائيًّا إلى أن الإنسان، مهما حاول أن يقي نفسه من أفكار الغير، وتحصّن بدرع أو معطف مضاد فلن يستطيع أن يمنع تلك الأفكار من الهطول، كما لن يستطيع بمعطفه الواقي أن يمنعها من اختراقه، ستجد مكانًا لها في جيوب معطفه المفتوحة، وستنافس أفكاره المخبوءة فيها، وقد تطردها، حينما تمتلئ فلا تستوعب الكثير، فيقع ما فاض منها، والغالب أن الفائض هو تلك الأفكار الذاتية الخاصة المخبوءة، التي يكون مصيرها الفقد التي هي بضع من صاحبها، ويطال الفقد أيضًا بعض من أوعية عقله.

- الدلالة الثالثة: (وكلّما كنتُ أخبّئُ فكرةً جديدةً، أفقد رداءً..):

وهي تشير إيحائيًّا إلى أن الإنسان عندما يرتدي ملابسه، إنما يرتدي أفكاره، وحينما يتقدّم بالعمر، تغدو السنوات هي الأردية، وكل رداء منها يخلع جزءًا من أفكار الإنسان في عقله وقوّته في بدنه، والأفكار حينما نخفيها أو نخبّئها سنفقدها حتمًا، فهي خُلقت لتظهر للعيان، لتفيض عن أردية الغير بقصدية النماء، الفكر الجديد هو علم مفقود إن لم يُنشر ويعمّم.

- الدلالة الرابعة: ( مؤخّرًا.. عدتُ إلى البيت عاريًا...):

الرسالة النص: سنوات العمر أردية متناقصة بتوالي الخلع، مع كل خلع يفقد الإنسان جزءًا من الكل، حتى يضحي عاريًا من الفكر، متجرّدًا من القوة، مسلّمًا نفسه إلى مدير سجن الموت، نهايته القدرية المحتومة.

3- التحليل النقدي الذرائعي:

وفق المستويات التحليلية الذرائعية التالية:

- المستوى المتحرّك:

حمّل القاص نصّه العديد من الحمولات المختلفة بنوعيّتها:

1- الحمل الفلسفي:

للقاص فلسفته في قضيته كإنسان، فهو يرى نفسه سجينًا بين الولادة والموت وفقط، وكل ما يحصّل من مكاسب في الحياة، من قوة مادية بدنية وأفكار وقدرات عقلية، تنتزعها منه السنوات بتقدّم العمر، وهكذا في البداية تبدو السنوات مقبلة باتجاه النماء، ثم يدير العمر وجهه، فتبدأ السنوات باسترجاع ما أعطت، فتسلب منه القوة والإدراك، وعندما تجرّده من كل ذلك، تدبر الحياة باتجاه الموت، النهاية التي لا يختلف عليها ضدّان.

2- الحمل الرمزي:

بنى القاص قصته بتكثيف موجز رمزي مغلق، أشار له برمز (السنوات)،وجعل السنوات بوجهين، وجه أبيض ووجه أسود، الأول اتجه باتجاه الولادة، والثاني اتجه باتجاه الموت، ودعّم العنوان ( خروج) فعل التوجّه.

3- الحمل الإيحائي الذرائعي:

كان هذا الجمل أو الجانب واسعًا، والدليل أنه كتب قصته الطويلة كإنسان عبر بالحياة بكلمات موجزة، ويعني ذلك أن النصف الثاني غير المرئي من الدلالة ( الإيحائي الذرائعي)

كان، إيحائيًّا، ممتدًّا إلى ما لا نهاية من احتمالات تأويلية، ويستطيع المحلّل تحميله باحتمالات كثيرة أوجزنا منها الولادة والموت، وأترك الباقي للمتلقي.

4- الحمل الاجتماعي:

قدّم فيه رسالة مفيدة، مؤثّرة، عن مسيرة الإنسان الواعي، والتأكيد على الاستفادة من المعرفة المتكاملة، وطريقة إيصالها للناس دون تبذير ولا تفريط.

- المستوى السيكولوجي:

في هذا المستوى، تقرّ الذرائعية أن أصل كل فعل وقول يجريه الإنسان، إنما يتأتّى من دواخله السيكولوجية، بأوامر تصدر أحيانًا من اللاوعي، وأحيانًا من الوعي نفسه، فالأوامر الصادرة من اللاوعي هي نتاجات حتمية تستقرّ في رأس قلم الكاتب، لا يستطيع التخلّص والتملّص منها بسهولة، إلّا إن كان واعيًا ومتمكّنًا من قدرته على هذا التملّص من سيطرة النفس.

أمّا الأمور النفسية والسيكولوجية الواعية فهي تصدر عن رضى نفسي بالتضافر بين الوعي واللاوعي لسيطرة الضمير كموجّه حتمي للتوازن الانفعالي للفرد.

والقاص، في هذا النص، كان منطلقًا من الجانب النفسي الواعي، حيث كتب عن التجربة المعاشة فقط، وحكّمها بالمنطق الذي أقرّ الواقع المعاش، ولم يتطرّق إلى ماوراء المعاش، مقصيًا جانب الغيبيات، ما قبل الولادة وما بعد الموت.

المستوى الأخلاقي:

إن أقرب عمل إجرائي يقوم به الإنسان هو العمل الإيجابي، ليكون هذا العمل في متناول الأخلاق التي تقود الإنسان باتجاه الخير ومجافاة الشر، والأديب هو خير أداة بيد الخير، معول لحفر قبور الشرور والأشرار.

والقاص، في هذا النص، مسنود على رسالته الأخلاقية هذه التي تدعو أفراد مجتمعه نحو الإفادة من علوم الحياة، وزرع أفكاره الخيّرة فيها، ولو أكلت الحياة عمره وقوته وعقله، يكفيه أن يغادرها مؤثّرًا فيها، عابرًا إلى حتمه تاركًا تركته من العلم لأجيال سيعبرون في الحياة متسلّحين بما تسلّح به، والسلاح قوة، فالأفكار والعلوم وُجدت لتُنشر لا لتُخبّأ، وهي قوة مضافة، هكذا تُبنى الأمم.

المستوى الجمالي:

امتازت هذه القصة المكثفة الموجزة بإطناب السهل الممتنع، وحمولة الدلالات الإيحائية الأربعة، ما أكسبها جمالية إيجابية أعطت جوانب برّاقة كما نراها منعكسة بجمالياتها فوق بياض الورق.

أحيي القاص الدكتور محمد ياسين صبيح على هذا النص القصصي المكثف الموجز المائز.

***

بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

سرد بصوت الكاتب، وهو ينطلق من عمق مرابع البادية في ترحال بين الشمال والهضاب العليا، ترافقهم الخيمة ومواشيهم.

 كنت أجلس مع المؤلف واتنقل وأسيح في البادية، واعشق وأكره، وأفرح بنجاحاته التي تولد من رحم المعاناة والتحدي وأحزن لضياع فرص جميلة يشاء القدر أن لا تكون لحكمة كونية تظهر نتائجها من خلال النص المسرود.

الكتاب بعنوان حَدِثُ القُبَرَة، هذا العنوان الإيحائي يخلق مطابقة بين النص وشخصية السارد وبيئته فالقبرة ذلك الطائر المعروف بأنغامه العذبة، والذي ظهر في العديد من الأعمال الأدبية فرُمِز به إلى الفجر، فوجدناه كثيرا في كتب التراث والأساطير المختلفة لكن في مسرود سعدي صباح كان مرافقه رفيقا لأنه يكثر في بيئته الشبه صحراوية، فهو يسمع زقزقته في ذهابه وإيابه، أثناء لعبه وصيده، وكثيرا ما يجد أعشاشه في الارض، كان المؤلف يريد أن يرفرف مثله في السماء يصطاد أحلامه التي تزاحمت كنجوم السماء، يعتبر هذا الكتاب وصف لأعماق النفس البشرية وما يكتنفها من انفعالات وعواطف كتحدي الفقر، التخلف، الجهل والسعي للخروج من هذه البوتقة بإمكانيات جد بسيطة من عالم الاشياء تنتهي به إلى التألق والنجاح،كما أنه كان يغوص في الأرواح الطيبة من أهل البادية رجالا ونساء فيبين أجمل ما فيها من الخير والإحسان، تعلق الشاعر بالمرأة منذ مراهقته الأولى، كانت تعلمه وتدفعه ليتعلم أكثر، ويلبس أفضل، ومن العجائب كان يمر بإخفاقات فهو شاعر عاشق للفن بالفطرة، كان يجري خلف الجمال الذي يهبه الله حتى لا أقول تهبه الطبيعة لمخلوقاتها من فتيات أو صحراء، أو تلال، أو مروج. المؤلف يحب الجمال إلى حد بعيد، ينقله في روحه،ودمه ثم ينثره حروفا تغني وترقص،كان رومنسيا وسرياليا إلى حد بعيد، يصف نفسية الشخصيات التي مرت معه كما يفعل الاديب الروسي فيودور دوستويفسكي في رواياته المقامر، في قبوي، كان يصف الكريم حتى تحب أن تراه والابله حتى تمقته والحسناء حتى تحلم بها، يحكي عن نفسيات كثيرة متجردا من كل العقد بلا تهور أو قلة حياء عن امه. ما أجملك أيها الكاتب الرائع سعدي صباح نسمي هذا النسق بالجانب السيكولوجي.

أما النسق الثاني بلون آخر فيحمل كما هائلا من لوازم بيئته البدوية وأشيائها وأعمالها، من حيواناتها، نشاطات الموالين والفلاحين والمرتحلين الباحثين عن الماء والكلأ، عن المدن المعزولة من قبل الاستقلال إلى بعد الاستقلال ثم الزمن الثالث بعد زلزال الشلف وظهور التدين منه ما أفاد ومنه ما أستعمل في غير مكانه فكانت المنطقة ممرا لجحافل الإرهاب في الاخير زمن الرئيس بوتفليقة وما وقع فيه من وصول المفسدين لمراكز حساسة.

لو سألت اليوم واحد من الشباب كيف كنا نعيش ثقافيا واجتماعيا قبل الاستقلال أو في السبعينات فلا يعرفها لنسمي هذا السياق بالبعد الاجتماعي وهو بهذا البعد يكون قد ساهم في نقل التراث نقلة عجيبة ليس بمجسمات طينية من قلال وترس (شواري)، ومنجل، وأسماء الأشخاص، والخيمة الحمراء التي تميز ولاد نايل، أما السوداء تمثل عروش بني هلال وكل هذا يسهل الدراسة الأنثروبولوجي لحركية هذا الانسان في هذه السهوب والتلال هنا التراث يتحرك، يتكلم، يجري، يجلس، يغني ويرقص.

النسق الثالث يحمل بعدا تربويا وثقافيا، أما التربوي فالمؤلف نقل لنا صورة رائعة لمراحل تطور المدرسة الجزائرية عامة في مناهجها، وبناياتها، وتلامذتها ومعلميها، أيضا يحكي عن حالة التدريس قبل وبعد الاستقلال في تلك المنطقة مصورا فيها.

كل شيء المدرسة كفضاء يتطور من خيمة إلى تراب إلى بناء، التلميذ، تعلم المرأة في الريف، المعلم وتنقله، المديرين، المفتشين، الكل بمحاسنهم ومساوئهم ....

أما الشيء الرائع في حديث القبرة يحكي تطور الأدب خاصة وفنون أخرى من شعر بأنواعه وقصة ورواية بطريقة فنية أتمنى أن يدرس هذا الكتاب في مختلف الكليات الأدبية، الاجتماعية، النفسية. فهو مرجع رائع جدا. كأنه دليل سياحي لهذا الجزء الجغرافي السهبي الخلاب.

نتفاءل بأن مستقبل الجزائر الجديدة في جنوبها، أكثر من شمالها وليس هذا في المورد النفطي، بل كل الموارد من الطاقة البديلة، إلى الذكاء لدى هذا الإنسان، إلى كل ما في هذه البيئة من كائنات حية..

***

كتبه الشاعر رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

ذياب مهدي محسن آل غلام، من مواليد العراق، الشامية 1952م، فنان تشكيلي وكاتب وشاعر، وعضو جماعة فنانين النجف 1970م، وعضو نقابة الفنانين العراقيين 1975م، وعضو جمعية التشكيليين العراقيين 1975م، عضو جماعة أدب في النجف 1975م، وعضو جمعية حقوق الانسان العراقية-الأردن2002م، وعضو اتحاد ادباء وكتّاب العراق، ومشارك في الكثير من المعارض التشكيلية داخل القطر وخارجه، وله ثمانية عشر معرضاً تشكيلي شخصي ما بين 1970 – 2009م، وعضو اتحاد شعراء ملبورن/استراليا، وحائز على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية؛ فنية وأدبية.

وله مجاميع شعرية صادرة، منها: (قطار الشوق (2ج) الصادر في عمان عام 2001م، حبايب ديوان شعر، حياة الأيام ديوان شعر، ليالي البنفسج الصادر في عمان عام 2002م، من سيرة الأيام الصادر في عمان عام 2004م، القرمطي لا يخلع صاحبة الصادر عن دار الفرات، سونيتة الغجر الصادر عن دار الفرات، المشي على أطراف الروح الصادر عن دار الفرات عام 2018م، عاشق مضرج بالنهد الصادر عن دار الفرات عام 2019م). فضلاً عن مؤلفاته (مقهى عبد ننه.. عن تاريخ النجف النضالي في الفكر الصادر عن دار الفرات في بابل عام 2018م، الإسلام والماركسية.. دراسة فكرية مقارنة الصادر عن دار الفرات عام 2017م، القرنفل الشقي.. أوراق من سيرة الأيام الصادر عن دار سما عام 2021م) وكتب العديد من الدراسات الفكرية والمقالات الأدبية والثقافية، ومقالاته التي تجاوزت (270) مقال على مواقع الكترونية وصحافة ورقية في مجالات متنوعة.

الحوار مع الشاعر ذياب مهدي آل غلاب يفسح المجال ويخصبه للنبش والحفر وتقليب أرضة القصيدة، لمعرفة عمقه بقصيدة النثر، وتجربة الشاعر ذياب تشكل بمجملها ظاهرة أدبية في حركة الشعر المعاصر في قصيدة الغزل، فديوانه الأخير (وشم على رئة التراتيل أناشيد تعتقها المنافي) الصادر هذا العام عن دار الفرات في بابل بالمشاركة مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع، وقد تضمن (59) قصيدة عشق للقرنفل الشقي ذياب آل غلام، جميعها تتحدث عن سيرة حياة عاشق، قرمطي النزعة والفكر، قديس اشبه بالملاك، يمتلك قلب طفل مدلل ومولع بالعشق الفطري. أول القصائد كانت بعنوان (استهلال)، تُشبه في اسلوبها تراتيل عاشق عاش أكثر من عقدين في الغربة وهو يحن إلى ظفائر حبيبته الأولى. وكانت مقدمة الديوان بقلم ابنته الدكتور (هلا) تحت عنوان (خطوة في الدرب... نحوك): قصيدة سومرية، أول معزوفةٍ سمعها البشر، زهرة رقيقة في قمة جبل، ماؤها ورحيقها... راهبة في محراب أنسها الوحيد أن تتلو ترانيم وتراتيل طفولتها وكأنها عزف منفرد على وتر اليقين)، ثم تختم الدكتورة المقدمة بكلمات رقيقة: (فلو كان للقلب فن يمارسه لكان الشعر والعزف... فكل قصائده وموسيقاه في صوتك وعينيك).

واللافت لمن يقرأ قصائده في ديوانه الأخير يجد أن قلب الشاعر يخفق بعشق المرأة، ويقترب في أكثر قصائده من قلب النساء. فهو المبدع الحقيقي، والشخص الحساس والمغترب برؤاه وأفكاره وطموحاته وأحاسيسه القرمطية، وله طقوسه الخاصة، وأحاسيسه المشبعة عشق وغربة، ووعياً وإدراكاً، وتوتراً واحتراقاً، وحرقة وتأمل، فهو الشاعر الذي يختلف في نص قصائده عن الآخرين في فاعلية تأثيره في وسطه الأدبي.

عرفته منذ عام 1988م من خلال الخدمة في العسكرية، انساناً شفافاً، مخزون بالإبداع والثقافة والموهبة، يمتلك ركيزة معرفية وثقافية حساسة، وهو الأكثر تأثراً وإحساساً، وبعد أن فرقتنا الأيام بعد الحروب والحصار الاقتصادي على العراق، كان لموقع (الحوار المتمدن) الفضل لإعادة علاقتنا الأخوية، بعد أن عرفت أنه مقيماً في استراليا، وقلبه ومشاعره ترنوا لأحداث بلده بعد الاحتلال الأمريكي، ومن ثم زياراته المتكررة للعراق، والإقامة لأكثر من ثلاثة أشهر في كل سفرة، فعاد تواصلنا وحواراتنا بين الاتفاق والاختلاف.

وهو المبدع المغترب المستمر في حركة دائبة من الحراك الشعوري، والصدام مع الواقع وتحديه، والتمسك والتسلح بكل ما يحمله من روح الجديّة المعاصرة، واللجوء إلى الموروث للإبتكار. وما من شك في أن للرموز الوجدانية نجدها في نصوص الشاعر بحركتها المؤثرة في لغة الحداثة النثرية في قصائده عموماً، وهو الشاعر الأكثر احتفاءً بالرموز في نصوصه، إذ يخلقها خلقاً جديداً، ويمنحها الشفافية والعمق، والحركة والإيقاع، وقد لا نذهب بعيداً في قولنا: إن ابتهاله الهادئ يميل فيه إلى عمق المكاشفة والتأمل، كما في قوله:

ها أنا في الغربةِ وحدي

تحتَ عبءِ الهمومِ

أتلمّسُ نبضَكِ،

ضفائركِ

يا لحظةً جميلةً في ذكرياتي

***

أبحث عن سماءٍ تسقيني

غيثَ السلوانِ لروحي

ثم أغمضُ عيني

لأعانقَ أحلامي

هنا يطالعنا الشاعر برموزه التي تكشف عن إيحاءاتٍ عميقة، من حيث الابتكار والشفافية والعمق، فهو يبتدع رموزه ودلالاته، ورؤاه الخاصة بعيداً عن مسالك السالفين، فهو الشاعر الذي يفاجئنا بأنساق تشي بالدلالة العميقة، والإيحاءات المبتكرة التي لم نعهدها من السابق عبر حركتها الرمزية المشتعلة قوة، وإيحاء وشفافية روحية وجمال روحي مفتوح الرؤى.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

25/11/2022

 

مبدئيا فالعنوان ليس خـدعة أو نوع من الإثارة؛ بل هو بمثابة مدخل لما أود خطه في هاته المقالة؛ التي تجنح تارة نحو الذكريات وتارة نحو النقد للمشهد عامة؛ وتارة هي هلوسات في أفق عوالم الرقمنة؛ إذ في لحظة النشوة تساءلت لماذا لم تحظ التمثيلية الإذاعية بالمتابعة والنقد والمتابعة عندنا؟ هل نقاد المسرح لا يعنيهم  الموضوع أم كانوا لا يتوفرون على مذياع؟ لكن ما هو مثبت تاريخيا ليس لدينا [نقاد] بالمعنى العلمي/ الأكاديمي/ الاحترافي/ وأبعَـد من هذا كنا ومازلنا لا نتوفر على صحف فنية (مختصة) ولا على ناقد فني؛ وإن حاول في زمان (ما) المرحوم علي الهواري وعبدالسلام السفياني ومحمد الطنجاوي و... لم يستطيعوا تأسيس نهج أوتوجه  كما هو الشأن في الشرق  سواء مصر/ سوريا/ العراق/... ومجلاته كالموعد/ روز اليوسف/ صباح الخير/المصور/ فنون/ الكواكب/ الإذاعة/ الشبكة/... -.../

ربما أحد جهابذة "اللغـْو" سينط  كالقرد ويشير بأننا (الآن) نتوفر على نقاد أكاديميين! ممكن؟ ولكن في المِشْمش؛ وحسب الأرصاد الفنية، ما أعتقد، والذي أعتقده أن بعضهم لم يستمع في أيامه ولو لتمثيلية إذاعية! (واحدة) والبعض الآخر لا يعرفها!  لماذا؟ آه: لماذا؟ فالذي لا يحضر للعروض المسرحية؛ ويكتب عنها عن طريق (السماع) أو من (تحْـتها) وينسب لنفسه صفة (ناقد) هل سيعرف ما هي التمثيلية الإذاعية؟ هل سيكتب عنها؟ إطلاقا. لأن لا ثم لا: وقت لديهم، لأنهم كانوا ولازالوا متفرغين للفراغ وللبحث عن منافـذ ومنابع للتعويضات بين الموائد أواللجن أودهاليز الصناديق السوداء! باسم الصفة (ناقد)؟

رب عالم في همسه سيقـول: كما يقولون دائما: في الكـَواليس ومن وراء جدران كهوف باخوس. ولما لا يمارس (هـو) ما يدعُـون إليه؟ هكذا يتكلمون! ولا يواجهون! ليس خجلا بل خوفا من ذيول تصرفاتهم ومسلكياتهم؛ إنهم واعون بما يمارسونه على حساب الفن الرابع؛ فن النبل وإنسانية الإنسان؛ بالنسبة لي لم ادخل غمار قراءة التمثيلية الإذاعية، لأنني كنت ضمن فريق إذاعي بمدينتي؛ إن قمت بما يسألون؟ عنه بالتحليل والقراءة لعمل إذاعي (ما) سيقول النمامون والوشاة؛ بأنني مأجور؛ من قلب البناية التي فتحت لي أبوابها للإنتاج منذ عقدين(..) إنها تهمة رخيصة، تلتصق بمن خارج الزمرة؛ أو يميل لاتجاه غير تجاههم، أو عازف عن متاع الدنيا في الحد الأدنى. وأفظع التهم التي كانت:(أنه) مؤسساتي مُمَخـزن، هكذا كان مشهدنا الثقافي/ الفني؛ ومن بين الطرائف التي حصلت ما مرة في زمن الإذاعة، أنني نسقت مع أحد (المثقفين) و(أكثرهم) تحَـدد ميعاد اللقاء والتسجيل؛ صبيحة ذاك (اليوم) اعتذر أنه يرفض الدخول لتلك المؤسسة بدعوى أنها (يمينية) فهل هناك مؤسسة(يسارية) ستقبله؟ والمضحك أنه موظف كان موظفا في أعلى الدرجات في قطاع (...) لن نقول أنه يميني، بل مصدرلرزقه!  مفارقات كنا نعيشها أبهى، وأروع من [التمثيليات الإذاعية] التي كان ينتجها الراحل عبدالله شقرون أوأحمد البصري أو الهاشمي بنعمرأو الطيب العلج عبدالرزاق حكم أوزهور المعمري أو فريد بن امبارك أوحمادي عمور أو حبيبة المذكوري أو محمد عاطفي وعبد الصمد دنيا أو شعيبية العذراوي أوالمحجوب الراجي أوحماد الأزرق أوعبد العظيم الشناوي أو وفاء الهراوي أوزكي الهواري أوحسن الجندي أوأحمد العلوي أوحمادي التونسي أو العربي الدغمي أو رشيدة الحراق أو محمد الرزين أو أحمد الناجي.. والقائمة أطول من عمر من ينسى أن هؤلاء تعلمنا منهم حسن الإصغاء وتوسيع مدارك التخييل وإنتاج الخيال الذي هو عُـصب الإبداع في فنون القول: مي رحمة أو رحلة بن شامة أو حكايات دادا سعادة أونهار الخميس أو الخيمة.. ومن الصعب أن ننسى مسلسل "الأزلية" فكل منا له ألف حكاية وحكاية مع ذاك المسلسل. وحكايتي كانت قبل المسلسل مع المذياع؛ بحيث اشترى والدي رحم الله الجميع. مذياعا من الصنف الكبير؛ زمن صولة المذياع (؟) وشبه انعـدام التلفاز(!) وكان مستحْـوذا عليه في غرفته؛ إنها عقلية الجندية في زمَـن الحَـرب العالمية الثانية؛ فكنت كل "خميس" أتحجج بزيارة جَـدتي في إحدى الأحياء الشعبية؛ ذات الطبيعة الحيوية بالهرج والمرج وطيبوبة ناسها، ولكي أسرق مذياعا صغيرا ل"خالي" الذي كان يأتي من العمل ليلا وفي حالة سكر طافح؛ يساهم في نومه نوما عميقا، تاركا لي فرصة الاستماع للتمثيلية الإذاعية أواسط الخمسينات من ذاك القرن؛ لأعيش منطق السعادة والعزة أمام صوت المذياع! بحيث كان ذهني ينغمس كليا في أجواء تلك الحلقة؛ وأهيم كما تهيمُ البهيمة في بَهـيم ِ الليل، حتى يغلبني النوم وتضيع شحنة البطارية التي كانت على ظهر المذياع، تستدرك جدتي الموقف؛ كل أسبوع. وتخبئ المذياع في مكانه، حتى لا يفطن إبنها بالأمر، وهكذا حتى أمسيت مدمنا كالبقية الباقية على التمثيلية الإذاعية؛ وخاصة الأزلية التي استلبت عقول كل الناس صغيرا وكبيرا؛ وأمست الألقاب والنعوت توزع إما بَسْطا أو مدحا أو ذما بين الشباب والنساء وأفراد العائلة والأسر:كعيروض/ عاقصة/ السقرديس/ قمرية / السقرديوس/ عاقلة / رعد/ قمرون/سعدون/ وحْـش الفلا/.../ وأحلى وأبهى لحظات الإستماع للتمثيلية الإذاعية في شهر رمضان؛ إما قبل آذان المغرب في الدكاكين والمحلات للصناعات التقليدية! وبعْـد الإفطار في الغرف والبيوتات! حيث كانت و(كنا) نجتمع للتمعُـن والاستفادة من الحكاية المسترسلة، تلك كانت حكايات واضحة المعاني وشديدة المباني؛ بثراء المؤثرات الصوتية وبأصوات متنوعة ومتلونة لمبدعين أفـذاذ. كأننا في مجالس البصرة أوفي جامعة الزيتونة أو سوق عكاظ أو في جامعة القرويين؛ نعم قرب المذياع! كانت الأسَـر كيفما كان شأنها، تجتمع للتسلية والترفيه أمام فرجة سماعية / بصرية عبر المخيلة؛ والتي كان يطلق عليها "الرواية" انتحالا من الشرق؛ علما أن العمل المسرحي في الأربعينات والخمسينات من الزمن الماضي كان يطلق عليه " الرواية " وليس " المسرحية " إسوة (ب): ألف ليلة وليلة وسيرة بني هلال والعنترية والأزلية  وسيرة بني هاشم والزمردة وهارون الرشيد.. أعمال خالِـدة، ثرية  بشموخ حضورها؛ تمثيليات بحق (كانت) ولازالت حاضرة؛ بطابعها الإذاعي وأجواء الأستوديو الذي يتحول برؤية (الأذن) إلى حمام أو مطبخ أو مخيم أو محكمة أو طريق سيار أو ساحة للوغى (...) عبر خيال مُـعِـد التمثيلية أو مخرجها معية الطاقم التمثيلي؛ الذي له قوى الحضور بالفعل وليس بالقوة. والعجيب أن أغلبها لم يضمحل أو يتلاشى عبر الزمان؛ فتقنية " اليوتوب" وانتشاره أعطى صولة أخـرى للتمثيلية الإذاعية؛ فالذي حيرني؛ في غضون انتشار الوباء وتوقف الحركية الفنية والإبداعية؛ وهنا قولي محصور في بلادي ومحيطي. فلماذا لم يستغل الفنانون والمبدعون تقنية اليوتوب لتمرير أعمالهم المسرحية بأسلوب التمثيلية الإذاعية؟ هل ينقصهم الخيال أم تنقصهم الإرادة أم تنقصهم الإمكانيات والإمكانات؟ سأحتفظ بالحيرة لنفسي: ونقول لا هَـذا ولا ذاك (..) بل كانوا ينتظرون الدعم من الجهة التي عودتهم (الدعم المسرحي) ووقع التهافت والتلاسن والوقفات والاحتجاجات والصَّهلـَلة والهَيْـلـَلة رغم أن فيروس "[كورونا]" كان يمنع التجمعات والتلاصق؛ فاجتمعُـوا على الصندوق (؟)هكذا حالنا! حتى اكتسحتنا على غفلة عـَوالم "الرقمنة" فالرقمنة (الآن) حققت ثورة عارمة عبر العالم الغربي والأمريكي؛ وعندنا تسير حثيتا إلى المؤسسات والإدارات والهيئات.. وإن كانت ظواهر رقمية جَـديدة تتشكل وتتغير في سرعة فائقة  مع الحياة الرقمية، فالمسرح والتمثيلية الإذاعية تمركز وتوظف فيها أجواء " الرقمنة" فما السبيل ياترى؟ وكيف يا سادة؟ سيتم تعامل المبدعين؟ الفنانين؟ المسرحيين؟ مع عوالم الرقمنة؛ لتحقيق قفزات ما بعْـد الحَـداثة.....

***

نجيب طــلال

لم يكن هناك في الأدب القديم تركيز على العنوان، ولم يتحوّل إلى حساسية شعرية وجزءاً من بنية النص اللغوية والدلالية، فقد كان الاستهلال والمقدمة العنصرين اللذين يعتمد عليهما الشعراء في شدّ المتلقي، وخلق أفق معين للتوقع، فكانت المباغتة السمعية والدلالية السمة الأبرز للشعر القديم.

اختلف الأمر في الشعر الحديث والمعاصر، فقد استبدلت أو عوضت هذه المباغتة التي كنّا نتلقاها في الاستهلال أو في المقدمات الطللية أو الغزلية بالعنوان. إذ يزخر الشعر الحديث والمعاصر بعنوانات موحية جداً، تكاد تكون لوحة شعرية مستقلة بوحدها، وأصبح مفتاحاً للاستقراء والتأويل، لأنّه يحمل دلالات، ويستشف المتلقي منها إيحاءات، فقد أصبح علامات قادرة على إنتاج علامات جديدة، وتضيئ المناطق المعتمة. فبإمكان القارئ أن يستخلص فكرة القصيدة أو لبّها من العنوان. بمعنى أنّ العنوان يلخّص تجربة النص وعالمه. وتعود هذه الأهمية، وهذا الوعي الشديد باختيار العنوان في الأدب الحديث والمعاصر إلى طبيعة الكتابة ومتطلبات العصر والذائقة الأدبية، وهذا ما يجعل من الشعراء والأدباء على نحو عام أن يضعوا عنوانات لقصائدهم بعد الانتهاء من كتابة القصيدة، وليس قبل البدء بالكتابة، فبعد أن ينتهي الشاعر من كتابة القصيدة يبدأ التفكير باستخلاص عنوان من خلال أفكار القصيدة وبنيتها اللغوية.

في الشعر القديم؛ كان الشاعر يرتجل قول الشعر ارتجالاً، أو كانت العلاقة الحضورية بين الشاعر والجمهور، وبين الشاعر وراويه تلقي بظلالها على طبيعة الاستهلال، فكان التركيز فيه على المباغتة والإتيان بأسلوب بديع جديد يجبر المتلقي أو الجمهور على الإصغاء والوقوع في شَرَك القصيدة. ونجد هذا البعد في جميع الأغراض الشعرية القديمة، ولا سيما في الغزل والمديح والرثاء. لأنّ الشاعر كان يريد أن يستميل الجمهور، ويضعه تحت صدمة المباغتة ومن ثمّ إدخاله مباشرة في صلب الموضوع، نجد ذلك في الاستهلالات وفي المقدمات الطللية التي كان الشاعر يسعى إلى التأثير في وعي ولا وعي المتلقي، فيجعله شريكاً في الإحساس والمشاعر، كما نجد ذلك في معلقة امريء القيس؛ حيث الدخول مباشرة إلى الموضوع الأثير للأدب، أعني الفراق، من خلال البكاء:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

بإمكان القارئ من خلال الشطر الأول أو البيت الأول أن يتنبأ بمحاور القصيدة، فهناك حديث مباشر عن البكاء والافتراق والابتعاد والغربة والاغتراب. فهذه المحاور أو الموضوعات هي مغزى قصيدة امرئ القيس. وبإمكاننا تعميم هذا القول على معظم شعرنا القديم من العصر الجاهلي مروراً بالعصر الإسلامي والأموي إلى العباسي والأندلسي.

وتتجلّى حيوية هذه المباغتة في القصائد التي قيلت في مناسبات سياسية أو اجتماعية مباشرة، كان للحضور فيها الدور البارز في إنتاج المباغتة، ويمكننا الاستدلال على هذا النوع من القصائد في تراثنا الأدبي بقصيدة الفرزدق في حق (زين العابدين علي بن الحسين) التي باغت الشاعر فيها هشام بن عبد الملك وأعيان الشام بقوله:

هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ

وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

فالعلاقة الحضورية، والمقام الشعري الحيّ ألقت بظلالها على عملية الإنشاد التي كانت عملية مباغتة، احتفظت بحرارتها إلى يومنا هذا. من هنا يمكننا القول إنّ المباغتة كانت العنصر الأهم والأبرز في الشعر العربي القديم، وهي كانت أساس عملية التغريب (Estrangement) فيه، وفق مصطلح الشكلانيين الروس. بل امتدّ هذا الأسلوب الشعري المحكم إلى الشعر العربي العمودي الحديث والمعاصر، كما نجد ذلك بوضوح عند شعراء المدرسة الإحيائية، بشقيها المحافظ والمجدّد، ولا سيّما عند أحمد شوقي، في جميع قصائده، وقد تكون قصيدة (سلوا قلبي) أوضح مثال على هذا الموضوع:

سَلو قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا

لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا

*

وَيُسأَلُ في الحَوادِثِ ذو صَوابٍ

فَهَل تَرَكَ الجَمالُ لَهُ صَوابا

*

وَكُنتُ إِذا سَأَلتُ القَلبَ يَوماً

تَوَلّى الدَمعُ عَن قَلبي الجَوابا

*

وَلي بَينَ الضُلوعِ دَمٌ وَلَحمٌ

هُما الواهي الَّذي ثَكِلَ الشَبابا

*

تَسَرَّبَ في الدُموعِ فَقُلتُ وَلّى

وَصَفَّقَ في الضُلوعِ فَقُلتُ ثابا

*

وَلَو خُلِقَت قُلوبٌ مِن حَديدٍ

لَما حَمَلَت كَما حَمَلَ العَذابا

فقد باغت الشاعر المتلقي بالسؤال عن شيء يكون الحصول على الجواب مستحيلاً، فالقلب قلبه، فأنّى للقارئ الحاضر والغائب معرفة المشاعر والأحاسيس والرغبات التي تجيش فيه، ولم يترك الشاعر للمتلقي مجالاً يأخذ أنفاسه، فبادره بأسئلة أخرى، وبيّن له في الوقت نفسه، أنّ العقل فقد اتزانه وهام، لأنّه واقع تحت تأثير جمال باهر، ففقد القدرة على الكلام، وأصبحت العين المعبّرة – بدل اللسان - عن الحال والمقام.

استبدلت هذه المباغتة في الشعر الحديث بالعنوان، فقد أصبح العنوان العنصر الذي يشدّ القارئ ويبهره قبل الدخول إلى عالم النص. ويعود هذا التبديل والتغيير إلى التمدن، والحياة المدنية التي غيرت حياتنا في العصر الحديث والمعاصر، إذ يعيش معظم السكان بالعالم في المدن؛ يعيشون في عالم مكتظ بالناس والأشياء والمؤسسات والعلاقات المعقدة، وأصبحت المدن كبيرة وواسعة، تمتلك تخطيطاً دقيقاً وإدارة عالية الدقة لمحلاتها وشوارعها ودوائرها ومؤسساتها الكثيرة المتنوعة، ولا سيّما المدن الكبيرة التي يقطن فيها ملايين من السكان، فهذا العالم المكتظ والمتشعب يحتاج - في الوقت نفسه - إلى تنظيم، ويتمّ هذا التنظيم من خلال وضع عنوانات رئيسة وفرعية إلى أصغر فأصغر، لأمكنة المدينة وضواحيها، لكي نستدل الطريق ونعلم أين نبدأ وأين ننتهي. صرنا نستعين حتى في مدننا التي نعيش فيها ونسكن فيها منذ نعومة أظافرنا بخرائط – كانت ورقية وتحولت الآن إلى ألكترونية -.

تأثر الشعر الحديث بهذه الدقة في وضع العنوانات المكانية للشوارع والمحلات والبيوتات أي الأماكن العامة والخاصة، فأصبحت العنوانات عملية فنية دقيقة، يقصد من ورائها الشعراء إلى فتح آفاق أمام المتلقي للتخييل والتأويل، فعندما نرى هذا العنوان لـ(محمد الماغوط): (وجه بين حذائين) ستذهب أفكارنا مباشرة مذاهب شتى؛ نجد أنفسنا واقعين تحت تأثير مباغتة العنوان، فنسأل أنفسنا كيف يكون هذا الوجه محشوراً بين حذائين؟!. وقد نسأل أنفساً هل هذا النص نص سريالي؟ أم نص عبثي؟ أم هو نص ينطلق من واقع مجتمع يعاني من الاستعباد؟! ويتألم من الاستبداد، فأهدرت فيه كرامة الإنسان؟ إذ الرأس ومعه الوجه هو رمز لكرامة الإنسان، لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن ضربه، لكي لا يهان صاحبُه. فإذ أهين هذا الرمز فهذا يعني أنّ صاحبه قد أهين، وسحق وغمط الحق من مهده.

وهكذا نجد أمثلة عديدة لعنوانات موحية تباغت وعي المتلقي ولا وعيه للشاعر نفسه مثل: (كلّ العيون نحو الأفق) و (حزن في ضوء القمر) و(غرفة بملايين الجدران)، و(الفرح ليس مهنتي)، (البدوي الأحمر)، و(بدوي يبحث عن بلاد بدوية)، و(شرق عدن غرب الله).

 فعندما نعي أهمية العنوان، يجب أن يرافق وعينا هذا عند دراستنا للأدب وعي بطبيعة الجنس الأدبي. بعد ذلك نأتي إلى دراسة العنوان، وقد يكون المنهج السيميائي أنسب لهذا النوع من الدراسة، لأنّ هذا المنهج يتوافر على أدوات وإجراءات ورؤية واضحة تسعف المحلّل، وتفتح له أبواب القراءة الواعية.

***

الأستاذ الدكتور يادكار لطيف الشهرزوري

جامعة صلاح الدين – أربيل

قراءة سيمائية في رواية إبط السفينة لؤلفها أحمد ختاوي الإعلامي والروائي.. قراءة لمضامينها الجلية، وأنساقها المضمرة، المخفية داخل بنيتها اللغوية واصواتها السردية، يحتاج التشريح إلى آلة التفكيك ليبدو النص قطعا متجاورات بينها أسرار الربط والالتحام أو إن شئت فقل انت داخل النص تفتش في زواياه كأنك في حي تشابهت أزقته تنظر إلى الجدران مستمسكا بعلامات دلالية تسمح لك بالخروج والدخول دون تيه أو ضياع، وضع هذه الأجزاء المفككة على مجهر يبين الكتابة الظل الخفية تمثل اللاوعي الباطني للنص فيها بعد أن صار الوعي ظاهرا جليا في الكتابة الأولى   

عنوان الرواية إذا كان العنوان قد وضع كمدخل يستفز القارئ ليندفع إلى قراءته، أو أحيانا وضع لتسويق المنتوج، أو خدعة تجلب القارئ ليجد نفسه في غير ما طمح إليه وهذا ما أطلق عليه المنفلوطي بخداع العنوانين.

 الروائي أحمد ختاوي في إبط السفينة بدا عنده العنوان هو عمق النص هو القلب النابض لأحداث روايته. إن السفينة تقتضي البحر وتقتضي الإبحار ثم المسافرين على ظهرها وقد تتعرض للغرق أو الارتطام بالخلجان فيصير ركابها بين غارق مات، وناج سلم وبلغ غايته مبتهجا، ومفقودا يعيش أهله على بصيص من الأمل. لكنه هو هنا أضاف علامة غريبة جدا إبط، والإبط هو باطن المنكب والجناح وأضافه للسفينة كأن السفينة حيوان أسطوري يخرج من البحر لينتهي بمن يحملهم  إلى عوالم جديدة أم هي الوسيلة المثلى التي تغير من وجودية

كل من يعلو على ظهرها وهذا ما تغنى به في تلك الأيام (يا الرايح وين تروح تعيا وتولي) نفس الشيء اليوم رحلات إنتحارية تحت أهازيج باللهجة الجزائرية

(ياكلني الحوت وما ياكلنيش الدود أو يا لبابور يا مو نامور أي حبيبي بالفرنسية خرجني من لاميزار)

ما هي السفينة عند أحمد ختاوي؟

هل هي نفسية الكاتب؟ حيث تتعاقب أطياف ووميض أحداث مرت معه وهو يقرأ وجوده في هذا العالم الذي تتصارع فيه الافكار يمنة ويسرة، من ميراث اللوحة والصلصال إلى أفكار سارتر ونتشه، نوال السعداوي سيمون ديبوفوار.

هل هي بوسمغون التي نستشرف من دلالاتها الأنثروبولوجي وهي بلدية من ولاية البيض الجزائر يتحدث سكان بوسمغون بلهجة البربرية، يطلق عليها محليًا "شلحة" أو "تشلحيت"؛ إختلطت بقبائل عربية هلالية وهي مركز الطريقة التيجانية التي أسسها سيدي أحمد التيجاني عام 1782. فيها زاوية التجانية. وفيها المسكن القديم للأديب قبل النزوح إلى مشرية، ثم وهران التي كانت مسقط رأس الكاتب وفيها قضى فترة دراسته وهي ماتزال تحمل حنين الأديب، حيث النخيل شاهد على ما أصاب المنطقة خلال الغزو الإفرنجي من الفقر، المرض،غزو الجراد في أربعينيات القرن الماضي.

التجنيد القهري في صفوف الجيش الفرنسي الحرب العالمية الأولى والثانية ثم العودة بالجراح ولم يتغير شيء، المكافأة دماء خراطة، قالمة، سطيف، حيث الهجرة إلى ماوراء البحر بعد مباركة الكنيسة للقلوب التي تنصرت مقابل إسم وبيت في ليون أو مارساي أو باريس،حيث الجدة ،و الغراب يتابع المأساة ويسرد منعرجاتها وتناقضاتها البائسة، هل ..هل ..هل على وزن عاق عاق صوت الغراب أحد أبطال الرواية ،سيميائية هذا التحول جعل اختيار السارد يقع على شخصيات  خاصة ، لبُعْدها ومستواها الخاص، بغية تحقيقها لذلك البعد االجتماعي أو الفكري وبالأحرى الأنثروبولوجي، الذي وظفت من أجل تحقيقه، بصفتها تمثل المحمول الثقافي والتاريخي للمجتمع البوسمغوني كنموذج لباقي قرى ومداشر ومدن الجزائر المستعمرة وهذا ما يرمى إليه الروائي في توظيفه للشخصيات المشحونة بحمولة تراثية ثقافية ،إن سيميائية الزمن في رواية إبط السفينة جعلت المؤلف يستعمل قسمين من الزمن داخلي خاص بالرواية، وخارجي متعلق بالكاتب والمتلقي، فهناك زمن الشيء المروي وزمن الحكاية، الدال، وزمن المدلول كما هو عند جيرار جينيت في خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم، المركز الثقافي العربي، د ط، د ت، ص21.

هذا التلاعب في الترتيب الزمني قد يكون لأغراض جمالية وفنية بحتة. كلما تعددت الحكايات داخل العمل الروائي تعقدت كذلك مشكلة الزمن. فلهذا قام المؤلف بكل جرأة يلعب بالزمن حيث يتحدث مع عمي الطاهر في أمر يعود لخمسينات القرن الماضي ثم يذكر دلالة من دليل عاشه المؤلف في شبابه أو مراهقته في وهران أو سعيدة ثم يعود إلى أبعد من ذلك إلى سارتر و سيمون ديبوفوار أو حتى إبن خلدون وهكذا بدون أن يشعرك بالملل بل يجعلك في أرجوحة زمنية حمل الكاتب هذا الخلق الذي تجري أحداثه فوق عاصفة زمنية تدور فيها السنين العجاف والأمكنة الموحشة والاجساد الموبوءة والأماني المذبوحة الكل مع بعض بما يشبه تورنادو وهو يقذف بقرى كاملة من الأبلاش إلى الروكي في السماء ثم تهوي إلى مستقر للفناء، هكذا فعل السارد أحمد ختاوي بأشيائه، بأفكاره، بحنينه، بمرابعه بالسعي نحو ما وراء بوسمغون.

تستقر الاشخاص أمام سفينة الروائي أحمد ختاوي بين من فضل البقاء في صومعته وصوفيتها وأعرض عن السفينة كالجدة ومشايخ التيجانية، ومنهم من يقوم بصيانة السفينة كعامل يحلم بركوبها والهجرة على متنها ليداوي جراحه مثل عمي الطاهر ومنهم من تجرأ وركبها وفتح بها عالم آخر خسر فيه إسمه ودينه وربح دنياه مثل رومان.

تنتهي الرواية في الاخير بسفينة تحمل من كل زوجين إثنين تجري بها البحر.

إن النضال والحركية تستمر من اتجاه السربون إلى جوامع قرانا ومداشرنا أو ينتقل عزمنا من بوسمغون إلى باريس وفيرساي ليحمل ثورة جديدة كلما تعبت قامت ثورة أخرى تساندهارغم كل هذا، تضل سفينة الرواية تجري إلى حيث لا ندري وتبقى ضفيرة حنان وجوكندا دفنشي والقرش والدلفين الوديع تلعب بهم الامواج، كما يلعب الحنين بالغياب والحضور، ويبقى ديغول يتمنى وعمي الطاهر يتمنى وكل العالم على نفس السفينة الهائمة على وجهها تبيت عند قالوا وتصبح عند قلنا ولله الأمر من قبل ومن بعد.

***

كتبها رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

 

في المثقف اليوم