أقلام ثقافية

مؤذن الجامع

علي المرهجكان في منطقتنا مؤذن يصدح بصوت جميل بآذان الصُبح، والظهيرة، والمغرب، أو العشاء، ولكن لم يكن هذا المؤذن يعرف التدين، ولا يُتقن في حياته سوى إدائه الجميل لألحان السماء، حتى أنه لم يستطع إتمام دراسة الإبتدائية، ولكن كان له صوت يشدَ السامعين فيُقبل للصلاة كثيرٌ من أهل القرى وبعض من أهل منطقتنا حُباً بصوته لأداء الصلاة. فيه بعض من بحَة (داخل حسن) و(عذوبة حضيري أبو عزيز) وبعض من شجن (حمزة الزغير)، أتذكر أن أسمه (ماجد)، وقد شبَ، ولا يعرف من الدين سوى أوان وقت الأذان، كي يذهب لحُسينية المحلة ليشدو لنا بصوته الشجي، وكان يهوى السُكر والنشوة، ويتوب تارة، وأخرى يعود للخمارة، ولكنه ابن المدينة يُحبه الجميع ويشهدون أن في صوته بعض من عطايا الإله ورضاه، ولم يكن يتجاوزه في جمال الأداء الصوتي واللحني سوى شيخ راهي، كما أتذكر الذي كان صوته يشدَك كما تشدَك موسيقى الراعي التي يعزفها الموسيقي الروماني الشهير (ملك الفلوت، جورج زامفير).

ما يُميز ماجد هذا أنه (صعلوك) يُحب الله في ذاته، ويُعبر عن حُبه بشدوه للآذان، ولكنه يُحب الحياة أيضاً، فيتمرد لا على الله، لأنه يحمل الله في قلبه، ولكنه يتمرد على التقاليد التي تجعله أسيراً لرؤية أُحادية الجانب، هي أنه مؤذن، وبعضهم يتصوره وكأنه (بلال الحبشي)، ولكنه بشرٌ يُحب الله، ويروم أن يعيش كبشر يُحب الله وهو من المُتاح له، إلَا أنه يروم العيش كبشر على قاعدة النبي الأعظم "ما أنا إلَا بشر مثلكم"، ولكن الناس لا يرومون لماجد أن يعيش بعض من حياته خارج الحُسينية كبشر، أو إنسان طبيعي يُصيب تارة ويُخطئ تارة أخرى، فملَ ماجد الناس، ولكنه لم يملَ الله أو يكرهه، وإن كان ينظر للسماء مُعاتباً لها، وكأنه يُساؤلها: لماذا وهبتي صوت من نقاء روحك، ولكن فيَ جسدَ يهوى الحياة؟.

أنا أُحبك يا إلهي، ولكن الناس يحرومني حق الحياة في العيش كبشر، فأنت خلقتني ليَ شهوات ورغبات، وليَ رغبة بأن أعيش بعض من لذائذها، ولكن الناس أطروني وحنطوني، فلا مناص ليَ سوى الخلاص من شدَوي وتلذذي بدعواهم للُقياك، غير الخلاص منهم والتمتع بالعيش عاشق مُتيم في هواك.

ولم يتجاوز ماجد عمر الأربعين، فمات بنشوى السُكر، سُكر الخمر للتخلص من مُراقبة الناس له وتتبعهم لخطاه، وكأنه ليس مؤذناً، إنما هو وليٌ أو وصيٌ، فاختار جدول كل الحُب فيه، خمرة الحُب والروح، وأظن أنه إختار خمرة السُكر في كنف الله لما فيها من رحمة (فإن العشق شيمته إبتلاء يُصيبُ القلب من دون ائتمان...غرامٌ ليس إلَا، أو جنونٌ وأفئدةٌ وأرواحٌ تُعاني...فكيف سيُنصفُ العُشلق يوماً   بمحكمة تُقاضي من رعاني)، كما يقول الشاعر عمر حكمت الخولي في قصيدته (تجليات عاشق صوفي).

غادر الحياة ماجداً بسُكرة هي خليط من خمرة طبيعية وخمرة المحبة الإلهية، ليُنهي حياة صوت شادي بمحبة الله والإنسان، ولكننا نحن البشر الذين ندعي الإيمان بإيماننا (السطحي) حكمنا على صوت يشدو بألحان السماء بالفناء، وهو بعمر بهي اختار الفناء في عالم "اللاهوت"، ورفض البقاء في عالم "الناسوت".

فمات مؤذنٌ من محلتنا، وعشنَا نحن أبناء المحلة نبحث عن خُبثنا الضامر أو الظاهر في تفسير أسباب الموت، وترتيب الأسباب بحسب مراتب المحبة والكُره والمعرفة بشخصه، أو السؤال عنه، ولكن كل الأجوبة تدور حول أسباب "صعلكة" ماجد، لا عن أسباب خيباتنا نحن الذين لا نعرف قيمة الأشخاص، إلَا بعد فناء حياتهم، ولم أجد هُناك شخصاً قد سأل نفسه، أو تسائل عن أسباب غربة ماجد عن مُجتمعه، ولم يلم أحدٌ من أبناء المحلة نفسه لأنه ساء الظن بماجد يوماً، ولربما كان هو من أسباب اختياره لنهاية قريبة ليودَع به مُجتمع أحبه هو، ولكن مُجتمع لم يُحسن الظن به يوماً، ولم يشعر بالذنب حتى بعد أن غادر ماجد الحياة بعمر النُضج.

لم يكن ماجد المُشكلة، ولم يزل لا ماجد ولا أمثاله من الطيبين الذين يرومون محبة الله بطريقتهم الخاصة هُم المُشكلة، إنما المُشكلة كامنة في المُجتمع ومن يدَعون الوصاية عليه من رجال الدين من الفُقهاء الأفاقين.  

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم