أقلام ثقافية

ضياء نافع: غوغول والمأمون

كتب الباحثون العرب كثيرا حول التأثير العربي الاسلامي على بعض الادباء الروس، وانعكاس هذا التأثير في نتاجاتهم الادبية المتنوعة، مثل بوشكين وليرمنتوف وتولستوي وبونين ...الخ، وتوسّع الباحثون العرب في كتاباتهم هذه جدا وأضافوا لها اجتهادات ذاتية اكثر مما يجب (وبعض تلك الاضافات لا يعرفها حتى هؤلاء الادباء الروس انفسهم، كما علّق احدهم مرّة ضاحكا!)، ولا مجال هنا للحديث تفصيلا عن هذه الاضافات طبعا، ولكننا نود ان نشير، الى ان غوغول – ويا للغرابة - لم يكن بين هؤلاء الادباء الروس، الذين كتب عنهم الباحثون العرب في هذا المجال، رغم ان غوغول هو الاديب الروسي الوحيد عبر تاريخ الادب الروسي كله، الذي ترتبط باسمه محاضرة ألقاها شخصيا عن الخليفة العباسي المأمون، ولم يخطر ببال هؤلاء الباحثين طرح سؤال مهم في هذا الخصوص، وهو - لماذا اختار غوغول هذه الشخصية من التاريخ العربي بالذات، ولم يتحدث عن شخصية اخرى من الشخصيات الكبيرة، التي يزخر بها تاريخ العالم الواسع ؟، ولماذا ألقى غوغول محاضرة عن المأمون في جامعة بطرسبورغ، والتي استمع اليها كبار المثقفين الروس آنذاك مثل بوشكين وجوكوفسكي؟. ولازال هذا الموضوع غير واضح المعالم في اذهان القراء العرب عموما لحد الان، وحتى بالنسبة لهؤلاء القراء العرب الذين يتابعون اخبار الادب الروسي، رغم بعض الكتابات العربية (القليلة نسبيا) عن ذلك الموضوع، التي ظهرت هنا وهناك في بعض بلدان عالمنا العربي .

 نود في مقالتنا هذه الكلام عن محاضرة غوغول حول الخليفة العباسي الشهير المأمون وانعكاساتها في الاوساط الروسية آنذاك قبل كل شئ، اذ لم تكن روسيا آنذاك تمتلك علاقات واسعة مع العالم العربي (الذي كان اصلا تحت السيطرة العثمانية، كما هو معروف)، وذلك كي نرى، كيف تقبّل المثقفون الروس انفسهم محاضرة غوغول عن خليفة عباسي، هذه المحاضرة الفريدة في تاريخ الادب الروسي، و التي بدأت الاوساط العربية تتحدث عنها في القرن العشرين ليس الا، اي بعد مرور اكثر من قرن ونصف على القاء غوغول لمحاضرته تلك في جامعة بطرسبورغ .

ألقى غوغول محاضرته تلك عام 1834، عندما كان يريد ان يصبح استاذا جامعيا لمادة التاريخ، ولكن غوغول لم يستطع - في نهاية المطاف - تحقيق خططه في هذا المجال، ونشر تلك المحاضرة في كتاب له صدر عام 1835 . لقد حاولنا البحث في بعض المصادر الروسية حول تلك المحاضرة، واندهشنا، اذ تبيّن ان هذا الموضوع لازال ينتظر الباحثين الروس انفسهم، ولم نجد – مثلا – جوابا محددا في تلك البحوث الروسية عن سؤال – لماذا اختار غوغول بالذات الخليفة المأمون موضوعا لمحاضرته آنذاك؟ بل وجدنا اشارات صريحة تؤكد، ان موضوع (غوغول المؤرّخ)، والذي يدخل ضمن موضوع اكثر شمولية، وهو (غوغول المفكّر) تتطلب الدراسة الواسعة و العميقة لها في روسيا لحد الان، وان هذا الجانب في مسيرة غوغول لم يدرس (بضم الياء) كما يجب سابقا في المصادر الروسية، ولم نعثر على (بقايا !) الرأي السوفيتي، الذي كنّا نسمعه اثناء دراستنا للادب الروسي في الجامعات السوفيتية بستينيات القرن العشرين، والذي كان يقول . ان سبب اختيار غوغول لشخصية الخليفة العباسي يكمن في رغبة غوغول بانتقاد القياصرة الروس، لانهم لم يقوموا بتحقيق تلك الجوانب الثقافية الرائعة، التي قام بها المأمون، وان غوغول اراد ان يقول للقياصرة الروس (عبر محاضرته تلك) كيف يجب على القياصرة ان يتصرّفوا، اي انه اراد انتقاد القياصرة الروس ولكن بشكل غير مباشر، وهو اجتهاد سياسي قبل كل شئ، اذ كانت وجهة النظر السوفيتية عموما ترى، ان كل الادباء الروس الكبار قبل ثورة اكتوبر 1917، من بوشكين الى بقية الاسماء اللامعة الاخرى بعده، هم (معارضون !) للنظام القيصري بشكل او بآخر، ونظن ان هذا الرأي (رغم منطقية صياغته، ولهذا كنّا نتقّبله عندما كنّا طلبة في جامعاتهم) لا يتناسق ولا ينسجم واقعيا مع مسيرة الادب الروسي وأعلامه عموما في تلك الفترة، وكذلك لا يتناغم هذا الرأي ايضا مع واقع غوغول بالذات ومواقفه الفكرية، اذ انه (اي غوغول) كان ارثذوكسيا متشددا جدا، وبالتالي فانه كان ينظر الى القياصرة (مثل بقية هؤلاء المتشددين) باعتبارهم حماة تلك المفاهيم الدينية اصلا . هذا وقد اوضح احد الاساتذة الروس لنا مرّة، ان سبب اختيار غوغول لشخصية المأمون يمكن تفسيره، بان غوغول كان مثقفا كبيرا، وانه اطلع على دور المأمون في تعزيز الثقافة، وكان معجبا جدا به، ولهذا اراد في محاضرته التعبير عن اعجابه الكبير بهذه الشخصية، ولم يرغب ان ينتقد القياصرة الروس بذلك، ولم يرد هذا التفسير السوفيتي عن سبب اختيار غوغول للمأمون الا في بدايات العصر السوفيتي فقط، اذ ان كل انسان يرى الشئ الذي يريد ان يراه، ويمكن القول، ان هذا الرأي قد اختفى بالتدريج وبمرور الزمن مثل الشعارات المتطرفة الاخرى في مجالات الحياة كافة، ونظن، ان كلام الاستاذ الروسي هذا هو ألاقرب الى المنطق السليم .

ختاما لهذه السطور نرى، انه من الضرورة الاشارة الى ان هذه المحاضرة قد ترجمها عن الروسية المترجم الكبير كامران قره داغي في سبعينيات القرن العشرين ونشرها في مجلة (آفاق عربية) ببغداد، وبهذا، فان محاضرة غوغول عن المأمون كانت ولازالت ترتبط في العراق باسم كامران قره داغي، هذا المترجم الموهوب الذي كان يمكن ان يعطي لنا مكتبة عربية متكاملة حول الادب الروسي لو استمر بعمله الترجمي هذا، الا ان (السياسة !!!) جذبته، وانغمر في مدّها وجزرها، وكم اتمنى ان يجمع كامران تلك المقالات حول الادب الروسي، التي ترجمها آنذاك، في كتاب، اذ ان تلك المقالات (بما فيها محاضرة غوغول عن المأمون) لازالت تمتلك اهميتها للقارئ العربي لحد الان.

***

ا. د. ضياء نافع

في المثقف اليوم