أقلام ثقافية

مُتعة الكتابة

علي المرهجالكتابة فعل ما بعدي يستلزم "مُتعة القراءة"، ولربما فينا من يهوى الكتابة من دون مرور بالتماهي مع "مُتعة القراءة"، ولكنه واهم، لأن كتابته لا تتعدى في هذا الحال سوى التعبير عن خوالج نفسه الداخلية بلغة لا يقبلها العقل، ولا تخترق وجدان الآخر (المُخاطب).

الكتابة فعل ذاتي يتماهى معها كاتبها، ولكنها تبحث عن مُتلق، ولكل مُتلق قُدرات بحسب نشوئه الثقافي، وكلما كانت الكتابة تسير وفق خلجات النفس الداخلية من دون وعي لفيوضات الآخرين الوجدانية من العرفاء، سيرمي بها المُتلقي بعيداً، إن كان مُتلقياً يمتلك بعض من أدوات الوعي اللغوي ومُعجمية الفكر الصوفي والعرفاني.

والكتابة فعل لا يُجانب التعقل حتى في استغراقه الوجداني. وفي الكتابة بُعد برهاني لا يفقهه سوى الحُكماء ومن صاحبهم لأنه مُحب للحكمة، وكل مُحب للحكمة فيلسوف، إن أتقن مفاهيم الفلسفة النظرية بأبعادها التأملية والتجريدية في الغوص في معاني الوجود ومحاولة الكشف عن أسبابه عبر منطق عقلاني للإفادة منها لوضع حلول عملية لواقع مُتردٍ.

الكتابة تفريغ لشحنات وطاقات كامنة في النسق البنائي للكاتب الواعي، إن كان هذا الكاتب له مُتبنيات من عوالم الوجدان، أو من عوالم البرهان.

الكتابة في إمتاعها خرق لجدار الصمت، وصرخة تخترق أفق كل بناءات الوعي الراكد.

الكتابة كشف وتعرية للمسكوت عنه في حياتنا الاجتماعية والثقافية والدينية لتكشف عن زيفه بتحدٍ أو بتغيير بإحسان.

الكتابة وعي القراءة في الما بعد، ووعي الواقع في ما هو فيه، وطرح وعي بديل يجترحه الكاتب (القارئ) لكثير من مدونات الفكر فخبر ما فيها من خلل، ليطرح رؤية للقادم يستقيها من نقديته لحتميات التاريخ ليجعل من نقده أفقاً لبناء تصور لمُستقبل أفضل.

مُتعة الكتابة لا بحث فيها عن شُهرة بقدر ما فيها من مُتعة للزُهد في كل عطايا ومنح السلاطين والجمهور.

في الكتابة مُتعة حينما تخترق المألوف في حياتنا وتنتقد الساكن في ثقافتنا عبر نتاج ابداعي شعري كان أم سردي، ولربما كان في نادر الأحوال مما يُمهر بنتاج إبداعي فلسفي.

الكتابة تلاقح  لفعل ذاتي تُنتجه ذات المؤلف أو الكاتب للتتلاقح مع واقع في مأساة وملهاة، ليكشف الكاتب فيه عن قيمة الملهاة وحضورها الإيجابي أو السلبي في نقد مواطن الخُذلان في صناعة السعادة، أو الكشف عن مواطن الفرح والحُزن في ملهاتنا أو (مأساتنا) اليومية.

في موطني العربي كثيراً ما يلعب المُمثلون أدوراً في كوميديا الواقع ليكشفوا عن تغلغل المأساة في واقع مُتردٍ لا فكاك منه ولا خلاص لنا سوى اللجوء لـ (كوميديا الموقف)، وهي ملهاة وفي ذات الوقت تعبير عن مأساة.

مُتعة الكتابة فيها تعبير عن وجود طامح فيه نزوع فرداني، ولكن في كل فردانية مُضمر و(مسكوت عنه). إنها فردانية لا وجود لها من دون وجود آخر أضمرته أو اعترفت به، فالآخر وجود عيني لا ترغب الذات (الأنوية) بالكشف عن وجوده الضامر في وجودها، أو كما قال ريكور "الذات عينها كآخر".

الكتابة تعريف بهوية، لا هوية الكاتب فحسب، إنما هي تعريف بهوية الجماعة التي شاء الوجود أن يوجد فيها هذا الكاتب، فهي هوية لوجود وتحملٍ لذات مغرورة تظن أن وجودها خارق للمألوف المُجتمعي، وتناست أنها حتى في وجودها المُختلق هذا إنما تحتاج في تحقيقه لأخر يعتر، إلّا أنه وجود لا معنى له من دون هذا الآخر الذي هو في حالات يُشكل معنى الأنا الجماعية، وفي حالات يُشكل معنى الهوية الفردانية التي تبحث عن تفرد بمبعزل عن وجود الآخر.

مُتعة الكتابة فيها توقع لأفق ما سنكون عليه في المُستقبل، وتلك التوقعات لا مصداق لها في عيون أبناء الشرق إلَا بعد وقوع ما لا يُمد عُقباه، ولكن في توقع الكاتب سعي لمُتعة، وهي جوهر ما يبتغيه، ورغبة لبناء وعي ثانياً، وهي عرض في ما يرومه، ولكنها جوهر في بناء وعي جديد للمُجتمع.

الكتابة فيها رجاء وتمني يرغب به الكاتب لأن تكون رؤيته فيها بعض موعظة لمجتمع هو منه، ولكن كتابته تمني، ولا سلطة له يفرضها لتقبلها بين أطياف مُجتمعية لا رباطة وطنية لها.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم