أقلام ثقافية

السفراء المجهولون

mohamad aldamiإن دور المترجم، كما أراه وكما أزعم بتيقن، إنما هو دور “سفير ثقافي” يمد الجسور بين اللغتين (والثقافتين) اللتين يترجم منهما وإليهما، لذا فإن دوره لا يقل أهمية عن دور سفرائنا المنتشرين في عواصم العالم، خاصة وأن هؤلاء السفراء لا يمكن أن يقوموا بعملهم على أفضل وجه دون معاونة السفراء المجهولين الحقيقيين، أي المترجمين الذين يمدون الجسور بين الثقافتين أو الثقافات عامة..

أتاح لي تخصصي باللغة الإنجليزية وآدابها الفرصة لقياس حجم الجهل بين قطاعات الجمهور المختلفة حول “الترجمة”، طبيعتها وأهميتها. والحق، فإني مذ قبلت للدراسة الجامعية أعلاه في جامعة بغداد واجهت هذا الجهل المطبق لدى البعض وعانيت منه: إذ يعتقد هذا البعض أن الترجمة عملية يسيرة تشبه إلى حد بعيد (عملية فرم اللحم أو سلق البيض).

إن الأمر ليس كذلك، بالتأكيد، كما يتفق معي العديدون من الزملاء المطلعون. وللمرء أن يقدر حجم الجهد المبذول في إعداد المرء للترجمة والتعريب بحساب عدد السنين المخصصة لتعلم اللغة الأم، وعدد السنين التي يحتاجها المرء لتعلم اللغة الأجنبية التي يترجم منها أو إليها. كما أن له أن يحتسب عدد السنين التي يحتاجها المرء لإجادة اللغة الأولى (الأم)؛ ثم الثانية كي يكون مقتدرا على الترجمة بالمستوى اللائق.

تغيب هذه الاعتبارات عن أذهان من يجهلون تعقيدات عمل المترجم (والجهل نعمة، حسب رأي الشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب Pope)، بدليل أن أحدهم يأتيك وقد كتب قصيدة قصيرة لا معنى لها، طالبا منك ترجمتها إلى الإنجليزية، وكأن الأمر هو مجرد وضعها في حاسوب من جهة واستلامها مترجمة من الجهة المقابلة! إن الترجمة أعقد بكثير مما يعتقد هؤلاء البسطاء لأنها تتطلب توافر الشروط والمعارف الواسعة مقدما (شروطا مسبقة) على سبيل مباشرة الترجمة الحقة التي تستحق الملاحظة والتقدير لدقتها.

هنا يكمن مبعث اللغط والمفاهيم الخاطئة والمفاهيم المسبقة المنتشرة بين الجمهور والتي تنبع من أسئلة أساس، من نوع: “هل الترجمة علم يدرّس ويُدرس؟” أم أنها فن يتطلب من المترجم عددا من المواهب الضرورية للقيام بعمله على نحو إبداعي، أسوة بما عندما يترجم هذا الشخص أعمالا كلاسيكية عملاقة يرنو من ورائها تخليد جهده وأسمه، كما يفعل كبار الشعراء والروائيين، على سبيل المثال.

وإذا ما فكر واحد من تلامذتنا النجباء تكريس حياته وعقله للترجمة، فإن عليه أن يحسب ويحتسب لكل ما جاء في أعلاه بدقة، مع إشارة خاصة إلى التضحيات وما نتطلبه من الإخلاص والصدق والقدرة على تحقيق “المقروئية” أي الترجمة القابلة للقراءة والاستيعاب دون تشويه النص الأصل أو لي معانيه.

إن دور المترجم، كما أراه وكما أزعم بتيقن، إنما هو دور “سفير ثقافي” يمد الجسور بين اللغتين (والثقافتين) اللتين يترجم منهما وإليهما، لذا فإن دوره لا يقل أهمية عن دور سفرائنا المنتشرين في عواصم العالم، خاصة وأن هؤلاء السفراء لا يمكن أن يقوموا بعملهم على أفضل وجه دون معاونة السفراء المجهولين الحقيقيين، أي المترجمين الذين يمدون الجسور بين الثقافتين أو الثقافات عامة، فبدون هذه الجسور نتحول إلى جزر منقطعة لا تغسل سواحلها أمواج بحار العالم الواسع.

أما إذا ما أراد تلميذنا المذكور في أعلاه أن يجيد الترجمة درجة نيل الاعتبار والأستاذية والشهرة في هذا الحقل الحيوي في حياة الأمم جمعاء، فإن عليه أن يتذكر بأنه لا يمكن أن يدعي هذه الدرجة الرفيعة من “الأستاذية” في الترجمة، إلا بعد أن يجد في العمل الترجمي من اللذة والسعادة ما يعادل ما يجده الأديب المبدع من هذه اللذة عندما يقدم للعالم نصا أدبيا عابرا لاختبار الأزمنة والحقب.

 

أ.د. محمد الدعمي

 

 

في المثقف اليوم