أقلام ثقافية

طائرة في السحاب

إلي أين أنت ذاهب أيها الشاعر؟ وبماذا تشعر؟! أشعر أنني بحاجة لانعزال تام لفهم أمور خفية قد تبدو في الظاهر بصورتها المقلوبة .. أشعر ببراعة المشهد .. أشعر بصورة باهتة أمامي ملبدة بالضباب والغيوم ..

في الصباح الباكر .. تتفتح أروقة أعيننا على خبر سقوط إحدى الطائرات المصرية في مياه البحر

المتوسط.. سقطت مثلما تسقط أشياء أخرى على سهوة في حياتنا ..

ومهما كانت ملابسات الحادث.. فقد غاصت الأعين من هول المشهد في أعماق البحر.. تبحث عن جثث.. فلا تجد شيئاً .. تسمع صراخاً وتمضي في فزع..

تبحث عن أشلاء أو آثارٍ أو صندوقٍ كى يروي لنا ويفسر ما حدث.. تطالعنا نشرات الأخبار.. تداعبنا مسامع المسؤولين.. ولكننا تائهين..

فأتذكر عبد الحليم حافظ وهو يرسل رسالة من تحت الماء.. وأتخيل من لقوا حتفهم في البحر وهم يرسلونها إلينا فتكون: " وسع البحرعلى رحابته فاستقبلنا ليحملنا إلى السماء.. لا تبحثوا عن شئ فنحن بين أيديه الآن" ياللهول!! .. أغمضت عيناى لبرهة فقادني أحد الشعراء..

إلي أين أنت ذاهب أيها الشاعر؟ وبماذا تشعر؟! أشعر أنني بحاجة لانعزال تام لفهم أمور خفية قد تبدو في الظاهر بصورتها المقلوبة .. أشعر ببراعة المشهد .. أشعر بصورة باهتة أمامي ملبدة بالضباب والغيوم ..

عيون بريئة تبحث عن النجوم البراقة فتبدو السماء لها مرآة.. ويصل حد براءتها إلي سحب غامضة قد تفترسها في غمضة عين.

أين أنت يا دانتي؟! في غابة ملبدة بالذنوب وقد وجدت نفسي تائهاً.. وحيداً.. بحاجة إلي يد تهديني إلي الطريق الصحيح.. أشعر بحاجة إلى تصفية نفسي وتنقية روحي كي تصعد في صمت فتشعر بحالة من السكينة في السماء..

وهل هناك من يقودها إلي الشر كي تبحث عن الخير؟ إنما مصدر الشر هو الإنسان ذاته.. ياللعجب .. أيبحث الإنسان عن الخير ولا يدرك أنه يبدأ من داخله أولاً؟!

أشكرك يا دانتي .. و أشكر تلك الأبيات من الكوميديا الإلهية التي أدارت حواراً بيني وبينك .. والآن أتركك في سلام .. أستلهم من تلك الكلمات المعنى وأفسر ما يحدث حولي من ماضٍ وآتٍ.

****

بين السماء والأرض أيادٍ ترتفع للدعاء .. بين السماء والأرض قلوب يملؤها الأمل في غد أفضل.. بين السماء والأرض أرواح معلقة.. بين السماء والأرض طيور وعصافير تغرد.. سيمفونيات تعزفها الأوتار.. وبين السماء والأرض تسقط طائرة في السحاب..

حتي وإن أسرعت تلك السحب لتغطي السماء علي رحابتها وتبتلع كل شئ.. لكن النجوم ستعود من جديد .. فلا خوف من سحب تمضي وتجئ .. ستبدو منتصرة لكن الواقع غير ذلك ..

نعم هناك الأيادي الخفية التي تتربص بكل طائر يحلق .. لكن هناك الطبيعة الإلهية التي تحرك جنودها لنصرة الخير في النهاية..

وها هي السماء تبعث بأشعة الخير عبر شمسها التي تنبعث طاقتها الدائمة كل يوم.. وإذا بالنجوم تتحدث صمتاً وحركة في مجالس لها كل ليلة.. لكن أحدا لن يُقدر له انتصاره علي الشمس تلك القوى العظمي.. أما السحب فما زالت تلتهم كل شئ.. ولكنها لن تنتصر.

فبعد كل ليل يأتي نهار لا محالة ولا يخلف موعداً أبداً.. أما السحب فستسقط حتماً.. ستتحول إلى أمطار رغماً عنها بفعل قوى الخير التي ترسلها أيادي سكان كوكب الأرض..

في المساء يفتش كل منا عن سبب لسقوط الطائرة.. وإذا به يجد نفسه يتسائل عما تُمثل إليه تلك الطائرة.. فتعلو الأوجه ابتسامات وهمهمات.. وقد تتساقط دموع خرجت من محبسها وكانت تنتظر تلك الفرصة..

بالطبع كانت تحمل أرواحاً تنتظرها قلوب.. أو قلوب تنتظرها أرواح.. ربما حملت أرواحاً ستشتاق إليها أخرى.. وربما سبقت ارواحا سرعان ما تلحق بها..

أهي تلك الطائرة التي كان الصبي يتطلع لركوبها يوما؟! وهل سيأتى هذا اليوم أم أحبط المشهد آماله وأحلامه.. أهى تلك الطائرة التي كانت تتعلق بها أعيننا إذا ما مرت فوق سماء منزلنا؟!.. أم تلك الطائرة التي كنا نصنعها من ورق في شرفة منزلنا..

وهل سقطت بالفعل أم أنقذها البحر من أهوال كانت تنتظرها بالدنيا!! إن كان الأمر كذلك فهي إذن قوة الطبيعة العظمى التي تنقذنا من حافة الضياع في اللحظة المناسبة.

إلي أين أنت ذاهب أيها الشاعر؟ وبماذا تشعر؟! أشعر أنني بحاجة لانعزال تام لفهم أمور خفية قد تبدو في الظاهر بصورتها المقلوبة .. أشعر ببراعة المشهد .. أشعر بصورة جلية أمامي و زوال الضباب والغيوم ..

 

نرمين شوقي

 

في المثقف اليوم