قراءات نقدية

قراءات نقدية

وقفة مع (كتاب فاس)، الفصل الثاني ـ المبحث (1): سيرة الوثيقة المرجعية وحكاية الصياغة الروائية

توطئة: تناولت الدراسات النقدية للرواية التأريخية ـ المرجعية، بشيء من الأحجام والضيق والتضييق، فراحت منها ما تهتم بتلميع السير ذاتي ـ المرجعي، ومنها الآخر ما راح يختزل وقائع التحليل في العلاقة الواقعة بين (المرجع ـ التخييل) في حدود نظرة تجزيئية خالية من الالتفات الكامل إلى معاينة الأثر المرجعي في الحدود الكاملة في عملية المعالجة التخييلية، لذات بدت أغلبها نمطي، تجزيئية، هامشية، في التوافر المدروس بين مرحلة وسيرة الوثيقة ومعالجات سرد الوقائع المتخيلة، استكمالا لرحلة الدراسة العضوية النقدية التي توظف أدق مجساتها المعيارية والمفهومية من خلال مستويات منجزة من التمثيل الإجرائي في النصوص المرجعية.

ـ الاستدلالات المقاربة في واقعة حكايا الرحيل

من الضروري والضرورة أن نعاين ما فاتنا من وقفات مؤشرة على مراحل ومشاهد وتقاويم حبكة (عام المهرجان) حيث من خلاله تتحدد مشاهد وصلية بالامتداد نحو (عام الرحيل) من كتاب فاس، ومن خلال وقفات هذا الفصل المتأنية بمشاهده المؤثرة، نلاحظ ذلك الإطار الدال الذي هو عبارة عن وحدات مجملة بالمحسوس السير ذاتي للشخصية المحورية ليون أو حسن الوزان.وبناء على ما جاءت به وحدات المستهل الافتتاحي لهذا الفصل من آخر كتاب لغرناطة، ينصرف صوت المسرود بما تلقى من مشاهد الأفعال بالتجربة السير ذاتية للمكان والزمن والشخوص ذاتهم، لذا بدا لنا صوت المروي عبر صيغة المباشرة بالضمير المضارع الحاكي، يلفت الانتباه إلى حلقات ترابطية من عناصر (سيرة الوثيقة المرجعية) وذلك ما تحدد به هذه التمثيلات مثالا: (لم أجرؤ قط منذ ذلك العام على أن اتلفظ أمام أبي بكلمة ـ مهرجان ـ لفرط ما كانت تفرقه في ألم الذكريات، وما كانت أسرتي لتحتفل بعد ذلك بهذا العام./ص84 عام المهرجان ـ كتاب غرناطة/ الرواية) ربما المعنى السيري للوثيقة التأريخية هنا في متممات هذا الفصل، بدت لها أكثر إيغالا في الشواهد ذات الصلة وطبيعة العوامل الأدائية الكامنة في رؤية الأثر المرجعي، ولكننا عندما نطيل المتابعة لأدق التفاصيل الإشارية في مقاربات الوثيقة، نلاحظ استقدام المعالجة التخييلية المرتهنة في تحريك البناء الروائي نحو لغة الخيال المتواصل في عملية المسرود وخصائصه التي تبدو مرشحة في مكونات استدعائية غالبة على مسودة الوثيقة: (وربما كان علي بالحري أن أقول في ذكرى القديس يوحنا في الرابع والعشرين من شهر حزيران ـ يونيه ـ. لأنه لم يكن يحتفل بالمهرجان بحسب العام الهجري، وإنما تبعا للتقويم المسيحي.فذلك اليوم يمثل منقلب الصيف الذي يحدد مدار الشمس، فلا وجود له في سنتنا القمرية./ص84 الرواية) من هنا نعاين بأن أمين معلوف راح يشكل من خلال محوره الشخوصي جملة محددات تتعلق أولا بحدود سيرة مرجعية، إلا أنه أضاف بالإيقاع التقويمي وفعالية مؤشراته الزمنية المتفاوتة، إلى القيمة الملحوظة عبر فضاء توليد السارد والمسرود بهذه الصيغة إذ غدا الأمر تأطيرا في التفسير الخلاصي الذي مبعثه الأرجح هو الانطباعات الحسية والصور والتواترات وعمليات قمع القشتاليين، وبكل هذا وذاك تنكشف حقيقة المسودة الوثائقية المروجة دون شك، بالشكل المعطى من حياة (الفاعل المروي) وإذا استتبعنا فاعلية الحياة الفعلية للمتخيل، لوجدنا أن أغلب نقاط التحول بين (سيرة وثيقة ـ وقائع سرد روائي) تستكملها طبيعة الشخصيات المنظورة بالمسار المتخيل، وليس بالعامل الحقيقي الخاص من سيرة الواقع المرجعي.لذلك فأن التفكير في منظور المروي لدى الشخصية الضمائرية بالمسرود، هي متحولة بالسيرة المرجعية للوثيقة، طالما هناك فاعلية متواترة بالأحداث المحكية ومتابعة سردها من خلال أداة ذاتية موغلة في تفاصيل النمو الروائي الموافق والمنطلق من حدود مرجعية، غير أن نقطة التحول والاستبدال في الشكل المسبوغ، بدت من مهام عوامل تخييلية في الانشغال الإمكاني للمحفوظ المرجعي.

1ـ الفضاء المرجعي وزمن الوقائع المسرودة:

ولو حاولنا إبراز كيفية الأشكال الفضائية في متواليات وتمظهرات المستوى المرجعي في الكتابة الروائية، لوجدناها تمتاز في تجليات خطاب (الراوي المتناوب) إي بمعنى ما أن علامات المروى إليه تتم من خلال (الراوي ـ المروى إليه ساردا ـ تناوبية الرواة) وهذا الفضاء من الرواة والمرويات تسند إلى جملة الذات الناظمة والمتمثلة ب (ليون) ارتباطا بالشخصيات والأحداث والحالات الأكثر ثنائية بين (الراوي ـ المروى إليه) وعلى هذا النحو أضحى مستوى الكتابة الروائية ـ المرجعية، كعلامة تلاقحية يراد من خلالها تقديم الخطاب المروى إليه، كوظيفة متمحورة العلاقة بين (الفضاء المرجعي ـ معالجات التخييل) كتقنيات في الرؤية السردية التي لا يبارحها زمن البناء الفعال في علاقته المباشرة أو اللامباشرة ومسودة الوثيقة (السيرتأريخية).ولو دققنا في بعض الوحدات المسرودة، لواجهتنا إشكاليات عسيرة من المستويات في الأخبار والأوصاف والاستطلاعات ذات النكهة المروية إلى درجة الإجناس الرحلاتي: (لقد انضم إلى أولئك الرعاع في تلك السنة مئات الجنود القشتاليين، فاجتاحوا منذ الصباح الحانات الكثيرة التي فتحت بعد سقوط المدينة./ص86 الرواية). كما أن الأساس البنائي في مسرود الأحداث ينتمي إلى مواصلة الروي ـ اهتماما ملحوظا ـ لأجل دعم الإمكانية الفعالة في شواهد الوثيقة السيرتأريخية، ذلك لأن الهدف والمراد الأول من مهام هذا النص الروائي، هو الإفراط في طرح تقاويم ووجوه ومسميات وزمكانيات نستشعر من خلالها مدى حقيقة الوقائع في حساسية الوثيقة المرجعية، إلى جانب توفر خواص وخصوصية التلاعب بالشخصية وملامحها الحسية والدرامية مع اختلاف توقعاتنا في مؤثرات درجة الخلق الروائي عن الوثيقة النقلية كشاهدة حديثة ذا وجود تأريخي محنط بالتقاويم وغبار حوافر الخيول وهمسات حوارية المروى إليه راويا.

2ـ فرضية المسرود حضورا في مفارقة الأحداث:

ربما من الجدل البديهي أن نقول: أن الرواية التأريخية لا تقدم فرضيات البناء الحقيقي للنص الروائي غالبا، فهي أحيانا تبدو لنا إعادة إنتاج أو معالجة سردية إلى حقيقة مرجعية، كما الحال في روايات تأريخية عديدة.غير أننا في رواية (ليون الأفريقي) قد نصادف حقيقة الوقائع في أبعادها السير تاريخية، ولكن ليس بالضرورة أن تحمل الكينونة الروائية للنص المرجعي، كل الحقائق المنقولة من أسماء الشخوص وأشكال الحوارات والمسرودات وبعض الأفعال المشتملة على الأستلهام التخييلي.إن رواية (ليون الأفريقي) تقدم باختصار ما يتفرد به أستلهامات الدليل الروائي من دلالات وأدوار وتوزيع ووظائف عاملية، وليس كما هو مرجحا في الوثيقة للمصادر التأريخية المتشدقة حول حوادث غرناطة وسقوطها على أيدي القشتاليين.هناك في رواية أمين معلوف، كينونات إشارية وعلاماتية وإحالية ووصفية، ناهيك عن صياغة المشروع الروائي في أوجه تتجلى كوحدات اختلافية عن إطارية نموذجها المرجعي.يمكننا القول في هذا الصدد، بأن تراتيبية الأحداث المسرودة، ذات الأفق التحولي في مسارية وقائع متغيرة، إذ نلاحظ ما في هذه الاقتباسات من المسرود، ما يجعل المسار السردي أحداثا مستندة على ما يحدث وعلى ما لم يكن متوقعا: (كان أبي يمشي في الطليعة ممسكا بيد مريم من جهة وبيدي من الجهة الأخرى ـ كانت أمي على بعد خطوتين خلفه تتبعها عن كثب وردة عندما صاحت بغتة:جوان !وجمدت في مكانها ـ توقف على يميننا جندي شاب ذو شاربين مطلقا صيحة مخمور خفيفة وهو يجهد في التعرف إلى المرأة المحجبة التي نادته على هذا النحو./ص86.ص87 الرواية) عبر هذه الهيئة من الحس اللامتوقع بوقوع هذه المناداة، تتجسد المداخلة المشهدية، وتبرز من خلالها خيارات التفاصيل الأكثر نذيرا بالشئم.من الواضح أن الكاتب معلوف يتوفر في سرده عنصر المباغتة بما لا يكون متصلا في مجال الاحتفاظ بما تحمله الواقعة التسجيلية في حذافيرها المنقولة.وربما من هنا تكمن مظاهر الوظيفة الروائية وتبديد صورة اللحظة التاريخية.أقول للأسف وحتى بعد انصرام عقود عظيمة من تجربة الرواية التأريخية، والى الآن هناك روائيون لم يستوعبوا كيفية أن تكون عليه أدوات وصياغة ومسوغات النص الروائي التأريخي، فهي ليست سيرة ذاتية لأزمنة ماضوية يعاد نقلها من خلال صفة إعادة المادة في صورة جديدة من الإسهاب الإنشائي، بقدر ما هي تجربة تحول في المشاهد ومظاهر الذاكرة المرجعية، إلى صعيد ممارسة ممكنة في ملمح الانطباع للمقروء في الوثيقة التأريخية، أي جعل إمكانية واقع المرجع إلى هوية ذات أصداء وملامح مغايرة ليس في معيارية الحقيقية، بل في مساحات ملاعبات حبكة التخييل.إذا تأملنا عن كثب الضمير المروى إليه في شخصية سلمى أو الأب محمد الوزان أو في الشخصية ليون ذاته، لوجدنا أن دلالة المادة النقلية في المسرود إليه، ما هي إلا حلقات من الوصل في الإيحاء بأن الشخصية ليون هو من يتكلم وينقل، وما هذه الوسائط في الرواة إلا استجابات في المحكي الزمني الذي كان فيه المحور المركزي طفلا أو صبيا.أقصد من وراء كلامي هذا، أن القيمة التأليفية للنص الروائي تتوزعها مراحل من الرواة والمتن الحكائي ثم ذلك الزمن بالنهوض بالخطاب كقيمة تتجاوز ملابسات أعباء إعادة الإنتاج للمادة المرجعية.

3 ـ الفاعل المروى إليه وعوائق السابق باللاحق الزمني:

ويمكننا في حال الإحاطة بالأفعال المسرودة، فهم أوجه الأسباب الإعاقية في إحالات (الفاعل المروى إليه) عندما كان يحمل أو يقاد من قبل شخصية الأب محمد الوزان إزاء حادثة مناداة الزوجة الرومية وردة إلى شقيقها جوان، حيث تتضح سمات الإعاقة البادية على وضع الأب الوزان من جراء المتعلقات الإشكالية بين السابق الفعلي من الأحداث وما كان لاحقا بها من التصاعد الزمني: (شعر أبي على التو بالخطر وقفز خطوة نحو أم ولده وأمسك بمرفقها بقوة وهو يقول بصوت خافت:لنعد إلى البيت يا وردة!لنعد بحق عيسى المسيح؟كانت نبرته متوسلة لأنه يحيط بالمدعو جوان أربعة جنود قشتاليين ثملين ومسلحين ـ هتفت للشاب الذي ظل ذاهلا:جوان، أنا إسمرلدا، أختك./ص87 الرواية) تتبين لنا من خلال تقلبات المشهد، أن شخصية الأب تخشى في ذاتها من فقدان الزوجة وردة، بعد إحاطة شقيقها جوان بوجودها تتمخض عنه مدى استنزاف شخصية محمد الوزان الذي راح لا يقوى على مواجهة أهالي الحي بأسره، بأعتبار أنه غدا مطعونا في كرامته كرجلا تسلب زوجته من أمامه فلا قوة له ولا حول على استعادتها إليه مجددا.من جهة أخرى نلاحظ مقدار المقصدية في كلام الشخصية ليون، ومدى تحديدها للزمن في نطاق مقاربة التصور والتقدير كقوله: (وأما أنا فلم أكن أفقه بالطبع شيئا من المأساة الدائرة أمام عيني الطفل الذي كنته./ص87 الرواية) كل هذا يزيد من تأكيد أن الفاعل الذاتي كان ساردا إلى مرسل إليه ما، بعد أن كان هو ذاته في موقع المرسل إليه، ولكن اللعبة في مواقع الرواة أو المروى إليهم أخذت مع نمو الأحداث الروائية، تتركز أحيانا في الكشف عن ليون راويا إلى جهة المقروء الإجمالي في سياق التلقي أو ربما أن تقاوم الزمن التصاعدي في النص ليكشف لنا المقصدية بوسائل أكثر تدليلا ودلالة.

ـ محاور ترسيمة الرحيل وسياقية الحكاية المرجعية

توافينا دلالات الفصل (عام الرحيل) في جملة تمظهرات حدثية في عملية الانتقال من غرناطة إلى ألمرية، حيث الأجواء في غرناطة أصبحت غير منسجمة مع المسلمين من أهالي المدينة ذاتها، وما كان على رأس الحث في حركة الهجرة التي قامت بها العوائل المسلمة هو الشيخ ـ أستغفر الله ـ هذا الرجل المتظاهر في التدين بالحيلة والغل من القشتاليين في الضمير الفردي وبالجمعي والأخذ بالأحساس المسؤولية إزاء بقاء بعض المسلمين فوق أرض أصبحت ملكا صرفا إلى جيوش الكفر: (ـ أرحلو، هاجروا..دعوا الله يسدد خطاكم لأنكم إذا رضيتم بالعيش في الخضوع والذل.. إذا رضيتم بالعيش في بلد تنتهك فيه تعاليم الدين الحنيف/كانت كلمات ـ أستغفر الله ـ ترن على وقع سبحة العنبر التي كانت أصابعه الهزيلة الورعة تفرق حباتها بلا كلل./ص94 الرواية).

1 ـ قلق الهوية: استلاب ذاتية الإنتماء:

يعد الحديث عن فكرة الهوية وهو من الموضوعات المثارة في فصول رواية (ليون الأفريقي) حيث انقلاب منظومة العلاقات والخطاب القومي والعقائدي والعرقي إلى حلقات طويلة من المساجلات التي تناقلتها الألسن عبر العيش في موطن أصبح لا يتحلى إلا بالتسقيط الكامل إلى العقائد والقومية المخالفة للمسيحية القشتالينية: (فحسب اتفاق التسليم كان أمامنا حتى بداية 1495 المسيحي للتقرير، بيد أنه لما كان اجتياز البحر إلى المغرب محفوفا بالريب منذ شهر تشرين الأول ـ أكتوبر ـ / وسرعان ما الصق بمن رغب في البقاء النعت الذي سبق إطلاقه على المسلم القاطن أرضا مسيحية ـ مدجن ـ وهي كلمة حرفها القشتاليون إلى ـ مديجار ـ وعلى الرغم من هذه التسمية الشائنة فإن كثيرا من الغرناطيين كانوا مترددين./ص95 الرواية) وتتبين من خلال سياق الأحداث والأفعال بأن هناك كان من يعقد ذلك الاجتماع السري في حديقة ـ بألبيسان ـ بيد أن الشخصية ـ أستغفر الله ـ كان يحضر حينما يكون متاحا له الحضور..وقد نلاحظ من جهة خاصة بأن هذه الشخصية له الكلمة العليا، وأن كان يقولها غالبا بصوت هامس.ذلك للدلالة على أنه صار مذاك في بلد معاد، وكان يبادر بدوره إلى زمام القول إنه إذا لم يكن قد سلك حتى الآن طريق المنفى فذلك فقط لثني المترددين عند درب الهلاك.وتخبرنا الأحداث السياقية في المسرود الروائي، بأن أعداد المترددين ممن كانوا حاضرين بالقليل، بدءا بمحمد الوزان: (أبي الذي لم يكن قد فقد الرجاء في العثور على وردة وابنتها؟) كان محمد الوزان عندئذ قد أقسم أن لا يرحل من غير أن يصطحبها وابنتها مع زوجته سلمى وليون ـ حسن محمد الوزان ـ وبعد زمن بحثه الدؤوب واتصاله بالشخصية حامد الفكاك قد أفلح أخيرا في تكليف تاجر جنوي أسمه ـ برتولوميه ـ ممن يقيمون منذ أمد طويل في غرناطة، وكان هذا الرجل يكسب المال الكثير عن طريق التنسيق في إطلاق الأسرى مقابل مبلغ مالي.

2 ـ مذكرات الراوي في تمفصلات المسرود إليه:

إذا كانت كل أنماط المسرود في تمظهرات دلالات رواية (ليون الأفريقي) تبدأ بمذكرات أطروحة يكون خطابها وفق آليات (الراوي ـ المروى إليه) فذلك تمثلا إلى المكونات التي تمتاز بها بنية ودلالة ومنظور الرواية.

ـ تعليق القراءة:

وعلى هذا النحو تواجهنا العديد من مجريات الأحداث المروية والتي تنحدر من (حديث الراوي ـ المبئر المتكلم ـ ذاتية النقل ـ تأزم المصير).وتبعا لهذا وذاك تتابع الأحداث في فصل (عام الرحيل) وفصل (عام الفنادق) كمسرحة المسرود عبر (زمن الرواة ـ المروى إليه) في سياقات حدثية وفعلية من فضاءات (المتكلم: الفاعل الذاتي) وصولا إلى تفاصيل مشبعة أوصالها الافعالية بكافة الاسترجاعات المتحققة من فكرة ورؤية (سيرة الوثيقة المرجعية) ـ اقترانا ـ لها بمشاهد وقائع آليات الخطاب الروائي الذي غدا مطروحا في آلية الوعي كمؤطرا لسيرة المرواتية (داخليا ـ خارجيا) إذ تتراءى منهما مسحات منظور المتكلمين وبحدود تتناسب مع كيفيات المبئر الأحوالية والأدوارية والعاملية وفي تفاصيل كفيلة بالإحاطة بمسيرة الفصول والوقفات والتقاويم الهجرية المتمثلة في رؤية مؤدلجة وتوليفية من وجهة نظر الروائي وتبئيرات الرواة من الآباء والامهات والأبناء بمن فيهم هو الناظم الأوحد: (وكان علينا التأكد من عدم الوقوع في أحد تلك الأمكنة السيئة السمعة، أن نبحث عن فندق بجوار جامع القرويين.. فهنا كان ينزل الأثرياء من المسافرين التجار./ص118، عام الفنادق / الرواية) هكذا بدت لنا مساحة الحكي تتخللها الأصوات لجملة الرواة بين الفينة والأخرى.. مساحات من أصوات الرواة والمرويات المتناوبة في آليات حركة المسرود والسرد والأوصاف والأخبار والزمكانيات المنزوعة الوظائف وذات الوظائف المقترنة في تماثلات الأحوال الشخوصية اختزالا في مدارات أفق الذوات والمدن ووقائعها الوثائقية والتخييلية والحسية واصطداماتها الحجاجية في مغزى تخليد النص الروائي كقيمة إمكانية عبر شرنقات (المرجع النصي) وكتجربة إبداعية في تصورات المخيلة والتخييل والانحيازية بالدليل الوظائفي إلى تقنيات البناء الروائي الارتدادي.

***

حيدر عبد الرضا

قصص قصيرة للكاتب السعودي حسن الشيخ، إصدار دار ريادة للنشر والتوزيع/2023 .

يعيش العالم العربي كثيرا من التناقضات التي أنتجت العديد من الأزمات سواء على المستوى الاجتماعي أو الفكري أو النفسي. ولم يكن الأدباء يوما إلا جزءا من هذا العالم حيث أدت تلك الأزمات إلى تعرضهم لصدمة انعكست على تجربتهم الأدبية. وكلما ازدادت التحولات الحضارية تعقيدا وازدادت الأنظمة السياسية تعددا وتضاربا كلما انعكس ذلك على الإنسان بشكل عام فأصبح أكثر ميلا إلى الاضطراب والتمزق الداخلي وعلى الأديب بشكل خاص حيث انعدمت ثقتة بالواقع، فأفرزت معاناته على مستويات متعددة من الاغتراب. والاغتراب ظاهرة انعكست على كتاباته حتى غدا موضوعا بارزا فيها. فنجده يعمل على نقل رؤيته وأثر التحولات المحيطة في بنيته النفسية والفكرية من خلال نصوصه.

وتعتبر القصة من أكثر الأشكال الأدبية اقتناصا لقضايا الواقع.من حيث أنها تمتلك القدرة على إعادة بناء تلك القضايا على نحو حيوي ومركز ومكثف يقوم على اختزال اللغة والفضاء زمانا ومكانا وشخوصا ثم نتيجة لذلك اختزال الموقف والرؤية الفنية المطروحة. ومن هنا نجد أن حسن الشيخ في كحل مريم قد توجه إلى عالم الغرابة والخيال والعجائبي لفهم الواقع ورصده ثم رفضه.حيث سعى من خلال أبطاله إلى تغييره والتحرر منه وإحلال واقع جديد أكثر حرية وكرامة.وقد يكون النزوع عنده إلى ذلك العالم للتعويض عن الشعور بالنقص الناتج عن القيودالمفروضه على الكاتب سياسيا واجتماعيا وثقافيا.

وقد جسد الكاتب فكرة الاغتراب من خلال أبطال قصصه.فنجده وقد رسمها بدقة ليطرح من خلالها مشكلات نفسية بوحدتها وقلقها ويأسها وقد ظهرت صور الاغتراب بأنواعها الجسدي والذاتي وغيره من الأنواع في كحل مريم.

ويتضح للمتلقي في القصة الموسومة ب أنا خنثى مظهر من مظاهر الاغتراب الجسدي على لسان البطل زكي أو البطلة زكية (هواجسي مشتتة، مبعثرة، أحاول لملمتها فيفضحني جسدي، أنا متعب من حمل هذا الجسد) ونلاحظ من خلال هذا الهاجس على لسان البطل/البطلة مقدار المسافة التي تزداد بين الذات والجسد. وانطلاقا من هذا نجد أن الذات تحاول أن تحط من قيمة الجسد الذي كان سبب اغترابها وآلامها فعلى لسان زكي/زكية (أتمنى أن أعيش هادئا، ساكنا، مثل دودة صغيرة في بلور ملحي منسية منذ سنين). وإحساس الشخصية بالتقزز من جسد يجعلها تبحث عن الإنفصال عما حولها (في قارورتي الزجاجية تلك سجنت نفسي، كانت حدودي الآمنة من الآخرين).

وفي القصة الموسومة ب رجل المستنقع نجد الصراع بين الذات والجسد يؤدي إلى انفصال الذات عن الجسد ومحاولة الخروج منه إلى جسد آخر لا يشبهه (الآن أشعر أن هذا المستنقع بدأ يتسع لي، إلا أنني أصبحت رخوا، لينا، قد بهت لون بشرتي واخضرّ، بدأت أفقد شكل ساقيّ شيئا فشيئا، فإذا هما تشبهان ساقيّ ضفدع عجوز....وعندما صرخت بأعلى صوتي لم يخرج من شفتيّ غير النقيق).وهنا يتضح لنا بأن البطل عندما تحول إلى ضفدع وخروجه من جسده الأصلي إلى جسد آخر نفى عنه أسباب الاغتراب التي أفقدته حريته. فكان التحول طريقه للإنطلاق بحثا عن ذاته الحقيقية (الآن أشعر بالرضا وكفى، وهذا المستنقع هو رحمي الأول الذي حملني قبل أن تلدني أمي هناك).

وفي القصة الموسومة ب أنا أطير تتضح ملامح الاغتراب الذاتي حيث نجد البطل يعيش في الأوهام ويخلط بين الواقع والحلم. ويتضح هذا للمتلقي عندما يقرأ ما جاء على لسان البطل(ربما أنت تحلم، هكذا قيل لي، إلا أنني متأكد من أنني أعيش الواقع لا الحلم، لا يهم ما يقوله الآخرون عني، فأنا أرسم واقعي لا تخيلاتي......أنكمش إلى داخل ذاتي، أتكور، أدور على نفسي لآلاف المرات، مخافة تسرب الحلم من يدي).فالبطل يستغرق في الحلم بإرادته ويتمسك به خوفا من فقدانه، لأنه يزيد من عزلتة ويفقده التواصل مع العالم من حوله. فكل شئ حوله يطير والطيران يرمز إلى الإنعتاق من قيود الواقع والحصول على الحرية التي تتوق ذاته إليها وربما تتوق لها ذات الكاتب.

وقد سعى حسن الشيخ عبر أبطاله العجائبيين إلى إعادة إنتاج معاني وقوانين بديلة للواقع المستبد وكشف ما هو مضمر تحت سطح السرد وفي نفس الوقت الكشف عن حجم الاغتراب والفشل في تحقيق الذات عبر الواقع. ويتضح هذا في القصة الموسومة ب الصراخ بلغات مختلفة حيث نجد مجموعة غريبة من الناس أوصافهم غريبة تلاحق البطل وتسعى إلى إنزال عقاب ما فيه على ذنب لم يقترفه (أجسامهم قصيرة جدا، كأنهم عشيرة من الأقزام التي تعيش في القارات البعيدة إلا أن أيديهم طويلة جدا يلوحون بها أمامي) وبالرغم من اعتراف البطل بذنب لم يرتكبه إلا أن المجموعة لا تكف عن ملاحقته إلى أن تتسبب في سقوطه في مجاري المدينة الموحشة. وهذه القصة فيها إشارة إلى العجز عن تغيير الواقع المستبد. وهذه القصة كما الكثير من قصص المجموعة تحمل إشارات سياسية أعلنت عن ما هو مسكوت عنه.كما أن اللجوء إلى تقنية الاسترجاع باستعادة الماضي المفقود وتكراره يجعل البطل ينفصل عن واقعه الذي يشعر فيه بالاغتراب النفسي ويستعيد نفسه من خلال الماضي البعيد ويتضح لنا هذا في القصة الموسومة ب لا أستطيع البقاء حيث البطل أحمد الذي يسير في شوارع المدينة بلا هدى يجتر ماضيه ويغمض عينيه لكي لا يرى سواه(تذكر آمنة التي يحملها جثة هامدة في داخله. تذكر ضحكتها التي تندلع بصخب هادئ من بين شفتيها الغليظتين المثيرتين، تطلع إلى الشوارع المزدحمة، والناس المسرعين والمباني الشاهقة....ثم أغمض عينيه كي يحتفظ في ذاكرته بما تبقى من رسمها الذي كسرته الأيام).

ومن مظاهر الإغتراب لجوء الكاتب إلى توظيف السريالية أو ما وراء الطبيعة حيث ينعكس العالم الغريب لدى البطل على كينونته الداخلية وحالته النفسية والذهنية فيلجأ إلى تجاوز المنطق وتوظيف كل ما هو غريب لا ينتمي إلى الواقع ويقدمه على أنه واقع حقيقي عن طريق صنع العوالم الغريبة بالخيال والاستيهام بلغة تقترب من لغة الحياة اليومية المألوفة ليشاكل بين الواقع واللاواقع فيجعل اللاواقعي واقعي والعكس.وويتمثل هذا في القصة الموسومة ب كحل مريم حيث مريم تمتلك مكحلة سحرية ما أن تكتحل بكحلها حتى ترى تفاصيل المجهول والأحداث(ضاعت منها ابنتها مريم، فخرجت تبحث عنها..وقف أمامها عفريت من عفاريت الجن..فاخذها العفريت إلى أحد الكهوف الجبلية، وإذا بمريم نائمة فيه..وأهداها العفريت مكحلة، قال لها إنها من خزائن سليمان.. اكتحلت بها مريم فرأت البعيد ..استطاعت أن تعرف نوايا الناس). وقد وظف الكاتب السريالية في أكثر من قصة في مجموعته القصصية لينقل للمتلقي مظاهر الإغتراب التي يعاني منها أبطاله.

إذن فقد ارتبطت الغرابة في قصص حسن الشيخ بالوحشة وهي حالة من الشعور بالعزلة والخوف والإفتقار إلى الأمن التي نتجت عن علاقته بالآخر الذي يشاطره المكان فتعمل الوحشة عملها فتزداد الوساوس والآمال لذلك نجد الكاتب يلجأ إلى كل ما هو غريب وعجيب إلى ما وراء الواقع ليحول خوف أبطاله إلى طمأنينة ووحشتهم إلى أنس.

بقي أن نقول بأن حسن الشيخ قاص وروائي سعودي من الأحساء عمل في الصحافة الثقافية واشتغل في الإعلام المرئي وهو أستاذ جامعي له العديد من الأعمال الإبداعية المنشورة.

***

قراءة: بديعة النعيمي

منذ مطلع القرن المنصرم والنصوص الأدبية، التي تهتم بالرحلة للغرب، في تزايد، لكن الخط في تلك الأعمال ليس واحدا. ولا بد من التمييز بين أدب الترحل الفني ومثاله العجيلي وسهيل إدريس وآخرين، وأدب الرحلات التثقيفي الذي يتحرك بغرض الاستطلاع ثم تقديم الدروس والعظات. وإذا كان على رأس هؤلاء شيخ النهضة والتنوير الطهطاوي، فلا يمكن استثناء الحشد الذي تركه السفراء والموظفون الحكوميون والرحالة بشكل عام. ولو حصرنا الحديث في النصوص الفنية فقط، سوف نصل حقا لمشكلة لقاح الشرق والغرب ومسألة التجنيس والسوسيولوجيا التي تغذيها مجموعة من العقد وشرائح من المكبوت، وعلى رأسها المثاقفة، وهو هم حضاري، والمغامرة الجنسية ذات العلاقة بالغرائز والتربية والحالة الاجتماعية. ويرى جورج طرابيشي، في أطروحته عن سوسيولوجيا الذكورة والأنوثة، أن المسألة تعبر عن ضياع الفحولة الشرقية، هباء منثورا، في أحضان التأنيث الغربي. وهو يعتقد باختصار: أن ابن المشرق لن يكتب له التوفيق والنجاح، في أية مواجهة عسكرية، ولا ثقافية مع الغرب، لذلك لم يجد غير أسلوب واحد، وهو إشهار سيف ذكورته، وتحويل الغرب إلى مجرد فرج. وهكذا كان يساوره الشعور بالزهو كلما ركب فتاة أوروبية، وكأنه يركب أوروبا بكاملها (ص15). ولئن حشد طرابيشي لإثبات أطروحته جملة من الأعمال الهامة المعروفة، منها "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"أحلام يولاند" لفؤاد الشايب، فقد نسي عمدا أو لدواعي عدم الوقوع في التكرار بعض الأمثلة النمطية، ومن الأجدى التذكير بها. وفي المقدمة "الظمأ والينبوع" لفاضل السباعي و"نهم" لشكيب الجابري.. ويمكنني التأكيد أن نصوص الجابري كانت أقرب للهم المعرفي باعتبار أنها ربطت الجنوسة بالدواعي العرقية. وهذا هو شأن السباعي.

ولا أقصد بالعرق عقدة التفوق التي يتبناها اليمين الشوفيني، وإنما مشكلة العجز أو الشعور بالدونية حيال الغرب المستعمر (انظر "نهم")، والشعور بالنقص والهزيمة حيال الغزاة (انظر "هكذا سنقاتلكم في فلسطين")،  وهو برقع الشرف والعفاف الذي نستر به حقيقة الخصاء والعنة ( في مثال السباعي).

وبرأيي كان الحب العذري اختراعا بطريركيا يصل لمشارف الأسطورة، وذلك للمناورة حول مشاعر الكبرياء، ولتلافي أية مواجهة مع الحواجز الاجتماعية؟. وبهذه الطريقة ينقل الكاتب رسالته، ومضمونها الصراع، لما وراء خطوط العزل. فالبحث عن شرط الاستقلال يعقبه البحث عن جوهر التحرر. وفي هذه الحالة لم يختلف الهم، لكن تبدلت الأسماء. وطبعا لحق بذلك تبدل لا بد منه، وهو أهم عناصر الخيال الفني، ومجاله الفترة الزمنية والمكان. وفي هذا السياق أصبح من المجدي أن نتعامل مع المشكلة على أنها متابعة ومؤازرة. فالمغلوب (وهو ابن حضارة المشرق) ينقل المعركة لأرض الغالب (وهو في معظم الأوقات من الجنس المؤنث). وهنا تبدأ المشكلة.

فطرابيشي بعتقد أن ابن المشرق يريد الانتقام لجراحه ولكرامته عن طريق الغزو الجنسي. ولئن خسرنا المعركة على الأرض نكون قد كسبناها على السرير. لكن هذا الوهم القروسطي والقبائلي الذي يعكس شيئا من العنجهية غير المبررة يجد ما يحد من عنفوانه.

أولا - الذات الفنية. فهي غالبا منبهرة بحضارة الغرب ودائما هنالك ما يعجز اللسان عن الاستطراد بمدحه لدرجة التأليه. حتى أن عاصمة الخلافة العثمانية، وهي من معاقل المشرق، تبدو في أعمال أدبائنا الرحالة صورة ثانية من الميتروبول. حتى أنني لم أجد أي فرق بين بيه أوغلو في "خرائط منتصف الليل" لعلي بدر والصورة الفريدة لأحياء سوهو في "ضياع في سوهو" لكولن ويلسون. وكانت روح الضياع والتشرد، التي قادت خطوات علي بدر في أجزاء مدينة اسطنبول القديمة، هي نفسها الليبيدو السريالي الذي فتح نافذة على لاشعور الأجزاء الليلية المستهترة من وسط مدينة لندن. وهذا دليل لا يقبل الشك أن بدر ما زال تحت التأثير المعتاد للقاء الشرق بالغرب.

ثانيا- حدود النوع. نعلم أن الرواية بدأت في بواكيرها على شكل قصص متفرقة يجمعها خيط واحد، وهو التسلية والترفيه في "الديكاميرون" لبوكاتشيو وإرادة البقاء والحياة في "ألف ليلة وليلة". وبالنظر للأعمال الجديدة التي تنتسب لهذا الشكل النمطي من الخيال يلفت الانتباه أنها مدينة لحكمة وفلسفة بوكاتشيو اللاتينية، وليس لفلسفة الشرق وغرائبيته وميوله نحو السحر والخرافة كما في ألف ليلة. وبالتقليب في صفحات "أخبار آخر الهجرات" لبرهان الخطيب، دائما، بمقدور القارىء أن يتابع الشخصيات، وهي تتصرف بمنطق وحذر، ودائما هي في مواقف محرجة الغاية منها الحاجة للتأقلم والاستيعاب وليس روح التحدي. ولئن سجلت بعض المواقف شيئا من الأنفة والتذمر سرعان ما تذوب في دائرة من الرغبات المتصارعة، لكن المحسوسة، التي تختار الإلغاء والنفي على حساب العودة. والعودة للوطن في هذا العمل، لو وزناها بميزان الفكرة الروائية، تبدو أشبه بخسارة أو فاجع.

وباعتقادي لا توجد في "أخبار آخر الهجرات" تلك الوسائل السحرية والمعجزات التي هي جزء لا يتجزأ من العقل الشرقي، فلا مصباح علاء الدين موجود، ولا البساط السحري ولا صولجان ملك الملوك. ولا يستعين أبطال هذا العالم، المجزأ والمفكك والمصدوم بصعوبات الواقع ومرارته، إلا بالبداهة والفطرة. وآخر سهم في الجعبة هو الصمت أو اللجوء لعالم من الأحلام الذهبية، وهو نفسه الشرط الفني الذي صعد عليه بوكاتشيو ليتغلب على أزمة الطاعون الفتاك. فقد لجأ للترفيه كي يتغلب على الرضة النفسية. وبإلقاء القصص التي تستند لمواعظ ودروس في الأخلاق الرفيعة حاربت شخصيات بوكاتشيو الألم والمرض وأسباب التدهور الذي لحق بالبنيان المتماسك للمجتمع. ولعل برهان الخطيب فعل مثله. فقد حاول أن يغض الطرف عن هزائمنا في المعرفة والحضارة بواسطة نقل خطوط العزل وتبديل الاتجاه. وساعده مثل هذا التحويل في كسب الوقت، ولذلك فإن غراميات أبطاله ليست انتقاما فرضته الحضارة الجريحة، لكنه نوع من الهروب، أقله تأجيل للمواجهة.

ثالثا- يمكن قول الشيء نفسه عن تحديد الجنس. فالغرب يبدو بصورة مؤنثة، في أغلب الأحوال، لكنه في الواقع هو المذكر دلاليا.

وهذه الأعمال، على ما أرى، ليست درسا في التشريح. والمؤنث في العلوم الطبيعية قد ينطوي على قدر لا يستهان به من الذكورة في التحليل النفسي.  ومن المعروف أن كل بنية دائرية لها مفعول أنوثي، وكل بنية خطية لها دلالة رجولية أو دلالة تذكير. ومثل هذا الوعي النفسي تراه من غير مكياج في أعمال بعض الروائيات.  وإنه حتى بالنسبة للرواد كان المهاجر ابن المشرق هدفا لأحابيل وجاذبية الغرب المؤنث. وهذا يسجل هزيمة مزدوجة ومضاعفة. فهو العنصر المكتسب والمتلقي الذي يتعرض للتلقيح وبأسلوب الحضارة المضيفة. وهو الأرض التي يمهدها ويحرثها حديد الحضارة الغربية. ويبدو ذلك بوضوح في "أخبار آخر الهجرات" ابتداء من طريقة الغزل المادي والمكشوف، وانتهاء باللسان المتكلم الذي يستعمل لغة أجنبية وراءها زوادة من المعارف. ولا شك، دلاليا، وكما يقول بيير داكو (في سيكلوجيا الأعماق): الرجل هو المرسل والمرأة هي التي تستلم الرسالة.  وعليه يمكن الجزم أن تلك الروايات (من حيث لا تدري) هي ضحية التحويل الفرويدي المعكوس، حيث أنه لدى المرأة قضيب - شبح ghost limb من نكاح سابق، بينما الرجل يلمس عيب النساء لأول مرة. وذلك تعبير مجازي طريف عن الطريقة التي استولى بها الغرب على غشاء البكارة المشرقي. وهذا الغشاء، كما أرى، هو اختراع حضاراتنا الجريحة، التي وجدت ما تقتات عليه من خلال التمسك بالأخلاق والشرف.

***

صالح الرزوق

توطئة: "ان الخطر بالنسبة لاي كاتب هوالاستبعاد قبل الاستشكال".

(اديب طه حسين هو المثقف المغترب المتردد بين النبوغ والجنون، الذي يخفق في كل مساعيه فلا ينفع نفسه ولا ينفع امته .او ليس لانه اديب واديب فقط ؟ ماساة مصر التاريخية من حلال ميل ثقافي ونفساني)... عبد الله العروي: من التاريخ الى الحب

(1)

عن دار النشر المتوسط بايطاليا صدرت الرواية الجديدة للاستاذ حسن اوريد " الموتشو" والحق انني لم اكن متحمسا لقراءة الرواية اولا، لان قراءتي في مجال الرواية تقلص كثيرا واخر رواية قراتها للاستاذ حسن كانت روايته "رباط المتنبي" و اعجبني كتابه السردي رواء مكة..

اما روايته الاخيرة ما يهمني فيها هو ما ورد فيها عن الاستاذ العروي واثار بعض الاستهجان على صفحات التواصل..

ونظرا لاهتمامي بفكر الاستاذ العروي كان لا بد من الاطلاع على ما ورد في الرواية حول العروي وضمن اي سياق جاء ذكره..

والجدير بالذكر ان الرواية مليئة باسماء كتاب ومؤلفين اقحمت اسماؤهم في السرد الروائي من غير رابط يربطهم بالنسيج الروائي..، فقد اقحمهم السارد اطنابا وحشوا مما اخل بالبناء الفني للرواية .. وغني عن البيان ان غياب التصويرالفني، أفقد السرد مسحته الفنية وأصبح مجرد كلام مباشر فاقد للشحنة الفنية..

ولست بصدد تقويم نقدي للرواية فذلك يتطلب قراءة فاحصة ومدققة..

وما اريد ان اتوقوف عنده ينحصر في ابداء ملاحظات على السياق الذي تطرق فيه للاستاذ العروي من خلال ربطه بالرؤية السردية بقصد فهم مراد السارد من اقحام اسم احد اعلام الفكر النقدي الحداثي في خطابه السردي..

(2)

لعل اول ما يشد قارئ الرواية شخصية بطل الرواية.. (أمين).

من هو "أمين"..الشخصية الرئيسية التي حولها نسج المؤلف الخيوط العنكبوتية لاحداث روايته المؤلفة من جزئين الاول من ص7 الى ص299والجزء الثاني من ص303 الى ص429).

ولست هنا بصدد تقديم قراءة نقدية حول البنية الفنية للرواية هذا أمر اتركه للنقاد المتمرسين من فن النقد الادبي والسردي ..

وما يهمني الوقوف عنده هو تجلية بعض الملامح والمعالم للشخصية الرئيسة للرواية التي من خلالها اطلق المؤلف احكامه المبتسرة التي اثث بها مجمل صفحات روايته.. فمن خلال بطل الرواية اقحم السارد الكلام الموجه للاستاذ العروي..

وقبل ان نعرض لما ورد بهذا الصدد وتحديد سياقه.. نود التعرف على الملامح التي رسمها السارد لبطل روايته ومن خلاله اطلق احكامه الجزافية والفجة على الاحداث والافكار والتوجهات والاشخاص تلميحا وتصريحا ..

(3)

من هو اذن امين البطل الرئيسي لرواية الموتشو.؟

 ان اسم " امين" يحيل الى "امين الكوهن" استاذ التاريخ اليهودي في المغرب بجامعة الحسن الثاني (بن مسيك/ الدار البيضاء)..وقد اختار المؤلف الاسم لتأكيد على الأصول اليهودية لبطل الرواية..

ويصفه المؤلف بانه "فتى" في الثلاثينيات من عمره يلقبه صديقه "بنيس" وهو احد شخصيات الرواية "بالموتشو" تدللا او تحببا..

وكلمة الموتشو التي عنون بها المؤلف روايته تعني (ايها الشاب او الولد او الصبي..) والمقابل الفرنسي للكلمة الاسبانية:( gars /gamin/ garçon)

وتجدر الاشارة بان هناك قصة بنفس العنوان(mutchacho) للرسام الفرنسي امانويل لباج صدرت في 2006..

شخصية "امين" كما رسمها المؤلف وقدمها في فصول روايته شخصية مركبة غريبة الاطوار رافضة ماجنة .. ينحدر من اسرة محافظة متدينة مسلمة من اصول يهودية ضاربة في القدم ..

ويسعى السارد الى ان يجعل من الاصول العرقية روابط هوياتية يهودية ثاوية في اعماق الشخصية..

حصل "امين الكوهن على " دكتوراه من الجامعة الفرنسية تخصص التاريخ حول اليهود المهاجرين بعد سقوط قرناطة 1492 رغم انه درس التاريخ كان له اهتمام بالفلسفة..

يتقن اللغة الفرنسية والانجليزية ويقوم بالترجمة من اللغتين الى اللغة العربية.. يقول بان توجهه السياسي يندرج في دعم (حرية/عدالة/كرامة).

هل كان حاملا لرؤية ومسلحا بزاد معرفي ومنظومة قيمية؟

جاء على لسان بطل الرواية (ص46) " ان اسمه امين كوهن ( كوهن عربي مسلم .. ( مسلم يعنيune façon de parler) أي

لا يريد الحديث في القضيا المعقدة..( الهوية او التاريخ او الايديولوجيا؟)

 قضايا كبرى وسرديات مجلجلة ورسالات مهدوية..هذا مكر التاريخ يصوغ القضايا الكبرى او الاوهام الكبرى..

يرى ان الصراع العربي الاسرائلي نزاع تغلب فيه العاطفة الجياشة..وهو نزاع من اجل الوجود.. المنتصر فيه يجهز على الخصم الاخر ..

يشعر بانه يعاني من التهميش كمثقف و هذا ينعكس على مواقفه وتفكيره..

هذه بعض ملامح بطل رواية الموتشو ورغم ان البطل شخصية حقيقية الا ان السارد نزع عنها صفتها الواقعية والبسها لباس التخيل الروائي الفني ..

فشخصية امين في الرواية وكل ما نسجه السارد حولها هو من بنات فكر المؤلف وهذه مسالة فنية بالغة تحتاج الى بحث وتشريح لا يندرج في اهتمامنا .. وقد توقفنا عند الشخصية الرئيسية للرواية كتوطئة لعرض الكلام الذي اقحم في الرواية عن الاستاذ العروي ..وسيكون الخاتمة التي نختم بها ملا حظتنا المقتضبة حول الرواية ..

 (4)

من نافل القول ان القصة لون من فنون الادب ولون من الوان الحياة.. ولكل قصة طريقة تصلح لادائها وتبلغ اثرها وفحواها وما يتخللها من شعور وفكرة فاذا احسن المؤلف فهي حسنة واذا اساء واسف فهي اسوأ المكتوبات وادناها الى الضعة..

والقصة ليست مجرد رسم لحوادث او لشخصيات بل هي قبل ذلك الاسلوب الفني وترتيب الحوادث في موضعها وتحرك الشخصيات في مجالها.. وليس المهم نوع الحادثة وضخامتها ولا لون الشخصية وعظمتها.. وانما المهم هو طريقة تناول الموضوع بحيث يؤدي الى رسم صورة معينة للحياة .. لكي تكشف لنا عن اكبر قدر من خصائصها وتعبر عن مشاعرنا بعبارات والفاظ تتناسق مع الجو والسياق والشخصيات ..

والقصة عمل ادبي واعي ..بمعنى ان التعبير في القصة يتم في حالة وعي كامل..

فهل ينطبق كل ما ذكرناه على رواية حسن اوريد الموتشو ..

تقديري انها تفتقد الى التنسيق الفني او التصوير الفني الجمالي الذي يجعل من القصة تعبيرا عن التجربة الشعورية اي تعبيرا عن الحياة في تفاصيلها وحوادثها الجارية في الزمن وكل غاية مرتبطة بغاية اعظم ..

وعندما ينعدم التنسيق الفني تصبح الرواية مجرد حشد من الخواطر والانفعالات والصور بلا ترتيب ولا تنسيق، محشوة بحكايات متناقضة.. لا رابطة بين الحوادث والاشخاص ومن هنا جاء التنافر بين فصول الرواية و بين شخصيات الرواية واحداث الرواية وزمانها ومكانها وبدت وكانها شخصيات هلامية فوق الواقع وفوق الخيال يختفي السارد خلفها ليصدر احكاما في كل اتجاه باعتباره الحكم الذي يصدرحكمه على ما يجري في المجتمع من منظور انه فوق الاشخاص وفوق الحوادث ..وضمن هذا السياق يندرج الكلام الذي ورد فيه ذكر الاستاذ العروي دون رابط سابق ولا لاحق ..

(5)

العمل الادبي تعبير عن التجربة الشعورية.. والتعبير في اللغة يشمل كل صورة لفظية ذات دلالة .. والقصد رسم صورة مثيرة للانفعال الوجداني لدى الاخرين وهذا هو شرط العمل الادبي وغايته.. وليست غاية العمل الادبي ان يعرض لنا حقائق عقلية او فلسفية..

من هذا المنطلق يمكن القول ان ما يسم فصول رواية "الموتشو" انها حاطبة من كل فن بطرف ومحشوة بحكايات واشارات وظواهر شاذة واحالات الى كتب وذكر اسماء بارزة .. من اجل الاثارة..

ويستتبع هذا ان شخصيات الرواية هي مزيج من الواقع والخيال..

ضمن هذا السياق الجامع بين الاضداد و الذي تضافر فيه السرد والوصف والاحداث والشخصيات جاء ذكر اسم المفكر عبد الله العروي بشكل عرضي في ديباجة الفصل(13) من الرواية..

 نص هذا الفصل من صفحة(107 الى صفحة(115).ورد فيها ذكر العروي في اسفل الصفحة(109 وبدايةالصفحة110).

ان قراءة هذا الفصل ستبين لنا انه لا توجد لازمة او رابطة بين الكلام الذي جاء فيه ذكر العروي والخطاب السردي للرواية اي الربط بين السرد والسارد والمسرود اليه او المتلقي..

فالسارد هو شخصية محورية في الرواية يتوسل بها الكاتب لنسج عالمه الحكائي والقصصي وتمرير خطابه الايديولوجي..

ان البحث في علاقة السارد بالشخصيات من حيث العلاقة التي يقيمها بمتنه الحكائي او بمخاطبه..

فالروائي يعرض وجهة نظر معينة من المنظور السردي..قد تعني فلسفة الروائي او موقفه الاجتماعي والسياسي..

فهل يندرج ما ذكره حول العروي ضمن موقف الروائي السياسي وليس نقدا للمشروع الفكري للعروي..

وهنا لا بد من التذكير بان الأستاذ العروي مؤرج ومفكر نقدي واديب منشئ ومترجم.. وفوق هذا وذاك يتسم بسداد النظر ووضوح التفكير والجرأة في الرأي والتقد..

(6)

الرواية فن ادبي واسلوب تعبيري، في صورة موحية عن الحياة، في تفاصيلها وحوادثها الاجتماعية والنفسية..

والغاية من العمل الادبي الفني الهادف ليس الامتاع الغريزي، او الاثارة العاطفية.. بل وسيلة لطرح مشكلة من مشاكل الحياة يمتزج فيها الواقع بالخيال.. بحيث لابد ان تحدث او تقبل الحدوث ..

فالغاية من الرواية هي ربط الفن بالحياة حيث يتداخلان فينتج عنهما تجديد عميق في حياتنا الروحية والفكرية... فالتجديد هو الفهم العميق..، وكل فهم صحيح يعتبر تملك للمفهوم..

فكل ادب لا يجدد الفكر انما هو مجرد تعبير نرجسي وكلام مرسل لا طائل من ورائه.. يندرج ضمن العبث بالافكار..

والادب الحي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة هو الادب الذي يأخذ ويعطي..

ان ما اردناه من هذا الاستطراد هو التنبيه الى ما حفلت به فصول رواية الموتشو من تنافر وحشو و عدم تناغم و قدح واغراب والتكلف الثقيل المعيب..

في الفصل (13) الذي ورد فيه ذكر المفكر العروي يتحدث بطل الرواية عن الصحافة والجامعة ( والفهم والادراك) وان الجامعة هي مكان الفهم ..لكن الجامعة شاخت واصبحت تنقل مصطلحات من دون محتوى..وتحول سلم القيم .. ويقول السارد ان بطل الرواية تقدم بطلب للالتحاق بالجامعة وان طلبه رفض من طرف اللجنة التي وصفها باشتع الاوصاف و سخر متها سخرية هجائية سوداء ونعتها نعتا كاركاتوريا كما طعن في الجامعة وبخس من اساتذتها..

ضمن هذا السياق جائت الاشارة المقحمة في الفصل عن الاستاذ العروي..

 (7)

بعد حديثه في ذم الجامعة وتبخيس مؤسساتها ووصف اساتذتها باشنع الاوصاف ..(ص=108/109) يستدرك السارد بالاسناد الى بطل الرواية"امين"

انه لا ينكر وجود اشخاص متميزين بعضهم استقطبته مراكز بحث اجنبية.اومجانين يحلمون ويجرون وراء السراب.. معتمدين على امكاناتهم الذاتية.. ثم يضيف لم تعد هناك لحمة تشد الاجيال الى ذاكرة..او رؤية مستقبلية. وان دور النشر اغلبها مؤسسات ربحية تقوم على الاحتيال..

الكاتب عامل برولوتاري يمني النفس بالحصول على جائزة ويكتب تحت الطلب ليروق للجنة المانحة .. اغلب اعضاء اللجنة لم يبدعوا شيئا يذكر ولكنهم حاذقون في العلاقات العامة..

بعد هذا الاستطراد الممل والكلام المرسل المباشر..اردف الى اقحام ذكر الالاستاذ العروي( كان مثقف مغربي قد كتب في السبعينات كتابا جيدا عن ازمة المثقفين العرب والايديولوجية العربية المعاصرة.. وكان بحق مثقفا جيدا يتحلى بالصرا مة العلمية ..ولوانه اضحى هو نفسه في خريف عمره معبرا عن الازمة لانه لم يعد يقول شيئا سوى اوان فارغة في تعبير الشاعر الفرنسي ما لارميه "Des bibelots d'ananité sonore" مما استعمله سارتر عن الكاتب الذي لا يقول شيئا.)(ص109/110) وينهي السارد كلامه عن العروي بتعليق نرجسي يحيل الى الكاتب الذي هو في الحقيقة البطل الحقيقي للرواية بدليل ما ورد في الفصل الاخير من الرواية(ص428) :" لم تكن رواية انما قصة حقيقية انعكست في حياة امين في تبادل ادوار بينه وبين الضمير المستتر." والضمير المستتر هو المؤلف نفسه حسن اوريد ..

اذن يقول بعد وصفه للعروي بانه اصبح في خريف عمره مجرد اناء فارغ له رنين(او طبل اجوف..) وكاتب لم يعد يقول شيئا.. في هذا الحال فان الضمير المستتر اذا قدر له ان يكتب عن ازمة الثقافة العربية سيذكر انها لم تعد ترتبط بمشروع سياسي ولا فكري و لاسردية تستحثها ولا طموحا جماعيا يلم شعثها. والدليل ان جل الكتابات الفكرية مترجم ترجمة رديئة ..

اما الاسلاميون فلا ينتجون فكرا.." (ص110)

والرادكاليون يوظفون الدين مما يؤدي الى وحشنة الدين المقابل الفرنسي لكلمة

 ( l' ensauvagement).

هذا مجمل ما ورد في الفصل الذي تناول فيه مؤلف الرواية المفكر عبد الله العروي..

ان العروي الذي يصفه صاحب الرواية بانه اصبح طبلا اجوفا.. (أي اناء فارغا..) هو نفسه الذي يقول عنه نفس المؤلف لموقع طنجة انفو(3غشت2018) عند صدور كتابه "من اجل ثورة ثقافية بالمغرب؟).

" يقول ما اقصده بالثورة الثقافية هو تغيير البنية الذهنية للمجتمع وان التحديث والمعاصرة ليست اكتساب مهارات او تقنيات على أهميتها بل لا بد ان يتم تغيير البنية الذهينية للمجتمع..ثم يضيف ان فكرة الثورة الثقافية ليست حديثة فقد صدرت منذ خمسين سنة واول من استعملها من المفكرين المغاربة هو عبد الله العروي في كتابه الايد يولوجيا العربية المعاصرة معتبرا ان العرب لن ينتقلوا الى طور التحديث ما لم يقوموا بثورة ثقافية والثورة الثقافية لن تتحقق الا بتغيير البنية الذهنية من خلال التربية ..

يبدو ان مؤلف الرواية نسى انه اخذ فكرة كتابه "من اجل ثورة ثقافية.." من كتاب الأيديولوجيا العربيةا المعاصرة الذي صدر سنة1967 وما زال مرجعا يلهم الكثيرين..

واجمالا فان الأستاذ العروي صاحب ملكة عقلية رفيعة بوأته المقام الأول في الاعتبار ..

يمكن ان تخالفه في بعض ارائه او في مبادئه السياسية.. ولا تكون المخالفة الانظرة حيث تقترب الأفكار والاراء..

وصدق الفقيه الفيلسوف ابن حزم اذ يقول " من حقق النظر راض نفسه على السكون الى الحقائق وانما آلمتها لاول صدمة وكان اغتباطه بذم الناس إياه اشد واكبر من مدحهم إياه.''..

الخاتمة : ان الملاحظات السالفة تندرج ضمن تجلي الحقيقة واستضاح الراي..من موقع النقد والتعقيب،بغرض الفهم و النفاذ الى لمضامين الخطاب السردي وطبيعة العمل الذي يصوره والتجربة الشعورية التي يعبر عنها..

فكان لا بد ان نتوقف عند معنى الرواية، باعتبارها ملحمة في عالم تضطرب فيه علاقات المعنى والقيمة..،وتختل فيه الانساق الكبرى، وتنهار المطلقات..

ان ما يميز الكتابة الروائية هو انها تبحث عن أشياء خارج المضامين المعقلنة عند الفلاسفة والمؤرخين..

ليس من مهمة الرواية ان تصنع ثورة او تغير مجرى الاحداث في العالم..، انها أداة للمعرفة والمتعة، تجعلنا اكثر إدراكا واحساسا لكل ما حولنا..

الرواية مرآة عاكسة لسجل الأفكار والامال والاحلام..، وهدف الرواية الجراة والصدق في الرؤية، والتعامل مع الحقائق والأساليب..، والهدف هوقضية الموضوع..

وعمل الاديب صورة لشخصيته وموقفه من الحياة..

وحيثما يوجد ادب تصويري للعواطف والمشاعر، يصبح من الصعب ان نفصل ما هو ترجمة داتية، عما هو عمل فني موضوعي خارج عن ذات الفنان او المبدع..، فصاحب العمل الفني لا يعطينا ترجمة ذاتية حقيقية حتى وان تطابقت الوقائع والشخصيات والطباع مع مانعرفه عنه وعن من حوله..،وهو في نفس الوقت لا يعطينا عملا منفصلا عن ذاته تمما..، بل يقدم عجينة او طبخة تمتزج فيها وقائع حقيقية مع وقائع متخيلة..

واذا طغى التوصيف الاسلوبي المباشر على الخطاب السردي، وقع التطابق بين السارد والكاتب، فيترتب عن ذلك اسقاط السارد لمواقف الكاتب النظرية على العمل التخيلي..، فيصبح العمل عبارة عن اشتات مجتمعات ومقابسات من عالم الأسماء والاعلام وعالم الأفكار والمعاني والاحاسيس..

فالرواية الفنية هي التي تترجم الحدث وتعبر عن التجربة الشعورية للأشخاص، وتحيل السرد الى مرآة عاكسة لمظاهر الحياة وعلاقة الانسان بالكون..

فالرواية رحلة استكشافية مفتوحة على المجهول ..والكون كله مرآة تنكس فيه أشياء كثيرة..

اما روية الموتشو فقد تخللها خلط كثير يمزج الاسرائليات وطروحاتها المختزلة بالدعاية الصهيونية التي تكرس الأكاذيب المقررة حول علاقة الصهيونية السياسية بالعصبية الدنية .. ولا فرق بين الصهيونية الدنية والصهيونية السياسية في النتيجة الواقعة..

ان الاله عند العبرانيين يسمى اله إسرائيل ويخص من أبناء إبراهيم ذرية يعقوب دون سائر الخلائق..كما ان طبقة الهيكل موقوفة على سلالة هارون( واليها ينسب طبقة الكهان.).

ويقول عالم النفس الشهير "فرويد" في كتابه موسى والتوحيد" ان اليهود لديهم فكرة عالية عن انفسهم ويعتقدون انهم انبل من غيرهم وعلى مستوى ارفع..ويضيف ان سبب هذا الاعتزاز هو تصديقهم بانهم شعب الله وابناؤه الذي اختارهم واصطفاهم على العالمين.." ويطمئن بنو إسرائيل لهذا الزعم حتى وان لم يستحقوه بولاء او ايمان ..والاسرائلي يعتبر نفسه سيد العالم بحق الهه..

واليهود اشتات وقبائل ومذاهب ..كل طائفة لها مذهبها حسب المجمع الذي تنتمي اليه..

والعقيدة الدينية لا تقاس بالنظر الى الأصول العرقية ..وانما تقاس الأديان بما تودعه من القيم والحوافز التي تزيد حرية الضمير .. والامل في الصلاح وفي طلب الكمال..

وقد خلت كتب بني إسرائيل من ذكر البعث واليوم الاخر..فلا مناص في العقيدة باي معنى من معاني الاعتقاد من خير وراء أيام الفناء..

لقد جعلوا من العقيدة الإلهية مشيخة قبلية ومن النبوة ضربا من التنجيم ومن المسؤولية الإنسانية ضربا من العصبية الجهلاء لغير سبب ولا فضيلة..

من الأمور اللافتة للنظر في عصرنا بث الأكاذيب المقررة من تدليس وتمويه وقلب للحقائق من اجل استهواء البصائر وسحر القلوب وابهار العقول ودفع الناس على التهافت كما يتهافت الفراش على النار..

لمواجهة الأكاذيب المقررة حض الامام الغزالي على النظر لان من لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال..

يجب ان نحرر الفكر من الأوهام الزائفة وذلك بنقد الأفكار نقدا يميز صحيحها من باطلها..

***

احمد بابانا العلوي

رأينا في المقال العاشر من هذه السلسلة الدراسيَّة في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)(1)، حكاية البطل مع ذلك الناسك الغريب الأطوار.  وقلنا: إنَّ قِصَّة (صادق) مع الناسك واضحة الشَّبَه بقِصَّة النبيِّ (مُوسَى) مع (الخِضْر)، التي قصَّها "القُرآن" في "سورة الكهف".  ولَحَظْنا أنَّ (فولتير) قد صاغ القِصَّة كما هي في "القُرآن"، مع بعض التغييرات.  ومن ذاك أنه تصرَّف في القِصَّة القُرآنيَّة؛ فجعلَ حَرْق دار الفيلسوف الفاضل بدل بناء الجدار المنقضِّ في الآيات القُرآنيَّة.  على أنَّ السبب واحدٌ في القِصَّتَين، وهو وجود كنزٍ تحت دار الفيلسوف وتحت الجدار.  غير أنَّ الناسك أراد كشف الكنز لصاحبه، والخِضْر أراد إخفاءه وحِفظه لصاحبَيه، حتى إذا بلغا أشُدَّهما استخرجا كنزهما.

وتُقابِل فكرةُ "قتل الغلام" في قِصَّة (فولتير) فكرةَ "قتل الغلام" في القِصَّة القُرآنيَّة.  كما أنَّ تعليل الناسك العجيبَ لعمله المنكَر يُشبِه تعليل (الخِضْر) العجيبَ لعمله المنكَر: بـ"أنَّ هذا الفتَى، الذي قتلتْه القُدرة الإلهيَّة، لو عاش، لقتلَ عمَّته بعد عام، ولقتلكَ أنت بعد عامَين."(2)  وفي "القُرآن": ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ، فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ؛ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَـهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا.﴾

ويُشبِه بناء القِصَّة عند (فولتير) بناءها في "القُرآن" جِدًّا.  فقد عاهد (صادق) الناسكَ على الإذعان، وعدم السؤال مهما رأى، وكذلك فعل (مُوسَى) مع (الخِضْر).  وفي كلتا القِصَّتَين ينطلق المسافران من بلدٍ إلى آخَر، ليقوم الناسك أو الخِضْر بعملٍ يَدْهَش له صاحبُه؛ فلا يُقاوِم نفسه وعقله، ولا يصبر على ما عاهد عليه من عدم السؤال، بل يتجاوز السؤال إلى الإنكار الشديد.  ويستمرُّ الاثنان على هذه الحال، حتى إذا بلغ الأوَّلُ من الآخَر عُذرًا؛ فلم يصبر على ما يراه من عظائم الأمور، التي لا يُدرِك لها سببًا أو تفسيرًا بمنطق العقل والحق والخير، أنبأه بتأويل ما لم يَسْطِع عليه صبرًا.

وإضافة إلى هذا فإنَّ رسم الشخصيَّتَين في كلتا القِصَّتَين واحد، فشخصيَّة (صادق) هي شخصيَّة (مُوسَى)، بكلِّ ملامحها المعنويَّة، وكذلك شخصيَّة الناسك هي شخصيَّة (الخِضْر)، بكلِّ ملامحها المعنويَّة والسُّلوكيَّة.

يجدر بالإشارة أنَّ قِصَّة (مُوسَى والخِضْر)، الواردة في "القُرآن"، قد تناولها الكُتَّاب القصصيُّون في الغرب والشرق خلال القرون الوُسطَى، كُلٌّ بطريقته الخاصَّة.  ومِن الذين تناولوها، مع (فولتير)، الشاعرُ الإيرلنديُّ (توماس بارنل Thomas Parnell، -1718).(3)  وتُعَدُّ هذه القِصَّة من ذلك النَّوع من القَصِّ الاعتباري، الذي ليس المقصود فيه بلازم معانيه الحرفيَّة.  من حيث تصبح للبناء الوظيفيِّ أوَّلويَّةٌ على البناء الفنِّي، وكذلك على منطق الواقع.  ذاك أنَّ هذا الضَّرب من القَصِّ ما هو إلَّا وسيلةٌ تعبيريَّةٌ عن رسالةٍ دعويَّةٍ ما، وليس بغايةٍ في ذاته.  ولذا يأتي مرتبطًا بالغَيب، و"الما وراء"، والمفارِق للواقع والمألوف.  ومن ثَمَّ لا يُنتظر فيه احتفالٌ بمِصداق القَصِّ من الوجهة الواقعيَّة، بما أنَّ الهدف لا يعدو إيصال رسالةٍ تأثيريَّةٍ إيمانيَّةٍ إلى المتلقِّين، مهما تجافت، آخِرَ المطاف، عن منطق الواقع والإقناع العقلاني.(4) 

وفي مقال الأسبوع المقبل سنستقرئ العلاقة بين قِصَّة (فولتير) تلك و"ألف ليلة وليلة". مركزين على العلاقة الملتبسة بين النَّصَّين؛ من حيث إنَّ الكاتب قد أخذ قِصَّةً، أو قصصًا، قديمةً فصاغها بطريقته وأسلوبه، وربما حوَّر فيها؛ ليَصحَّ القول: إنها قد أصبحت قِصَّةً فولتيريَّة، كأيَّة قِصَّةٍ أخرى تُنسَب إلى فولتير.

أ. دز عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1) يُنظَر: فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين).

(2) م.ن، 126.

(3) غصوب، يوسف، (1961)، مقدِّمة ترجمته لـ"صادق أو القَدَر" لـ(فولتير)، (بيروت: اللجنة الدوليَّة لترجمة الروائع)، 94- 95.

(4)  حول خصائص (النصِّ الاعتباري)، يُنظر بحثنا: (1999)، "في بِـنْـيَـة النصِّ الاعتباريِّ (قراءة جيولوجيَّة في نبأ حيِّ بن يقظان: نموذجًا)"، (مجلَّة "أبحاث ‏اليرموك"، (جامعة اليرموك)، الأردن، المجلَّد 17، العدد 1، ص 9- 52).

لفترة طويلة ارتبطت أسطورة لوريس Loris البالغة من العمر ستة عشر عاماً، والتي جسدت بامتياز اليأس بهروبها الجمالي من الحياة في معبد الجمال، لمعاناتها من الأخلاقيات السائدة فيما يتعلق بـ "الحرية والمساواة" بين الرجل والمرأة. وعبادة الجمال آنذاك، لم يكن بأي حال من الأحوال غير مبال، إنما "دورة التربية السياسية الراديكالية"، يتم النظر إليه من خلال موضوعات التفاعل الاجتماعي - والاجتماعي التاريخي للمجتمعات وطبائعها وعاداتها وتقاليدها العامة. قد يكون ذلك مثيراً، لكنه في الفضاء العام "آلية" لا تعبر عن فلسفة الحياة، الجمالية والشاعرية، ليس عند البشر فحسب، إنما الواقع الأدبي لمفهوم "النقد"، عكس الأفعال التي ظلت مخفية عن الوعي لأنها لم تصبح عامة.

المراجعات النقدية إلى ما قبل عصر التنوير، كانت بشكل أساسي أفكار شمولية "سلبية أو إيجابية"، وهي بالكاد تكون موضوع بحث أدبي. لكن هناك إجماع عام، ونحن هنا نتحدث على وجه الخصوص عن ما يتعلق بالثقافات الغربية في أواخر القرن الثامن عشر ـ على أن "النقد" قد تجاوز الدور الثانوي من الرأي المنغلق. لذلك تضع الدراسات العصرية أهمية "النقد" بأشكاله المتنوعة، في المقدمة، والأخذ بنظر الاعتبار حقيقة: إن "النقد" يشكل نمطاً جدلياً من الأنماط التي تتيح للمؤلف مراجعة صياغة أفكاره بشكل غير تقليدي.

مفهومنا نحن العرب، لأدب النقد، في أغلب الأحيان نصبح "جلادين"، ننحاز إلى صراعات اجتماعية ـ سياسية أو عقائدية، وفي العموم على أساس المجاملات وليس المهنية. الكتابات النقدية عندنا في أغلب الأحيان (ولا أعمم) لا تعتمد الموضوعية، حينما تتناول مبدعا أو كاتباً ما. ولا تتناول مؤلفات المؤلفين الشعرية أو الروائية أو الفكرية وحتى في شأن السينما والمسرح والفنون التشكيلية، من زاويا حرفية حيادية، يقوم بها، الكاتب أو الشاعر أو الفنان الناقد المتخصص، الذي يعتمد في مراجعته النقدية القيمية الجمالية والانطباعية والشاعرية، ولا يجد صعوبة في فهمها وإحاطتها بالأحكام التعبيرية واللغوية والفلسفية.. من خلال متابعتنا لاساليب النقد لدى الثقافات الغربية، الأوروبية تحديداً، وبغض النظر عن مدى شيوع كتابة النقد في مواضيع مختلفة وبمساحات واسعة، نفهم أن القاعدة العامة لا تقبل "نقداً" يتعرض لشخص المثقف، أو لا يتواءم مع المفاهيم واللياقة الأدبية. يعود السبب كما يبدو لاعتبارات أخلاقية ترتبط بفلسفة الإنتماء لإرث ثقافي وحضاري يُعتز به، كما يَعتبر المثقف جزءاً من تلك الحضارة ومكمل لثقافتها، وبالتالي يجسد ذلك احترامه لموروثه الوطني ـ الثقافي المترامي الأبعاد..غير أن ما يقع تحت أيدينا من "كتابات نقدية عربية" في مجالات متنوعة، يختلف تماماً، بالشكل والمضمون، عن ما نعرفه في "أدب النقد" لدى الثقافات الأخرى. إلى حد كبير يتسم اسلوب "النقد" عندنا كحكايات تجريم، غالبا ما تكون رهن رؤى وإنفعالات شخصية. ليس في مظاهرها الجمالية والشاعرية وحسب، إنما حتى في عدم إلتزام "الناقد" على الأقل بشروط وحدود وأفاق ما يكتبه ومدى تأثير ذلك على الحياة الثقافية في بلده.. أعتقد ينبغي على الناقد العربي أن يكتب كما هو في الثقافات الغربية، نقداً موضوعيا، ينسجم مع عصر حاضره: لأن أي فن أو رواية أو قصيدة لا تريد أن تتعرض لـ "عمل نقدي" زائف. ومن ناحية أخرى، نجد الكثير من الذين يمارسون النقد في وسائل الإعلام، غير مؤهل للتناغم مع أي حدث أدبي أو فني بشكل كافٍ أو بسياق حرفي.

في مقالته بعنوان "الفن الوطني الديني الألماني الجديد" كتب غوته Goethe، الناقد للارتباك وحتى الخلط بين المجالات الدينية والجمالية، حول انسكاب الكاتب الألماني وأحد مؤسسي الرومانسية في القرن الثامن عشر فاكنرودر Wackenroder على الرسومات الدينية والتأملات والقصص التي أثرت على تدفقات القلب لأخ الدير المحب للفن:» طالب المؤلف ببلاغة ملحة للعشق الدافئ لكبار السن، كما لو أنه الهدف الأعلى للفن، وأن قواعد المغازلة لدى كبار السن ليست لعبة فارغة، وأنهم لا يمتلكون باستمرار الصفات العاطفية، لذلك يُنظر إليهم على أنهم غير متفوقين على الأحدث وبالتالي يتطلب حماساً ورعاً ومشاعر دينية، لا غنى عنها للقدرة الفنية فيما ينظر النقد على أنه شر وتأثيره على الدين والدين عليه غير محدد تماماً. مع ذلك، كان على المعايير النقدية "التي تفترض مسبقاً على الأقل بعض الانتظام النسبي"، تقييم مثل هذه الأفكار بشفافية، بقدر ما هي مشروطة اجتماعياً وتاريخيا... ما تسميه تافها، على سبيل المثال، يمكن أن يكون دقيقاً وعميقاً في سياق مختلف، أمام قصة مختلفة، أمام ثقافة مختلفة، حتى الأفراد، فقط، اعتماداً على متطلباتهم لهم غاياتهم المحددة«.

يقول ألفريد كير Alfred Kerr: (النقد هو الأهم في هذا العالم إذا كان أيضاً فناً. لسوء الحظ، الأمر ليس بهذه البساطة. من هنا فإن الناقد هو الخالق المضاد الذي يقف في أحيانٍ كثيرة في الطرف الآخر من الكون)... الكاتب عندما يخلو بنفسه للكتابة حول موضوع ما، يشعر بنشوة سمو باردة، أعظم من فرائد العصر. فقط الضجة اللغوية؟ تجعل من كتاباته أمرا ممكناً في مكان ضيق، لكن بفضل جلدة النقد كما يقول ألفريد: (لم يعد أي ناقد يعتبر نفسه ديوس سيكوندوسdeus secundus الإفلات من العقاب وسط مسرح مليء بالأحكام)... ألفريد كير، المصاب بجنون العظمة، ساوى بين النقد، لا: نقده، لكنه ذهب أبعد: (إلى أن النقد أفضل من الشعر). لديه أيضاً تشبيه ديني جميل: (الفنانون يتبعون خالق السماء والأرض كمبدعين أرضيين يتخيلون أولاً ما سيكون). ويصف الناقد الذي لا يقف في نهاية سلسلة الاستغلال، بل السلسلة الكونية للخلق نفسه ب (المبدعين الذين يفسرون الوجود من خلال تعريفهم الفكرة وأشكال النص وأنواعه بابتسامة متسامحة تاريخياً) بالإشارة إلى أعمال المشاهير الأربعة جوته وشيلر وويلاند وهيردر.

استفاد عصر التنوير المعروف باسم "عصر المنطق" وهو حركة فكرية وفلسفية هيمنت على الأفكار في القارة الأوروبية خلال القرن الثامن عشر، من الأنماط القديمة لعصر النهضة بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر، لمعالجة فكرة التنوير أدبياً. وكان في المقام الأول تركيز النداء الأدبي على تصميم توازن متناغم بين العقل والشعور، يكون نموذجا للفترة الكلاسيكية الجديدة. لم يكن الأمر يتعلق بتصوير الواقع أو التنديد بالمظالم الاجتماعية بداية، بل أراد تقديم أنماط لتحديد الهوية التي يجب أن تثقف الناس ليكونوا أخلاقياً. أخذ لاحقا مجموعة متنوعة من النماذج النقدية للأوضاع التي تعاني منها المجتمعات، مع انتقاد كبير للنسبية الثقافية واستخدام استعارات ما بعد الحداثة لشرح جميع الظواهر الجيوسياسية الحديثة غير العادلة في الغرب، بما في ذلك قضايا العرق والطبقة والسلطة الأبوية وآثار الرأسمالية الراديكالية والقمع السياسي... تناول الناقد الأدبي الأمريكي والمنظر السياسي الماركسي، فريدريك جيمسون Frederic Jamesonهذه الظاهرة بالقول: إن ما بعد الحداثة (أو ما بعد البنيوية) لا تريد أن ترتبط بنقد خطاب الرأسمالية والعولمة باعتباره "المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة" الذي يسهر على مصالحها.

يتشارك نقد ما بعد الحداثة، على اختلاف تنوعه الفكري، في وجهة النظر القائلة بأنها تفتقر إلى التماسك وإنها معادية لمفهوم المطلق والحقيقة. على وجه الخصوص، يُعتقد أن "ما بعد الحداثة" يمكن أن تكون بلا معنى، وتشجع الظلامية، وتستخدم النسبية (في الثقافة، والأخلاق، والمعرفة) إلى الحد الذي تشل فيه معظم الأحكام... غالباً ما يشير مفهوم ما بعد الحداثة إلى بعض الفروع، مثل فلسفة ما بعد الحداثة وعمارة ما بعد الحداثة وأدب ما بعد الحداثة. وأحياناً على ما بعد البنيوية، والنسبية الثقافية، و"النظرية" دون معالجة المخزون الكامل لمشاريع ما بعد الحداثة المختلفة. لذلك، فإن نقدا ما بعد الحداثة، ككل يكشف الغموض في تعريف ما هو عليه في الواقع... لنقد ما من شأنه إنهاء هذا الجدل، يقول اللغوي والمفكر نعوم تشومسكي: بأن ما بعد الحداثة لا معنى لها لأنها لا تضيف أي شيء إلى المعرفة التحليلية أو التجريبية أسأل لماذا لا يتفاعل مثقفو ما بعد الحداثة مثل الناس في المجالات الأخرى عندما يُسألون على محمل الجد ما هي مبادئ نظرياتهم، وما هي الأدلة التي تستند إليها، وما الذي يشرحونه والذي لم يكن واضحاً بالفعل، وما إلى ذلك؟، هذه متطلبات قيمة. إذا لم يتم الوفاء بالجواب عليها، في ظرف غير عادل، سألجأ إلى نصيحة هيوم Humes: بكم إلى ألسنة اللهب!. النقد في العموم، والأدبي بشكل خاص، من أهم هيئات الوساطة بين المؤلف والقارئ. يتشابك مع النظم الحديثة المتمايزة للتواصل الأدبي والاجتماعي، ويشكل جزءا لا يتجزأ من ماهية الأدب، وكيف يمكن أن يكون أو على الأقل يجب أن يكون!.

اذن ما هو "أدب النقد" في الواقع؟ للجواب على السؤال، لا بد من الإضاءة على أن نشأة مصطلح النقد الأدبي، والذي يستخدم كأمر طبيعي اليوم، بمثابة نهج لموضوع التحقيق. هذا المصطلح له أصله الاشتقاقي من الفعل اليوناني  krino  والذي ترجم "فراق، منفصل، قرار أو حكم". في القرن السابع عشر، أخذ مصطلح "النقد" عن اللاتينية criticus (القاضي الناقد)، إلى اللغة الألمانية kritischer Beurteiler "مقيّم متشدد" فيما بعد Kritiker "ناقد". عموماً يعني في الأساس شيئاً مختلفاً عن مفهوم النقد الأدبي في اللغة الإنجليزية أو النقد الأدبي بالفرنسية. على النقيض من الألمانية، مصطلح "النقد" في اللغة الإنجليزية يشمل مراجعة الأدبيات والنظريات في الدراسات الأدبية. في اللغة الفرنسية، Critique litteraire "النقد الأدبي" ويُصنف على أنه فرع من الدراسات الأدبية، بينما يدور في ألمانيا الجدل حول ما إذا كان يجب فصله عن الدراسات الأدبية على الإطلاق، وبالتالي، فإن الفهم الألماني للنقد الأدبي هو مفهوم صحفي أكثر منه أدبيا، أو إلى حدٍّ كبير يشبه التعريف الفرنسي critique mondaine "الناقد الاجتماعي"، الذي ظهر عالمياً في القرن السابع عشر كنموذج مضاد "للناقد المثقف" الذي يجسد النموذج الكلي، ناقداً مهذباً تتوجه نظرته نحو جمهور عريض من القراء.

يتناول وينديلين دينجلر Wendelin Dengler المراجعات النقدية بشكلها الأكاديمي في الخطاب الإعلامي بالقول: "النقد الأدبي، هو مجموع المواجهة مع النصوص التي تمارس في وسائل الإعلام، حول الآراء والكتب الأدبية والدراسات الفلسفية والفكرية والفنية، وكيفية مشاركة معظم النقاد حول فكرة أساسية أكثر أهمية. ومن جانب آخر يعتبر النقد، وسيلة رعوية للجمهور الثقافي والحياة الثقافية، ومن أهم هيئات الوساطة بين الأدب والقراء من جهة، والمؤلفين والناشرين من جهة أخرى". إذن، النظام الأدبي، يشمل مؤسسات الإنتاج والتوزيع، وهي جزء من مؤسسة التواصل حول الأدب، الذي يشمل التربية التوعوية التي تتفاعل مع الأفراد والمجموعات، تؤثر عليهم وتتأثر بدورهم بها... في القرن السابع عشر، على سبيل المثال، ساهم النقد الأدبي في حقيقة أن المزيد والمزيد من الطبقات قد تطورت وبالتالي أصبحت قادرة على نقل ما هو ضروري بشكل تعليمي والمشاركة في النظام الأدبي في الحياة الثقافية نفسها... ببيانه "النقد ليس غاية في حد ذاته، ولكنه يؤدي مهمة يسهل تعريفها أساسيات مشتركة" يقول ويرنر إيرو Werner Irro: (يجب أن يتحدث النقد إلى القراء، على الرغم من أن هذا المطلب الاختزالي لا ينجح في تحديد النطاق الكامل لوظائف النقد الأدبي، إلا أنه يشحذ وجهة نظر ما تعتبر الحد الأدنى من الإجماع على وظائف النقد)... ويقول توماس آنز Thomas Anz (منذ ظهور "المراجعات النقدية" في زمن حركة التنوير الأوروبية في القرن السابع عشر، لاتزال هناك وظائف عديدة تواجه "أدب النقد" ومواصفاته، ولكن، يجب على النقاد تقديم معلومات حول محتوى الكتاب وحول أي شيء آخر قد يكون مثيراً للاهتمام- على سبيل المثال، الإشارات الموضوعية إلى الحاضر، والزخارف التاريخية، والنصوص المتداخلة. وفي وقت تزايد حاجة القراء للمعرفة المكتسبة، فعلى "الناقد" أن يؤدي وظيفة التوجيه المعرفي الإعلامي بقدر ما يمنح المهتمون بالأدب، نظرة عامة، يبقيها محدثة، وبالتالي يعزز التحسينات في إنتاج الكتب القيمة في المستقبل. من ناحية أخرى، سيستفيد القراء من حيث فهمهم للمعايير المطبقة عند تقييم العمل، ومقارنتها بمعاييرهم الشخصية).

***

عصام الياسري

الحدث الروائي يضع نفسه في المواجهة الصريحة، في كشف عورات وعيوب المجتمع تجاه المسحوقين والمهمشين في المجتمع، فقراء العشوائيات الذين يعيشون على هامش الحياة بالسخرية والاستهجان والاستغلال، وحياتهم معرضة الى شتى أنواع الانتهاك والظلم والحرمان ببساطة تامة، دون سؤال ومساءلة، هذه الفئة المظلومة من المجتمع في الأخص في عاداته وتقاليده تكون القاسية عليهم ذو حدين. وتميز المتن الروائي في عرض الصورة الفعلية لنيران المجتمع تجاههم، برع الأديب طارق الكناني غن يقدم، في الفن الروائي السردي وتقنياته الحديثة في الابتكار، أن يطرح جملة من المفاهيم بما يخص هذه الشريحة المهشمة بالرؤية الفكرية الهادفة والرصينة. أن يضع حروفه السردية على جرح العلة. وكذلك كشف واقع المرأة في مجتمع يمتلك ازدواجية المعايير، التساهل مع الرجل، والصرامة القاسية مع المرأة، تأخذ حصتها الكاملة في الظلم والانتهاك ومسخ حقوقها، أي واقع المرأة تقع ضحية في معايير المجتمع الاجتماعية، واستغلالها لتكون سلعة لشهوة والمتعة الجنسية، وكذلك الازدواجية في مفاهيم الدين، هذه المشاكل لا يمكن حجبها، كما يحجب ضياء الشمس بالغربال، فأن اطروحات المرجعية للحدث السردي الروائي تكشف في خطابها، حقيقة مرايا المجتمع في عاداته وتقاليده المجحفة في الواقع الاجتماعي الذي يميل الى التزييف وازدواجية المعايير، وكذلك الواقع السياسي في التحزب والتعصب الحزبي. ولكن الشيء المضيء في الحبكة السردية، يسلط الضوء على الارادة والعزيمة والاصرار، هي القوة الفعلية في المواصلة الى الهدف المنشود للسعي الى بر الامان، وتمزيق الصعاب والمعوقات في الوصول الى المرام. تكشف احداث الروائية هذه الخصال الإيجابية، في طريقة روائية تتجاوز الأطر التقليدية في المنظور الروائي في الطرح. حتى يدلل بالبرهان الساطع، بأن لابد من تغيير وتبديل المفاهيم الاجتماعية الخاطئة، ولابد أن تتخلص المفاهيم الدينية من الشوائب والعيوب التي لا تخدم انسانية الدين. في التعاطي بازدواجية المعايير. ان الحدث السردي بتقنياته الحديثة يشد اهتمام القارئ بتلهف ويثير في ذهنه جملة من التساؤلات في المفاهيم العامة، ويدرك ان لابد من إصلاح المجتمع من عيوبه، يملك الاديب براعة ابداعية في الطرح الفكري، بأسلوب السرد داخل السرد. أي أن هناك صوتين في التقنية السردية الحديثة، صوت الكاتب الذي وجد في دفتر اليوميات في الصندوق لبيت تعرض الى الحرق والنيران، ولم يبق منه سوى الصندوق اليوميات، والصوت الثاني وهو الطاغي في سرد الأحداث بما جاء من تدوين في دفتر المذكرات (يوميات مچاري) وكلمة مچاري تطلق على الشخص الذي يقوم بكراء حيواناته لنقل البضائع، وجرت العادة في مناداة (ابن مچاري) وعلى زملائه (المچارية) للاستخفاف والإهانة والتحقير، أي أنها شتيمة ومسبة، رغم أنها مصدر رزق للفقراء المسحوقين في المدينة.

- احداث المتن الروائي:

يتحدث عن صاحب دفتر اليوميات (كريم) من عائلة فقيرة معدمة مصدر رزقها الحمار، وهو ارث من أبيه المتوفى. رغم صغر سنه عمل عليه بجهد، لكي تعيش عائلته منه، كان مثابراً في عمله، رغم التعب والإرهاق، في إيصال البضائع من اجل سد كفاف المعيشة لعائلته (الام وشقيقته شهلة)، ولم ينقطع عن الدراسة والمدرسة، بل يصر على المثابرة والجهد حتى يصل الى ما يربو إليه، بالاجتهاد الدؤوب ووصل الى مرحلة المدرسة الاعدادية، فكان يشتغل على حماره في الصباح الباكر، ويذهب في المساء الى المدرسة الاعدادية، حتى دخل كلية الحقوق، ووجد عملاً في المساء بمساعدة الأصدقاء ويذهب صباحاً الى الكلية (كان العمل المسائي ينهكني وذهابي المبكر الى الكلية، وكثيراً ما كنت أغفو على المدرج ويوقظني زملائي) ص48. فكان بعيداً عن السياسة والحزبية، وكان متعلقاً بشغف وحب بشقيقته الصغيرة (شهلة) لأنها تشبه بالضبط أمها (حورية) عمته، وكان يكن الحب والاحترام والشغف تجاهها. لكن عمته (حورية) وقعت في حبائل الخداع من قبل الأغا، وكانت خادمة في بيته، استطاع أن يخدعها بالوعد بالزواج وحصل على رغبته وشهوته الجنسية ونكث بوعده وحملت منه بجنين، وحاول والد (كريم) ان يتفادى الورطة والفضيحة بين الناس، وخوفاً من شقيقه (قاسم) وجه الشر، حاول بكل وسيلة أن يقنع الاغا بالزواج الشرعي ثم يطلقها بعد ذلك، فخضع للأمر، وتم الزواج الشرعي والطلاق بعد ذلك، لكن شقيقه (قاسم) لم يقتنع بالزواج والطلاق، وارتكب جريمة القتل بحقها بدوافع الشرف وغسلاً للعار، وربت ام (كريم) طفلتها (شهلة) باعتبار انها ابنتها من ضلعها، حتى صدق (كريم) بذلك وكان يعتبرها شقيقته من أمه، وكانت (شهلة) ذكية ومثابرة في دراستها بالاجتهاد المثابر، وكانت محل مشورة لعقلها النير، حتى وصلت الى المدرسة الاعدادية فرع العلمي بتفوق متميز، وأنهت الاعدادية بمعدل يؤهلها الدخول في كلية الطب ودخلت في الكلية الطب وأصبحت دكتورة. وقبيل وفاة أم (كريم)، افشت سر (شهلة) الى أبنها كريم، فاعترفت بأن (شهلة) هي بنت عمته (حورية) التي قتلها عمه (قاسم) وليس شقيقته، وعمه (قاسم) ارتكب جريمة القتل و وسأل لماذا قتلها، فقالت (كانت عمتك تعمل في بيت هذا الأغا، ومن قبلها في البستان (طواشة) وانت تعلم كم هي هي جميلة، ومرحة، وبريئة، لقد لفتت انتباه الأغا الى جمالها ومرحها فأخذها عنده في البيت لتعمل كخادمة لزوجته المريضة) ص89، وخدعها بالكلام المعسول بالوعد بالزواج. فأخذ رغبته الجنسية بالاغتصاب وتماطل بالزواج، لكن محاولات ابيه نجحت في اقناع الاغا، لكن عمه لم يقتنع بعقد بالزواج الشرعي فقتلها. صدم كريم من هذا السر المخفي (كان هذا الاعتراف مثابة صاعقة نزلت على رأسي، يومها بكيت بحرقة لم اعهدها من قبل. بل اعتقد اني قد فقدت كل دموعي في ذلك اليوم الذي لم أبك بعده سوى مرة واحدة عند فراق والدتي) ص90. وتمت خطوبة وزواج (شهلة) من ابن شقيق الأغا. وعندما حضر الاغا حفلة الخطوبة، اصابته المفاجأة والدهشة غير المتوقعة بأن (شهلة) تشبه امها (حورية) التي أجرم بحقها في الاغتصاب وبقتلها من قبل شقيقها (قاسم). فتدهورت حالته الصحية في تأنيب الضمير حين عرف القصة الكاملة بأن (شهلة) هي ابنته الشرعية، فلم يتحمل ثقل الذنب الذي ارتكبه، وقبيل وفاته، كتب وصية بأن كل ما يملك من أموال وسندات وعقارات سجلها باسم ابنته (شهلة) وسلمها الى المحامي وهذا بدوره سلم الوصية الى (كريم) لان شقيقته خارج العراق مع زوجها الدكتور (محمود)، فقال المحامي موجهاً كلامه الى كريم (- أستاذ أقرأ وانت تفهم في الاوراق، بدأت بقراءة الأوراق كانت عبارة عن سندات ملكية العقارات وعمارتين في مركز المدينة ودفتر بمبلغ كبير جداً من بنك الرافدين بأسم شهلة) ص121.

وتعرف (كريم) بواسطة شقيقته (شهلة) على المعلمة المطلقة (سارة) من عائلة ثرية ومعروفة في المدينة بسمعتها الطيبة، ارتبط معها في علاقة حب، وكانت متزنة وهادئة وقبل عقد الخطوبة، صارحها (كريم) بحالته الاجتماعية السابقة بأنه كان (ابن المچاري) بقوله (- سارة هل تعرفين أنني من أسرة فقيرة جداً، كنا نسكن تلك الاكواخ التي احترقت قبل سنوات، هل تذكريها ؟

- نعم اذكرها.

- كنت لا املك من ارث أبي سوى حمارة وجحش ماتا في الحريق) ص86، فرحبت بصراحته، وهي بدورها كشفت عن زواجها وسبب طلاقها، لانها اكتشفت بالجرم المشهود بأن زوجها كان يمارس الشذوذ الجنسي، وارادت فضحه بهذا العار المخزي، لكن رد عليها ببرود، بأنه سوف يتهمها الى العلن بأنه ضبطها على فراش الزوجية تمارس الخيانة مع عشيقها، فأفضل الحل السكوت (أنتِ أش واني اش)فقالت له:

(- بماذا أنت تتهمني ؟ قال:

- سأتهمكِ بأني ضبطتك على فراش الزوجية بصحبة عشيقكِ، وتخيلي مقدار الفضيحة التي سأسببها لكِ ولعائلتك ِ) ص84. فسكتت على مضض، ولكن المشكلة التي اقلقتها بأنها رغم فترة زواجها لم تحبل، وأجريت الفحوص والتحليلات اللازمة، كشفت بأنها سليمة وقادرة على الإنجاب، وعلة تكمن في العقم بزوجها الشاذ (العنين) ولم يعد طريقاً للمواصلة الحالة الزوجية سوى الطلاق، والمصيبة بأن زوجها الشاذ جنسياً، يزيح مشكلة عدم الانجاب بزوجته بأنها عاقر.

وبعد زواجها من (كريم) رزقت بجنين وكانت فرحة كبيرة لعائلتها.

وبعد نهاية الحرب في الخليج الثانية المدمرة التي حطمت العراق، ساد الاضطراب والفوضى والانفلات الامني، فقام بعض الشبان بحرق بيت قاضي التحقيق (كريم) بذريعة انه من ازلام النظام، ولم تبق النيران التي أحرقت داره سوى الصندوق وفي داخلة دفتر المذكرات، وجاء الى بيته المحروق يفتش عن الصندوق، فقام الكاتب في إعطائه دفتر اليوميات، ليسدل الستار على خاتمة السرد كأنه شريط سينمائي كامل المواصفات.

× الكتاب: رواية. يوميات مچاري

× المؤلف: طارق الكناني

× سنة الاصدار: عام 2023

× إصدار: مؤسسة المثقف العربي سدني / استراليا

× لوحة الغلاف: أ. د. مصدق الحبيب

× عدد الصفحات: 137 صفحة

***

جمعة عبد الله

هناك تجاذبًا بين الفقر والمصائب، يتعانقان بشدّة، يشبه تجاذب الفساد والثراء الفاحش الغامض، هذه المعادلة التي توصل إليها آدم والتي رغب في تغييرها وقلبها، ليحقق معادلته الخاصة وهي ان ينعم بالثّراء النّابض بالشّعور، الثّراء المحمود الّذي ينصت إلى أنين الأشقياء بشغف، الثّراء الّذي يمسح دمعة بائس.

رواية منارة الموت للكاتبة هناء عبيد، تُمثل رحلة آدم وتصميمه على إنتشال نفسه من بؤرة الفقر والعوز متسلحًا بالأمل والقدرة على التغيير إذا توفرت الإرادة، وأيضا يُبيّن لنا زّيف الاقنعة التي تساقطت عن الوجوه وفضح ممارسات أصحابها.

تتطرق الكاتبة في روايتها منارة الموت إلى مسألة التنمر، من خلال كيفية تعامل الصّبية مع آدم الذي يعاني إعاقة في إحدى رجليه، فكانوا يسخرون منه وينادونه بأبو رجل مسلوخة، يقول آدم لم أسلم من أذى الصّبية، طلبوا منّي أن أركل الكرة، لم أستطع أن احتفظ بتوازني سقطت على الأرض وانغمس وجهي بالطّين، هذا التنمر لم يكن مقتصرا  على الصّبية أو الصغار بل نجده أيضا  لدى الكبار الذين يروا  في أنفسهم ما يميزهم عن بقيّة البشر كوالد نُوى الذي كان يأمر آدم وأمه بالجلوس على الأرض، ويقول لزوجته الأرض موقع هؤلاء، لا يجب أن يتطاولوا يومًا على أسيادهم وإلّا تمرّدوا.

تبين لنا الرواية أيضا شخصية آدم المشحونة بالتحدي والأمل ورغبته في تغيير واقعه نحو الافضل، يخاطب نفسه قائلًا: الانكسار تعافه نفسي، لن أنكسر يوما أمام أي أحد، واليوم الذي سأنتقم فيه من كلّ من مرّغ أنفي في الوحل سيأتي حتمًا، كما انه عندما شاهد الصورة التي تجمعه بنُوى الذي يحمل الكرة وهو يحمل سلّة الغسيل، عاهد نفسه انه سيستبدل هذه الصورة يوما بأخرى يحمل فيها الكرة وسلّة فاكهة ليوزّعها على أطفال القرية المساكين.

لم يتقبل آدم ان يكون عبئًا على غيره، فيسأل نفسه "ما الّذي يجعلني أنتظر صدقة من آخرين وأنا لدّي القدرة على العمل؟ لا أحبّ صدقة أحد، ما أبشع الظّروف الّتي تجبرنا على قبول ما لا نرغب فيه". ولأجل تحصيل رزقه عمل صبي قهوة وضاعف مدخوله بصناعة عقود الياسمين ثم عمل صبي فندق، وعاود إكمال دراسته الجامعية وتخرجة من كلية الطب. كما ان إعتزازه بنفسه  جعله يرفض الخضوع والطاعة العمياء  فالجميع متساوون في نظره، من هنا فهو يرفض الانحناء لصورة الرئيس سواء رئيس البلاد او رئيس المصنع، ويتساءل عن رئيس البلاد "من يكون هذا الرّجل؟ أهو مبعوث الله من السّماء أم مخلوقٌ من معدن ذهب"..ويقول حينما تنحني لشخص وأنت تعلم أنّه يأكل قوت يومك ويسرق حليب أطفالك فأنت شريكه في السرقة، فالخنوع إجرام والذّل ذنب.

قدمت الرواية آدم بشخصية المُحب والعطوف الذي يسعى جاهدا لمساعدة الآخر ليستحق بجدارة لقب صانع البسمة كما سماه صديقه أبو الأحزان. حاول آدم إدخال البهجة على الطفل سام وهو من ذوي الإحتياجات الخاصة وعمل على تأمين المساعدة والرعاية الاجتماعية له.. وفي الشأن الأسري نلحظ العلاقة الوثيقة بين آدم  ووالدته جودي التي يخاطبها بالقول: "جودي يا نورًا  تسرّب من بين الغيوم وأشرق دنيانا، سأعود يومًا لأجعلك سيّدة الأرض"  وأيضا فهو شديد التعلق بأخته الصغيرة وحرصه على مساعدتها وإدخال البهجة الى نفسها. إلا ان ما نقف عنده هو علاقته المضطربة مع والده  خصوصا والرجل عموما، مثلايقول عن والده " مسكين أبي، أسدٌ علينا وفأرٌ أمام الآخرين" وأيضا عندما تكلم عن جده لأمه جودي يصفه بالكسول المشبع بالنذالة لإنه اختار ابنته جودي لتتحمّل المسؤوليّة قبل اشتداد عودها. ومن ناحية أخرى تبرز الرواية أمانة وأخلاق آدم التي منعته من الإحتفاظ بسوار الماس الذي وجده واعاده لصاحبته، كما تشير إلى حسن المعاملة والتصرف مع الفتاة شمس.

ظاهرة تكاد تكون شائعة في معظم مجتمعاتنا وهي ما يسمى بالجمعيات الخيرية التي تقوم بتوزيع المساعدات المجانية على المحتاجين، ولكن المتتبع لنشاط هذه الجمعيات يكتشف انها تمارس أعمال التجارة وجني الارباح بصورة مواربة وهذا ما تقوم به شركة الاخوين كاربنتر من خلال شاحنة محملة بالمساعدات يفترض أن توزّع على الفقراء مجّانًا، ولكن ما يحدث هو توزيع الجزء الأقل منها مجّانا وتحويل الباقي إلى المحال التجارية المملوكة أصلا من الشركة حيث يلاحظ وجود مثل أنواع هذه المساعدات في المحال التجارية التي تبيعها بأسعار عالية للمواطنين. كما ان رئيس البلدية يستحوذ على قسم من هذه المساعدات ليعاود توزيعها باسمه خلال فترة ترشحه للإنتخابات.

كما تشير الرواية إلى ظاهرة الفساد والمتاجرة بصحة المواطن من قبل شركة كاربنتر والتي تشكل فرعا من فروع مافيا الدواء حيث تقوم بترويج أدوية منتهية الصلاحية وفاسدة، أودت بحياة الكثيرين ومنهم والدة جورج وابنة ريّان بعد تناولهما أدوية توزعها شركة كاربنتر، ولم يقف استهتار شركة كاربنتر عند حياة المواطنين بل وصل إلى الاستخفاف حتى بحياة موظفيها عندما انزلقت رجل الموظف رمزي خلال تأديته عمله  ورفض مديره طلب الإسعاف ومعالجته على نفقة الشركة، بل تم الاستغناء عنه دون أية تعويضات، ولم تكتف الشركة بهذا الاجراء التعسفي بحقه بل عمدت إلى خطفه ولا يعلم عنه شيئًا واختفت معه كل الاوراق والمستندات التي كان يجمعها لتسليمها للمحامي لرفع قضية على المصنع. بعد أن حاول فضح ممارساتها عبر منشوراته على صفحة الفايسبوك. وكذلك فعلت الشركة مع زميليه جورج الذي كان يحارب بقلمه وأسس مجموعة من العمال للإعتراض على ما يحدث فكان نصيبه رصاصة أودت يحياته.وهي حال زميله ريّان أيضا والذي إختفى بعد محاولته كشف سر الشاحنة الليلية المحملة بمواد مشبوهة.

في جانب آخر تظهر الرواية أيضا وجهة نظر هانا في تخليها عن حبها لآدم وبحثها عن فارس أحلام يحقق لها طموحاتها فتقول :"بقي آدم صبيًا لا يغري طموح أيّة أنثى. ولم أحلم يومًا بأن أعيش كما أمّي بثيابها الممزّقة، أريد أن أمسك شعاعات الشّمس بيديّ، العتمة تقتلني والفقر يقرصني لا أريد أن تختبىء بسمتي خلف حرمان. قسوت كثيرًا على آدم، عشت صراعا تغلّب فيه حلمي بمرافقة أمير ساندريلا على حبّي لصبّي المقهى. لا أدري إن كنت أنانيّة أم عقلانية.

كما لم تغفل الكاتبة الإشارة الى الادمان على إستعمال وسائل التواصل الاجتماعي التي أدخلت الفرد في عالم الجنون والسحر بجهاز يصله مع كلّ سكّان الأرض لكنّه يعزله  تمامًا ليعيش في قوقعة وأوهام هلاميّة وبشخصيّة لا تشبههُ. ناهيك عن بعض النتائج الكارثية أحيانا نتيجة هذا فتشير الرواية إلى انّ احد تلامذة المدرسة دفع عمره لهذا الجهاز، بينما كان يمشي  في طريقه كان يضع السّماعات على أذنيه فإذا بالقطار يطرحه صريعًا.

ختاما يبقى السؤال قائما كيف سنواجه هل المواجهة تكون  كما يقول آدم "ستكون البسمة سلاحي الوحيد حينما أنشرها على شفاه البؤساء، لتكون السّكين في خاصرة الطّغاة الذين يغتالون الحياة من الوليد في مهده، ويسرقون زجاجة الحليب من فم الرضيع ويقتلون الحلم قبل ولادته. أم اننا ننحاز إلى وجهة نظر زميله جورج القائلة بأنّ الظّلم لا يعرف البسمة، العنف لا يقاوم بشفاه تكشف عن أسنانها ببلاهة، العنف يُقاوم بالعنف والحقّ يؤخذ بالقوّة

لا بد للقارىء من التوقف عند بعض العبارت الجميلة والمعبرة التي احتوتها الرواية ومن هذه العبارت نذكر ما يلي:

1- كلّي يقين أنّ ظهرك المحدّب قد يكون ملاذًا أكثر قوة منّي، حينما يُمَكِّن الحجارة الموجّهة الى وجهك بالانزلاق عنه 12

2- خشيت أن يتلوَّث البلاط اللّامع من انعكاس وجهي عليه.14

3- أم نوى تبدو لامعة بثوبها الزّهريّ المزيّن بالرّيش، وأمي يلتصق بثوبها ريش الدّجاج المتطاير من قفص دجاجات أمّ هانا.14

4- أجد صعوبة بداية الأمر في الجلوس على الكرسيّ لتناول الطّعام، فقد تعوّدت وأسرتي الأكل على الأرض.24

5- لو أستطيع ركله (والد نُوى) بحذائي المتّسخ الّذي أراه أكثر نظافةً من وجهه القبيح.25.

***

عفيف قاووق

مقدمة: الرّواية جِنسٌ أدبيّ حظّى بالقراءةِ والنقدِ، وتفوّق على الأجناسِ الأدبيةِ الأخرى مُنذ النّصفِ الثاني من القرنِ العِشرين، ذلك القرن الذي شهد ثورات عظيمة أسهمت في رسم المشهد الروائي، فأصبحت الرواية أكثر الكتب رواجًا وأقربها لروح القارئ، بينما كانت في الماضي وسيلة للتسلية، وإشباعًا سهلًا للعاطفة والمخيلة، ولسعة توزيعها تمثل اليوم من الناحية الاجتماعية أداة الاتصال الأدبي بين الجماهير المتفاوتة فيما بينها(1).

يشكل الروائي الراحل حامد فاضل(2) ظاهرة أدبية تستحق التأمل، إذ اجتمعت له خصائص شكلته روائيًا مجيدًا، وكاتبًا مرموقًا، منها قوة الوصف وجماليته، وأنسنة المكان، والخيال الخصب، والأسلوب المرموق، والنسيج الروائي المحكم الصنع، إضافة إلى أنه روائي شغلته قضايا وطنه، والتمسك بالمبادئ والأخلاق، والحفاظ على تأريخ مدينته والحضارات التي مرّت عليها، وتخليد ذكريات قرون مضت، عبر لغة شعرية ووصفية تأريخية سلسة، لذلك ارتأت الدراسة أنْ تختار الروائي حامد فاضل لتتوقف أمام عمل من أعماله الروائية (رواية بلدة في علبة)، مستقرئةً التشكيل الزمكاني للخطاب الروائي عنده؛ ولأجل ذلك قمت بتقسيم الدراسة إلى مبحثين، يقفوهما خاتمة تضمنت أهم نتائج الدراسة.

المبحث الأول: قراءة زمكانية في معمارية الرواية

المطلب الأول: جماليات التشكيل الزمكاني للعتبات النصية

المطلب الثاني: جماليات التشكيل الزمكاني للهيكل المعماري للرواية

المبحث الثاني: تحليل زمكانية العمل الروائي

المطلب الأول: زمكانية الأمكنة المغلقة

المطلب الثاني: زمكانية الأمكنة المفتوحة

تمهيد: مفهوم الزمكانية:

في الحقيقة إنَّ مصطلح الزمكان، وإنْ كان مركبًا مزجيًا منحوتًا من مصطلحي الزمان، والمكان(3)، فهو مصطلح غربي في الأساس، استعمله ميخائيل باختين(4) في مصطلح الكرونوتوب، في نطاق حديثه عن الأنساق القصصية في تطورها من العصر الإغريقي حتى العصور الحديثة، وقد وجد في مصطلح الكرونوتوب وسيلة يجمع فيها بين عنصرين قصصيين، هما: الكرونوس Cronos (الزمان)، والتوبوس Topos (المكان)(5).

وقد "نحته باختين عن وعي علمي، ودافع نقدي يبحث عن دفع الخلط، وتجاوز تقنيات الفكر التقليدي الذي يؤمن بمطلقية الزمن وانفصاله عن الفضاء/ المكان"(6).

إنَّ اصطلاح الزمكان يدل دلالة واضحة على "العلاقات الجوهرية المتبادلة بين الزمان والمكان المستوعبة في الأدب استيعابًا فنيًا"(7).

ويرى باختين أنَّ ما يحدث في الزمكان الفني هو اتحاد وانصهار علاقات الزمان والمكان في كل واحدٍ ندركه فنيًا، ويجعل للزمان والمكان أهمية جنسية جوهرية، إذ يوضح أنّ الجنس الأدبي وأنواعه يتم تحديدها من خلال الزمكان بالذات(8).

قارب باختين مفهوم الزمان من خلال ارتباطه بالمكان ولم ينظر إلى هذا الأخير بوصفه "طرفًا في علاقة ثنائية طرفها الآخر هو الزمان"(9)، فاستخدم مصطلح زمكانية ورآه أنسب للتعبير عن علاقة الترابط الوثيق بينهما.

إذن؛ نستنتج أنَّ باخيتن قصد من وراء هذا المصطلح أنه لا يمكن أن نفصل الزمان عن المكان، فهما شكل واحد، في بوتقة واحدة وفي رحاهما تدور باقي مكونات السرد الأخرى.

يقول عمر عاشور في كتابه البنية السردية: "الكرونوتوب هو مصطلح قصد به تواجد الزمن مخزنًا في المكان، وبما أنَّ للزمن صلات بالمكونات الأخرى للحكاية من حدث وشخصيات، فمن الضروري أنْ تكون لها هي الأخرى صلات بالمكان، وهي صلات يشتغل بعضها علنًا وبعضها يشتغل ضمنيًا، أي أنها علاقة بين عناصر حضورية وأخرى غيابية، كما يرى الناقد تودورف، وهذه العلاقات تتقاطع وتتفاعل بكيفيات معقدة لما يعطي الرواية بنيتها الشكلية والدلالية"(10).

ومن خلال ما سبق تعرف الزمكانية بأنَّها الوحدة الفنية للعمل الأدبي والرابط العضوي لجميع عناصر السرد.

زمكانية العنوان:

يحتل العنوان المركز الأول في أي عمل فني، فهو بمنزلة الثريا التي تحتل بعدًا مكانيًا عاليًا تعكس إشعاعها على النص، فهو مؤشر أولي مهم يستقطب داخله آفاق البنية الدلالية المركزية التي يقوم عليها البناء.

وعادةً ما يصبح العنوان رغم فقره اللُّغوي "مرجعًا بداخله العلاقة والرمز وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أنْ يثبت فيه مقصده برمته، أي أنَّه النواة المتحركة التي يخيط المؤلف عليها نسيج النص"(11)، فالعنوان هو المفتاح الأول من المفاتيح المهمة لقراءة الرواية، فهو نص ابتدائي ينشئه المؤلف، وهو خطاب منتج للنص يتبعه أو يسبقه.

لذا؛ فهو علامة سيميائية ترتبط بمضمون النص، وقد تحيل إلى الحدث الرئيس الذي يهيمن على الرواية، فهو بوابةٌ لاقتحام عالمه الداخلي.

يعكس العنوان حمولات دلالية مكثفة داخل بنية النص الروائي؛ كونه العلامة اللسانية الأولى التي يقاربها القارئ على سطح الغلاف، حيث تتشابك أمامه وتتداخل مختلف الدلالات السيميائية والرمزية المحيلة إلى عوالم لا تستقيم بالضرورة أمام القارئ التقليدي، بل تحتاج إلى قارئ نخبوي لا يمارس تقانات التأويل إلا وهو متمرس بخبايا النص وسياقاته. لهذا أصبحت دراسة العنوان ومقاربته لعبة ممنهجة ضمن كتلة النصوص الموازية، وضمن السياق الإنتاجي للرواية كسلعة تجارية.

وفيما يخص رواية بلدة في علبة، فقد جاء هذا العنوان في شكل مركب اسمي مكون من جزأين؛ الأول: بلدة، وجمعها بلدان، وهي الأرض المتسعة تستوطنها جماعة ما، لها مدن وقرى وحدود معينة.

والثاني: شبه الجملة الجار والمجرور (في علبة)، والعلبة هي وعاء من خشب أو ورق أو صفيح معدني يحفظ فيه الشيء.

وهو عنوان غائر في الإحالة الدلالية والرمزية؛ فالبلدة أولًا جاءت بصيغة النكرة، فأي بلدة يقصد الروائي، وما اسمها، أما كون البلدة في علبة، فهذا تأكيد على المعنى الأول (كون البلدة عنصر مجهول)، فضلًا عن أنَّ العلبة ذات حيز مكاني ضيق جدًا، مغلق على ذاته.

كما أنَّ العنوان يدل على الغياب الكبير لمعالم البلدة وأشكال العنف والضغينة، يشعر القارئ أنه أمام رواية مسكونة بالأسرار والخفايا المؤلمة التي حصرت وبقيت حبيسة مكانها، إذن نستنتج أنَّ ثمة شيء ما في العلبة يتعلق بالبلدة.

فعتبة النص الأولى هو عنوان تناقضي يفتح الباب بدايةً للتناقض كمدخل للقراءة، فكيف تكون بلدة بالحجم الكبير في علبة صغيرة ومغلقة، وهي غرابة سرعان ما تتبدد حينما نعرف أنَّ العلبة تحتوي على صور للمدينة وحاراتها وشوارعها وبيوتها ومدارسها ومقاهيها وأسواقها، ومن خلالها يرجع بنا الروائي إلى أحداث أو قصة كل صورة.

وبما أنَّ العنوان لا يمكن إدراكه إلا كوظيفة دالة فاعلة، تقوم بتوليد الدلالات الممكن تأويلها، حيث يستقطب داخله آفاق البنية الدلالية المركزية أو الأساسية التي يقوم عليها البناء الروائي كله(12)، فإنَّ العنوان (بلدة في علبة) يحمل على كتفه هموم وآلام سكان هذه البلدة التي قاست وعانت صنوفًا من أنواع العذاب والقهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ولمّا كانت الشخصيات في الرواية تعاني من الحصار والفقر والحرب في فضاء البلدة، فهي بالتالي مقيدة الحريات ومحاصرة من كل زاوية كزوايا العلبة، فعنوان الرواية يوحي بمضمونها.

ورغم طغيان المظهر المكاني المباشر على العنوان، إلا أنَّه يتضمن الزمن في سياق الدلالة نفسها بصفة مضمرة ومستترة، فالأحداث والشخصيات لا يمكنها أنْ تنمو وتتحرك إلا في إطارها الزمكاني، ثم إنَّ العلاقة الزمنية المضمرة للعنوان يمكن استجلاؤها بوضوح في زاوية أخرى، فالصور الموجودة في العلبة تحمل قصصًا من الزمان البعيد والحاضر لمدينة السماوة.

وهذا يفسر إسناد المفرد (بلدة) إلى شبه الجملة (في علبة)؛ ليبين أنَّ البلدة مغلقة على نفسها، تعاني من القهر والاستبداد.

إنَّ اختيار حامد فاضل لعنوان الرواية (بلدة في علبة) ليس عبثًا، إنما جاء نصًا مختزلًا ومختصرًا في الوقت ذاته مليئًا بالدلالات والمعاني، فعنوان الرواية دال يتوافق ويتظافر كثيرًا مع مدلول النص وما يحتويه من المعنى الداخلي.

إذن؛ فعنوان الرواية تربطه علاقة تكاملية بالنص الداخلي، فهو بمنزلة الدال الإشاري للنص، وحامد فاضل ربما حاول الربط بين الرواية وواقعه وكل ما يتصل به من مؤثرات، فأنتج هذه الرواية التي حاول من خلالها أنْ يصف عالم مدينة السماوة، ويصف عالم صحرائها وما فيه من أساطير وخرافات... والتبحر من خلال هذه الصور في التاريخ القديم والحضارات والفلسفات القديمة حتى استدعاء الأساطير وبعض الخرافات كالسلعوة(13)، وحكايا الجن(14).

والعنوان بنية صغرى، تؤلِّف مع محتوى الرواية وحدة متكاملة تسهم في إنتاج الدلالة، ولا يمكن أنْ تتحقق هذه الوظيفة بمعزل عن النص الروائي، وهذا ما نجده في متن الرواية في حديث الروائي عن بلدة السماوة التي اختزن ذكرياتها في علبة صور، كل صورة منها تحكي عن حادثة معينة، يتبادل فيها النقاش مع الشيخ النوراني الذي وجده في الغرفة.

وبعد هذا؛ فإنَّ العنوان هو الصورة المتكاملة التي يستحضرها القارئ أثناء التلقي والتفاعل مع جمالية النص الروائي.

من هنا يتضح؛ أنَّ العنوان (بلدة في علبة) اختزل في داخله زمكانية واضحة جدًا نراها من بداية الرواية حتى نهايتها، في العلبة التي تحمل صور المدينة وحاراتها وأناسها وحكاياتها، فكل صورة كنز من الحكايات التاريخية.

تذكرنا الرواية بالصندوق في رواية الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (موت سرير رقم 12)، فهو صندوق مفعم بالرموز، وهو علامة سيميائية، والعلبة في هذه الرواية (بلدة في علبة)، ذكرى ما لا تعيه الذاكرة من الزمن، والمحتويات هي عبارة عن صور باللونين الأبيض والأسود، وتم تلوينها عبر الخيال، وقد ورد ذكر الصندوق (العلبة) في أكثر من موضع في الرواية، وعلى أشكال عدة، وهي: صندوق جدي(15)، صندوق الطفولة(16)، صندوق قطار الموت(17).

زمكانية الإهداء:

في رواية بلدة في علبة، نجد أنَّ الإهداء جاء وجيزًا في كلمتين، ذكر فيها المهدى إليه، بقوله: "إلى السماوة"، وسرعان ما تبدد الغطاء عن اسم البلدة، وهي بلدة السماوة.

زمكانية الاستهلال أو التصدير النثري والشعري:

يعد الخطاب المقدماتي من أهم العتبات النصية التي يعتمدها الروائي المعاصر في رسم استراتيجيات النص والتصدير له عند المتلقي بوصفه القارئ المفعل للدلالات الوسيطة بينه وبين المعنى المضمر، الذي يحاول القبض عليه من خلال تلك اللواحق النصية الموجِه تارة والمتسلطة تارة أخرى، فالخطاب المقدماتي – في تقديري - لا يخرج عن دائرة التوجيه الفكري والأيديولوجي، إنَّه "خطاب موجه نحو النص والقارئ، قَصْد بناء أو تحديد نمط القراءة المتوخاة، وهذه الوظيفة التوجيهية جزء من استراتيجيات المقدِم في تحديد علاقة النص بالقارئ"(18).

يصدر الروائي روايته بهذا التصدير الشعري للشاعر رياض الغريب(19):

خاتمي ذو الحجر الأزرق

الذي ورثته عن أبي

ظل

طوال الطريق

إلى السوق

يحدثني

الحصار سينتهي

الأولاد سيكبرون

ماذا تبقي

لابنك إن بعتني

مَن يقول

هذا

ورثته عن أبي

هذا بقايا العائلة

جاء الروائي بهذه الأسطر الشعرية والتي كأنها رسالة من رياض الغريب إلى كل مواطن فَقَد أباه وورث منه شيئًا بأنْ يحافظ عليه، وهذا النص الشعري إشارة إلى العلبة الصندوق التي ورثها الابن عن أبيه، وبداخله كنز من كنوز مدينته الجميلة وذكرياتها.

زمكانية العناوين الداخلية:

تتألف الرواية من عشرين فصلًا، تحمل عناوين دالة، ترسم المنحى التسلسلي الذي اتخذته مأساة مدينة السماوة، ينفتح الفصل الأول على "نوافذ مظللة"، ثم "سليلة الوركاء"، "خيمة الحكايات"، "السمين والضعيف"، "مسلحة أليس"، "السماور"، "قلعة الهيس"، "دار السيِّد"، "البجعة والجمل"، "الجسر العتيق"، "الأرجوحة والمنبر"، "قطار الموت"، "قبلة سبارتاكوس"، "مقهى النقائض"، "النهر العليل"، الليرات العشر"، "الملك الشاب"، "عمامة سدارة"، "عقال طربوش سروال خوذة"، وينتهي بالفصل الأخير (20) "نوافذ مفتوحة".

افتتح الروائي حامد فاضل روايته بالفصل الأول المعنون بـ "نوافذ مظللة"، وأنهى روايته بـ "نوافذ مفتوحة"، مفتوحة على حياة تبشر بمستقبل واعد لا يقتطف وإنما يتوصل إليه على جسر من التعب، ففي نهاية كل نفق مظلم قبس من نور.

زمكانية الغلاف:

يعد الغلاف من ضمن العتبات الأولى التي يقف عليها القارئ، وتلفت انتباهه فيقف وقفة تمحيص.

وفيما يتعلق بتقسيم الصورة البصرية للغلاف، فقد قسّمت إلى قسمين؛ الأول: هو الجزء العلوي من الرواية، حيث فصل بين الجزء السفلي بخط برتقالي واسم الروائي فوقه بخط أبيض، وأخذ حيز ثلثي الغلاف، وتحته عنوان الرواية في الثلث الأخير، وقد كتب الخط بلون أصفر فاقع بحجم خط كبير، وله تفسير فلربما دلّ الخط على الحد الفاصل بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث للمدينة، وهو الجزء الأكبر من الغلاف.

الباب مغلق والكف المعصورة الخارجة من الحائط غير الموجود، وكأنها عصرت داخل الحائط، ولا شيء واضح خلف الباب، والحذاء أمام عتبة الباب، وكأنَّ رجلًا دخل وحاول الخروج ولكنه لم يستطع.

إنَّ الكف المحصورة على صفحة الغلاف داخل فضاء متعدد الألوان والأبعاد والدلالات يضع الخطاب الروائي في قلب عالم كله صراع ومواجهة وتحولات، حتى السماء المحيط بها يلازمها لون الغيوم السوداء الذي يبعث على الخوف والقلق والاضطراب، ولكن الأمل موجود بالومضة البيضاء في تحسن الحال قليلًا.

سواد الغلاف يوازي نوافذ مظللة، وانفتاح اللون بعد أنْ كان غامقًا في الغلاف الأخير يوازي نوافذ مفتوحة.

الغراب والصخرة وسيلان الحبر من كلمة (Allone)، والغراب ينظر باتجاه الباب التي كانت بالكتابة اللاتينية (الساعة السابعة إلا عشر دقائق)، أهو صباح أم مساء من هذه الغيوم الملبدة في الجو؛ لربما هو المساء ومظلم كلما أضاء البرق سلكت الطريق، وهو يدل على أنَّ ساعات النور قليلة في هذه الرواية وهي عبارة عن ومضات، حيث يدل على ذلك انطفاء الشمعة التي تقع تحت الساعة المحفورة في الصخرة، وكأنَّ قوة كبيرة دفعتها للانطفاء.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا وقع اختيار الكاتب على اليد اليسرى دون اليمنى؟

لا شكَّ أن اليسار كان يمثل طيلة العهود القديمة وحتى عهد قريب قيمًا سلبية في نظر الكثير من الديانات والثقافات. وقد أدت هذه التمثيلات دورًا مهمًا في تشكيل متخيل إنساني يقوم على مركزية اليمين وهامشية اليسار، لكن الحداثة التي قلبت موازين القوى السياسية والثقافية والأدبية والحضارية، أعادت الاعتبار لليسار الذي أضحى رمزًا للتحرر والتجديد والإبداع.

وعندما نقرأ الرواية نلاحظ فصلًا يحمل عنوان "قطار الموت"، ويتحدث فيه الكاتب عن المكيدة التي دبرت لليسار والشيوعيين لقتلهم، وربما هذا ما يفسر اختيار الكاتب لليد اليسرى.

الغلاف الأخير يحيى السماوي – وهو شاعر مغترب- ما كان ليغترب لولا ما حدث في وطنه، وصورة الروائي حامد فاضل وهو يتأمل شيئًا ما يوشي بأمل جديد بالانتظار.

دلالة الألوان:

تؤدي الألوان دورًا أساسيًا في التواصل بين الأفراد، ويبدو أنَّ دلالة الألوان لصيقة بالثقافة والحضارة، فلا توجد ثوابت عالمية في هذا المجال، إذ غالبًا ما تتحدد شيفرات الألوان بالانتماءات الثقافية والمرجعيات الحضارية والسياقات التاريخية، وما يهمنا هنا هو حقيقة الألوان الموظفة في الغلاف وعلاقتها بالمنظومة الثقافية العربية واستراتيجية الكتابة الروائية.

نلقي الآن نظرة على الألوان في واجهة الرواية، ودلالاتها الموحية في ظل هندسة حامد فاضل لفضائه الروائي، وما له من تعالقات مع غلاف الرواية.

نلاحظ بداية أنَّ حامد فاضل اختار لواجهة روايته "بلدة في علبة" اللون الأسود الممزوج بالرمادي والأبيض، ويجدر بنا أنْ نشير إلى أنَّ هذا اللون له وقع خاص في النفس، فهو يشير إلى الإحباط والخوف والذعر والحرمان والقهر.

وعندما اختار حامد الواجهة باللون الأسود، فإنه يسعى إلى رسم عالم يوحي بالحزن والتوتر والاستبداد، كما يشير إلى حالة شخصيات الرواية التي تتطلع إلى التحرر من الأزمات والنكبات، كما يرتبط الأسود بالحزن والوحدة، والإحساس بالوحشة لهذا كان اللون الأسود الأقرب لتجربة القهر والاستبداد.

إنَّ قيمة اللون لا تكمن في ذاته بوصفه كائنًا مستقلًا قائمًا بذاته، بمعزل عن الألوان الأخرى بل في تفاعله الكيميائي والدلالي مع الألوان الأخرى، إنه بمنزلة الكلمة التي تتعالق مع الكلمات الأخرى داخل نسيج متماسك ومترابط لإنتاج جمل ووحدات دلالية صغرى، تكون بمنزلة مرتكزات الخطابات والوحدات الكبرى.

لذلك؛ نرى أنَّ التقاء الرمادي الغامق بالأسود له مفعول سيكولوجي داخل الاقتصاد الكلي للبناء الدرامي، فإنْ كان هناك سبق للون الأسود فإنَّ المراد هو العذاب والحزن والذعر.

يأتي عنوان المؤلف بخط أبيض في الثلث الأخير من أسفل الصفحة، ويفصل بينه وبين عنوان الرواية خط برتقالي ثم اسم الرواية بلون أصفر فاقع كبير، وهو يحيل إلى العزلة والانفصال عن الآخرين، كما يعكس العنوان وضعيات الشخصيات المأزومة في الرواية، التي تعاني من المصاعب.

ثم تأتي كلمة (رواية) في يسار الغلاف باللون الأبيض في ثالث موقع لتضيف لبنة جديدة إلى معمارية الدلالة وتوجه الفعل القرائي إلى أفق جديد، فيتعدى بذلك كونه مجرد فضاء لوني إلى موضوع دلالي مشبع بالرمزية، ويأتي بعدها اسم دار النشر (سطور).

إنَّ الأشكال والرسومات والألوان المتفاعلة داخل فضاء الغلاف تمثل فسيفساء دلالية وجمالية تنهض بفعل إنجاز البرنامج الإبداعي الكلي على مستوى الدفق المبدئي والبرمجة المفتاحية، ولكي تكتمل الصورة وتتناغم المكونات مع بعضها البعض، لجأ الكاتب إلى خط اسمه (حامد فاضل) باللون الأبيض، وهو رمز للطهر والنقاء والصفاء، إنه شهادة الميلاد التي تعلن عن ميلاد أسطورة أدبية.

تلك هي بعض الأفكار التي أوحت بها دراسة الغلاف والعنوان من منطلقات تحليلية سيميائية زمكانية، وقد بيّنت الدراسة أنَّ مغامرة الكتابة الإبداعية النصية ما هي إلا نتاج وتكاثر النواة المجهرية التي يمثلها العنوان، والتي تختزل الطاقات الدلالية اللانهائية.

يستحق العنوان ولوحة الغلاف وقفة مطولة، بل هما جديران بدراسة موسّعة تثبت العلاقة الجدلية القوية بين الأحداث وبين العنوان، وما يتعلق به، ما يؤكد رؤية جيرار جينيت أنّ العنوان هو "النص الموازي"، وهو ما ينطبق فعلًا على لوحة الغلاف التي تأخذنا إلى أجواء الخوف والذعر والتغيرات السياسية والحروب والنزاع في تاريخ مدينة السماوة الحافل.

***

د. سحر ماهر احمد

........................

(1) ينظر: ماتز، تطور الرواية الحديثة، ص15.

(2) هو حامد فاضل حاشوش الغزي كاتب وروائي ومسرحي وصحفي عراقي, ولد في مدينة الرميثة بالعراق عام 1950، وحصل على بكالوريوس اللغة الإنجليزية وآدابها، وعمل في مجال التدريس, وعمل مراسلًا لجريدة «الزمان» من عام 2003 إلى عام 2005، ومراسلًا لجريدة «الأديب» الثقافية من عام 2004 إلى عام 2013، ومراسلًا لوكالة رويترز للأنباء من عام 2003 إلى عام 2008، وعمل مندوبًا لمعهد المرأة القيادية من عام 2004 إلى عام 2009، كما قام بإعداد الصفحة الثقافية لجريدة السماوة. رحل عن عمر يناهز الـ71 عامًا يوم الثلاثاء 15 يونيو 2021م.

(3) عبد الملك مرتاض. تحليل الخطاب السردي: معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية "زقاق المدق"، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، (د.ط)، 1995م، ص227.

(4) ميخائيل باختين:)1895-1975م) فيلسوف ولغوي ومنظر أدبي روسي سوفييتي، ولد في مدينة أريول، درس فقه اللغة وتخرج عام 1918م، وعمل في سلك التعليم وأسس "حلقة باختين" النقدية عام 1921م.

(5) انظر: محمد القاضي وآخرون. معجم السرديات، دار محمد علي للنشر، تونس، ط1، 2010م، ص344؛ وأيضًا: فيصل الأحمر. المكان ودلالته في الرواية العربية الجزائرية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر، (د.ت)، ص227.

(6) شعيب حليفي. شعرية الرواية الفانتستيكية، ص182.

(7) ميخائيل باختين. أشكال الزمان والمكان في الرواية، ترجمة: يوسف الحلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، (د.ط)، 1990م، ص5.

(8) انظر: المرجع السابق، ص6.

(9) يمنى العيد. أضواء على الكرونوتوب والنسق الدلالي في نظرية باختين للرواية ضمن كتاب: في مفاهيم النقد وحركة الثقافة العربية، دار الفارابي، بيروت - لبنان، ط8، (د.ت)، ص65.

(10) عمر عاشور. البنية الزمنية والمكانية في موسم الهجرة إلى الشمال، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، (د.ط)، 2010م، ص31.

(11) ناصر يعقوب. اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية العربية (1970-2000)، المؤسسة العربية للدراسات، لبنان، (د.ط)، 2004م، ص110.

(12) عثمان بدري. وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ: دراسة تطبيقية، ص50.

(13) حامد فاضل، بلدة في علبة، ص57.

(14) السابق، ص107-108.

(15) بلدة في علبة، حامد فاضل، ص246.

(16) السابق، ص87، 133، 264.

(17) السابق، ص96، 197.

(18) أحمد المنادي. النص الموازي: آفاق المعنى خارج النص، مجلة علامات في النقد، النادي الأدبي بجدة، ج(61)، مج(16)، 2007م، ص145.

(19) حامد فاضل، بلدة في علبة، ص6.

 

 

(عربة ماركس المنسية) انموذجاً

انطلاقا من كون سرديات الحداثة تعتمد على التجريب والتجريب بحد ذاته نوع من انواع التمرد وما يقع وان الساحة التي يعمل فيها الادب التجريبي بانه يعمل في حقل الالفاظ واللغة وانتهاك قواعدها واللامألوف في تقنيات السرد تمردا فكرياً ورؤيوياً وجمالياً عبر القصص التي تأتي بالملامح التي تدل على التمرد والخروج عن المعتاد هذا ما نلمسه في تجربة القاص والروائي شوقي كريم في مسروداته التي جاءت مزيجا من ادراك ذاته الابداعية لواقعها الاجتماعي وقوانينه الفاعل كون الابداع يتولد من تجادل الذات مع موضوعها والحركة الفاعلة بينهما بحيث يؤثر كل منهما في الاخر والتي تنعكس آثارها على ابداعه السردي والتي تمثل شكلا من ادراك الواقع الاجتماعي ومحاولة في تغييره .

استهل القاص شوقي كريم مسروداته القصصية بالإهداء الى والده كريم حسن شهاب الذي علمه كيف يواجه الظلم والتحرر من العبودية في كل مستوياتها كون الانسان هو الكائن الاسمى. الاهداء من المناصات المهمة ونصا موازيا يمثل تواصلا حميميا بين الكاتب والمهدى اليه حيث جاء اهداء الكاتب ملمحا يحمل في طياته قيماً اخلاقية واجتماعية وايديولوجية.

الاهداء/ كريم حسن شهاب.. الذي علمّني أن مواجهة الظلم مهمّة انسانية، شريطة ألا تكون مرتبطة بمصالح شخصية ضيّقة الافق، وأوصاني، ذات غضب .." مجنون ٌ من تسيّره أوهامٌ محالٌ تحقيقها"14784 شوقي كريم

الزمن وتفتيت اللحظة

ونحن نطالع المجموعة القصصية (عربة ماركس النسية) انموذجا لمسرودات شوقي كريم الذي جاء عنوان استنباطي من أحد عناوين المجموعة والذي عودنا ان لا يقدم العنونة على طبق من ذهب الى المتلقي في مسروداته المتعددة الاخرى في القصة (عراقوش، ليلة المرقد، قطار أحمر الشفاه،...) وفي رواياته شروكية، قنزة ونزة، ثغيب، لبابة السر، ...) وانما يأتي من باب التعريض لا التصريح دال على كون العنوان لا يهب نفسه للقارئ ولا يبوح بسره والذي من خلاله يشد انتباه القارئ ويغريه للولوج لعالم مسروداته وانما يتحلى بالغموض ولا يكشف عن المضمون وهذا ما ينطبق على العنونة الفرعية في المجموعة التي نحن بصددها البالغ عددها العشرون، (وهم البدايات، حصى، قوافل الشط، موت أصابع الجكليت، هوامش السندباد، فلك طرّك، نهار ابيض بلون الخطيئة، مشواف الهندس، خاصرة القنفذ، مدافن النايات، وهنا يقوم القارئ النموذجي ملأ الفراغات واعادة انتاج معناه عبر التفاعل بين دلالات النص ودلالات القراءة، يتضح لنا عبر تقنيات السرد وآلياته وحضورها الفاعل في تكثيف الزمن وتفتيت اللحظة الحاضرة وتأكيد على وجود الذات في الزمن

 "قيل لي ذات ليلة مجنونة صاخبة ٍ، كنت أود وأنا أعيش تفاصيلها بكل خبل، ألا ألجُ أبواب الواعظ والحكم والوصايا"2

تفتت الحدث وتوزعه بين ثنايا النص والتحرر من التقيد بزمن الحدث فنرى الاحداث تظهر على شكل افكار أو افعال او حركات الشخصية، تبعثرت الاحداث تجسيداً لرؤية الكاتب للحياة فهي لا تنمو ولا تترابط بل تجلت على شكل قفزات وانتقالات من حدث الى تعليق الى وصف لتعكس واقعا يهيمن عليه السوداوية.

وأول ما تحس به وانت تقرأ هذه المجموعة الانسجام الكبير او التجانس الموضوعي في رؤيتها وانه يواصل نفس التجربة المضمونية بأبعاد ومستويات متجددة في جميع مسروداته وكأنه يحمل اسِفاراً كثيرة ويقدمه لنا سفراً أثر سفر فيه من المتعة واللذة برغم ما تحمله من أحزان وويلات وهموم العراقيين من جراء الحروب والفساد والظلم

شوقي كريم مسكون بثقل الهموم في حياة يصعب أن ينال الفرد حقه من الفرح وحتى الحلم وهو قاص يمتلك ادوات القص الرائعة ولديه رؤى بعيدة تصل الى الفلسفة، والتي لمسناها من العتبة الاولى للمجموعة ومشتملا تناصا فكريا فلسفيا من شخصية (ماركس) الذي كان معروفا بصفته فيلسوفا بقدر ما هو معروف كثوري..

وقد نجد القاص يبحث عن الحقيقة وعن تفسيرات فلسفية لمعاني الحياة، اهتم بالواقع السياسي والاجتماعي والمسائل الانسانية العامة والقضايا الفكرية والفلسفية باسلوب التفاعل النصي مع نصوص غيره او التناص غير المباشر الذي يشمل تناص الافكار أو المقروء الثقافي، او الذاكرة التاريخية التي تستحضر تناصاتها بروحها او بمعناها أو لغتها نلمس في بعض قصصه روح وجودية وتداخلا نصياً صوفياً والتي تحفل بالعديد من التعبيرات التي اتخذها الصوفيون  (يبحث سالكوها عن لذة/ كلي الوجود/ خبايا اسرار صيرورة الوجود/ انهتاك الستر/ مباهج اليقين/

يتجلى ذلك من استخدام الشخصيات كأقنعة برموز فكرية وفلسفية نلمس فيه تارة مسحة العارف واخرى المحب العاشق وتارة اخرى الصامت المنصت وهي تشبه الى حد ما" حقيقة الصوفي هي التقلب من حال الى حال"3 ففي مسروداته نلمس (الاغتراب، والحب، والانصات والحكاية)  كما نستشفه في قصته (نهار ابيض بلون الخطيئة) ص68

"قيل مرة، وكان يرسم بطرف قصبة، كانت قبل محو نغماتها ناياً يرسل آهات الارامين أنفسهم بين أحضان الخديعة والوجع، خرائط جرداء يبحث سالكوها عن لذة قطرة من الماء حتى وان كانت ملحا اجاجاً، وطلاسم راكدة المعاني، قيل ان سليمان علمها عبيده من المردة والجن"

وان اهتمامه بتلك القضايا لما يسود العالم من زيف وتعقيد وتصنع، لجأ نحو الموروث القديم بتقنية التضمين الحكائي كما في قصة المنقرض الذي يعتبر مصدراً من مصادر تكوينه الثقافي معتمدا على الصلة الوثيقة بين الادب والواقع وان ما يقدمه من نتاج ادبي الذي يتكون من عناصر اولها ذاته المبدعة وثانيها صورة الحياة التي يطرحها الواقع وموقفه كقاص او روائي من الواقع ورؤيته ما رواه الاجداد

" بحسب مارواه الاجداد انه مستودع للجندرمة العصملية ودفن في باحته القائد " مصطفى اوغلو" الذي صار مزارا مهما يؤمه اصحاب الحاجات" ص134

وفي قصة بعنوان (قال ....!! )

"افادنا" حسان بن ابراهيم " بما اورده من أحاديث، انصت اليها وعاش بعضها، ودونها حين كان كاتباً مقرباً من (الواثق بأمر الله) حتى غدت ارثاً لا يستهان به " ص126

نلمس في المقطع اعلاه اعتمد القاص اسلوب التداخل النصي التاريخي او الديني وحتى على مستوى التداخل اللفظي او توظيف المثل الشعبي كما في قصة (مشواف الهندس) " يقال ان الذي لا تشوفه العين ينساه القلب" ص100 وعن طريق التضمين الحكائي والتي تأتي منسجمة ومتلائمة مع السياق القصصي والتي تؤدي غرضا فكرياً أو فنياً

ينشئ القاص شوقي كريم عالماً واقعيا في مفرداته لكنه يعمد الى اكساب هذا الواقع صفة رمزية ذات دلالات موحية ومستوى تعبيري يشي عن الفكرة ويشير الى المعاني الكامنة خلف النص:

"تفحص الوجوه التي ارتدت مسوح الرهبان وحملت صلبان التقوى والقرب من الرب، كأنه عرف حقيقتهم للتو، بهدوء انتقلت نظراته الزائغة غير المسقرة، الى وجه جاريته (درة الملك) العارفة بالسر، والتي أحبها دون أن يعرف لذلك سبباً معقولا كلما تعتعته الخمرة، يقف فوق اعلى الامكنة وأخطرها منشداً: ابنة الروم سبتني بلحاظ شركسية سرقت مني فؤادي ورمتني في البرية" ص 76

وبذكاء سردي يخلق لنا شوقي كريم جو قصصي مقنع فيها من الطرافة والايحاء الدال على الشيء الكثير.

***

طالب عمران المعموري

.....................

المصادر

1- شوقي كريم حسن، عربة ماركس المنسية، مسرودات قصصية، وزارة الثقافة والسياحة والاثار، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2023 .

2- نفس المصدر ص5

3- عبد الحق منصف، ابعاد التجربة الصوفية، دار افريقيا الشرق، المغرب،2007 .

إنَّ موضوعة ميتافيزيقيا الوجود لاتقتصر على جنس بشري بعينه دون غيره، ولا عصر من العصور فقط، ولا على دين من الأديان السماوية، ولا على دراسة من الدراسات العلمية أو الأدبية،ولاسيما الدراسات النقدية، ولعلنا حين نقرأ الإنسان من خلال نتاجاته الشعرية نتحسس الروح في عالمها الميتافيزيقي، وهي تعبر عما يعتمل دواخل الأديب الشاعر، نرى أنَّ روحه حين تكابد نسج أحلامها الفنية بصيغ وتشكيلات متنوعة مضاءة بكشوفات الشعر وتجلياته؛ يشعرنا أنَّ وراء كل دفقة شعورية إحساس بحتمية الوجود الذاتي والموضوعي وكلاهما يتغذيان من بعضهما، فلا حياة للإنسان إلا بوجود ما حوله، ولا وجود للأشياء إلا ويكون الإنسان منظِّماً لها؛ ما يجعل لغة الأدب واقعاً، تنتظم الأشياء وتتعافى عند الحجر والبحر والشجر والبشر وجميعها تؤول إلى لغة مشتركة يتوق لها الجميع، ولاسيما الأنبياء والمتصوفة والشعراء والفلاسفة بوصفها تتغذى من عالمٍ ميتافيزيقي الرؤى.

ولما كان الشاعر يعبر عن ذاته بانعكاس موضوع ما يثير إحساسه نراه يعيش "في بيت الحقيقة... يحاول النفاذ إليها من خلال التخلي عن الطرق العادية إلى طرق المجاز؛ ليصف ما يدهمه من عناء تجاه قضاياه...للبعد الذي يمثل الحقيقة خارج اللغة؛ لأن الشاعر هو الأكثر ابتعاداً عن الطرق العادية؛ كونه يستشعر دواخل الذات الشعورية؛ ليعبر عنها بلغة لايمكن أن تكون عادية بوصف الشعور عالم الحقيقة المطلق يترجم مايستشعره منه بلغة تنسجم مع ما يتآلف مع الواقع المجامل لأحداثه، ما يجعل حقيقة الذات هي ما تنبثق من شعوره"(1)، ويبدو أنَّ للحدوس والاستبصارات التي يمتلكها الشاعر من قدحة عقله المستمدة من قوة قلبه هي ما تخترق الظاهر؛ لتنفذ إلى ماهية الأشياء؛ معبِّرة بلغة خاصة بما يطلق عليها لغة الانزياح أو اللغة الشعرية.

وشاعرتنا الفتية (آسيا ال ربيعة) تلفت إدهاشنا بلغتها التي حاولت أن تجعل منها محمولاً مادياً ينير طريق النص حين تضيء لنا بما يختلج إحساسها من شعور تجاه الإنسان والكون والوجود، إذ نراها تقول في قصيدتها إحساس:

إﺣساﺱ يتأجج بحدائق آمالي

يرمي إليَّ فساتينَ نقائه.

ﻳﺨﺒﺮﻧﻲ أنَّ شموعا ﺗﺸﺘﺎﻕ؛

لتعزف في قلبي لحن غواء.

إﺣﺴاﺱ ﻳﺨﺒﺮﻧﻲ أنَّ العمرَ يتعدى الأحلام.

مسافاتٌ حيرى ﺗراقب خُطانا

عسانا نسقي الورد بيدينا.

هذا الإحساس الذي يتأجج بحدائق آمالها، في إشارة منها لرؤية المستقبل الوضاء بقرينة (الحدائق، والفساتين، والشموع، والعزف، فضلاً عن لفظة الإغواء الذي يمثل أسباب الحياة، ثم لفظة الأحلام، و الورد الذي يسقياه بيديهما)، وجميع ما أوردته من ألفاظ تمثل رموزاً، إذ إنَّ الرمز يعدُّ لازمة للتفكير اللاشعوري الفردي والجمعي فـ "طبيعة التجربة الشعورية التي يمر بها الفنان والتي أصبحت أكثر تكثيفاً وأكثر عمقاً؛ مما دعا الشعراء يعتمدون الرمز وسيلة نقل لما له من قدرة كبيرة على التكثيف والعمق" (2)؛ للتعبير عما يعتملهم من إحساس.

والشاعرة نراها تصرح من أنَّها لايمكنها أن تتكهن بتفسير هذا الشعور الذي يكتنف روحها بوصفه غريباً عليها، فتقول:

شعورٌ ﻏﺮﻳﺐٌ

يهدهدُ أشواقي

لا أﻋﻠﻢ ﻛﻴﻒ ﺃﺻﻔَﻪُ

يا أنتَ: أتعلم،

لم يفهم هاجسه سوى صمتٍ

ﺩقاﺕُ القلب تستشعر ما يغرس في دنياي.

وعداً تراقصه الأضواء.

ﻛﻴﻒ، ﻭﺃﻧﺎ لا ﺃﺳﻤﻊ سوى ﺩﻗاﺕ القلب

وتحار أنْ تقرأ ما فوق الأهداب

ﻳﺴﻜﻦ عبق في أنفاسي !

ﻛﻴﻒ ﺑإﻣﻜﺎﻧﻲ ﺗﺠاﻫل موسيقاه

وهي تسافر عبر فضاء الوله السابح

في أزمنتي.

فالشعور هو من عوالم الميتافيزيقاً الذي لايمكن استشعاره إلا بالحدوس، ولعل الشعر هو تعبير عن رقي الإنسان فحين يغترف من عوالم ميتافيزيقية يستشط في إلباس ما يتجلى في مخيلته بنمارق من الأردية الفنية، إذ إنَّ "مهمة الفن في السمو على الواقع بصفاته العينية يحفزنا على إصلاحه.. الخضوع للشكل الجمالي... يتطور بتطور الوعي، وتنامي المعرفة في وجدان المتلقي الذي يتأمل، ويحاور، ويستقصي، ويستنتج لغة الأشكال التي انبنتْ على نظام من الرموز وبإنشائية تركيبية المنحى، أضفت نظاماً دلالياً انفعالي التأثير"(3) فنرى الشاعرة (ال ربيعة) تستعين بمن تناديه: (يا أنت) أن يعاونها بفك لغز شعورها، كونه صدرَ عن المجهول. ذلك الشعور مثل لها هاجساً من عوالم المجهول، لكنها لم تتجاهل أثره، فقد صار القلب صامتاً حال حلوله ضيفاً عليه يستمع لأنغام موسيقاه التي ما فتئت تسافر عبر فضاء الوله السابح في أزمنتها، إشارة إلى هَيمانها في هذا العالم المُرفل بالأناقة الخميلة عبر أزمنتها.

إنَّ في ميدان النقد الأدبي عبر مناهجه الحديثة استعمال "لفظة الميتافيزيقيا في وصف كلِّ أمر عميق مُبهَم... والميتافيزيقيا علم الوجود بما هو موجود، ويبدو أنَّ موضوعها الأساس الجوهر في حين جوهر الشعر هو عالم المطلق"(4) ما أباح للفنانين تصوراتهم فيه استيعاب" شتى المواقف المحتملة كصلة الإنسان بالطبيعة، وكثيراً ما أحالوا الطبيعة الكونية الجامدة إلى نبضة حية حينما أنسنوا الطبيعة وأشياءها،وحين حاوروها وعرضوا على لسانها سرَّ جبروتها وعظمتها" (5).

إنَّ ما استدعى الشاعرة (آسيا ال ربيعية) أن تغترف من مناهل الوجود رموزها للتعبير عن إحساسها المتقن الذي تستشعر من عوالم ميتافيزيقية انعكاساته. فحين يستبد شعور ما في الإنسان الشاعر يعبر عنه بصياغات إشارية يمكن للمتفحص للنص فهمها حسب قدراته التخيلية والذهنية وذائقته الشعرية؛ ليتغذى منها روحياً وذهنيا معرفياً. فنجد في المقطع الأخير من القصيدة ما نستوضحه من طريق قراءتنا مراد النص وما يحمله إلى متلقيها، فهي تقول:

لكن لا أعلم كيف المرء يجهل

ما تأنس فيه طيور الله.

شعور يغريني ببهجته

وضَّاء كالأقمار....

فما أفعلهُ أدعو للقادم بالبركات؛

لتعلو حكايانا؛

فنشعل شموعَ الحبِّ

بعالمنا، وحاضرنا

يا من تشرق بالأضواء.

فهي تطلق عنان خيالها، حين دخلت عوالم الميتافيزيقيا؛ معبِّرة عن رحمة الخالق حين تأنس طيور الله في مرابعه ذلك المكان الأثير الذي يلوح في تأملاتها، إشارة إلى نقاء المقصد، وحسن التدبير للتحليق في فضاءاته المرجوة. عالم وضَّاء كالأقمار؛ لذا تدعو للقادم بالبركات، إشارة إلى عمق تفاؤلها به، وما الحكايا التي تعلو إلا حكايا خير وأمان واطمئنان، يتأتى ذلك في إشعال شموع حبٍّ وفرح في المكان والزمان الذي تعيش في أروقتهما، إشارة إلى سعادتها بالقادم الجميل، ثم تسدد صوب الحبيب القادم الذي بثَّ ذلك الشعور في عوالمها فأشرقت بالأضواء.

***

بقلم د. رحيم الغرباوي

....................

الهوامش:

(1) الكون الشعري وفضاءات الرؤيا سياحة في تجربة يحيى السماوي الشعرية، د. رحيم الغرباوي: 107.

(2) الرمز في الشعر الفلسطيني الحديث والمعاصر، د. غسان غنيم: 33.

(3) الوعي الجمالي، د. هيلا شهيد: 248.

(4) الكون الشعري: 63.

(5) الرؤيا والتشكيل في الشعر العربي المعاصر، سلام الأوسي: 192.

 

المدار السردي بين علاقات الأضداد ومعطيات التمثيل الدلالي

مهاد نظري:

تتألف السيرورة الإمكانية في مدار النصوص الروائية ضمن حدود عملية المنتج للأشكال التي يتيحها المؤول التأليفي السنني الخاص بالكتابة الروائية التي هي حصيلة جملة امتدادات من واقع الدليل العضوي في مساحة أواصر الرؤية ومادة الحكاية والأبعاد الدلالية الملموسة واللاملموسة في مجال التحيينات المشيدة للبناء الروائي العام والخاص. على هذا يمكننا قراءة الإطار الذي جاءت به مؤولات حكاية الرواية (حياة) للروائي والناقد السينمائي طاهر علوان، عبر مؤشرات ارغامية وضدية من تفاعل الإمكانات والخصائص النوعية في مادة الموضوعة الروائية شكلا وتمثيلا وإنجاز.

- الفاعل المشارك بين المكون السردي وإحالات دليل الرؤية

تشترط الاستراتيجية الإنتاجية في معينات ودلالات موضوعة رواية (حياة) ذلك التوزع المداري في جل محققات التصوير والتشكل والتمحور في علاقات موضوعة النص الذي يتخذ من الأزمات السياسية (الأحمر ـ الأزرق) طورا مديدا في سلوك المنهج المضاد في حقيقة النزعات الفئوية القائمة ما بين (الأزرقي ـ جسار) خلوصا نحو حرب تتناحر من خلالها تلك الأطراف الأكثر هيمنة في نزوع الأفعال السردية ـ الشخوصية، الأكثر انتقاما من بعضها البعض.

1 - غياب جهات الزمن والمكان والتواريخ في واقع السرد:

تتمظهر أحداث رواية (حياة) في حدود رقعة مكانية ذات واصلات تحكمها علاقات فئوية متناحرة فيما بينها كما أسلفنا سابقا، لذا تبقى هذه الأواصر المتنازعة على ظاهرها الحكائي كموضوعة غائرة في تفاصيلها الأوضاعية والأجتماعية والسياسية الغالبة. وقد عبرت بعض من مناصات العتبات الأولى من النص، حول وصايا ورؤى الشيخ الزاهد، مما يجعلنا ندرك بأن للرواية طابعها القبلي، أو هي تلك الطبيعة المترسخة في جغرافيا بيئة بدوية بحته على حدا ما، تسودها تجارة التهريب للمواد الغذائية وعلى ما يظهر من الأحداث من مواد أخرى محظورة قانونيا.ولكن ما بدا لنا واضحا وغريبا في جهات وعناصر آليات الرواية، هو ذلك الانعدام في مؤشرات الزمن والمكان على وجه من التعرف والتحقق، بل أن هناك انعداما تاما إلى مقادير وحدات التأريخ وحسابات مواقيت الزمن في شكلها المعتمد عليه في تشخيص مكونات موضوعة النص.لعل الروائي علوان أراد من خلق غياب المحددات المكانية والزمنية والهوياتية، التقليل من نسبة الأضرار الفادحة في كشوفات روايته، خصوصا عندما تكون رواية سيرة ذاتية.فعلى ما يبدو من النص سوى جملة من الشواهد الحركية والأوصاف الميلودرامية التي تذكرنا كثيرا بالأعمال الدرامية الخاصة في مجال حكايا البادية في صحراء العراق.عموما هناك آليات ووظائف في بناء النص الروائي، كان قد اعتمدها علوان بطرائق المنظور (الراوي ـ الشاهد ـ الراصد) وصولا إلى مواقع الأحداث (الخارجية ـ الداخلية ) إذ يتخذ السارد المشارك منها، موقعا خارج الأحداث تارة وداخلها تارة، ليكون هو الشخصية المبأرة، خصوصا ما صادفناه في بداية فصول الرواية. فذاتية الراوي في النص أحيانا ما تبدو عبارة عن انقطاع صوت الراوي وصولا إلى صوت شخصية وانفصاله عنها في الآن نفسه، وعلى نحو ما تجد الوظيفة التبئيرية موكلة بالشخصية المحورية ذاتها ودون أية واسطة مباشرة من الراوي نفسه.

2ـ التبئير الداخلي للشخصية المشاركة:

تتبين لنا عبر مكونات الأحداث الأولى من زمن الرواية، بأن السارد المشارك ينفذ إلى دواخل الشخوص حتى أنه لا يقوم بنقل مشاعرهم وعواطفهم، فهذا السارد المشارك يتبع تبئيرا داخليا ثابتا وليس ـ متغيرا خارجيا ـ معولا في الأشارة إلى الحالات الداخلية للشخوص: (أنا معصوب العينين في هذه اللحظة لا تشتغل سوى حواسي الخائفة وحركة ذلك الهيكل الحديدي العامر بالجنود./ص5 الرواية) فالراوي المشارك يتبنى منظور الشخصية الناظمة ـ العاملة، عبر مكونيه الداخلي ـ المعرفي الراصد.وعلى هذا النحو ندرك أن ما قمنا باستعراضه هو (الراوي المبئر = الشخصية المشاركة) فهذا السارد يلتزم منظور الشخوص النفسي عبر مكونيه (الداخلي ـ المعرفي الراصد) وما يدل على ذلك هو أن طبيعة السارد المشارك لا يدخل إلى الشخصية إلا بالظن أو الاحساس وطبيعة موقفها الذاتي والموضوعي والانفعالي من طبيعة مكونيه في المنظور الاستعادي وطبيعة موقفه من المسرود إجمالا: (كانت حياة جديرة بأن أصنع عنها فلما، وليس مهما من أي صنف أو أي نوع ينتمي لكنه فيلم سوف يعيد الذاكرة إلى نصابها ويبقى ذلك العالم الذي عشت في جوهرة وها هو يتجلى أمامي على شاشات عقلي وأنا غارق في العتمة وعيناي معصوبتان./ص5 الرواية) يسعى الروائي من خلال هذه الوحدات إلى خلق المشهد السينمائي ـ بوصفه تقنية زمنية ـ إذ تسهم الطبيعة النوعية لهذا المشهد في عرض مادة الرواية عبر حالة عتمة زمن (العصابة السوداء) وهذا الحاجب المعتم هو طابعا دراميا مميزا في نقل فضاء المادة الروائية عبر طاقة كاميرا الزمن المتواتر مع الشخصية الروائية.

- المحكي الروائي بين ساحة الرمل وانتقالات وعي السرد.

في الحقيقة أننا عندما قمنا بقراءة زمن الأحداث الروائية، أرتأينا معالم الطريق الذي أختطته بعض من الأفكار حول قوى اليمين واليسار، وهذا الأمر بدوره ما راح يطرح في موضوعة الرواية، شتى النزاعات المتداعية بين فئة الشخصية جسار الحديد وخصمه الأزرقي: (كان ميدان الرمل صورة لوضع سياسي غريب، وكان انعكاسا لصراعات شتى لم أكن أفهمها ففي كل مرة كان هناك ضابطا وإداريين ذوي ميول سياسية مختلفة، مع أنهم في الحقيقة بلا ميول سياسية أصلا، ولكنهم سوف يكونون مجرد براغي صغيرة في ماكنة النظام يجري التصرف بها كيفما شاء من يمتلك عناصر القوة./ص8 الرواية) وعند الإمعان في أحوال ما يسمى بـ (ميدان الرمل) وتلك الفئات من عناصر الضباط وما كان على شاكلتهم، وما يتعلق بمسار الرؤية إلا من كان يمتلك سطوة النفوذ والقوة، ربما كان الروائي يقصد معادلات ترميزية لها الدور المضمر في روايته، ولكن يبقى أصلها عناصر ورموز واسعة وكبيرة من سياسة دولة.ولكننا هنا سوف نكتفي في حدود ما جاءت به أحداث الرواية، دون أن نغفل ما وراء النص من هيئات مرمزة.

1ـ الفضاء العدائي بين سطوة الغلبة وإكراهات المحور:

بناء على ما مر بنا من المباحث الفرعية، يمكننا القول أن الطابع الفضائي في دلالات الرواية، هو ما تحدد به الشخصية جسار الحديد والد البنت حياة محبوبة الشخصية المحور الحارث أبن غياث.وأن طبيعة مكونات الشخصية جسار الحديد بوصفه ذلك العنصر المترأس الذي يمثل التيار اليميني، فهو رجلا متغطرسا في طبعه يعد من أرباب مالكي ميدان الرمل الذي هو ساحة تعبوية لغرض الرماية وتعلم فنون التصويب، ولكنه في الآن نفسه على حد تعبير سياق وحدات الرواية: (إنه نظام يشبه الرق ونحن نعلم أن الميدان ما هو إلا مصيدة للسيار، وللمنشقين من بين عشرين أو ثلاثين عاملا يختارون يساريا واحدا عاطلا عن العمل وفي وسط دوامة العمل اليومي وزخات الرصاص سوف يخبؤون له رصاصة حقيقية سوف تنطلق باتجاه رأسه./ص9 الرواية) والى جانب هذا هناك قصص متشبعة يفرزها لنا واقع هذا الكائن الرملي، وعلى ما يظهر فيها من جرائم كقصة سمية التي تم حدوثها في غموض جريمة كان من أدارها هو الشخصية جسار واحد من ضابط هذا الميدان كما تعبر عن ذلك الرواية بطريقة أو بأخرى: (اختفت سمية وكأن الأرض ابتلعتها وحيث لم يترك سكان الحي وسيلة ما للبحث عنها إلا وساروا وراءها ولكن دون جدوى./ص11 الرواية) .

2 -الفضاء الحميمي بين فرضيات التقارب ووسائط السرد:

ونجد شكلا فضائيا مقابلا بالضد من بنية (الفضاء العدائي) والذي يتمثل بشخصية والد الفتاة حياة جسار الحديد، غير أن ما نجده عبر تشكيلات (فضاء الحميمية) هو ما يتجسد به ذلك الحنو الوجداني من طرف الشخصية حارث حيال الشخصية حياة، لولا أنها تمتاز ببعض الغطرسة والعلياء، ولكن هذا الأمر لا يغير من مجرى تعلق الشخصية إليها: (شهور من التجاهل وتلك النظرة غير الملفتة لشيء ولو مررت بالقرب منها عدة مرات ما تنبهت لي، وكان يحيرني ما كل هذا الذي يشغلها ويسيطر على تفكيرها، على الرغم من الصلة القديمة التي تربط والدي مع والدها ./ص12 الرواية) وضمن هذا السياق تؤشر لنا وحدات السرد حول تلك العلاقة التي تربط والد حياة بوالد الحارث غياث، مما يجعلنا نتفهم بصورة فورية، من أن الأثنان (غياث - جسار) لا تربطهما في الزمن الحاضر أية علاقة ما، وذلك لأوجه ما من الأسباب التي تتعلق بعدم توافق غياث هذا الرجل الصالح مع غطرسة واعتداد جسار بنفسه، كما وهناك عدة مسببات رئيسية في مسار الأثنان ما يجعلهما لا يلتقيان في غاية من الهدف الواحد.أعود إلى مجال مشاعر وعاطفة الحارث حيال حياة، وكيفية صار يختلق الأسباب من أجل بلوغ التفاتة ما من الفتاة: (في احدى المرات قررت أن أقوم بمجازفة شديدة السذاجة، وهي أن أرسل لها مجلة خاصة بنجمات السينما أدس فيها رسالة أعبر فيها عن أعجابي واهتمامي بها./ص12 الرواية) وتستضمر عملية انتظار الرد من الفتاة عدة أسابيع، وعندما كان الشخصية مارا بالقرب من المسافة التي تفصل ما بين الحديقة والمنزل لمح الشاب مجلته التي قام بأرسالها للفتاة مرمية على التراب بصورة فوضوية، وعندما شرع بفتحها عثر على عبارة كانت الفتاة قامت بكتابتها بكلامات لا تتجاوز جملة استفهامية جافة: (وماذا بعد ..؟) فيما توجد أعلى صفحة ثمة وردة بيضاء ذابلة.لا يمكننا هنا فهم الأبعاد من هذه الوردة الذابلة وتلك الجملة الاستفهامية، غير أن مواصفات هذه الشخصية مندمجة في مشاعر مفرطة بالغرور والنرجسية ليس إلا، مع ذلك أعتبر الشخصية حارث هذا التصرف بمثابة العلامة الصحية على صلاحية استمراره في ارسال المزيد من مجلات الفن وكتابة الرسائل بذات الأسلوب من الرسالة الأولى.

- الشخصية الروائية بين وثوقية الذات وفواعل الحكاية.

أن مشاغل المتخيل في رواية (حياة) هو من الملازمة التوصيفية التي تصل ببناء المحاور الشخوصية (المحورية ـ الثانوية) إلى مجالات محفوفة بواردات وشواهد تنبثق عنها أجلى الصفات المتخيلة الحاذقة في رسم الشخصية بموجب حالات أدائية مميزة.فهناك ثمة علامات تشخيصية تدلل على أن غياث لم تكن علاقته مع جسار ليس على أحسن ما يرام، تظهرها عدة احتمالات قد لا تنهض من المواضع الأخبارية والسردية، بل تتكفلها علامات ما تتصل بسمات بناء شخصية جسار ذاتها، والأمر على العكس تماما مع غياث فهناك علامات في موزعاته الشخوصية، تظهره على إنه ذلك الرجل الذي يمتاز بنوع من ملامح السلام والفضيلة.من هنا سوف نتعرف على طبيعة هذه العلاقة وكيفية الاستعانة بها من خلال الشاب الحارث سبيلا للوصول إلى محبوبته حياة وهي في قعر منزلهم العائلي: (كان الكل تقريبا إذا مروا بدكان أبي يلقون التحية عليه - من بين العابرين الذين يلقون التحية كان والد حياة الذي يلازمها في ميدان الرمل وها هو أمام دكان أبي بكامل هيبته العظيمة - رفع أبي رأسه ونهض من مكانه مرحبا.. يدخل راضيا، يشرب الشاي مع أبي، أقوم بواجب الخدمة يمحضني بنظرة رضا، يلحظ البثور التي في ظاهر يدي، يسأل أبي، ثم يطلب مني أن أذهب معه إلى البيت ليعطيني دهانا ناجحا ينهي تلك البثور./ ص14 الرواية) لعل القارىء يلاحظ من خلال عرض مظاهر السرد في علاقات زمن الأحداث، من أن مستويات متواليات الزمن الأفعالي والصفاتي بدت تشكل بذاتها الصورة المترابطة في تراكيب بينات الخطاب، لذا فإن مكونات المشاهد غدت في إطار: (الأزمة ـ بؤرة التأزم ـ نقطة الأنفراج) وما يترتب على هذه الأخيرة من إمكانية تتوعد الشخصية حارث بذلك اللقاء مع محبوبته حياة في حياة في حادثة خاصة داخل منزلها.

ـ المتن الحكائي ومساحة التكثيف الحواري

أن من العوامل البنائية والأسلوبية الشاخصة في رواية (حياة) تبرز لنا جملة خاصة من نوعية الأداء الحواري الذي يتصف بالإحاطة بالموصوفات والاحوال السردية في مخطط الخاصيات في المتن السردي.إذ إننا عاينا جملة المشاهد واللقطات على مستوى زمن الحكي، فوجدنا من خلالها ثمة مواقع حوارية تمتد بالشخوص المتحاورة إلى درجة الاحتواء دلاليا.ومن طبيعة هذه الحواريات أنها تتم ليس بصورة مقتضبة في إشارة أو مجرد تقريب الأحداث، بل إنها تشكل علاقة تمثيلية متماثلة في صياغة الدقة والتفصيل على مستوى خصوصية التبئير السردي: (ـ هل شاهدتك من قبل؟هل تعمل في ميدان الرمل؟ـ نعم شاهدتني ربما ولكن ليس في ميدان الرمل ـ في المعهد إذا . ـ نعم أنا هناك، يوم صرعت صاحب الشعر الأشعث.ضحكت من قلبها وانفرجت أساريرها فيما هي تسخن الماء وتجهز الأطباق لفطورها..تخيلتها تلامس شعري، وتدعوني لمشاركتها فطورها ـ عدت من حلم يقظتي على صوتها، وهي تسألني هل ثم شيء آخر، شعرت بتبعثر أفكاري./ص15 الرواية) ومن أهم ما يمكننا متابعته في دائرة العنصر الحواري، هو ذلك المكون من (مسرحة السرد) أي بمعنى ما، أن الروائي طاهر علوان يشد في دائرة التحاور ما بين الطرفين إلى فاعلية خاصة في إزاحة السرد نحو مستوى تنشيط المحفز السردي إلى جهات نواتية (صغرى = كبرى) امتدادا نحو نحو الرابط الوظيفي في مستوى الشكل الخطابي.

ـ المشهد السردي وخصوصية الفاعل السايكلوجي

سنلاحظ من خلال هذه الوحدة الفرعية من مبحث قراءتنا للرواية، أن مساحة ومستوى المشاهد في النص، تحكمها مواقع حكائية شكلت منذ البداية بعدا بؤرويا، إلى زوايا كانت على هامش التركيز، ليجعل منها الكاتب بؤرا أساسية في رؤية وخطاب الفاعل المتكلم الذي راحت من خلاله ترتسم ملامح وصفات ذات صيغة سايكلوجية نتعرف منها على أدق خصائص الشخصيات وبطرائق نفسانية وفنية تدريجية في أطروحة الفاعل المتكلم: (بكل تلك التفاصيل الدقيقة التي انغرست في ذهني من فرط تكرار وجودها في لا وعي، حتى صرت أرى الأشياء في أحيان كثيرة بعيني خالي حسن ومن خلال طريقة تفكيره وتمرده ودفاعه المستميت عن الفكرة التي يؤمن بها./ص17 الرواية) .

ـ تعليق القراءة:

في الواقع ما يمكننا الجزم به تقويما حول ثيمات وآليات ومكونات رواية (حياة) هو أفعالها السردية المشكلة لبنية تحاكي نصوص الدراما الاجتماعية، وهذا الحال ما جعلنا نشعر من خلال قراءتنا لها بأنها رواية مبلورة البناء ومحكومة بخصائص الحكي ضمن أشكاله المتباينة للحكاية والمتن الذي من شأنه أن يحوز المادة السردية الروائية في صيغتها الوقائعية الخام.وعلى هذا النحو واجهتنا أغلب الفصول الروائية بتلك المحددات الوظائفية ومكوناتها وعواملها المفتوحة نحو المقاربة الصراعية ـ الأيديولوجية، بأعتبارهما العلامة الأيقونية ذات العلاقة الدلالية الفاعلة في أبعاد المقروء الروائي .وتبعا لهذا لاحظنا أغلب سياقات الموضوعة متصاعدة نحو العنف كفضاء يرتد إلى واقع مادي يتعلق بسقف حياتي ملائم في أثراء النص نحو حصيلة دلالات مدارية تركزت بين (علاقات الأضداد) و(معطيات التمثيل الدلالي): إذا نحن أمام رواية متشكلة من (الفضاء العدائي) وأيضا من (الفضاء الحميمي) ليشكلا بذاتهما امتلاك جل محاور سياق التصعيد نحو دلالات روائية ضمنية ومعلنة انطلاقا من إشكالية التكتلات السلبية المسترسلة من حدود مرجعيات واقع خلاصات منظومة قيمية محتملة في التصورات والممارسة الظاهرية والمضمرة من أوجه مسار العلاقة الروائية المؤثرة.

***

حيدر عبد الرضا

صدر حديثاً عن دار الفرات للثقافة والاعلام في بابل لمطلع عام 2023 بالاشتراك مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع المجموعة الشعرية: (أناشيد تشرين)، للشاعر البصري (عبد الرزاق ناصر الجمعة)، والديوان يحمل في طياته (42) قصيدة، وبواقع (121) صفحة من الحجم المتوسط. وصورة الغلاف تجسد موقف لأحد الشباب وهو يحمل العلم العراقي؛ وهي أحد صور ثوار تشرين 2019، والشاب يقف بمواجهة قوات مكافحة الشغب. إلا أن القصائد تنبض بالمشاعر الجياشة عن حال أبناء العراق على مر التاريخ، ومن خلال تظاهراتهم المستمرة وهم يطالبون بحقوقهم الشرعية.

النصوص الشعرية في الديوان تحمل طاقة لغوية تعبيرية، وخطاب مُثقل بالرموز والمشاعر الوطنية أمام كثافة المعنى وتعنُّت اللغة، وهو ما يمنح أثراً جمالياً مخصوصاً، في مجملها تنشد للوطن والناس والشهيد، ومنها: (خيمة الشوارع، مظاهرة، أم الشباب، النداء، المستحيل، الصبر، متى يعود، عقور تشرين، سورة الغضب، وحيدها شهيد، حظر التجوال، المشهد، وطني عراق، المصير، الحل، الإنذار، المرافعة، شباط، إلى المرحوم الدكتور عبد الجبار عبد الله، حتى الموت).

مَثَلت القصائد أرفع درجات التعبير عن الناس والوطن، وهي علامات تتجاوز الإشارات والإيماءات، تنطق بصمتها وتسكت بكلامها، فتنشئ مداليات خاصة على صدور المتظاهرين والجرحى والشهداء. ولغة الشاعر عبد الرزاق الشعرية تمثل منتهى التزاوج بين جل العناصر اللغوية التي تشكل اللفظ وتحمله بما تفيض به من معنى.4765 اناشيد تشرين

والشاعر عبد الرزاق ناصر الجمعة من مواليد مدينة البصرة عام 1937م، وهو من قرية الدورة ناحية البحار التابعة لقضاء الفاو، اكمل دراسته الأولية فيها وتخرج في دار المعلمين الإبتدائية للعام الدراسي (1959-1960م)، وبسبب نشاطه اليساري السياسي نُقل إلى عدّة مدارس ابتدائية، واعتقل وسجن في نقرة السلمان، وزامل عدداً من رفاقه الشعراء والأدباء منهم: سعدي يوسف، الفريد سمعان، فاضل ثامر، مظفر النواب، جاسم المطير وآخرين... وكتب المئات من القصائد التي لم تنشر إلى الآن، ويعتبر هذا الديوان (أناشيد تشرين) ديوانه الأول.

وفي أول قصائد الديوان تحت عنوان (خيمة الشوارع) يقول الشاعر: يا خيمة الشوارع/ مأوى فتى يقارع/ تَحرْسُكَ القلوب/ في وَلَهٍ تذوب/ وأعينُ كومضة القمر/ تزين الوجوه/ تألقت توثباً ترقباً/ ضيوفك تخندقوا لغايةٍ كما المطر/ مُطَهِّرٌ وجهَ العراق/ فالتحفي السماء/ واستشرفي في الدعاء/ ضممتهم كما العرين/ هم فتيةً تعاهدوا/ ليغسلوا وجه العراق/ تحبُهُ النجوم/ وشمسُهُ تُقبل الجباه/ من أجل هذا يا خيام/ الليل لا ينام/ ينتظر القيام.

من خلال هذه القصيدة نجد الكلمات ترسم الصوت والإشارة لكل عنصر من عناصرها، وهو النص الشعري الحديث بكل طاقاته اللغوية التعبيرية، وقدرته على انتاج المدلولات المتعددة. والقصيدة خطاب مثقل بالرموز ورقص الكلمات، وكثافة المعنى وتعنت اللغة، وهنا الشاعر يمنح أثراً جمالياً مخصوصاً، يمكن أن نميز به أسلوبه وطرائقه في كتابة القصيدة.

والقصيدة أقرب إلى التقريرية بميسم حكائي للأحداث لصيغة المضارع، ليتحول بعد كل ذلك إلى الوصف التعبيري الانفعالي الذي يلج فيه إلى الأعماق ويتقمص الدور العاطفي الثوري، فيتحول معه السياق الشعري إلى خطاب تأثيري يجعله يأخذ على عاتقه الدور كاملاً.

أما القصيدة الثانية التي احاول أن أختم بها مقالي هذا فهي قصيدة (مظاهرة)، الشاعر هنا ينتظر قارئاً جريئاً يفجر ثوابت الخطاب ليملأ الفراغ ويتسائل المعنى، وهو ما يظهر أساساً في طرائق توليف المعنى، وقد تبدو صورة القصيدة في مستوى تشكيلها؛ بسيطة في ظاهرها، لكنها تدعو إلى التفكّر والولوج إلى اعماق المسكوت عنه في القصيدة، ويقول الشاعر في قصيدته: طرت بها ودونما جناح/ بدمعة وحسرة مستعرة/ تلمست يداوي/ بيارق الكفاح/ محافل بين الخيام/ في وسط الزحام/ ليل الفتى يقتات من نهاره/ يفسر الأحلام/ لله در صبرهم!/ قد قارعوا جبابرة/ ليس لهم إلا وعودٍ خاسرة/ والزمر الملثمة/ تداهم الخيام/ يا فتية التظاهر/ هل تحلمون/ بصخرةٍ سجيل/ كما ترون/ بغيتكم كعلكة العجائز/ ما بين لا وجائز/ فهذه معادلة/ كم تقتضي من الزمن/ ما كل غيم يحمل المطر/ وانتم نيام/ قد ملت الخيام.

أجد في هذه القصيدة شكل الوطن حالة خصوصية لدى الشاعر، لا سيما تظاهرات تشرين التي لم تفارقه، معلناً انتماءه إلى تجربةٍ قلقةٍ تحكي بسردية حوارية محتدمة شجنه لقضية وطن؛ من خلال مقاطع القصيدة. فالوطن والنضال والتظاهرة والسجن والاعتقال تعد عناية الشاعر عبد الرزاق الجمعة، في تجربته الشعرية الحداثية العالية اجدها متميزة أداةً وتشكيلاً ودلالة، وواعية وشمولية تمس مشاعر الفتى العراقي، تقوم على صراع الثنائيات في تصوير هاجس الوطن وأحاسيسه، فالواضح من قراءة قصيدة (مظاهرة) أن الوطن يسكن في وجدانه ويملأ حياته، ممعناً في هموم الإنسان وعلاقته بالمكان في رحلة الحياة. فالوطن روح وحضور بماضيه وحاضره، وآلامه وآماله التي تجلّت في ديوانه الذي يبرز شعريته الحالمة، فالمكان مرتبط بوجوده وقيمته، متوحداً معهُ حزناً ووهناً وهاجساً.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

شعرية الواحدات السردية وتوليد ذائقة الحكي

توطئة: بدءا يمكننا القول السرد الراوي في تجربة ومسار الرواية السيرذاتية من تكثيف اللحظات الزمنية الماضوية، التي يقتطعها الروائي من شريط الملفات الذاكراتية لا ليخبر بها القارىء بل ليعيد إحياءها في سرد حركي يهتم بأدق التفاصيل الحافة بالحدث. وقد تواتر هذا النوع من السرد بكثافة ليس في أن يسطر لنا الروائي حالة من حالات مذكراته الحياتية، لا أبدا، بقدر ما راح يضفي على زمنه الروائي زمنا هو من محاكاة الفعل النواتي المتعلق بطابع الديمومة في زمن ذكريات أحداثه الذاتية المصوبة في محطات إنشاءها الروائي، وكأنها عرض تمثيلي لمرآة ذاته في تماثلات وعي شخوصه وحوارها المنقول عن السرد المضخم بالذات المتكلمة والجامعة ما بين (الماضي ـ الحاضر) . تميل دلالات رواية (أحمر أفضل من ميت) لأحمد ابراهيم السعد إلى هوية السرد المفصل عند محصلة استذكارات لحظات السيرة الذاتية للهوية التأليفية، ولكنها تفترق عند تلك الاستذكارات عندما يتم الدور التمثيلي في زمن فاعل وفعل الطابع الديمومي في النص. لذلك ألفينا الروائي يعيد صياغة الزمن الماضوي للذات الضمائرية وملفوظاتها ومسمياتها ودوالها في صنيع أحداث (ما وقع بالفعل؟) أي بما وقع في ما بعد تدوين انطباعات الذات للزمن الماضوي، لتعيد استحضاره في هيئة تمثيلات أدوارية في زمن حاضري مضارع ليس بالبعد النحوي، إنما بالاستكمال لمجلى وقائع ديمومية تناسب حوارات وبنيات الطابع التخييلي في مستحدثات النص الروائي. وبفضل هذه الخصائص الفنية المتصلة بالسير الذاتي دليلا على تخييلية النص الروائي، ثم تقديم الحكاية الروائية في رواية (أحمر أفضل من ميت) على أنها الخطاب غير المباشر الذي يعيد علامات الإجراءات الفنية بصورة أكثر على مستوى موقع المؤشر الزمني وطبيعة وعيه النفسي ورؤيته في الأداة الفعلية للشخصية الساردة في تبئيرات وظائف السرد.

ـ المتن الحكائي وحقيقة ترابط اجناسية رواية العائلة

سوف تكون انطلاقتنا من حدود هذا الفرع المبحثي، لأجل قراءة مجمل الإشارات السير ذاتية في رواية أحمد ابراهيم التي تقرب بين هوية المحور الشخوصي والذات التأليفية، ومهما حاول الروائي تجنب فعل تثوير الذاكرة في أطروحة نصه، نجد أن هذه الذاكرة لا تنفك عنه قيد شعرة من انصهارات كتابته ذاتها:فهل من المعيب أن يتأثر الكاتب بمحيط ذاكرته؟لا أبدا فهوية كل القرائن النصية هي مبعثها إشارات سير ذاتية في سنن أعراف النصوص؟ولو تعاملنا مع رواية (أحمر أفضل من ميت) من ناحية سياقية، لوجدنا فيها من التماهي بين رواية تسعى إلى التقريب والإيحاء والعلامة وليس عرض سيرة المؤلف الذاتية بالضرورة. تواجهنا إجرائية الملمح الرمزي في مستهل البناء الروائي، على هوية متعلقات وقائع مقصدية مشحونة بروح المرمز غالبا، وذلك عندما يعاين السارد المشارك المكنى ب (وسيم) تلك اللوحة الخاصة بسير وقع الأقدام العائلية: (ذات مساء خريفي نظرت جسيكا ناحية اللوحة، وهي تلاعب أرنبة أنفها بظفر سبابتها الأيمن، في عادتها لإظهار عبقرية ما، قالت متكهنة:كأنها أقدام تتخبط في حلم، أوانها آثار أقدام قفزت من الوحل إلى السماء. /ص6الرواية) لعل القارىء البسيط إلى مثل هذه الدلالات المنصوصة في متن السرد والحوار، قد لا يعاين مدى العلاقة القصدية بين حيازة التمثيل في حالة سردية ما، أو في عدم حصولها على قيمة المسوغ الدلالي حتى. أن طبيعة النظام السردي في بنية هذا النوع من الروايات قد يبدو من جهة ما قائما على المنتج الأيقوني وبالتالي فضاءاته وأزمنته، ومن ثم انتسابه إلى دليل الخطاب والمبنى في علاقات خاصة من القص وأشكاله المتباينة للحكاية أو المتن. فعلى سبيل المثال، لو أردنا إخضاع علامات القرائن في النص مثلا كحالة (لوحة أقدام العائلة) أو جملة (أقدام تتخبط في حلم) أو وحدة (طبعت أخواتي آثار أقدامهن) لبدت كلها مناصصات أيقونية بموجب علاقة الصور والأوضاع داخل سياق مداليلها السير ذاتية، ولكنها في الآن نفسه تشكل بذاتها مادة خصبة في أحياز منظور ومعطى في استيعاب الدلائل الكلية والجزئية من محيلات النص الفاعلة واللافاعلة.

1ـ الدائرة العلائقية بين مسافة الحكي والاستباق في الزمن:

يظهر لنا بجلاء ما قلناه سابقا، أن مستويات السرد أحيانا في الوحدات الروائية، تبدو علامات وقرائن تتضمن كل منهما خلفية معدولات الصيغة في الخطاب السردي، ويمكننا قراءتها على أنها في الوقت نفسه (الدائرة العلائقية: مسافة الحكي ـ الاستباق الزمني) وتظهر لنا في أبعاد ثيماتية أحيانا، كمثل ورود هذه الوحدات: (قفزت جسيكا إلى ظهري، ووشوشت في أذني: وأين قدم أمك؟. /ص6 الرواية) لعلنا نلمس من هذه الوحدة مستوى الإبراز والإضمار في مسافة الحكي ، خصوصا وأن الدور المحوري لوالدة الشخصية المشاركة حضورا متعلقا بين مسافة الحكي داخل النص، وتقانة الاستباق بمنظور أساسي، أي بمعنى ما أن خصوصية الأم في الأحداث الروائية، غالبا ما نجدها تستبق حضورها كواقعة فعلية، ومن جانب آخر فلها كشخصية دلالة تأشيرية وليس أدوارية أو ذاتية محددة بالوقائع الحاضرة إلا من خلال صعيد ذاكراتي في حياة الشخصية وسيم في مراحله العمرية الأولى والمتوسطة.

2ـ دلالة أقدام لوحة العائلة وبوصلة المحور الشخوصي:

تتعامل القابلية المجازية في مستوى سيكولوجية الشخصية الروائية وسيم، دورا تحليلا ومؤولا. فهو ـ أي الشخصية ـ أصبحت المحدد المشخص لأحوال دلالة أقدام العائلة في محيط وفضاء اللوحة التي قام بتشكيلها من خلال: (ولكي لا تصيبني الأيام بلوثة النسيان دونت بدايات حروف أسمائهن في فراغات خطوط الأقدام . .  أشاهد الحرف فأتذكر الوجه. /ص7 الرواية) إن آليات العلاقة هنا شبيهة بثنائية (الدال ـ الدليل) فعندما يكون الدال حاضرا يرتبط بلفظ دليله التكويني، وهنا علاقة السارد المشارك كطرفا في دالا، هو المرجح الأول في أن يكون هو الدليل على مجموعة الدوال، ذلك لأن طبيعة آثار الأقدام حضورا غيابيا، أما هو فحضوره مجسدا في نسق استدعائي، إذاً فهو المصدر المعاش كدليل في لوحة حيوات الأقدام ومحمولاتها الحكائية المرجعية في حاضنة الذاكرة. وعندما تتنامى الوحدات الطردية في نسيج حوارية الشخصية مع زوجته، تتبين لنا أن موضعية الشخصية متقدمة في زمنها ومكانها، كأداة تكوينية من جهة الشخصية المشاركة وسيم، وهي تومىء إلى مرجعية حكاية لوحة العائلة وجذرها الضارب في اللاشعور النصي: (سألتني جسيكا: لم سجنت أقدامهم داخل لوحة؟قلت: كي لا أتيه. /ص7الرواية) وعندما نتأمل منظومة هذه التوليدية الدلالية مع الذات الساردة، نلاحظ أن لوحة أقدام العائلة، هي بمثابة الوسائل الزمنية التي من شأنها تأويل مدى علاقة الشخصية في نطاق زمنه المهجري المؤقت والعابر، فيما تهم ذاكرة الأقدام العائلية في حث الحافزية الزمنية لدى الشخصية ذاتها في العودة إلى زمن جدران وطنه وبيت العائلة الذي أضحى مهجورا إلا من لغة الأستدعاء والمسند الذاكراتي.

3ـ حياة سردية الوصف ومحفزات القصد السردي للموصوف:

إن آليات الكتابة الروائية ربما تعني حالة استكمال كافة مناطق الاشتغال الحكائي والخطابي عبر زمنيهما المتجسد للوحدات السردية كممارسة شكلية ومضمونيه تولدان جملة من الأوصاف بدءا من الشخصية وحتى الزمن والمكان. أما فيما يتعلق ب (المحفزات ـ التحريك) فهي الممارسة الأدوارية والعاملية حيال مجرى شخصية أمام آخرى بغية تحقيق فعل ما. وعند الإمعان في وظائف الوصف لدى الروائي السعد عبر مسار أحداث روايته موضع بحثنا، نلاحظ شكل الصياغة الجارية في أدق سمات وملامح حالات الموصوف السردي: (منذ تزوجت جسيكا وأنا مؤمن بأن ثمة ساعة من يوم ما في شهر بعد سنة، ربما أو أقل سأحمل حقيبة فيها بعض الكتب، وألبوم صور، مع بعض الملابس، وأغادر هذه الشقة ـ تاركا جسيكا تحدق بدفترها لتحصى سعادتها الجنسية مع رجل كان حريصا على تناول الكثير من الحبوب المنشطة ليثبت وهم قوة ذكورة الرجل العربي المختون. /ص8 الرواية) قد يحق لنا النظر في سياق هذه الوحدات من السرد الواصف، ولا نبالغ عندما نخبر القارىء، بأن الواصف السردي ـ الشخصية الناظمة ـ يبلغ مرحلة منتجة تتأسس من خلالها تصورات قرائية ممكنة ومحتملة، إذ أننا نستقرىء ما بين السطور، رغم وضوح المراد الدلالي في ذات السارد المشارك، ولكن السرد هنا يتقصى دقائق شعرية في سيكلوجية الذات الشخوصية المتمثلة بجسيكا ومدى المحفزات والتبليغ والمفترض في آليات الوصف التي تدفعنا إلى الوقوف على خلطة (إبلاغ ـ سرد ـ خبر ـ موقف وصفي) وصولا إلى أفعال السرد والحكي التي لا تسقط عنها حنكة الواصف الذي يجتهد في رسم أبعاد تواصيفه إلى حد قبول الامكاني والمحتمل واقعا.

ـ لغة الحكي والتشخيص الضمني 

1ـ الإمساك بموقع التمثيل السردي:

تنبني آفاق القدرة السردية في رواية (أحمر أفضل من ميت) بوسائلها التجريبية التي تقترب من رواية تيار الوعي أو أنها تختزل في رقعة تمفصلية قاب قوسين ، ثمة محايثة خاصة بما يتطلبه تمثيل الدور العاملي اللاحق في السرد من انطلاقة سردية، كحال هكذا وحدة قاب قوسين: (أن تراقب أباك حيا أمام عينيك وأنت تعلم بموته الوشيك، ذلك يعني أن حياته عندك حلم، وموته حياة. /ص23 الرواية) من هكذا صيغة مشحونة بالترقب والشك واليقين أو العكس تبدأ الفواصل التصديرية بين مسافة وأخرى من زمن المسرود الذاتي، كما وتستند مسارات تقانة الاسترجاع في الأعم من أحداث الرواية على ثنائية تقتضي من المحكي اتخاذ الاسترجاع بالسرد اللاحق أو البعدي أو ذلك السرد في ملأ الثغرات المجدولة عبر أحداث الاجتزاء أو التأخير أو الإضمار: (في الكتابة:اخترت بقعة لأدخلها، كي أسمع صوت أمي وهو يسأل. /ص10 الرواية) يمثل هذا النوع من تقنية (المنولوج) بالقياس إلى زمن خارج الاستدعاء كقيمة أولية في الزمن، لذا فهو يرد هنا كتكرار ملأ فجوات زمن لم يعرض في السرد الفعلي، إلا من خلال اللحظة التي يتوقف فيها ـ الزمن السردي ـ نحو خلفية مضمرة من المنولوج الممنتج.

2ـ مأزومية الشخصية وسوداوية الواقع السياسي:

تقودنا الإشارات النصية عبر سياقها وصياغتها ونموذجها المتحرك ـ تلفظيا ـ إلى إستدعاء الدلالات الأكثر إيغالا في براثين الهيكلية المتصلة في أعلاها بالهرم السياسي، ويرتبط مشروع النمط الشخوصي رواية السعد في اتجاهات تسمح لنا برؤية الظروف التي عانى منها الشخصية عابد متوحدا داخل عوالمه الأكثر اعترافا بزوايا حرية المفكر والكاتب للمقولات التي لم تجد لها ملاذا آمنا سوى وهي ترصع داخل حفريات جذوع الأشجار. الشخصية عابد يمكننا تسميته بالشخصية الإشكالية أو البوهيمية التي توزعتها معايير حب الكلمة وبثتها في الاتجاه المضاد المعارض. في الواقع أن مكونات هذه الشخصية هي من البساطة ولا يوحي جوهرها بأية قيمة تمايزية، ولكن الغريب في الأمر أن الروائي وضعها في مكانة استثارية مشكوكا في قيمتها التوظيفية والدلالية، فهو لا يعبر إلا عن نفسه كونه صاحب مجرد كلمات خواطرية يحفرها في جذع الشجر، وقد صادف وأن كتب عبارة ـ أحمر أفضل من ميت ـ وماذا يعني هذا بالضبط؟ ليس الأمر يتطلب من الروائي كل هذا التعويل حول هذه الجملة منذ منتصف الرواية وحتى مراحلها الأخيرة ، لتنكشف حقيقته القصوى بأنه أحرق وجهه من أجل أن لا يموت جنديا في الحرب؟. كذلك الأمر ينسحب على الشخصية ذاتها ـ وسيم ـ وحجم الإسراف والإفراط في خلقه كاتبا للحرب، ودون حتى مقدمات مؤهلة في أفعال الرواية تخوله لينال هكذا مكانة، ثم الهروب بعدها إلى السويد عن طريق تفاصيل أهملها أو تناساها الروائي بطريقة ما. أنا لا أنكر شخصيا أن في الرواية تكمن اللغة السردية الحاذقة والأدوات التي لا غبار عليها، كما وإلى جانب ذلك ثمة تنصيصات لافتة في الشكل السردي، ولكن تبقى هناك جملة أشياء غير متماسكة ولا من جهة ما مقنعة تماما:فما كل هذا التعويل في خلق شخصية مأزومة من الوضع النفسي لها أن تحتل كل هذه الأهمية، وما القيمة في هذه العنونة المركزية للرواية إن كانت بالحيلولة هي خلاصة خاطرة قالها رجلا هاربا من الموت وقد قام بحرق وجهه بماء النار تدليلا منه على أنه رافضا للنظام أو الوضع السياسي بصورة مباشرة أوغير مباشرة؟والأغرب من كل هذا عندما عاد الشخصية وسيم من الخارج وهو يرتقي التاكسي شاهد مكتوبا على مقصورة شاحنة عابرة (أحمر أفضل من ميت؟) فهل يمكن يمكن لنا قبول خاطرة لم يستوعبها وسيم هذا المؤلف المثقف في ذاته، فكيف يمكنها إن تكون وسما وشعارا مفهوما لدى أذهان العوام من الناس ممن يقودون الشاحنات والعربات الأخرى، وما قام به وسيم ذاته عندما عقد الصداقة بينه وبين سيمون سائق سيارة الإجرة، ويا للغرابة أيضا أكتشف وسيم بأن سيمون أديبا يكتب القصة القصيرة، كحال قصة وسيم ذاتها التي قرأها صدام حسين وأعجب بها فجعله في عداد أدباء الحرب. هكذا ودون مؤهلات تفصيلية جادة . بمعنى ما أن في بعض أحداث رواية (أحمر أفضل من ميت) ثمة افتعالات شاخصة وثغرات لا يمكن سدها، فليس من الاعتبار الفني والجمالي أن يصنع الكاتب الروائي من كل شخصياته على مراده المقاسي والشخصي اللذان لا يغادران مملكة خياله الممتحنة بألبومه العائلي المنسوخ في كل نصوصه شكلا وموضوعا وتدليلا.

ـ تعليق القراءة:

لا بد من التنويه في ختام قراءتنا السريعة إلى رواية (أحمر أفضل من ميت) على أنها رواية تتمتع بدرجات جمالية الوحدات التصويرية التي تصل غالبا إلى سحرية جذب المتلقي وصفيا، إلى جانب هذا هناك منظومة تخليية مكثفة في صياغة القص الروائي وعناصره وعوامله الشيقة في المحيط السردي للرواية. كما أن هناك بالمقابل وظائف لم يحسن الروائي خلق آلية متوازنة في تدبر إدارة حبكتها الفنية والسياقية، رغم كل هذا يبقى للروائي أكثر من تجربة في منجزه الروائي بدءا برواية (وهن الحكايات) ورواية (عراق سينما) وروايته الأخيرة موضع بحثنا التي غلب على طابعها السردي ذلك النوع المفهومي من شعرية الوحدات السردية بصورة تحول فيها السرد إلى توالدات ذائقية وسياقية في تجليات النص الروائي في تجليات النص الروائي الذي لا تنقصه في القيمة الجادة سوى خلق المبررات المقنعة والأدلة التفصيلية الأكثر ثراء وخصب وصياغة سببية ذات روابط توفر للقارىء ذلك الفضاء الجاذب من الأداة وحسن التمثيل في علاقة الأحوال والبحث في أسبابها المرجعية والنواتية، لا أن تظهر ثمة عنونة تتصف بأبعاد علامية مشفرة، فنجدها على متون مقصورات الشاحنات ودون أية علاقة مدلولية ودلالية تربط بين قائل هذه العبارة وحياة سائق هذه الشاحنة افتراضا ما. . كان بالإمكان خلق محاور جادة في التفاصيل وأسبابها، لا أن تترك الرواية وأفعالها تقودها عفوية الذائقة وحلاوة رصف الجمل الوصفية ولباقة وتحليق اللغة المسرودة في الأبعاد اللفظية وزخرفها الكنائي، بعيدا عن خيوط الأفعال ومرابط مصداقها الذائقي في أنسيابية المقروء. أنا شخصيا ممن يعشق ويقر بجماليات المشغل السردي لدى السعد سواء كان الأمر في مجال القصة القصيرة أو في مجال التجربة الروائية، ولا أخفي عن القارىء حلاوة حكاية الرواية وسلاسة لغتها الكنائية الجميلة، ما جعلها تتفوق على محاولات روائية عديدة في المشهد الروائي البصري. ولكن في الوقت نفسه، هناك وحدات سردية في رواية (أحمر أفضل من ميت) تعوزها الدقة في التفاصيل وبعض من التفاصيل المقنعة في موجهات الأفعال وكيفية وصولها إلى هذه المستوى من التخريج الدلالي في شكله العام والخاص والأظهاري والمعلن، حتى تتاح لنا كقراء استكمالية العلاقة البينة والمتبينة من صنيع وصناعة الرواية كمنظومة فنية تطرح حكايا وأحوال المادة النواتية ضمن حالة محفوفة بالوعي وآهلية المشروع الروائي المنجز.

***

حيدر عبد الرضا

 

تعتبر الرسائل الأدبية فن من فنون الأدب النثري الذي انتشر في بداية القرن العشرين. ولعل أهم ما تتميز به الرسائل من خصائص أسلوبية، العواطف المتعددة وصدقها، والتفنن في طرح الصور الأدبية وتحليق كاتبها في الخيال. ويقول الأديب إبراهيم الهاشمي عنها: (الرسائل الأدبية تمثل الصوت الداخلي للكاتب،لأنه في ثناياها يبث أكثر الأفكار والمسائل قربا وتعبيرا عن نبض قلبه سواء كان ذلك هما فكريا أو إنسانيا وجدانيا).

وقد تناصت هند خضر مع غيرها من الأدباء بالرسائل المتبادلة بين أديب وأديبة كتلك التي اشتهرت بين ميزيادة وجبران خليل ورسائل كافكا إلى ميلينا وغيرهم. وكانت العاطفة العنصر الأكثر بروزا في رسائل هند خضر. والعاطفة واحدة من العناصر التي يجب أن يتكون منها الأدب وهي أداته. فهي التي تتحدث عن شعور الكاتب وتثير شعور المتلقي كما أنها تسجل أدق مشاعر الحياة وأعمقها ففي صفحة 15 نلمس تلك المشاعر الجياشة لدى الكاتبة وهي تكتب لحبيبها (اليوم سأخبرك عن انهيار عطرك في معطفي ومعانقة أوراقك ضرب من الانتحار).

وتعتبر إثارة العواطف العنصر الظاهر في الأدب.وقد امتزجت العاطفة بالمعاني والخيال في رسائل نازفة. ومن المعروف بأن العاطفة يثيرها الشعور بالجمال وهو اللذة التي تحدث في إدراك صفات الشئ. والشئ عند هند خضر هو حبيب ويتضح لنا ذلك في كل سطر في الرسائل ومنها ما جاء صفحة 17 (عندما تقرأ رسائلي ستدرك كم وكم أحببتك).

والمتلقي لرسائل نازفة يدرك مدى قوة العاطفة التي تثيرها تلك الرسائل وصدقها. ويتضح ذلك من خلال وصف الكاتب لنفسها وهي تستعيد ذكرى الحبيب صفحة16 (أتمزق كقطعة ثياب بالية فوق شطآن الذكرى، وأملأ ضلوعي حنينا واشتياقا لعينيك). فهذه عبارة من العبارات التي تحرك الشعور وتوسع النظر وتحيي القلب لمن يعانون من نفس الوضع النفسي للكاتبة.

كما اعتمدت العاطفة عند هند خضر على حسن تعابيرها وقوة خيالها. فلا تكاد رسالة من تلك النازفة إلا وتألق الخيال وتجلى فيها ومنها ما جاء في صفحة 23 (أنت تعزف على أوتار قلبي ألحانا، عندما يداهمني قلق الوقت،ترقص روحي). وفي موضع آخر صفحة 25 (فأمسك ورقتي البيضاء كبشرتك لأكلمها عنك فتغرق بدموعي).

وقد تمتعت هند خضر بقوة أسلوبها الذي تمكنت من خلاله من نقل عواطفها للمتلقي. كما أن العواطف التي أغدقتها في رسائلها كانت خصبة،غنية ومتنوعة فنجد عاطفة الحب صفحة 28 (اسمعني جيدا، عندما أعلنت لي الحب، كانت لحظة كونية، لحظة ولادتي من رحم الأحزان). أما عاطفة الحزن واليأس فنجدها مثلا صفحة 13(لطالما كنت أخشى من لحظة الغروب. ولا أقصد غروب الشمس وإنما غروبك عن حياتي). وأما عاطفة الشك فتتجلى صفحة70 (اشتقتك للحد الذي لا يحتمله القلب ويشك في حقيقة تصديقه العقل، اليست النجمة جارة القمر؟).

وما أعطى للعاطفة قوتها هو سموها وإثارتها شعورا أخلاقيا وهي تجربة الكاتبة التي يبدو بأنها مست حياتها وتسببت لها بكل هذا النزف ويتجلى هذا صفحة31 وهي تتخلى عن عشقها وتعتزله في جزيرة تعاني فيها آلام عشقها حيث الألم يحمل أقصى المشاعر الأخلاقية (لقد انتهى المشوار . وآن موعد الرحيل من مدائن عشقك لأركب على متن سفن الفراق وأهاجر إلى جزيرة صرخاتي وأوجاعي وأحزاني).

والعاطفة تقاس أيضا باستمرارها وثباتها وهذا يعتمد على بقاء أثرها في نفوس من قرأوا لهند خضر رسائلها النازفة.

أما بالنسبة للألفاظ التي استخدمتها الكاتبة فقد كانت سهلة مألوفة صاغتها في تراكيب تراوحت بين القصيرة والمتوسطة.كما تخللت الموسيقى الشعرية بعض فقرات الرسائل.

وقد أعادتنا هند خضر إلى لون أدبي جميل ورفيع نفتقده في أيامنا هذه وهو لون مهم نتمنى عودته ليأخذ مكانته المهمة من جديد.

بقي أن نقول بأن الكاتب محمد حسين قدم للعمل وصف لغة الكاتبة بأنها رشيقة قريبة للعقل والقلب.

***

قراءة بديعة النعيمي

....................

* من إصدارات دار دلمون الجديدة / سورية. دمشق/2022

“أن تحمل رأسك فوق كتفيك، هذا لا يعني بأنّك تمتلكه” بهذه العبارة التّصديرية، تحاول الكاتبة العراقية بشرى الهلالي، ركوب موجة التّجريب السّردي والانعتاق من الكتابة النّمطية المُتراكمةالمتون، وتجاوز النّماذج التّقليدية المألوفة من خلال هدم المبنى التقليدي للمحكي وتحريره من قيود الكلاسيكية القديمة، إذ توظّف تقانة، الغرائبي، بوصفها الثيمة الأساسية والمهيمنة شكلا ومضمونا ووظيفة، مخترقة بذلك حدود المعقول والمنطقي والتأريخي والواقعي، فهي تنحو نحو وقائع غريبة من طريق تمويه الواقع والسُّمو بالخيال، والمزاوجة بين الواقعي واللاواقعي وبين المألوف واللامألوف قاصدةً من وراء ذلك إيصال رسالة للقارىء العربي والعراقي تحديدا، مفادها بأن الحكومات الديكتاتورية عندها الأستعداد لمصادرة حيوات شعوبها من أجل البقاء أطول مدة ممكنة

ولعل العوامل السّياسية والوقائع التأريخية والتّحولات الثّقافية والفكرية أسهمت في بلورة هذا النوع من السّرد، وقد فصل القول فيه الناقد كمال أبو ديب فجعله “بؤرة الخيال الخلّاق الذي يجمع مخترقا حدود المعقول، والمنطقي، والتأريخي والواقعي، ومخضعًا كلّ ما في الوجود من الطبيعي إلى ما ورائي لقوة واحدة فقط هي قوة الخيال المبدع المبتكر، الذي يجوب الوجود بإحساس مطلق بالحرية المطلقة، يعجن العالم كما يشاء ويصوغ ما يشاء غير خاضع إلا لشهواته ولمتطلباته الخاصة ولما يختار هو أن يرسمه من قوانين وحدود “.

وقد انمازت رواية المواطنة ٢٤٧ بقدرتها على رصد بعض قضايا المشهد العراقي خلال مرحلة منتصف التسعينيات حتى قيام حرب الخليج عام ٢٠٠٣، فجاءت تعبيرا عن واقع مشوه ومزيف أفرز أمراضا متعددة، انسحقت فيه نفسية المواطن العراقي حتى باتت مشوهة، تعاني الموت السّريري زيادة على مصادرة كلّ ما هو إيجابي وسط حروب وفقر وتخلف، ويمكن رصد أهم التجليات الغرائبية في هذه الرواية على النّحو الآتي :

اولا: غرائبية العنوان

عنونت السّاردة روايتها بـ المواطنة ٢٤٧، المتأمل لهذا العنوان من حيث التركيب اللغوي يلحظ أنّه جاء بصيغة الجملة الأسمية المتكونة من، المسند (المواطنة) وهي المُحَدَّث عنه والمسند إليه وقد جاء رقما ٢٤٧ وهو المُحَدَّث به، والجملة الأسمية على حدّ قول النحويون، يُؤتى بها للدلالة على الثبات والاستمرار، وهذا يشير إلى أن المواطنين أصبحوا وسيصبحون ارقاما لا غير واستعيظ عن أسمائهم بالأرقام التي تدخل ضمن شبكة بيانية معلوماتية مبرمجة لمراقبة تصرفاتهم وكلامهم وأفعالهم، فالعنوان يشير إلى أن المتن سيعالج قضية لأمراة تحمل هذا الرقم بعد أن أصبحت الذاكرة ملكا للدولة منذ منتصف التسعينيات، عندما كثرت الاختراقات والمؤامرات التي أرهقت رجال الأمن حسبما يدعون وفي هذا العنوان نلمس رؤية بعيدة المدى لما سيكون عليه المستقبل .

ثانيا: غرائبية الشخصيات

يبدأ الراوي الخارجي بوصف الشخصيات التي تدور أحداث الرواية عليها، وهي أسرة مكونة من خمسة أفراد يرزخون تحت وطأت ساعات القطع المبرمج للذاكرة، الأب وهو الذي استسلم بكامل إرادته لفكرة تصدير الذاكرة، فهو يذهب إلى عمله ويعود لينام، ثم يستيقظ ليأكل، ثم ينام فهو بمثابة الميت سريريا بعدما كان شعلة من النشاط والحيوية، إذ أكمل دراسته بجد واجتهاد وقرأ كل ما وقعت عليه عيناه من كتب التأريخ والشعر، وكان رساما موهوبا وعازفا على آلة الكمان، وبعد أن التحق بخدمة العلم في الثمانينيات، انتدب مدرسا للتأريخ في مدرسة تابعة لإحدى المحافظات الجنوبية، يقول :” مرت السنوات وأنا اكرر الكلام نفسه عن التأريخ الأموي والعباسي والتأريخ الحديث، ..فكل ما فعلوه انهم أضافوا إليه نصرا مزيفا وهزائما مزوقة… ولم أعد أحتاج أيضا إلى استعمال رأسي أو ذاكرتي، فما افعله اليوم لا يختلف عما فعلته بالأمس، ولن يختلف عما سأفعله غدا” يرى أن ذاكرته إذا عادت بعد ساعات القطع المبرمج، لا تجود عليه سوى بأصوات الطائرات الحربية وأزيز الرصاص ووجه صديقه الذي استشهد خلال إحدى الغارات الجوية ولذا “فعلوا خيرا حين صادروا رؤوسنا، وحجبوا الذاكرة”.

الأم/ وهي آمنة جابر، الفتاة السّمراء الجميلة الذكية الحالمة المحبّة والقارئة النَّهمة، التي أُقتيدت عندما كان عمرها سبعة عشر عاما مع حبيبها ابن جارها (سلام)، إلى مركز شرطة الآداب تحت تهمة تبادل قبلة بينها وبين حبيبها، تلك القبلة التي انتظرتها طويلا والتي استحالت إلى أصفاد تكبل يديها لتلقي بها في سجن لم يكن ارحم من الزنزانة التي قضت فيها ليلة فرحتها الأولى، فهي في نظرهم تلك الفتاة قليلة التربية التي جلبت الخزي والعار لأهلها الذين اضطروا إلى ترك مكان سكناهم والانتقال إلى منطقة أخرى، وتزويجها بأول رجل يتقدم لخطبتها، وهكذا بقيت تكافح مرارة الحياة في ظل حصار شرس وزوج ميت سريريا لتأمين لقمة العيش لأولادها الثلاث، إلا أنّها بقيت تحاول قدر الإمكان شحن ذاكرتها الأصلية والحفاظ على المتبقي من خزينها وعدم الانقياد لسياسة مصادرة الذاكرة بشكل تام “سأصنع ذاكرة تكفيني لأهرب مع أولادي” وقد نجحت في إحداث خلخلة في نظام البرمجة بعدما اكتشفت تلاعبت ابنتها في ذاكرة رأسها خلال فترة غيابها خارج المنزل،  استجمعت الأفكار في رأسها واكتشفت أن الراس يحمل فقط الشيفرة التي يقابلها رقم في منظومة البرمجة، أما الجسد فهو كتلة من اللحم والفعاليات الحيوية التي لا تهم أحدا، فلا فارق إن وضع هذا الراس على جسدها أم على جسد حمار، وحتى تتأكد من ذلك الاكتشاف عليها أن ترتدي رأس زوجها مرّة أو رأس أحد أبناءها لترى إن كان ذلك سيشكل فارقا .

وكان من حسن حظها أن حبيبها الأول الذي تخلى عنها في مركز شرطة الآداب، هو نفسه المهندس والمراقب لمنظومة برمجة الرؤوس وهو المسؤول عن ذاكرة أسرتها ايضا، وكان قد شعر بهذا التّلاعب في ذاكرة آمنة وأنّها لم تستثمرها في عملها وفي رعاية عائلتها فقط، لكنّه لم يرد خذلانها للمرة الثانية فبقي يراقبها ويحميها من بعيد من غير أن تشعر هي بذلك .

سلام/ ابن الجار الشّاب المراهق الذي دفع هو الآخر ثمن مغامرته العاطفية في تلك الليلة مع آمنة عندما حاول تقبيلها في مكان عام، حيث ألقت القبض عليهما شرطة الآداب في الجرم المشهود وحتى ينقذ نفسه تخلى عن حبيبته مضطرا، فلم يكن يدرك بأن ذكاءه الخارق وتفوقه ومواهبه المتميزة في الرياضيات ستكون وبالا عليه، وقد باع راسه إلى السلطة الحاكمة حين وافق على العمل معهم لم يكن يملك خيارا آخرحتى يخلص نفسه من ذلك الموقف مع ابنة الجيران.

هددوه باستباحة وقتل والديه وأخواته وآمنة ! كيف له أن يذبحها مرتين؟ كان عليه أن يقبل السفر والبعثة لدراسة علم الحاسوب في دولة متقدمة، العلم الجديد آنذاك، ليعود بعد أربع سنوات مع مجموعة من الأدمغة الذكية من أقرانه وقد أصبحوا جاهزين لتأسيس أكبر منظومة للتجسس على رؤوس المواطنين، وصولا إلى حجب الذاكرة تقنينها ثم تنظيمها ببرمجة تسمح للفرد أن يمارس فعالياته الحيوية والحياتية بما يكفي لبقائه ولإدائه عمله، وقد استغرق العمل سنوات قاموا خلالها بتدريب كادر يكفي لتأسيس شبكة تتوزع خيوطها لتشمل كل المحافظات والأقضية حتى تصل إلى أبعد نقطة على حدود البلد .

وقد شعر سلام بتلاعب المواطنة ٢٤٧ في منظومة البرمجة المعدة لأفراد أسرتها رغبة منها في الهروب مع أولادها خارج البلاد من طريق الشمال بمساعدة أخيها نبيل الذي استطاع الهروب قبل أن يبدأ نظام البرمجة هذا، وها هو يحاول التكفير عن ذنبه وعدم خذلانها والوقوف بجانبها على الرغم من الإجراءات المشددة.

الأبنة/ تلك الفتاة المراهقة التي فشلت دراسيا، فهي لا تهتم إن صادروا ذاكرتها أم لم يصادروها، “فما حاجتي إلى رأس لا اعرف كيف استخدمه” لذا فهي تحب ساعات البرمجة التي تقيها نصائح أمها وأحباط والدها الذي كان يحلم بأن تصبح ابنته طبيبة، وقد نجحت في التسلل إلى ذاكرة والدتها، المواطنة ٢٤٧، عندما خرجت ذات ليلة من دون رأس إلى عيادة الطبيبة، وعرفت الفتاة سرَّ أمها “عرفت أن فارسا آخر امتطى صهوة أحلام شبابها، لكنّه اختفى …فأمي حريصة جدا على صندوق ذاكرتها المقفل بأحكام في زاوية من رأسها، نادرا ما تغفو خشية أن يسطو عليه أحد، ليس أنا أو أبي، بل أحدهم، أولئك الذين يفحصون الذاكرة كل يوم ليتأكدوا بأنها ما زالت كما هي، لم يتم تجديدها ” ولذلك فقد أحبت هي الأخرى ابن جارها، أحبته بذاكرة أمها التي كانت تعرف الحب على سطح الدار .

ثاليا: غرائبية الأحداث

تدور أحداث الرواية على فكرة برمجة رؤوس المواطنين، ومصادرة ذاكراتهم، بسبب كثرة الاختراقات والمؤامرات التي أرهقت رجال الأمن منذ منتصف التسعينيات، إذ تم الأتفاق مع خبراء أجانب لأختراع منظومة لبرمجة استعمال الروؤس من قبل المواطنين في الفترات التي يحتاجون إليها من أجل الاستمرار في العيش، فماذا يطلب المواطن اكثر من الاستمرار في العيش بسلام؟ ما جدوى التفكير في كل ما يدور من حوله؟

لم يكن الهدف من هذا المشروع هو التحكم في ذاكرة المواطن كما ذكر الرئيس في خطبته التي بثها في ذلك اليوم، وإنما حمايته من التورط مع المغرضين الذين غصّت بهم السجون وأرهقوا الجلادين!! (الأكاذيب النبيلة)، ومن مبدأ الإحساس بالمسؤولية تجاه الشعب، كان لابّد من إيجاد طريقة لقمع المؤامرات وهي بَعدُ في مهدها!!، وهكذا أصبحت حياة الأسر تحدد على وفق ساعات القطع المبرمج للذاكرة، في العمل تتهدل روؤس الموظفين فوق ملفات تراكمت على المكاتب، هناك لا يوجد وقت للحديث، وحتى إن وجد، فهو غير مسموح به، فرؤوسهم تمنح لهم على وفق نظام برمجة خاص بالدوائر الرسمية، وتحت رقابة صارمة، يتم فيه تزويد الموظفين برؤوسهم في فترة العمل، من أجل العمل وليس لغرض الخوض في أحاديث قد تذهب بهم بعيدا إلى مناقشة واقع صار عصيا عليهم .

وعلى وفق هذا النّظام تدور حياة الناس، وتتجلّى الغرائبية بكلّ أبعادها فهي ترتبط بزمن معين وهو ليس الزمن العادي المتعلق بعقارب الساعة، بل هو الزمن الذي يقع فيه القارىء في حيرة، فيتخبط بين واقع وخيال .

هنا على _ما أظن _الكاتبة أرادت توجيه الأنظار إلى فكرة ترويض الشعوب التي تطرق إليها المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه (أوهام ضرورية) الصادر عام ١٩٩٩، وما سياسة البرمجة تلك إلا المعادل الموضوعي لسياسات الدّول ذات الأنظمة الشّمولية، وهي استراتيجية تظل دوما من أسرار الدّول العليا، ولا يجب كشفها للدول المغلوبة على أمرها، وتعني التغييب التام للعقول وغسل الأدمغة والتلاعب بها من خلال خلق أوهام ومعلومات مغلوطة، واشغال الناس بقضايا تافهة وجعلهم لايدركون أكثر من حاجاتهم اليومية، لايعرفون سوى طريق العمل والسوق والتفكير في كيفية تدبير عيشة يومهم، وتعديل ميزانيتهم اليومية بما يتناسب مع صعود الأسعار المستمر، فمن أهم مبادىء الأوهام الضرورية هو عدم الكشف عن كلّ شيء وتقديم ما يروق للعامة أو ما سمّاه أفلاطون بالأكاذيب النبيلة، وهذا ما أذاعه الرئيس في خطابه عندما قال، السبب الذي دفعنا لنظام برمجة العقول هو الحفاظ على أمنكم وسلامتكم .

***

يقلم: د. أمل سلمان

الصحراء ذلك السحر الأسطوري الكامن في المخيال الجمعي للإنسانية عامة، وفي الذاكرة العربية بشكل خاص، حيث تبرز الصحراء في الوعي، والمُخيّلة مَجْمَعًا للنقائض، منسجمة مع طبيعتها المتقلِّبة، فهي لا تسكن حينًا حتَّى تثور، ولا ترضى لحظة حتَّى تغضب، تفرح فيتحوَّل الكون إلى مسرح شعريّ رائع، وتغضب، فيكون في غضبها الهلاك والشقاء. ولوج الصحراء فتْحٌ لإمكانية السرد.. أن تعيش وترى، وتحكيَ عمّا رأيت، والرؤية هنا لا تأبه كثيراً بالمنظور الحسي، بل تتعداه. فالصحراء هي واحدة من مُحرِّضات روح المغامرة الإنسانية، وهي التي توسع أفق التصور المحفّز على الإبداع..

يبدو لنا أن الشفاهية هي مفتاح ثقافة الصحراء وعنوانها، وهي مفتاح السرد الصحراوي حتى بصيغه المعاصرة المتأثرة بالكتابة والكتابية. فالصحراء تعتمد على الشفاهية في مختلف شؤونها. والشفاهية تشمل الشعر والسرد معا. ولها تأثيرات بليغة في إنتاج المادة الأدبية نفسها، ثم في تداولها ونشرها وحفظها. والكلمة الشفاهية / كلمة الصحراء هي ما يقال بالفم، وليس ما يرى بالعين أو يخط بالقلم، إنها جزء من المتكلم أو الناطق، وهي أقوى وأثبت وأشد تأثيرا حتى حدود الأسطرة والسحر.. في ثقافة الصحراء الكلمة المنطوقة تكفي: فلها قوّتها وفعلها وسيطرتها، أما الكتابيين فيضعف تأثير الكلمة المنطوقة عندهم ويحتاجون إلى الكلمة المكتوبة الموثقة (وإذا تداينتم بدين فاكتبوه) في القرآن الكريم، وهذا مطلب حضري جاء مع تبني الاسلام للنمط الحضري. أما البدوي فعند كلمته (المنطوقة الملفوظة) ولا يحتاج كلاما مكتوبا لتثبيت وعده أو فعله، بل كلمته هي قوته وفعله.[1]

الحضارة في أصل دلالتها ترتبط بالاستقرار في مقابل البادية، أو الصحراء المتسعة التي يتحرك الناس في بقاعها بحرّية أكبر وبإقامة أقل في المكان الواحد. الصحراء حرية والمدينة سجن. الصحراء مفتوحة والمدينة مغلقة. الصحراء ممتدة والمدينة مرتدّة.

الصحراء حرية ..المدينة سجْنٌ

الصحراء أيضا ليست ثابتة تماما على مر الزمن، فقد "تتحضّر" بعض بقاعها إذا ما تغير مناخها وظهر نباتها وصلحت بعض أراضيها للزراعة، وقد يتصحّر الريف وتتصحر القرى إذا ما تعرضت لتغييرات معينة، كأن يجف مطرها ويقل نباتها. ولكن مثل هذا التغير يكون على مدى أزمنة طويلة. وكذلك هناك تغيرات وهجرات من الصحراء وإليها، فقد يتحضر (يقيم) البدوي، وثم أخبار ومرويات سجّلها الرواة الأوائل عن الأعراب الذين انضموا للحواضر وغدوا قنوات لنقل معارف البادية وأشعارها ومروياتها السردية، و تمكننا المصادر العربية من معرفة بعض أسمائهم. وأكثر من يلقبون ب "الأعرابي" أو "ابن الأعرابي" وهم كثر في أخبار المؤلفين والرواة، هم ممن لهم صلة بهذه الفئة من الرواة الأعراب الذين انتقلوا إلى الحضر، أو ظلوا يترددون بين البادية والحاضرة. وهناك رحلات العلماء الحضريين (الأصمعي وغيره..) إلى البادية وعودتهم بحكايات ومرويات كثيرة تمثل صورة من صور التقاط صور البادية وثقافتها بمنظور حضري وأدوات كتابية. وقد يتبدى بعض أهل الحضر ويدخلون في البادية، فيتحولون إلى البداوة بتغيير نمط حياتهم. وفي الحديث نهي عن التبدي "من بدا جفا" وهو موقف مفهوم في ضوء تبني الإسلام للنمط الحضري. وهذا يدلنا على أن التفريق يعتمد نمط المعيشة على الأمد البعيد أكثر مما يرتبط بمجموعات سكانية ثابتة أو معينة. ولذلك فقد نجد قبائل منقسمة بين نمطين أو ثلاثة كما يدل على ذلك بحث أستاذنا الدكتور الأسد الذي أشرنا إليه.[2]

للصحراء سرْدها الساحر

إن للصحراء سردَها، وسرد العرب في جذوره سردٌ صحراوي إجمالا، إذا كان يخيّل إلينا أن الشعر هو فنّ الصحراء الأثير، أو الوحيد فإن ذلك الوهم سببه ثبات الشعر أكثر من النثر، والمرويات السردية، من ناحية قابليته للحفظ مع وجود الوزن والقافية والرواة الموكلين بحفظه وإنشاده. إن الشفاهية هي مفتاح الصحراء وعنوانها، وهي مفتاح السرد الصحراوي حتى بصيغة المعاصرة المتأثرة بالكتابة والكتابية.. إنها الكتابة بلغة الرمل..

يقول الشاعر والروائي الجزائري أحمد عبد الكريم:

«كتابة الصحراء، لا تُعْني الوصف الخارجي لجغرافيا الصحراء بطريقة وثائقية، وإنما تعني نقْل روح الصحراء من خلال تفاعل الإنسان مع المكان والتعبير عنها بشكل عميق بعيدا عن النظرة الايكزوتيكية" الغرائيبية "»[3].

ويذكر في مقاله عن رواية ربيعة جلطي“ نادي الصنوبر” التي تتناول عالم التوارڤ  ما ورد على لسان المرحوم عثمان بالي في كلامه للجمهور في إحدى الحفلات: « الليلة إن شاء الله ما قدرناش نجيبوا لكم الصحراء.. نُدّوكم أنتم للصحراء ».

المُبدعون توّاقون إلى غرائيبيتها

وأولئك الذين ولجوا الصحراء، أياً كانت دوافعهم، قد غادروها وهم مُثقلون بوفرة من الحكايات. غير أن الصحراء في الوقت نفسه مرتع فذٌّ للخيال، وفضاء لا يُضاهى لمسارات من السرد لا تنتهي، وهي التي ألهمت شعراء، وروائيين، ومغامرين، ومستكشفين، وجواسيس، ومغرمين بأحابيل الجغرافيا، وعتمات التاريخ، ومتصوفةً، ومهووسين بالتحرش بحدود الموت، وغيرهم ليدخلوها، ويخرجوا منها وهم على غير ما كانوا عليه. كتب لوكليزيو رواية "صحراء"، الفرنسي الحائز على جائزة نوبل سنة 1980م، ومثله فعل، ولكن في مدار تجربة مختلفة، الضابط الإنجليزي توماس إدوارد لورنس، أو كما يعرفه الكثير من الناس بلورنس العرب، وهو يكتب "أعمدة الحكمة السبعة"، وكذا انطوان ده سانت  أكزوبري الذي بأسلوبه الأدبي البديع، وبروحه الفلسفية، صوِّر لنا عظمة الطيران، وإثارته، وأخطاره، وعزلته في كتابه الجميل:" أرض البشر"، لمّا قاد طائرات البريد الجوي عبر صحراء شمال أفريقيا.

روائيون رصدوا لحظات التحوّل

تناول روائيون عرب عديدون الصحراء حاضنة مكانية لها فرادتها، والتي تحدد تعرجات الأحداث وتؤطرها؛ ذلك لأن للصحراء قوانينها، وسطوتها الثقيلة على إنسانها، وقدر هذا الإنسان ومصيره. لكنَّ هؤلاء الروائيين رصدوا لحظات التحول في الصحراء، لحظات الاختراق التاريخية مع دخول المستعمر، واكتشاف النفط، وبناء المدن، وانتشار وسائل التقنية، ومؤسسات الإدارة الحديثة، أي في شبكة علاقاتها مع خارجها.. نذكر هنا، رواية " فساد الأمكنة " لصبري موسى، وروايات "النهايات" و" سباق المسافات الطويلة "، و" مدن الملح بأجزائها الخمسة " لعبد الرحمن منيف.

أمّا ما فعله إبراهيم الكوني فإنه رسم الصحراء في عزلتها الكونية وعذريتها، وتمنُّعها، حتى بعد تصديها لغزو الأغراب " المجوس والفرنسيس"، وإصرارها على البقاء مِهاداً للحكايات العجيبة والأساطير، وعالماً فسيحاً مُقْفرًا للإنسان. وعندما نتقصّى متْن السرد، والصحراء حتى إلى وقت قريب سيقفز تأكيدًا أمامنا اسم الروائي الليبي إبراهيم الكوني بكمّ رواياته، وبثيماتها المنفتحة على فضاءات متفرّدة زماناً ومكاناً وأنماط علاقات، ورؤية ورؤيا.

متْنُ السّرد الصحراوي تعدّد

فرض فضاء الصحراء نفسه، وبقوة كبيرة على النص الروائي الجزائري المعاصر، بحكم جاذبيته، وروائع طقوسه، وعاداته وتقاليده الساحرة الآسرة، وبحثا من الروائيين الجزائريين عن فُرص جديدة للتجريب، وممارسة مغامرة الكتابة بنوع من الممارسة العشقية مستعينة بقاموس صوفي ثري بمصطلحاته الموغلة في الوله والوجد والفناء؛ خاصّة لدى مبدعي أبناء الصحراء مولدًا، ونشأة، وإقامة؛ ممّا سمح بتعدّد مبدعي السرد قصصًا، وروايات، كما لم يبق هذا الجنس الأدبي حكْرًا على مبدع بعينه؛ لكوْن أسماء أخرى ظهرت على الساحة العربية، وخاصة في منطقة المغرب العربي منهم الروائي الموريتاني موسى ولد ابنو وروايته "مدينة الرياح"، والروائي المالي عمر الأنصاري صاحب رواية "الرجال الزرق".

الرّحّالة إيزابيل إبراهاردت

ومن الذين ولجوا الصحراء، وفتنتهم فعشِقوها، وكتبوا عنها وأبدعوا، وبقدْر ما ألهمتهم الصحراء فإنهم خلّدوها في أعمال سردية رائعة أشبه ما تكون بلوحات تشكيلية رائعة الجمال.. الكاتبة الرّحّالة إيزابيل إبراهاردت ذات الشخصية التاريخية المثيرة للجدل، ليس فقط لأنها جزء من ذاكرة الجزائر، وقطعة من فسيفسائها، ولكن لشهرتها العالمية ككاتبة، وما أحيط حولها من جدل، وشكوكٍ في تحرّكها، وعلاقاتها

لقد وجدت في الجزائر جنتها الأرضية، ووطنها المفقود، فاعتنقت دينه الإسلامي الحنيف، وساندته في فضْح بشاعة الاستعمار، وساهمت في ثقافته، وكل هذا بنشاطها وبقلمها الجريء، وأسلوبها الرومانسي الدافئ تارة، والساخر تارة أخرى؛ وهذا ما نستشفّه من كتاباتها، ومراسلاتها الصحفية. عشقت إيزابيل الوادي (وادي سوف.. الجنوب الشرقي الجزائري)، ونخيلَها، وكثبانَها الرملية، وأزقَّتها وآبَارها، وساحاتِها، ومآذنَها، وإبلها فجاءت كلُّها صورا متناسقة منسجمة في كتاباتها عن الوادي؛ كما كانت واضحة جليّة في ذهنها ومخيّلتها.

لقد بلغ عشقُ إيزابيل للوادي حتى أن الذين عاشوا حياتهم كلها في هذه المدينة لا يمكن أن ينافسوها في معرفتها لها، واطلاعها على أتفه الجزئيات، والدقائق في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والروحية لهذه المدينة حينذاك وهي التي أطلقت على مدينة الوادي: "مدينة الألف قبّة وقبّة". عرفت إيزابيل عن الوادي خيرها وشرها، جِدّها وهزلها، عفّتها، وفجورها، عاداتها وتقاليدها. عرفت من أهلها صدقهم وكذبهم، غدرهم وإخلاصهم، صداقتهم وعداوتهم.. كل ذلك سجّلته في نصوص سردية جميلة أشبه بلوحات تشكيلية في غاية الجمال.

تجاربُ مهمّةٌ

الحديث عن الصحراء يجعلنا نلتفت إلى تجربة مهمة، هي تجربة الكاتب الجزائري حبيب السايح الذي عرفت فترةُ إقامته بأدرار تحولا نوعيا في لغة، ومعمارية، وثيمات رواياته، وفي تبلور رؤية جديدة عبْر تلك اللغة التي تنسكب كلمات معجونة بالرمل. إضافة إلى أعمال سردية أخرى تتخذ الصحراء فضاء معماريا كرواية" تميمون" لرشيد بوجدرة، رواية " نادي الصنوبر" لربيعة جلطي، رواية اعترافات أسكرام للأستاذ عزّ الدين ميهوبي، والمجموعة القصصية" حائط رحمونة " للدكتور عبد الله كرّوم، ومجموعة" مغارة الصابوق"، رواية " مملكة الزيوان"، رواية" كاماراد"، ورواية" منّا..قيامة الشتات الصحراوي للدكتور الحاج أحمد الزيواني، رواية " تنزروفت .. بحثًا عن الظلّ" للدكتور ضيف الله عبد القادر، ورواية " الشهيلي " LE SIMON باللغة الفرنسية للأستاذ علي عبيد من الوادي، رواية " أعوذ بالله " للدكتور السعيد بوطاجين. رواية "الخابية" للكاتبة الإعلامية جميلة طلباوي، وكذا روايتها" وادي الحنّاء"، رواية" صحراء الظمإ "للأخضر بن السايح، وكذا رواية" فجْر الغيطان" للكاتب الإعلامي خليفة قعيد، رواية " تاغيت" للدكتور باديس فغالي.

ونختم برواية" نبوءات رايكا " للكاتب خيري بلخير التي فازت بالمرتبة الأولى للغة العربية في جائزة علي معّاشي لسنة 2019. كما في شهر فيفري 2020 فاز القاص، الروائي عبد الرشيد هميسي في جائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع بروايته الموسومة ب " الملحد بقيّ بن يقظان" التي تجري وقائعها في بلدة حاسي خليفة بربوع وادي سُوفْ.

وتبقى الصحراءُ مصدرَ إلْهامٍ

في رأيي الشخصي النصّ السّردي الصحراوي، ليس فقط الذي يتّكئ على الصحراء مصدرًا للأحداثِ فحسبُ، وإنّما تلكم أيضًا الروائح، والأساطير، والذكرياتٍ التي سكنت الصحراء، وآثار الإنسان من رسومٍ، ونقوش، ممّا قد يُكسبُ النصّ السّرديَّ الغرائبية.

***

كتب: بشير خلف

..................

[1] - محمد عبيد الله. الصحراء رؤية تأسيسية في ثقافتها وسردياتها. مجلة الكلمة. العدد 110 يونيو 2016

[2] - الصحراء رؤية تأسيسية في ثقافتها وسردياتها (مرجع سابق)

[3] - محمد بن زيان. في السرد والصحراء. جزائر سْ. 04 / 02 / 2013

 

دراسة نقدية لكتاب: كسرة خبز (شذرات أدبية) للكاتب حسن إبراهيمي

سمّى الكاتب حسن إبراهيمي سردياته "شذرات أدبيّة"، وهي من شذر، ومصدرها الشذر، وجمعها: شذور – شذرات: فطع من الذهب أو فقرات من كتاب، والشذر: اللؤلؤ الصغار، واحدتها: شذرة – شذّر الكاتب كلامه بالشعر: أي زيّنه به - ولها معان أخرى. وأنا أقرأ هذه الشذرات الأدبيّة لحسن إبراهيمي، الصادرة عن دار المختار للنشر والتوزيع، لسنة 2018 م، استوقفني العنوان "كسرة خبز". والكسرة، هي خبز تقليدي، يُطهى على نار عالية، وهي معروفة عند أهل البادية في المشرق والمغرب العربيين. وهي هنا ترمز إلى الوحدة العربيّة، كما ترمز إلى معاناة المواطن العربي، اجتماعيّا وسياسيّا وثقافيّا من الحرمان والقهر والاستبداد.. وكأنّ حقوق هذا المواطن العربي، لا تتعدّى كسرة الخبز اليوميّة، أمّا الحريّة والكرامة فهما اسمان لا محلّ لهما من الإعراب في حياته اليومية.

شدّتني أيضا، عبارات الإهداء بحبل الإعجاب. يقول الكاتب:

" إلى روحي أبي وأمي

إلى رفيقة دربي فتيحة أم طفليّ

فاطمة ويوسف

إلى رشيد ابن أخي

عرفانا لهم بالجميل

وإلى أرواح شهداء القضية بكل الدول العربية أهدي هذا العمل المتواضع " ص3

ثم يليه قوله: " شبق نصوص صدحت لثمالة أفواه

على الرصيف

حـــــــ دــــ ماــــرء ية

شذرات نسجت أغاني العزة لدماء الشهداء " ص 4

يستهلّ الكاتب حسن إبراهيمي، شذراته على مدى مائة وعشرين صفحة، بهذة الشذرة، التي تنير للناقد:

" لست سواك يا وطني عانقتك في أفواه المعتوهين، والفقراء.. عانقتك في كل كسرة خبز تصدح في الشارع.. في وجه القمع.. في وجه كل المتارس التي تمنع المارة من اقتطاف وردة في كل حقل يسقى بدماء الشهداء.. لست سواك يا وطني، وباسمك أقول لا للتجول في كل حقل يسقى بالغدير، ولكل من يلتف حوله ليحول زرعه بطانة تتملق لتحول الحياة إلى رماد، بعد كل انتصاب لجمر في قلعة الشرفاء. " ص 5

هي شذرات سرديّة، بلغة مسرّبة من عوالم الشعر، وأسلوب استعار من القوافي سحرها البياني. أمّا قضيّة الكاتب حسن إبراهيمي في شذراته، فلا تخفى على القارئء النبيه، والناقد الأريب. هي – بلا شكّ – قضيّة الإنسان العربي الغريب في وطنه، والذي طحنته رحى الاستبداد على مرّ السنين ؛ وكلّما نجا أو تخلّص من مستبدّ وقع فريسة مستبدّ أشرس منه وأشدّ قسوة وإيلاما. تخلّص من المحتل الأجنبي، الذي جرّعه الويلات، ودفع في سبيل التحرّر من أغلاله ملايين الشهداء، فإذا به يجد نفسه في قبضة المستبدّ الظالم، وهو يتجرّع أضعافا مضاعفة من القسوة والجبروت والقمع.

قضيّة المواطن العربيّ لها وجهان: صراع مع الآخر (الأجنبي الدخيل)، وصراع مع الذات (الأنا وتناقضاته). صراع الهويّة والاستيلاب، وكلاهما صراع مرير من أجل مطلب أساسي، ألا وهو الحياة الكريمة في ظلّ الحريّة والطمأنينة والعزّة والكرامة. وهي حقوق فطريّة، لا يمكن الاستغناء أو التنازل عنها أو التهاون فيها.

" وقفت تهمس لصيف وراء القضبان.. نامت ونام الصيف في عين ضوء انفلت للسجان " ص 8

" بدون حارس للقضية يتجول الذئب في كل أطراف الخدعة كل يوم." ص 8

هنا يحيلنا الكاتب إلى لبّ القضيّة، التي تجسّدها المفردات التالية (وقفت، تهمس، صيف، القضبان، نامت، انفلت، للسجّان، حارس، الذئب، الخدعة). وهي قضيّة صراع الإنسان المضطهد (بفتح الهاء)، التوّاق إلى الحريّة ّضدّ المستبّد الظالم.، لا من أجل " كسرة خبز "، كما يعتقد صنّاع النظريّة الماركسيّة والفلسفة الماديّة، بل سعيا لاسترجاع إنسانيّته وكرامته في مجتمع حاصرته ذئاب الإنس، وقضبان الخداع.

" في دماء الشهداء احتشد الوطن.. بجبين كل قطرة " ص 6

" تتصبب أحزانا.. كاغتراب الناي بين أنامل التاريخ، كآخر قطرة تصرخ في وجه الجلاد.. تفتك كل كسرة خبز.. تعاقر دروب الانعتاق.. تعانق الشظايا في أنفاس السنابل، وفي كل نصل يرهج صراخا " ص 7

لا شيء يطهّر تربة الوطن من المحتّل والمستبدّ غير دماء الشهداء الطاهرة، الزكيّة. يهب له أبناؤه النفس والنفيس. ولكلّ وطن شهداؤها. وأغلى ما يوهب للوطن الدماء، التي تروي قلب ثراه. ولا يفتكّ الوطن حريّته ولا ينعتق من القيود والأغلال إلا بتضحيات أبنائه البررة. أمّا أولئك الذين المحبَطون والمثبّطون، الذين هزمهم اليأس قبل العركة، وسكن جوانحهم الحزن، وأغرقتهم دموعه، دون أن يحرّكوا ساكنا، كمثلهم كمثل نسوة، وهنّ " يغسلن وجه السماء.. يطاردن خيط دخان.. بأطلال تغزل دموع الذكريات.. تحتسي كؤوس الخراب.. وتفتح عيون الناي.. لإجلاء جرس يرن بدون ألحان. " ص 14 / 15.

"لا تكفكفوا دموع الخريف.. فالحزن من لم يستأصله يترعرع في عيون الأشجار. " ص 14.

لقد رسم لنا الكاتب في هذين المقطعين، لوحة قاتمة عن الهزيمة واليأس والشعور بالنهاية والفناء. إنّ الحزن يترعرع في النفوس، رويدا رويدا، إذا لم يُستأصل من الجذور، وذلك من خلال توظيف معجمه اللغوي الموحي: (خيط دخان، أطلال، الخراب، جرس يرنّ دون ألحان، دموع الخريف، الحزن)

و مهما كبُر اليأس وتوغّل الحزن في أعماق النفوس، ف (لا بد لليل أن ينجلي)، كما قال أبو القاسم الشابي، وذلك بإرادة الشعب في الحياة وعزيمته على كسر القيود، مهما كانت شديدة وداميّة. وهو ما يقرّره الكاتب حسن إبراهيمي في قوله: " يختفي الليل ليفسح المجال للشمس كي تكنس عار اختفاء بزوغ الفجر في الظلام." ص 15. وما،توظيفه لصيغة المضارع و(يختفي، يفسح، تكنس) والمصدر (اختفاء) إلاّ دلالة على استمرار الفعل وديمومته وثبات العزيمة على التغيير ورسوخها.

و قد أدركت الشعوب العربيّة أهداف الغزو الأمريكي للعراق في مطلع القرن الحالي، وإسقاط بغداد عام 2003 م، بعد فوات الأوان. فها هو (هدهد) الوطنيين، المخلصين، يأتيهم بأنباء من البيت الأبيض وتل أبيب، إنّه المشروع الأمريكي، الصليبي، المتمثّل في اتفاقيات إبراهيم في 15 سبتمبر 2020 م. وكان هدفها، ومازال، تهويد القدس، بل فلسطين كلّها. وتطبيع العلاقات بين العرب والصهاينة، على مبدأ الأرض مقابل السلام المزعوم. ورفض عودة اللاجئين والنازحين إلى قراهم ومدنهم وأراضيهم المغتصبة.

" تحلق الطيور حاملة قدسا عربيا لسلم أمريكي لن يتحقق إلا في السماء."

أجل، إنّه السلم المستحيل. لأنّه قائم على الظلم والاضطهاد والسلب والنهب والخديعة. وكيف يتحقق السلم بين الغاصب وصاحب الحقّ ؟

" ترفض الجدران شقوقا لا تبتسم للرياح. " ص 106.

" تبني الطيور أعشاشا فوق الأشجار كي لا تصاب هده الأخيرة بالهذيان " ص 97.

" تكفكف الأطلال دموع الذكريات، وترشها بأسئلة سامقات " ص 83.

" خسئت نار نقذف فيها الأطفال، ولم تنجب أرضا يتدفأ بها الكادحون. " ص 79.

" امتلأت أفواه المارقين بهتافات بدون نصـر.. فنكست الأعلام.. بعدما تم نكث المقاعد. " ص 72.

وسط أكوام من الجراح استبسلت أناملي.. سقطت كالشمس رشات فولاذ، زلزلت غصون الخيانات.. استبصرت المحو في ريعان شبابه.. فرفضت رسائله أن تسرّج الشُّهب لاتقاد الهزائم. ص 68

احترس من السقوط، إذا تسلقت قلب امرأة جرداء. ص 66.

أخد إبليس مكانه وسط منصة.. بدأ يستعد للغناء.. جاب يمينا ويسارا، حين بدأ الحفل.. أطرب حاشية الجميع.. انجذب الكل للرقص.. فاشتعلت أضواء الحلبة.. وحين استفاق حراس الجنة تم رجمهم حتى الثمالة... فرجعوا له ساجدين. ص 24.

في شوارع الرصاص انتحرت الأرض رفضا لإنجاب مدن جديدة للعدو. ص 6.

اللغة

اللغة قاسم مشترك بين فني الشعر والنثر. هي، بلا شكّ، حمّالة المعاني، وهي الواجهة الأماميّة للمعاني والأفكار، هي كيمياء الروح. واللغة، تعني الأسلوب، وهذا الأخير يعني الكاتب، وبالتالي فإنّ الأسلوب هو العمود الفقري للكتابة الإبداعيّة، نثريّة كانت أم شعريّة. وقد عرّف القدماء الأدب، بأنّه نثر وشعر، ثم وضعوا لكلّ منهما تعريفا مختصرا، فعرّفوا الشعر، بأنّه كلام موزون مقفى، أمّا النثر فهو كلام خال من الوزن والقافيّة.. أمّا المحدثون والمعاصرون، فقد تجاوزوا التعريف السالف الذكر، للشعر والنثر معا. وأضافوا إلى الشعر الصورة الشعريّة إلى جانب الصورة البيانيّة والبديع، أمّا النثر فقد ابتعد عن الصنعة اللغويّة والنمطيّة والحشو إلى السلاسة والسهولة والوضوح....

لقد صدق خزانة الأدب، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، حين قال: " إن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير " (1)

و قال أيضا: وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه، ومنزهاً عن الاختلال، ومصوناً عن التكلف، صنع في القلوب صنع الغيث في التربة الكريمة " (2)

فنحن أمام شذارات أو خواطر سرديّة للكاتب حسن إبراهيمي، كأنّها تسريبات شعريّة قي قوالب نثريّة. ذهب فيها الكاتب مذهب أبي عثمان عمرو بن بحر

الجاحظ، البصري الأديب المتكلم المعتزلي (ت 225 هـ). مؤسس علم البلاغة حقاً.

لقد جاءت شذرات (خواطر) كثيرة المجازات اللغويّة والمرسلة، وخاصة الاستعارات المكنيّة والتصريحيّة والتشبيهات والكنايات. إنّها شبيهة بمعرض للصوّر البيانيّة والصوّر الشعريّة. لغة الكاتب حسن إبراهيمي كشفت عن عوالم الخيال الفنّي الذي يمتلكها الكاتب، وعن قدرة عجيبة في توظيف اللفظ في مواضع المجاز، لإعطاء المعنى بعدا رمزيّا وعمقا نفسيّا ولذّة صوفيّة وتشويقا آسرا.

و لن أكون في موضع المجاملة والمدح المجانيّين ، إذا قلت: إنّ شذرات (خطرات) الكاتب حسن إبراهيمي، أعتبرها – وهذا رأيي الشخصي ومن شاء فليخالفه – نفحات نثريّة المبنى، شعريّة المعنى، أو بتعبير آخر أرداها الكاتب شذرات نثريّة، فإذا بها تخرج مرتديّة لباس الشعر. فقد تقمّصت من الشعر جمال الصورة ولذّة البيان، وأخذت من النثر انسيابيّة العبارة، وبلاغة اللفظ. وليتأمّل معي القاريء الصياغة التالية: " لاشيء يفتح باب العزة غير سحب تمطر في جبهة للشهامة، لما تضيء وجه السجن.. أو حين تدك صولجان الهزيمة بصليل الفولاذ. " ص 76.

وهذه الصياغة: " أثقلتك اللاءات يا وطني.. أثقلتك في مطبخ لا يضيء شبرا في الظلام." ص 10 / 11. ففي هاتين الصياغتين عنفوان اللغة الشعريّة، وقوّة الصورة الشعريّة والرمز. تحوّل الوطن عند الكاتب حسن إبراهيمي إلى قضيّة وجوديّة، وغيرها العدم. الوطن يرمز إلى العزّة والشهامة والجود (تمطر) والحريّة (تضيء). وبدونها، لا معنى للوطن. الوطن ليس مجرّد تراب وحدود وأشجار وجبال وثروات طبيعيّة ووسم على بطاقة التعريف واسم على خريطة الكوكب الأرضي. الوطن هو الإنسان الحرّ، المكرّم، وليس الإنسان (القطيع)، بدون الإنسان ينتفي الوطن، وبدون الحرية، لا معنى للوجود الإنساني.

إذن، الحريّة، هي العروة الوثقى في هذه الشذرات والخطرات والآهات في قاموس الكاتب حسن إبراهيمي. ومهما أسدل الظلام سدوله على هذا الوطن (و لا أقول الأوطان)، فإن موعد شروق لن يتأخر، مهما طال الزمن. فكم روى التاريخ، على مرّ العصور، فصولا من المآسي، شتّتت أمما، وأفنت أمما أخرى، وأخضعت أمما وشعوبا وقبائل للعبوديّة والقهر. يؤمن الكاتب حسن إبراهيمي، بمقولة (دوام الحال من المحال). ومن طبيعة الأمم العيش حياة التأرجح الصعود والسقوط، بين النصر والهزيمة، بين القمّة والسفح. وقد أصيبت الحضارة العربيّة الإسلاميّة في مقتل، حين سقطت بغداد في الشرق وغرناطة في الغرب، لكنّ الأدهى والأمرّ، أن تنتقل أمة العروبة والإسلام من سقوط إلى سقوط، وتغيّر منحنى الصعود نحو الأسفل، ولمّا بدأ العلاج بدأ بأنصاف الحلول، أو بحلول ميّتة ومميتة. يقول الكاتب في إحدى شذراته:

"فحص الطبيب الأحداث فمات.. فالتاريخ لا يقبل أي حدث مصاب بمرض خبيث.. كما لا يقبل العلاج بأنصاف الحلول " ص 96. ويقول أيضا: " الربيع.. ولم يبق للشمس من ترقص لهم في آخر الشعاع.. انتهت المعركة ولم يبق فوق حصير الرماح سوى كسرة حزن وماض عجّ بالجياع. " ص

لقد استشعر الكاتب حسن إبراهيمي، استشعار الفنّان المرهف، الذي يغوص في الواقع المعيش، إلى درجة الذوبان في مآسيه، والتي يتحوّل عندها الموت إلى بعث جديد. فالموت لا مكان له في عيون الشهداء، فّهم أحياء في الدنيا والآخرة، مصداقا لقوله تعالى: " ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون. " (169 / آل عمران). إنّهم يضحون بأنفسهم من أجل الآخرين، لينالوا حياة النعيم والخلود. " لا يرقد الموت في عيون الشهداء " ص 13

و مهما يكن، فبقدر ما كان أسلوب الكاتب متخما بأسلوب البيان والبديع (تشبيهات، طباق، مقابلة، جناس) وأسلوب المجاز اللغوي، وخاصة الاستعارات المكنيّة والتصريحية، وبالصور الشعريّة في قالب نثريّ. لم تخل شذرات الكاتب من ظاهرة الغموض. وهي ظاهرة، أصابت الشعر العربي الحرّ المعاصر (شعر التفعيلة)، حين لجأ بعض الشعراء المعاصرين إلى توظيف الأساطير الشرقيّة والرموز المختلفة، ظنّا منهم - أو ربّما يقينا - في إدخال عناصر جديدة في القصيدة العربيّة، على مذهب القصيدة الغربيّة، وإحداث زلزلة مدهشة في هرم الشعر العربيّ المعاصر.

إنّ القاريء المتأمّل والمتمعّن في شذرات الكاتب حسن إبراهيمي، ليكتشف لديه، روحا شعريّة وملكة لغويّة وقدرة على تطويع اللغة وتوظيفها مجازيّا، إلى درجة التلاعب بألفاظها والتشويش بها على ذهن المتلقي وحواسه. فتتغيّر مسارات الألفاظ لديه في تفاعل كيماوي، ممّا يجعل المتلقي، يقف هنيهة، ليتساءل: ألم يكن من الأحرى بالكاتب حسن إبراهيمي، كتابة القصيدة بدلا من هذه النصوص النثريّة، التي سمّاها " شذرات " ؟

و ليتأمّل معي القاريء الكريم، هذه الشذرات، التي أختم بها.

" أعارك النوم لأتجنب حلما يرحب به الانتظار. " ص 18

" لما ترهلت الحرية اختفت أمام باب المستحيل.. استنشقت أنياب السماء.. استنارت بذكريات غيابها في الفراغ.. كم تحتاج من عيون للسباحة في وجه الأسد ؟ " ص 18

" خدوش الزمان العصيب ببلادي موحشة. " ص 18

" بشارع عصيب لم تكترث لصراخ كسرة خبز..ولما استخفت بجبهة الشقاء.. شحذت الشجون سواعدها لاستقبال الدماء. " ص 21

" ضحكت الشمس ولم تغلق بابا يأمر بموت الظلام.. لم ترتدِ ثياب موسيقى كسؤال الغياب.. ولم تجْنح لمشاعر الليل.. ولا لبحر تحلل في حسام أغنية تستشرف ميلاد الوطن. " ص 26

" في أكياس الهجرة يحمل البحر أشلاء وطن جريح. " ص 29

" لن يستسلم اغترابي.. مهما ابتعدت في منفاي.. لن يستسلم لانتصاب المنعرجات.. أو لضغط أي انحناء اتقد في كل طريق اتخذته لأنشد حكاية عن اغتراب شمس بلدي لكل طفل يحمل حقيبة مسَد وهو في الطريق إلى ما تشتعل به ذاكرة وطن ليحرر أهله من الطغيان. " ص 30

" أحيانا يجب الرجوع إلى الماضي , للبحت عن قربان نقدمه لكل لحظة تنتصب بحثا عن عرين تجهم بالزمان. " ص42

" ترفض الأرض السير في الظلام لترتل للورى تباشير الصباح. " ص 46

" انطفأت زوابع الحمل.. واشتدت عيون الدسائس.. وانتصبت القضية تصرخ في وجه الظلام. " ص50

" الينابيع.. تحررت أطلال سيجت خيما بأوتاد الهزائم، فوق أحزاننا وقفت بدون اشتهاء.. فزغرد عربون الحرية مهللا لطيف الانتصار. " ص 59

" بدون وقود اشتعلنا، كأن أجسادنا حطب أممته النار ".ص 60

" انتهت علامة الاستفهام.. غير أن السؤال لم ينته بعد " ص 62

" واهم من يعتقد أن النصر سيفتح أبوابا بدون نساء، فالحرية علق ما لم تكنسه النساء في بقايا المتحف بدماء الشهداء." ص 65

" إذا كان الستار ناقصا فلنستتر بالعرض، فالعري عري العرض. " ص.74

" بئس حدث أيتها المعركة.. فالسيوف تضاءلت أغمدتها.. انهمرت دموعا.. وتراجع صهيل الخيل.. فارتدى الفرسان عِمامات الهزيمة. " ص 83

" فتحت الباب لأحدق في سيف العرب، فوجدته يرقص في مرفإ الظلام. " ص

84

" أكلما أتعبتك الدروب يا وطني تعود لتمتطي صراخ الفقهاء.. باسم الله نهبتم كل شيء.. لكن أبدا لن تفلحوا في نهب النوم في عيون الأبرياء.. باسم الله نهبتم خيراتنا.. وباسمه لم يبق للأرجوحة أي مكان في أحلام أطفالنا.. وباسمه تعب هو إياه في عليائه.. فحيثما تمطر تقصوا شعبا ظل يتدحرج خلف فرس امتطاه الله. " ص 92

" سقط التاريخ العربي وسط خيمة، أعمدتها تنهك الانتصاب بين الشعاب. " ص 98

" حينما بدأ قميص عثمان يعوي فوق النعش سكب أعرابي ماء ليستظل القميص لكن لا وجود لأثر المعركة. " ص 99

" ترفض الرسالة حمل خبر لا يطرح السؤال " ص 104

" أعاقر كل محرر حين يسيل في شقوق الشمس.. ليصلى سلاما لعار وطن وزعته خرائط الأطفال بجدران المذكرات. " 114 / 115

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي - الجزائر

رأينا في المقال التاسع من هذه السلسلة الدراسيَّة في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، حكاية البطل مع ذلك الناسك الغريب الأطوار.  ونكمل اليوم القول إنها كانت قد انتهت بهما الرِّحلة إلى أرملةٍ محسِنة، يعيش معها فتًى قريبٌ لها في الرابعة عشرة من عمره، جميلٌ محبٌّ، كان أملها الوحيد.  فضيَّفتْهما بأحسن ما استطاعت. ولمَّا كان الغد أَمَرَت الفتى أن يَصحب المسافرَين إلى جِسرٍ أصبح عبوره خطرًا.  مضى الفتَى أمامهما، حَفِيًّا بهما، فلمَّا بلغوا الجِسر، قال له الناسك: "أَقْبِلْ؛ فإنِّي أُريد أن أشكر لعمَّتك صنيعها."  ثمَّ أخذ بشَعره وألقاه إلى النهر.  فصاح به (صادق): "يا لكَ من وحش!  يا لكَ من مجرم، لم يرَ الناس مثله!"  قال الناسك: "لقد وعدتَني أن تصبر على ما ترَى.  فتعلَّمْ أنَّ تحت هذه الدار، التي دمَّرتْها القُدرة الإلهيَّة، كنزًا عظيمًا، قد ظفِر به صاحبها.  وتعلَّمْ أنَّ هذا الفتَى، الذي قتلتْه القُدرة الإلهيَّة، لو عاش، لقتلَ عمَّته بَعد عام، ولقتلكَ أنت بَعد عامَين."

ثمَّ تحوَّل الناسك إلى مَلَكٍ كريم، هو المَلَك (جسراد)، وأخذ يفسِّر لصادق الأسئلة التي كانت تشغل فكره حول القَدَر، ثمَّ صعدَ إلى السماء العاشرة.(1)

وقِصَّة (صادق) مع الناسك واضحة الشَّبَه بقِصَّة النبيِّ (مُوسَى) مع (الخِضْر)، التي قصَّها "القُرآن" في "سورة الكهف"(2).  ويُلحَظ أنَّ (فولتير) قد صاغ القِصَّة كما هي في "القُرآن"، مع بعض التغييرات، مثل جعله الناسك- الذي أورده في دَور (الخِضْر)- مَلَكًا.  إلَّا أنَّ دَور (الناسك والخِضْر) في القِصَّتين كان واحدًا، وهو تنفيذ القَدَر الإلهيِّ في المخلوقات.  في خِطابٍ يسعى- بحسب منطقه الخاصِّ- إلى الحِجاج بأنَّ وراء بعض الأحداث أسبابًا غيبيَّة، يعجز عقل الإنسان عن إدراكها، بل قد يراها بنقيض حقيقتها.  وأمام الاستغراب والتساؤل يقوم بطل الحكاية (الخِضر/ الناسك) بالتبرير والتفسير لما اقترفَه من أعمال، تبدو في ظاهرها خاطئة.  وإنْ ظلَّ التبرير والتفسير نفساهما ميدانَي تساؤلٍ أيضًا واستغرابٍ من (مُوسَى/ صادِق).

ومع أنَّ (فولتير) قد جعل من الناسك مَلَكًا، ممَّا لا نجده في «القُرآن»، فإنَّ شخصيَّة (الخِضْر) القُرآنيَّة قريبةٌ من صِفَة الملائكة.  بل تَذْكُر بعض التفاسير القُرآنيَّة، التي تطرَّقت إلى الخلاف حول حياة الخِضْر: أنَّ الخِضْر حَيٌّ؛ لأنَّه شَرِب من عَين الحياة واغتسل من مائها.(3)  وأيًّا ما كان الأمر، فإنَّ شخصيَّة الناسك الملائكيَّة تُشْبِه شخصيَّة الخِضْر في تصوُّر بعض المسلمين إلى حدٍّ بعيد.

وقد جعل (فولتير) الناسكَ هو الذي يسعَى لصُحبة الفتَى (صادق)، على حين أنَّ ما في قِصَّة «القُرآن» قد جاء على العكس؛ فالفتى (مُوسَى) هو الذي سعَى إلى أن يصاحِب (الخِضْر) ليتعلَّم منه ما لم يُحِط به عِلمًا.

ويُلحَظ أنَّ الأعمال التي قام بها الناسك أربعة:

* سرقة الصَّحن الذَّهبي المرصَّع بالجوهر من قَصر الغنيِّ المتكبِّر الذي أكرمهما.

* تقديم الصَّحن مع دينارَي الذهب إلى الغنيِّ البخيل وخادمه.

* حرق دار الفيلسوف الفاضل الذي أكرمهما.

* قتل فتَى الأرملة المُحسِنة الفاضلة. 

أمَّا الأعمال التي قام بها (الخِضْر)، فثلاثة فقط، هي: خَرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار.  وإنْ كان العملان الأوَّلان للناسك بمثابة عملٍ واحدٍ، هو: سرقة الكريم وإعطاء البخيل؛ للحكمة التي زعمها.

ومهما يكن من أمر، فسنعرف، في المقال الحادي عشر من هذه السلسلة، كيف تصرَّف (فولتير) في هذه القِصَّة القُرآنيَّة وحوَّرها لتلائم مراميه.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

أستاذ بجامعة المَلِك سعود

...........................

(1)  يُنظَر: فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 125- 126.

(2)  الآيات 65- 82.

(3)  لكنَّ فريقًا من المفسِّرين يحتجُّ في الردِّ على ذلك بحديثٍ للرسول، هو أنه: "رُوِي أنَّه صلَّى العِشاء ذات ليلةٍ، ثمَّ قال: أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنَّ رأس مئة سنةٍ منها لا يبقَى ممَّن هو اليوم على ظهر الأرض أحد"؛ فيقول هذا الفريق: إنَّ (الخِضْر) لم يكن ليعيش بعد مئة عام من تاريخ وجوده. (يُنظَر: أبو السعود، (د.ت)، تفسير أبي السعود، (بيروت: دار إحياء التراث العَرَبي)، 5: 239).  وهو احتجاجٌ لا معنى له لدَى من آمَنَ بأنَّ الخِضْر شخصيَّةٌ استثنائيَّةٌ، وليس كسائر الناس.

المبدع فرد من المجتمع يتطلع إلى تفاصيله ويتابع مستجداته بعين فاحصة وناقدة، يسجل أدق الوقائع بأسلوب فني يغري القارئ الذي تناط إليه عملية الفهم والتأويل؛ في هذا السياق تقدِّم مجموعة (صخب يمزق سكون الليل) خمسا وعشرين قصة قصيرة نتيجة لتفاعلِ القاص أحمد بلقاسم مع قضايا الواقع أبرزها ما ألمَّ بالعالم وأدخلَ البشرية في تجربة فريدة مسّت مستويات مختلفة، منها الاجتماعي والنفسي والاقتصادي... إنه ظهور فيروس كورونا أو كوفيد 19 الذي أرعب البشرية بمضاعفاته الخطيرة التي أودت بحياة عدد هائل من الناس، والذي خصص له القاص سبع عشرة قصة يتناول فيها كل التفاصيل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية المستجدة مع هذا الوباء المستجد الذي حيّر العلماء والأطباء والمسؤولين، وأرعب الناس العاديين ولم يفرق بين غني وفقير أو كبير وصغير، أو رجل وامرأة؛ إنه الوباء الذي شغل سكان الكرة الأرضية، فكيف لا يثير اهتمام المبدع الذي يُفترض فيه أن يكون شاهدا على عصره بقلمه المبدع الذي يستقصي الوقائع والتغيرات الطارئة على المجتمع في ظل الجائحة.

إن القاص أحمد بلقاسم على غير قصصه السابقة يدخلُ تجربة جديدة تتسم بكثير من التحدي الذي يتجلى في تحويل (ظرف مستجـد معقد) إلى مادة إبداعية يخصص لها عددا مُهِمّا من القصص بروح مرحة ولغة أنيقة، وسخرية هادفة؛ هنا يمكننا أن نسأل لِمَ لَمْ يقتصر على عدد محدود من القصص؟ ذلك لأن الظرف المستجد خَلْخَلَ حياة الأفراد بكل فئاتهم وتناسلَ منه ما لا يمكن حصره في قصة أو قصص محدودة؛ وهذا نستشفه من استعانة الكاتب بمعجم متنوع مرتبط بأحداث ومواقف مختلفة ومرتبطة بشخصياتِ فئاتٍ مختلفة من الناس، لكنها كلَّها خرجت من رحم كورونا، وهذا يدل على أن الكاتب استوعب جيدا ما طرأ على المجتمع وما أصبح حديث الناس بكل فئاتهم وشغـل مسؤولين في قطاعات مختلفة، من ذلك مثلا (كورونا – الفيروس – عقار – أنبوب الأكسيجين – الحظر – طير الليل [الخفاش] – السعال – درس عن بعد: الواتساب، الكاميرا – المستشفى – القايدة: [ممثلة السلطة التنفيذية داخل نطاق نفوذها] - الكمامة – التعقيم – ممرضة – السرير – الطبيب – النظافة بالماء والصابون – التلفزة الكورونية – أعوان السلطة والقُيّاد والشرطة – حظر التجول – صندوق كوفيد 19 – رخصة التنقل – حالة الطوارئ – الحجر الصحي – الإسعاف -الحقنة – مركز تلقيح ضد كورونا - القبر – حفار القبور - العلاج – الخطر – عملية).

يمتد هذا المعجم في أغلب قصص المجموعة، وهو الخيط الرابط بينها، والنسيجُ الذي يحوك القصص كتبها المبدع أحمد بلقاسم تحت تأثير حدثٍ طارئ ومباغت ومحيِّـر لا يحسنُ التهاونُ إبداعيا في تحويله إلى شهـادة أدبية على الظرف الاستثنائي الذي أوجد خطابا مهيمنا على الشارع بشكل يومـي.

يتنقل القاص أحمد بلقاسم في (صخب يمزق سكون الليل) بقلمه المبدع من موقف إلى موقف ومن مجال إلى مجال، ومن وسط إلى وسط، حيث اكتسح الفيروسُ المستجدّ كل مناحي الحياة الاجتماعية بشكل خلل الاستقرار النفسي للأفراد وبث الرعب والهواجس في النفوس، ولم يَفُتْه أن يُحَوِّل بعض المواقف إلى مادة فكاهية دالة على الحالة الهستيرية التي انتابت عددا من فئات المجتمع التي لم تستوعب حجم الكارثة وأصبحت تُفزع بمجرد سماع سعال أو عطاس خوفا من انتقال العدوى، وتأثرت بأخبارٍ بعضُها أُسيءَ فهمُه، وبعضها زائف مثل "نسبة سبب ظهور فيروس كورونا إلى الخفافيش"، و" أن هذا الفيروس مذكور في القرآن"، و"ظهور مشعوذين يَدَّعون إيجاد عقـار فعال ضد الفيروس" وأن هناك " خطة للقضاء على المسنين من أجل تشبيب المجتمـع"....

يرصد الكاتب أيضا محاولة الناسِ التأقلمَ مع ما أفرزه الوضع الجديد من حَجْرٍ صحي (المعقل الإجباري)، وحظرٍ للتجول، ومنعِ التجمعات، وارتداء الكمامة، والتباعد، وعدم التصافح والتزاور، وضرورة الحصول على رخصة للتنقل للإدلاء بها لرجال السلطة الذين يجوبون الشوارع من أجل مراقبة تطبيق التدابير الاحترازية المفروضة على المواطنين، والبحث عن أنشطة ترفيهية لمقاومة الملل، والحملات التحسيسية عبر (التلفزة الكورونية) التي تدعو المواطنين إلى اعتماد النظافة بالماء والصابون، والإقبال على أخذ حقنة التلقيح والتوجه إلى المستشفى فورا في حال الإصابة بالعدوى، وما رافق ذلك من وقائع غريبة ومضحكة أحيانا أبطالها ناسٌ بسطاءُ يخوضون في تفسير ما يجري بوعيهم البسيط فتنقلب الحقائق لديهم، وأحيانا يتداولون الإشاعات التي تنتشر كالنار في الهشيم، وأحيانا أخرى يقعون بين يدي السلطة فيكون عليهم تبرير خرقهم حظرَ التجول.

ولأن (الفيروس اللعين) لم يستثنِ قطاعا من القطاعات التي لم يعدْ سيرُ العمل فيها عاديا كما كان في الأيام العادية؛ فإن قطاع التعليم أيضا لم يسلم من تبعات هذا الوباء، فكان أنْ تَوَقَّفَ (التعليم الحضوري) واعتمد ما سمي بــ(التعليم عن بعد) ليدخل رجلُ التعليم تجربة مفاجِئة يكون فيها التواصل مع المتعلمين عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها تطبيق (الواتساب/ whatsapp) الذي يَعتمد على بعث الرسائل الصوتية والكاميرا، هنا يجد المدرسُ حديث العهد بمثل هذه التطبيقات والأجهزة الذكية العجيبة صعوبةً في التكيُّف مع الوضع الجديد، ويتواصل مع تلامذته من محل إقامته وهو بين أهله الذين يستغربون طبيعة التعليم الجديد الذي تتخلله مواقف تثير الغرابة والضحك أحيانا:

" الزوجة من المطبخ:

- ما سر هذا الصمت!

- الأستاذ: أي صمت؟

- صمتكَ عن مواصلة درسك مع مستقبليك من التلاميذ!

- الأستاذ: فاصل إشهاري ونواصل!

- كيف؟ حتى الواتساب يدرج الإشهار!؟

- لا.. لا.. يا عزيزتي.

- ما مصدر الفاصل الإشهاري؟

- فقط أحد تلاميذي طلب مني مهلة استراحة..

- استراحة وهو غارق فيها!؟

- استراحة للمراجعة.

- مراجعة ماذا؟

- مراجعة الثلاجة، ولم يطفئ الكاميرا، بل صحب اللوحة معه، وجاب بها المنزل...." (درس عن بعد).

يمتد هذا الاهتمام بالواقع وإشكالاته فيما تبقي من قصص المجموعة، بالعين الفاحصة ذاتِها وبالنقد المبطن بالسخرية أحيانا لكلِّ ما هو منافٍ للعقل والعدالة الاجتماعية والإنسانية، إنه أسلوب درج عليه عدد من كبار السرد العربي الحديث مثل زكريا تامر.

أما من حيث البناء فالمجموعة استمرار للأسلوب القصصي الذي عهد القارئُ عليه قصصَ المبدع أحمد بلقاسم فالشخوص من البسطاء الذين يجد الكاتب فيهم ضالته في الكشف عن القضايا البسيطة في ظاهرها والعميقة في جوهرها، يستنطقُها ليُشَكِّل رؤياه النقدية بأسلوب مرح ولغة غاية في الأناقة والصفاء، يعتني بها عناية الأب بفلذات كبده فتبدو مرآة لما يشغل الناس في شتى مناحي حيواتهم، فاسحا لهم المجال في الكلام ليقربهم إلى القارئ فيكون التكثيف موحيا، ويكون الحوار أداةً مهمة لديه للتعريف بهم وبصفاتهم النفسية والفكرية والاجتماعية وبقضاياهم والتحديات التي تواجههم.

هكذا يكون المبدع أحمد بلقاسم في هذه المجموعة الجديرة بالاهتمام، قد أضاف لبنة مهمة إلى مُنجزه الإبداعي القصصي، الذي دأب على تشكيله عبر خمس مجموعات قصصية استطاع من خلالها أن يُشكل صوته المتميز ويثابر على تطويره من دون السقوط في التكرار والنمطية.

***

بقلم: ميلود لقـــاح

يعد توظيف الشخصية التراثية أحد الوسائل التعبيرية التي يستخدمها الشاعر الحديث للتعبير عن تجربته الإبداعية والمعرفية على حد سواء، وليست التجربة الإبداعية منفصلة عن رؤية الشاعر، الامر الذي يؤكد تفاوت الشعراء في كيفية النظر الى الواقع المعاصر والى التراث في الوقت نفسه، ويقود هذا الى تغاير في طبيعة النظر للشخصيات التراثية وكيفية توظيفها معرفيا وفنيا.

ان توظيف الشخصيات التراثية يمنح (القصيدة المعاصرة طاقات تعبيرية لا حدود لها... ولقد ادرك الشاعر المعاصر انه باستغلال هذه الإمكانات يكون قد وصل تجربته بمعين ينضب من القدرة على الإيحاء والتأثير)[1] وبهذا يتجاوز الشاعر الحديث النزعة الغنائية المهيمنة على الشاعرين الاحيائي والرومانسي، من اجل إضفاء قدر من الدراما والتعبير من خلال الشخصيات التراثية واستخدامها (قناعا) للتعبير عن نزعته الذاتية التي يريد لها ان تختفي خلف هذه الشخصيات التراثية والاقنعة، ويحملها رؤاه وافكاره ومواقفه السياسية. وبهذا يتجاوز الشاعر الحديث الشاعر الاحيائي الذي يعمد الى محاكاة الشخصية التراثية واستعادة حضورها، في حين يعمد  الشاعر الحديث الى خلق جديد  للشخصية التراثية بحيث تعبر عن امرين مزدوجين، أولهما: المحافظة على بعض ملامح الشخصية التراثية، وثانيهما: يحمل رؤية الشاعر الحديث، فيعبر (الشاعر / الشخصية التراثية) عن معاناة معاصرة.

واذا كانت القصيدة الاحيائية تحاكي التراث الشعري في اوزانه وقوافيه وصوره البلاغية بشكل تبدو صوره موازية للتراث الشعري فان الشاعر الحديث يعيش عالما اخر، وأصبحت تجربته اكثر تعقيدا وشمولا وغموضا وتشابكا، الامر الذي دفعه الى التعبير عن هذا التغير بأدوات جدية، فعمد الى تغيير الاوزان والقوافي وفي التعبير بالصور الشعرية التي تنسجم مع طبيعة التغير الحاصل في العالم، وتنسجم مع طبيعة التجربة الشعرية التي تريد التعبير عنها.

ويعد توظيف الشخصية التراثية احد مكونات (القناع) الذي يحدده عبد الوهاب البياتي بانه (الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجردا عن ذاتيته) [2].وهذا يعني ان توظيف الشخصيات التراثية يعد (معادلا موضوعيا) لتجربة الشاعر الذاتية، وقد تبلور هذا المصطلح لدى ت. س. إليوت الذي اكد في اثناء حديثه عن الشاعر فاليري بان (مركز القيمة قائم في الانموذج الذي نصنعه من مشاعرنا وليس في مشاعرنا نفسها، فالقصيدة التي يكتب لها البقاء ليست نتاج سكب العواطف الذاتية، اذ ان الطريق الوحيدة للتعبير عن العاطفة انما تكون بالعثور على معادل موضوعي).[3]

وقد يضمن الشاعر التقليدي قصيدته  شخصيات تراثية بأسمائها واقوالها وافعالها، لا على أساس انها جزء ملتحم مع البنية التكوينية والوجودية للنص الشعري، وانا لمجرد كونها (إشارة) يزين بها قصيدته، ومن ثم فان الشخصية لا تعدو ــ هناــ سوى تسجيل خارجي واضفاء معرفي شكلي.

ويختلف الامر تماما في توظيف الشخصيات التراثية عند شعراء الحداثة، اذ يصبح التوظيف جزءا من بنية النص الشعري و جزءا معبرا عن رؤية الشاعر، بحيث تسهم في تعميق الوعي فضلا عن تأثيرها في النص من حيث ايقاعه ولغته واستكمال صوره وفي التأثير بالمتلقي بدهشته وانبهاره بالمضامين الجديدة.

2

كان مظفر النواب يعيش واقعا خاصا يؤثر في حساسيته الشعرية، وفي تعميق وعيه بالتراث، وبخاصة ان باصرة مظفر النواب تلتقط صور الواقع الذي يعيش فيه من ناحية، والتجسيد التاريخي الذي يشاهده في المواسم الدينية من ناحية اخرى، ان مدينة الكاظمية التي يعيش فيها الشاعر زودته بمشاهد الواقع التعيس الذي يعيشه الانسان، وجعلته يبصر تجسيد التراث التي يعيد صياغتها المجتمع الشيعي لواقعة حدثت قبل اكثر من الف عام في  احتفالية فريدة، اذ لا يخفى ان منزل مظفر النواب بخصائصه الارستقراطية كان جزءا من استعادة الماضي، بحيث يكون خلفية مسرحية مزدانة بالديكور، فلقد كانت أبواب بيته الخشبية الضخمة (تشبه أبواب القلاع تتسع لدخول مواكب عاشوراء بالخيول والاعلام والمشاعل، فكانت تدخل من باب لتخرج من الباب الثاني،... وكان اهل الدار يرشون ماء الورد على المواكب التي كانت تدخل البيت وهي تردد بصوت هادر الاهازيج والردات الحزينة والاشعار والتراتيل... ان هذا المشهد المشبع بالحزن والاسى ولطقوس المثقلة بالرهبة والخشوع كان يتكرر سنويا داخل البيت في عاشوراء مما ترك بصماته في بعد في شعر النواب وذكرياته) [4].

كانت عيون مظفر النواب تقتنص التجسيد التمثيلي لاستعادة الماضي وتكرار خلقه من جديد، ولا ريب انه وبسبب حساسيته المفرطة في طفولته وبسبب حساسيته الثورية بعد انتمائه للحزب الشيوعي العراقي، جعلته ينحاز الى الانسان البسيط في مجتمع الكاظمية، وينحاز أيضا الى الثائرين في التاريخ الذين عبروا بصلابه وصدق عن مواقفهم حتى الاستشهاد، ولذلك ادرك الواقع بازدواجيته الثنائية، الماضي / الحاضر.

ولقد اثر هذا كله في رسم ملامح توظيف الشخصية التراثية في شعره ونثرة على السواء، يقول مظفر النواب:[5]

اما انا فلا اخلع صاحبي

عاشرته وخبرته وعرفيته

ولذا لا اخلع صاحبي

يستعيد هنا الشاعر مهزلة التحكيم التي حصلت بين ابي موسى الاشعري وعمرو بن العاص، حيث تمكن عمرو من خداع الاشعري  ليخلع صاحبه الامام علي من الخلافة، ولكنه يعيده بشكلها المخالف تماما، واذا كان الاشعري قد خلع صاحبه فان مظفر النواب ـــ هنا ـــ يرفض خلع صاحبه،اما انا فلا اخلع صاحبي، وقد برر سبب الرفض الى معرفته وخبرته ومعاشرته، بمعنى ان الوعي يسبق المواقف.وبهذا يستعيد موقفا وفعلا وعبارة، ولكنه يوظفها بالتضاد من موقف الاشعري، من خلال ظاهرة تناصية لا تعتمد الاقتباس الساذج وانما تفجر دلالات جديدة في النص الشعري الحديث، وتضفي عليه ملامح ثورية جديدة.

ان الشاعر لا يتحدث هنا عن الاشعري وانما يتحدث عن قضية سياسية معاصرة، تعاني من ارهاصات الهزيمة والتنازل في لحظات ضعفها.وبقي الشاعر وفيا لثوابته الفكرية مهما كانت الصراعات والدسائس التي تحك ضدها.

ان انحياز مظفر النواب للرفض هو جزء من تكوينه اليومي،ولكنه يعضده برفض تراثي، ولذا فانه ينحاز لحركة القرامطة  الصورة الاشتراكية التي حاول تجسيدها الحسين الأهوازي، وحمدان قرمط، وهما يطوران النضال في الفكر الإسماعيلي الذي تميز بأصالته ورموزه الباطنية العميقه، يقول:

من هذه الأرض ابتدأت دعوة ابتدأ بها إسماعيل، ثم تلاقفها القرامطة، وانا قرمطي، أولئك قالوا مشاعة الأرض ومشاعة السلاح ولكن لم يقولوا مشاعة الانسان، وانا أيضا مع مشاعة الأرض ومشاعة السلاح ولكني لست مع مشاعة الانسان.[6]

ويزاوج مظفر النواب بين تفرد العشق وتكامله من ناحية واتقان المعرفة من ناحية ثانية، فلقد اصبح تلميذاً للحسين الأهوازي في الصف الأول في مدرسة القرامطة، وكان الاهوازي ثوة تحكي في المهد: [7]

في العاشر من نيسان تفرد عشقي

اتقنت تعاليم الاهوازي

ووحدت النخلة والله وفلاحا

يفتح نار الثورة في حقل الفجر

تكامل عشقي

....

ووقفت امام القرن الرابع للهجرة

تلميذا في الصف الأول

يحمل دفتره، يفترش الأرض

يعرف كيف تكلم عيسى في المهد

فان الثورة تحكى في المهد [8]

ويقول:

كيف نسينا القرن الرابع للهجرة ؟ كيف نسينا التاريخ ؟

كان القرن الرابع للهجرة فلاحا يطلق في اقصى الحنطة نارا

ويحدد مظفر النواب انتماءه:

انا انتمي للفداء

لرأس الحسين

وللقرمطية كل انتمائي [9]

اما الامام علي فيحتل مكانة خاصة لدى مظفر النواب، فهو ملك الثوار، وان التآمر عليه انما هو تآمر على كل الثورات والثوار، وهو الرمز المطلق، ينتمي اليه وينحاز له: [10]

انا انتمي للجياع

ومن سيقاتل

انا انتمي للمسيح

المجدف فوق الصليب

لمحمد

شرط الدخول الى مكة بالسلاح

لعلي بغير شروط

انا انتمي للفداء

لرأس الحسين

وحين يعيش مظفر النواب الغربة في المنفى يحلم ان يستذكر اوجاع بلاده  العراق، المضمخ بدماء الشهداء في الحديث والقديم، ولذلك يستودع أحلامه لطائر البرق الذي يمثل رمزا للوعي، كي ينقل الى وطنه تحياته وسلامه: [11]

أحمل لبلادي

حين ينام الناس سلامي

للخط الكوفي يتم صلاة الصبح

بإفريز جوامعها

لشوارعها

للصبر

لعلي يتوضأ بالسيف قبيل الفجر

أنبيك علياً

ما زلنا نتوضأ بالذل

ونمسح بالخرقة حد السيف

وما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف

ما زالت عورة عمرو بن العاص معاصرةً

وتقبح وجه التاريخ

ما زال كتاب الله يعلق بالرمح العربية

ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء،

يؤلب باسم اللات

العصبيات القبلية

ما زالت شورى التجار، ترى عثمان خليفتها

وتراك زعيم السوقية

لو جئت اليوم

لحاربك الداعون إليك

وسموك شيوعا

ويرسم مظفر النواب لوحة فنية يتداخل فيها المكان بالرؤية وبالتكرار الايقاعي، بمعنى ان خلفية اللوحة ترسم ويتم اسقاطها على الشخصيات التراثية سمات عصرية.4754 النواب

وتتجلى أهمية التكرار الايقاعي وامتزاجه بالصورة وتفرع منهما التلوينات والدلالات كصور عنقودية:4755 النواب

وتصاحب هذه التلوينات دلالات مصاحبة تتفجر فيها اللغة  ضمن استعارة كبرى للدلالات الجمالية والمعرفية للنص الشعري،اذ يمتزج الفني بالمقدس، فالخط الكوفي يتم صلاة الصبح، إذ يضفي على هذا الفن الرفيع والاصيل من فنون العرب، أقول يضفي عليه مظفر النواب دلالة انه يؤدي صلاة الصبح، وكذا الامر حين يتحول الوضوء من الماء الى الوضوء بالسيف كما هو في قوله: لعلي يتوضأ بالسيف قبل الفجر، والملاحظ ان الشاعر هنا يجعل من الصبح والفجر زمانين يمتزج بهما الفني والثوري من ناحية بالمقدس من ناحية ثانية.

ان مظفر النواب يتحدث عن خندقين، خندق جند علي الذين مازالوا ــ كما في التاريخ ــــ يتحججون بالبرد وحر الصيف، وهو خندق الفقراء، والخندق الاخر هو خندق الطبقة الارستقراطية التي يقودها دينيا  وتاريخيا أولئك الطارئون على الوعي.

موقفان متعارضان، موقف الامام علي زعيم الفقراء والبسطاء، وموقف الارستقراطية التي لا زالت تمتح دينيا من الصنمية الفكرية، ومن الطبقية القبلية ، ويعتمد الشاعر في توظيف التلوينات الصوتية واللونية، فلقد اضفت اللحية الصفراء لابي سفيان دلالات المكر والدهاء، وكذا تأليبه العصبيات القبلية بحسب عبادة الاصنام، في حين يمثل الامام علي نقاء الدين وروحيته وثوريته، مؤكدا المساواة بين الناس جميعا، ولذا فان الأغلبية السوقية هي التي تتبنى الامام علي زعيما وقائدا، تم تأتي الومضة الأخيرة

لو عدت اليوم لحاربك الداعون اليك

وسموك شيوعية.

***

ا. د كريم الوائلي - أستاذ جامعي

ومدير عام سابق في وزارة التربية العراقية

........................

[1] علي عشري زايد، استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر،الشركة العامة للنشر والتوزيع والاعلان، طرابلس، 1978،  ص 16.

[2] عبد الوهاب البياتي، تجربتي الشعرية، دار العودة، بيروت،1990، ص 37.

[3]  ف. أ. ماثيسن، ت. س. اليوت الشاعر الناقد، ترجمة احسان عباس مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، بيروت، نيويورك، 1965، ص 132.

[4] باقر ياسين، مظفر النواب حياته وشعره،دار الغدير، قم، 2003، ص 16.

[5] https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=562641

[6] https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=562641

[7] باقر ياسين، مظفر النواب حياته وشعرة، ص 253.

[8]  باقر ياسين مظر النواب حياته وشعره، ص 124

[9] مظفر النوب، الاعمال الكاملة، دار فاروس للنشر، القاهرة، 2012 ،  ص 158.

[10] نفسه، ص 174 ــ 175.

[11] مظفر النواب الاعمال الكاملة، ص 155 ــ 157.

 

كان لنكسة 1967 أثرا بالغا على الشخصية العربية حيث أصيبت بالاهتزاز وحل الشك محل اليقين وسقطت الكثير من القيم. وفيما بعد انهيار الإتحاد السوفييتي وحرب الخليج والعالم الذي أصبح أحادي القطبية تسيطر عليه الولايات المتحدة الرأسمالية. والراحل مؤنس الرزاز السياسي القومي الروائي الذي ولد في جو سياسي بحت، وتشرب السياسة حتى الثمالة، كان الأقرب لهذه الأحداث. فوالده منيف الرزاز الطبيب السياسي القيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي الذي ذاق ويلات الاعتقالات والنفي وانتهت حياته وهو في الإقامة الجبرية التي فرضها عليه رفاق حزبه الذي كان يوما يمثل العائلة بالنسبة لمؤنس. وكان لهذا المزيج من النكسات سواء على مستوى العائلة أوتلك التي أصابت الواقع العربي والعالم برمته أثرا أنتج لدى مؤنس الروائي رؤية لا يقينية للعالم فلسفتها التمرد على التحديد والتصنيف وجماليات الوحدة والتماسك في الرواية التقليدية. أما النتيجة فكانت نوعا جديدا من الكتابة كفعل مقاوم يعيد النظر في كل شئ ويسعى إلى تأسيس وعي جمالي جديد، تشظى فيه السرد واضمحلت أدوار الشخصيات وتفتتت الأزمنة والأمكنة مع غياب الحبكة القائمة على مبدأ التسلسل والترابط والمنطقي حيث سادت فيه الأحلام والكوابيس واللامنطق والإنشطار والتشظي والشروخات وبالتالي سريان القبح طيلة صفحات العمل.

ورواية الشظايا والفسيفساء الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 1994، حالة ممتدة من الانهيارات والخراب والتشظي الذي أصاب الواقع العربي في نهاية القرن العشرين مما لا يخفى من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية انعكست على عالم مؤنس الروائي كما ذكرنا سابقا. فانتقل هذا الخراب والانهيار والتشظي إلى شخوصه وأماكنه وأزمنته.

ففي الكتاب الموسوم ب" الشظايا والشروخ " يفتتح مؤنس الرزاز روايته ص 5بملاحظة تقول: (يقال أن الأوراق "المشظاة" المبعثرة في هذا الكتاب من وضع عبد الكريم إبراهيم. أما الأوراق "الفسيفساء" المفتتة فهي من وضع سمير إبراهيم...والله أعلم!). ولأن شخوص مؤنس الرزاز يعانون حالة من الفصام وهو انشطار الشخصية حيث يؤدي هذا المرض إلى اضطرابات الحالة النفسية مع انقسام في فكر المريض وأفعاله ورغباته. فإن المتلقي لهذا العمل سيكتشف بأنه أمام شخصية مصابة بالفصام منذ البدايات، ويتأكد له الأمر في نهاية الرواية ص124 (في المساء حين ينبطح سمير إبراهيم، أو سمير عبد الكريم أو عبد الكريم سمير، ما الفرق؟) فشخصية سمير إبراهيم وعبد الكريم إبراهيم ما هي إلا واحدة انشطرت لاثنتين سمير وعبد الكريم.

ويتجلى انشطار الذات في رواية الشظايا والفسيفساء من خلال سياق طموحها للوصول إلى حالة الاستقرار النفسي وملء الفراغ. ففي ص8 ما جاء على لسان عبد الكريم الذي ترك بيروت قادما إلى عمان باحثا عن الاستقرار (اكتشفت أن لا مجال لقتل الفراغ والخواء والملل إلا بأسلوبين: إدمان العمل، أو الاستجارة بالخمر).

والتنقل ما بين الماضي والحاضر تنشطر ذات السارد لتصبح الرواية لمحات سريعة من أزمنة متفاوتة وأمكنة متفاوتة أيضا ففي ص67 على لسان سمير(1970 اجتزت الحدود إلى دمشق ثم إلى بيروت 1982 من بيروت إلى قبرص..من قبرص إلى عاصمة الرفاق).

كما أن ما جاء في الرواية في بعض فقراتها من اختلاف التطور الحضاري كان له دور في انشطار الذات ويتضح هذا فيما جاء على لسان عبد الكريم ص12 (القاهرة تستقبل سارة برنار في الأوبرا. وفي هذه المنطقة من العالم كانت بعض القبائل تغزو الخط الحديدي الحجازي. قلت: ثمة تباين في التطور الحضاري).

كما أن اشتغال مؤنس بالتاريخ كان له أثر في توليد انشطار الذات ففي ص9 تحدث عن تاريخ عمان وقال بأنها بلا أصل لأنها كانت تجمع عائلات جميعها تدعي انتمائها إليها كمكان.

ومن تجليات انشطار الذات ما تم خلال استحضار المشاهد والأماكن من ماضي السارد وذكرياته ومقارنتها بالحاضر الذي تسبب بأهم مشكلاته النفسية ففي ص58 على لسان عبد الكريم عن سمير (بدأت ألاحظ أنني أنسى الوجوه وأنسى الحديث الذي بدأت به والأمكنة أيضا تتقمص ملامح غريبة عصية على ذاكرتي. لكنني أذكر صور ووقائع الماضي البعيد بصورة مذهلة . المشكلة تتعلق بالحاضر، أشلاء وشظايا فسفسائية).

كما أن الشعور بالاغتراب والوحدة والرفض عند السارد سمير ما هي إلا نتاج مواقفه الرافضه لكل ذلك الخراب والانهيار الذي أصاب واقعه بل وامتد إلى الواقع العربي فالأحزاب لم تعد أهدافها نبيلة والانتهازيين سيطروا عليها، كما سيطرت الإقليمية الضيقة على التوجهات داخل الحزب. والتحول النضالي الحزبي لدى المناضلين والقوميين إلى الأعمال التجارية والإقتصادية بل ومحاولتهم طمس ماضيهم النضالي.وسيطرة التلفزيون واللاقط والعاب الكمبيوتر على عقول الناس وخصوصا الشباب حتى أن مؤنس توقع أن الكتاب لن يهتم له أحد في القادم من الأيام وهو بالفعل ما حصل. كل هذا وأكثر أدى إلى انهيار وانشطارذاتي لشخوص العمل.

وقد غصت الرواية بأعراض الفصام تمثلت بالتخيلات غير الطبيعية والهلوسات والتوهمات وميل الشخوص إلى العزلة وفقدانهم المتعة تجاه الأشياء وغيرها من الأعراض التي كانت تجلت للمتلقي من خلال الشخصية الرئيسية سمير ووجهه الآخر عبد الكريم.

أما ثيمة التشظي فإنها تحكم قبضتها بقوة على الرواية والتشظي فقدان الروح أثناء تجارب الإنسان مثل التعرض للصدمات النفسية والحوادث والتعرض لخسارات كثيرة. والتشظي في رواية الشظايا والفسفساء كان أحد إفرازات التجربة السياسية التي تعرض لها شخوص روايته وتأثر من حولهم بها. فسمير يؤثر على أولاده وخصوصا ابنته رانية وكذلك أخته سميرة وشخصية سمير كما ذكرنا سابقا تحل محل شخصية عبد الكريم والعكس. فأبطال مؤنس مسكونون بالتشظي حالهم حال الأمكنة التي يتواجدون بها والأزمنة أيضا. ولعل أحد أسباب هذا التشظي القمع السلطوي ومن أمثلته ما جاء على فم الأستاذ الذي استجار بعمان بعد هروبه من مصر وكان نائب الرئيس جمال عبد الناصر ص14 (فتح الأستاذ فمه ليتكلم.. إنه عاجز عن الكلام لأسباب أمنية). فالأستاذ لم يتكلم لأنه خاف على نفسه من قبضة السلطة.

والقمع عند مؤنس تجاوز الواقع ليدخل الأحلام على شكل كوابيس. وتنوعت صور القمع حتى وصلت إلى أفراد الحزب الواحد. فعند زيارة عبد الكريم للدكتور عبد الرحمن اعترف له بأنه يتعاطى أقراص المنوم ليقتل الوقت وحدثه عن كوابيسه الغريبة ومنها اختطاف الرفاق له من حزبه القديم وتعليقه على صليب وتقطيع أصابعه بكل بهجة.

كما وتطرق إلى خيانة الرفاق لبعضهم في نفس الحزب ففي ص67 عن أحد الرفاق (فرّ من أحراش جرش إلى عاصمة الرفاق. استقبلوه استقبال الأبطال ثم أعدموه.

وعن رانية الصغيرة ابنة سمير ص30 التي اكتفت بمحاورة الكبار فقط بحركات الأصابع وتجنبت استخدام اللغة المقموعة (رانية لا تتواصل معي إلا عبر اللعب.. ملامحها تشي أثناء اللعب الصامت بأنها مهتمة جدا ومستغرقة بلغة التواصل عبر الحركة والأصابع..لا عبر اللغة المحكية المقموعة). وهنا اضطر سمير أن يصطحبها معه إلى طبيب نفسي. وعلى لسان سمير ص67 (أخذتها بالقوة وأخذت نفسي أي طبيب أعصاب. قلت له إننا مشوهان). والتشوه هو تشوه للذات التي تشظت وتفتتت بسبب القمع وعدم القدرة عن التعبير الحر.

ومن عوارض التشظي التي سيطرت على شخوص مؤنس والتي تجلت في الرواية المعاناة من الإدمان على الخمر وهذا ما كان بالضبط يعاني منه سمير حتى أن زوجته انفصلت عنه بسبب هذه العادة وأولاده يحاولون منعه من هذه العادة. ومنها ما جاء على لسان سمير ص76 (الصغيرة رانية تقف بالباب وتحدق إلي، تحملق بي،في عينيها فضول ورعب،وأنا أقف على حافة انهيار جسدي ونفسي،وأحدق إلى أعماقي المشظاة المنكسرة..الخمر ملاذ). وفي ص77 على لسان سمير أيضا (أبول على عقبي .أحس أنني متناثر أصبو إلى الاستعاذة بمزيد من مشروب العرق).

ومن عوارض التشظي التي وردت في الرواية أيضا حالة المعاناة من الخدر والقلق واللامبالاة التي كان يعاني منها سمير ففي ص8 عندما كان عبد الكريم يقنع سمير بالانضمام إلى حزبه (قال وهو يتداعى على سريره بلا مبالاة :إن كلامي ليس سوى قصيدة شعر وإنشاء) وهذا الرد ينم عن يأس من واقع الأحزاب وأنها أصبحت مجرد شعارات جوفاء لا طائل منها.

كما أن عبد الكريم الوجه الآخر لسمير يعاني من الضيق الروحي والوهن والفراغ والرغبة في الانتحار وهذا كله من عوارض التشظي. ففي ص16 ما جاء على لسانه (ثمة رياح باطنية لا تهب ولا تندفع. تتوارى في جنين الحاضر الخفي.. هوة سحيقة من الفراغ. أصبح الوقت عدوي الأخطر..تدريجيا لا أدري بالتحديد. بدأت فكرة الانتحار تستحوذ على عقلي).

وفي شظايا الفسيفساء ص67 يكشف الخراب والإنهيار في الوطن (شروخ في فسيفساء الوطن الأم، الوطن الأم يجهض الأجنة، ويئد المواليد) فوطن مثل هذا الوطن مصاب بكل تلك الشروخ والخراب لا بد بأن ينعكس حاله على الحالة السيكولوجية لأبنائه.لذلك كان شخوص مؤنس في رواية الشظايا والفسيفساء انعكاسا لواقعهم المنهار.

بقي أن نقول بان مؤنس الرزاز وجه من خلال الشظايا والفسيفساء نقدا لاذعا لأمور كثيرة منها الإنتخابات النيابية وتحكم العشيرة بها.

كما أنه عرى السلطة وكشف الكثير مما خفي على العامة وأشار إلى الفساد المتغلغل في مؤسسات الدولة. وبعد كل هذا الخراب والانهيار والتشظي والخواء كان لا بد لمؤنس الرزاز بأن ينهي حياة بطله بالإنتحار ففي نهاية الرواية ص133 على لسان سمير إبراهيم أو عبد الكريم إبراهيم. لا فرق كما ذكر مؤنس (أمام فندق الأردن في جبل عمان . وجدتني كالملتاث لا أدري من أين حصلت على البنزين.بدأت أستحم به .سكبته على رأسي وهرعت مثل الومض نحو السفارة الأمريكية. رقصت في غمرة اللهب رقصة بدائية وحشية..فتاة بلا ملامح تحمل ملامح رانية بزغ وجهها من بين اللهب،هتفت تحتج ضد أمريكا.زقالت السفارة الأميركية رحلت من هنا إلى عبدون منذ سنة..وكان أوان اللهب قد فات).

*** 

قراءة بديعة النعيمي

يشتغل الناقد المصري محمد الشحات في مجال النقد الثقافي من خلال مجموعة من الكتب والدراسات نذكر منها: سرديات المنفى، الرواية العربية بعد 1967. الذي صدر عام 2006 عن دار أزمنة للنشر بالأردن، وسرديات بديلة، الصادر عام 2012، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، وكتاب هوامش ثقافية، تأملات في نصوص ومفاهيم نقدية، الصادر عام 2015، عن بيت الغشام للنشر بمسقط، سلطنة عمان. وسنحاول عرض بعض المفاهيم النقدية المرتبطة بنشاط النقد الثقافي عند محمد الشحات.

فمنذ ظهور كتاب النقد الثقافي "قراءة في الأنساق الثقافية العربية" للناقد السعودي عبد الله الغذامي في طبعته الأولى عام 2000 ، والكتابات النقدية العربية تظهر يوميا محاولة تبني هذا المنجز وتطبيق مقولاته في قراءة نماذج من الأدب العربي القديم والمعاصر. شعرا ونثرا ومسرحا وخطابات أخرى منها خطاب الصورة والأغنية وغيرها.

كما إن هناك دراسات نظرية قدم أصحابها شروحا لمعالم النقد الثقافي والتعريف بحدوده المنهجيّة، وعرض المفاهيم والمصطلحات التي تتقاطع معه مثل الدراسات الثقافية والتاريخانية الجديدة والنسق الثقافي وما بعد الكولونيالية. ومن هذه الكتابات منجز الناقد المصري محمد الشحات، الذي سنحاول مقاربة أهم الأفكار والآراء النقدية التي لها علاقة بنشاط النقد الثقافي.

يحاول محمد الشحات أن يقدم باقة من المفاهيم والتعريفات ذات العلاقة بالنقد الثقافي، محاولا الابتعاد قدر الإمكان عن السجال النقدي الذي ساد الخطاب العربي لسنوات والذي كان منصبا على قيمة النقد الثقافي، ومدى قبوله أو رفضه، والذي توزع بين موقف مؤيد وآخر رافض له،مما جعل محمد الشحات يتجاوز كل هذا اللغط الغير مثمر، مبيّنا أن " دراسات النقد الثقافي تنهض على تحليل الممارسات الخطابية التي تأتي إلينا في شكل أبنية مرتبطة بمفهومي المعرفة والسلطة معا. وما يفعله النقد الثقافي أو الناقد الثقافي هو أنه يهتم بالمضمرات الدلالية الكامنة وراء الخطاب الجمالي الذي يتجلى عبر مفهوم المتن أو النص قد صنعته المؤسسة بعلاقات إنتاجها المعقدة- فلا بد من توجه الباحث الثقافي نحو إلقاء الضوء على علاقة المعرفة بالسلطة والمؤسسة اللتين أسهمتا في تشكيل هذا الخطاب الجمالي أو ذاك على نحو من الأنحاء دون غيره."

يندرج موضوع النقد الثقافي عند محمد الشحات ضمن حدود البحث عن المضمرات الدلاليّة المختزنة داخل الخطاب الجمالي، مركزا على كشف العلاقات المتشكلة بين الخطاب والمؤسسة، والمضمرات الدلالية هو تعبير يحيل على مفهوم الأنساق الثقافية التي هي مركز القراءة الثقافية، وهي التي تتصف بقدرتها على الاختزان خلف البناء الجمالي واللغوي للنصوص الأدبية. وهذه ميزة مرتبطة بقدرة تسلل العناصر الثقافية إلى داخل الخطاب الأدبي والإنصهار ضمن العناصر الجمالية مما يجعلها صعبة الظهور والفهم والتأويل.

ويقدم محمد الشحات شرحا أكثر دقة لوظيفة النقد الثقافي، وعلاقته بالأنساق الثقافية، خاصة المضمرة منها؛ لأننا نعتقد أن الأنساق باعتبارها موضوعا للنقد الثقافي تنقسم إلى أنساق ظاهرة وأخرى مضمرة. يقول محمد الشحات"يمكن القول في البدء، إن مفهوم النقد الثقافي ينبني على ما يسمى نظرية الأنساق المضمرة التي هي أنساق ثقافية وتاريخية تتكون من البنية الثقافية والحضارية لأي مجتمع، حيث تتقن الأنساق إستراتيجية الاختفاء أو التواري تحت عباءة النصوص، ويكون لها دور في توجيه عقليّة الثقافة وذائقتها ورسم مسيرتها الذهنيّة والجماليّة."

تتصف الأنساق الثقافية بشكل عام بأنها أنساق ثقافيّة وتاريخيّة، لها علاقة عضوية بالبنيات الثقافية والحضارية لمجتمع ما. فهي قبل أن تنصهر داخل النص الأدبي، ذات وجود خارجيّ وجماعي يظهر عبر الأنماط الاجتماعيّة اليوميّة والسلوكيات الممارسة من قبل أفراد مجتمع معين. وما النص الأدبي إلا نسقا لغويّا وخطابيّا يسبقه نسق ثقافي خارجي يتحول إلى داخل النص متواريا خالقا نسقا ثقافيا مضمرا

ويربط محمد الشحات ظهور النقد الثقافي بالمرحلة التي جاءت في فترة ما بعد الحداثة، وأن وظيفته تنحو "نحو وظيفة التفسير/ التأويل سعيّا إلى إلقاء الضوء على ما وراء النصوص؛ أي ما يتوارى خلف الخطاب " discourse " من أنساق مضمرة وتشكيلات خطابية مسكوت عنها."

يربط محمد الشحات ظهور النقد الثقافي بالمرحلة التي أعقبت ما بعد الحداثة؛ بمعنى إن النقد الثقافي قد جاء في مرحلة "بعد" ما بعد الحداثة، والملاحظ أن لاحقة (بعد) الأولى تحيل على الحركيّة الزمنية وليس على التغير المعرفي والفكري الذي يتعلق بـ"ما بعد" الثانية. فما بعد الحداثة ليست هي الفترة الزمنية التي أعقبت مرحلة الحداثة فحسب، بل هي مرحلة تغيرت فيها كثير من الأنماط المعرفية والثقافية.

ويرى أصحاب النقد الثقافي والدراسات الثقافية أن النص عبارة عن وسيلة وأداة، لأن المهمة المنوطة بالناقد الثقافي هي الاشتغال على النص ليس كونه هدفا للقراءة، بل باعتباره مدخلا أساسيا للكشف عن المضمرات الثقافية، ويتكشف لنا هذا النص عبر ما تحيل عليه الثقافة من حيل وألاعيب هدفها هو تمرير هذه الأنساق.

ويرى محمد الشحات أن "النص" في النقد الثقافي عبارة عن وسيلة نكتشف بواسطتها حيّل الثقافة وألاعيبها في تمرير أنساقها، وهذه نقلة نوعية في مهمة أو وظيفة العملية النقدية، ذلك أن الأنساق هي المراد الوقوف عليها بالتفسير والتحليل والتأويل. من هنا يصبح النص في ضوء النقد الثقافي ليس معزولا بصفة كليّة عن علاقات إنتاجه التاريخية ولا عن نسقه التأثري كما اعتادت أن تقوم بذلك الكثير من المناهج الشكليّة والأسلوبية والبنيوية وغيرها بمضمرات الخطاب فعل إنساني تاريخي متأثر بالمجتمع ومؤثر فيه بالقدر نفسه....

يتعامل النقد الثقافي كما يرى محمد الشحات مع النص باعتباره يتضمن جملة من الأنساق التي تحتاج إلى كشفها ثم تأويلها، وذلك في ضوء السياق الثقافي والتاريخي والسياسي الذي أنتجه. ويتعامل النقد الثقافي مع مفهوم النص بعيدا عن المنظور الذي كرسته الدراسات النقدية منذ القديم، ويرتكز النقاد الثقافيون في تحديد ملامح النص ومعالمه على المقولات المركزية للتاريخانية الجديدة، خاصة مقولتي: "تنصيص التاريخ وأرخنة النص."

ويهدف محمد الشحات إلى عدم الإكثار على القارئ وإغراقه في الكثرة المفرطة من المصطلحات والمفاهيم التي قد تتداخل فيما بينها وتستشكل عليه، لا سيما عندما يتحدث عن العلاقة بين التاريخ والسرد والتاريخ والنص وموقعهما بين مجالي النقد الثقافي والتاريخانية الجديدة. ومنه يرى أنّ "التاريخ نص، والنص ليس سوى تاريخ، وبلغة أخرى، فالتاريخ سرد والسرد تاريخ، أو هو مقولة سرديّة بمعنى واسع..."

وقد حاول بعض النقاد العرب المهتمين بالنقد الثقافي استثمار العلاقة الموجودة بين السرد والتاريخ والسرد والثقافة في الاشتغال في الدراسات الثقافية ونذكر منهم محمد الشحات ومحمد بوعزة في كتابه "سرديات ثقافية" ورامي أبو شهاب في كتابه "الممر الأخير، وأدريس الخضراوي في كتابه سرديات الأمة ووحيد بن بوعزبز في كتابه جدل الثقافة، وعبد القادر فيدوح في كتابه تأويل المتخيل...مما وفر للقارئ منجزا نقديا يمكنه أن يؤسس لتوجه السرديات الثقافية العربية.

وكثيرا ما تناقش العلاقة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي من منظور تعارضهما من الناحية المنهجية، الأمر الذي يحتاج إلى مراجعة وتصحيح لبعض الهنات المعرفية، حيث لا يمكننا أن نتعامل مع النقد الثقافي باعتباره مجالا نقديا مستقلا عن التطورات المعرفيّة والمنهجيّة التي يعرفها النقد الأدبي عبر مراحل تطوره، وتحديدا مع مرحلة ما بعد الحداثة، وما رافقها من مراجعات لكثير من المفاهيم أهما مفهوم الأدب. ولهذا فليس النقد الثقافي نقيضا منهجيا ومعرفيا للنقد الأدبي؛ بل هو دعوة إلى مراجعة كثير من المفاهيم التي سادت داخل النظرية الأدبية لقرون طويلة.

لهذا فهناك من النقاد من يعتبر أن النقد الثقافي سوف يحلّ محل النقد الأدبي، كونه قد وصل إلى حد التشبع النظري والإجرائي. لكن هذا الموقف يبقى نسبيا لأننا لا يمكن أن نتهم النقد الأدبي بتخمة نظرية وإجرائية بمثل هذه السهولة، إذ يتطلب ذلك أن نقول بأن النقد الثقافي هو مرحلة مفصلية من مراحل النقد الأدبي وليس إنهاء لدوره النظري والإجرائي.

ويرى محمد الشحات أن "النقد الثقافي مشروع في نقد الأنساق في المقام الأول، وهنا تكمن أحد التحولات الجذريّة التي يفترق فيها النقد الثقافي عن النقد الأدبي، على اعتبار أن النقد الأدبي يعنى بنقد النصوص الذي هو بحث في الجماليات والمجاز والأسلوب، لذلك سوف يصبح مفهوم المجاز الكلي من حيث هو مجاز يتحرك على محوري التركيب والدلالة معا، بديلا عن المجاز البلاغي."

وما يجب التشديد عليه أن النقد الثقافي لا يرفض المناهج الأدبية بل يحاول توظيفها والاستفادة منها وفق المبحث الثقافي الذي يشتغل فيه / عليه؛ بمعنى أن النقد الثقافي يحتاج على المستوى التطبيقي التوسل ببعض المناهج الأدبيّة التي لا تتعارض وبعده المنهجي، مما يستدعي مداخل قرائية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية.

***

طارق بوحالة

 

(للحمار ذيل واحد لا ذيلان) للأديب قصي الشيخ عسكر

السخرية الانتقادية اللاذعة، هي حافز للحياة العابسة والمتوحشة تجاه المواطن، فيجد المتنفس الوحيد بعدما سدت كل الطرق في وجهه ان ينتهج هذا الأسلوب من الاستهجان والسخرية والادانة ايضاً، بالمعنى التعبيري في السرد الروائي على لسان الحمار (الضمير المتكلم) يضعنا امام فداحة الاحداث العاصفة التي تدور خلف الكواليس، بالمعنى والإيحاء والرمز البليغ الدال، حين تشذ السلطة الشمولية عن المنطق والمعقول، تضع نفسها في مهزلة الكوميديا السوداء، لأنها تضع المواطن مجرد رقم لا يشكل شيئاً، ليس له إلا الولاء المطلق للسلطان العظيم، الذي يعتبر فريد زمانه وهبة الهية من السماء الى الأرض، وما على اصحاب الارض سواء الخضوع والسجود وترتيل اناشيد المجد للقائد الأوحد المعظم، وإذا كان المواطن خارج أوامر

 الطاعة للسلطان، فالواجب أن تجري له عملية غسل الدماغ، ليكون في هيئة إنسان غارق في المهانة والإذلال، أو انه يستحق الفناء والموت. على المواطن أن يلتزم حرفياً بثقافة وإعلام النظام المهرج بالغثيان والمهازل، أن يتعلم ثقافة تمجيد القائد أو السلطان العظيم، تلك هي يوميات الحمار الذي ولد في ذيلين لا ذيل واحد، يسرد احداثها بلهفة مرهفة، في الاسلوب التراجيدية السوداء أو الكوميديا السوداء، وفق المعطيات للأحداث الواقعية، بما يدور داخل قصر السلطان وخارجه. نجد الفرق الشاسع بين السلطان ورعيته، فهو في وادٍ ورعيته في وادٍ آخر تماما، لا يلتقي مع وادي السلطان والسلطانة والحاشية والاعوان. في ممارسة نهج الترغيب والترهيب، إذا لم يأتِ باللسان فالسيف جاهز للقطف والحصاد (ارى رؤوساً حان قطفها) بالنسبة لصنف البشر، ولكن تعدى هذا النهج ليشمل صنفان البشر والحمير معاً، رغم ان الحمير مسالمة لا تدخل في المناكفات السياسية والحزبية (نحن الحمير نؤمن بالمدرسة الواقعية، أقسم أن البشر جميعاً لا يفهمونني حين أسبهم، لأنهم لا ينتمون للمدرسة الواقعية، وإن إدعوا فمن باب الدجل والتمثيل) ص11.

 يوميات الحمار بطل السرد الروائي تنقسم الى قسمين. لنتحرى محتويات هذين القسمين:

القسم الاول:

يتحدث السارد بصوت الحمار الذي ولد في ذيلين وليس بذيل واحد، وهي نتيجة منطقية في مجتمع يعاني من الازدواجية والفهم والمعايير، في سلطة تمارس القبضة الحديدية مع صنف البشر، هذا الحمار ذو ذيلين يتعرض الى كمين الاختطاف ويجلب الى قصر السلطان، كالمعارض السياسي الذي يتعرض الى كمين الاعتقال من قبل رجال الأمن، ووضعه في قفص ذهبي وأجلسوه على صفيح ساخن ويمارس ضده أبشع وسائل التعذيب النفسي والجسدي، ومواصلة التحقيق معه حتى يعترف بما يريدون.

(اعترف..!! ماذا اقول؟

- أنتميت الى حزب سياسي؟

- كلا

أعقب: نحن الحمير لا نؤمن بتعدد الاحزاب. وننتمي الى حزب واحد يحكم كل جنسنا.

- ماذا تذكر؟) ص25. ومن اجل التخلص من أي مأزق وورطة يقع فيهما، قد يدفعه الى مخاطر جمة تضيع حياته، يتخذ امام المحققين أسلوب الغباء والذكاء، الأول لا يفهم ما يدور، ولا يفهم شيئاً حوله سوى النهيق. والثاني يفكر بالخروج الآمن من المأزق أو الورطة العويصة. ومن وحشية المعاملة ضده، فكر ان يتناول السم افضل من هذا الجحيم، وتجري عليه عمليات غسل الدماغ، ليكون مؤهلاً في جوقة المطبلين والزاعقين في مهرجانات التهريج المنافق: عاش السلطان.. عاش الحمار. ويجلب الى قصر السلطان ويطلع على الاسرار الخفية، كيف تدار شؤون البلاد، من قبل سلطان دموي لم يتوانى ان يقترف اعتى الجرائم والحروب بدم بارد. ينتهج أسلوب الترغيب والترهيب، ويعرف كيف السلطان العظيم، يدير شؤونه بالغيبيات وقراءة النجوم والكف ويسترشد بما يتفوه به العرافين، وله عراف يطلعه على الاسرار في كل صغيرة وكبيرة. ذات يوم دق العراف ناقوس الخطر الوشيك على سلطانه المجيد وعلى السلطانة زوجته. بقوله (الحمار ذو الذيلين شؤم.. الحمار ذو ذيلين شؤم.. إن لم تتخلص منه خلال عشرة أيام، ماتت زوجتك وفقدت سلطانك.. الحمد لله الذي بعثني لإنقاذ عرشك واشفي زوجتك) ص43. تلبس الخطر والرعب الشديد روح وملامح السلطان من هذا الحمار المشؤوم والنحس، لابد من إصدار قرار يحدد مصيره، ودعى بقرار مستعجل الى عقد جلسة طارئة للبرلمان للقادة والأمراء البلاد، لمواجهة هذا الخطر الوشيك على عرشه المقدس، وفي اليوم التالي جاءوا قادة البلاد ووجوههم يتطاير منها شرر الرعب والخوف الشديدين، بهذا دعوة الطارئة، تيقنوا بأن السلطان يعتزم شن حروب جديدة، او قد تكون هناك كارثة قد تقع، أو ربما اقامة حفلات الاعدام التي تعود على اقامتها، وكل منهم يتحسس رقبته قد يكون الضحية القادمة (في اليوم التالي عقد البرلمان جلسته الطارئة بدعوة من السلطان!! رجال مختلفوا الأشكال والألوان والهيئات يدخلون القصر. يجلسون على المقاعد المخصصة لهم سلفاً،يبدو على وجوههم آثار الجد والاهتمام.. كانوا متلهفين الى سماع الخبر الجديد الذي دعاهم السلطان من اجله على حين غرة.. قرأت عيون المجتمعين رأيت الدهشة مرتسمة على الوجوه) ص44. تطلع السلطان بهم وشرر والغضب يتطاير من ملامحه المفترسة بهم، تيقن كل واحد منهم، سيكون حتما من ضمن حملة الإعدامات، وكان الخوف والرعب في القاعة يرجف قلوب الجالسين، مما دفع احد الحاضرين ان يزيح الرعب والخوف عن كاهله، ووقف بين الحاضرين وطلب من السلطان أن يسمح له بالكلام (يا سيدي السلطان اطلب الرحمة، وإذا أردت أن أعلن أسماء المتأمرين.. فأنا على استعداد..) ص44. قمة الكوميديا السوداء بسخرية الزمن الاحمق، بأن السلطان كان هدفه من الاجتماع، بهدف مناقشة مصير الحمار ذو ذيلين، وإذا به يكتشف خيوط مؤامرة تحاك ضده بالمصادفة، ويعود الفضل الكبير الى الحمار ذو ذيلين، مؤامرة لم يكتشفها اجهزة مخابراته ولا الاجهزة الارهابية والقمعية، وعيونها دائماً مفتوحة، وترصد اية شبهة. أمام هذا الذهول والدهشة في ملامح السلطان، لكنه تقمص بالصرامة والجد بأنه ليس غافلاً بما يجري، بل يعرف تحركات كل واحد في القاعة. وواصل هذا المتآمر كلامه وهو في خوف وحزن وأسى (قالوا السلطان أخفق في كل شيء.. أزمات تزداد يوماً بعد آخر.. المواد مفقودة في الأسواق.. السرقات تنتشر في البلاد ليل نهار.. واتهموا السلطان المعظم، بأنه استورد حماراً عجيباً لغرض إلهاء الناس) ص45. هنا المقصود في رمزية الحدث، هو اشارة صريحة الى مجزرة (قاعة الخلد) المشؤومة حيث أعدم نصف قيادة حزب البعث، ومئات الكوادر المتقدمة في الحزب والدولة، بحجة المؤامرة المزعومة لقلب نظام الحكم، وانبرى احد الحاضرين في القاعة برفع يده بالكلام، واقترح اعدم لكل الخونة والمتآمرين، وقوبل الاقتراح بالاصوات المؤيدة المدوية في القاعة. الموت للخونة والمتآمرين. الموت للمجرمين. عاش السلطان.. عاش الحمار، انفتحت اسارير السلطان بالفرح والابتهاج وانه سينفذ الإعدام حالاً بالموت والزقوم لكل الخونة والمتآمرين.

اما بالنسبة الى الحمار ذو ذيلين اقترح عليه العراف ان يرسله الى الدولة المجاورة، الى السلطان الدولة المجاورة، بذريعة الهدية، بعد أن أنهكتهم الحروب بينهما،ومن أجل وفتح صفحة جديدة من العلاقات والصداقة الجديدة، وان يكون الهدية الحمار النحس، ربما يجلب الشؤوم للسلطان المجاور بالهلاك.

القسم الثاني:

وجد الحمار ذو ذيلين نفسه في حضرة السلطان الجديد، وشعر بحزن نفس النهج والأسلوب والتعامل السابق، كأنه نسخة طبق الاصل حرفياً، وكذلك في ممارسة نهج الترغيب والترهيب والبطش والتنكيل. وممارسات الاجهزة الامنية في انتهاك القيمة الانسانية بالظلم والحرمان، ولكن سخرية القدرة ومهزلته السوداء، بأن عقلية السلطان الجديد لاتختلف عن عقلية السلطان القديم. في الاعتماد على قراءة الكف والنجوم، والاسترشاد بالعرافين في إدارة شؤون السلطان والسلطنة. والحمار يشاهد ما يجري من مهازل ومهاترات. وسط دهشة وذهول واستغراب. فمرة وجد السلطان والعراف في نقاش، بأن جلالة السلطان قرر ان يتزوج من فتاة جميلة وكذلك يتزوج العراف في نفس اللحظة، ويكون ابن العراف ولي العهد (- سيكون ابنك ولي العهد

أصطنع العراف الدهشة وسأل بغباء.

- ماذا يعني يا جلالة السلطان؟

- أعني يكون منك ولد يحمل أسمي.

العراف يكاد يتهاوى أو يغمى عليه من المفاجاة.. أنا فاغر فمي اكاد لا اصدق. الملك رابط الجأش بعيداً عن الانفعال.. أخيراً يستعيد العراف وعيه ويسأل:

- الطبيب يعرفك عقيماً.

قال السلطان ببرود:

- دع الامر لي) ص74.

وتم أمر الزوج للسلطان العينين والعقيم، واتفق مع العراف بأن ابنه هو ابن السلطان ومن زوجته الفتاة الجميلة وليس من زوجة العراف، ولكن مهزلة الكوميديا السوداء، بأن زوجة السلطان اصبحت حاملاً بجنين، ومن اجل اخفاء الجريمة قتل العراف وزوجتة والطبيب، أصاب الرعب الحمار بأنه سيكون الجثة الرابعة من هذا القتل، وبعد ذلك اعلن السلطان، بأنه اكتشف مؤامرة لقلب نظام حكمه وسلطانه، عناصرها: العراف وزوجته والطبيب، وإن عيون السلطان ساهرة، تتربص المتآمرين والخونة، أعلنت الاعياد والافراح والابتهاج في كل انحاء البلاد، بأن الله تعالى حفظ السلطان من كيد المتأمرين الخونة. وأودع الحمار السجن. ولكن بعدما هدأت الاعياد والافراح بانتصار السلطان العظيم على اعدائه، توسل الحمار بالسلطان ان يطلقه من السجن لانه سئم معاشرة صنف البشر، وان يعيده الى صنف جنسه ليستنشق الحرية، بعد العبودية والاذلال، وان يعيد الثقة الى نفسه بأنه من صنف الحمير وليس من صنف البشر، وحال أطلق سراحه اختفى الذيل الثاني، وصبح بذيلٍ واحد (كنت اركض على الرغم من ألمي كأي حيوان عادي. وأنا أتحسس الارض واشم الآثار لاصل الى اقرب مزرعة أو غابة اعيش فيها بقية عمري بعيداً عن مشاكسات بني آدم) ص103.

***

جمعة عبد الله

(حتى الريشة كانت حاضرة بقوة في أدب المقاومة زكي سلام نموذجا)

لا شك أن خصوصيات التجربة الفلسطينية في عالم الكتابة في ظل الحصار المشدد على الكُتَّابِ، لها ميزة خاصة، لأن "الأرض" هي القيمة الأساسية، والصراع كله كان ولا يزال يدور حول الأرض، فقد تميزت الحركة الأدبية التي لازمت الثورات بنوع من الثورية، حيث كان الأدباء يتبادلون الرسائل يعبرون فيها عن الجرح وألمه ومواجهته بالمقاومة، ذلك ما نلمسه عند كثير من أدباء المقاومة الفلسطينية، وأدب الثورة في فلسطين كان له اثر بليغ في نفوس الأدباء العرب، وعلى سبيل المثال وقعت بين أيدينا رسالة الشاعر الفلسطيني الثائر محمود درويش التي كتبها إلى رفيق دربه سميح القاسم عام 1987، حملت عنوان: " منذ البداية" بمناسبة تأسيس الإتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين وكان محمود درويش هو رئيسه، الحقيقة أن أدب المقاومة لم يكن كتابة فقط، بل كانت الريشة حاضرة بقوة في لوحات الفنانين التشكيليين الفلسطينيين ومنهم الفنان التشكيلي زكي سلاّم الذي يعد سفير القضية الفلسطينية في عالم الفن التشكيلي

يقول محمود درويش في رسالته وهو يقاسمه المعاناة وقتما كان الصراع ولا يزال محتدمًا على الجبهة الثقافيّة بين مشروع التهويد، والاستلاب، والعدميّة، والتغريب.. وبين وعي الهويّة والحريّة، فهو يرى أن ما يحدث ليس عاديا لأنه في ظروف غير عاديّة، أن ينجح الكتّابُ في تأسيس أوّل اتّحاد للكتاب العرب في الوطن، بعد أربعين عامًا، فينصحه بأن لا ينظر إلى الوراء إلّا ليعرف أين وصلتْ بهم الطريق، لأن للأعداء حساباتُهم، فأربعين عاما من محاولة تهويد الأرض، واللغة، والصراع على البقاء عن ولادة أوّلِ اتّحاد للكتّاب الذين كانوا مرشّحين للالتحاق بما تحدّده الدبّابة من حدودٍ للهزيمة النفسيّة والأدبيّة ليس عاديا.

في النشاط الثقافي الفلسطيني كما يقول محمود درويش، كانت الكلمة هي الفعل، لا حدودَ بينهما، ولا حدودَ بين الجسد واللغة، وذلك ما جعل الأغنيةَ وطنًا وما جعل الوطنَ أغنية، كن النشاط جماعيا تمثل في النشيد الذي لا يزال مفتوحًا على أفق الحريّة داعيا إياه وهو يشد على يديه أن يترك باب الاتّحاد مفتوحًا على مصراعيه لكلّ من يخالفُهم الرأيَ والعقيدة، هذه الرسائل حسب النقاد تدخل في إطار أدب الثورة أو أدب المقاومة، وسمّاه البعض بأدب السجون والمعتقلات، وآخرون أعطوه أسماء عديدة، حيث أطلقوا عليه اسم أدب المنافي وأدب الانتفاضة وأدب النكبة، وهذا النوع من الأدب يعبر عن الثقافة المجتمعية، هذه الثقافة وحدها كما يقول بعض الأدباء تؤسس للمقاومة.

ويعتبر أدب المقاومة أدب التعديل في صراع الأنا وكشف الآخر ومواجهته، والانتصار عليه، كما يمكنه أن يحقق أهدافا من خلال مناهج متباينة، فهو بمثابة الدعوة إلى النضال وتوثيق التاريخ ونقل المعاناة، والدعوة إلى الصمود ورفض الهجرة ورفض التعامل مع المحتل، واللجوء إلى الكفاح المسلح، علاوة على تمجيد البطولات، مما جعل العديد من النقاد يسلطون الضوء على هذا النوع من الأدب، الذي بدا لأول وهلة لونًا جديدًا من ألوان الأدب الحديث، ليشمل أسماءً لمبدعين في عالم الشعر والرواية والمسرحية والقصة أمثال سميح القاسم، كما ظهر في تلك الفترة العديد من شعراء الثورة أو المقاومة أمثال إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، الذي اشتهر بقصيدته "الشهيد"، ولم يستثن أدب المقاومة الكتابات النسوية، حيث شكلت كل من الروائية سحر خليفة مع الشاعرة فدوى طوقان القاسم المشترك في حمل رسالة الدفاع عن الحرية بكل أشكالها بدءًا من حرية الوطن وحتى حرية المرأة.

بالنسبة للمقاومة الفلسطينية يقول الباحثون أن أدب المقاومة الفلسطينية تأثر بالمراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها الثورة الفلسطينية، وقد خاض كثير من الكتاب والأدباء في هذا مجال وكتبوا بحرقة عن أدب الثورة والمقاومة على غرار الكاتبة الفلسطينية عائشة عودة التي فازت بجائزة ابن رشد التي أعلنتها مؤسسة ابن رشد للفكر الحر في برلين 2015 في مجال أدب السجون، وكتابات عائشة عودة تعتبر جزء مما أصدره كتاب وروائيون رجال في هذا المجال، حيث نقرأ لبرقوق نيسان وتصور شخصية الفلسطيني التي تتسم بالتحدي والمقاومة بعد عام 1967، كما نقرأ في رواية جبرا إبراهيم جبرا بعنوان "صيادون في شارع ضيق"، وهي رواية تحمل هموم القضية الفلسطينية والقضايا العربية، ورواية إيميل حبيبي بعنوان "سداسية الأيام الستة" في عام 1967، ثم رواية المجموعة 778 للروائي توفيق فياض، ورواية "وإن كنت الليل وحيدا" للروائي نواف أبو الهيجا وغيرهم، وهم يمثلون جيل ما بعد النكبة،.

والحديث عن أدب النكبة يطلق على مجموعة الأحداث والمجازر التي قامت بها العصابات الصهيونية بحق الإنسان والأرض في فلسطين عام 1948 وما سبقه، فمعظم الكتابات الفلسطينية تدور حول أدب النكبة، وقد ركزت هذه الكتابات على نوع خاص من الأدب، ألا وهو أدب "الهجرة"، فأكثر ما تناولت الرواية الفلسطينية هي تصوير النكبة وأحداثها ورسم الصورة الواقعية لمخيمات اللاجئين، ومن الأسماء البارزة في عالم الرواية الفلسطينية نقف رواية "الطوق" للروائي "غريب عسقلاني"، الذي تعبر كتاباته عن مسيرة الشعب الفلسطيني واللاجئين، بحكم ارتباطه بمخيم اللاجئين وحياتهم ومعيشتهم اليومية في المخيم، لقد كان غريب عسقلاني من الروائيين الذين أسسوا للمشهد الأدبي في فلسطين، فيما يرى بعض النقاد أن الكتابة عن أدب المقاومة بعيد المنال، لأن الكتابة عن المقاومة لا يكون إلا بعد الانتقال بها إلى حيز الفعل والتطبيق، والتأسيس لها ذهنيا ووعيا ويقينيا في ثقافة تقوم بتنظيم الذاكرة الجماعية وتعزيزها والحفاظ عليها.

و يمكن القول أن هذه الرسائل كما تم ذكره آنفا تعد من ضمن الأعمال الأدبية التي تتميز بالرمزية ، حيث اتخذ الأدباء الفلسطينيين "الرمز" كأداة للكتابة في ظل الحصار المشدد عليهم وتقييد حريتهم في التعبير والكتابة، استعمال "الرمزية" من أجل مواصلة إبداعهم، فتجدهم يركزون على الأمثال الشعبية لخدمة الفكرة المسيطرة على القصة، أو الحديث عن الأم وابنها مثلما هو الشأن في قصة "أم الخير" الرمزية، وهي امرأة ترمز إلى فلسطين، وابنها هو الفلسطيني، وآخرون اعتمدوا على رسوم الحيوانات مثل رأس الغراب أو الذئب، وهذه الفئة هي الأكثر تأثرا بالأسلوب الرمزي، أما مصادر أدب المقاومة فهي متنوعة منها الواقعية، التاريخية والدينية وغير ذلك.

فقد امتزجت روح الشعراء الفلسطينيين في روح واحدة مثلما امتزجت دماؤهم، فكانوا كلما تألمت روح تألمت الروح الثانية لألمها فكانت الرد القوي، وقد عرف سميح القاسم بقصائده الثورية، وقد اشتهر بقصيدته: " منتصب القامة أمشي" وكانت مؤثرة جدا، إذ يقول فيها: (منتصبَ القامةِ أمشي مرفوع الهامة أمشي، في كفي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي، وأنا أمشي وأنا أمشي..الخ)، هكذا كان أدب المقاومة، يقول بعض النقاد أن القصيدة الثورية توقفت عند الشاعرين سميح القاسم ومحمود درويش، وبقيت القصيدة الفلسطينية يتيمة من شعرائها، وقد وصف الكاتب عصام خوري المراسلات التي كانت تتم بين محمود درويش وسميح القاسم بأنها كانت حالة أدبية نادرة وخاصة بين شاعرين كبيرين قلما نجدها في التاريخ، لكن الواقع وما يمكن قوله هو أن أدب المقاومة لم يكن قصيدة أو قصة أو رواية أو مسرحية فقط بل كانت الريشة حاضرة بقوة في لوحات الفنانين التشكيليين الفلسطينيين ومنهم الفنان التشكيلي زكي سلاّم الذي يعد سفير القضية الفلسطينية في عالم الفن التشكيلي، فقد كانت منحوتاته تعبر عن رسالة إنسانية لكل الشعوب المضطهدة، وقد اثرت لوحاته الساحة العربية.

***

علجية عيش

هل يأتي الموجود من اللا موجود؟

كان الشاعر الألماني الكبير هولدرين يؤكد على أن الشاعر ربما ينضج مشروعه الشعري بعد سن الخمسين، وهذا ما لا يتفق مع رأي الشاعر الإنكليزي ت س إليوت الذي يرى أن موهبة الشعر تبدأ في بداية العشريات من عمر الشاعر لتتوقّف بعد ذلك.

والاختلاف هنا يرجع لمعنى الشعر، الذي يراه هولدرين تنقية للوجود من الشوائب العالقة فيه، ويعني الأفكار الصغيرة التي لا ترتقي إلى الأسئلة الكبيرة في الفلسفة التي تذهب إلى العمق في تفسير الظواهر من أجل ترميم العالم من تصدعاته، أما ت س إليوت فيستفيد من بزوغ نجم الشاعر الفرنسي رامبو في عمر مبكر من كتابة الشعر والذي سرعان ما انطفأ، لكنه ترك أثرًا عظيمًا في كتابة الشعر مخلفا كتابيه "الاستشراقات" و "فصل في الجحيم" مع مجموعة قصائد لم تنشر أثناء حياته".

ويبدو أن الشاعر خالد الحلي ينطبق عليه ماذهب إليه الشاعر هولدرين حسب ما كتبت أعلاه، ففي مجموعته الشعريّة الجديدة الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين في بغداد للعام ٢٠٢٢، والتي حملت عنوان " مطرٌعاطر"، يواصل مشروعه في الكتابة التي تسعى دائماً إلى أن تكون أشبه بالوجود الصغير الذي يقيم فيه سؤاله بحياديّة ومهارة وخبرة صقلتها التجارب والسنين، خاصة في انتقاء الكلمات التي تتطابق بحساسيتها مع بعضها، مما يخلق جملاً قصيرة تنساب بموسيقى سريعة لتنتهي بسؤال.4737 خالد الحلي

وعلى سبيل المثال، نجد ونحن نقرأ قصيدة "زوايا مختبئة" في المجموعة، أن عنوانها يوحي بأن عالمًا آخرَ غير مرئي يختبئ في هذا العالم المرئي أمامنا وهو غير كامل، حيث يقول:

" ما لا أرى تراه

وما أرى يُبعد عنكَ خائفًا"

إذن ثمة اشكاليّة وجوديّة ليست عرضيّة بل جوهريّة تتعدّد فيها الرؤيّة التي تصل حدّ العماء، فما لا يراه هو الكائن، وما يراه يخاف ويبتعد عن الذي يرى وهو سلطة بلا مسمى هنا، واقصد الذي يرى

ويُكمل الشاعر بالقول:

"يطير في الرّياح مرّة

ومرّة يفوص في المياه

فلا ترى الذي أرى

ولا أرى الذي تراه"

ومن جديد يؤكد على أن الرؤية ليست واضحة بمعطياتها وتفسيراتها، لكنّ السائل يحاول أن يقبل بها كي يتآلف مع قدره ومصيره المحتوم، وهو قبول شكلي لا سلطة للكائن فيه. نوع من الاستسلام القهري الذي يًفرض عليه،

ونجده يقول ونحن نكمل القراءة:

"حين ترى السماء غائمة

أرى السماء ماطرة

لكنّنا

لسنا نرى

ماذا يرى

في الصحو والمنام غيرنا"

يتعمّد الشاعر هنا خلق نقيضٍ ماديٍّ له لتوسيع الفكرة الفلسفيّة الشعريّة في هذه القصيدة بتفاصيل تحاول أن ترسم شخصيتين متقابلتين ومتناقضتين لكنهما متوافقتان بمحدوديّة قدراتهما وعجزهما، حتى نهاية القصيدة حيث يقول:

"هل سَيرُينا بعضنا

ما لا نراهُ كلُّنا

يكتئبُ السّؤالُ

في رؤوسنا

وتكتوي بدمعِها

عيونُنا"

وبالانتقال إلى قصيدة "ريحٌ ومرآة حائرة" نجد الشّاعر يستهلها بالقول:

"أبوابكِ مُوصدةُ

ودروبي مغلقة

ورؤانا تتقاذفها

أمواجُ بروق ورعود

هل يأتي الموجود

من اللا موجود؟"

إن استخدام الريح في هذه القصيدة يدلّ على حركة الغياب متجسّداً بفعل الخراب المؤقت الذي يمسح كل أثرٍ لحياة تعكسها المرآة الحائرة التي من الممكن أن تكون صورة الذات القلقة غير المستقرّة التي تتحكم فيها قوى غيبيّة حاول الشاعر أن يَرمز لها عبر مشهديّة البرق والرعد وما لهما من تأثير نفسي في ذاكرة القارئ، حتى يطرح سؤاله الكوني العميق مرّة ثانيّة، عن مسيرة الوجود واحتماليّة ديمومته وهو الذي ينشأ من عدم، وفكرة العدم هنا ليست سوداويّة تفرضها العاطفة الشعوريّة البسيطة بل التصادمات والتناقضات الخيّرة والشريرة التي يشهدها الوجود من خراب تتدخل فيه الطبيعة التي يعجز الكائن أن يتصدى لها، وعقله الذي يتحول إلى أداة لتفكيك التناغم الطبيعي للموجودات وانتخابها الأبدي.

وبنفس المعنى يكتب الشاعر قصيدة : "سنة تفتح الباب"، كما في هذا المقطع

"قلت لها:

من حق كلينا أن يسأل

فالسنواتُ الأرضيّةُ

وقتٌ يأسرنا

لا نملُكهُ

بل يملكنا

والسنوات الضوئيّةُ

ألغازٌ تسبحُ في الكونْ

ليس لها شكلٌ أو لونْ

وسنينُ الوهم

سرابٌ

ليس له أُفُقٌ ومدارْ

سنة حيرى أنتِ

فهل تدرينَ بأنّي مثلكِ

محتارْ؟ "

وغير بعيدِ عن هذه الأجواء، نجده في مقطع بعنوان "بابان" من قصيدته " منافذ":

هل تُسدلُ جُمجُمتي

أستارًا تبعدُ أخيلتي

عن ذاكرتي

كما نجده يقول في المقطع الأول من قصيدته "بين مدّ وجزرٍ ":

خطواتُ الليل تدبُّ

بدربِ مسدودْ

وأنا بين النوم وبين الاستيقاظ

أتمنى أن لا تستيقظ أيّامي

من أحلامي

أن لا أنسى أمسُا مفقودْ

أن تمتدَّ بيَ الأزمانُ بلا أمدٍ

أن لا تشهدَ أيّامًا سودْ

حتى ينام المدُّ، ويصحو الجزرُ

تبعثرُ أنهاري

أيامًا تكتم أسراري

وتجفف أزهارًا

وورودْ

كانت تمنحني أملاً

ووعودْ

ولا تقتصر المجموعة الشعريّة على هذه القصائد التحريضيّة الوجوديّة بل تتنوّع إلى قصائد تحاول أن تستدعي النفسي والذاتي الفردي كما في قصيدة "مخاضات وسلالم" . وابتداءً نجد أن كلتا كلمتي العنوان تؤشران لحالة من المعاناة التي تكون مرّة ألمّا طبيعيًا لكنه غير محتمل ومرّة ألمّا غير طبيعيٍّ لكنّه متواصلٌ لا يتوقف.

يكتب خالد الحلي قائلاً:

وأنا أقرأ في دفتر أيّامي

وأنا أسأل ذاتي:

مَنْ نفّذ ؟

مَنْ خطّط؟

مَنْ شح؟

و مَنْ فرط؟

كيف؟ لماذا؟ ومتى؟

أين؟

تُسكتني أسئلتي

وتقول بصوت واحد

لا تسأل أحدّا

لا تسأل أبدًا

أنت سمحتَ لدفتر أيّامكَ

أن يُسرق،

ثمة علامات استفهام كثيرة تبقى مفتوحة أسألتها لا يكتمل فيها القول ويستقيم المعنى في هذا الحوار الداخلي المنولوجي بين الذات وصاحبها، وهو ليس قسوة على النفس بل السعي إلى تخليصها من قطيعيتها التي تقودها في أحيان كثيرة إلى التهلكة، ولا يمكن لها أن توجه اصبع الاتهام لغيرها.

لا تخلو قصائد المجموعة من المرأة التي تكون مرّة واضحة متجسّدة في حكاية تكتمل بعناصرها الدراميّة المتنوّعة، ومرّة متخفيّة يومئ لها الشاعر من بعيد كي تقاسمه السؤال، والسؤال الذي اقصد هنا، هو التحامها به ما يجعله يشعر بالإطمئنان الروحي والجسدي قربها، والضياع والإنطفاء بغيرها، كما في هذه القصيدة الذكيّة التي تحمل بعنوان "مواعيد"، حيث يكتب:

قبل يومين ملأتُ

الدرب وردًا

ورششتُ البابَ

عطرًا

وانتظرتُ

لمَ أخلفتِ المجيء

عندما طالَ انتظاري

صار دربي لا يضيء

يبقى السؤال : هل يتوقف الشعر عن الوجود؟

سؤال لطالما أرقّ المعنيين بالابداع في المجتمعات الصناعيّة الغربيّة، والجواب كما أراه ككاتب شرقي يرى الشعر كونه: أهم الفعاليات الانسانيّة التي اكتشفها الكائن إلى جانب اللغة، إنه لا يتوقّف حتى لو أصبح نوعًا من أسئلة التأمل الذهني الموازي للفلسفة التنويريّة بكل مدارسها في القرن الماضي قبل أن تحل محلها العلوم التجريبيّة التي قضت عليها تمامًا وجعلت من منجزها مجلدات من الكتب يعلوها الغبار في المكتبات الحكوميّة في زمننا هذا حيث يسود نظام التفاهة كما يفصلّه الفيلسوف الكندي آلان دونو. في كتابه المسمى به.

***

عقيل منقوش – ملبورن / استراليا

التداولية الشعرية بين الكيفيات الرؤية وفاعلية أوجه الدال

توطئة: إن آليات الوظيفة الشعرية بأدواتها البالغة الكفاءة وفواعل مشاغلها الإنتاجية الممكنة تتحدد في تجربة مجموعة (أخطاء تروضها الموسيقى) للشاعر العذب الصديق مهدي القريشي، الذي شكل في مهام التجربة الشعرية لديه منذ عدة عقود خلت، ذلك الحراك الدينامي على النحو المخصوص الذي يرقى بدقة ساحرية الصور والمفردات ومقادير الصنعة الشعرية التي تعتمد على عوامل وعناصر متفردة في مجال البناء والصوغ والاستعارة ومقصديات (أوجه الدال) المحتشد بأعلى مشروعية الاستدلال والدليل التقاني المتماسك في موصولات خطاب النص الشعري.

ـ الرؤية الشعرية وحصيلة إنفعالات الذات المتضخمة.

لا شك أن خلاصة كل نسيج شعري، ذلك المشروع والشروع في إنطلاق الذات والانتقال بها نحو تحولات خاصة متراوحة ما بين (الذات ـ الانطباع ـ وحدة الموضوعةـ مؤثرات الفعل الدوالي) وبهذا الأمر تبدو خرائطية القول الشعري، اعتمادا على جملة محمولات ومنعطفات في أقاليم الأفعال الصورية المفتوحة أو المحددة عبرة مواطن النمو في حصيلة مكونات البنية الشعرية ومجالاتها المألوفة والمغايرة في رسم أحوال الدال والتدليل.نقرأ ما جاءت به قصيدة (هذيان) من الاشارات والإيحاءات الإجزائية:

دائمًا تقذفني شوارع إلى كراجات...

ثمة رحيل يقود أناسها كخراف!

فيما تتقدّمني هاوية

وبين أصابعي سعادةٌ سائلة!./ص6

يتكثف المتن الشعري عبر مراحله الدلالية المتشكلة بالدرجة الأولى من حدود حال الذات القائمة على تمديد إحساسها بواقعها المختل عبر أغراضه الاستنزافية الملتهبة من جراء قضايا مصيرية حالكة، لذا وجدنا جملة (دائما تقذفني شوارع) بمثابة المستغلق من الانتعاش في حيوات تراتيبية مستقرة في مقامات أكثر أمنا واستقرارا، وذلك ما تتحدد به لفظة (كراجات) تأشيرا إلى مدى تخطي الذات في كل الجهات اللاموطنة إلى شكل إرتكازية هذه الذات.

1ـ الرحيل إمعانا في منظور المعادل التقديري:

تتجاوز غائية الملفوظ الذواتي في عتبات البوح، إلى حدود من المقاربة والمقارنة اللتان تتصلان بالاعتبار الاستعاري إلى علامة خاصة من التمثيل المعادل كقول الشاعر: (ثمة رحيل يقود أناسها كخراف!) وما يتكشف عنه هذا التمثيل المعادل بالتذيل التعجبي، أن هناك حالات قمعية خاصة قامت بها جهات سلطوية أو لربما جهات خاصة من ضغوطات الواقع النفسي والعاطفي، لذا بدا من خلالها الرحيل وكأنه مستوى مهيمن من ترحيل قطيع من الخراف إلى المراعيها.كما ولا تكتف الذات من الخلاص من نازلات افتقارها المعنوي والمادي في محيطها المبلول بالفقدان والغبطة والترحيل، فما زالت بأنتظارها تقادما (فيما تتقدمني هاوية ـ وبين أصابعي سعادة سائلة!) إن الخطاب الدوالي هنا وهناك قد أدمن لنفسه حدود لغة هذيانية، فما عاد ينفك منها الفاعل الشعري، إلا بإخضاع جل ملازمات البوح بما هو أدهى من رحلة التيه والهذيان المستوفي بعلامات التعجب وهوامش التنقيط التي هي بمنأى عن إمكانية اختزال ما هو خارج دائرة فضاء التوصيف:

لماذا يمدُّ النهار عنقه متثائباً؟

يسأل عن موعد غروب الشمس!

أخيراً رأيتُ سيارة تعلوها حمىّ

تبحث عن بنفسجة بلون الطفولة...

لم تبلغي سنَّ الظلام؟

سأنقش مراهقتي على ضفاف الصباح ./ص6

تبعا من جملة (بين أصابعي سعادة سائلة) تتلاحق محاور خطية الألم الممجوج عبر تصوير مكامن الأحوال المتشيئة بروح التحفيز نحو تشكيل لغة منزاحة ومفترضة غدت تكشف لنا مدى رمزية التحاور القائم ما بين (الذات ـ محاور الأشياء) تمسكا بخصائص الطابع الدلالي ذاته من التوظيف السابق، وذلك ما تتحدد به جملة (لماذا يمد النهار عنقه متثائبا؟) تأتي هنا حالات من صعوبة التوصيف في معاينة الرؤية، ولكننا عندما نتعامل وإياها من جوانب سيكولوجية، نلاحظ بأن الذات أصبحت في منجزها اللغوي ـ الاستعاري، تتعدى مسار القراءة الصفاتية للشيء في ذاته وهويته، لذا فإنها باتت تتعامل مع الزمن من خلال أداة تحريك الآفاق عبر رؤى زمنية أكثر ولوجا وقابلية اللغة الواصفة على أن تغور في رسمها عن ملامح متصلة ما بين قيمة الاستعلام ومضاعفة احتمالات أن يكون الزمن النهاري (متعبا، منكسرا، متغافلا ) وهذا الأمر ما جعل الرؤية الشعرية تتلمس طريقها نحو (أخيرا رأيت سيارة تعلوها حمى ـ تبحث عن بنفسجة بلون الطفولة...) أن ما ينبغي التأكيد عليه هنا في وسائط ملفوظات النص، هو تلك الإمكانية الرابطة ما بين (صيغة الملفوظ ـ الفعل التراكيزي ـ مختزلات اللغة المزاحة) وهذا الاستخدام الواعي في مقابلات علائق الدوال، هو بحد ذاته ما جعل ملامح (التجسيد الرمزي) علامة متضمنة في مشتركات الممكن في وظائف السياق الشعري.

2ـ فرضيات الدوال في إيصال محسوسية المعنى:

لعل المقاربة النقدية في وظائف قصيدة مجموعة (أخطاء تروضها الموسيقى) تتعامل في شكلها المكوناتي مع تجربة شعرية ذات محمولات تقع ما بين (فرضية دال ـ مشخصات متراتبة ـ إضاءة أحوال مستورة) وعلى هذا النحو يمكننا القول في شأن قصيدة (مهدي القريشي) على أنها قصيدة عاملية تجتهد في تصوير حوادثها وأفعالها من زاوية لغة استعارية ضاربة في المحسوس الاستبدالي الذي تشرع به مكونات الصورة على هيئة علاقات مستورة ومعلنة في الآن نفسه:

كنْ حذراً منْ إغلاقِ غطاءِ التابوتْ

ثمّةَ شهيدٌ

تنمو الرغبةُ في عينيهِ./ص7 قصيدة : شجرة الكرادة

تندرج معادلات هذه القصيدة عبر فحوى العنونة المركزية (شجرة الكرادة : المكان ـ الفاعل الغائب ـ الصورة المؤنسنة) وعندما نعاين مصدر البعد الإيحائي في جملة (كن حذرا ـ من ـ أغلاق التابوت ) تتجلى بؤرة الفعل القصدي في دال (شهيد) وقد يبلغ هذا الدال توقعا بالالتفات الربطي بين جهات (شهيد : موت ـ ولادة/ التابوت :مجال تحول/شجرة: ـ مرحلة الفردوس الأعلى/ الرغبة في عينيه) ولما كانت جهة الإيعاز الضمائري تدلل على (كن حذرا) أي إلى فاعل غيابي، أكتفت المساحة الدوالية بالإضمار الفعلي عن علية أسباب ماهية (تنمو الرغبة في عينيه) أي إننا لا نعلم من حال هذه الرغبة شيئا: أهي خاطرة دهشة الموت أم مرحلة ملكوتية خاصة قد عاينتها عيني ذلك الشهيد؟:

أن لا يرى وجهَ الله

لكي لا يعاتبَهُ

على طريقةِ استردادِ أمانتِهِ./ص7

أن الذات الشاعرة تسعى ها هنا إلى مستوى (إحالي مستور) من دلالة الاستجابة المتشكلة في وضعية جملة (أن لا يرى وجه الله) والجوهر المراد من حساسية هذه الجملة مبعثها الأوحد حالة متمحورة في المتن الأفعالي: (الشهيد : لا ـ يرى ـ وجه ـ الله = الحالة الشعرية المرتقبة = شفرة) ولا نعلم شيئا من أمر الجملة، حتى تتبين لنا الجملة اللاحقة كعلامة رمزية متجلية في معطى اللاتوقع (لكي لا يعاتبه) وجملة (على طريقة استرداد أمانته) ثم تلي هذه الجمل فاصلة تنقيطية هي من المسكوت عنه في عمق مخصوصية رؤى الدلالة.بمعنى ما تنطوي هذه الجملة الأخيرة على مكنونات تركيزية تنم عن مدى الوضع المأساوي الذي فيه جثة الشهيد من الضرر وما يعاكس خلقه عندما كان سويا بالفطرة متعافى في جميع ما أودعه الله إليه من حسن الخلق والتقويم الصوري.فالشاعر القريشي قد أصاب على نحو ما من التأثير والحنكة في حدود صنيعه لهذه الجملة ومكوناتها المؤثرة في الذائقة القرائية.

ـ منصة الأداء وشعرية التشكيل في منعطفات الخطاب

لا شك أن مجموعة قصائد (أخطاء تروضها الموسيقى) من علامات التجربة ذات الرؤى المكثفة والاستثنائية في تمحور مفاصلها داخل مساحات حسية وتشكيلية وتفارقية من عتبة الذات الشاعرة التي أختطت لها في أفعال وصور وحالات قصائد المجموعة آفاقية إيحائية وقصدية من الخصوصية المثمرة.تواجهنا في بعض النماذج من مجموعة الشاعر، ذلك النوع من (قصيدة المعادلة) التي تشتغل أولا بآلية تشكيلية تقوم بالتقاط حالات الصور بموجب فحوى ارتباطات أفق العين المصورة لكافة مخمناتها الذائقية والتأملية النافذة /وهذا النموذج أطلعنا على مثله في قصيدة (عري البحر):

لا تبتئسْ

إنْ هبطتَ مرغماً،

فالغيمة تخلع بياض عفّتها

لتستر عري البحر./ص20

أي بمعنى ما أن هناك قطبين يتشاركان في تفعيل المعادلة الدوالية: (لا تبتئس:مرسل ـ ضمير غائب/إن هبطت مرغما:حالة فاعل /الغيمة تخلع بياض عفتها:استعارة ـ إحالة/تستر عري البحر:الصورة المعادلة ـ تذهين صوري) وبمثل هذا النوع من (المرسل ـ المرسل إليه) تظل معالجة القطبين (ذات ـ موضوع) في أداة تحويل وتمحور يتطلبان كلاهما (بديل احتمالي) ويفض دال هذا التمظهر بوصفه التشكيلية الخاضعة إلى استنتاجات القارىء المؤول، لأجل المزيد من فاعلية التأويل المباشر واللامباشر، أي بما لا يقترب من التحليل التفسيري وما يمكننا قوله أيضا أن هذا النوع من الشعرية تعتمد الموصوف كنقطة متناسبة الأبعاد والأفعال مع مجاورة القيمة المعادلة في تقانة (فضاء الاستعارة) لأجل أن يكون التدليل من خلال دوالها بمستوى المخاطب الى جهة المرسل إليه غيابا.

1ـ غواية المرآة وخلاصات عقدة الذات:

تلعب فنون المرآيا الشعرية في مسار معطيات المصورات في أحوال القصيدة، ذلك التوهم في مراهنات الزمن (الماقبل ـ المابعد) إذ تقود هذه الجملة من المراويات الشعرية ثمة مجالات عمرية مهيأة إلى اقتياد الكتابة إلى أوج مرحلة متماهية من الإشكالية والحيرة والترقب في جغرافيا خطاب مراوي تجريبي في جملة مؤشراته التقانية والذاتية:

هذا وجهٌ باهتْ

كأن نثيث نعاس

سد مساماتٍ

تمضمضت بعواءِ الليلْ.

هذا خزين الأمس

تتقيأه كلما تَلَمست تجاعيدَ،

تؤهلها للشيخوخة./ص21  قصيدة :خداع المرآة

ليس تألق اللغة وسحرها ما يميز جمالية هذا النص الشعري، بل هناك حالات من الاستنتاج والإثارة في إمكانية الابعاد والأشكال الموصوفة في شاشة المرآة (هذا وجه باهت ـ كأن نثيث نعاس ـ سد مسامات) تتجاوز مستوى الدوال مواضع أفعالها الملفوظية، لتلتحم بالصورة المراوية، ولا شك أن مراد الواصف الشعري، هو الأخذ بفسحة انتاجية ترتبط مع ظرفيات أحوالية خاصة بالزمن والذات التي تغامر في سفرها عبر (تمضمضت بعواء الليل) أوجملة (سد المسامات) أو (هذا خزين الأمس) فهذه الجمل ما هي إلا علامات حياة بأكملها تتراءى للذات عبر تفاصيل القراءة المراوية وعبر تجليات خطاب ثنائية (زاوية الرؤية :الذات ـ المرآة)، وصولا إلى مستوى من الاستعارة المكينة التي تنطبق على (الحالم المراوي) بأدق الدوال إشارة وعلامة وشعرية فاحصة وناقلة لأسمى درجات الزهد في التشكيل اللغوي (أونزت شعرة سوداء في حدائق خريفي ـ تمهلي أيتها المتكلسة في عضد موجة شرسة) من هنا وهناك تترسم لغة الشعر لدى (مهدي القريشي) في إطار شعرية معادلة مكتنزة إبداعا ومخصوصية كفائية إلى النفاذ إلى أعماق الجسد النصي وبلوغاته الأسلوبية التي تحقق للتجربة وشاعرها إنجازا ودورا لا يطوى مهما أسدلت أزمنة الأقفال على محكمات حجبها.

ـ تعليق القراءة:

لقد تصرفت القابلية الشعرية في مجموعة (أخطاء تروضها الموسيقى) في خلق التمايز بالتلميع التأثيري المشحون بأعلى انطباعات الظروف والأحوال والاشارات والعلامات النواتية التراكيزية، كما ينبغي التأكيد عليه هنا، هو أن عملية التداول النوعي في مشغل شعرية الشاعر جاءتنا نتيجة جملة علاقات من (المجاورة ـ التصور المقابل ـ انعطافات الذات ـ معادلة رؤية الأحوال) وصولا إلى تجربة الوحدات الدوالية المؤشرة في التحول والإحالة والمسكوت عنه في فضاء الأسطر البياضية:

كانت النجومٌ تُلمعُ أجنحتها

والشتاءُ يمد يديه إلى أزرارنا

ليضيء برزخا هجرناه ./ص16  قصيدة:عطر خائن

على هذا النحو وجدنا نماذج قصائد مجموعة الشاعر القدير مهدي القريشي الموسومة ب (أخطاء تروضها الموسيقى) مجموعة رؤى شعرية لها أوجه توالدية من الأطروحة الدلالية، التي تتوغل فواعلها ووظائفها الخطابية كحفريات تشق جدران المعنى وتنقش فوقها تماثلات مقصديات وتأملات ورموز وعلامات مدعومة بالانجاز الجمالي والسمة الحسية الانتقائية كتجربة شعرية ناتجة عن رؤية تراكمية مصاغة بأدق أوجه مفعولية وفاعلية شعرية الرؤية وساحرية التخييل النموذجي.

***

حيدر عبد الرضا

توشك قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، أن تكون قِصَّةً شرقيَّةً وإسلاميَّةً من ألفها إلى يائها، بدءًا بأسماء الشخوص والأبطال، وصولًا إلى تفاصيل الأحداث. فبطل القِصَّة الرئيس "صادق" اسمٌ عَرَبيٌّ إسلاميٌّ، اقترنَ وصفًا بالرسول، وأُطلِق على صاحبه الأوَّل (الصِّدِّيق). واسم زوج صادق "سمير" اسمٌ شرقي، يُذكِّرنا بـ(سميراميس)، المَلِكة الآشوريَّة في القرن التاسع قبل الميلاد. وهو اسمٌ عَرَبيٌّ قديم، وإنْ غلبَ في أسماء الرِّجال. هذا فضلًا عن تفاصيل الحكايات، من مثل مواقف صادق الدالَّة على الفِطنة وحُسن القضاء والمحاماة، التي تُذكِّرنا بذكاء (إياس بن معاوية، -122هـ)، المضروب به المَثَل، وحِيَلِه في استنطاق القرائن.(1) لكنَّنا سنُسلِّط الضوء على آثارٍ بارزةٍ لمصدَرَين شرقيَّين كبيرَين، ما عداهما تبعٌ لهما، أو دونهما شأنًا، هما "القرآن" و"ألف ليلة وليلة".

-2-

لعلَّ أكبر أثرٍ إسلاميٍّ في قِصَّة "صادق" هو ذلك الأثر القُرآنيُّ الذي يبرز في الفصل العشرين من هذه القِصَّة.(2) فالقِصَّة تحكي أنَّ (صادقًا) لقي في طريقه ناسكًا قد انتشرت لحيته على صدره، وتدلَّت حتى بلغت حِزامه، وكان الناسك يقرأ في القَدَر، كما زعم، فرأى على صادق علامات الحزن، فطلب إليه أن يصحبه في طريقه إلى (بابل)، على أن يعاهده بأن لا يفارقه مهما فعل، فاستأنس به صادق ومضيا معًا. فلمَّا كان المساء، وصل المسافران إلى قصرٍ فخم، فطلب الناسك الضيافة له ولـ(صادق)، فأُدْخِلا القصر، وأُجلِسا على مائدة، دون أن ينزل صاحب القصر فيمنحهما طَرْفه، وقد أكرمهما الخدم. ثمَّ قُدِّم إليهما، لغسل أيديهما، طَسْتٌ من الذهب، مرصَّعٌ بالزُّمرُّد والياقوت. وأنفقا ليلتهما في حُجرةٍ جميلة، وصُرِفت لكلِّ واحدٍ منهما صباحًا قطعة من الذهب. فمضيا في طريقهما، فإذا صادق يُلاحظ أنَّ الشيخ الناسك قد سرقَ طَسْت الذهب المرصَّعَ بالجوهر.

وفي الظهيرة لجآ إلى دارٍ صغيرةٍ، كان يسكنها رجلٌ غنيٌّ، فاستطعماه، فأطعمهما طعامًا خشِنًا رديئًا. فلمَّا فرغَ الناسكُ من أكله، دفعَ الدِّينارَين، اللَّذَين أُعطِي إيَّاهما هو و(صادق) صباحًا، إلى الخادم وشكر عنايته. ثمَّ طلب مقابلة سيِّده، ولمَّا قابله، دفعَ إليه بالطَّسْت الذَّهبي، وشكره وامتدح كرمه! وهو ما كان مبعث الدَّهَش من الجميع:

"قال (صادق): "ما هذا الذي أراه، يا أبتِ؟! ما أَرَى أنك تُشبِه غيرك من الناس، إنَّك تَسرِق طَسْتًا ذهبيًّا من أميرٍ تلقَّانا أحسن اللِّقاء، وتَهَبُه لبخيلٍ عاملك أحقر المعاملة!" قال الشيخ: "تَعَلَّم، يا بُنَيَّ، أنَّ هذا الأمير العظيم، الذي لا يستقبل الناس إلَّا غرورًا، ليُظهِرهم على ثرائه، سيُصبِح منذ اليوم عاقِلًا حذِرًا، وسيتعوَّد البخيل أن يكون مضيافًا؛ فلا تدهش لشيءٍ واتبعني"."(3)

ولمَّا أدركهما المساء، بَلَغا دارًا متوسِّطة الحال، وكان صاحبها فيلسوفًا قد اعتزل الناس، وعكف على الحِكمة والفضيلة، فسعَى من تلقاء نفسه إلى السائحَين وقادهما إلى حُجرةٍ وفيرةٍ ليستريحا، ثمَّ أقبل بعد حين فدعاهما إلى مائدةٍ نظيفةٍ وطعامٍ مُعَدٍّ بإتقان. وبعد أن تحدَّثا في شؤون الحياة والنَّاس:

"قاد المضيف ضيفه إلى حُجرتهما، شاكرًا الله أن أرسل إليه رجلَين على هذا الحظِّ من الحِكمة والفضيلة، ثمَّ قدَّم إليهما شيئًا من مالٍ بطريقةٍ سمحةٍ كريمةٍ لا تؤذي النفوس. فاعتذر الناسك، وودَّع مضيفه، زاعمًا أنَّه يريد أن يسافر إلى (بابل) قبل أن يُشرِق النهار... ثمَّ أيقظَ الشيخُ رفيقَه من آخر الليل، قائلًا له: "يجب أن نرحل، ولكنِّي أرى قبل أن يستيقظ الناس أن أترك لهذا الرَّجُل آيةً على ما أُضمِر له من حُبٍّ وإكبار.» قال ذلك وأخذ مصباحًا فأشعل النار في الدار. وقد رُوِّع (صادقٌ) فجعل يصيح، وهَمَّ أن يمنع الشيخَ من اقتراف هذا الإثم المنكر، ولكنَّه كان يجذبه بقوَّة لا تُقاوَم على حين كانت الدار تشتعل، والناسك ينظر إليها من بعيد في هدوءٍ أَيَّ هدوء، قائلًا: "الحمد لله، هذه دار مضيفي قد دُمِّرت تدميرًا! ما أسعدَ هذا الرَّجُل!"."(4)

ونرجئ استكمال هذه الحكاية، بغرائبها ودلالاتها ودرسها المقارن، إلى مقالنا الأسبوع المقبل.

***

أ. د.عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

...........................

(1) في الفصل العاشر، على سبيل المثال، تَرِد محاماةُ (صادق) عن العَرَبيِّ (سيتوك) ضِدَّ اليهودي، الذي أنكر ما عليه له من قرض، واستدراجُ صادقٍ إيَّاه ليزلَّ لسانُه أخيرًا بما يدلُّ على معرفة المكان الذي كان اقترضَ فيه. وهي نفسها إحدَى الحكايات المنسوبة إلى قضاء (إياس)، واحتياله لكشف الكاذب من المتقاضين. (يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 65- 66، ويُقارَن: ابن الجوزي، (2003)، أخبار الأذكياء، عناية: بسَّام عبدالوهَّاب الجابي، (قبرص: الجفان والجابي)، 99؛ ابن كثير، (1998)، البداية والنهاية، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 13: 124؛ ابن حِجَّة الحموي، (2005)، ثمرات الأوراق، تحقيق وتعليق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (صيدا- بيروت: المكتبة العصريَّة)، 117). وربما كان لحكايات الفِطْنة تلك مصدرٌ شعبيٌّ مشترك، استقتْ منه قِصَّةُ فولتير كما استُقيت بعض القصص المنسوبة إلى إياس.

(2) يُنظَر: فولتير، 120- 128.

(3) م.ن، 122- 123.

(4) م.ن، 124- 125.

باقة أشعارٍ تتشظى ما بين لهيب الحب والثورة وصقيعِ الحرمان والمنفى.

بتّ من المتابعين لنصوص الشاعرة الجزائرية الفارسة المخملية الدكتورة نادية نواصر، صاحبة الكلمة الراقية اللطيفة النّاعمة القوية المؤثرة. وكان لا بد من وقفة نقدية لشاعرة اشتغلت على شعرها باهتمام وتفان. حتى تمكّنت من اتقان صنعتها، واختطّت لها طريقا مميزة في كتابة قصيدة النثر ما بعد الحداثية. فسعت مثابرة من أجل خوض غمار الرّاهن، ومسايرة وتيرة التّحوّلات الاجتماعية المعاصرة، التي تستوجب أدوات كتابة مغايرة، وذائقة جمالية تختلف أيّما اختلاف عن سابقاتها.وهي التي في أوج قحط المشاعر أمطرت ريهام الغيث العاطفي، فتساقطت بكلمات الرحمة على شغاف أرواحنا التي أرهقها العنف وجفاف العبارات وهمجية التواصل، فطلعت بنا شجرا وارفا بفيىء البلاغة، مزهرا بزهر البديع، متجذرا بأصالة الأمة، مثمرا بغلال الحب، ينبت من تربة الحنين. وفي هذه القراءة المختصرة، سنتعرض لنماذج من قصائدها بالدراسة، قصد امتاع القارئ بإبداعها الأدبي.

من هي الشاعرة نادية نواصر؟

نادية نواصر، قامة أدبية جزائرية صاحبة صالون أدبي بمدينة عنابة، متحصلة على ثلاث شهادات دكتوراه فخرية من العراق ومن سوريا. لها مجموعة من الدواوين المطبوعة. ناضلت لأجل الحرف وهي في عمر الزهور فنقشت اسمها في سجل التاريخ بأحرف من نور. شاعرة مخملية بامتياز، رقيقة ذات حس مرهف وحساسية عالية، تتسرب الى أحلامنا ومشاعرنا، وتلامس شغاف قلوبنا باحساسها الشاعري المبدع. هي من مدينة شطايبي بولاية عنابة الساحلية، موطن الابداع والاصالة، تفتحت شاعريتها منذ نعومة منشئها، تقرض الشعر بكلّ الوانه الوطني والثوري والوجداني الغزلي، وتتسم بالعاطفة الوجدانية، وتكتب عن الحب وهموم الأنثى العاشقة، وتناجي الحبيب بأحلى كلام البوح في غير ابتذال، وتخاطب شاعرها الافتراضي، متمسكة بالأمل والانتصار وبزوغ فجر جديد، ومؤمنة بأن الحياة قصيرة، وبها ما يستّحق أن يعاش. فهي تنقل المتلقي إلى جو النص الشفاف النقي البريء الممتلئ بعبارات الاشباع العاطفي. وما أعجبني في شعرها هو سلاسة الكلمات والعبارات والصور وفخامتها في غير تكلّف، فيخال المتلقي نفسه أمام نصوص طفلة شاعرة، تحمل عقل وقلب امرأة ناضجة. ولعلّ من الصّدف الجميلة أن أتعرف على نادية نواصرالانسانة، من خلال متابعتي لقصائدها التي تنشرها بين حين وآخر في عدد من المواقع الالكترونية، وعلى صفحتها الفيسبوكية، حيث تسترعي الانتباه وتشدنا بمضامينها وصورها ومعانيها وايحاءاتها ودلالتها وأبعادها، وقد استقرأت جلّها، وعشت مع حروفها ومفرداتها وعباراتها المشحونة بالصّدق العفوي.فوجدتني أظفر بمعرفتها عن قرب لأجد فيها تلك الانثى الناعمة والمرأة الصامدة القوية،والأم الرؤوم والاخت الحنون والابنة البارة والزوجة الوفية، والصديقة الصدوقة الطيّبة المعطاء.4732 نادية نواصر

تمتاز شاعرتنا بشفافيتها وتلقائيتها وعفويتها ووضوحها، فنصوصها شفيفة سهلة ورموزها دالّة عميقة المعنى. يطغى عليها الحب وتسيطر الرومانسية على الغاليية منها، فأجمل ما في كتاباتها أسلوبها الشاعري الذي يجعل الكلمات المقروءة تنساب بين أيدينا كالنهر المتدفق.فتتنوّع موضوعات قصائدها ونصوصها النثرية وخواطرها الشعرية، والقصيدة عندها تمتاز بالايحاء الموسيقي الجميل، واللغة الحية الهادئة، والصورة الشعرية الجديدة الزاهية الخلابة، وهذه الصورة هي المحرك الموسيقي الايقاعي لكلماتها المنسابة العذبة، تكتب عن الحب بكل نبضات قلبها ونفثات روحها وارتعاشات جسدها، وتتأجج بالمشاعر الأنثوية العاطفية، بوعي شعري لافت، وحس انساني راق.

اثر هذه المقدمة المختزلة سنحاول قراءة ديوان " رسائل إلى تشي غيفارا "، وليس العنوان وحده ما شدني للاهتمام به، بل المحتوى وموقف الشاعرة ذاتها من الموضوع.حيث صدر حديثا للشاعرة ديوانها الذي نحن بصدد قراءته، عن دار الألمعية، والذي تحكي فيه عن مسيرة الكاتب والشاعر الطبيب " غيفارا" الذي اختار أن يحمل رسالة الشعوب المضطهدة، وينتقم ممن أخطأوا في حق الفرد وسلبوه كرامته، حيث يتضمّن الإصدار حياة الزعيم وسيرته النضالية ونصوص شعرية تتغنى به.على هيأة رسائل بوّبتها في قصائد ضمن الديوان الذي

يقع في ثمانين (80) صفحة، وتقول شاعرتنا: "الكتابة عن الزعماء والثوريين تتطلّب حسابا ثوريا وإيمانا بالثورة والانسان والكينونة، لقد كنت مقاومة بالزعماء ومواقفهم الرجولية ونزعتهم لإنقاذ الانسان من الذل وقبض الجبابرة.. حين كنت أتأمل صورة هذا الرجل الجميل قلت في نفسي كان من الممكن أن يكون ممثلا يتباهى بنجوميته في الشاشات وفي أفخم الفنادق، أو عارض أزياء يبهر الملايين على منصات العرض أو زير نساء يسقط في شباكه أجمل نساء العالم، ولكنه اختار الغابات والعراء والأشواك والأحياء التي أنهكها الفقر والأطفال الذين أتعبهم البكاء لأجل كوب من الحليب، ومضى مسكونا بقضية الانسان ليوفر له خبزا مغمسا بحساء الكرامة، في أرض تقبل الانسان الشامخ، إلا أن الرجل الثوري الجميل أعدمه أعداء الحق، ويظل الحق قضية كل ثوري شامخ رغم مرارته...." حوار جريدة الشعب.

هذا الديوان الثائر الخلاب الشفاف الطافح بالمشاعر العشقية الحنينية الفياضة والعواطف الأنثوية الجياشة، يبعث الدفء في أعماقنا، بما فيه من انفعال وجداني وفيض عفوي ودفقات شعورية شديدة الوضوح، خطته صاحبة الحروف المخملية الانسيابية والكلمات الحريرية الرقراقة، التي يرقد قلبها فوق صخور الليل، وعلى هودج الصمت تمسك نفسها، وتصقل روايتها وقصيدتها على بوابات الفجر.

علاقة الثورة بالشعر:

الشعر فن والفنُّ شبيه بالثورة إن لم يكن توأمها. فالفنُّ، بطبيعته، يرفض الواقع ويتوخّى إعادة صياغته برموز وعلامات جديدة، وبمعان متجدّدة، وبقيم متأصّلة، تماماً كالثورة. فالأدب والشعر لن يكونا فنا أصيلا ما لم يتركا الواقع ويحلّقا في أجواء الخيال، لخلق عالم مختلف عن العالم الراهن. إنّ الفن يرمي إلى تغيير الواقع، وبناء عالم جديد وفق نظرة الفنان وإيديولوجيته ورسالته. ولا يتدفق إلهام الفنان فعلا فنيا إلا عندما يبلغ الفنان ــ أديبا أو شاعرا أو رساما ــ درجة عالية من القلق والتوتر، إن لم نقل الهيجان النفسي والجنون. وينبئُنا التاريخ أن الأدب عموما ــ والشعر خصوصا ـــ كان دوما محرّضا على الثورات، وممهِّدا ومؤجِّجا لها، ومتغنيا بها، وممجِّدا لفكرها وشهدائها. ولهذا فإن جلّ الشعراء المخلصين كتبوا للثورة ومجّدوا شهداءها، وتغنوا بأهدافها. وهاهي شاعرتنا نادية نواصر، تتغنّى بالثورة لتمتطي صهوة المجد وتتقمص روح الخلود في هيأة الحضور الغائب، الميت الذي حيا في عالم الكلمات والمعاني بكلّ بهائه الرجولي وبطولاته الخالدة. فتقول

الشاعرة في مستهلّ ديوانها "رسائل إلى تشي غيفار":

أيها الجاثم على جبل الرفض

ارنستو تشي غيفارا

بكل هذا البهاء الرجولي

في يمينك سيف الحق

وعلى يسارك وردة العمر

وهي ترنو إلى ربيع الإنسان

قل لي: يا عصفا يعيد الكلام إلى سنابل الصمت

لماذا تشي غيفارا؟

عند كتابة النص الشعري يسيطر على شاعرتنا المخضرمة هاجس الوطنية المفرطة وحب الوطن وتمجيد الثورة والثوار، ولا غرابة من ذلك كونها جزائرية حتى النخاع وكريمة مناضل مجاهد فذ، ونلاحظ تكرار هذه الظاهرة في الكثير من قصائدها. وحين تقرأ شعرها، تجدها تتحدث عن امرأة ألهمتها ثورة التحرير المظفّرة، وأضناها القهر والحرمان الذي عاناه أبناء وطنها إبّان الاستعمار، حيث نلمس عن قرب نبرة العنفوان المجبول بالحزن جرّاء ما دفعته الشعوب المستعمرة. لذا تجدها تكتب عن الشهداء والثوار، وعن الزعماء الذين دافعوا عن الحق وعن الإنسان والانسانية والأرض، وأن انبهارها بالزعماء والشهداء ودورهم البطولي والانساني جعلها تتوقّف عند حياة تشي غيفارا ونيلسون مانديلا ومظفر النواب وجميلة بوحيرد.. مؤكّدة أن هؤلاء لهم عزيمة ورؤيا وإيمان بالحق والعدالة يختلف عن الانسان الطبيعي، ولهم شجاعة رهيبة لتقديم حياتهم مقابل كرامة الإنسان، وبالتالي تقول : أجدني واقفة على عتبات مسارهم، يغريني أن أتوغل أكثر وأكتب وكأنني أعيش في عصرهم. أدى بها تمجيدها للقيم النبيلة وحبها للعدالة والانسانية إلى اتخاذ الرموز العالمية، مثلا يحتذى به وموضوعا دسما لكتابة قصائدها الابداعية، حتى تظن أنها عاشت في فترتهم وخاطبتهم فعلا لا مجازا، فهي إذ تكتب عن تشي غيفارا البطل، فلأنّه ناضل من أجل الحفاظ على الاستقلالية الفكرية والتنموية للتجربة الكوبية، بل وتجارب كافة الشعوب، وحقهم بالمبادرة والاجتهاد في بناء أوطانهم، دون تبعية،كان نضاله من أجل الانسانية جمعاء وهو الذي قال : "لا أعرف حدودا، فالعالم بأسره وطني.. أحس على وجهي بألم كل صفعة توجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وُجد الظلم فذاك وطني..." وأينما وجدت الدعوة إلى الحرية والعدالة تجد شاعرتنا تكتب بل وتبدع جاعلة النموذج المذكور مثلها وقدوتها.

النزعة الرومانسية:

أجدني أعزى ظهور النزعة الرومانسية في شعر نادية نواصر، إلى أثر المعاناة التي كان يعانيها اجدادها أثناء الحرب التحريرية، وفي اعقابها، حيث عانى الناس من العذاب، وكبت الحريات، والعواطف، والقيود، مما أدى إلى انطواء الشاعرة على نفسها، والتوجه إلى دنيا الأحلام بين اليأس، والأمل، فنجدها تراوح بين الحزن، والأسى، والمعاناة والفرح أحيانا اخرى، فالهروب إلى الطبيعة مؤشر واضح ينبىء عن روح شاعرتنا الشفافة الصادقة وخيالها الحالم، وبوحها الصادق، حتى لا يكاد يخلو شعرها من تجليات الطبيعة، والركون إلى أحضانها، واستشعار حنانها، وروعة جمالها، ومناجاتها، واعتبارها بمثابة الأم، والملهمة لها، والتماس العزاء منها في حالات الانكسار، وبالتالي فإنَّ هذا يقود ها للوصول إلى فلسفة طبيعيّة قوامها ثنائيّة البشر والطبيعة، وهي التي تطوّع الجبال وتنسب لها صفات البشر باستعارات قوية بليغة سلسة، وتماهى حرية الطيور في صفات البشر، وتستعير تلقائية الراعي لتنسبها إليها في لحظة استسلام أمام شرور المتربصين مقتبسة من أسلوب الشابي الرومنسي الرافض الثائر الصادق وفلسفة روسو الضاربة في عمق الطبيعة.فتقول : " أيها الجاثم على جبل الرفض..".. " ترنو إلى ربيع الانسان "..."...سنابل الصمت "...." كي يعبروا الى شساعة الكون...الاصوات الحرة كاسراب الطيور...."..علموني ان الراعي يتبع خطوات اغنامه... كسرة شعير...."، "لا يغادره نايه...: ".. وأعاد للجبال مرتفعاتها وللسهوب اخضرارها..."، "...أيها المسكون بالثورة..بقوة الطوفان وجريان النهر....."

تشي غيفارا.. أنطولوجيا الثورة:

و بالمقابل تبالغ في تمجيد الثورة التي قامت من رحم امرأة واختزلت ثورات العالم في جنين يتشكل في رحم امراة هي ام البطل. فالثورة والشعر كلاهمها نقد ورفض لجمود الواقع، وكلاهمها عمل معارض لنظم قمعي يحارب الحرية ويضيق الخناق على من يدعو إليها، وكلاهما يهدفان إلى إيقاظ الوعي لدى الانسان للوقوف على حقوقه والمطالبة بها والدفاع عنها، ولذلك أحيانا يكون الشعر سببا لاندلاعالثورة، ومحرضا عليها، ومشعل نيرانها، وكاتب شعارها، وراسم أهدافها، وأحيانا يأتي الشعر وليدا لحراك الجماهير، فتكون الثورة المعين والملهم الذي يستقي منه الشاعر مادته، فيعرب عنها وعن أحداثها.

هرمنطيقا الأمكنة ورمزية النّص:

يعتبر النص الشعري المعاصر حقلا خصبا لإنتاج الحريات التأويلية، ويعدّ المكان في القصيدة منطلقا متينا لولوج خبايا القصيدة، بفعل عوامل مختلفة باتت تشكل سندا انطولوجيا ولغويا سعى فيه الشعراء إلى تثبيت دلالات توحي عن رؤية جمالية وفلسفية لهذه الأماكن، فأنتج ذلك خطابا شموليا خضع لشعرية لغوية وأدبية أبرزت كينونة المكان وفاعليته على مستوى العلاقات التقابلية والضدّية في النص الشعري. والمكان في الشعر يختلف كثيرا عن المكان في الواقع حيث يتشكل عن طريق اللّغة التي تمتلك طبيعة مختلفة من حيث الشكل والمضمون فاللغة لها خاصية وفعالية ذات حضور مزدوج إذ لها حضور طبيعي، كونها مادة بالإضافة الى كونها نظام من العلاقات التي لها آليات ذهنية تتحدد بها. وبما أنّ المكان الشعري لا يعتمد على اللّغة وحدها وذلك لأنّ اللّغة محكومة بالخيال والتجارب الإنسانية المختلفة، ليتسنى للّغة تجاوز حيز الواقع المحكوم بماديته ّالصمّاء لذلك تستنجد بالخيال للولوج الى ما بعد هذا الواقع، بل وتتناقض معه في أحيان كثيرة للبحث عن أماكن جديدة كونه يظل ضمن سياق الواقعي الحقيقي لكنه واقع حلمي مكتشف.إنّ وظيفة المكان في الشعر له أبعاد نفسية وفكرية عالية كونه يشكل أحد أهم الأبعاد الفنية والبنائية في اللغة الشعرية فبدون المكان لا يمكن للشاعر من التغلغل بين خبايها الوجودية والفنية رغم ان هذا الولوج للواقع يكون عبر شحذ حركة الخيال النص المتمثل باللغة الشعرية على نحو يؤدي الى الغاء قانون السببية وإحلال مكانه البعد الروحي والنفسي المحض عبر شحذ المخيلة التي تشتمل على بعد نفسي وموضوعي يظهر على شكل نسق خاص بالشاعر الذي هو جزء من وعي وثقافة المكان التي ينتمي إليها الشاعر. وبناء على كلّ ما نوّهنا به، يظهر جلياّ لدى شاعرتنا وفي ديوانها الذي نحن بصدد دراسته رمزية المكان وتتجلّى في قولها:

" أيّها الجاثم على جبل الرفض...." وترمز الصورة البيانية الاستعارية إلى إصرار البطل على رفض الظلم والاستغلال، والذي من أجل مناهضته دفع حياته مكرسا للصمود، مؤسّسا لثورات الرفض اللاحقة.(رسالة 01)

" على جبل ضارب في العراء....." وترمز الشاعرة إلى الشموخ الممزوج بالإصرار والتضحيات.(رسالة 05)

" أغلب الذين تهيء لهم أرض القلب...." ترمي من خلال توظيفها للاستعارة إلى أن العاشقين لأوطانهم، يحملون أوطانهم في قلوبهم وتسعها أفئدتهم.(رسالة 05)

" هل كان الانسان بينكما القاسم المشترك في صحراء العدل؟...."، بارعة في استعارة الرمز هي شاعرتنا، وهي التي اختزلت معاني الظلم واللاعدل وقحط الانسانية، وجفاف المشاعر في عبارة " صحراء العدل " حيث لا إنبات ولا جدوى من الصحراء كما لا طائل من انتظار العدل في أوطان تبدّدت فيها الرحمة.(رسالة 16) " وانت أيها القادم من مدن الملح والرّياح..."...." إلاّ أنّك دخلت على بلباسك الثوري على مخيمات القهر، ومداشر الجوع والعراء..." استعملت المجاز الدال على تضحيات البطل رغم ما يؤهله له الحظ الموسوم بالتأجيل والإرجاء.(رسالة 14).

رسائل الشغف المؤجل:

تجرأت وأنا أقرأ الديوان فقلت: لو قُدّر لي أن أعيد ترتيب الديوان -كما لو كنت مؤرخة سوسيولوجية - لوضعت القصائد التالية تحت باب “رسائل الشغف المؤجّل ولا غرابة وأن الرسائل كلها موجهة من الشاعرة إلى البطل الذي ملأ زمانه وشغل حاضره وحاضر لاحقيه . بالغت في جرأتي فوضعت عنوانا آخر لبقية القصائد، وهو: آهات نونية ؛ على اعتبار وحدة موضوع القصائد وتنوع صور الوصف والتصوير وتنوع أخيلتها وبيانها. فقصائد الديوان كلها تتجاوز الرسائل والإيقاعات العادية، فلقد أصرّت الشاعرة على أن تجعلها ذات إيقاع منسجم يجذبه مغناطيس العنوان: “رسائل إلى تشي غيفارا ” وأن تجعل إيقاعها الداخلي يتصاعد بوتيرة واحدة مع إيقاعها الخارجي، وفق موسيقى وخيال محكم. والحق أن كل قصيدة في الديوان تحتاج إلى قراءات عدة، فكل قصيدة تفتح أفقا جديدا أمام قارئها، كما تفتح حلما جديدا وأملا جديدا.. علّنا نجد صورة الرجل المثالي بشغفنا الحالي إلى صورة الماضي الجميل بقيمه الراقية الرفيعة النادرة مع التقادم. ففي رسائلها توجه رسالة شاملة ذات غاية سامية مغزاها يلخص فلسفة الحياة فحنين الرجل إلى المرأة حنين الشيء لنفسه، أما حنين المرأة إلى الرجل فهو حنين الشيء لوطنه، وهنا نجد الشاعرة نادية نواصر تبدع في إبراز ذاك الحنين مكابرة، فتخفي شغفها ضمن رسائل تراوح بين البوح والتشفير.

تشي غيفارا....أيها الرجل ذو الحضور الخفّي.. الذي لا يراه ويهتدي به إلا المرأة المتفتحة العارفة، هي شارعرتنا تلك التي أدركت أنك فريد من زمن المستحيل تسعد العين وتثير السكينة على القلب، عطر سيرتك فواح عبق، يعطي عبيره لمن أحسن الاهتمام به، وزرعه بتربة الوطن المعشوق، يا من علّمت البشرية معنى الرجولة والبطولة، فبفضلك صورت لنا الشاعرة الرجولة تُشعر وتُلمس وتُرى، تعيش ملاصقة لصاحبها كظلّه يراها الجميع إلا هو، تحضر معه إن حضر فتضيف لحضوره هيبة وسحرا، ولا تغيب إن غاب فتُطبع في عقول الناس تماما كما تُطبع ملامح صاحبها.. الرجولة أجمل ما يمكن أن يوجد فيك على الإطلاق، أجمل من أجمل ملامح، وأفخم من أفخم لباس، هي ثمرة حكمة العقل وقوة الإيمان وطهارة القلب، وشجاعة الفعل، وصدق القول ليست لأي أحد ولا تليق بأي أحد سواك......"...كان من الممكن ان تكون نجما...." رسالة 05.

يا من كرّست حياتك من أجل الحق والعدل والحرية أيها الفيلسوف المشرع للحياة الكريمة وفلسفة الشرف. يا من رفضت ان تعيش على هامش الحياة هائما على وجهها بلا هدف، حياتك أسمى من أن تتمحور حول نفسك وأكبر من أن تدور في فلك ممتلكاتك السرابية، لا خبز لك في الادعاء ولا تجيد لعبة الأقنعة ولا تكترث كثيرا لاعتبارات البشر، يكفيك أن تبدي ما لديك بصدق ولا يهمك بعد ذلك إن صدقه التاريخ أم لا، يكفيك كلمة حق وموقف حق، ونصرة المظلوم على الظالم مقابل حياتك. وانت الذي قالت فيك شاعرتنا "..حيث تكون الحرية هي المقابل الوحيد...." "...ليس للإنسانية جنسية ولا ديانة ولا حدود...وشتان بين رجل القضية وفداحة الراعي..." " ايها المسكون بالثورة...الكبار يدخلون التاريخ من اكبر الأبواب ويمضون إلى أبديتهم بأجساد مشوهة ومنقوصة ولكن بأرواح طاهرة مطمئنة..." رسالة 11.

نلخص تجربة شاعرتنا في ديوانها هذا، من خلال مقارنة قصائده بقصائد أخرى تحمل نفس طبيعة الموضوع (رسائل إلى نلسون منديلا...)، فنرى كمية التطوير والتجديد في الشعر، ودرجة إفصاحها عن بنية الموضوع.، وبراعة اكتناز أبجدية الشاعرة الأسلوبية، وإبراز خطوطها الشعرية وخطواتها الإبداعية من تجلياتها الأولى، فجاء ديوانها بمثابة خط زمني شعري لاحق للزمن المفقود، لدرجة أنك تستطيع أن تقرأ تجربة الشاعرة من أول نبضها إلى منتهاه بين دفتي هذا الديوان وتغرف من نهر إبداعها، حتى تكاد ترفع شراعه للنسيم الشعري المنساب، فتمخر سفينة عباب أبيات هذا الديوان المتنوعة موسيقاه، والمكتنز بألوان اللآلئ البيانية، والدرر البديعية، في تنوع خلاق، يجمع بين المتشظي من الحب والحرب ومن القديم والجديد، والآمل والغاضب، والطليق والحبيس، والزمان والمكان، في لغة شعرية حية متميزة، ونسق شعري منفتح على كل الأشكال، وممتد بين كل الأجيال، وتدرك ماتختزله من آهات لتقول في النهاية: أن الثائرين أولى بالمعروف.

***

ليلى تباني

من حيث يدري أو لا يدري يعيد طارق الكناني في "يوميات مچاري: أسرار مدينة"* فك وتركيب تطور المجتمع في العراق بعد الاستقلال. فالحبكة تأخذ شكل دوائر أو حلقات كالتالي: هجرة كريم من الريف، حياة كد وشقاء (ما يسمى في النقد الفني حبكة أرزاق - يمثلها لدينا كتاب الطبقة المتوسطة وأدباء المهجر)، ثم وصوله إلى مراكز رفيعة، وأخيرا هدم بيته في أحداث الشغب. ولكن تغلف الحبكة قصة إطار بطلها صندوق ومذكرات. ولا يغيب عن ذهن أحد توازي هذه الهجرات والرحلات الداخلية مع حلقات التحول الاجتماعي ابتداء من الانقلاب العسكري على الملك عام 1958،  وانتهاء بالغزو عام 2003. ويؤكد هذا الافتراض البنية الداخلية لمنطق الأحداث.

1- نضال وكفاح - أو عمالة عضلية فقط تستجيب لما تمليه عليها الغرائز. وتتخللها أحلام يقظة - مثل حب كريم لجارته شهيدة، مع مشاهد اغتصاب تنتهي بابن سفاح - ترمز له الرواية بجماع بين حمارة كريم وحمار شهيدة. ومثل هذا التبادل في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر لا يشير لعلاقة مقلوبة بل إلى حالة رهاب خصاء نموذجي. ويضاعف منها أن كريم كان يتوهم، بينما حمار جارته يمتلك حمارته. ولا تجد الحبكة مخرجا من هذا المطب سوى بافتعال حريق يلتهم البيت ويشرد العائلة. وهو حل استراتيجي طالما لجأت إليه الرواية العربية، وأخص بالذكر "صراخ في ليل طويل" لجبرا. أيضا تنتهي هذه النوفيلا بحريق يهدم قصر العائلة الأرستقراطية ويحول ماضيها إلى رماد. لكن إذا كانت هذه النهاية معلقة، وتضعنا أمام ظلام دامس لا يشبهه غير ظلام القبور، يترك الكناني أمام كريم احتمالا بالمتابعة.  بتعبير آخر لا يؤجل جبرا أحكامه الجازمة، أما الكناني فيؤخرها.

2-  اجتهاد ومثابرة - أو عمالة فكرية تستجيب لما تمليه عليها الطموحات والأطماع. ولا يخرج كريم في هذا السياق عن دورة حياته السابقة. ويقترن بسارة -أرملة لها تاريخ سابق. مجربة مثل شهيدة. ولكنه يصحح النتائج فقط. فيعمد لاغتصابها رمزيا وينجب منها أبناء شرعيين. بتعبير آخر يمسك كريم عصا الذكورة بيده - وهي عصا انتقامية ويضرب بها رأس التاريخ والمجتمع. ويحرص على إدانة أخلاق الطرفين.

وهذا أول اختلاف بين "يوميات مچاري" وبقية الأعمال السياسية التي أرخت لانقلابات العسكر في المنطقة.  فسعد رحيم وسابقه فاضل العزاوي - ينحيان باللائمة على الطغيان وليس انحلال الأخلاق وضعف المبادئ.  بينما يربط بينهما  علاء الأسواني في روايته المعروفة "عمارة يعقوبيان". وإذا تحولت سجون رحيم والعزاوي إلى بيت أو عمارة عند الكناني والأسواني، لا يمكن أن لا نلاحظ الدلالة الضمنية التي لها شكل ميتا رواية. فالسجن فضاء حدود، بينما البيوت والمساكن هي فضاء أحوال. وهناك فرق بين الطرفين يشبه الاختلاف القانوني بين الأخلاق /قديمة وموروثة والطغيان /وضعي وتعاقدي. وأستطيع أن أشبه الأول بما يسميه علم الإحصاء دلالة معنوية significant difference والثاني بما يسميه المتبقي residual أو الخطأ الأولي -وهي أخطاء لها علاقة بالتصميم والقياس.  وتوجد قرائن على هذه المشكلة وهي تأنيث أحداث القسم الثاني من الرواية وتبادل النساء للأدوار دون تبديل في المعنى. فسارة -الزوجة تشبه شهلة -الأخت. وحورية العمة الضحية تشبه شهيدة جارته أو وكيلة الشيطان. وإذا سقطت آخر امرأتين في حفرة المجتمع، فقد جرد كريم حسامه لينتقم لهما بقوة القانون. وإذا نجت أول امرأتين من المصير الأسود تبقى هناك ندبة عميقة في حالة شهلة. فهي أخت بشهادة الميلاد وابنة عمة في الحقيقة.  وتختار الرواية التستر على هذه الأسرار، فيتلف كريم وثائق ميلاد شهلة، ويعيد الراوي صندوق اليوميات إلى صاحبه. وجدير بالذكر أن هذا يضع الاثنين على قدم المساواة، ويساوي بين الراوي الأول والثاني. أو بين المتكلم والمدون. ويحتفظ كل واحد منهما بسر لا يعرفه الآخرون. سر الأخت والعمة، وسر يوميات كريم.

3- سقوط ولجوء - أو فشل عسكرة العراق.  فشهلة تسافر إلى لندن لدراسة الطب وتعود بشهادة عليا. ويخرب بيت القاضي كريم ويحتمي بشهلة. وكأن الرواية تريد أن تترك مفاتيح الخاتمة بيد ممثل لقوة خارجية.  ومن سخرية الأقدار أنه حل تأنيثي أيضا. عدا أنه بيولوجي (طبيعي وإحيائي- فشهلة طبيبة).  ولذلك لا أعتقد أن الرواية هي ببساطة قصة نجاح أخوين أحدهما طبيبة والآخر رجل قانون. ولكنها أقرب إلى حبكة العمل الوثائقي الهام الذي أعدته إذاعة بي بي سي قبل سنوات بعنوان "بيت صدام".

بقيت عدة ملاحظات لها علاقة بفن النوع.

أولا هذه الرواية نوفيلا عن تخريب مجتمع المدينة وقيام مجتمع الدولة. ولذلك عمدت لزرع أخلاق ريفية في وسط  مدينة. وإذا غابت صور الحقل والفلاح فقد حلت محلها صور الموظف والطالب والبيت.  ولكن مثل هذا التحويل رافقته بالضرورة المكائد وخطط الانتقام، وربما من هذه الحقيقة نشأ الاهتمام بالجانب القانوني والحقوقي من طرف وبالجنايات وجرائم الشرف وعقدة التلصص من طرف آخر.

ثانيا ابتعد الأسلوب عن أعصبة الحداثة، واستعمل الحيل الفنية الأولية كاليوميات والحوار المونولوجي الطويل. وقد كانت اليوميات تصور وتتابع أما الحوار كان ينقل ويلخص. وربما هذا أيضا تعبير غير مباشر عن أخلاق مهاجرة حقنتها الرواية في مجتمع حضري مستقر. وهو ما يبرر أيضا حيرة كريم بطل الرواية فيما يخص الانتماء، فلا هو يدخل في بنية النظام الجديد ولا يعارضه. وبالمثل لا يتخلى عن المدينة لكنه لا يلتزم بمدينة واحدة. وأعتقد أن هذا التردد ليس مشكلة ذاتية فقط ولكنه قضية نوعية ويعبر عن ضرورة الانتماء لهدف خارجي. وهو يشبه إلى حد كبير بنية السايبورغ، الكائن الذي تتآزر فيه البيولوجيا مع الميكانيك، أو الإنسان الآلي مع الإنسان الحقيقي. وهو ما تجد فيه الدكتورة إيليت بين يشاي الأستاذة في جامعة حيفا حبكة قانون طوارئ أو حبكة أزمة سياسية مستمرة لها تعبير ثقافي. والثقافة في هذا السياق ليس بالمفردات ولكن بالتصورات وبما يلحق سلم العلاقات الوظيفية من تشويه واضمحلال يصل لدرجة السقوط.  ومن المؤكد أن هذا السياق يدين بالكثير لمشكلة فلسطين وما فرضته النكبة علينا من وعي مصدوع بعلاقة الحضارة مع العرق. وهي كلمة أوضح من الهوية أو دولة الأمة. فهي مفردات محدثة وأسقطنا عليها ضغوط الغرب في إعادة تعريف معنانا الوجودي والتعايش مع المحن والأزمات. ولا يوجد شيء يخجل في المفهومات العرقية إذا ابتعدنا بها عن التعالي العنصري. فالعرق حقيقة يرعاها التاريخ والجغرافيا أو قانون الأصول، بينما الهوية مفهوم أنتجته أوروبا بعد عصر التنوير. ولذلك أضيف أن النكبة بحد ذاتها لم تكن هي المحتوى الحقيقي للصراع والمأساة -في رواياتنا ولكنها مجرد إسقاط آخر للمخاض الذي تطور ما بين الحربين بين 1915 وحتى 1950. وإذا قدم الغرب تفسيرا وجوديا لمشكلته مع حرية الأفراد كان لزاما علينا تقديم تفسير حضاري وآخر، للأسف، أمني عن مشاكل السلطة معنا. بتعبير أوضح ما يتسبب به الأفراد من عجز وقلق في مجتمع كوزموبوليتاني متعدد الأعراق والثقافات في الغرب يقابله لدينا تقصير في تأمين الخدمات لمجتمع من لون واحد. وهو ما ينشأ عنه خوف دائم يمنع الإنسان من مصالحة نفسه ويحض على الاختلاف مع صوره الكثيرة التي ينتجها مجتمع مرآتي يكرر ماضيه.

ثالثا. لم تنقل الرواية بطلها من مستوى أدنى إلى أعلى، ولم تغير المعنى المباشر للأجناس بمفهوم الجندر - أو التجنيس الاختياري. وإنما حاولت أن تصالح عليه. فشهيدة تعود للظهور بصورة سارة، وأخيرا بصورة شهلة. وكل ما يتبدل هندسة المكان ومظهر الشخصيات. لكن من الداخل نجد اهتماما بقضية الأنساب وتطور هذه الناحية اجتماعيا من فوق المعنى التاريخي للجنيالوجيا. وحتى لا نضفي على العمل البسيط والتلقائي شيئا ليس منه، أعتقد أن لجوء المقيم للمهاجر العائد لا يختلف عن وعي فتح المدينة الأم بمعونة من المدينة التوأم (إسقاطات عميقة لنزاع مجتمع مكة التجاري مع مجتمع اامدينة العسكري - وعقد تحالفات خارجية لكسر شركة النواة أو المركز).

رابعا اهتمت الرواية بما أسميه سياسة المكان المحدود أو الكامبوس. ولا أقصد المدينة الجامعية بل أضيف أيضا مخافر الشرطة والمحاكم والضواحي. بمعنى أنها حولت البلد إلى ثكنة عسكرية. وهذا ما يرشحها لتكون نموذجا لأدب الطوارئ.  ولذلك يجب أن نتوقع وجود لغة رمزية تنشط من خلف الدال وفوق المدلول. وأستطيع أن أتصور أنها نظام رموزي معدل من لاكان: في أول مستوى تكون الأحلاف الاجتماعية نتيجة عقود تعود بالنفع على الطرف الضعيف وتضمن تحييد الطرف القوي (حالة الآغا بعد رفع راية الاستسلام - وقد ظهر في الحبكة مرتين. أول مرة اغتصب بها عمة كريم. وثاني مرة بعد الانقلاب. وجاء إلى كريم ليطلب يد أخته. ولا شك أن الارغام والامتلاك هو نقيض الطلب والتوسل).  وفي المستوى الثاني  لا يمكن للدوال، والتي هي شكل عائم للمتخيل، أن تخدع ذاتها دون خداع غيرها. ولذلك تبدو الأخطاء كما لو أنها بديهيات أو أمر واقع. وفي أسوأ الأحوال كأنها نتيجة مرونة براغماتية. وفي هذه الحالة لا يوجد موضوع للرغبة ولكن افتراضات عنه (وهو حالة سارة).

***

د. صالح الرزوق

................

* صدرت الرواية عن مؤسسة المثقف العربي ودار أمل الجديدة بغلاف للفنان مصدق الحبيب. 136ص. 2023.

يتبوأ المكان منزلة معتبرة في النص. وحضوره مرهون بحسن استثمار الكاتب له. وفي وسط صراعه مع مخيلة الكاتب تنمو مكونات النص مع هذا المكون ليعكس للمتلقي أهميته ودوره في احتضان جميع تلك المكوناته السردية فتمثل أمامه وتخضع لمبادئه ومعاييره التي يحددها طابع النص. وهو الذي يفتح الطريق للمتلقي لتتبع مسار النص من بدايته وحتى نهايته من خلال المواقف والأحداث التي يزخر بها، وبهذا يصبح المكان مكونا مهما يساعد في صنع المعنى داخل النص.

ويحمل المكان دلالات متنوعة وعلاقات مختلفة تربط الإنسان بواقعه المكاني وبالتالي يتفاعل كل منهما مع الآخر حيث أنه في نظر يوري لوتمان السيميائي الروسي (حقيقة معيشة تؤثر في البشر بنفس القدر الذي يؤثرون فيه).

 والنتيجة نشأة علاقة مزدوجة بينهما لكننا نجده في حيوات سحيقة يبسط حركته على الشخصيات من خلال هذه العلاقة.وبالفعل فإن المكان عند يحيى القيسي لعب دورا فعالا باعتباره المحرك الأساسي لبنية أحداث وتسلسل أزمنته واختلاف موقعه.

وقد اختار الكاتب البتراء كنقطة انطلاق لأحداث نصه الإبداعي عن طريق صالح الشخصية المحورية الدليل السياحي الذي يرافق فريقا تلفزيونا يصور فيلما وثائقيا عن الرحالة السويسري بيركهارت الذي وصل مدينة البتراء عام 1812 متخفيا تحت شخصية مسلم ألباني. ومن هنا تنطلق أحداث الرواية وتبرز سمة المكان من خلال غرابته وقسوته فالبتراء ليست مجرد مكان إنما كانت حضورا مكثفا شغل فضاءها حيث دارت فيها جلّ الأحداث المحورية والتي صنعت ذلك العالم الغريب اللامألوف للبطل صالح وكانت الأرضية الصلبة لها.وهذا ما أكسبها (البتراء) خصوصيتها من بين  بقية الأماكن سواء كانت أماكن مفتوحة أو مغلقة.

وللمكان في هذا النص سلطة، فقد اتخذ عمقا فنيا من خلال سرد أهم ميزاته وذكر مفاتنه التي تغوي المتلقي لاكتشاف أسراره. وقد بسط سلطته تلك من خلال تفتح دلالاته على مجموعة من ثنائياته الضدية مثل الصعود والنزول، قريب بعيد، منخفض مرتفع، تعقيد المكان وبساطتة ومنه ما ورد ص12 عن مارغريت التي جاءت من الغرب سائحة إلى البتراء.أحبت بدويا من عائلة البدول وتزوجته وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية التي دفعتها إلى هذا الزواج من وجهة نظرنا ننقل ما ورد دون أي طعن بما ذُكر (والأهم من ذلك قدرتها على تجاوز النقلة الحضارية من قلب الغرب وزمهريره إلى بساطة الشرق ودفئه). وفي ص133 (عند الهضبة المنبسطة المسماة سطوح الجبل قرر أن يرتاح من صعوده.. وربما محاولة النزول). وتعكس هذه الثنائيات حركة المكان وتعالقه مع سير الأحداث.

وينقلنا القيسي من مكان إلى مكان فمن عمان إلى الزرقاء إلى لندن ثم يعود بنا إلى البتراء حيث بدأت أحداث الرواية وجعل هذا المكان مركزا رئيسيا لاستقطاب جميع الأماكن. فالكهف الذي يسقط به صالح بعد أن تزل قدمه يصبح مصدرا لحياة جديدة تتسم بالغرابة يعيشها صالح، تؤرقه وترافقه إلى نهاية أحداث الرواية. ومن هنا ينشيء القيسي علاقة وطيدة بين صالح والكهف الذي يمارس كينونته وحضوره وما له من دلالة فيطلعنا الكاتب على الفضاء الذي تبوأه الكهف والذي أصبح الفضاء المركزي لأن الكاتب من خلاله يفتح للمتلقي أبواب التخييل وآفاق التامل. وتلك العلاقة نشأت بفعل الأسرار التي يخفيه هذا المكان خلفه فهي علاقة رهبة ورغبة في اكتشافها وكشف ما لم يكشفه غيره وهذا يتضح ص137 على لسان صالح 0 سأكتشف خباياه من الداخل بكل هدوء، من المؤكد أنني سأعثر على مخطوطات قد تغير وجه التاريخ).

واختلاف الأحداث وتنوعها مرتبط بتعدد صور المكان داخل النص والتلاعب بهذه الصور تم استغلاله بشكل متقن. فإسقاط الحالة النفسية والفكرية لشخصيات العمل على المحيط الذي يتواجدون فيه يعطي للمكان دلالة تتخطى المألوف كوسط يؤطر الأحداث. فنراه عند القيسي محاورا حقيقيا يقتحم عالم السرد متجاوزا نفسه كمكون يتحكم الكاتب بوصفه.

وقد أسس الكاتب عالما خوارقيا حينما أسقط صالح في الكهف، ليلتحم فيه المكان مع الإنسان وهذا المشهد ينبئ المتلقي أنه بصدد استقبال عالم لا مرئي وهو عالم الماورائيات مثل التخاطر مع الأرواح والتقمص. بهدف تمرير الانتقادات الاجتماعية والسياسية والدينية حيث وجد فيه الكاتب حريته في الكتابة. فقام القيسي بإسقاط حوادث وقعت في الماضي على الحاضر ليؤكد بأن العدوان بين البشر ما يزال ساريا والصراع قائم مهما تنوعت أشكاله واختلفت أسبابه. وبهذا فقد تداخل الماورائي والتاريخي والواقعي وتوحدت في عالم واحد.

وللمكان في حيوات سحيقة إسقاط معنوي فالكاتب يرى أن البتراء حكمة، فيكشف قيمتها وقداستها من خلال أساليبه المتسقة مع طرحه لموضوع المكان باعتباره موضوع فني جمالي ومعرفي له دلالته. لكنه مكان يعاقب ويسخط، حدوده قلة أسراره والتي وجب حفظها وعدم كشفها .وصالح بطل الرواية قرر اكتشاف عالم أسفل الكهف، وبذلك يكون قد حاول خرق أسرار هذا المكان فعوقب بالاختفاء الذي ربما هو الموت فهي لعنة المكان التي حلت به لأنه تمرد على غموضه وحاول السعي لكشف أسراره. يتضح هذ ص136 (بعد ثلاثة أيام من تلك الليلة عثر أحد الرعاه في وديان البتراء على حقيبة جلدية فيها دفتر للملاحظات وأشياء أخرى، لكن أحدا لم يعثر على صاحبها إلى اليوم). فرحلة البحث تلك قادت صالح إلى الفناء والهلاك بسبب التحام الشخصية مع المكان.

وللمكان عنجهية تظهر وتبلغ ذروتها في محاصرة الشخصية الممتدة في المكان بوشائج فنية،عندما يحفر المكان/ الكهف، في أغوار هذه الذات/ صالح، مسارات عميقة فيفرد من خلالها سطوته وسيطرته فحينما يقرر صالح إثبات أن ما يحصل له من أمور غرائبية هي ليست جنونا أو مرضا نفسيا، يفرض عليه المكان القيام بتلك الرحلة لاكتشاف كنهه ويتضح ذلك للمتلقي ص133 (إذا سيثبت لنفسه الهائمة ولكل المتشككين بحكايته عن الكهف أن ثمة شيئ يستحق أن يتعرفوا عليه عما قريب).

كما أن جمال المكان كان له دور في التأثير على صالح في رحلة بحثه .فبينما كان يستريح وهو في طريقه إلى الكهف ص136 (بدا له ضوء النجمة التي تربض على قمة الجبل يزداد سطوعا كأنها انحدرت من الأعالي مقتربة منه في هجعته تلك). فتلك النجمة التي كادت تطبق على المكان زادته شوقا لمعرفة أسرار هذا المكان وما يخفيه خلفه.

ومن العناصر الدالة على تميز المكان الذي انطلقت منه الأحداث وانتهت عنده ما عبر عنه السارد ص7 وهو يصف جمال البتراء (ربما لجمال تلك التشكيلات اللونية في بطون صخورها). وفي ص15 (فتبدو زرقة السماء من بينهما أو تغيب، بينما يمسح الضوء المتوهج تلك الظلال الناعسة فوق المنحنيات وعلى بطن الصخر).

كما أسهم المكان بأبعاده الدلالية في بلورة مفهوم النص وتنوع الأفكارالتي أراد الكاتب إيصالها للمتلقي. فنجد في النص الدلالة الدينية مثل حضور المسجد حينما أتى بالحديث عن مدينته الزرقاء وذكر الجماعات التي تسمى بالدينية وهي عن الدين أبعد، وتوريطها لصغار السن وغسل أدمغتهم للذهاب إلى سوريا والعراق لتلبية نداء الجهاد.

ويكتشف المتلقي في نهاية النص فيما جاء من ملاحظات كتبها صالح في دفتره في رحلته الأخيرة مع الحياة الملامح الصوفية التي تسم شخصيته ففي ص140 (ملاحظة: سأقترح على مدير مركز الدراسات حين أعود إلى عمان أن ننجز بحثا عن التصوف في محاربة التطرف). والتصوف عند صالح هو أن تعم المحبة التي تنفتح على الإنسانية جمعاء والتي جللها الكاتب بهذه العبارة على لسان صالح ص  134(لو كنت سأختار مذهبا لي في هذه الحياة فمن المؤكد سيكون دين الحب الذي ينفتح على الإنسانية جمعاء وينبذ العنف).

بقي أن نقول بأن يحيى القيسي سعى إلى إثارة هيكل أفق المتلقي عن طريق دلالة علم الماورائيات الذي صنعه ـوهو علم يرتبط أساسا بالتاريخ بل هو امتداد له ـ ليقول عن طريقه الكثير ويسر للمتلقي بمكنوناته. وهنا يكون قبول المتلقي أو رفضه لما تلقاه مرتبط بقناعاته ومعتقداته. والواية من إصدارات دار خطوط وظلال/ 2020 .

***

قراءة بديعة النعيمي

يُقدّم الكاتب والشاعر الفرنسي خالد الذكر الفونس دي لامارتين (21 تشرين الاول 1790 - 28 شباط 1869، في روايتيه الهامتين، "جزيلا"، أولًا، و"رفائيل" لاحقًا، رؤية دافئة للحب الإنساني الراقي، يزيد في أهمية ما يُقدمه.. وفي قيمته أيضًا، أنه اعتمد في كتابته لهاتين الروايتين على تجربته الذاتية.. تلك التجربة التي ابتدأت سخونتها تزداد رويدًا رويدًا حتى انتهت إلى جمرة، تحرق اليد وتُشعل الروح.. بنار الفقد والحرمان من أجمل ما خلق الله.. المحبة على هذه الارض.

لامارتين شاعر فرنسي عُرف بأنه من أهم شعراء الحب والرومانسية، ولد في مدينة لاكان الفرنسية عام 1790 ورحل عن عالمنا عن عمر ناهز التاسعة والسبعين عامًا. كتب الشعر وله فيه عدد من المجموعات أهمها "التأملات"، كما كتب الرواية وله فيها روايتان كما سلف، تحدّث فيهما عن حُبه المتقد المشبوب.

سبق وقرأت هاتين الروايتين وعاودتني الرغبة في قراءتهما مؤخرًا، فقمت بقراءتهما واحدة اثر الأخرى. ابتدأت بقراءة الرواية الأولى "جزيلا"، بترجمة إبراهيم النجار، وقد صدرت في أواسط الثلاثينيات، بعدها قرأت رواية رفائيل"، بترجمة أحمد حسن الزيات، علمًا أن مجيد غُصن قام بترجمة هذه الرواية مُجددًا، وقد قدمتُ قبل فترة، محاضرة عنها في المعهد الفرنسي في مدينتي الناصرة، قارنت فيها بين الترجمتين. فرأيت أن الزيات قدّم ترجمة اعتمد فيها على تَمثُّل الحالة اللغوية الروائية وقام بعدها بتعريبها، وكأنما هي كُتبت بلغة عربية جزلة، في حين كانت ترجمة مجيد غصن أقرب ما تكون إلى النص المترجم المتبع حاليًا فيما يقوم آخرون بترجمته من لغات أخرى إلى لغتنا العربية.

يَتّبع لامارتين في كتابته لكل من هاتين الروايتين أسلوبًا مُميزًا يركّز على التطور البطيء للحدث، لكن الغني في تفاصيله ووصفه للمشاعر، لهذا ليس من السهل تلخيصهما، أما فيما يتعلق بالحدث الروائي ذاته فإن مؤلفهما، يحكي في جزيلا عن رحلة إلى إيطاليا، قام بها أيام شبابه الاول، وتعرّف خلال رحلته هذه على جزيلا، إبنة الصياد الفقير، التي ستقع في هواه، بسبب طيبته وإيجابيته في التعامل معها ومع عائلتها، وبسبب إنسانيته الدفاقة. تتعلّق جزيلا بالراوي، مع علمها أنه لن يرتبط بها لبُعد الشقة بين عائلته الغنية وعائلتها الفقيرة. وتنتهي الرواية نهاية محزنة مؤسية تتمثّل في الفراق الابدي بين اثنين، رجل وامرأة، كان بالإمكان أن يعيشا قصة حب فريدة من نوعها. لكن بدل أن تنتهي هذه القصة إلى التواصل والوصال، تنتهي بالفراق، لهذا تحقّق نوعًا من خلود .. أمه الشوق وأبوه التوق الابدي.

في روايته الثانية" رفائيل"، وأذكر بالمناسبة أن طبعة منها صدرت في بلادنا، قبل العشرات من السنين، وقُيض لي أن أطلع عليها في حينها وأن اقرأها، فإن الحدث الرئيسي فيها لا يفترق كثيرًا عن الحدث الرئيسي في جزيلا، فهي تحكي قصة حب ملتهب بين شخصية عظيمة يقوم بتقمّصها، والتعامل معها على اعتبار أنها قناع روائي، هي شخصية الفنان العالمي العظيم، رفائيل، وبين امرأة قست عليها الحياة فأفقدتها الام والأب، وألقت بها في ميتم للأطفال في ضائقة. في هذا الميتم، أو الملجأ، تتعرّف على واحد من رجال العلم يكبرها بخمسة أضعاف عمرها، كما تخبر رفائيل في بداية تَعرّف كل منهما على الآخر، هذا الرجل لا يهمه شيء سوى سعادتها. وعندما يشعر بضيقها الذي سرعان ما يتحوّل إلى مُعاناة صحية، يرسل بها لتقيم في بلدة سافوا الفرنسية، وهناك يلمحها رفائيل، القادم من باريس العاصمة، ويأخذ في تَحيّن الفرصة للقاء بها. القدر لا يبخل عليه بهذا اللقاء المتمنّى، فيتصادف أن تواجه عاصفة قاربًا يقلها، فما يكون من رفائيل إلا أن ينقذها. هاتان الشخصيتان، يقع كل منهما في هوى الآخر. وتتطوّر الاحدث إلى أن تقوم تلك المرأة المحبوبة بإبعاده عنها، بادعاء تلفقه، ليتبيّن لنا، نحن القراء في نهاية الرواية، أنها إنما أبعدته عن معاناتها في أيامها الأخيرة وتقضي هذه الحبيبة ليعيش رفائيل مأساة حياته بفقده الفادح لها.

كما قلت في كل من هاتين الروايتين، مواقف تسمو فيها أحاسيس كل من العاشقين المدنفين المتيّمين، إلى آفاق عالية شاهقة. تبحر في آفاق الإنسانية العامة، وتقدمان كما سلف صورًا مبهرة للحب الرومانسي الطاهر الحنون. روايتان تدفعان مَن يقرأهما لأن يتفاعل مع أحداثهما، وكأنها تقع الآن وهنا.

***

بقلم: ناجي ظاهر

 

يعيش كاتبنا متنقلا بين ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط من جامعة الجزائر إلى جامعة السوربون، في باريس وإن كان ينتقل أحيانا إلى ضفاف أخرى من هذا العالم كالوطن العربي وغيره، إلا أن سعيه بين الجزائر وباريس لها متعة خاصة، لها حنين خاص ولها دلالات عميقة في عقله الباطني، إنها رحلة والده أحمد النقابي المثقف الأخيرة من فرنسا إلى الجزائر ليلتحق بثورة التحرير 1954 ضد المستعمر الفرنسي، الذي شارك أيضا في مقاومة النازيين على مشارف باريس.

قصة بحث أم واسيني لعرج عن قبر زوجها المفقود كل هذه المشاهد من الظلم عالقة في ذهنية مؤلفنا الذي لا يتحمل الاعتداء على الإنسان بصفة عامة كما رأينا ذلك في عمله وهو يناجي صديقه الأديب عمار بلحسن المتوفى 1993 حين يقول له: مضى زمن لم نلتق أنت في وهران وانا في العاصمة زرتني في بيتي في (عين الله) قلت أحسن من وهران التي بدأ يحتلها بني كلبون.

 قلت لك: يا عمار تمنيت ان أبقي في وهران لكن عصابة الشؤم في قسم اللغة شاءت غير ذلك، في القضية الفلسطينية وهو يبكي عليها قائلا فلسطين تودع شهداءها، كبرياء.

ليصبح أسودها، اليوم في نبلس الجريحة، بالكثير من العزة والكبرياء. لن يصبح الدم ماء، اليوم، او غدا او بعد قرن.

بالغ في رحمته للإنسان مهما كان في تأثره بالتعذيب وإبادة هتلر لليهود بطريقة وحشية، دون أن ننسى حضوره الأدبي وانكاره على حرق جمال بن إسماعيل في الأربعاء ناث ثيراثن حين يقول: الملائكة تموت أيضا.. اسمي جمال بن إسماعيل، أصدقائي الأقرب ينادونني جيمي.. وفي المغرب العربي ووحدته حاضر وفي اليمن وفي سوريا.. فهو روائي ثائر في هدوء شجاع في حلم، متحرك في سكون، وإن روايته هذه نساء كازانوفا تصب في هذا الاتجاه الدفاع عن حقوق الإنسانية بكل أبعادها أمام الآخر مهما كان مستعمر، إرهاب ديني تسلط ذكوري مخالف للفطرة...

نتحدث عن ذلك حينما نتحدث عن سيمائية عنوان الرواية.

سيمائية العنوان نساء كازانوفا إن هذه البنية اللغوية علامة ذات دلالة عميقة وانساق ذات مضمون هام يدور حوله السرد حتى يبلغ منتهاه الذي أراده المؤلف.

جاء في القرآن الكريم منهم زهرة الحياة الدنيا أي زينة الدنيا وحسنها وبهجتها فالنساء يكون منهن الأنس والسكن والمتعة المتبادلة بينهما، والنساء شقائق الرجال مكلفات بواجبات ولهن حقوق مثل الرجل ويكفي أنها الأم، الأخت، الزوجة، البنت..

وقد تعرض موضوع النساء إلى ما فيه تفريط وإفراط فقد همشت في دورها في هذه الحياة حتى من عدها ليست بإنسان أو خلق شيطان كما هو في مجتمعات بدائية وأعراف منحرفة أو هناك من أفرط فيها لتكون الإله فهي تعبد من دون الله وتستغل أبشع استغلال، كما نرى ذلك فيما سمي بتحرر المرأة والمجتمع المؤنث.

حررت لتستعبد وقد شعرن بذلك بعضهن فهن يردن الآن الرجوع إلى الفطرة السوية..

أما علامة كازانوفا تحتاج عملية النظر السيميائي فيها إلى أمرين هامين:

معرفة كازانوفا المشبه به وهو جاكوم كازانوفا الإيطالي 1725/ 1798 المولود ب البندقية .....

معرفة السياق التاريخي لمدينة البندقية 1725......

لماذا لم يختر المؤلف شخصية مشابهة له ك إمريء القيس في النساء والمجون ....

معرفة كازانوفا لوط وهي الشخصية الطاغية الظالمة التي تحدث عنها المؤلف .....

معرفة السياق التاريخي لمدينة منارة سيتي حيث بناية كازانوفا لوط المسمات لاغروند تيراس .....

la grande terrasse

*جاكوم كازانوفا في الواقع لم يكن من الطبقة الأرستقراطية العليا في مدينة البندقية إبن ممثلين تركاه عند جدته من أمه كان فنانا محتالا وكيميائيا وجاسوسا ورجل دين وقانون كتب الشعر سجن وهرب من السجن سمحت له هذه الشخصية التقرب بالنساء في مختلف الأعمار حيث ما رحل وارتحل فاكتسب بذلك شهرة زير النساء وقد نظر لذلك في مذكرة له ترجمت لعدة لغات ...

*البندقية في عهد كازانوفا كانت مركز من مراكز النهضة الأوربية، ازدهر فيها الفن والأوبرا الشعر، الفروسية، يرافق كل ذلك ازدهار التجارة من ذهب وفضة وفن الرسم بالإضافة الى شيوع القمار اذا كانت هذه بيئة كازانوفا فلتنتظر من فينيسيا فنون الإغراء و الإغواء فما بالك إذا كانت هذه الشخصية فيلسوفة ومحامية وكاتبة فانتظر الإبداع والتميز في الوصول إلى عاشقاته .............

*امريء القيس الملك الضليل المترف ولد بديار بني سعد برغم ان والده هدده مرات عدة ونهاه عن حياة اللهو إلا أن امريء القيس لم يكف أبدا عن نظم الشعر الماجن، ومغازلة النساء وشرب الخمر ومصادقة الصعاليك من العرب يصف امريء القيس المرأة التي يباغتها في أي مكان لأجل المتعة والمتعة فقط:

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه

ولا تبعديني من جناك المعلل

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تمائم محول

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشق وتحتي شقها لم يحول ....

أردت أن أقول للكاتب كما قلت لصاحب بيتزيريا سماها بيتزيريا كازانوفا ليما نستورد كازانوفا وعندنا إمريء القيس ؟لكن أعلم ان الكاتب يوجه نصه المسرود كيفا ما يشاء ولعل هذا الأخير أشهر من إمريء القيس في العصر الحديث .......

*كازانوفا لوط شخصية الرواية: هي شخصية في عالم المال عن طريق النهب والتزوير والرشوة والتدخل الشركات الأجنبية، في زمن يعج بالفساد لأن طبعة الرواية الأولى بالعربية كانت بالجزائر سنة 2016، وقد يكون المؤلف كتبها قبل هذا الوقت بقليل أو كثير المهم وقت تسلط طغمة الفساد المتعاملة مع الأجنبي، في إنشاء مصانع السيارات تنفخ فيها العجلات والباقي كله تركيب، استراد كل شيء حتى أكل القطط والكلاب بالعملة وإفراغ الخزينة .

صار لكل بارون صحيفة الغاشي وبناء المستشفيات وتهريب كل شيء حتى المرضى يعالجون عندهم بحكم عدم وجود الإمكانيات في القطاع العام، السيطرة على الشركات بعد افلاسها وغلقها وتسريح عمالها للبطالة والفقر، بعث ثورات مزيفة تحت نقابات مزيفة لمزيد من الحرق وتدمير البنية التحتية للجزائر والدعوة الى تمديد عهدة رابعة وخامسة لرئيس مقعد مشلول.

يتنقل أحدهم بطائرة خاصة من ولاية الى ولاية يغير النساء كما يغير جواربه في كل وقت يطفئ سيجارته فوق لحم الدجاج والمشوي مع أجود المشروبات الكحولية القادمة من كل الدنيا، هؤلاء هم من قصدهم المؤلف لكنه موه باسم لوط كازانوفا، ذكر المؤلف بعض هذه الانتهاكات، لكنه ركز على استعباد النساء بالخداع والاغتصاب، وهضم حقوقهن الشرعية لامتلاكهم مصدر الفتوى الإمام ومصدر القوانين بامتلاكهم الأيدي والأعين في كل مكان الأمن، الصحة، الأسواق، المطارات، الوكالات كل ما يطير أو يحط إلا بأمر من هؤلاء الطغاة.

المؤلف لم يذكر أسماءهم لكن قائمتهم الطويلة في شتى السجون وملفاتهم في شتى المحاكم، كل هذا الواقع سيؤدي إلى حتمية وهي ثورة الشارع والحراك لهذا صنعوا الازمات منها الإرهاب، فهم من صنعوا الفكرة وجندوا من أكلتهم أزمة البطالة والتشرد واليتم، ووفروا السلاح للقاتل وصنعوا المواكب الجنائزية واختاروا الضحايا للوصول بهم الى الحروب الاهلية، بعد أن وفروا الإقامة والأموال عند الآخر المستعمر السابق المنتقم من الشهداء والوطن بأبناء الشهداء والوطن..

منارة سيتي هي بندقية لوط كازانوفا تمثل كما جاء عند أصحاب النقد الاجتماعي البنية التحتية لاسواق وموانيء ومحلات ومؤسسات

تخدم من تشاء وتهمش من تشاء، استعباد مطلق وتسخير بلا حدود، بالإضافة إلى تهميش المثقفين واهل الفكر الذين تقتلهم الحسرة على واقع مزري لكن لا يتكلمون إلا بالقدر اليسير يواسون من أنهكتهم هذه الحياة أمثال حوار يتكرر بين العم خلدون وبائع الخبز والجرائد كابي ......

يذكر نماذج من النساء الذين حملوا الأزمة في أرحامهن وعلى كواهلهن فمنهن من تأقلمت مع الواقع المزرى ومنهن من انفصلت بعد أن أخذت نصيبها من البلوة ومن هن من كانت أداة للانتقام من هؤلاء الرجال لكنهن اجتمعن في ذلك اليوم المشهود يوم الغفران

يوم انتظار الدخان الأبيض من الإخوة المجتمعين لانتخاب الخليفة .....

*لالة الكبيرة لدام بلونش: تمثل المرأة الأولى في حياة الرجل تفقد كل شيء العاطفة، الاهتمام أمام الصغيرات الوافدات الجدد من نساء لوط كذب على الزوجة الثانية زينا أن هذه الأخيرة ستموت بالسرطان .....

* زينا امرأة الأوبرا التي تمثل المرأة التي يغريها الرجل بباقة الورد ثم الفنادق والرحلات وتشجيعها لتصل الى المجد ثم سرعان ما تفقد بريقها لتصير مثل غيرها ولها أن تختار المواصلة مع الاستعباد أو الرحيل والعودة إلى ماكانت فيه وكان لها ذلك....

سراي امرأة من يهود توات تزوجها كازانوفا لوط بعد أن خطبها من أهلها وإخوتها اليهود حين زار صحراء توات وهنا تثار حقيقة هامة جدا وهي حقيقة نازلة يهود توات هناك من يتباكى عما حدث لليهود في تمنطيط وما تعرضوا له متجاهلين ما قام به هؤلاء اليهود من عبث وفساد في البلاد لا ينبغي تمجيد اليهود تمجيد كبيرا وتقزيم دور المغيلي الذي طهر المنطقة من هؤلاء اليهود لما فيهم من خبث لا ينقطع وقد تعاونوا مع الاستعمار الفرنسي ومزال كيدهم إلى اليوم يهدد منطقة الساحل الجنوبية، قد يفهم من النص أن المغيلي كان كهتلر هذا لم يحدث لقد أدبهم و أجلاهم عن المنطقة، لم يتغيروا وما يصنعونه اليوم في فلسطين كاف أن يحذر منهم و يخشى خطرهم، لا ندري اليوم لما يثار هذا الموضوع ؟هل هو وسيلة لإظهار تسامح المؤلف ؟أم أشياء أخرى لا نعلمها لكن نحسن الظن بالكاتب وسيني لعرج لمواقفه الوطنية والعربية و الإنسانية المعادية لإبادة الشعوب منها الشعب الفلسطيني .......

* روكينا أو مريم التي اغتصبت عذريتها وسرق منها مولودها في مستشفى لوط كي لا يعترف به ويدفن في مكانه جثة أرنب أم المولود يتربى في جهة أخرى وتربطه علاقة بأمه دون ان يعرف ثم يقتله الإرهاب وهو يدافع عن خطيبته ......

خلاصة لهذه الدراسة: كان المؤلف بارك الله في عمره آية في الإبداع وصناعة الصورة المشينة للفساد وما ينجر عنه من ضرب حقوق الإنسان وتكريس الاستعباد فشكرا له .............

كلما توفرت أسباب الفساد حل بالحرث والنسل البوار والضياع وكلما توفرت أسباب العدل وبذل الخير كان النماء والإزدهار ......إنتهى

***

رابح بلحمدي الجزائر

تدور أحداث رواية الهامش للكاتب خالد سامح، "الصادرة عن منشورات ضفاف/ الاختلاف/ بيروت/2020" في فترة حرجة من التاريخ هزت العالم العربي وهي فترة سقوط النظام العراقي عام 2003 وما بعدها. وما تبعه من نخر للقيم والمبادئ. وقد دعت تلك الأحداث في مجملها إلى القلق والخوف على الوضع الذي وصلت له مجتمعاتنا وانعكاساته النفسية والمادية على شريحة الشباب ،خصوصا بعدما أصبحت عمان هي المكان الأكثر أمانا للفارّين من لهيب تلك الحرب التي أتت على الأخضر واليابس وقلبت موازين الأمور. ومن العتبة الأولى للرواية وهي العنوان الموسوم ب الهامش يستطيع المتلقي أن يستشف بأنها رواية مشحونة بهاجس القلق. والقلق ظاهرة طبيعية وتجربة إنسانية شاملة وهو كما قيل نتاج أصيل للانكفاء على الذات وابن شرعي لسلبيات العصر. ونستطيع أن نقول بأنه ينشأ في أي وقت تكون حياة الفرد معرضة للخطر الذي يهدد كيانه دون معرفة معالمه وحدوده،من غير أن يقدر على مواجهته سواء كان يهدد أمنه وكرامته أو مثلا عليا يؤمن بها وأفكارا ومبادئ يعتبرها أساسا لحياته. وبما أن الرواية أصبحت تعبيرا عن أزمة الإنسان وانعكاسا عن عالمه المجهول المحبط وحصارا يخنقه بهواجس التوتر والقلق لما هو قادم فإنه سيجد ذاته تحت رحمة الاغتراب عن مجتمعه. والمتلقي لرواية الهامش يستشعر حالات القلق ونوباته لدى شخصياتها بل ويتبادل هاجس هذا القلق معهم بفعل التأثير والتأثر من خلال المواقف في مضامين المتن الحكائي. - مظاهر القلق الوجودي في رواية الهامش.

* قلق المكان والزمان (الاغتراب والتشظي). يعتبر المكان والزمان من بين الأسس الفنية والمهمة التي يبنى عليها العمل الروائي. كما أنهما يمثلان الفضاء الذي يشكل فيه وجود الإنسان. وقد وظف الكاتب المكان في روايته ليعكس دواخل شخصياته المهمشة التائهة فكان المكان بلا هوية مهمش ومغترب الوجود وهذا يتضح ص48 عن مدينة الزرقاء التي لولا أبو مصعب الزرقاوي لظلت على الهامش (الزرقاء مدينة تسلل أحد شبانها إلى العراق بعد الاحتلال الأمريكي،فجعلها بين ليلة وضحاها "مدينة عالمية" تذكر في كل نشرات الأخبار...اسمه "أبو مصعب الزرقاوي"). والمكان عادة يرمز إلى السكن والقرار والأمن لكنه عند خالد سامح أصبح رمزا للضياع والخوف والتشتت، فهي بالتالي أماكن تعاني التيه. ومنه ما جاء ص31 عن العاصمة بغداد بعد سقوط النظام وما آل إليه حالها (إلا أن بغداد أصبحت مطبوعة بالدم وغبار الأحزمة الناسفة وآثار أقدام لكل وحوش الأرض) فكل هذه الأوصاف لبغداد لا تعني إلا شيء واحد وهو أنها أصبحت مكانا لا أمان فيه بسبب القتل والخطف وانتشار الغرباء الدمويين فيها سواء كانوا من من جنود بوش أو إرهابيين يقاتلون باسم الدين وهم في الحقيقة صناعة غربية صهيونية. كما تميزت الرواية بالتعدد والاختلاف وكثرة الانتقال من مكان إلى آخر ومنه ما جاء من تنقل حازم من الزرقاء إلى عمان والعكس طيلة أحداث الرواية إلى تنقل لهيب العراقية من بغداد إلى بابل ثم العودة إلى بغداد فعمان ثم إلى بيروت فعمان. وحتى الأحداث كانت متنقلة من مكان إلى آخر. ومنه ما جاء ص31( يتواصل العنف العبثي في العراق، ومزيد من الهاربين يصلون إلى عمان،ثم ينتقلون إلى تيه الصحارى والمحيطات..). وفي موقع آخر ص97 عن لهيب العراقية (اشترتها من أكبر محل للمكياج...وسط بيروت). وعلى لسان لهيب عن أختها ص110 (أختي تزوجت بعد وفاة أمي بثلاثة أشهر وتركت بغداد،راحت تعيش ويا (مع) زوجها عند أهله في بابل). وهذه التقنية وأقصد تقنية التعدد والاختلاف وكثرة الانتقال من مكان إلى آخر تدل على التذبذب والقلق وتساهم في إرباك المتلقي. وبالرغم من هامشية الأماكن في الرواية إلا أنها تحتض أسرارا من أسرار البشرية. ويتضح ذلك ما ورد ص50 على لسان حازم (هذه البيوت التي طالما فاحت منها رائحة الأسرار والخبايا كنت أشمها دوما من الحديث الجماعي الهامس لأمي مع الجارات...). ومنها ما ورد ص136 على لسان السارد عند الحديث عن جلال الزين الملياردير العراقي صاحب نادي الصويفية الليلي الذي عملت به لهيب (فالنادي لم يكن إليه مجرد ملهى أو مرقص.. نافذة على المدينة وناسها.. منجم لأسرار علية القوم ،وأثريائها،وأصحاب الأمر فيها.. في نواديه لطالما ولدت مشاريع كبرى ومررت صفقات شرعية وغير شرعية..). أما عن الزمان ومظاهر القلق فمسلم به أن الزمن في عصرنا يتميز بإيقاع سريع أصبح يشكل للإنسان مشكلة نفسية وقد تأثرت رواية الهامش بهذا الحس الزمني القلق تأثرا واضحا. فالكاتب أتقن تقنية التنقلات في الزمن فمرة ينقلنا إلى عام 1991 وأخرى إلى عام السقوط ثم الرجوع إلى الستينات من القرن العشرين وأحداث تنحية الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف على يد حزب البعث ثم العودة إلى عام 2005 وهكذا. فهذا الزمن المتقطع ما هو إلا ضياع وقلق يشعر المتلقي بالتشتت والضياع.

* قلق الشخصيات معظم شخصيات رواية الهامش شخصيات مهمشة ولكنها مركزية وتدور حولها أحداث الرواية. فحازم نال الدور المحوري بالتقاء معظم عناصر السرد الفني في حضوره.وحازم شاب من مدينة الزرقاء ينتقل للعيش في العاصمة عمان ليكون قريبا من الجريدة التي يعمل بها. عنده توجهات سياسية وملتزم بالقضايا القومية ما يجعله يعاني قلقا وتوترا يدفعانه إلى زيارة الطبيب.ويتضح هذا ص15 عندما سأله الطبيب النفسي عن وضعه (فأجاب حازم: عاد لي القلق والتوتر). وقد عاش حازم حالات القلق بكل معانيها وصورها باستثناء الفترة التي تقرب بها من لهيب المترجمة العراقية التي جاءت إلى عمان هاربة من بغداد. ويتضح ذلك ص101 (أما هو فقد أثارته تلك العلاقة ،خلقت شغفا مفاجئا بالحياة لديه .وكأنها البعد الدرامي لحياته المملة). وقد كانت لهيب بمثابة تعويضا له عن شعور النقص العاطفي بالرغم من أن العلاقة بينهما كانت علاقة غير شرعية ففي ص175 عن لهيب (بعثت الحياة في سريره الذي كان قبل أن تزوره قطعة من صحراء جليدية مقفرة). أما عن الاغتراب النفسي الذي خضع له حازم بعد رحيل لهيب فيتضح ص177 (عاد البيت موحشا تماما مثلما دخله أول مرة). ومن هنا تصل لنا المعاناة النفسية مع الفراغ العاطفي الذي خلفه غياب لهيب ليعود القلق والتوتر إلى حياته من جديد. كما يغلب على شخصية حازم النزوع إلى اعتزال الناس وهذا من سمات الاغتراب النفسي ويتضح هذا للمتلقي في نهاية الرواية ص171 (قدم حازم لإجازة.. معتكفا منعزلا في بيته..يعارك عبثا عوارض اكتئاب تتسلل من جديد معمقة شعوره القاسي بالاغتراب عن محيطه ورفضه المنظومات المتحكمة فيه) أما لهيب التي شغلت الطرف الآخر من الرواية وهي عراقية كما سبق وقلنا. عانت أيضا من حالة القلق بسبب الحرب وكلمة الحرب تحمل بكل ثقلها الخوف ومختلف الهواجس المرعبة ففي ص104 على لسان لهيب لحازم وهي تهجس له عما حدث معها بعد سقوط النظام (يعني ممكن اللي مريت بيه ،كثير عراقيات مرو بيه.. كل امرأة مرت بحوادث تشبه حوادث تجربتي،إما انها انهارت تماما،ويمكن فقدت عقلها ،أو أصابتها حابة اكتئاب رهيبة ويمكن انتحرت). وقد عانت لهيب من أكبر صدمة نفسية في حياتها وهي لحظة اغتصابها بعد أن تم اختطافها على يد الإرهابيين ففي ص127 على لسان لهيب (صمت وظلام ووحدي مع وحش ما أدري أي أرض انشقت وطلع منها). وبسبب هذه الصدمة العنيفة ظلت في عقلها الباطن تحلم بالانتقام من محاولة استئثار أبو مصعب الموصلي _مغتصبها_ بمنح جسدها لكل من يطلبه ويدفع ففي ص139 عن لهيب (أرادت أن تحطم صورة الضحية الساكنة داخلها وتدوسها بحذائها وأن تخرج بصياغة أخرى لذاتها مستغلة هؤلاء الذين أغدقوا عليها العطايا والهدايا الثمينة لقاء ما يغدقه جسدها عليهم من متعة). وقد اتسمت معظم شخصيات الرواية بالقلق مع اختلاف درجة القلق وشدته حسب المثيرات وسلوك الأبطال.

* قلق الأحداث امتزجت الأحداث في رواية الهامش بين ما هو حقيقي ومتخيل وفلسفي ليكسر كل ما هو يقيني ويفرز مكانا مركزيا للهامش في هذا الوجود. فقصة جاسم/ جيسيكا العراقي الذي حاور حازم بشأن وضع المثليين في عمان وتخيل مظاهرة تسدّ شوارعها وقضية المثليين هي قضية هامشية لكنها يوما قد تظهر وتقلب موازين قوانين الدولة. وبقي السؤال...هل انتصر الهامش في رواية الهامش ..وهل الحقيقة قد تكون في جزئية هامشية لا في ما هو متداول؟

***

قراءة: بديعة النعيمي

إنّ المحاولات الكامنة في الجسد النصّي، هي أصعب مرحلة يُظهرها النصّ من قبل مؤلفه، لذلك فالظهور الذي يعتمده النصّ، وتحويل العلاقات من علاقات خارجية إلى علاقة ذاتية – نصّية، هي تلك المنبهات والمبيّنات والرموز والإشارات والعلامات اللغوية وغير اللغوية، فعملية توليد النصّ، تتبعه عملية توليد الرغبة في الكتابة، أي أنّ هناك مؤثرات وتفكّرات في مراحل إنتاج النصّ. ويلحق عملية خلق النصّ؛ كمنطلق نتاجي تأسيسي أو منطلق تشييدي، فيدخله المنتج في دورة الهدم والبناء، أو في دورة الإعادة والتشييد، وهي تلك المعمارية الهندسية وما يتبعها من عمليات عدة، نفسية واجتماعية ومعرفية ولغوية؛ حيث أن الإدراك اللغوي ينتج من خلال الإدراك الحسّي، وتعد اللغة ملكة ذهنية وإدراكية؛ (وأهمّ شعارات اللسانيات الإدراكية هو أنّ كلّ شيء في اللغة يخترقه المعنى  - مجلة أنساق.. المجلد الأول، العدد الأول – ص 19 – د. محي الدين محسب).

إنّ من أهمّ الاتجاهات التأويلية هي الإشارات والرمزية اللتان تدفعان تأويل المعاني بعدة اتجاهات، وهذه هي أفضل حالة للنصوص التي ندخلها بين الحين والحين، أو حالة المنظور المعتمد على التفكيك والتفسير، فالممارسة التأويلية تكون من نصيب المتلقي، بينما المؤلف هو المؤول، إن كان بصورة قصدية أو خارج القصدية، لأنّ الشاعر في بعض الأحيان يعتمد صورته التأويلية خارج التكلف، أي ضمن تلقائية الخلق النصّي، فيرمز ويشير، وجلّ أهدافه استقامة النصّ الشعري وكيفية تطعيمه بلغة الاختلاف لكي يكون مؤهلاً للفعل التأثيري والذي يتواجد إمّا من خلال حركة الأفعال، أو الصور الشعرية المباغتة للمعاني، وهي الصور التي تعتمد التجزئة.

يقف المتناهي على أبواب التحديد النصّي، وبما أنّ النصّ الشعري عبارة عن صورة شعرية كبيرة قابلة للتأويل، فإنّها لاتتقبّل المتناهي، لأنها تخرج عن الحدود وتكون ضمن المنظور اللامتنهاي، ولكن في نفس الوقت هناك قانون المعاني وإن تعدّدت فإنها ضمن الجامع النصّي، إذن الحدّ أو الخطّ الذي يرسمه الشاعر ضمن اللامحدود داخل المعنى النصّي، أي لانصّ يعلو على النصّ المنظور.

تحتم علينا الصورة الشعرية أن تكون بجاهزيتها وهي تكمل الأشياء الناقصة، فكلّ شاعر ينقصه المزيد خارج الصورة والتأويل، ولكي يغطّي هذا النقص النصّي نلاحظه يشمّر لكي يرسم البدائل المهمّة وإيجاد مالم يجده غيره، لذلك دائما هناك التجدّد والذي يؤدي إلى إبداع الشاعر في رحلته الشعرية.

ما نذهب إليه من خلال الآن والفعل الآني هي مجموعة الشاعرة العراقية ناهدة جاسم، حيث أنّها ومن خلال استقلالية الحدث الشعري استطاعت أن تقودنا إلى مجموعة شعرية تحت عنوان (التين الأسمر).

التين الأسمر: تحمل المجموعة عنوان إحدى القصائد التي كتبتها الشاعرة وهي تخاطب الآخر، وبما أنّ الشعر الحديث عبارة عن حوار داخلي – داخلي، أي أنّه حوار الذات للذات، لتستقرّ في الذات الحقيقية، وكذلك حوار داخلي خارجي، أي أنّ الآخر يكون حاضراً مع الفعل الآني، ومن هنا، يتشكّل القول من الحوار إلى التأويل، أي أنّ المعاني سترافق الحوار الداخلي – الآني، فيكون للفعل المتخيّل بنيته المتصلة في العالم العائم حول الذات الحقيقية.

الرجل الذي أدمنت عشقه

الرجل الذي تأمّل المطر على شبّاك غرفتي

ولحظات انتظاري في عصاري عمري

وعينيّ تسرق لحظات مروره في شارع أهلي

من فتحات جدران حائط السطح.

من قصيدة: التين الأسمر – ص 7 – التين الأسمر

عندما تنتقل الشاعرة من النصّ إلى الرؤية التي تتبناها تكون قد تخلّت عن ارتباطها الكتابي، وجلّ تصوراتها تذهب مع منطقة الفلاش باك ومن خلال تقنيتها وآليتها يعود النشاط الكتابي لتكوين بؤرة نصّية بين الفعل الآني المطلوب وفعل الفلاش باكي الذي ينصهر من خلال توظيفه بواسطة انفتاح الأفعال الحركية التي تلازم الفعل الكتابي.

الرجل الذي أدمنت عشقه + الرجل الذي تأمّل المطر على شبّاك غرفتي + ولحظات انتظاري في عصاري عمري + وعينيّ تسرق لحظات مروره في شارع أهلي + من فتحات جدران حائط السطح.

إنّ اللغة الوصفية تتحوّل من وصف شائع إلى لغة إبلاغية تتميّز بوضعها الجديد من خلال الفعل الكتابي الآني، فالشاعرة العراقية نهاد جاسم، بالرغم أنّ تفكّرها ذهب قبل سنوات مضت (تقريب منطقة الفلاش باك) إلا أنها تكتب بالفعل الآني وضمن تقنياته الحديثة، لذلك فالتصوير الذي اعتمدته ليس من خلال التصوّرات والوهم في الخيال، وإنما من خلال اللغة الخيالية التي مرّت عليها لكي تلاحق الفعل الانتقالي وتحصل على أريحية نفسية بإنجاز واقعي.

فالرجل الذي تبنته، ليس فرضياً، وإنما ذلك الرجل الذي قاسمها الحياة، فجعلت الذات الشخصية مع ذات الرجل بمسلك واحد بالرغم من فوارق الحياة المتواجدة، فحقق النصّ صلة حميمية بين عشّها وعشقه، وبين الذاتين المتلاحمتين في المنظور النصّي؛ ومن هنا، حصلت على استقلالية نصّية لم ينظر به إلا ذات الشاعرة التي أنجزت هذا العمل.

ومن خلال تقويل النصّ المنظور، نذهب في عدّة اتجاهات وما رسمته الشاعرة العراقية ناهدة جاسم في مجموعتها الشعرية (التين الأسمر)؛ حيث أنّ الملائمة النصّية تقودنا إلى إشكاليات شيئية وأخرى قولية في نقل الحدث الشعري من الطبيعة إلى الداخل النصّي؛ ويكون الأثر الفعلي على الفاعل، إذا اعتبرنا أنّ الفاعل هو الآخر، والفعلي هو الحدث المنقول، أما من ناحية وقوع الفعل فيكون على الحدث المنقول أوّلا، ومن ثمّ على الشخص المنظور في الداخل النصّي، هذا إذا اعتبرنا أنّ الناقد هو المتكلم ليحوّل الكلام إلى قول شعري وقول متقدم.

تقويل النصّ

إشكالية القصدية في الممارسة النصّية

تعدّد الأشياء

ومن خلال هذه الاتجاهات المرسومة فسوف ننطلق مع نصوص الشاعرة العراقية ناهدة جاسم برحلة تفكيكية بين التأويل النصّي والتقويليه والتعدّدية الشيئية التي تلازم النصّ من ناحيتي المرئي وغير المرئي.4718 ناهدة جابر جاسم

تقويل النصّ

أن ينطق النصّ، حسب القول والقول المتقدم؛ فهذه العملية تجعل النصّ يتأسّس وفق معطيات إنتاجية، وهو  المنظر الذي يسعى الشاعر لتثبيته في الجّسد النصّي، ولكن، العلاقة التي يؤسّسها نصّ ذو طراز جديد، علاقة تأويلية قبل كلّ شيء، وكذلك علاقة قولية؛ حيث أن القول الشعري ومنه القول الآني والقول المتقدم يسيطران على فعل القول في المنظور النصّي.

يندمج الفعل القولي مع المعنى، حيث أنّ العلاقة القائمة ذات قيمة دلاليّة؛ فتتدخل الإشارة هنا للتمييز بينها وبين المعنى المرافق لها؛ لذلك وجلّ مانلاحظه أن القول يختفي من ضمنه المعنى، أي أن يكون المعنى الموضوع ذا صوت؛ هذا ماحلّلته بعض التعاريف للغة، وتعتبر اللغة ضمن القول الشعري، حيث يختفي النطق في قيمة الصوت ومدى التمييز بالألفاظ.

أنتَ لم تعد أنتَ

ولأنّ النهر لم يعد هو النهر

أشعر بالحزن

وأنا أقول نعم

لأنّكَ لم تعد أنتَ

نهركَ جارٍ مثل نهر الغسيل

فلم يعد النهر ذلك النهر

وأنت لم تعد أنتَ

من قصيدة: أنتَ – ص 9 – التين الأسمر

ليس هناك منظور قابل للتحديد، أي أنّ اللامتناهي يعوم في الحركة اللغوية، ومن هنا، لايلتزم الشاعر بمحدودية الخطاب الشعري، منه الموجّه (كرسالة) ومنه الدائر بالذات الحقيقية ويستعين بطبيعته المتداولة عندما يصبح أحد النصوص المكتوبة، والمقروء منه، يعتمد على أوّل وحدة لغوية، حيث أن ضربة الشاعر الجذابة وحركة فعل القول لهما الأثر في التأثر النصّي ضمن القول والقول المتقدم.

أنتَ لم تعد أنتَ + ولأنّ النهر لم يعد هو النهر + أشعر بالحزن + وأنا أقول نعم + لأنّكَ لم تعد أنتَ + نهركَ جارٍ مثل نهر الغسيل + فلم يعد النهر ذلك النهر + وأنت لم تعد أنتَ

تشكّل فلسفة الذات جزءاً من الآخرين، وتعلن عن ذواتهم، وذلك من خلال الحوار القائم بين الذات الحقيقية والمنظور الأمامي؛ وربّما يكون ذلك المنظور حالة من تعدّد الأشياء المرئية، فكلّ شيء يتحوّل إلى كلمة ناطقة، أي أنّه يصبح ضمن قول مقروء قبل أن يكون في دائرة القول المكتوب؛ وبما أنّنا في مساحة للتقويل النصّي؛ فقد دسّت الشاعرة نهاد جابر جاسم ضمن النصّ المنظور الأشياء وتمثلاتها من ناحية التشبيه من جهة ومن ناحية الاستعارة من جهة أخرى، وكلّها تؤدي إلى الوجود التأصيلي، فالضمير المنفصل (أنت) تعدّده الشاعرة ضمن وجود الأصل (الاسم) وقد غيّبت اسم المخاطَب بواسطة هذا الضمير واكتفت بحالة التشبيه بينه وبين النهر.

أنت، النهر والغسيل؛ ثلاثة أشياء سيطرت على النصّ من خلال التراكيب المختلفة، وتستطيع الشاعرة أن تفرط في تراكيب المفردات أكثر وأكثر إذا رغبت بذلك، حيث أنّ عنصر التشبيه لايتوقف في دائرة مغلقة، بل من الممكن جداً أن ينطلق ضمن الحوار القائم وأن يستمرّ في امتداد الجمل الشعرية.

مليئة بتفّاح أخضر على الشفاه

ووردة بيضاء

أضفرُ بين كفيّ روح الشّمس

أبتهجُ بحمامة زاجلٍ غافيةٍ أليفةٍ

تمنحني دفء جناحيها

مبهورة بنثيث مطرٍ

يهمس من شبّاك غرفتي

يدغدغ قلبي الشقيّ

صادقة

أحلى من لون الغسق

صادقة

أتحدّث عن بستان عشقي

وأحلمُ...

من قصيدة: لم أكن وحدي – ص 13 – التين الأسمر

من خلال الاستعارة المفهومية، وهي تعني عكس الأفكار والمفاهيم التي يتدوالها الشاعر بشكل عام، ومنها الأشياء التي تختفي خلف الكلمات، والكلام المنظور الذي يتحوّل بحكم النصّ الشعري إلى قول متقدم لتقويل النصّ الشعري والإبحار في حيثياته وتصوّراته؛ برحلة، الهدف منها تفريغ الشحنة الدائرة في دائرة الذات العاملة والتي من خلالها يتمّ العمل النصّي.

مليئة بتفّاح أخضر على الشفاه + ووردة بيضاء + أضفرُ بين كفيّ روح الشّمس + أبتهجُ بحمامة زاجلٍ غافيةٍ أليفةٍ + تمنحني دفء جناحيها + مبهورة بنثيث مطرٍ + يهمس من شبّاك غرفتي + يدغدغ قلبي الشقيّ + صادقة + أحلى من لون الغسق + صادقة + أتحدّث عن بستان عشقي + وأحلمُ...

نلاحظ من خلال الجمل الشعرية، هناك توسّع وهناك تكثيف، وفي الحالتين يتمّ البناء على التكافؤ الدلالي، حيث أنّ حركة الدّال في الجمل الممتدة على بعضها، تكون قيمته التعبيرية الظاهرة أقوى من القيمة المختفية، ونستنتج من وراء ذلك، إنّ المعاني التي تلتزم الظهور، تكون أقوى من المعاني المختفية، ولكن في نفس الوقت عندما تختفي المعاني وراء الرمزية، فسوف تكون ذات سيطرة على الجمل المتواصلة في المنظور الشعري؛ وهكذا نقيس اشتغال دال المعنى في النصّ الشعري الحديث.

عيناي

تسافرُ لكَ

تفتح صمتكَ

تُلبسك عرياً متوهّجاً

تُزيل عنك غبار التصحّر

قصيدة: لمسة – ص 18 – التين الأسمر

تعتبر اللغة في المنظور القولي، أن لها علاقة الاتصال والانفصال؛ ومن خلال هذا المنظور، نلاحظ أنّ فعل القول التأثيري، يكون عادة من الأفعال الآنية، لذلك فأنّ الجملة المنسوجة، نُسجت مخصوصة لهذا النصّ، ولكن من الممكن توظيف المفردات بتراكيب جديدة، ونبتعد عن العبارات والجمل التي تمّ تركيبها للمنظور النصّي، وفي طبيعة الحال تختلف التراكيب من نصّ إلى آخر حسب الأسلوبية التي يتبنّاها الشاعر، ومدى استخدام الانزياحات في النصّ الشعري.

عيناي + تسافرُ لكَ + تفتح صمتكَ + تُلبسك عرياً متوهّجاً + تُزيل عنك غبار التصحّر

نستطيع أن نطلق على هذا التعبير المركزي والذي اختص بعينيّ الشاعرة بالـ (التمثيل) حيث أنّها ركّزت على بعض الأشياء المحدّدة، وهي من لوازم المصطلح الذي رسمته؛ وكلّ تمثيل يمتثل أمام بعض الأشياء المعيّنة والتي تعين الشاعرة على المثول أمام منظورها المرئي وغير المرئي، وإنّ علاقة العين من خلال تفكّرها علاقة تواصل مع الذات الحقيقية، وتعتبر العين واقفة أمام الحضور والغياب؛ وإنّ العين ليست  فقط لاستقبال الألوان والضياء والخطوط، بل هناك نتائج غير مرئية تعكسها في حالة الغياب؛ وذلك عندما يتواجد المنظور المرئي.

الإشكالية القصدية في الممارسة النصّية

إنّ القصدية تؤدّي مهامها في المعنى، وهي الطريق السالكة نحو هذا المنظور، لذلك عندما نؤول المعنى، نؤول المنظور القصدي من وراء ذلك؛ وهي ظواهر أيضاً تؤدّي إلى ظهور الخبايا التي يعاني منها الشاعر، وأهمّها الألم الباطني، حيث أنّ مثل هذا الألم لايظهر إلا من خلال تفريغ شحنات الشاعر من خلال اللغة والتي تقف كحاجز أوّلي في النظرية التواصلية لكي يستطيع الشاعر أن يكون في حيثياتها كعنصر متطابق لكشف المطابقات والمعينات والمسمّيات النصّية؛ ومن هنا، تظهر للوجود القصدية المخفية، والتي تلازم العنصر المضاف في الكشف عنها، ويعتبر العنصر  المضاف هو نفسه القائم على التقاطع التركيبي وانزياح فعل الجملة الرئيسي، فتظهر أيضاً الدلالات التي يعتبرها النحاة بأنها تعني المعاني، ولكن وجه الاختلاف أنّها تصاحب المعنى ويكون للتأويل (القصدي أعني) المطابقات من خلال الانتقال من القصدية إلى الحالة العقلية التصوّرية، وهذا ماتحتاجه الشعرية التي نمكث خلف دوافعها التأسيسية في عملية الخلق النصّي.

تظهر في المنظور النصّي حالات قصدية وحالات غير قصدية، فالحزن يعتبر من الأشياء الانفعالية؛ فهل ننسبه إلى المنظور القصدي؟ علماً أنّ تواجده في الجمل الشعرية يتمّ بشكل تلقائي، وهو حالة نفسية قبل أن يكون حالة تأكيدية، وكذلك البهجة وتشخصيها في منظور الفرح. ومن هنا، سنكون بين نصوص الشاعرة العراقية ناهدة جابر جاسم الشعرية.

هواجس قاتلة

وقشرة جوز فارغة

أفتّتها بعذابي وأنام

ونشيج شيخوخة مبكّرة

وخمول

وردة شقائق نعمان

ربيع وادي (زيوه وكَلي مراني)

وقمم جبال (كَارة)

الليل شجرة قطن ناصعة البياض

ووحشة تركض في مناحي الروح

الليل مقطوعة موسيقية

هادئة وحزينة.

من قصيدة: نشيج الليل – ص 24 – التين الأسمر

حركة ذاتية تخترق النصّ من خلال التفكّر التلقائي والتي نتجت عن بؤرة مركزية أرادت الشاعرة العراقية ناهدة أن تبتسم لذلك النشيج الليلي، وابتسامتها التي لايردّ عليها أحد، سوى النصّ المكتوب، لذلك فقد عدّدت الأسماء التي اندمجت مع حالتها القصدية، وهي منظورها الذي التفّ على رقاب بعض المناطق في شمال العراق (كوردستان العراقية)؛ فالسمة الأولى تبدأ من نشاط الشاعرة العملي، والعمل يجري في المنظور الواقعي لأنه حرّ وانتقالي وحركي، وتبينت هذه الأشياء من خلال حركة الأفعال التي اختارتها الشاعرة في الجمل التي تقبّلت التركيب.

هواجس قاتلة + وقشرة جوز فارغة + أفتّتها بعذابي وأنام + ونشيج شيخوخة مبكّرة + وخمول + وردة شقائق نعمان + ربيع وادي (زيوه وكَلي مراني) + وقمم جبال (كَارة) + الليل شجرة قطن ناصعة البياض + ووحشة تركض في مناحي الروح + الليل مقطوعة موسيقية + هادئة وحزينة.

لقد أشارت الشاعرة إلى بعض الأشياء المنظورة (المرئية) وبعض الأشياء غير المرئية، وهي اعتقادات وتصوّرات الشاعرة نهاد جاسم، وما آلت إليه في الكتابة كمكون قصدي أرادت منه أن يكون خارج الشعور، فليس من الضروري دائماً نكون ضمن الفعل الشعوري لكي نتواصل مع الفعل القصدي.

هواجس قاتلة = أن ترى معنى المفردة فتشير إليها، فالهواجس دائما تكون داخلية (باطنية)، لذلك فالتفكّر الذي يطرأ، يطرأ ضمن التفكّر النفسي، ومن خلال هذه الإشارة والتي أشارت إلى شيء بوجود، وهي خصوصية نظرية الإشارة عندما نشير إلى الأشياء، وإن كانت تلك الأشياء مرئية أو غير مرئية، فهي متواجدة ضمن الحقل المعرفي للشاعرة، لذلك عندما تحرّكت باتجاه الأشياء المنظورة (المادية) فهي واضحة ضمن العلاقة بين الرمز الذي تشير إليه وبين تلك الأشياء التي نعتبرها ضمن حركة النصّ.

كالأشباح وقفنا

ننتظر حفنة تراب في العيون

وبرودة في أطراف القدمين

نحن موتى في الضفتين

يغطينا عشبٌ أسود

وينتظرُنا عراق المقبرة

قصيدة: انتظار – ص 28 – التين الأسمر

إنّ التوجه الأنثوي من خلال الكتابة النصّية، يمنح الآخر المواجه، مواجهة الكتابة للمساحة الذكورية، ومواجهتها أيضاً لحالات اجتماعية يتمّ تشخيصها بواسطة الحسّية الداخلية المختفية والتي لاتظهر إلا بواسطة الكتابة؛ ومن هنا، هل سنكون مع تلك المساحة التي زخرفتها الشاعرة وهي تواجه الآخر كتابياً؟

إنّ المرأة لاتكتب النصّ فقط، بل تسكنه، لذلك نلاحظ أنها تكتب بعض التفاصيل والإشارة إليها، وهي ضمن خصوصية التفكّر الآني خارج الفلاش باك.

كالأشباح وقفنا + ننتظر حفنة تراب في العيون + وبرودة في أطراف القدمين + نحن موتى في الضفتين + يغطينا عشبٌ أسود + وينتظرُنا عراق المقبرة

لقد أشارت الشاعرة نهاد إلى بعض الحالات التي تكون عادة من حالات الموتى (برودة في أطراف القدمين)، وقد اعتنت بالمسمّيات منذ المطلع الأوّل للنصّ؛ حيث جعلت النصّ حواراً بينها وبين الذات التي تحرّكت بفعل الأفعال الحركية، حيث أنّها اعتمدت على بعض الأفعال ومنها : وقف، ينتظر وننتظر، وفي الحالتين هما من أفعال الحركة ويلتقيان بنتيجة لكلّ فعل، وبين الانتظار العائد إليها (بشكل جماعي) حيث أنّها استخدمت الضمير المتصل الدال على الأكثرية. إذن هناك مجموعة تقف معها والكلّ ينظر إلى عراق (المقبرة).

إن محور عملية التواصل كانت من خلال القناة (والمتمثلة بالشاعرة نهاد)، حيث شكّلت تلك القناة المساحة التي تولتها الشاعرة وهي تستنطق الموجود، من موت مؤجّل وموت حاضر.

إذا تطرّقنا إلى فلسفة الذات ومارسمه هيدجر من التزامات تصوّرية، نكون قد تواصلنا بين التفكيك الأوّلي لهذه الفلسفة والعلاقات المفروضة بينها وبين أي نصّ تم زركشته بموضوع، حيث أنّ المعنى الذي نقصده ضمن تقويل النصّ، هو الموضوع المتغيّر بذاته.

شبيهة بحمامة

تبحث عن عشّ أدمنت رائحته

قلبي كالبحر في عصفةٍ

تتقاذفه رياح الشكّ

عيناي تبحثان بين صخور المنفى

عن حبيبٍ

ضيعته في متاهات الوهم

من قصيدة: نخلة في إسنكدنافيا – ص 50 – التين الأسمر

معظم عمليات التشبيه، هي عمليات تركيبية لجمل فيها شعرية القول ذي القوّة اللغوية التي تساعد على ظهور الصورة الشعرية؛ ويكون للمختلف انبثاقه وحضوره كعامل لغوي يتخذ الشاعر منه كجسد تخييلي، وآخر كجسد مرئي، فالشاعر يتخلّى عمّا حوله من كائنات اجتماعية، ويُظهر العالم المخصخص الذي أختاره في الخلق النصّي، لذلك تأتي المفاجأة من خلال التعابير الانزياحية وتشمل المنظور التشبيهي والمنظور الاستعاري، وهما منظوران يعتمدهما الشاعر في إيجاد تناسقات جديدة.

شبيهة بحمامة + تبحث عن عشّ أدمنت رائحته + قلبي كالبحر في عصفةٍ + تتقاذفه رياح الشكّ + عيناي تبحثان بين صخور المنفى + عن حبيبٍ + ضيعته في متاهات الوهم

عندما نكون مع لغة الاختلاف، فتكون الشاعرة قد أسّست من خلال الاختلاف منظورها التصويري، وليست كلّ صورة تعتمد الاختلاف، ولكن الاختلاف اللغوي من الممكن جداً أن يؤدي إلى الصورة الشعرية؛ وعندما نكون مع فعل الشيء، فمن الطبيعي أن يكون المنظور النصّي في استعارته لكي تُدخل هذا الفعل من خلال التشبيه الذي اعتمدته الشاعرة نهاد جابر في تحديد المعاني من جهة، وفي تدجين الصور الشعرية من جهة أخرى.

لقد ربطت الشاعرة العراقية نهاد جابر بين الشيء المرئي والشيء الغائب، فالأشياء التي عدّدتها وهي تبحث عن (حبيب) هي تلك الأشياء المرئية والتي حضرت بصيغة مستسلمة لرغبتها، ومن هنا، يكون للرغبة حركتها اللامتناهية عندما يكون الموضوع امتداداً في تحقيق تلك الرغبة التي أعلنتها وهي تكتب نصّها، مرافقة الدلائل الحاضرة والتي تنظرها من خلال التصوير الخيالي.

***

كتابة : علاء حمد – العراق

...................

التين الأسمر.. من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق

صدَّق الفرنسيُّون زعم (أنطوان جالان Antoine Galland، -1715) في مقدِّمة ترجمته "ألف ليلة وليلة"، (باريس 1704- 1708)، أنها تُمثِّل: "الشرق بعاداته وأخلاقه وأديانه وشعوبه، من الخاصَّة إلى السُّوقة، والصورة الصادقة له، ومَن قرأها فكأنَّه رحلَ إليه، فسمعه ورآه ولمَسه لمسَ اليَد"(1).  ولذا ظلَّت "ألف ليلة وليلة"، طوال القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، تمثِّل للغرب، وللفرنسيِّين خاصَّةً، صورة الشرق الساحرة.  حتى ليمكن القول: إنَّ بعض جوانب الاستشراق إنَّما نشأت عن ردَّة فعلٍ لانتشار تلك القصص. (2)

وأهم الملامح في الأدب الفرنسي عن الشرق الإسلامي، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر:

1- تعسُّف الحُكَّام، واستكانة الشعوب.

2- امتهان المرأة.

3- كثرة النِّساء في القصور.

4- حراسة الخِصيان السُّود للنِّساء البِيض.(3)

هذا إلى جانب شرقٍ عجيبٍ تبدَّى في أدب القرن الثامن عشر الفرنسي، كان مليئًا بغريب الشخصيَّات، والجِن، والشياطين، والقُضاة، والخلفاء... وهَلُمَّ جَرًّا. (4)

وقد عرفَ الغربُ من كُتب الشرق "كتاب السندباد"، غير البحري.  وهو كتابٌ عَرَبيٌّ، فُقِد كأصله الهندي، إلَّا أنَّ له ترجمات فارسيَّة كثيرة، تُرجِم بعضها إلى العبريَّة والتركيَّة، وقُدِّر له أن يصِل إلى (أوربا) في القرن الثامن عشر.(5)

كما عثر (جالان) على قِصَّة "السندباد البحري"، مستقلَّة أوَّل الأمر.  فأضافها بين المجلَّد الثاني والثالث من "ألف ليلة وليلة" المترجمة إلى الفرنسيَّة.  ومن الثابت أنَّ هذا المترجِم كان يصوغ القصص بأسلوبه، ويُضيف بعضها أحيانًا، وربما حذف وبدَّل فيها لتُلائم الذوق الغربي.(6)

 ولقد أمدَّت هذه القصص الشرقيَّة الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، وغيره من الفرنسيِّين المصلحين، "برموز أودعوا فيها نقدهم الساخر، الاجتماعيَّ والسياسي".(7)

وإذ مرَّت في حياة (فولتير) فترةٌ قرأ فيها ترجمة "ألف ليلة وليلة"، شاقته، ولفتته إلى دراسة الشرق؛ "فغرق في هذه الدراسة إلى أذنيه".(8)  ومن ثَمَّ كتب قصصًا شرقيَّة كثيرة، كانت منها قصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، التي نحن بصددها في هذه الدراسة.  وقد كتبها عام 1748، ليُعالج بعض المسائل الفلسفيَّة الكُبرى، ولينقد بعض الأوضاع الفرنسيَّة في عصره.

ولقد كانت علاقة (فولتير) بالشرق الإسلامي، وبالعالم العَرَبي خاصَّة، أبعد من ذلك.  من شواهدها كتابته مسرحيَّة عن نبيِّ الإسلام، بعنوان "محمَّد"، عُرِضَت أوَّل مرَّة عام 1741.(9)  كما كان على اطِّلاع على ترجمات المستشرقين عن ثقافات الشرق.  وربطته صِلَةٌ بالعالِـم العَرَبيِّ (أبي زيد)، صاحب الشارع المعروف باسمه في (جنيف).  ولا غرو، إذن، أن يبدو متأثِّرًا بالشرق في أكثر مصنَّفاته ومؤلَّفاته، مثل كتابه "عصر لويس الرابع عشر"، و"زايير"، و"الأبيض والأسود"، و"الصوفا"، و"أميرة بابل".  ولا غرابة أن تأتي أكثر أعماله القصصيَّة مستوحاة من "ألف ليلة وليلة"، وإنْ بذوقٍ فولتيريٍّ خاص. (10)  

وللدراسة المقارنة بين عمله والنصوص العَرَبيَّة مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1)  العقيقي، نجيب، (1947)، المستشرقون، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 169.

(2)  يُنظَر: القلماوي، سهير، (1959)، ألف ليلة وليلة، (القاهرة: دار المعارف)، 53- 66.

(3)  يُنظَر: هلال، محمَّد غنيمي،  (د.ت)، الأدب المقارن، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 405.

(4)  يُنظَر: كبّ، هاملتون، (1954)، الأدب: (ضِمن كتاب "تراث الإسلام"، لجمهرة من المستشرقين، بإشراف: توماس أرنولد)، عَرَّبه وعلَّق عليه: جرجيس فتح الله المحامي، (الموصل: المطبعة العصريَّة)، 290.

(5)  يُنظَر: م.ن، 281.

(6)  يُنظَر: القلماوي، 5- 6.

(7)  كبّ، 290.

(8)  يُنظَر: طه حسين، في مقدِّمة (فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 8.

(9)  مع ما أبداه في ظاهر مسرحيَّته تلك من نقدٍ للإسلام، فقد قيل إنَّه إنَّما استخدمها للتعريض بالكنيسة الكاثوليكيَّة.  ولقد عبَّر في أعمال أخرى عن إعجابه بنبيِّ الإسلام وامتدحه. (يُنظَر مثلًا: مومزن، كاترينا، (1995)، جوته والعالم العَرَبي، ترجمة: عدنان عبَّاس علي، مراجعة: عبدالغفار مكاوي، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، 26، 142- 143).

(10)  يُنظَر: العقيقي، 1: 170.

 

يقول د. زكي نجيب محمود في مقال له بعنوان " العرب والأدب المسرحي " (.. وناقد الادب – او قل ناقد الفنون بصفة عامة – ينبغي ان يجمع في نفسه نفس مفستوفوليس(2) ونفوس الملائكة جنبا الى جنب، وإنما أردت بذلك شيئا يمكن التعبير عنه بلغة أبسط، اذ اردت ان اقول، إن ناقد الأدب لا بد له من قراءة القطعة الأدبيّة التي هو بصدد ها مرتين: فيقرؤها مرة أولى قراءة الملائكة التي تنصرف بجمال الحياة عن حقيقة عناصرها، ثم يقرؤها مرة ثانية فراءة مفستوفوليس الذي يغوص الى اذنيه في تحليل الحياة الى عناصرها فلا يلتفت الى سحرها وجمالها)

(لا بد للناقد من قراءتين،يستمتع بأولاها ويتذوق، ويحلل بأخراها وينقد، هو في القراءة الأولى يستسلم للمؤلف استسلام الطفل الغرير، وفي القراءة الثانيّة يتصدى له تصدي الخصم العنيد، وهي خصومة قد تنتهي بالود والإخاء) ص 101 – 102. (3).

و بما أنّ العنوان هو العتبة الرئيسة للنص الأدبي بصفة عامة، فقد اختارت الكاتبة صليحة زروقي، عنوانا يحمل في مضمونه روح التفاؤل بغد مشرق. فيه من الأمل بالفرج والميلاد، ما في الطبيعة من الإزهار بعد جدب وجفاف. وهو دليل على عشق البطلة (ياسمين) للحياة، رغم ما واجهته من مآسٍ وكربات نفسيّة، وصدمات اجتماعيّة قويّة، بعد موت أبيها بعيدا عنها، وعن مسقط رأسه وموطنه. لقد كان الأمل سفينتها المبحرة في خضم بحر الحياة، الذي أنقذها من الغرق في قاع التشاؤم المميت..

كما عكس لون الغلاف الرمادي، المزهر، جانبا من نفسيّة البطلة (ياسمين). وهي نفسيّة تأرجحت بين اليأس والأمل، بين القلق والثبات، بين الصبر الجميل والتبرّم والكآبة..

و من هذا المنطلق، سأتناول رواية، أو لنقل السيرة ذاتية " على كفِّ الأمل أزهرتُ " للكاتبة السرديّة الجزائرية صليحة زروقي، الصادرة عن دار حمدة للطباعة والنشر في طبعتها الثانية سنة 2022 م. وهي معمار سرديّ عدد صفحاته 156 ص، وسأدلي فيها بدلوي، بنبرة أجمع فيها بين الناقد والخصم العنيد، ونبرة الاستسلام للمؤلف كالطفل الغرير.4712 صليحة رزوقي

احترت، وأنا أقرأ هذه القطعة السرديّة في نسبها وهويّة جنسها، أأتناولها على أنّها رواية بطلتها شابة، يتيمة الأب، فقدت والدها – الذي توفي في رحلة أداء مناسك الحج – في طفولتها، ذاقت مرارة العيش، وتجرّعت من كأس اليتم، وعاشت محرومة من حنان الأبوّة ورعايتها، وجابهت الحياة القاسيّة بكل قوة وعزم وإصرار، فانتصرت تارة وانكسرت تارة أخرى؟ أم أتناولها كونها سيرة ذاتيّة لشابة فطمت على قساوة العيش وصدمات الواق المعيش، لكنّها صبرت ونجحت وانتصرت على وساوس النفس الأمّارة بالسوء، وعلى محيطها الاجتماعي المحفوف بالمخاطر والتنافضات والمثبّطات؟

ومهما يكن، فإنّ القاريء لرواية أو سيرة الكاتبة والمبدعة صليحة زروقي، سيكتشف – لا محالة – أنّه أمام قلم سرديّ واعد ومتمرّس في رصد الواقع المعيش، وهذا ما يذكّر القاريء الذوّاق بالمدرسة الواقعيّة في الأدب الروسي - قبل ثورة البلاشفة على القيصر – وقاماتها الأدبيّة السرديّة من أمثال: ديستويفسكي وتولستوى وتشيخوف وغوركي ؛ فقد كانت أحداث رواياتهم ملتقطة من واقعهم المعيش، لكن بعيون أدباء مبدعين وعباقرة. فأحداث هذه الرواية / السيرة الذاتية، كلّها – على ما يبدو - ملتقطة من يوميّات الواقع المعيش، إلى درجة، أنّ الكاتبة، طفقت تنقل للقاريء أحداثا – وما أكثرها – عاشتها حقيقية، أو عاشها جيرانها وأصدقاؤها، في أزمنة معيّنة، الطفولة، الشباب، قبل التخرج وبعده، وأمكنة معلومة.، البيت، الحيّ، المدرسة، الجامعة...

إنّ الخيط الذي ربط أجزاء الرواية / السيرة الذاتية، هو وفاة الأب في رحلته إلى الحج. وهي العقدة التي بقيت دون حلّ أو تنوير إلى نهاية السرد.

وبين ضميري الحاضر (ياسمين)، والغائب (الأب). تتفاعل الأحداث لترسم لنا لوحة تراجيديّة، تعبّر عن معالم الغياب القسري وأثره السلبي والإيجابي في أعماق النفس الإنسانيّة. و– لعمري – غياب الجانب الأبوي، بما يحمله من زاد معنوي للبنت أو الإبن. لقد ترك غياب) موت) والد ياسمين فراغا نفسيّا وعاطفيّا رهيبا، فضلا عن الفراغ المادي. المتمثّل في توفير ضرورات الحياة اليوميّة.

لقد تبوّأت شخصيّة الأب مكانتها الفطريّة المناسبة في حياة البنت والشابة (ياسمين). وكانت هي الشخصية الثانويّة الحاسمة، بل لا يقلّ دورها عن الشخصية الرئيسة (البطل) في نسج أحداث الرواية / السيرة الذاتيّة وتحريكها، وقد ارتقت – فنيّا - إلى مستواها من أول النص إلى خاتمته. وبالعودة إلى رمزيّة اسم البطلة (ياسمين)، فهو دال على الرومانسية والنعومة. وقد ارتبطت زهرة الياسمين بالشعراء الرومانسيين، من أمثال نزار قباني، وبأماكن ساحرة كمدينة دمشق التي سميّت " مدينة الياسمين ". والياسمين زهرة قنوع، لا تحتاج إلى ما كثير وعناية كبيرة. وهكذا لم يكن اختيار اسم البطلة (ياسمين) اعتباطيّا، بل هما وجهان لعملة واحدة.

و تبرز شخصيّة الأب (الغائب) بجسده، الحاضر- مطلقا – بروحه وأخلاقه الساميّة، وعلى لسان كلّ من عرفه وتواصل معه، وفي حياة ابنته ياسمين (الحاضرة)، طاغيّة على تصرفات (ياسمن).. فلم يستطع النسيان ولا تعاقب الأيام والليالي، أن تنسيها آلام ذلك الغياب والفقد، بل ولم تمنحها هدنة للملمة تلك المشاعر السوداويّة، التي اتّخذت من اعماقها مأوى أبديا لها، ولم تقو حوادث الدهر، بما فيها من لحظات معسولة، على تطبيب الجراح الغائرة التي استعصت على كل بلسم شاف.

لقد كانت العلاقة بين الأب الغائب (الحاضر) والبنت (ياسمين)، علاقة صوفيّة خالصة. وهي تنمّ عن ميزة فطريّة وطبيعيّة في الإنسان خاصة، وهي تعلّق الأبناء بالآباء والأمّهات، وتغلّق الآباء والأمهات بأبنائهم، في صورة برّ الوالدين في حياتهم ومماتهم، وحضانة هؤلاهم لأبنائهم عاطفيّا وماديّا.

وهي علاقة بعيدة، كل البعد، عن الفلسفة الغربيّة، القائمة على الترّهات النفسيّة في الفكر الغربي. وعن عقدة إليكترا عند الأنثى، والتي تعني تعلق الفتاة اللاواعي بوالدها..

جاء في الصفحة 28: ".. كنت حزينة جدّا يومها وكأنّ إحساسي أنبأني أنّها كانت آخر فرصة لأحظى بعناق وقبلة من أبي..". وفي ص 30: " لو أنّ للزمان كرة، لكنت أخبرتك كل لحظة كم أحبّك وكم كنت فخورة بك وكم كنت والدا رائعا في عيني، لا تتشوّه صورته في ذاكرتي مهما قالوا أو حكوا لي عنك عند الكبر.."

و في ص 31: " لو أنّ للزمان كرّة واحدة فقط يا أبتي، لكنت أخذت من عمري سنوات أزيدها في عمرك.. لتبقى معي زمنا أطول.. لتفرح الطفلة في داخلي بحبّك وتنهل من فيض عطفك وحنانك ذخرا لمواجهة مآسي السنين المتآكلة ".

كما لعبت شخصيّة الأب الغائب (الحاضر) دورا مركزيّا في الرواية / السيرة الذاتية. فقد كانت رمزا للمجتمع الأبوي، الذكوري الإيجابي، اللاقمعي. ولم يستطع حضور الأم وباقي أفراد الأسرة والعشيرة (الأعمام والأخوال والأجداد) ملء الفراغ المعنوي، الذي أحدثه غيابه المفاجيءعن الأسرة والأهل والجيران.

و بقدر ما كان غيابه وموته ودفنه بعيدا عن أسرته وأهله ومحيطه ووطنه - أي في مكّة المكرّمة - مؤلما وقاسيا، بقدر ما كان ذلك الغياب الأبدي، عنصر إلهام وقوّة وتحدٍ، للبطلة (ياسمين). فقد كان والدها الغائب، دائم الحضور في الأتراح والأفراح، في المناسبات وغير المناسبات. كان ظلّها الظليل، الذي لا يفارقها ليلا ونهارا، في غرفة المنزل، وغرفة الجامعة، وفي الحيّ، وأينما حلّت وارتحلت.. وهذا دليل آخر على قوّة الأبوّة الصادقة وأثرها في نفسيّات الأبناء البررة. بل هي منحة ربّانيّة، زُرعت بذورها المباركة، فأزهرت مودّة وحبّا وعشقا صوفيّا...

لغة الكاتبة: لا شك أن العمل الإبداعي، سواء أكان شعرا أم نثرا، لا بد أن تتوفّر فيه مقوّمات معيّنة. ومنها اللغة. إنّ أهم مقوّم هو اللغة، لأنّها حمّالة المعاني والأفكار. فقد جعل الجاحظ عمر بن بحر، الأسلوب (اللغة) هو الشأن لإقامة الوزن، بينما المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والبدوي والأعجمي. فالأسلوب هو هويّة الكاتب وعنوان إبداعه.. ومن هنا كانت أسلوب الكاتبة زروقي صليحة، مرآة لقدرتها اللغويّة، وسلاسة الجملة السرديّة، الواقعة بين السهولة والامتناع..

و بقدر ما احتوت الرواية / السيرة الذاتيّة من إيجابيات، كالقاموس اللغويّ الثريّ الذي امتلكته، وتمكنها من ملكة السرد، وسلاسة أسلوبها الجميل، إلى درجة أن القاريء يشعر، وكأنّه أمام كاتبة متمرّسة وذات تجربة في ميدان السرد. بقدر مل فيها من مآخذ – لا تنقص من قيمة عملها الإبداعي، مثل: لجوء الكاتبة في فقرات من النص إلى أسلوب التقريريّة والوعظ والإرشاد، بأسلوب السيرة الذاتيّة ونمطها. مثل قولها - على سبيل المثال، لا الحصر - في ص 109: " الذكيّ منّا من يعرف كيف يستغلّ كل المواقف في الحياة لصالحه بشكل إيجابيّ، من يعطي لنفسه فرصة في الاستماع للبشر والتفتيش في حكاياتهم عمّا يرتقي بشخصه ويزيد من حكمته، الإنسان الرائع بنظري هو الذي يشعر بالامتنان حيال كلّ الصدف والأزمات والابتلاءات التي لم يضعها الله بدربه إلاّ لحكمة ترجى منها. "

و قولها في ص 139: " لكل واحد منّا قدر قد يرسم له. قدر لا يمكنك تغيير شيء فيه ".

كما لجأت الكاتبة صليحة زروقي إلى أسلوب التضمين في ص 140، تحت عنوان " قيد الأمل ". فقد ضمّنت كلامها نصّا لشاعر العربيّة، الفلسطينيّة، محمود درويش. ورأت أنّه نص يخدم نصها. وممّا قاله درويش فيه: (أعلى من الغيم إشراقا..و بي أمل..يأتي ويذهب لكن لن أودّعه).

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

.....................

هامش:

1 - صليحة زروقي، كاتبة روائية جزائرية معاصرة، من ولاية الشلف

2 – مفستوفوليس

3 - قشور ولباب - ص 101 – ط – دار الشروق -1981.

الحدث الروائي يسلط الضوء بالمكاشفة الصريحة من واقع الأحداث الفعلية، عن معطيات الفترة المظلمة التي مرت على تاريخ العراق السياسي في الماضي والحاضر معاً. وخاصة فترة حكم صدام حسين في الابادة وقتل المعارضة السياسية، والمجاهدين الذين حملوا السلاح في الاهوار، في مجابهة جند صدام حسين والحرس الجمهوري، وتمادى حكم البعث في وحشيته الدموية، في الإجرام الكارثي في تجفيف الاهوار، وخاصة بعد فشل الانتفاضة الشعبية لعام 1991. واتخذ قرار تجفيف الاهوار لسحب البساط من المقاومة المسلحة في الاهوار، ان يتكفل الحرس الجمهوري بالبطش والتنكيل، وتخريب ودمار البيئة في الاهوار بتحويلها الى ارض جافة تماماً ليسهل عمليات المطاردة وصيد المقاومين هناك، في تخريب جنائن الاهوار (تلك الجنائن المقدسة في جنوب العراق، تم تجفيفها كلياً، وضاعت جميع محاولات إيقاف عملية صدام حسين المجنونة تلك.. جف الماء.. مات الجاموس.. رحل المعدان.. تبعثرت مجموعات الشبان المجاهدين في الاهوار ضد حكومة حزب البعث وصدام حسين) ص9. ولم يبق أمام المقاومة المسلحة إلا الرحيل الى ايران بعدما سدت جميع الطرق في وجهها وهم يحملون جرحاً عميقاً بالهزيمة والاحباط، الرحيل إلى ايران بعدما فشل الكفاح المسلح في مجابهة نظام البعث، وهم يحملون هذه الجراح النازفة في القلب والاحساس الداخلي، انثالت هذه الذكريات المؤلمة في محنة الشباب المقاوم، تزاحمت في تداعياتها محطة القطار (براماتا) في استراليا، المحطة المهجورة، ولكن الحدث السردي اتخذها مكاناً لسرد الأحداث العاصفة في، الاهوار، في ايران في معسكرات اللجوء، في ازقة قم الضيقة. في القسوة التعامل السلطات الايرانية للمهاجرين العراقيين، في خشونة الذل والإذلال، في ظروف قاسية في بؤسها وحرمانها المؤلم (نحن لم نهرب من حكومة صدام حسين، كي نتحول الى قطيع خرفان تائه) ص20. لم يبق إلا الحنين الى الاهوار والى ارض الماء. هذه التجربة الحياتية في شظاياها الملتهبة في الوجدان والقلب، تعمقت في الاتجاه الواقعي، في الفن الروائي من كنف الاحداث المريرة. في التناول الموضوعي المؤلم في منظور رواية (محطة قطار براماتا) للأديب عبد اللطيف الحرز. تتقاطر أحداث الذاكرة في كأس علقمها المر، في محنة موجعة في الحنين (أيها الهور... أيها الهور أغفر لي... أغفر لي أيها الهور.. لم ارحل عنك بأرادتي.... صدقني أيها الهور.. صدقني... لقد تهت عنك... آآآآآآآآآآآآخ : كم معطوبة هي بوصلة القلب) ص 133.4670 قطار بارماتا

اللجوء الى ايران يعني الضياع وتشتت، في المدن وفي ازقة قم الضيقة. وكل يوم تتوالى الطعنات في القلب لتنزف بجراحها، سواء في معسكرات اللجوء، او التشرد والمعاناة، تدفع النفس الى فقدان امل الحرية. كأن الانسان يتفسخ بعفونة (لقد كنتُ محتاراً كيف الخلاص من ايران والنجاة من هذا القبو الديني المقرف، حيث يشكو الجميع من التشوه والتفسخ هنا في ايران... في معسكرات اللجوء المتهالكة، في الاهواز وشوارع قم الضيقة. كانت حتى الطفولة تتفسخ وتبعث اليأس الكريهة، مثل فاكهة تدحرجت الى ازقة الطريق العفنة بالنسيان) ص81. وكان إمام المهاجر، اما يختار معسكرات الاحزاب الشيعية، أو الدخول الى مدارس الحوزة الدينية لتثقيف الديني، في الخطاب الديني المقيت والمتزمت لا ينتمي الى الواقع، مصاب هذا الخطاب بالانفصام والازدواجية بعيداً عن معاناة المهاجر، في ديماغوجية مقرفة في ترويجها الإعلامي، بينما نجد واقع الحال، شرعية التجارة المحرمة ومنها تجارة المخدرات (لقد تحول المجاهد حمادة الى بائع المخدرات، ولم لا، فالمعارضة العراقية بأجمعها كانت تتاجر بالمخدرات) ص82. وهي تنادي في خطابها الديني، في اقامة دولة دينية على غرار الدولة الدينية الخمينية (- لو أقام الشيعة دولة دينية في العراق، أو في أي بلد آخر، بعد كل الذي جرى في ايران الخمينية، فإن هذا يعني ضرورة حجز الشيعة في محاجر للأمراض العقلية) ص12. (- بالتأكيد سوف أنتحر، كم سيكون التاريخ مجرماً لو سمح للتجربة الخمينية أن تتكرر) ص12. فلا عجب في ذلك يعني ضياع وخراب العراق في المشاكل والأزمات، كما هو الحاصل الآن فعلاً (لا عجب في المتاهة، لا تكون متاهة، لولا أنها لا حدود لها بتاتاً... كل شيء في هذا الضياع محرقة خالدة) ص23. يعني أصبح المهاجرين عرضة للضياع والتيه في ممارسة أعمال محرمة في سبيل جمع المال، والهروب من جحيم ايران، وإلا فيكون مصيرهم كالقصب الجاف تلتهمه النيران (اضحى الناس مثل اكوام قصب جاف يتوسل عود ثقاب يحوله الى رماد، ليذهب دخاناً تنذره الرياح الى آخر نقطة الضياع واللاشيء) ص31.

تحرير العراق بدبابة أميركية:

من حماقات هذا التحرير حول العراق من نظام سيء الى نظام أسوأ، أن هذا التحرر فتح باب الخراب وتدمير العراق، بمثابة فتح صندوق (باندورا) لكل العلل والأمراض والمشاكل والأزمات والشرور الطائفية البغيضة، اضافة الى اباحة النهب والسرقة، كأنهم وجدوا مغارة (علي بابا) بنهب الجمل بما حمل، أو نهب البلاد والعباد، ولكن بأسم الدين والمذهب، وفتح الطريق بشكل حر، لمرور قوافل التهريب وتجار المخدرات والحشيشة على الهوس الديني الضيق، وأصبحت البصرة احدى منافذ التهريب في حدودها المفتوحة على ايران (غدت مدينة البصرة يتقاطر عليها يومياً مئات الأطنان من الهيروين والحشيشة والترياك.. باتت البصرة، تلك المملكة الإخوانية المتراحمة... عبارة عن مدينة للتشنج الديني والهيروين معاً. ضيق في الدين وسعة في المخدرات) ص83. والقيادات الاحزاب الشيعية، اغلبها أمية وجاهلة، لكن اصبحت في المقام الأول في الدولة، في الحكم والمال والنفوذ (العم (ابو صادق) خال حمادة الذي بالكاد يجيد قراءة أسمه، بات اليوم أحد كبار المسؤولين، وأحد أعيان منطقته).

المنفى في استراليا:

 المنفى ما أشد وجع المنفى

في محطة قطار براماتا يسكب قريحة الجراح في المعاناة والقلق في حسم مسألة اللجوء والقبول، وحتى الاقامة الموقتة لاتشبع الجوعان، ربما ينتهي مفعولها بالطرد، وحتى الوصول الى الاقامة الدائمة، فأن المهاجر حرق مراحل من المعاناة والقلق والإرهاق النفسي.

***

جمعة عبدالله

عُرِفتْ القصة كجنس أدبي  لأول مرة  في السويد في بدايات القرن الثامن عشر ويعتبر "فيليهليم بالمبلاد" أحد رواد القصة منذ نصه (أمالا) الذي كتبه في العام 1817، الشكل البدائي لكِتاب المجموعة القصصية جاء مع:"فريدريكا بريمير" في العام 1828 من خلال كتابها " رسومات من الحياة اليومية" والذي ضم  ثلاثة نصوص . لكن  بقيت  تلك الأعمال ضمن دائرة القصة الطويلة الأقرب منها إلى الرواية القصيرة حجماً وصياغة فنية. ثم ومع " أوغست ستريندبيرغ " الذي على الرغم من أن المسرح والرواية أخذت الحيز الأكبر من أعماله لكنه أيضاً أبدع في مختلف الأجناس الأدبية وساهم في تطوير  القصة القصيرة  مع مجموعته القصصية "متزوجون" 1884و من ثم  يلمار سودربيرغ "من خلال مجموعته: " قصص " 1898. و"بير لاغركفيست " في حكايا شريرة  1924 ثم ألعاب الليل 1947 لستيغ داغرمان وعلى الرغم من أنه في السويد كما هو الحال في البلدان الأخرى ينظر دوماً إلى الرواية  على أنها تمثل الأدب الحقيقي. ونادراً ما يُسأل أحد الروائيين متى نستطيع رؤية نتاج قصصي لك؟! فيما متى سوف نرى لك عملاً روائياً ؟ هو سؤال يتم دائماً طرحه وبشكل متكرر على كُتاب القصة.  هكذا كان عليه الحال قديماً وحتى يومنا ومع ذلك فان القصة  نمت وتطورت وسُلطت عليها الأضواء حيناً فيما  أحياناً أخرى وضعت على الرف ولم تحصل على نصيبها في الظهور.  وهناك قصص كثيرة تركت بصمات قوية على الأدب السويدي، بعض تلك النصوص تحولت إلى سيناريوهات أفلام سينمائية واذاعية وأخرى إلى نصوص تعليمية في المناهج الدراسية الرسمية وهنا نذكر بعضاً من تلك الأعمال:

"معطف الفرو " ليلمار سودربيرغ 1898، قصةٌ أبدع سودربيرغ في خلق بنيان درامي متماسك في نص قصير يشكل معطف الفرو  رابطها من البداية إلى الحبكة ووصولاً إلى الخاتمة .

"يد الشبح "سلمى لاغرلوف 1898، عن حياة فتاة يتيمة تعيش في بيئة شبيهة بالسجن تحت وصاية عماتها.

"أبي وأنا " بير لاغركفيست 1924. عن صبي يخرج في وضح النهار مع والده إلى الغابة ويستمعان إلى تغريد الطيور ويعودان عند حلول الظلام، الصبي القلق الذي يخشى العتمة يدرك بأنه يوماً ما سوف لن يبقى والده إلى جانبه لاسناده في الحياة وأن عليه الاعتماد على نفسه.

"ايلا تحرر نفسها "  كارين بوي 1940 ، "إيلا " تعيش حياة زوجية يتحكم الزوج في مفاصل حياتها، لكنها في النهاية تقرر أن تتحرر من هذا التحكم وعلى الرغم من أن القصة لاتنتهي بالانفصال إلا أن "إيلا" تتوصل إلى قرار الاعتماد على نفسها والتخلص من هيمنة الزوج عليها.  

" أن تقتل طفلاً 1948" .  ستيغ داغرمان: "إنه صباح سعيد ليوم مشؤوم لأن في هذا اليوم سوف يُقتلُ طفلاً في القرية الثالثة من قِبَلِ رَجُلٍ سعيد." من الجمل الأولى يُحْكِم ُداغرمان قبضته على القارئ ويضمن تشوقه لمتابعة الحدث حتى الخاتمة الحزينة. أن تقتل طفلاً نص فريد الانشاء والتركيب المنسق و له استثنائية مميزة حيث يُعدُّ من أوائل النصوص هذا ان يكن أول نص في الأدب السويدي فيه تُسرد الوقائع بصورة متوازية من منظور الطرفين المختلفين المشاركين في خلق الحدث.

"الأنسة " سارة ليدمان 1954، ووصفت" جريدة سفنسكاداغبلادت " القصة بأنها جوهرة "ليدمان "في وصف الوحشية والرحمة.

"نصف ورقة" 1903 هو النص المرفق ل"أوغست سترندبيرغ " وبترجمتي من السويدية، ويُعدُّ هذا النص من النصوص الكلاسيكية الأكثر شهرة ليس فقط على مستوى السويد بل عالمياً  وهو مترجم إلى أكثر من ثلاثون لغة:

"نصف ورقة

آخر نقلة من أثاث المنزل أُخرجت، المستأجر شاب يرتدي قبعة عليه زهرة الحِداد يتجول مرة أخرى في أرجاء البيت لكي يتأكد من أنه لم ينسى شيئاً تبقى.

لا، إنه لم ينسى شيئاً، لا شيئ على الاطلاق. وهكذا خرج إلى البهو عازماً على أن لا يفكر بتلك الفترة التي عاش في هذا الطابق. لكن انظر ..هناك في بهو الدار نصف ورقة عالقة بالقرب من الهاتف، وهي مليئة بالكتابة وبأنواع متعددة من الخطوط وكذلك حال الحبر  وأخرى  مخطوطة بالقلم الرصاص أو بقلم حبر أحمر اللون . مكتوب عليها وقائع الحكاية الجميلة كلها، التي حدثت في تلك المدة المحددة، المؤلفة من عامين من الزمن، كل مايريد نسيانه مكتوب هنا، شطر كامل  من حياة عائلة في نصف ورقة.

أخذ نصف الورقة تلك والتي كانت من ذلك النوع من ورق المسودات صفراء اللون مما يبدو عليها. وضعها على غطاء الموقد المتواجد في الصالة، وانحنى نحوها وبدأ يقرأ. في البداية مكتوب اسمها:" أليس"، أجمل اسم عرفه حينذاك، لأنه كان اسم خطيبته, والرقم 151،1. تبدو مثل أعداد إحدى الترنيمات الكنسية. ثم بعد ذلك مكتوب: البنك. حيث كان يعمل هناك، ذلك العمل المقدس الذي من خلاله تَأمّن  المأكل والملبس والزوجة والمسكن أساس الوجود.  لكن كان مشطوباً عليه ! لأن البنك كان قد انهار مالياً ولكنه كان قد أنقذ نفسه بالانتقال إلى بنك آخر  وذلك بعد فترة مليئة بالقلق.

ثم بعد ذلك جاء: محل تاجر الزهور، الحوذي.. تلك كانت مرحلة الخطوبة إذاً وكان بحوزته الكثير من المال. ثم بعدها تاجر الاُثاث، معلم تركيب ورق الجدران،عش الزوجية . وكالة النقل السريع: ينتقلون إلى البيت .مكتب تذاكر الأوبرا: 50.50. أي أنهما متزوجَين الآن ويذهبان معاً الى دار الأوبرا أيام الآحاد, أفضل لحظاتهما حين يجلسان بصمت وينسجمان بتناغم مع  الجمال على أرض الخيال في الجانب الآخر من الستارة.

هنا أيضا اسم رجل ما مشطوب عليه، كان أحد الأصدقاء وكان يحظى بمكانة مرموقة في المجتمع ولكنه لم يستطع الاحتفاظ بتلك المكانة والسعادة وأُنزل من مرتبته بلا حول ولاقوة وأصبح ملزماً بالسفر بعيداً. هكذا هشاً كان.

هنا شيئاً ما جديداً  يدخل في حياة الزوجين. مكتوب بخط يد  امرأة وبالقلم الرصاص. امرأة أية إمرأة ؟! نعم تلك المرأة التي كانت تريدي معطفاً طويلاً وتتمتع بوجه سَمح، والتي تأتي بهدوء ولاتعبر من خلال الصالة بل إنها  تدخل عن طريق  الممر إلى غرفة السرير . تحت اسمها مكتوب "دكتور . ل".

لأول مرة يظهر هنا اسم أحد الأقارب. مكتوباً " ماما". انها الحماة التي آثرت عدم الظهور لكي لا تعكر صفو حياة زوجين جديدي العهد،  لكن هنا حيث وقت الضِيق فجاءت بكل سرور  لتلبي حاجتنا الى مساعدتها.

هنا تبدأ خرابيش كبيرة باللون الأزرق والأحمر: مكتب عمولة: الزوجة الشابة قد انتقلت، أو سوف يتم تعيين موظف جديد. الصيدلية. ه.مم.مم! العتمة تزداد ! شركة الألبان. هنا يُطلب الحليب الخالي من الدرنات. محل عطارة، الجزار إلخ! بدأ تسييرَ أُمورَ المنزلِ يتم عن طريق الهاتف، لأن الزوجة لم تعد في مكانها، ولأنها أصبحت طريحة الفراش.

ما جاء بعد ذلك  في نصف الورقة ِتلكْ لم يعد يستطع قراءته وكأن غمامة أمام عينيه مثل مايحدث مع الغريق في البحر الذي يفتح عينيه وسط الماء المالح ليرى من خلاله. لكن هناك مكتوب: مكتب دفن الموتى .

انها تقول بما فيه الكفاية! ثم: تابوت كبير وآخر صغير. وبين قوسين مكتوب (من التراب) ثم لا شي مكتوب بعد ذلك! بالتراب انتهى، وفعلا انتهى كل شيء إلى تراب. أخذ الورقة الصفراء قَبَلَها ثم وضعها في جيب صدره.

خلال دقيقتين عاش عامين من أعوام حياته. حين خرج لم يكن مطأطىء الرأس بل على العكس خرج مرفوع الرأس مثل أي شخص سعيد وفخور. لأنه شعر بأنه كان محظوظاً وكان  لديه أجمل إمرأة. كم مسكيناً لم يحظى بشيء من ذلك  أبداً!"

***

فرمز حسين - ستوكهولم

كاتب ومترجم سوري

انشغل العالم منذ خمسينات القرن الماضي بأفكار الزعيم الصيني ماوتسي تونغ(1893- 1976)، التي أصبحت محوراً مهماً في الصراع الفكري والسياسي في عالم يسمى حينذاك (الاشتراكي)، سواء بين الصين و (الاتحاد السوفيتي، أو في صفوف الحركة الشيوعية الدولية يومئذ، أو في داخل الصين نفسها بين أنصار ماو وخصومه المتهمين باتباع الخط (البرجوازي الرجعي).

أنصار ماو يرفعونه الى مرتبة التقديس والتنزيه عن الخطأ، يشيدون بتعاليمه كما لو كانت نصوصاً سحرية خارقة تكاد تكون قادرة على كل شيء ابتداءً من تعليم الصغار إلى إلهام أكبر علماء الذرة والتقنيات الحديثة، ويرفعونه فوق مستوى الفلاسفة والمفكرين من صنوه على وجه الخصوص.

في داخل الصين الموقف أكثر تعقيداً لأن تهمة معارضة تعاليم ماو توجّه الى رفاقه الذين عُرفوا طوال حياتهم بالولاء التام والطاعة العمياء.

كان ماو منذ صغره متمرداً على تقاليد مجتمعه، استطاع أن يكسب مئات الملايين من الفلاحين ليقود معركة تحرير ضد المحتل الياباني، استمرت لأكثر من عقد من الزمن، عرفت بالمسيرة الكبرى، تكللت بتأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949،فكان ماو أول رئيس لها.

أدرك ماو حقيقة المجتمع الصيني الذي يشكّل فيه الفلاحون الفقراء نسبة 80 بالمائة منه، هذه الحقيقة قادته الى الخروج عن التقاليد النظرية الجامدة في كلاسيكيات الماركسية، حين اصطدم بالتطبيق العملي للنظرية، واكتشف قوانينه العملية في الثورة، وواقع الحال يشير الى أن ماو تسي تونغ شخصية مثيرة للجدل، وهو معروف باسم (المفكر والمنظّر والستراتيجي السياسي والعسكري، والمؤلف والشاعر) .

القليل من يعرف ان ماو الأديب كان شاعراً، وأقلّ منهم اولئك الذين قرأوا قصائده ورأوا فيها وجهاً آخر للصين، ومن البديهي أن يتساءل القارئ عن البدايات الأولى والمؤهلات الثقافية التي قادت ماو لكتابة الشعر، متى وكيف تمكن وسط المهمات الثقيلة ليخلو مع نفسه كشاعر يخوض التجربة الشعرية بتجلياتها وانفعالاتها؟ بأي دافع كتب ماو الشعر؟ بقي علينا أن نسأل عن مزاجية الشاعر ، كيف يستحضر القصيدة، يعيش طقوسها وتفاصيلها، ليمسك بطيف كلمة أو يصطاد معنى؟

بامكان الدارس أن يستشهد بمقاطع عدّة من قصائده، ليدرك الظروف التي وقع تحت تأثيرها ماو كي يكتب شعراً لا يعبّر عن تجاربه الذاتية، ولا أحزان الانسان وضياعه الوجودي، بل هو شاعر كان تلهب خياله قضايا شعبه وأمله في الحرية والعدالة الاجتماعية.

قدمت الصين أدباً قومياً ثورياً، ووجد الكثيرون من عامة الناس الذين لم يخطر في بالهم أن يكتبوا شعراً أو أثراً أدبياً، وجدوا في خضم المعارك التي يخوضها شعبهم أن يعبروا عن روح أمتهم في تلك الظروف، وان يكتبوا بلغة تفصح عن إرادة شعبهم وتوقه للحرية، أن يكونوا لسان الواقع الجديد للصين الذي يولد بين نيران المعارك لتحقيق وجوده على الرغم من هولها المرعب.

كان ماو واحداً من هؤلاء الذين كتبوا الشعر تحت هذه الظروف، لم تكن لديه الرغبة في النشر أول الأمر، لسببين، أولهما اعتقاده أن شعره لا يرتقي الى مستوى الشعر الجيد وليس فيه أي إمتياز فني خاص، والثاني خشيته من تأثر الجيل الشاب سلباً في شعره الكلاسيكي.

في قصيدة (الزحف الطويل) يعبّر ماو عن فخره بالفلاح الصيني ويضرب المثل ببطولته التي فاقت كل خيال:

لا يخشى الجيش الأحمر عناء مسيرة طويلة/ ألف    جبل، مائة ألف نهر لا تعني لديهم شيئاً/ قمم الجبال في نظرهم كتعرجات أمواج البحر الصغيرة/ يجتازون سلاسل الجبال مثلما يجتازون أكواماً من الطين/دافئة هي السحب العالية المغسولة بنهر الرمال الذهبي*.

ماو يحب الفلاحين حباً غريباً أولئك الرجال الذين قهروا الصعاب وهزموا الطبيعة تعلو الابتسامة الندية شفاهم، ووسط تلك المعارك، في لحظات راحة منها يسترجع ماو الماضي عندما كان في قريته صغيراً لم يعر معنى الحياة بعد، ولا ما يخبئه له القدر من دور في تاريخ الصين، وهو لا يستغرق في ذلك التأمل الرومانسي لذاته، انما تتوارد على ذاكرته خلال ذلك التأمل صور المقاتلين يعبر عنها في قصيدته( زيارة الى القرية) إذ يقول:

مازالت ذكريات الماضي حيّ في قلبي/ سأظل أناشد الزمن الدفاق أن يعود الى الوراء/ أنا الآن في قريتي، والأيادي السوداء ترفع سياط الملّاك القساة/حتى أننا لنجترئ على أن نأمر الشمس والقمر باطلاع يوم جديد/الأبطال عائدون من كل جانب مع ضباب المساء.

في قصائد ماو تبرز عدّة ملامح تكاد تميز انتاجه وتصبح خاصية ينفرد بها دون سواه، غير انها لا تظهر الا بالقراءة المتأنية للقصائد، أول هذه الملامح تأثره بالتراث الشعبي الصيني، فقلما تخلو قصيدة له من تضمينات تشير الى هذا التراث، وغالباً ما يجعل الدلالة الرمزية للقصة الشعبية تعبر  عن موقف سياسي يريد أن يقول عنه شيئاً. ان ارتباطه بموروث شعبه كشاعر وثيق جداً، إذ يشكل عالمه الرحب المليء بالرموز والمعاني والتجارب المكثفة،

والملمح الثاني في شعر ماو هو طابعه الكلاسيكي، متأثراً بالثراث القديم الضارب جذوره عميقاً في الأدب الصيني، مما يجعل شعره استمراراً طبيعياً للشعراء الكلاسيكيين، وحرصه في الربط بين المعاصرة والقديم، علماً ان هذا التأثر جاء على حساب الشكل وحده لا المضمون، إذ يعدّ ماو في وقته منتمياً لجيل الشعراء الذين تأثروا بحركة التجديد في الأدب التي واكبت حركة الرابع من مايس 1919**، والتي أسقطت نهائياً الأدب الكلاسيكي القديم ذا المضمون الاقطاعي، ودخلت بالأدب مرحلة التجديد والتعبير عن  حياة ومصير الانسان بلغة مفهومة.

وهناك ملاحظتان جانبيتان تنبغي الاشارة لهما، الاولى تتمثل بقلة انتاجه الشعري، والاخرى تتعلق بقصر القصيدة.  كمحاولة للابتعاد عن التعقيد، في تكثيف عبارته وشحنها بلغة موحية ومؤثرة، وعلى العموم لم يحظ شعر ماو بقدر معقول من اهتمام النقاد، وحتى المقالات التي تناولت تجربته كانت سريعة، اختلفت حول قيمة القصائد فنياً، لكنها اتفقت على انها ألقت الضوء على شخصية الشاعر الضاربة في جذور الصين، وتعبّر في ذات الوقت عن مواقفه تجاه قضايا شعبه المصيرية.

الصين اليوم لم تعد لها علاقة بصين ماو، على الرغم من ملايين الزوار الذين يأتون سنوياً يحيّون تمثال (القائد العظيم)، يقطعون آلاف الأميال الى  مسقط رأسه في مقاطعة هونان، هؤلاء ليس لديهم استعداداً لسماع قصائد ماو ولا تعاليمه الثورية والنظرية، انما لالتقاط صور (السيلفي) مع التمثال.

صحيح ان الريح لا ترجع القهقرى، لا حاجة أن ترجع، لم تولد فجأة من دون مقدمات، انها ليست الهنا والآن، فهي تحمل بعد الماضي وراءها في قرارتها، كذلك، لنفترض ان الماء لايعود الى منبعه،، لا حاجة أن يعود، فالنبع مستمر فيه، رفض النبع هو رفض للماء نفسه.

***

   جمال العتّابي

.........................

* أشكر ولدي د. فرات الذي ترجم النصوص الشعرية عن اللغة الصينية الى العربية، ومراجعة بعض الوقائع التاريخية.

**حركة الرابع من مايس 1919: حركة ثقافية جديدة وسياسية انبثقت عن الاحتجاجات الطلابية في بكين، المطالبة بالتحرر وانهاء النفوذ الاجنبي.

 

في المثقف اليوم