أقلام ثقافية

بَيْنَ أرْضِ العَرَبِ وسَواحِلِ الدُّنْيَا

سعد جرجيس سعيدمتى كانَ العَرَبُ أمَّةً تركُضُ إلى البَحْرِ؟، ومتَى كان الأمَلُ والخوفُ جميعَاً يتكوَّران بين ساحِلَينِ؟ ويهرُبُ العربُ من النَّارِ، من بلادٍ تترصَّدُه، من أوطانٍ صار دمُه أرخَصَ ما فِيْها، يهرُبُ لأنَّ دمَهُ مستباحٌ، يَقِفُ على سواحل بحارِ الدَّنْيَا، يقفُ بيْنَ الخَوْفِ من المَاءِ، والخَوْفِ من النَّارِ، العَرَبُ: النَّارُ من ورائِهم، والبَحْرُ من أمامهم، العربُ: الغربة والذلُّ من أمامِهم، والحَرْبُ والقَتْلُ من ورائهم، العرب: ذكرياتٌ تحيطُها النارُ من ورائهم، وأمنياتٌ يعلوها الجليدُ من أمامِهِم، العرب يُدْركون بعْدَ الحرب الطالِعَةِ من تحْتِ أقدامِهم، بَعْدَ الحَرْب النازِلَةِ فوقَ صُدُورِهم، يُدْرِكون أنَّه لا نَجَاةَ من المَوْت المُؤكَّد إلا باقتحامِ الموتِ المُتوقَّع.

العربيُّ، فتى الصحراء الأولى، هو ما زالَ مسكونَاً بالخوف من البحر، لكنَّ سُبُلَ النَّجاةِ كلَّها تنقطع، فلا سبيلَ إلا إليهِ.

العربيُّ، يتركُ الوَطَنَ، يترك الدَّارَ، يترُكُ الأرض، يتركُ المالَ، يترُكُ شرعية وجودِه في هذا الكون، ليكونَ مهاجرا غيرَ شرعيٍّ في بحْرٍ وظلامٍ وخوفٍ، ويُهاجِرُ العربيُّ، المركب ضيِّقٌ ضيِّقٌ لا يسع لشيء من أحلامه، لا شِراعَ يمتدُّ بينَه وبين السماء، ليمنَحَه قليلاً من الأَمَل، ليلٌ قد يكون هو ليلَ النِّهاية، وقاربٌ من المطَّاط، أصغَرُ من صغارِ أمْواج البَحْر، وهو المُهَاجِرُ غيرُ الشرعي، قد يبْتلِعُه البَحْرُ، قد يأخذه سَفَرُ الموج، دون أن يُدان لغَرَقِه أحَدٌ؛ لأنَّه مهاجرٌ غيرُ شرعي.

أبٌ وأمٌّ وطفلٌ وطفلتانِ ودُمْيَةٌ، هما سفَرٌ في ليْلِ الشِّتاء، البحر واسعٌ واسعٌ يمتدُّ إلى نهايات اليأس، وجوهٌ صغيرَةٌ كلَّما ادلهمَّ الظلامُ، أو عصَفَ الموجُ ازداد شحوبُها لمعانَاً، قطراتٌ من ماء الموج تَصِلُ إلى تلك الأجساد الخائفة، هي إعلانٌ عن غضَبِ البَحْر، أطرافٌ مُتجَمِّدَةٌ من البَرْد، وأفْئِدَةٌ يحرقها الخوفُ، يُشْعِلُها الغَيْظُ، موجتانِ والساحلُ بعيدٌ بعيدٌ، موجةٌ أُخْرى، والصبحُ ماضٍ ذاهبٌ لا يمكن استردادُه، يتخطَّى القَارِبُ أمواجَاً هائِلَةً، الموجَةُ في الظلام تأتي على غَفْلَةٍ، لا تُمْهلهم حقَّ الصُّراخ، الموتُ من كلِّ مكانٍ، بعد صراعٍ طويلٍ مع الموت تصمُدُ العائلة إلا الطفلةَ الصُّغرى ودميتَها، يداها الصغيرتان على عجَلٍ استسلمتا للماء، قلبُها الصغيرُ أهدى نبضَه للموج، أحبَّتِ السَّفَرَ على الموج لا على قاربٍ صغيرٍ، طفلة تنتمي للحرية، لم يستطع قاربٌ صغيرٌ احتواءَها، طفلةٌ أحبَّتِ الغياب عن هذا العالم، أحبَّتِ البَحْرَ؛ لأن الأرض للظى، لم تأخذ معها إلا دُميَتَها، ظلَّت تحتضنها على الرَّغْم من الموج الذي يَطَّوَّفُ بهما في البَحْرِ، أخذتْهَا معها لتُؤنِّسَها في سَفَرِها الجَديد، في غُرْبَتِها وسط الماء، لم تَتْرُكْها، لأنَّها الذكرى، فالذكريات لا تُنْتَزَعُ بسهولة.

وصلت العائلة إلى الساحل الثاني، وأعاد الموجُ الطفلةَ إلى الساحل الأول، إلى الساحل القريبِ من بِلادِ العَرَبِ، لِيَلْعَنَ موتُها كلَّ من سعى للحرب، هل كان الموجُ الذي انتزعها من حضن أبيها هو نفسه من أعادها إلى الساحل، كان الموج قاسياً وغاضبَاً وهو يختطف الطفلة ودُمْيَتَها ليُلْقِيَهما في البحر، وصار ودُوْدَاً وهو يعيدُهُما إلى الساحل، هل هو الموجُ نفْسُه؟، أم في البحر أمواجٌ للغضب وأُخْرى للحنان، أم هو الموجُ نفسُه، لكنَّه أراد أن يكفِّر عن جريْمَتِه فحملها بحنانٍ إلى الشَّاطيء.

ويصبُح الصباحُ، لِيجدَ خَفَرُ السواحل الأجنبية طفلةً ودميةً وأمواجاً باكيةً، ليجدوا صباحاً ميِّتَاً في زمان العَرَبِ، شَعْرُها ما زال مُبتَّلاً بالماء، وجْهُهَا ذهَبَ عنه الخوفُ، أعلنتْ أنَّها آمِنَةٌ، وأنَّها مُطْمئنَّةٌ في زمَنِ الرَّوْع، وأنَّها ما زالت تُحَدِّثُ دُمْيَتَها.

من الذي قتَلَها؟ الموجُ أم العربُ؟ ومن الذي أغْرَقَها، البَحْرُ أم الرصاصُ والمدافع والطائرات التي تجتاحُ صدورَ النَّاس؟من الذي قَتَلها؟ العربُ، أم العالمُ الذي لم يستقبِلْها إلا أن تكون مُهاجرةً غيرَ شرعية؟.

شكراً للموج الذي حَمَل طفلتنا إلى الساحل مُغْمَضةَ العينين؛ لندرك أننا لسنا قادرين على حِفْظِ عُيُونِ أطفالِنَا، شُكْرا للموج، فكم من أجسادٍ أُخْرى نامتْ في أعماق البحار، دون أنْ يشْعُرَ بها أحدٌ، تهتزُّ السواحِلُ غضَبَاً وخوفَاً ورحمةً، ولا تهتزُّ ضمائِرُ الذين ما زالوا يُوْقدون نارَ الحَرْبِ.

أيُّها العَرَبُ، أجسادُ العرب تحْتَ مياه اليونان، وعلى سواحل إيطاليا، وفي أعماق بحار الدنيا، أيُّها العَرَبُ، العربياتُ يقفن أمَام أسلاك حُدُودِ المَجَرِ، وأمام كلاب الدنمارك البوليسية، العربياتُ يقفنَ بانتظامٍ قاتِلٍ لم يعرفْنَه من قبلُ على حُدُود فرنسا، العربياتُ يَبْكِيْنَ على فُوْضى الزَّمَن الذَّاهِبِ، أيُّها العَرَبُ ذهَبَتْ فُوْضى العربياتِ تحْتَ صُرَاخٍ لا يَفْهَمْنَ منه شيئا، وتحْتَ لُغَةٍ، كُلُّ ما يعْرفْنَه منها أنَّها تَأمُرُهُنَّ بالسُّكُوْتِ، أيُّها العَرَبُ، العَربيَّات للسُّكُوت، يقِفُ العربُ على طريقٍ تسدُّه أسلاكٌ شائِكَةٌ، آلافُ العرب ينهَرُهم جنديٌّ واحدٌ، صارَ العربيُّ فاقداً لشرعيته ينتظرُ من الأيدي الأجنبية لُقمة تبقيه على قَيْدِ حَياةِ الذُّلِّ.

 

سَعْد جَرْجِيْس سَعِيْد - شاعر وأكاديمي/ العراق

20-2-2016 لَيْلُ العَلَم.

 

في المثقف اليوم