أقلام ثقافية

جمهورية المتنبي

saleh altaeiالمتنبي؛ الشارع المسكون بالضوضاء والضجيج، ضجيج الأفكار والرؤى، منه جاءت هذه الومضة ... فمن يلج دنيا "المتنبي" لا يجد شيئا مألوفا إلا الوجوه، وجوه العراقيين، كل العراقيين، تلك الوجوه التي أضناها التعب فلم تعبأ به وإنما حملت بعضها لتلتقي ببعض، ترتسم الطيبة على محياها رغم العبوس الصارم الذي فرضته حياة تعتمل فيها القسوة كشعار متفرد يستوحي قوته من أنموذج الحقب الدكتاتورية التي وطأت كواهلهم عبر التاريخ، ولا زالت تئن مع جراحهم تعزف نشيد الوجع.

 في المتنبي أكداس بشرية بعضها تسير مطأطئة رأساً أثقله الفكر، وعب من كأس الحصار الفكري فلم يبقي ثمالة، رؤوسا تحمل إما لوحة فنية، أو معزوفة شجية، أو تمثالا خشبيا، أو مجموعة قصصية، أو ديوان شعر، أو كتاب فكر، أنجز كل منها بإنفاق مدخرات الأولاد، أو بلقمة عيشهم، أو حتى بثمن الملابس الجديدة التي يحلمون بشرائها للعيد؛ ولكنه لم يجد من يشتريه في بلد تحول فيه الإبداع من ضرورة إلى تفاهة لا تجدي، فأبى المبدع أن يترك جهده حبيس النسيان، فحمله يبحث عن وجوه تقدر الكتاب وتحترمه ليضعه بين يديها أمانة في منتهى البذخ والكرم.!

وفي المتنبي أكداس بشرية أخرى، تسير وهي تنظر إلى الأفق، جل أفرادها ممن يحملون فكرا، ولكنهم تركوا مساحات فارغة شاسعة في عقولهم تمنحهم نوعا من التوازن.

وفي المتنبي من غير هؤلاء وهؤلاء هناك الدهماء الذين جاءوا إما مدفوعين أو طائعين أو مقلدين أو مدعين، جاءوا بحثا عن صيد أو مجرد متعة في بلد تضيق فيه مساحات المتع حتى تكاد أن تتلاشى، أو لرؤية وجوه معروفة أو شخصيات نافذة، أو حتى لمجرد أن يلتقوا في مكان يحلو فيه تطبيق مثل "حشر مع الناس عيد"

كل هذا الحراك الفكري، الأدبي، الثقافي، العلمي، العبثي، الفوضوي، المنظم، اجتمع سوية ليرسم صورة شارع المتنبي أيام الجمع، لتتحول الجغرافيا من مكان لبيع الكتب إلى مهرجان، فالعقل العراقي المبدع المتجدد المتألق الذي يزيده العنف والاشتعال تألقا وتفردا، رفض أن يبقى المتنبي مجرد شارع لبيع وشراء الكتب.

وحقا من الإنصاف القول إن المتنبي ليس مجرد شارع لبيع وشراء الكتب، المتنبي جمهورية يحكمها الفنانون والأدباء وتحرس حدودها وجوههم التي أرهقها عسف الزمان، حراس لا يحملون بنادق ومدافع ومدي وخناجر، فقد نبذوا السلاح خلف ظهورهم، وتنكبوا الفكرة ينوءون بحملها، يشهرونها بوجه المحبين، يتباهون بها كما الطاووس يفخر بريشه الزاهي الجميل، فليس كل الطيور مثل الطاووس تملك ذيلا، ولا كل البشر مثل المبدعين يملكون سموا!.

المتنبي ليس مجرد بقعة جغرافية فحسب، المتنبي جمهورية بلا حدود، لم تولد من رحم الحروب والانشقاقات والانقلابات الدموية والثورات الغبية؛ وإن كانت تلك المماحكات قد سرّعت في ولادتها، إنما ولدت من رحم أمل الإنسان بغدٍ أكثر إشراقا، لتقف بوجه وحشية الإنسان، بوجه قبح البشرية التي تخلت عن عقلها لتفرض إرادتها الغبية على الجميع. جمهورية تسعى لأن تطرز الحياة بفسيفساء مطعمة باللؤلؤ والمرجان والألماس والياقوت والذهب وحتى الحجارة والرماد، وموشاة بالرؤى والخيال والأحلام الوردية؛ بعد أن طرز المنحرفون فضاءاتها وحقولها وبيادرها ومروجها بالأشلاء البشرية، فخنقوا مساحات تنفسنا وصادروا بقايا حرياتنا المستباحة.

المتنبي ليس مجرد أرصفة ووجوه، المتنبي جمهورية تناضل من أجل زرع المحبة بدل الكراهية، والألفة بدل التوحش، والسعادة بدل الحزن، والبناء بدل التفجير والتخريب، لا بالقوة والإكراه وإنما هو جزء من فيض قلوب سكانه المملوءين بالطيبة؛ الذين جادوا به كرما باذخا ليكون الرد الحقيقي على من يريد زرع الحزن أو يزايد على كينونتهم.

جمهورية المتنبي لا تحتاج إلى تأشيرة دخول أو موافقات مسبقة، أو رسوم مكس أو جواز سفر أو كفيل ضامن، وكل ما تحتاجه منك أن تكون عراقيا طيبا، جاء ليشارك إخوته العراقيين فرحهم، وحينما تلتقي وجوه العراقيين مع بعضها ترى خارطة العراق الواحدة مرسومة على جباه الجميع وعلى شغاف قلوب عذبة تبحث عن الفرح في أنقاض بغداد التي كانت ولا زالت ما إن تنفض عن جسدها غبار وأثر دخان حرب قاسية حتى تتهيأ لسماع قرع طبول حرب جديدة، يروج لها الأغبياء لا هدف ولا معنى لها سوى أن ترضي طموح المجانين.

المتنبي فرصة خلقها العراقيون لأنفسهم دونما تدخل أو دعم من أحد، أو من حاكم، فأخذت مداها، ونجحت غايتها، لكنها تحتاج إلى لمسات تخصصية تزيل عنها عفوية التنظيم والتخطيط لتحولها إلى مساحة للفكر المطلق، تسع الوافدين الذين ضاقت بهم المساحات، وباتوا يبحثون عن بدائل، بشرط أن لا تمتد الأيدي التخصصية إلى نوع النشاطات التي تؤدى والأفكار التي تطرح، فجمهورية المتنبي مكان فريد تفتح فيه بوابات العقول والألسن لتعبر عن حرية لم يسبق أن تنسمنا عبيرها، ويجب أن تبقى كذلك دونما قيد أو رقيب.

جمهورية المتنبي لا شبيه لها في كل العالم بما فيه البلدان المتقدمة، وقد بزت بعفوية وتلقائية زوارها حديقة الـ(هايد بارك) الملكية البريطانية خلفها، وهي من مفاخر العراقيين وحدهم، العراقيون الذين ولدت من إصرارهم على الحياة أسطورة طائر العنقاء.!

في المثقف اليوم